ثبوت الدية مع موت القاتل الهارب
هذا كلّه في موت القاتل من دون الهرب والتقصير ، وأ مّا موته مع الهرب فثبوت
الدية فيه على مال الجاني على المختار من التخيير أولى من الصورة السابقة ، ولانزاع
فيه ، كما لايخفى .
وإنّمـا الكـلام على المبنى المعروف ففيـه خلاف أيضـاً كالسابقـة ، فالقـول
بالدية للشيخ في «النهاية»[1537] وابن زهرة[1538]
والقاضي[1539] والتقي[1540]
وابن حمزة[1541] والكيدري[1542]
وغيرهم ، بل في «غاية المراد»[1543] و «المسالك»[1544]
و «التنقيح»[1545] نسبته إلى أكثر الأصحاب تارة وإليهم اُخرى ، بل عن
«الغنية» : الإجماع عليه[1546] ، وبعدمه لابن إدريس في «السرائر»[1547]
وادّعى الإجماع عليه .
والوجوه المستدلّ بها على الثبوت في هذه الصورة هي المستدلّ بها في السابقة
بزيادة ما في «المختلف» من سببيّة تفويت الواجب عليه حتّى تعذّر فعليه البدل ،
والدية تؤخذ من تركته .
ففي «المختلف» : «والمعتمد : ما قاله الشيخ في «النهاية» وهو قول ابن الجنيد ،
لنا : قوله(عليه السلام) : (لايبطل دم امرء مسلم)[1548]
وعموم قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً)[1549] .
وما رواه أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن ]أبي جعفر(عليه السلام)[ في رجل قتل رجلاً
عمداً ثمّ فرّ فلم يقدر عليه حتّى مات ، قال : (إن كان له مال اُخذ منه ، وإلاّ
اُخذ من الأقرب فالأقرب)[1550] .
وعن أبي بصير ، عن الصادق(عليه السلام) ، قال : سألته عن رجل قتل رجلاً متعمّداً
ثمّ هرب القاتل فلم يقدر عليه ، قال : (إن كان له مال اُخذت الدية من ماله ، وإلاّ
فمن الأقرب فالأقرب ، فإنّه لا يبطل دم امرء مسلم)[1551] .
ولأ نّه أخلّ بدفع الواجب عليه حتّى تعذّر ، فكان عليه البدل ، فإذا مات وجب أن
تؤخذ من تركته»[1552] .
وفي هذه الوجوه غير الوجه الأوّل تأ مّل وإشكال ، أ مّا رواية أحمد بن أبي نصر
البزنطي فمردّدة بين كونها صحيحة أو مرسلة كما مرّ ، بل الظاهر أ نّها مرسلة ;
لكونها منقولة عن أبي جعفر(عليه السلام) على الإطلاق المنصرف إلى الباقر(عليه
السلام) ، وليس لابن نصر رواية عنه بلا واسطة فإنّه من أصحاب الرضا(عليه السلام) .
وأ مّا رواية أبي بصير فضعيفة باشتراكه بين الثقة وغيره .
وفي «الجواهر» : «في رواية أبي بصير الموثّقة المروية في «التهذيب»[1553]
و «الكافي»[1554] بتفاوت يسير»[1555] .
وهو أعلم بما قال ، نعم وجود أبان بن عثمان ـ من أصحاب الإجماع ـ في السند موجب
لاعتباره ; لأنّ شأن كونه من أصحاب الإجماع مقتض لعدم نقلهم عن المجهول أو الضعيف ،
ولازم ذلك كون أبي بصير هو الثقة ، هذا مضافاً إلى أنّ الشهرة وعمل الأصحاب جابران
لضعف السند ، فتأ مّل . لكن مع ذلك كلّه ما في متنها ومتن خبر أبي نصر من إيجاب
الدية على الأقرب فالأقرب مع عدم ضبط ذلك ، بعيد وخلاف القوانين العقليّة والنقليّة
كما سنوضحه .
وما ذكره (رحمه الله) من الوجهين الاعتباريّين بقوله : «لأ نّهم يأخذون ديته مع
العفو على المال أو تعذّر الاستيفاء بالقصاص ، فكانت ديته عليهم كما في الخطأ» ،
وبقوله : «ولأ نّهم يضمنون دية الخطأ ولم يُبطلها الشارع حراسةً للنفوس وحفظاً لها
وزجراً عن القتل خطأً ، فالعمد أولى بالحراسة والزجر عنه والمعاقبة عليه وأخذ العوض
فيه»[1556] ، فليس بأزيد من الاعتبار لادليلاً عليه .
نعم ، لو ثبت ذلك الحكم بالدليل كان ذلك وجه مناسبة له ،فإنّ إثبات هذه الأحكام
بمجرّد مثل هذه الاُمور غير ممكنة ; لعدم الاعتبار بالاعتبار في الاعتبار .
وأ مّا آية السلطنة ، مضت المناقشة في الاستدلال بها فلا نعيدها .
نعم ، الوجه الأوّل كما كان الاستدلال به تامّاً في الصورة السابقة ، فكذلك في
هذه الصورة ; لعدم الفرق بينهما في لزوم أ نّه لا يبطل دم امرء مسلم .
وفي «السرائر» : «هذا غير واضح ; لأ نّه خلاف الإجماع وظاهر الكتاب ، والمتواتر
من الأخبار ، واُصول مذهبنا ، وهو أنّ موجب القتل العمد القود دون الدية ، على ما
كرّرنا القول فيه بلا خلاف بيننا ، فإذا فات محلّه ، وهو الرقبة ، فقد سقط لا إلى
بدل ، وانتقاله إلى المال الذي للميّت أو إلى مال أوليائه حكم شرعي يحتاج مثبته إلى
دليل شرعي ، ولن يجده أبداً ، وهذه أخبار آحاد شواذّ أوردها شيخنا في نهايته
إيراداً لا اعتقاداً ; لأ نّه رجع عن هذا القول في مسائل خلافه وأفتى بخلافه ، وهو
الحقّ اليقين»[1557] .
