التسبيب في القتل
(25) كلّ ما في المسائل السابقة إلى هنا من مسائل التسبيب كان من انفراد الجاني
بالتسبيب ، ومن هذه المسألة السادسة عشر إلى الثالثة والثلاثين يكون في اشتراك
الجاني كذلك مع المجني عليه ، كما أنّ ما في الرابعة والعشرين إلى الحادية
والثلاثين مربوط باشتراكه مع الحيوان ، والمسألة الثانية والثلاثين وكذا الثالثة
والثلاثين من مسائل اشتراك الجاني كذلك ، أي بالتسبيب مع إنسان آخر .
وللجاني بالتسبيب أقسام أربعة ، ذكرها صاحب «القواعد»[157]
في مطالب أربعة .
نعم ، ما في المتن يخالفه في ترتيب الأقسام ، والأمر في التقسيم والترتيب
وغيرهما من الاُمور الفنيّة واُمور الفهرسة سهلة المؤونة في الفقه ، إنّما المهّم
نفس المسائل والأحكام .
إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المقدّم (بالكسر) للطعام المسموم وإن كان له السببيّة
في الجملة ، لكنّ المقتول شريكه في القتل ، وينبغي في البحث عن هذه المسألة وما
يتلوها إلى المسألة الحادية والعشرين اتّباع صاحبي «اللثام» و «الجواهر»(قدس سرهما)
حيث جعلا الكلام في مسألة التقديم في التقديم والمناولة تارة ، وفي الوضع والجعل
اُخرى ، وفي حكم الاختلاف ثالثة ، وفي الخطأ رابعة ، فالكلام يتمّ في مسائل أربع ،
وبه يظهر حال مسائل المتن .
القتل بالطعام المسموم
أوّلها : لو قدّم إليه طعاماً مسموماً بما يقتل مثله غالباً أو قصد القتل به في
الأكل ، فإن علم الآكل بالسمّ وكان مميّزاً فلا قود ولا دية بلا خلاف ولا إشكال ;
لكونه هو القاتل نفسه بمباشرته عالماً بالحال لا المقدّم ، وتقديمه وإن كان مؤثّراً
في الجملة لكنّ تأثيره شرطيّة كمناولته السكّين لمن ذبح نفسه بها عالماً .
وما وقع من مثل الإمام الحسن والإمام الرضا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ من
الإقدام على الطعام المسموم ، فمن المحتمل كون دخالة العلم في النهي عن الإلقاء في
التهلكة وفي قتل النفس على نحو الموضوعيّة ، وخروج العلم من الغيب عن الموضوع
واختصاصه بالعلم العادّي ، فإنّ اختيار الموضوع بيد الشارع فلا حرمة على ذلك أصلاً
.
وهذا الاحتمال وإن كان مخالفاً لظاهر الأدلّة ، واقتضائه الطريقيّة للعلم كسائر
الموارد المثبتة للحكم على ذات الموضوع ، إلاّ أنّ العصمة في الإمام ـ عليه الصلاة
والسلام ـ قرينة على ذلك الاحتمال ; دفعاً لما ينافي العصمة ، وفي محض الاحتمال
ثبوتاً كفاية كما لا يخفى .
ومن المحتمل كون الإقدام منهما لمصلحة الإسلام والمسلمين ، كالشهادة والجهاد أو
غيرهما من الوجوه المذكورة في محلّها .
وإن لم يعلم الآكل بالحال فأكل فمات فللوليّ القود عندنا ; لأنّ المباشرة هنا
ضعفت بالغرور ، وينسب القتل إلى السبب ، أي المقدّم (بالكسر) كما لو قتله بالسيف
مثلاً ، حيث إنّ المقدّم عرّضه لأكل الطعام ولم يُعلمه بكون الطعام مسموماً ، ألا
ترى أ نّه لو أعلمه أنّ فيه السمّ لم يختر شربه ولا أكله .
