ان العالم الاسلامي هو عالم واسع عدد اللامنتمين فيه يعتبر صغيرا جدا بالنسبة الى عدد المنتمين ، وهذا يعني ان الحركات الاسلاميـة لو توجهت الـى حالة التنافس الحر ، والبناء ، فان معنى ذلك ان عددا هائلا من المسلمين سينتمون الى هذه الحركات ، وهذا بالنسبة الى التزايد العــددي ، وهناك تزايد اخر هو التزايد الكيفي ؛ فمجالات العمل الاسلامي واسعة وكبيرة بامكان الحركات الاسلامية ان تدخل فيها .
وعلى سبيل المثال ؛ لماذا لاتفكر الحركات الاسلامية في ان تبني كتّابا ومؤلفين ؟ ولماذا بقيت حتى الان تقتات على نتاجات المؤلفين والمفكرين السابقين الذين كتبوا لجيلهم ، في حين ان على كل جيل ان يتحمل مسؤوليته ؟
ان هناك الالاف من القضايا المطروحة التي لاتجد من يكتب عنها ، افليس هذا مجالا جيدا للتنافس ، او ليس من الافضل ان ندخل هذا المجال ، وتوجه كل حركة جانبا من طاقاتها الى التنافس البنّاء في هذه المجالات بدلا من ان تبذّر هذه الطاقات في الصراع ضد بعضها البعض .
الانتصار غير ممكن من دون تحقيق شروطه :
ان الحياة مبنية على اسس متينة ، ويجب علينا ان لانتوهم اننا نستطيع ان نحقق الانتصار فيها من دون ان نوفر في انفسنا عوامل وشروط هذا الانتصار ، ومن هذه العوامل والشروط معرفة الحياة معرفة عميقة وشاملة واتخاذ القرار المناسب بالنسبة اليها ، ومثل هذا القرار بحاجة الى دراسات ، فلماذا لاتقوم هذه الحركة او تلك باختراق هذا المجال ، وعلى سبيل المثال فان هناك مناطق واسعة في العالم تحتاج الى موجهين وكتّاب وألسنة ، فلماذا لانوجه طاقاتنا توجيها سليما الى تلك البلدان ؟
فلنوجه كل القدرات والطاقات من اجل البناء ، ولنتنافس بها ، فالحركة التي تستطيع ان تعطي الفكر الافضل ، والخط الاوضح ، وتجرب نفسها في السيطرة على مواقع جيدة عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وفكريا ، هي التي يجب ان تكون محط اعجاب كل الحركات لكي يعرف ابناء هذه الحركات ان الصراع ليس بتكثيف التناقضات ، وتكرار السلبيات ، واشاعة الفواحش ، وانما بالعمل الصالح ، فاذا جعلنا التنافس مقياس التقدم فان الجميع سيتجه نحو العمل الصالح ، وبالتالي فان الامة كلها ستتقدم ، اما اذا جعلنــا المقياس الاكثار من السلبيات حول الحركات الاخرى فان هذه الحالة مغلوطة وخطيرة تجب ازالتها .
حرية العمل سنة اللـه في الحياة :
ان من سنن الله - تعالى - في الحياة انه جعل الانسان حرا في هذه الدنيا ، فليس من حق الانسان الاخر ان يوقف مسيرته ، ونحن نقرر هذه الحقيقة على وجه الاطلاق ومن دون استثناء ، ونحن عندما نريد ان نحقق اهدافنا ، فليس مــن حـق اي من الحركات الاسلامية المنافسة ، او الاعداء المتصارعين معنا ، او العقبات الاجتماعية او الطبيعية ان تقف امامنا ، وهذه هي وظيفة الاختيار في الدنيا .
ولذلك فاننا نوصي اخوتنا العاملين في الحركات الاسلامية ان لا يخضعوا لهذه الحالة ، ولايقوموا بعمل قصــاصي وانتقامي ، ولايعتدوا اذا ما قامت سائر الحركات او بعض المندسين بوضع بعض العراقيل امامهم ، فيتحول التنافس بذلك الى صراع .
فلنتابع مسيرتنا ، ولنعلم ان من المستحيل ان يستطيع احد ايقاف الانسان الذي اراد وصمم على ان يصل الى الهدف ، فديننا مبني على فلسفة الحرية ، والدنيا هي الاختبار والابتلاء ، ولايتحقق الابتلاء الا بالحرية ، واذا ما اردنا ان نتقدم ابدا ، ونحقق اهدافنا ، ورأينا ان الاخرين يضعون العقبات والعراقيل امامنا فعلينا الالتزام بمفردات البرنامج التالي :
1- ان نتعلم كيف نتجاوز العقبات التي ماهي الا ابتلاءات وامتحانات .
2- مقاومة المنافس وعدم الخضوع له ، ومحاولة ابعاده عن طريقنا باعتباره حجر عثرة شريطة ان لاتتخذ مواقف اكثر سلبية من مواقفه ، بل في حدود الحاجة فرب مظلوم يصبح اكثر ظلما من الظالم .
3- لنحاول ان نسجل انتصارا ستراتيجيا كلما رأينا احد يضع العراقيل امامنا ، ويحاول ايقاف مسيرتنا التصاعدية ، فلنفكر ان المنافس يريد ان يوقفنا ، فكيف نستطيع ان نتحرك في طريقنا ، ونستطيع ان نحرز مكاسب وانتصارات ستراتيجية كبيرة تجعلنا اكثر قوة واقتدارا من ان يستطيع احد ان يوقف مسيرتنا باتجاه تحقيق الاهداف .
بين العنف واللاعنف
على الرغم من الاعلام الاستكباري المضلل فان الحقائق تتجلى وتشير الى ان عالمنا يعيش في ظل الرعب ، فلو علمت الشعوب ما تختزنه ترسانات الاسلحة وما تسببه هذه الاسلحة من تدمير فيما لو استخدمت لماتت قلقا وفزعا .
ان التقديرات الاولية لقوة تدمير الاسلحة الموجودة حاليا تصرح بان في استطاعتها قتل البشرية اكثر من خمس عشرة مرة ، وانها لو استخدمت فان حالة الارض سوف تتغير ، فالموت سوف لايشمل البشر فحسب ، بل ان سائر الاحياء ستنقرض ايضا .
استيقاظ الضمير الانساني :
وفي ظل هذا الجو من الرعب والتوتر استيقظ ضمير البعض ، ولم يستطيعوا الاستمرار في هذه المسيرة الجاهلية المتعنتة ، فبادروا الى طرح افكار جديدة من مثل (الوفاق الدولي) ، وبالطبع فان هذه الافكار جديرة بالاحترام رغم انها ناقصة ، وعاجزة عن استيعاب المشكلة ككل .
ومن ضمن هذه الافكار التي طرحت وتم تطبيقها بالفعل فكرة ما يسمى بـ (البيروستوريكا) او (الاصلاح) او (ثورة التغيير) في الاتحاد السوفياتي السابق وذلك حسب مرحلتين ، وعلى اثر ذلك تراجع الشيوعيون عن ما كانوا يسمونه بـ (الصراع الطبقي) وحتمية الحرب والعنف في هذا العالم ، فقد اكتشفوا ان استخدام الاسلحة النووية ذات الدمار الشامل يعني انه لايمكن لاحد من الطرفين ان يربح الحرب ، فمن الممكن لاية دولة تتعرض لهجوم نووي ان ترد هذا الهجوم ، وعلى سبيل المثال فان الاتحاد السوفياتي لو تعرض - مثلا - لهجوم نووي كاسح من قبل الولايات المتحدة الامريكية فان بامكانها ان ترد هذا الهجوم بهجوم نووي مقابل ، وهذا يعني ان كلا البلدين ، وكلا الشعبين ، وربما العالم معهما سيتدمر جراء هذه الحرب النووية .
