ليس بالضرورة إذن أن يستطيع الراوي التعرّف إلى روايته من خلال العملية الروائية، خصوصاً عندما لا تكون استراتيجية العمل الروائي حكاية عن الماضي وحكاياته، وزمنه القديم "يحكي في قديم الزمان...."، تحكي وتعرّف في الوقت نفسه. ربمّا يحاول الراوي فعلاً أن يتعرّف على مادة روائية من خلال العملية الروائية نفسها، كما يفعل مارلو في قلب الظلام، ولكن الظلام يظلّ دامساً، ولا يمكن التعرّف إلى الظلام من خلال التوغّل في أعماقه ـ ذلك التوغّل الذي يزيد الظلام ظلاماً! ولكن مارلو ينتهي بدهشة ربما كانت أعمق من الدهشة التي بدأ فيها رحلته إلى قلب الظلام. وهذه هي المفارقة الكبرى في الحياة وفي الفنّ وهي أشبه بالعلاقة التي تنشأ من النشاط المتجدّد في اللغة(Parole) والنظام المحكم فيها (Langue).لو كان هنالك موازٍ لزمن المضارع التام (Present Perfect) في العربية لاستطاعت موسم الهجرة أن توضّح أمر الاستمرارية في العملية الروائية، ولاستطعنا أن نتبيّن بوضوح أنَّ الرواية تروي الآن (عن الماضي القريب أو البعيد) وفيما بعد، لو كان الأمر كذلك لربما استطاع الطيب أن يوضّح الاستمرارية الأزلية في العملية الروائية التي تبدأ من الآن ولا تنتهي، أي أنها تدخل المستقبل في المضارع (الحاضر) التام مستمرة بديمومة الأزل. وكأنَّ الطيب يقول ـ على لسان الراوي طبعاً ـ عدت يا سادتي على التوّ، وقد عاد من قبلي يا سادتي (مصطفى سعيد)، وسيظلّ الناس يعودون ويقولون: "إلى أن يعودوا، وبعدها أيضاً لا يضيرهم أن يقولوا "عدنا والعود أحمد".موسم الهجرة وعودة الراوي وعودة مصطفى سعيد، ربما تذكّرنا على الفور بعودة إدوارد سعيد إلى الوطن الأم في حزيران عام 1992، ولحسن الحظ أنَّه سجَّل هذه العودة في مقالة قصصيةعنوانها: (palestine, Then and Now). ولو أردنا ترجمة أمينة بقدر المستطاع لقلنا "فلسطين ماضياً وحاضراً"، وتتضمّن هذه الترجمة أيضاً روح الاستمرارية. ومن يقرأ المقالة يُضِفْ إلى العنوان "مستقبلاً"، بمعنى أنّ الكاتب يقول "وبعد، فها أنا أعود يا سادتي، وسأظل أروي أنني أعود إلى أن أعود فعلاً، وبعدها سأروي لكم أنّني عدت فعلاً يا سادتي".متى سيقول المشرّدون المنفيّون مثل ما قال الراوي في موسم الهجرة، عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، هذا هو السرّ الذي يكمن في كل عودة: ذكرى تظلّ حسرة، دهشة، سرّاً لا يتحقّق إلاَّ بتفعيل الدهشة!