ولا فرق في ذلك بين ما لو خلطه بطعام نفسه وقدّمه إليه ، أو أهداه إليه ، أو
خلطه بطعام الآكل ولم يعلم ، أو بطعام أجنبي وندبه إليه من غير شعور أحد من الآكل
والأجنبي . ولو علم الأجنبي وشارك في التقديم كان شريكاً في الجناية ، فما عن
الشافعي من قوله بنفي القود مع عدم العلم ترجيحاً للمباشرة التي عرفت سقوطها
بالغرور واضح الضعف .
هذا ، وفي «مجمع الفائدة والبرهان» : «لو قدّم شخص إلى غيره طعاماً مسموماً
فأكله ذلك الغير عالماً بالسمّ وكونه قاتلاً ، لا شيء على المقدّم من القصاص والدية
; لأ نّه السبب القوي بل المباشر ، فهو القاتل لنفسه لا غير ، وإن جهل أحدهما يكون
المقدّم قاتل عمد ، فعليه القصاص مع علمه بهما ، والدية عليه مع جهله بأحدهما»[158]
.
وفي «الجواهر» الإيراد عليه بقوله : «منع كون المقدّم قاتل عمد مع فرض علم
المتناول بأنّ في الطعام شيئاً قاتلاً ولكن لم يعلم أ نّه سمّ ، ضرورة عدم مدخليّة
جهله بالسمّ في إقدامه على قتل نفسه ، بل قد يشك في ذلك لو علم بأنّ فيه سمّاً
خاصّة ، حيث إنّه أقدم على ما يحتمل فيه القتل»[159] .
وما ذكره (رحمه الله) من المنع في محلّه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : الجهالـة
بالسمّ مستلزمـة عادة للجهل بأنّ في الطعام شيئاً قاتلاً ، وبأنّ السمّ في الطعام
هو الغالب القاتل دون غيره لندرته جدّاً ، فكلامه منصرف إلى الغالب ، فلا منع ولا
نقض كما لا يخفى .
وبـذلك يظهر ضعف ما في «الجواهـر» مـن الإشكال في إطلاق ثبوت الديـة على المقدّم
مع جهله بأحدهما ، إذ من أفراده ما لو علم بكونه قاتلاً ولكـن لم يعلم بأ نّه سمٌّ
فإنّ المتّجه فيه القصاص لا الدية ، ووجه الضعف مـا مرّ في عكسـه مـن خـروج ذلك
الفرد مـن إطلاق كلامـه وانصرافـه إلى غيره لندرتـه إن لم نقل بعدم تحقّقه ،
فالكلام منصرف إلى المتعارف ، فالجهالة بالسمّ مع العلم بأنّ الطعام قاتل كعكسه من
الجهالة بأ نّه قاتل مع العلم بأنّ فيه السمّ ، كلاهما خارجـان عـن إطلاق كلامـه
بانصراف الكلام إلـى الغالب .
وأ مّا ما أورده عليه قبل ذلك بمنع ثبوت الدية على المقدّم الجاهل فيما لو كان
واضع السمّ غيره ، للأصل ، وأولويّة المباشرة مع التساوي ، وبعد ذلك بثبوت القصاص
على المقدّم مع كونه عالماً بالسمّ دون كونه قاتلاً فيما قصد القتل به ، أو أعقب
مرضاً أدّى إلى ذلك .
ففيه : أ نّهما خارجان عن محلّ البحث ; لأنّ الظاهر كون السبب في جهل المقدّم ما
هو السبب في جهل الآكل ، وهو الجهل من حيث السمّ في الطعام ، لا مـن جهة الواضع ولا
غيرها من الجهات حتّى يرد النقض بما ذكره (رحمه الله) من المنع ، ولأنّ الجهل
المبحوث عنه ما هو السبب لعدم العمد بما هو جهل ، ففرضه مـع شـيء يوجب العمـد كقصد
القتل ، والنقض بثبوت القصاص معـه خـروج عن محل البحث أيضاً .