فما فائدة حرب المنتصر فيها خاسر ، والمهاجم منهزم ؟ وبالاضافة الى ذلك هناك الميزانيات الهائلة التي لم تؤثر على العالم الثالث فحسب ، وانما اثرت ايضا على عالمهم ، فما يقال من ان البيروقراطية سبب لتراجع التقنية في الاتحاد السوفياتي انما هو جزء من الحقيقة ، فهي ليست سببا وحيدا ، بل هناك ميزانيات التسلح الباهظة التي تمتص ثروات الشعوب ليس في روسيا واميركا فحسب وانما في سائر بلدان العالم ، فهي تشبه بالوعة ضخمة تبتلع كل الامكانيات .
وهذا يعني ان البشرية تعمل ولكن لمصلحة من ؟ هل من اجل ان تكون هذه البشرية مرفهة ؟ كلا بالطبع ، بل لمصلحة الاسلحة المتكدسة في الترسانات التي لو استخدمت فانها ستسبب مأساة عالمية ، وان لم تستخدم كانت عبثا ولهوا واهدارا للثروات .
وهكذا فقـد تراجعت القوى الكبرى في السنين الاخيرة وطرحت فكرة الوفاق ، فبعد ان جرب الاوروبيون في الحربين العالميتين الحروب والصراعات عادوا الان الى بعض رشدهم ، وفكروا في ان يلغوا الحدود بينهم ، ويوحدوا صفوفهم ، فقد ادركوا انهم لو توحدوا فان ما يخسرونه سيكون اقل بكثير مما يربحونه ، وهذا يعني ان العالم بدا يستيقظ على ماتنطوي عليه الاسلحة المدمرة من مخاطر .
لماذا نحن متخلفون عن مقتضيات العصر ؟
هذا بالنسبة الى ما يجري الان في اوروبا ، اما فيما يتعلق بما يجري في اوساطنا نحن المسلمين فهناك عدة حقائق تجعلنا متخلفين عن مقتضيات العصر الذي نعيشه منها :
1- على الرغم من ان بلداننا تمتلك رؤية حضارية واحدة منشؤها الرسالة الاسلامية ، وبصائر الوحي القرآني الا انها تعيش حالة التمزق والتشرذم والاختلاف بل والحروب الطاحنة .
ان الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق يعيشان التناقض ، ويمتلكان رؤى متناقضة ، وآراء متفاوتة ، ومصالح متضاربة ، ولكنهم على الرغم من ذلك اكتشفوا بعد فتـرة من الصراع الطاحن ان الطريق الذي يسلكونه مغلوط ، فهاهم يفكرون في الوفاق . اما نحن فعلى الرغم من اننـا نتبــع قرآنا واحدا ، ورسولا نؤمن به جميعا ونكنّ له كل الاحترام ، وتجمعنا ثقافة واحدة ، ومصالح مشتركة الا اننا نعيش التمزق والاختلاف . افلا يدل ذلك على اننا نعيش خارج اطار العصر ، بل اننا نعيش اساسا بعيدين عما يجري في هذا العالم ، فالعالم يتجه نحو الوفاق ونحن نتجه نحو المزيد من الصراع والتناحر .
2- يزعم البعض ان الدين يدعو الى العنف والتطرف ، والصراع الداخلي ، بل انهم يدّعون الى التدين يعني ان يتحول الانسان الى رجل عبوس يخالف كل الناس ، ويدخـل في صراع مـع كل المجتمع ، في حين ان اخلاق القرآن ، واخلاق الرســول ( صلى الله عليه وآله ) ، وآداب كل الرسالات الالهية تدعو الانسان الى الحب والايثار والتضحية من اجل الاخرين واحترامهم ، وفي هذا المجال يقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق " ، ونحن نعلم ان الذي مكّن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من اجتذاب المزيد من الناس هو خلقه الكريم ، وأفقه الرحب ، وصدره الواسع ، وذلك الحب العظيم الذي كان ( صلى الله عليه وآله ) يكنّه للاخرين .
ان كل ذلك هو الذي جعل الاسلام ينتشر ، وسيبقى هذا الاسم وهذا النبراس والمشعل هو الذي يجتذب افواج الناس الى الدين حتى يوم القيامة ، ان هذا الخلق الرفيع هو الذي جذب الناس نحو الاسلام ، صحيح اننا نؤمن بالعنف ولكن في وقته المناسب ، فكل من العنف والمرونة مفيدان في وقتهما ، ومضران اذا ما استخدما في ظروف غير مناسبة .
العنف والمرونة كمقياس لحكمة الانسان :
ان الله - سبحانه وتعالى - جعل هذين الاسلوبين ؛ العنف والمرونة سببا لتجربة حكمة الانسان ، وتقييم قيادته بحيث يعرف متى يقدم غصن الزيتون ، ومتى يشهر السلاح . وللاسف فان هناك من الناس من يزعم ان على الانسان ان يرفع دائما الراية البيضاء ، وراية الاستسلام والتراجع والهزيمة ، وعلى النقيض من ذلك فان هناك من يرى ان على الانسان المؤمن ان يشهر سلاحه دائما في وجه الاخرين ، في حين ان كلتا هاتين النظرتين مغلوطتان .
وحسب فهمي للايات القرانية فاننا يجب ان نستعمل العنف في ثلاثة مواضع :
أ - العنف في مقابل العنف ؛ اي رد الحجر من حيث يأتي ، فالذي لايفهم الا لغة البندقية علينا ان نخــاطبـه بمثل لغته كما يقول - تعالى - : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَـاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَـدَى عَلَيْكُمْ » (البقرة / 194) ، « وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَآ اُوْلِي الأَلْبَابِ » (البقرة / 179) .
ب - علينا ان نكون عنيفين في محاربة اهواء انفسنا ، فأشجع الناس من غلب هواه ، وحالة الضعف و وهن العزيمة فيها ، وفي الايات القرانية على لسان النبي نوح ( عليه السلام ) قوله - تعالى - : « فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ » (القمر / 10) اي ان هناك رايـة للظلم ونداء للمظلومية ، وفي بعض الاحيان يكون بامكان الدم الـمراق ظلما الانتصار على السيف الظالم كما حدث بالنسبة الى الامام الحسين (عليه السلام ) عندما تحول دمه المراق في كربلاء الى راية للمجاهدين عبر التأريخ .
وعلى هذا فان على الانسان ان يخالف هواه ، فـالقضيــة ليست قضيتي بل هي قضية الاسلام ، فاستخدام العنف مـع الذات ، ومصارعة الهوى ، ومخالفة الغضب والشهوة كل ذلك ينبغي ان يكون مقياسنا فيه الهيا .
لنحذر الحاقدين والمعقدين :
وللاسف فان هناك اناسا يلتحقون ببعض الاتجاهات الاسلامية لاجل حالة حقد ، ومرض نفسي يعيشونه ، فهم يحقدون على المجتمع ، وعلى الناس ومن اجل ذلك ينضمون الى صفوف الاسلاميين من اجل ان يشفوا احقادهم ، ويصبوا جام غضبهم على الاخرين ، وعلـى الحركات الاسلامية ان تنتبه الى مثل هؤلاء المتطرفين .
