التساوي في السلامة من الشلل
(5) قد عرفت الحال في اعتبار الشرائط المعتبرة في قصاص النفس في قصاص الأطراف في
ذيل المسألة السابقة ، وما في المسألة من شرطيّة التساوي في السلامة من الشلل ونحوه
على ما بيّنه المتن ، والتساوي في الأصالة والزيادة ، وكذا التساوي في المحلّ من
الشرائط الثلاثة زائدة على ما مرّ ، فنذكرها على ترتيب المتن ونقول :
أ مّا الأوّل ، وهو عدم قطع الصحيح بالشلاّء دون عكسه ، ففي «الجواهر» : «بلا
خلاف أجده فيه ، كما اعترف به بعضهم ، بل عن ظاهر «المبسوط» أو صريحه وصريح
«الخلاف» الإجماع عليه ، وهو الحجّة بعد إطلاق قول الصادق(عليه السلام) في خبر
سليمان بن خالد : (في رجل قطع يد رجل شلاّء أنّ عليه ثلث الدية)[1643] .
بل قيل : وقوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)[1644]
، (وإنْ عَاقَبْتُم فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مـاعُوقِبْتُمْ بِهِ)[1645]
وإن كان فيه أنّ الظاهر المماثلة في أصل الاعتداء والعقاب على وجه يصدق كونه مقاصّة
، فلا ينافي ما دلّ على القصاص من قوله تعالى : (والجُرُوحَ قِصـاصٌ)[1646]
وغيره ، إلاّ أنّ الأمر سهل بعد عدم انحصار الدليل فيه ، إذ الحكم مفروغ منه عندهم
، وقد حكي الإجماع صريحاً وظاهراً عليه»[1647] .
وفي «المجمع»[1648] للمقدّس الأردبيلي الاستدلال لذلك بالاعتبار
والخبر ، فجميع الوجوه المستدلّ بها ترجع إلى أربعة كلّها مورد للمناقشة .
أ مّـا الإجماع ، فمضافاً إلى كونه في «الخلاف»[1649]
المعدّ لردّ مـذاهب العامّة ولو على سبيل المجادلة ، فمن المحتمل فيه كون استدلاله
بالإجماع ردّاً عليهم مجادلة من دون اعتقاده بحجيّته ، ومضافاً إلى أنّ للشهيد
الثاني(قدس سره)رسالة تشتمل على مسائل يبلغ عددها على ما في «الحدائق»[1650]
إلى نيف وسبعين مسألة ادّعى الشيخ عليها الإجماع في الخلاف ، مع أ نّه بنفسه خالف
فيها في غيره من كتبه .
أ نّه لا اعتماد على مثل هذه الإجماعات التي تكون في المسائل الاجتهاديّة
المستدلّ فيها بالكتاب والسنّة ، كما لايخفى ، كيف ومن المحتمل فيها تقريباً
لاسيّما في مثل ما في «الخلاف»[1651] في المسألة من الاستدلال بآية
المماثلة في الاعتداء بعد الاستدلال بالإجماع ، كون الإجماع مستنداً إلى الدليل لا
إلى الوصول من المعصوم أو الكشف عن وجود دليل معتبر واصل إلينا ومحض احتمال
الاستثناء كاف في عدم حجيّة الإجماع .
وأ مّا الآيتان : فالقدر المتيقّن منهما ـ من جهة شأن النزول ، وإشعار التعبير
بالجمع ، بل من جهة المورد في آية الاعتداء لسبقها بقوله تعالى : (الشَّهْرُ
الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالحُرُماتُ قِصـاصٌ)[1652]
ـ هو الحرب والمقاتلة ، ومن الواضح أنّ المماثلة فيه إنّما تكون في أصل الحرب ،
فالشهر الحرام بالشهر الحرام والمقاتلة بالسيف بالمقاتلة بالسيف مثلاً لا بالزائد
عنه مثلاً ، وإلاّ فمن المعلوم أنّ المماثلة من جميع الجهات في الحرب .
والمماثلة في الخصوصيّات في موضع البحث في المقام ، كالضرب على الرجل في الضرب
عليه مثلاً فضلاً عن المماثلة في الصحّة والشـلاّء ، فغير معقول في مثل الحرب ، كما
هو واضح .
فالاستدلال بهما للمقام وللمماثلة المعتبرة في المسألة كما ترى .
وأ مّا الخبر ـ أي خبر سليمان بن خالد ـ المستدلّ بإطلاقه في «الجواهر» ،
وبظهوره في «مجمع الفائدة والبرهان»[1653] ، مضافاً إلى ضعف سنده بحمّاد
بن زياد أو ابن زيد ; لكونه مهملاً أو مجهولاً[1654] .
الظاهر كون السؤال فيه عن حكم القاطع ووظيفته فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ ، لا
عن جزاء القطع وحقّ المقطوع منه ، فلا دلالة فيه عليهما ، كما لايخفى ، ولا يصحّ
الاستدلال به لهما ، بل لابدّ من الرجوع إلى دليل آخر .