وفيه : ما ذكره ابن إدريس من أنّ قول شيخنا في «النهاية» مخالف للإجماع جَهْلٌ
منه وخطأ في القول ، وحاشا شيخنا عن مخالفة الإجماع ، مع أ نّه أعرف بمواضعه منه ،
وأيّ أخبار تواترت له في ذلك حتّى يخالفها شيخنا (رحمه الله) ؟ ! وأيّ منافاة بين
ما قلناه وبين أنّ الواجب القود ؟ ! فإنّا لو سلّمنا له ذلك لم يلزم إبطال ما
اخترناه ، فإنّ مفوّت العوض مع مباشرة إتلاف العوض ضامن للبدل .
والشيخ لم يرجع في «الخلاف» عن قوله في «النهاية» بل صدر المسألة مطابق لما أفتى
به في «الخلاف» ثمّ عقّب في آخرها بقوله : «ولو قلنا بقول أبي حنيفة كان قويّاً»[1558]
، وليس في ذلك إفتاء بقوله .
ثمّ مع ذلك كيف يدّعي مخالفة الشيخ للإجماع وقد أفتى بقوله جماعة من علمائنا ؟ !
ثمّ إنّ ما في الخبرين من كون الدية على الأقرب فالأقرب مع عدم المال له مخالف
للقواعد ، فإنّه لاتزر وازرة وزر اُخرى ، وأ نّه لا ضمان إلاّ على المتلف والجاني ،
وأنّ جعل الدية في مالهم ظلم عليهم فلا يصحّ الذهاب إليه ولا الفتوى به للمخالفة مع
القواعد .
والظاهر أنّ فتوى العلاّمة في «الإرشاد»[1559]
بالسقوط مع عدم المال له ، إنّما تكون لتلك المخالفة ، بل في «المسالك»[1560]
: أنّ المتأخّرين على السقوط مع عدم المال له ، ودفع المخالفة بكونه مؤثراً في عدم
تفويت العوض من جهة عدم حفظ الجاني بحيث لا يكون قادراً على الفرار .
وفيه : مع أنّ الرواية والفتوى مطلقة شاملة لمطلق الأقارب وإن لم يكن لهم دخل في
المنع عن الفرار ، أ نّه لاخصوصيّة للأقربيّة فضلاً عن الأقرب فالأقرب ، بل
الخصوصية للدخيل الأقوى ثمّ الأقوى ، كما لايخفى .
هذا مع أنّ الأقربيّة غير مضبوطة فيهما والضبط على الدقّة لازم للشارع ولمقنّن
الحكم ، ومع أنّ أصل إثبات مثل هذه الأحكام المخالفة للقواعد العقلائيّة والعقليّة
والشرعيّة بالخبرين بل وبالثلاثة والأربعة محلّ إشكال وتأ مّل ; لعدم الدليل على
حجّيّة الخبر إلاّ بناء العقلاء غير المحرز في مثل المورد ، فلابدّ من الاقتصار على
المتيقّن . وبما ذكرناه يظهر عدم تماميّة ما في «الجواهر» من نفي الاستبعاد ، ففيه
: «ولا استبعاد في الحكم الشرعي خصوصاً بعد أن كان إرثه لهم»[1561] ،
وذلك لأنّ الكلام في الثبوت ، ودفاعه في الإثبات .
فرع : الحكم بجواز أخذ الدية في الهالك ليس دائراً مدار فراره ، بل يكون ثابتاً
أيضاً مع عدم إمكان الوصول إليه وإن لم يكن فارّاً ; لإلغاء الخصوصيّة ولعموم
العلّة .
تنبيه : لا يخفى أنّ الظاهر على مثل مذهب ابني الجنيد[1562]
وأبي عقيل[1563] من التخيير بين القود والدية ، عدم توقّف جواز أخذ
الدية للوليّ في الفرار على هلاكه ; لأنّ له ذلك مع حضور الجاني فضلاً عن فراره
وفضلاً عن موته مع الفرار ، بل له ذلك أيضاً مع عدم التوقّف على الموت على القول به
مع البناء على المعروف من تعيّن القصاص لكن فيما إذا انجرّ مدّة الفرار إلى الضرر
والحرج على الوليّ ، وكانا مرتفعين بأخذه الدية ، قضاءً لحاكميّة أدلّتهما على دليل
التعيّن ، كما أنّ الظاهر أيضاً لزوم ردّ الدية على القاتل مع كشف الخلاف ورجوعه
على ذلك القول ; لأنّ الدية عليه بمنزلة بدل الحيلولة ، وهذا بخلاف القول الآخر
المختار فليس على الوليّ الرجوع بل لايكون له ذلك ; لأنّ الظاهر كون التخيير
بدويّاً ، فتأ مّل .
(مسألة 26) : لو ضرب الوليّ القاتل وتركه ظنّاً منه أ نّه مات فبرئ ، فالأشبه أن
يعتبر الضرب ، فإن كان ضربه ممّا يسوغ له القتل والقصاص به لم يقتصّ من الوليّ ، بل
جاز له قتله قصاصاً ، وإن كان ضربه ممّا لايسوغ القصاص به ـ كأن ضربه بالحجر ونحوه
ـ كان للجاني الاقتصاص ، ثمّ للوليّ أن يقتله قصاصاً أو يتتاركان (33) .