وفي سورة الممتحنة نقرأ هذه الاية الكريمة : « إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ » (الممتحنة / 4) ، وقد احتار اغلب المفسرين في تفسير هذه الاية ؛ فلماذا استغفر ابراهيم لأبيه ، وكيف يكون ( عليه السلام) اسوة لنا وقد استغفر لابيه آزر ؟
الجواب لان ابراهيم لم يكن في حالة صراع مع ابيه ، ولذلك فقد دعا له ان يهديه الله - تعالى - ، فهذا الدعاء كان استغفارا له ، كما ان نبينا الاعظم ( صلى الله عليه وآله) كان يدعـو لقومه بالهداية قائلا : " اللهم اهد قومي فانهم لايعلمـون " ؛ اي انـه ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن يتخذ موقفا حاقدا ازاء كفار قومه بل كان يدعو لهم بالهداية .
فان كان هناك كفار فان من مسؤوليتنا هدايتهم لا ان نحقد عليهم ، ونكنّ لهم العداوة والبغضاء ، وفي هذا المجال يقال ان الامام الحسين ( عليه السلام ) بكى في كربلاء ثلاث مرات بصوت عال ؛ مرة على مقتل ابنه البكر علي الاكبر (عليه السلام ) الذي كان اشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومرة لقتل اخيه العباس ، وثالثــة عندما دعا قومه الى السلم وترك الحرب فأبوا ذلك ، وعندمــا سئــل ( عليه
السلام ) عن سبب بكائه قال : ابكي عليهم لانهم سيدخلون النار بسببي .
ان هذا القلب الكبير يبكي على اعدائه ، ويتمنى لو انهم عادوا عن غيهم ليكونوا من اهل الجنة ، فرسالة الانبياء والاوصياء والمؤمنين الصادقين تتمثل في محاولة هداية الناس لا ان يدخلوا معهم في حروب ومعارك طاحنة .
وهكذا فان عنفنا ضد هوى النفس ، وضد الغضب والشهوة ، والتيارات الحادة التي تنطلق من غير مقاييس شرعية ، ضد اولئك المتعطشين للدماء .
ج - العنف ضد الطبيعة القاسية ؛ فالذي يقتلع الجبال ويشق الطرق ويحرث الارض ويستصلحها ويلين الحديد ، انما هو في الحقيقة يستخدم العنف ولكن ضد قساوة الطبيعة ، ونحن مكلفون من الناحية الشرعية ان نستغل ونستثمر ما في الارض لانها سخرت لنا ؛ ونحن يجب ان نوجه عنفنا الى هذه الطبيعة فنغيرها ونبدلها .
وفي هذا المجال يقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " مداد العلماء خير من دماء الشهداء " ، لان العالم يخترع ويكتشف الطرق المناسبة لقوة الاسلام والمسلمين ، ويحول دون انتشار المرض والتخلف والفقر بينهم ، ونحن عندما نريد ان نكون عنيفين فلنوجـه عنفنا هذا الى الجبال التي تقف في وجهنا ولاتسمح لنا ان نشق الطرق فنزيلها ، او الى الاراضي الصخرية التي لاتصلح للزراعة فنستصلحها والى الجهل والفقر فنقضي عليه .
لـقد كان علماؤنا (رض) يتعبون انفسهم من اجل قهر المشاكل العلمية ، وفي بعض الاحيان كان احدهم يجهد نفسه لشهر بأكمله من اجل ان يحل مشكلة من هذه المشاكل .
اننا لانستطيع ان نقهر الاستكبار ونهزمه بما يمتلك من اسلحة جبارة الا اذا عرفنا كيف نتقدم عليما ، ولننظر الى القران الكريم الذي يكن اعظم الاحترام للعلماء المتدينين السائرين على الطريق القويم ، وهكذا الحال بالنسبة الى الاحاديث النبوية ، وروايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ذلك لان الله - تعالى - لايريد للامة الاسلامية ان تكون امة جاهلة متخلفة تشتري كل شيء من غيرها ولا تتمكن حتى من صناعة الابرة .
ونحن اذا كونا مثل هذا المجتمع الايماني الطاهر المتقدم في جميع المجالات ، فان العالم سيتوجه بشكل طبيعي الى الاسلام ، وسوف لاتكون هناك حاجة الى دعوته الى الاسلام ، وفي هذه المواضع الثلاثة يجب ان نستخدم العنف .
مواضع المرونة واللين :
اما مواضع عدم استخدام العنف فهي ثلاثة هي الاخرى :
أ - علينــا ان لانستعمل العنف ضد من يخالفنا في آرائه و وجهات نظره ، فنقول له : ان لم تكن معنا فأنت ضدنا ، ويجوز لنا ان ندخل معك في صراع ، بل ويحق لنا ان نقتلك !!
ان مثل هذه السلوكية غير صحيحة ، فأنا انسان وهو انسان ، وانا امتلك العقل وهو ايضا يمتلك العقل ، فلماذا نعتقد اننا على حق وانه على باطل ؟ فان كان لدينا مقياس
فعلينا ان نأتي بالحجة لا ان نجلس في بيوتنا ونكفر هذا وذاك .
ان مثـل هذا النوع من العنف مرفوض ، فهو الذي سبب ويسبب الصراعات الداخلية ، وهو الذي احدث الثغرات الواسعة في جدار الامة فتسلل العدو الى بلادنا من خلالها .
ب - العنف الاخر المرفوض هو استعماله ضد من لايحمل علينا السلاح ، ويبدي استعداده للتعاون معنا بأي شكل من الاشكال ، وفي هذا المجال يحدثنا القران الكريم عن الكفار الذين لم يؤذوا المؤمنين قائـلا : « لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ » (الممتحنة / 8) ، فالاسلام يدعو الى السلام والامن ، فاذا كانت هناك دولة كافرة لم تشن حربا علينا ، ولم تمارس اي اعتــداء ضدنا فان الله - تعالى - لايرى بأسا من التعاون معها ، بل البر بها ومعاملتها بالعدل .
ثم يستأنف - تعالى - قائلا : « إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » (الممتحنة / 9) ، فالذي يقاتلنا علينا ان نقاتله ، والولاية بيننا وبينه مقطوعة .
ج - النوع الثالث المرفوض من العنف ان نتشبت بفكرة معينة مدعين ان هذه الفكرة هي الصحيحة وما عداها باطل ، وهذا النوع من العنف مرفوض لان " اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله " و " من استبد برأيه زل ، ومن اعجب برأيه ضل " .
وعلى هذا فان الذي يعتقد انه يفهم اكثر من غيره فانه في الحقيقة لايفهم شيئا ، لان الله - عز وجل - اودع في ذهن كل انسان مجموعة من الافكار ، ومن خلال اجتماعنا وتفاعلنا وتشاورنا وتحاورنا مع بعض نستطيع ان نفهم الحقائق ، فحقائق العالم لايمكن ان تدرك بشكل احادي ، ومن بعد واحد ، فنحن الان نعيش في زمن نحتاج فيه الى ان نحدد مع من نتفاهم ، وضد من نعمل ، وكيف يجب ان نكون ؟
وفي الحقيقة فاننا نعيش في مرحلة جديدة نحتاج فيها الى ان نكتشف العصر الذي نعيش فيه ، ونكتشف روح هذا العصر ، وكيف ينبغي ان نعمل فيه ، وهل يجب ان نفكر ونخطط بطريقة واحدة ، ومنهجية واحدة ، ووسيلة واحدة ام لا ؟
من المؤكد ان علينا ان نغير منهجيتنا وطرقنا واساليبنا ، وتنشد عيوننا دائما نحو الهدف ولا نتنازل عنه ، رغم ان بأمكاننا ان نغير الطرق والاساليب المؤدية اليه .