ولا منافاة بين كون حكم القاطع ووظيفته الإلهيّة أداء الثلث ، وبين كون الجزاء
للقطع ، وما للمقطوع منه في المحكمة وبعد الطلب والإثبات القصاص بلا ردّ أو معه ;
وذلك لأنّ إحدى الوظيفتين إلهيّة سريّة والمكلّف بها القاطع ، والاُخرى جهريّة
قضائية يأخذ بها المقطوع منه ، فهما مختلفان في كلتا الجهتين .
ولا استبعاد في ذلك بعد وقوع مثله في قتل العمد ، كالحكم بالدية بدواً في قتل
العمد في الأخبار المستفيضة المنقولة في الوسائل في باب (حكم القاتل إذا لم يقدر
على دفع الدية أو لم يقبل منه)[1655] ، مع أنّ حكم العمد القصاص ، فإنّه
ليس ذلك إلاّ لكون السؤال والجواب في تلك الأخبار عن وظيفة القاتل بما هي هي ، مع
قطع النظر عن حقّ القصاص الثابت لوليّ الدم .
وأ مّا الاعتبار المستدلّ به في «المجمع» بقوله : «وأ مّا عدم قطع الصحيح
بالشلاّء فهو الاعتبار»[1656] ،
ففيه : مضافاً إلى كون مقتضى الاعتبار تخيير المجنيّ عليه بين أخذه الدية أو
القصاص مع ردّ الأرش ، وما به التفاوت بين اليد الصحيحة والشلاّء ، أ نّه لا اعتبار
بالاعتبار ، لكنّه لايخفى عليك أنّ ذلك التخيير هو الموافق للتحقيق الحقيق بالتصديق
أيضاً ، فإنّ الظاهر من قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)[1657]
بل صراحته أنّ الأصل والضابطة في الجراحات المقابلة بالمثل ومتابعة المجنيّ عليه
الجاني في الجناية والجراحة ; قضاءً لمعنى القصاص عرفاً ولغةً بل وشرعاً ، كما يظهر
من الرجوع إلى مسائل المقاصّة المالية في الشرع ، ولا اختصاص له بالقطع والجناية
المشابهة قطعاً .
وإنّما يتحقّق القصاص عرفاً فيما لو قطع صاحب اليد الصحيحة اليد الشـلاّء بقطعها
مع ردّ التفاوت بينهما ، وإلاّ فمن الواضح عند العرف عدم كون قطع اليد الصحيحة
باليد الشـلاّء بلا ردٍّ قصاصاً ومقابلة بالمثل ; لما بينهما من التفاوت في العمل
والخسارة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ مثل الآية وإن كانت مقتضية للقصاص مع الردّ ، إلاّ أنّ التخيير بينه
وبين أخذ المجنيّ عليه الدية ، إنّما يثبت بالأولويّة ، كما مرّ بيانها في قصاص
النفس ، فالمجنيّ عليه إن كان له قطع يد الجاني مع الردّ فله عدم القطع وأخذ الدية
بالأولوية القطعيّة ; لكونه أولى من القطع عرفاً بلا شكّ وارتياب .
وممّا يؤ يّد التحقيق كونه جمعاً بين الحقّين ، وذلك بخلاف نفي القود رأساً ،
والحكم بالحكومة كما عليه العامّة ، أو الثلث كما عليه الخاصّة .
ويؤ يّده أيضاً ما في «الجواهر» ممّا دونك عبارته : «هذا ولكن في «المسالك» (من
شرائط القصاص في الطرف تساويهما في السلامة لا مطلقاً ; لأنّ اليد الصحيحة تقطع
بالبرصاء ، بل المراد سلامة خاصّة ، وهي التي تؤثر التفاوت فيها أو يتخيّل تأثيره
كالصحّة والشلل)[1658] .
قلت : لا كلام في عدم القصاص بين الصحيحة والشـلاّء بعد الاتّفاق عليه نصّاً
وفتوى ، أ مّا ما لايصدق عليه اسم الشلل ممّا هو مؤثّر فيها أيضاً فلا دليل على عدم
القصاص به بعد قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)[1659]
وصدق (اليد باليد)[1660] نعم ، يجبر ضرر المقتصّ منه بدفع التفاوت من
المقتصّ ; بناءً على ما أشرنا إليه من خبر الحسن بن الجريش[1661]
المشتمل على قضيّة ابن عباس ، لكن لم أجد من أقعد القاعدة المزبورة على وجه يعمل
عليها في غير محلّ النصّ»[1662] .
