حكم قصاص قتل الكامل الناقص
(34) البحث عمّا في مثل المتن من الصور بحث عن حكم قتل الكامل الناقص من أ نّه
القصاص بلا ردّ ، كقتل الكامل مثله أو الناقص مثله مطلقاً أو فيه تفصيل ، والصور
خمسه :
أحدها : أن يكون نقصان المقتول خلقةً أو اتّفاقاً .
ثانيها وثالثها : أن يكون من جهة جناية الجاني وعفو المجنيّ عليه ، وفي هذه
الصورة إمّا يكون القاتل الكامل هو الجاني المعفو عنه أو غيره .
رابعها : أن يكون النقصان في المقتول قصاصاً عليه .
خامسها : أخذ الناقص المقتول الدية على نقصه .
فالبحث عمّا في المسألة إنّما يتمّ بالبحث عن حكم الصور على القاعدة والنصّ ،
وأقول مستعيناً بالله تعالى : إنّه لا إشكال ولا كلام في القصاص وعدم الردّ في
الصورة الاُولى ; لعموم النفس بالنفس كتاباً وسنّة ، ولما في ذيل رواية سورة بن
كليب ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) . . . قال : «وإن كانت يده قطعت في غير جناية
جناها على نفسه ولا أخذ لهادية قتلوا قاتله ولا يغرم شيئاً ، وإن شاؤوا أخذوا دية
كاملة» ، قال : «وهكذا وجدناه في كتاب علي(عليه السلام)»[1588] .
وأ مّا الصورة الثانية ، وهي ما كان القاتل هو الجاني المعفو عنه ، ففيه خلاف ،
فظاهر «الشرائع»[1589] أنّ للوليّ القصاص مع ردّه دية المقطوع إلى
القاطع القاتل ; استناداً إلى رواية سورة بن كليب ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) ،
قال : سئل عن رجل قتل رجلاً عمداً وكان المقتول أقطع اليد اليمنى ؟ فقال : «إن كانت
قطعت يده في جناية جناها على نفسه أو كان قطع فأخذ دية يده من الذي قطعها ، فإن
أراد أولياؤه أن يقتلوا قاتله أدّوا إلى أولياء قاتله دية يده الذي قيد منها إن كان
أخذ دية يده ويقتلوه ، وإن شاؤوا طرحوا عنه دية يد وأخذوا الباقي» ، قال : «وإن
كانت يده قطعت في غير جناية جناها على نفسه ولا أخذ لها دية قتلوا قاتله ولا يغرم
شيئاً ، وإن شاؤوا أخذوا دية كاملة» ، قال : «وهكذا وجدناه في كتاب علي(عليه
السلام)» .
وقيل : الرواية مؤ يّدة بوجهين سيأتي بيانهما .
ثمّ إنّ تماميّة استناده (رحمه الله) موقوف على كون العفو بمنزلة أخذ الدية ،
وهو غير بعيد كما سنبيّنه ، أو إلى إلغاء الخصوصيّة من الأخذ إلى العفو ، وإلاّ
فليس في الرواية صورة العفو ، فتدبّر جيّداً .
وكيف كان ، ففي المسألة وجهان آخران :
أحدهما : عدم قتل القاطع أصلاً ; أخذاً من أنّ القتل بعد القطع كسراية الجناية
الأولى ، وقد سبق العفو عن بعضها ، فليس له القصاص في الباقي . هكذا علّله في
«المبسوط»[1590] .
ولايخفى ضعفه ، فإنّ القتل إحداث قاطع للسراية ، فكيف يتوهّم أ نّه كالسراية ؟ !
وعلى تقديره فاستلزام العفو عن البعض سقوط القود ممنوع .
والثاني: أن يقتل من غير ردّ ، وهو الذي جعله «اللثام»[1591]
عنده أقوى ; لعموم (النَّفْسَ بالنَّفْسِ)[1592]
و (الْحُرُّ بِالحُرِّ)[1593] ، ولأنّ النفس بدلاً بانفرادها ، ونقصان
اليد يجري مجرى نقص صفة في الطرف ، فإنّه ليس بمانع من القصاص في الطرف ولا من
الردّ ، فكذلك هنا . ولأ نّه لو قتل القاتل فاقد اليد خلقة قتل من غير ردّ مع تحقّق
النقصان ، فكذا هنا ، لكون العفو من القطع بجعله كالقطع خلقةً كما لايخفى .
ولأنّ القتل بعد العفو عن القطع كالقتل بعد اندمال الجرح ، فللوليّ كمال الدية
أو القصاص بلا ردّ .
هذا وقد استدلّ للردّ مضافاً إلى الرواية بأ نّه لايقتل الكامل كمثل هذا بالناقص
إلاّ بعد الردّ كالمرأة من الرجل ، وكقطع الكفّ الذي ليس له أصابع فإنّه قطعت كفّه
بعد ردّ دية الأصابع ، كما في الخبر[1594] ، فهنا كذلك ; لعدم الفرق
بينهما وبين محل البحث .
والتحقيق ـ وفاقاً لـ «اللثام» ـ عدم الردّ ، وذلك للأصل ، وعموم : (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ)[1595] ، ونفي السبيل على المحسن[1596]
فإنّ المقتول العافي كان محسناً إلى القاطع بعفوه ، فلزوم ردّ الدية من وليّ
المقتول المقطوع العافي إلى القاتل المعفوّ عنه سبيل على المقتول عرفاً ومنفي
بالآية .