منطلق التغيير في الحركة الاسلامية
تطبيق الاسلام هو السبيل الوحيد الى انقاذ المحرومين والمستضعفين ، وعندما يطبق قسم من الناس الاسلام على انفسهم ويتحولون الى شخصيات مؤمنة بالاسلام ، ومستوعبة للرسالة حقا ، وينخرطون في تجمع ايماني صادق ، ويتحركون انطلاقا من الاسلام ومن اجل الله - تعالى - وللاهداف التي رسمها وبينها كتابه الكريم ، ففي كل ذلك ضمانة اكيدة لانتشار الاسلام في الارض ، وتطبيق قوانينه .
سبب تخلفنا :
ونحن اذا وجدنا حالة التخلف ، والتقهقر والبؤس والحرمان جاثمة في بلادنا ، فان ذلك سببه ما كسبت ايدينا كما يقـول - تعالى - : « ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » (الروم / 41) نتيجة ابتعادنا عن الاسلام ان الله - عز وجل - يسلب منا تلك النعمة التي انعمها علينا بالاسلام الا وهي نعمة الكرامة ، والامن ، والرفاه .
وبالطبع فان استمرار هذه الحالة يعني استمرار الحالة التي نتجت منها ؛ حالة الحرمان والبـؤس والتخلف والقهر ، وبالتالي سيطرة المستعمر علينا .
والحل الوحيد لتغيير هذا الواقع هو ان نسلك الاتجاه المعاكس الا وهو تغيير ما فسد من انفسنا ، وربما تكون هذه الفكرة واضحة عند اكثر الواعين والمهتمين بالحركة الاسلامية ، ولكن الكثير منا يزعمون ان على الاخرين ان يبدؤوا بأنفسهم فيغيروها اما نحن فقد عمرنا في الاسلام ، وانتهى هذا الدور بالنسبة الينـا ، فقد اصبحنا ازكياء طاهرين لانحتاج الى اي تغيير ، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية في فهم الاسلام .
ان الاسلام ليس اداة للتبرير بل هو اداة لتحمل المسؤولية ، وهو ليس وسيلة للخمول ، بل هو عامل مثير للنشاط ، فلابد ان نحمل رايته ، ونحن الذين ينبغي ان نحمل هذه الراية ، وبالتالي فليس من الصحيح ان نتقاعس في العمل من اجل الاسلام من خلال الاعتماد على الاخرين ، وان نعتبر انفسنا معصومين من الخطأ .
والان لنطرح هذا التساؤل على انفسنا : هل نحن الان في مستوى حمل شرف الدعوة ، وهل غيّرنا انفسنا في اتجاه التزكية لكي يغير الله - سبحانه وتعالى - ما في حياتنا الى الافضل ؟
ان التبرير عملية سهلة ، فليس هناك احد يقول أنا ليس انسانا طيبا ، فكل الناس يدّعون الطيبة والصدق ، ولكن من هو الصادق الحقيقي فيهم ؟
ان الصادق هـو الذي يكيّف نفسـه مع القيـم والمعايير السليمة .
القرآن هو المقياس الاول :
وبالنسبة الينا - نحن المسلمين - فان بين ايدينا هذا القرآن الشافع المشفع ، والماحل المصدق ، الذي من جعله أمامه قاده الى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه الى النار كما اشار الى ذلك الحديث الشريف ، وفي هذا المجال يروى ان رجلا جاء الى الامام الصادق ( عليه السلام) متسائلا : يا ابن رسول الله انا لا اعرف ان كنت من اهل الجنة ام من اهل النار ، فقال له الامام ( عليه السلام ) : اعرض نفسك على القرآن ، فان وجدت انك قد طبقت آياتــه ، وعملت بها فانك من اهل الجنة ، والا فانك من أهل النار .
وهكذا فان القرآن هو الحكم الفاصل بيننا وبين اهوائنا ، فلابد ان نعود الى هذا القرآن فنقرؤه جيدا ، ونتمعن في آياته ، ثم نعرض انفسنا على آياته الكريمة ؛ وهذا الامر يصح ايضا في مجال النطاق الاجتماعي ، والتجمعات المختلفة ، فالتجمع ليس الا شخصية مستوحاة ومنبعثة من مجموعة الافراد الذين يكونونه ، فهو ليس صنما ، او صورة بعيدة عن الواقع ، بل هو نتيجة وخلاصة لسلوكيات الافراد ، فكل فرد ينتمي الى هذا التجمع فانه لابد ان يتأثر به ، ويعكس واقعه بنسبة معينة عليه .
الانتصار الحقيقي :
وعلى هذا فاننا لانستطيع ان نبرر تخلينا عن المسؤولية ، فنلقي بها على التجمع الذي ننتمي اليه او نواليه ، وكذلك فان القوانين السائدة في التجمعات ، والعلاقات التي تربط بين ابناء التجمع الواحد ، او تربط بين هذا التجمع وسائر التجمعات الاخرى ان لم تكن مستوحاة من الاسلام والقرآن ، فان نجاح اي تجمع يكون مشكوكا فيه ، وحتى لو نجح هذا التجمع فان نجاحه قد لايكون في خط الاسلام ، فليس كل انتصار انتصارا حقيقيا ، فهناك بعض الانتصارات اسوء من الهزيمة ، ذلك لان الانسان اذا انتصر في الواقع المادي بعد ان يكون قد انهزم في الواقع القيمي والمعنوي ، وكانت هزيمته في الجانب المعنوي ثمنا دفعه لانتصاره في الجانب المادي ، فان هذا الانتصار يعد هزيمة نكراء بالنسبة اليه .
وكما يقول الامام علي ( عليه السلام ) : " اشجع الناس من غلب هواه " ، فليس الشجاع من ينتصر على خصمه في المعركة بقدر ماهو الذي ينتصر على نفسه وهواه وبالتالي على عدوه الاخطر الذي يحمله بين جنبيه ، والذي يدفعه الى ان يتحول من انسان خلقه الله في احسن تقويم الى انسان يرد الى اسفل سافلين ، فان لم تكن التعاليم الالهية هي السائدة في التجمعات الاسلامية في علاقاتها مع بعض ، وفي علاقاتها الذاتية ، وفي طريقة اختيارها للمناهج والافعال ، فان هذه التجمعات سوف لايكون انتصارها مطابقا لمفهوم الانتصار في الاسلام .
وقد تسأل : ماهي بصيرة القرآن في مجال التجمعات الاسلامية ؟
قبل ان نستوحي الجواب من الايات القرآنية ، لابد ان اقدم هذه الملاحظة وهي ان التجمع الذي يريد ان يطبق الاسلام غدا لابد ان يشكل اليوم الامة الاسلاميـة المصغرة ، ليكون بذلك النموذج لتلك الاطروحة التي يستهدف تطبيقها لان فاقد الشيء لايمكن ان يعطيه .
وعندما نريد ان نبني دولة اسلامية غدا باذن الله تمهيدا لبناء امة اسلامية فكيف ينبغي ان تكون هذه الامة ، وكيف يجب ان تكون علاقة ابنائها ببعضهم ؟
ان البرامج واضحة في هذا المجال ، ونحن نملك رصيدا من التجربة التاريخية ، ودستورا مكتوبا ومبينا وهو القرآن الكريم ، ولكن أليس من الواجب اولا ان نطبق هذه التعاليم والبرامج التي نريد ان ننشرها في العالم ، على انفسنا اولا ؟ فمادمنا نستطيع ان نطبق تعاليم الاسلام فلماذا الانتظار ، ولماذا التقاعس والتباطؤ . فنحن ظمانون الى الاسلام فلماذا لاننهل من عذب تعاليمه وتوجيهاته بالقدر الذي نستطيع ؟
وانني أعزو جانبا من عدم انتصار الحركات الاسلامية الى انها لم تستوعب الاسلام في سلوكياتها بالقدر الكافي وذلك بسبب الانقطاع الذي حصل بيننا وبين القرآن الكريم الذي هو محور تحركنا ، والذي لابد ان نجعله شعارنا من خلال تلاوته ككتاب حي ، وتطبيق آياته فــي كل جوانب سلوكنا ، ونحن لو اتخذنا القرآن قائدا لنا ، وجعلناه السراج الذي نستضيئ بنوره ، ونستثير عقولنا بمواعظه ، ونزكي انفسنا بتعاليمه لاستطعنا ان نصل الى الهدف المنشود ، ومثل هذه المسؤولية ليست واجبة على القيادة فقط ، بل على كل واحد منا ، فلقد جاء القرآن كتابا للناس جميعا ، والحديث الشريف يقول : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " .
شروط النصر في القرآن الكريم :
والقرآن الكريم يبين لنا شروط الانتصار في الآيات المباركة التالية من سورة الشورى :
« وَالَّذِيـنَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُـمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَاَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ » (الشورى / 38-43) .
فالسياق القرآني يـوحي الينـا في آية « وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِـرُونَ » ان هذه هي شروط النصر ، فاذا اردنا ان نحقق الانتصار فعلينا ان نطبق ونوفر شروطه بدقة ، وهذه هي الشروط كما تبينها الآيات القرآنية السابقة :
1- الاستجابة لنداء الحق : « وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ » ، ونحن نتمنى ان نكـون منهم ، فالله - تعالى - قد دعانا الى دار ضيافته وهي الجنة ، والداعي الى هذه
الدار هم الرسل ( عليهم السلام ) .
2- اقامة الصلاة : « وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ » ، فهناك فرق بين اقامة الصلاة ومجرد الصلاة ، فاقامتهــا تعني اداءهـا بشروطها ، وفي آية اخرى من سورة ( الروم ) يحدد - تعالى - معنى اقامة الصلاة في قوله : « مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » (الروم / 31-32) .
فمن شــروط اقامـة الصلاة تحقيق الوحدة ، والصلاة هي البوتقة التي تصهر المجتمع ، وتحقق الانسجام فيه ، فتصوغ شخصية الانسان الداخلية ، وشخصيته الاجتماعية .
واذا ما دققنا مرة اخرى في الآية الكريمة السابقة اكتشفنا ان اقامتنا للصلاة ستعطينا ضمانة للوحــدة التي تبعدنا عن الشرك الذي يتجلى في الاختلاف في الديـن ، فالصلاة هي معراج المؤمن ، وهي التي ترفعه من الماديات الضيقة ، والخلافات الجانبية ، والاهواء والشهوات والرذائل ، وترفعه الى مقام العبودية لله حيث لانجد في هذا المقام اي اثر للخلاف والشقاق .
3- الشورى : « وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ، فلو كانت العلاقة داخل التجمعات الاسلامية علاقة الشورى ، لزالت الاختلافات والنزاعات ، والشورى تعني ان تبحث انت عن آراء الاخرين ، ولاتنتظر ان يأتوا لك بها ، فالاسلام يقرر ان من واجب كل انسان ان يبدي رأيه اذا رأى انه هو الصحيح ، لان الساكت عن الحق شيطان اخرس ، كما انه يؤكد ان من واجب الانسان المسلم ايضا ان يرى ما عند الاخرين من آراء ، كما يشير الى ذلك قـولـه - تعالـى - : « وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » (آل عمران / 159) .
فان لم تكن حالــة الشورى سائدة على علاقاتنا فلنعمل على خلقها من جديد ، فيد الله مع الجماعة ، واعلم الناس من جمع علم الناس الى علمه ، واعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله .
4- الانفاق : « وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ » ، ان التجمع الايماني يفيض بالعطاء لان كل فرد من افراده لايعيش ذاته واهواءه ، فالكل يسعى لكي يعطي ما يملكه للاخرين .
ثم يقول - تعالى - بعد ذلك : « وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ »
فالمؤمنون هم الذين يكونون هذا التجمع الذي تسوده الاستجابة لله ، واقامـة الصلاة ، والشورى ، والانفاق ، وهذا التجمع سيصبح كالبنيان المرصوص الذي يقاوم كل معتد وكل باغ ، ولا يقر له قرار حتى يحقق النصر النهائي .
اصلاح الذات منطلق العمل الرسالي
عندما نتدبر في آيات الذكر الحكيم نجد ان هناك نظرة شمولية فيها ، تجاه صراع الانسان مع اعدائه ؛ فبينما نلاحظ بعض الايات القرانية تحدثنا عن صراع ساخن بين المؤمنين والكفار في نفس الوقت نلاحظ ان القران الكريم يشير الى صراع اخر اهم واعظم ؛ الا وهو صراع الانسان مع نفسه ، وسلبياته الذاتية .
ترى لماذا هذه النظرة الشمولية في القران ، وماذا ننتفع منها نحن الذين نتلو آياته الكريمة ؟
للجواب على هذا التساؤل نقول : ان النظرة الشمولية هذه انما تأتي لكي لايبقى للانسان مجال لان يبرر تقاعسه عن مسؤولياته وواجباته والفرائض المفروضة عليه بانشغاله بالصراع الخارجي . فلا يمكنك ان تدّعي انك انسان مجاهد ورسالي ومستضعف ومهاجر ، وتجعل من هذه الادّعاءات ستارا بينك وبين مسؤولياتك ، فأنت مسؤول امام الله - تعالى - ، وعليك واجبات فجهادك او هجرتك لايخولانك ان تبرر تقاعسك عن واجباتك ، بل على العكس من ذلك فان اردت ان تحافظ على اجرك عند الله بصفتك مجاهدا او مهاجرا فان السبيل الوحيد الى ذلك هو ان تقوم بواجباتك احسن قيام .
احذروا خدع الشيطان :
وبالطبع فان للشيطان اساليب عديدة في خدع الانسان ، وابعاده عن الصراط المستقيم ، ومن جملة هذه الاساليب الشيطانية ان يضخم في رؤية الانسان بعض اعماله الصالحة ليدفعه الى التقصير في سائر الاعمال .
وفي هذا المجال يجب ان نعلـم ان الشيطان قد صنع لكل واحد منا مصيدة خاصــة ، وهذه ملاحظة مهمـة يجب ان نلتفت اليها ، فهناك البعض من الناس يدخلون النار من باب العلم في حين ان العلم وسيلة لدخول الجنة ، ولكن الشيطان قادر على ان يدخل الانسان العالم النار بعلمه اذا كان هذا العلم غير خالص لوجه الله - تعالى - ، و وسيلة للافساد والضلال ، وهكذا الحال بالنسبة الى الصلاة ، والصيام وسائر العبادات ؛ فالصلاة التي يشوبها الرياء ، والصوم الذي يمنعك عن الواجبات هما من اسباب دخول النار .
اصلاح الذات اولا :
والقرآن الكريم يقول في هذا المجال : « قُل رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » (المؤمنون / 93-94) ؛ اي ان على الانسان المؤمن ان يدعو الله - تعالى - ان يهلك اعداء الدين والفاسقين والفجار والطغاة الظالمين ، ولكن على الانسان ان يحذر من ان يرد الدعاء عليه ؛ اي ان يكون هو نفسه ضمن اطار الدعاء ، فعلي ان لا اقول : " اللهم اهلك الفاسقين " واكون انا نفسي فاسقا ، او ان اقول : " اللهم اهلك الظالمين " في حين انني ظالم ، فقد يظلم الانسان ويطغى ضمن حدود سلطته ، كسلطته في بيته ، او في عمله ، او في اي مقام اخر ، فمثل هذه السلطة اذا استغلها الانسـان لانانياته وتكبره وتعاليه على الاخرين ، فانه سيصبح طاغيا ، فقد يكون الانسان فرعونا في بيته ، او في محل عمله .