ولقد أجاد في بيان الآية وحقيقة القصاص ممّا يكون راجعاً إلى ما قلناه ، وفي أنّ
عدم القصاص بين الصحيحة والشـلاّء إنّما هو للاتّفاق عليه نصاً وفتوىً ، الظاهر في
أنّ عدم القصاص في مثلهما مع الردّ من جهة التخصيص والدليل الخاصّ ، وإلاّ فمقتضى
القاعدة جواز المقاصّة بينهما مع الجبران من المقتصّ ، فتدبّر في كلامه واغتنم ما
بيّنه وبيّناه من الآية وحقيقة القصاص ، وأسأل له من الله الرحمة والرضوان ، ولنا
التوفيق لفقه آيات الكتاب وأخبار ذوي الألباب الذين هم منابع الأحكام والوحي
والإلهام سلام الله عليهم إلى يوم القيام .
هذا كلّه في عدم قطع الصحيحة بالشـلاّء ، ويظهر منه حكم عكسه ـ أي قطع الشـلاّء
بالصحيحة ـ فحكمه أيضاً تخيير الصحيح المجنيّ عليه بين قطع يد الجاني الشـلاّء وأخذ
الأرش منه وبين أخذ ديتها فقط ; وذلك لعين ما ذكرناه في الأصل من دلالة الآية
والأولويّة . وما في «الجواهر» من الاستدلال لعدم ضمّ الأرش بالأصل وغيره بعد
تساويهما في الجرم ونحوه حيث قال : «وإنّما اختلافهما في الصفة التي لاتقابل بالمال
كالرجولية والاُنوثيّة ، والحريّة والعبوديّة ، والإسلام والكفر ، فإنّه إذا قتل
الناقص منهم بالكامل لم يجبر بدفع أرش ، خصوصاً بعد قولهم (عليهم السلام)[1663]
: إنّ الجاني لا يجني أكثر من نفسه»[1664] .
ففيه : أنّ صفة الصحيحة في مقابل الشـلاّء تقابل بالمال عرفاً ، وكيف لاتقابل
بالمال مع ما مرّ من الاستدلال برواية سليمان بن خالد على عدم قطع الصحيحة
بالشـلاّء وأنّ على القاطع الثلث ، وتلك الصفة مغايرة مع مثل الإسلام والكفر ; لأنّ
القصاص في النفس بالقود وبإذهاب نفس القاتل في مقابل نفس المقتول ، فلا دخالة
للصفات في الجناية ولا في القصاص عليها ؟
هذا مع ما مرّ من الإشكال في التعليل الواقع في قولهم (عليهم السلام) : وإنّه
يردّ علمه إلى أهله ، نعم ليس للمجنيّ عليه التخيير بين قطع يد الشـلاّء مع أخذ
الأرش من الجاني وبين أخذه الدية منه مع حكم أهل الخبرة بالسراية بل خيف منها ،
فإنّه يتعيّن الدية ، ووجهه ظاهر غير محتاج إلى البيان .
(مسألة 5) : المراد بالشلل هو يبس اليد بحيث تخرج عن الطاعة ولم تعمل عملها ولو
بقي فيها حسّ وحركة غير اختياريّـة . والتشخيص موكـول إلى العرف كسائر الموضوعات .
ولو قطع يداً بعض أصابعها شلاّء ففي قصاص اليد الصحيحة تردّد ، ولا أثر للتفاوت
بالبطش ونحوه ، فيقطع اليد القويّة بالضعيفة ، واليد السالمة باليد البرصاء
والمجروحة (6) .
(6) ولا يخفى أ نّه لا خصوصيّة للشلل بما هـو هـو على مـا بيّناه مـن القاعدة
فيه ، فجميع أحكام الشلل جار فيما هو مثله ممّا يكون مقابلاً بالمال والضمان عرفاً
; قضاءً لأدلّة القصاص وغيرها ، كما مرّ ، وعلى هذا فيجري ما في قطع الصحيحة
بالشـلاّء وعكسه من الأحكام فيما كان بعض الأصابع شـلاّء ; لكون الأحكام على
القاعدة ، وكون الإصبع مقابلاً بالمال وجوداً وعدماً ، وهذا بخلاف البطش ونحوه
فحكمه المقابلة بالمثل من دون الردّ ، كما في المتن ; لعدم مقابلة مثله بالمال .
(مسألة 6) : يعتبر التساوي في المحلّ مع وجوده ، فتقطع اليمين باليمين واليسار
باليسار ، ولو لم يكن له يمين وقطع اليمين قطعت يساره ، ولو لم يكن له يد أصلاً
قطعت رجله على رواية معمول بها ، ولابأس به . وهل تقدّم الرجل اليمنى في قطع اليد
اليمنى والرجل اليسرى في اليد اليسرى أو هما سواء ؟ وجهان ، ولو قطع اليسرى ولم يكن
له اليسرى فالظاهر قطع اليمنى على إشكال ، ومع عدمهما قطع الرجل . ولو قطع الرجل من
لا رجل له فهل يقطع يده بدل الرجل ؟ فيه وجه لايخلو من إشكال . والتعدّي إلى مطلق
الأعضاء كالعين والاُذن والحاجب وغيرها مشكل . وإن لايخلو من وجه ، سيّما اليسرى من
كلّ باليمنى (7) .