وتوهّم أنّ السبيل عليه إنّما يكون مع لزوم الردّ من مال المقتول دون ما لو كان
من مال الوليّ ، كما هو اللازم .
مدفوع بأنّ قصاص الوليّ إنّما هو لارتباطه بالمقتول وكونه حقّاً له بالأصالة ،
وإن أبيت عن ذلك فنقول بإلغاء الخصوصيّة وتنقيح المناط ، فتدبّر جيّداً حتّى يندفع
لك ذلك التوهّم .
ولايخفى ما في الوجوه المستدلّ بها من الرواية والدراية :
أ مّا الرواية ، فهي محكومة لآية نفي السبيل ، على تسليم كون العفو بمنزلة أخذ
الدية ، نظير ما في هبة المرأة مهرها لزوجها قبل الدخول ثمّ طلّقها ، ففي موثّقة
سماعة[1597] أنّ عليها أداء نصف المهر إلى الزوج ; لأنّ هبتها قبضها .
ولا يخفى عليك أنّ إطلاق الموثّقة مناف لنفي السبيل ، فلابدّ من تقييد إطلاقها
بالآية ، فتدبّر جيّداً .
وأ مّا كلّيّته : (إنّه لايقتل الكامل بالناقص) فممنوعة ، وما ذكر في بيانها من
قصاص المـرأة قياس غير مسموع ، مضافـاً إلى الفارق ، لنقص المـرأة نفساً لا طرفاً ،
مع معارضته بما كان النقص بحسب الخلقة ، فلا ردّ إجماعاً . هـذا كلّه على المعروف
مـن الردّ فـي قتل الرجـل بالمرأة ، وإلاّ فعلى المختار فالبيان غير تامّ من رأس .
وأ مّا المقايسة بقطع الكفّ من دون الأصابع فبعد تسليمها مقتضاها الردّ على
الإطلاق ، ولا يقولون به . هذا كلّه مع كون جميع تلك الوجوه الدرائيّة محكومة لآية
نفي السبيل كالرواية ، بل تكون الدراية في مقابل الآية اجتهاداً في مقابل النصّ ،
كما لايخفى . هذا كلّه فيما كان القاتل هو القاطع المعفوّ عنه .
وأ مّا إن كان غير القاطع ـ وهو الصورة الثالثة ـ فالظاهر أ نّه في حكم الصورة
الخامسة ; لأنّ الظاهر كون عفو المقتول بمنزلة أخذ الدية عرفاً .
وأ مّـا الصورة الرابعـة والخامس فالعمـدة في لـزوم الـردّ فيهما روايـة سورة بن
كليب[1598] .
وقد مرّ أنّ ظاهر «الشرائع»[1599] الاستناد إليها ، وعمل بها الحلّي
في «السرائـر»[1600]
والفاضل فـي «التحرير»[1601] وغيرهما ، وهـو مشكل ; لجهالـة سـورة بن
كليب ، ولذا ردّها فخرالدين في «الإيضاح»[1602] .
ولكن في السند قبله الحسن بن محبوب المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه ، فيكون كافياً
في الاعتبار والصحّة على القول بأنّ المراد من الإجماع صحّة ما صحّ عنهم وإن كان من
بعدهم من الرواة مجهولاً أو ضعيفاً أو مرسلاً ، إلاّ أنّ الشأن في صحّة ذلك القول
وذلك المعنى ، فالمسألة مشكلة ، لكنّ الأحوط الذي لاينبغي تركه العمل بالرواية في
موردها خروجاً عن خلافها .
والتحقيق الحقيق بالتصديق عدم الردّ مطلقاً ; قضاءً لتحقّق القصاص والمقابلة
بالمثل في قصاص الكامل بالناقص كالكامل بالكامل ، فإنّ المقابلة والقصاص في النفس
بما هي هي بالنفس كذلك ، ولا نظر ولا اعتبار فيها بالأطراف والأعضاء فإنّها خارجة
عن النفس .
وبذلك يظهر أ نّه على تسليم تماميّة الرواية سنداً فليست بحجّة على التخصيص ;
لإباء لسان الآية منه ، فإنّ ردّ دية النقص إلى الكامل في قصاصه بالناقص يكون
زائداً على النفس بالنفس ، والآية ناصّة على عدم الزيادة لا ظاهرة ، حيت يصحّ
التخصيص ، بل لايصحّ التخصيص مع الظهور أيضاً ; لإبائها عنه ، كما لايخفى .
هذا مع أنّ القول بالردّ وتخصيص الآية مستلزم لما لا يقول به أحد ، وهو القول
بردّ ديات خمس لقتل الكامل بالناقص حتّى من اليدين والرجلين والعينين والاُذنين
والنخاع قصاصاً أو في صورة أخذ الدية ، وهو كما ترى ، فإنّه يلزم بطلان دم الناقص ،
فالدليل على الردّ في المسألة ـ على تسليم التماميّة وعلى تسليم التخصيص ، لمنافاته
مع الدليل القطعي والضرورة ـ غير قابل للاعتماد .
وكذا الحال في مسألة اُخرى بها رواية ، وهي لو قطع كفّاً بغير أصابع قطعت كفّه
بعد ردّ دية الأصابع ، فإنّها مشكلة أيضاً (35) .