ان أدعية القران الكريم بل وجميع الادعية انما هي برامج عملية ، فعندما تدعو ربك قائلا : « رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » ، فان عليك ان تسعى من اجل ان لاتكون من القوم الظالمين .
وفي هذا المجال يقـول القرآن الكريم : « وإِنَّا عَلَى أَن نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ » (المؤمنون / 95) ؛ اي ان الله - عز وجل - قادر على أن يري رسوله ما يعد الكفار ، ولكن القرآن الكريم يبين بعدئذ برنامجا خاصا لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، فيقول ان الله - تعالى - من جانبه يفعل ذلك بمقتضى من حكمته البالغة ، ولكن الرسول ( صلى الله عليه وآله) يجب عليه من جانبه ايضا ان يقوم بما يجب عليه ، كما يشير بذلك قوله - عز وجل - : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ » (المؤمنون / 96) .
وهكذا فان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجب ان يكون بدوره قدوة في الصلاح ، واماما في الاعمال الصالحة ، واسوة في التقوى ، فعليه ان لايكتفي بان يكون على الخط الصحيح ثم يترك الاعمال الصالحة .
وقد يفسر قوله - تعالى - : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَــنُ » ، بالعلاقـة بين المؤمنين ، والقرآن الكريم يحدد هذه العلاقة على اساس ان تكون علاقة ايمانية ، ففي نفس الوقت الذي تدعو فيه على الكافرين فان عليك ان تحسن علاقتك مع اخوانك ، لا ان تدعو على الناس من جهـة ، ومن جهة اخرى تكون علاقتك مـع اخوانك فاسدة . فالقرآن الكريم يقرر بصراحة انك اذا كنت صادقا في محاربتك لعدوك فلابد ان تكون صادقا بنفس النسبة في اقترابك من صديقك ، فلا يمكن للانسان ان يكون عدوا للجميع ؛ فمن يعادي عدوه بصدق ، لابد ان يصادق صديقه بصدق ، ومن يعادي عدوه كذبا وخداعا ودجلا فهو انما يعادي صديقه في الحقيقة .
وعندما نأتي الى واقعنا نرى مصداق هذه الحقيقة في انفسنا ، فالذي يتكاسل عن واجباته يدخل ضمن اطار الظالم ، فما الفرق بيني وبينه ؟ انا لا اصلي وهو ايضا لايصلي ، انا اخون واجباتي وهو يخون مسؤولياته .
وعلى هذا فان علينا نحن بدورنا ان نبتعد عن الشيطان الذي يمتلك الكثير من اساليب المكر والكيد ، ونحن انما نستطيع مقاومة هذه الاساليب من خلال التوكل على الله - سبحانه وتعالى - الذي يأمرنا ان نستعيذ من الشيطان بأن نقـول : « وَقُل رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُـرُونِ » (المؤمنون / 97-98) .
السعي دواء التخلف :
وبناء على ذلك فان القضيــة المهمة ليست هي قضية الدعاء على الكفار ولعنهم ، بل يجب علينا اولا ان نخرج انفسنا من هذا الاطار ، وهذا لايتحقق الا بالسعي ؛ فعندما ترى بلادك متخلفة فعليك ان تعرف ان مصدر التخلف موجود فيك وان عليك ان تقاومـه ، فالتخلف يعني الكسل ، وعـدم استغلال الوقت ، وعدم الاهتمام بالاخرين ، والتسيب وعدم الانضباط في العمل وعشرات الصفات السلبية الاخرى التي نعاني منها سواء اعترفنا بها ام لم نعترف .
واذا ما استطعنا ان نقضي على التخلف في انفسنا واحدثنا التحول فيها ، فحينئذ ستتغير المعادلة ، ومثل هذه المعادلة توشك الان على التغيّر بالفعل ، ونحن نحمد الله - تعالى - على وجود بعض الشباب الذين اختاروا الشهادة في سبيل الله على البقاء في الذل ، فمثل هذا التحول قد حدث بالفعل لدى شبابنا ، وهناك الكثير من المعادلات الدولية قد تغيرت بفضل هذا التحول ، فطغاة الارض يضعون الان في حساباتهم اولئك الشبان الذين قرروا ان يستشهدوا في سبيل الله - عز وجل - .
ومن الجدير بالذكر هنا ان التحـول الاشمل والاكمل لايحدث من خلال الاستشهاد في سبيل الله - تعالى - بل من خلال ان تكون مجاهدا شاهدا ، ثم بعد ذلك عليك ان تسأل الله ان يوفقك لان تكون مجاهدا شهيدا وشاهدا ، فالشاهد يعني ان تعمل على تغيير نفسك منذ هذه اللحظة ، وان يكون عملك على ضوء مخطط علمي ، وان تتعاون مع اخوانك الى ابعد مدى ممكن ، وتنضبط وفق الخطة التي رسمتها ، ولا تدع فرصة واحدة تفلت من يديك في تعلم العلم ، والسعي المكثف من اجل استيعاب التجربة ، وتطبيقها على الواقع الراهن . وفي هذا الـمجـال يقـول - جل وعـلا - :
« حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلآَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (المؤمنون / 99-102) .
وعلى هذا فلا يجوز للانسان ان يزكي نفسه بنفسه وهو مقبل غدا على ميزان بحاجة الى ما يثقله لذا عليه ان يستغل وقته في القيام بالاعمال الصالحة لكي يثقل ميزانه ، فلا يكفي - مثلا - ان تقوم بخمسين عملا صالحا ترتكب معها خمسة ذنوب ، لان هذه الذنــوب على قلتها من شأنها ان تجعل ميزانك يوم القيامة خفيفا .
فعلينا - اذن - ان نعمل ، ونبذل الجهود المستمرة من اجل ان نثقل موازيننا ، وذلك من خلال النشـاط ، والتحرك المستمر والمتواصـل ، وعبـر التصاعد العمـودي بأتجاه التكامـل والتطـور .
مسؤوليتنا الذاتية في التغيير
قبل كل شيء لابد ان يتركـز سعي الانسان المؤمن والمجتمع الايماني على تحقيق الهدف المتمثل في اصلاح بنية المجتمــع ونظامه الاقتصادي والسياسي والثقافي ، ولكن هل يتوقف سعي الانسان عند هذا الحد ؟
الجواب بالنفي طبعا ، لان المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع انما هي اطار لتحرك الانسان واختباره وبروز مواقفه ، وبتعبير اخر فانها الخطوة الاولى لتحرك الانسان .
الاطار لايغني عن التحرك :
ان هذه المؤسسات المختلفة تشبه الى حد بعيد الجدران في البيت ، فوجود بيت للانسان محاط بالسياج والجدران ، ومجهز بالاساس القويّ المتين يمثل بداية وجود هذا الانسان ، فكل هذه الامكانيات تسمح للانسان بان يمارس نشاطه داخل حدود بيته فمن يعتقد ان وجود الجدران والغرف والاثاث في البيت يغني الانسان عن التحرك انما هو انسان ساذج ، فالجدران وما وراءها من غرف واثاث انما هي شرط للمحافظة على حياة الانسان التي هي طريقة لتحقيق هدفه المتمثل في السعي والتحرك .
ان اصلاح النظام الاجتماعي وما اشبهه انما هو اطار لسعي الانسان ، وعلى سبيل المثال فلو فرضنا ان الله - عز وجل - وفق المؤمنين في مكان ما بفضله ورحمته ، وبما رآه من صبر واستقامة وعمل منهم الى ازالة نظام دكتاتوري مستبد وابداله بنظام سياسي واقتصادي وثقافي قائم على اساس الاسلام ، فان الخطوة الاولى قد تمت في هذه الحالة ، ولكن هذا لايعني انتهاء كل شيء فتغيير النظام ما هو الا الخطوة الاولى في مجال تحرك الانسان واتجاهه نحو اهدافه الخيرة ، وهناك خطوات اخرى على الانسان المؤمن ان يخطوها .
وعلى هذا فان باستطاعة الانسان المؤمن في ظل هذا النظام تنمية قدراته الروحية والعقلية والجسدية ، وان يحقق اهدافه بصورة طبيعية ، اما في ظل نظام طاغوتي فلا يمكن له ان يربي نفسه ، ويحقق مكاسب مشروعة في حياته ، اما في ظل النظام الاسلامي فانه يستطيع فعل ذلك ، ولكن مجرد الاستطاعة لاتغني عن العمل ، بل عليه ان يجتهد ، ويبذل قصارى ما يستطيع .
وعلى سبيل المثال ؛ اذا افترضنا ان هنا موظفا يرتشي ، ومسؤولا متمحورا حول ذاته ، وموظفا اخر يتنازل عن القانون وعن النظام لمجرد رغبة شخصية ، وان هناك صاحب سلطة يظلم ، واخر صاحب كفاءة يمارس الجور ، وان هناك انسانا يبادر الى صنع الخمرة في بيته عندما يرى انها ممنوعة عليه ، كما هناك اب يبعث بولده الى بيئة فاسدة بدل ان يربيه في بيئة اسلامية ... اذا افترضنا كل ذلك فهل هناك مسؤولية يتحملها النظام في هذا المجال ؟
الــجواب ؛ كلا فالنظام السياسي لايتحمـل مسؤولية انسـان فاسد فـي داخل هـذا
النظام ، فاذا كان ابناء المجتمع يفضلون الكسل والتقاعس والبحث عن الربح السريع دون عمل ، فان مجرد صلاح النظام لايعني تقدمهم وتحضرهم .
نعم ، ان صلاحية النظام هي الخطوة الاولى لتحرك الانسان نحو الحضارة ، وشرط اساسي لحركة الانسان نحو البناء ، ولكن هذا الشرط لايمكن ان يكون بديلا عن العمل والعطاء والاجتهاد .
في ظل النظام الذي بناه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كانت هناك مخالفات وتجاوزات وتناقضات ، وحب للذات ، واطاعة للهوى والشهوات ... كل هذه السلوكيات السلبية كانت موجودة ، ولكن هل هذا يعني ان الرسـول ( صلى الله عليـه وآله ) كان على خطـأ ، وان القــرآن كـان على خطأ ايضا ؟ كلا بالطبــع ، لان الانسان يبقى حرا في تصرفاته ، فالقانون يوضع ، ولكن من الذي ينفذ هذا القانـون ؟
واما بالنسبة الى المجاهدين ، والطلائع الرسالية ، فان هناك حديثا اريد ان اوجهه اليهم وهو : ان العاملين في الساحة ، والمجاهدين في سبيل الله ، عليهم ان يعلموا ان دورهم مايزال قائما ؛ اي ان ارادتهم هي التي تصنع المستقبل ، فعليهم ان لايتكئوا على النظام السياسي ، فهو مجرد اطار ، وفاعليتنا وحركتنا ضمن هذا الاطار هي التي تصنع النصر والمستقبل .
والقرآن الكريم عندما يحدثنا عن لقمان ، ويبين وصاياه لابنه نراه يذكرنا بأن هناك حقائق ينبغي ان نفهمها ، ومن ابرز هذه الحقائق دور الانسان ومسؤوليته تجاه حياته ، وفي هذا المجال علينا ان ننظر الى انفسنا ضمن التجمع الذي نعيش فيه او اي تجمع في اي بلد اسلامي ، فنحن لايمكن ان نلقي مسؤولية التخلف والتلكـؤ ، ومسؤولية الهزائم والنكسات على الاطارات السياسية او التنظيمية ، كلا ، ففي البدء علينا ان ننتقد انفسنا ، ونحاول اصلاحها ، فالتنظيم السياسـي - مهما كان - انما هو مجرد اطار ، والمهم ما هو داخل هذا الاطار .
السعي والاجتهاد سرّ التقدم :
فاذا كان داخل هذا الاطار صورة من الاجتهاد والسعي الحثيث ومتابعة الاعمال ، فان العمل سيتقدم ولا شـــك ، والقران الكريم يذكرنا بهذه الحقيقة من خلال الوصايا التي ينقلها عن لقمان وابنه فيقول - عز من قائل - :
« يَا بُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ » (لقمان / 16) .
وتعني هذه الاية الكريمة ان على الانسان المؤمن ان يضاعف عمله ، ويحاول ان يقدم المزيد من الانتاج ولو بمقدار مثقال حبة من خردل ، لان الله - جل وعلا - يزنها ويحفظها ، ثم يأتي بها وان كانت في اعماق البحار ، او داخل الجبال ، وهذا يعني ان على الانسان الرسالي ان يفتش عن اسلوب لزيادة انتاجه ولو بمقدار بسيط .
وعلى سبيل المثال فان كان بأمكانك ان تقرأ كتابا الى الساعة العاشرة ، فان بأمكانك ايضا ان تستمر في مطالعة الكتاب ولو لدقيقتين ، لان هاتين الدقيقتين من الممكن ان تنفعك يوم القيامة ، ففي هذا اليوم هناك ميزان ينصب ، وتوضع في كفة من كفتيه الاعمال الصالحة ، وفي الكفة الاخرى السيئات ، واذا اردت ان تجرب هذا عمليا فخذ ميزانا ثم ضع عشرة كيلو غرامات في كل كفة ، بعد ذلك اضف غراما واحدا الى واحدة من الكفتين ، سترى ان هذا الغرام على ضآلته وصغره سيؤدي الى ان ترجح الكفة الاخرى .
وهكذا الحال بالنسبة الى يوم القيامة ، فقد نكتشف ان كفة السيئات هي الراجحة بسبب ذنب بسيط ، وعلــى العكس من ذلك وبسبب عمل صالـح جزئي كنا قد قمنا به فـي الدنيا سنرى كفة الصالحات هي الراجحة .
وعلى هذا فليحاول الواحد منا ان يزيد حسناتــه ولو بمقدار غرام واحد يشير اليه - تعالى - في قوله : « مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ » ، علما ان الخردل هو أخف انواع
الحبـوب .
ان الانسان المؤمن الرسالي لايقول مطلقا ان اخواني يعملون ، وان هناك بحمد الله كتبا كثيرة قد طبعت ، وهناك الكثير ممن يعملون في سبيل الله ، بل عليه ان يسأل نفسه : وماذا عملت انا ؟ فعمله هو وحده الذي ينقذه يوم القيامة من النار لا عمل الاخرين .
واذا كان من الضروري ان تقلل من نومك ، وتزيد من نشاطك الجسمي ، والفكري في اي حقل فحاول ان تفعل ذلك الى اخر ذرة من طاقاتك ، وان لاتقصر في هذا المجال بحق نفسك .
ثم يستأنف - عز وجل - الحديث عن وصايا لقمان لابنه قائلا : « يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ » (لقمان / 17) ، فاتيان الصلاة بحدودها وشروطها هو من اولويات العمل الرسالي ، فالصلاة هي التي تبعث الروح في العمل ، وتعطيه صفاءه وخلوصه ، وكذلك الحال بالنسبة الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وللأسف فان هذه الفريضة الالهية المهمة تتلخص عند بعض الناس في ان يصعدوا المنبر ويتحدثوا او يؤلفوا الكتب ثم ينتهي كل شيء ، وهذا خطأ فاحش ؛ ففي كل شيء هناك معروف وهناك منكر ، وفي كل حركاتنا وسكناتنا بين اوساط المجتمع نستطيع ان نمارس فريضة الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فالانسان المؤمن يجب ان يكون سراجا مضيئا دائم الاشعاع ، وغير متوقف عن العطاء ، فعنــد ركوبك في السيارة ، وعندما تشتري شيئا ما ، وحينما تجلس في قاعة الدرس ، يجب ان يلهج لسانك بأمر الناس بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، فتكون هناك قوة ضاغطة باتجاه المعروف .
الصبر سلاح لمكافحة الضجر :
ان ما يصيب الانسان في حياته كثير ، ونحن نرى ان قسما من الناس دائم الضجـر
بالنسبة الى ما يحيط به من مشاكل فان اصيب - على سبيل المثال - بالحرمان من المال او اي مشكلة اخرى يبدا بالضجر ، فيبث الشكوى يمينا وشمالا ، وينشر السلبيات من حوله ، في حين انه لو كانت لدينا شكوى حقيقية فان صاحب شكوانا هو الله - سبحانه وتعالى - ، اما ان تزرع السلبيات في طريقك ، وتشحن الاجواء من حولك بالكلمات السلبية فهذا تصرف خاطئ .
فلنتحلى بالصبر ، فالانسان المؤمن كلما سئل عن حاله تجده يحمد الله ويشكره ، ويذكر الايجابيات في الحياة ، ويزرع من حوله الرياحين ، ويدخل في قلوب المؤمنين الفرح والسرور ، وقد جاء في الروايات ان من افضل العبادات ادخال السرور الى قلوب المؤمنين ، فعندما تجلس عنـد انسـان مؤمن فلا تذكره بالسلبيات والمشاكل ، وحاول ان تمنحه الامل بدلا من ان تزيد همومه وغمومه .
لندع التكاثر والتفاخرجانبا :
ثم يضيف السياق القرآنـي الكريـم قائــلا : « وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً » (لقمان / 18) ، ولــلاسف فـان الحالـة النفسية لبعض الناس تدفعهم دوما الى التحدي والتنافس . ولعن الله - تعالى - الشيطان الذي يبعث الانسان نحو هذا الطريق المظلم الوعر ، فان تحدثت امامه عن المنافسين بدأ يستمع اليك ، وبدأ بالتحرك هنا وهناك .
ان على الانسان المسلم ان يدع التكاثر والتفاخر ، وقد جاء في الحديث الشريف قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " أخر فخرك للحساب " ؛ فان كان عندك فخر ، وكان باستطاعتك ان تمدح نفسك ، فبامكانك ان تمدحها عند الحساب ، فلمن التفاخر في الدنيا ولماذا يقول احدنا : انا احسن من فلان فيمدح نفسه ، ويفاخر باعماله .
ثـم يذكر - عز وجل - قائلا : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ
فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِــن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَـرَ الاَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيــرِ » (لقمان / 18-19) ، وقد يكون المراد من المشي هنا المشي المادي ، فعندما تمشي عليك بالهدوء والسكينة والوقار ، فمشيــة الانسان المادية تعكس روحه ، وطبيعة نفسه ، ولكن هناك معنى آخر للمشي ألا وهو المعنى السياسي ؛ فعلى الانسان ان لايكون متطرفا ، فان كان يضمر الحب لشخص ما فعليه ان لايغلو في حبه له ، والعكس ايضا صحيح .
ثم يذكر - تعالى - قائلا : « وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ » (لقمان / 19) ، فعلى الانسان ان لايحاول التغلب على الاخرين من خلال ايجاد جو من التطرف والسباب ، فعليــه ان يتحدث مع الاخرين بمنطق الحق والاقناع ، وليست هناك اية حاجة الى ان يرفع صوته .
ان هذه مجموعة صفات ينبغي ان نوجدها في انفسنا، وهناك مجموعة اخرى كالحزم في العمل ، وتنظيم الوقت ، والاهتمام بالتعاون مع الاخرين ، والتشاور معهم ، وخلق جو من الالفة والمحبة بيننا .
وهذه الصفات موجودة في القرآن الكريم أولاً ، ثم في الاحاديث الشريفة ، وفي تـأريخنا الحافل بالقدوات الصالحة ، وفي التجارب الحضارية . والمؤمن الرسالي مكلف اليوم بايجاد النصر بجهده ، فان كل واحد منا اذا كان رجلا ناجحا ، وكنا داخل تجمع ، فان هذا التجمع الذي يجمع مجموعة من الرجال الناجحين هو تجمع ناجح ، في حين ان التجمع الذي يحوي على مجموعة من الفاشلين في الحياة والكسالى والسلبيين غير الآبهين بمصير امتهم ، انما هو تجمع فاشل بالطبع .
ونحن نأمل في هذا العصر الذي يتسم بطابع التحرك الاسلامي ان لانغتر بالمكاسب ، وان لانتكل على الاخرين ، بل على كل واحد منا ان يبذل كل ما يستطيع من جهد في سبيل تطوير العمل لوجه الله - سبحانه وتعالى - . الذي اذا نظر الينا ورأى فينا تلك الهمة العالية والاصرار والعزم المطلوب فانه - عز وجل - لابد ان ينصرنا بحوله وقوته لانه كتب على نفسه ان ينصر كل من ينصره مـن خلال السعي ، والعمل الدؤوب ، والجهد المكثف فـي سبيل تحقيق الاهداف الالهية ، والمكاسب الرسالية على ان يكون ذلك السعي خالصا لوجهه الكريم .
الانسان الرسالي وفن العلاقات العامة
في هذا الفصل نتحدث عن موضوع هام يرتبط بحياة الرساليين العاملين في الساحة الذين تقع على اكتافهم مسؤولية كبرى في هذا العصر ؛ عصر الصراع بين الاسلام والجاهلية ، العصر الذي تحول فيه هذا الصراع الى صراع ايديولوجي وحضاري شامل .
العلاقة بين الطليعة والجماهير :
ان الموضوع الذي نريد ان نطرحه هنا هو العلاقة بين الرساليين الطليعة والعلماء والمثقفين من جهة ، وبين الجماهير من جهة اخرى ؛ فليست هناك ثورة تقوم على اكتاف الطلائع الرسالية فحسب فهم بمثابة الصاعق الذي يفجر فتيل الأمة والرسول الذي يبشر وينذر ، فهم لايتحملون عن الناس جميع مسؤولياتهم ولايجردونهم عن واجباتهم ، بل ان دورهم يتمثل في التشجيع والتحريض ليكونوا شاهدين على عصرهم كما يشير الى ذلك قوله - تعالى - :
« يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً » (الاحزاب / 45) .
وفي آية اخرى يقول - جلت قدرته - :
« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (البقرة / 143) .
وهكذا فان دورهم هو ان يكون كل واحد منهم حجة على الناس لينقلوا هذه الشهادة العملية الى الاخرين عبر التبشير والانذار والتبليغ ، وبيان الحقائق .
وعلى هذا فان اهـم خطوة يخطوها الانسان الرسالي في حياته تتمثل في ان يتحول مـن فئة محدودة وملاحقـة الى قاعدة جماهيرية عريضة ، فان تم هذا التحـول فقد انتصرت الثورة ، وان لم يتحقق فان الثورة ستنهزم حتى وان انتصرت ظاهريا .
معركتنا تدور حول الجماهير :