الاستدلال على كون القود على المكره المباشر
وكيف كان فما يستدلّ به على مذهب الإماميّة وجوه :
أحدها : الأخبار الدالّة على عدم التقيّة مع بلوغها الدم :
ففي صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إنّما جعلت التقيّة
ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة»[219] .
ومثله موثّق أبي حمزة الثمالي إلاّ أنّ فيه : «إذا بلغت التقيّة الدم»[220]
.
وفي مرسل الصدوق في «الهداية» عن الصادق(عليه السلام) أ نّه قال : «لو قلت : إنّ
تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً ، والتقيّة في كلّ شيء حتّى يبلغ الدم ،
فإذا بلغ الدم فلا تقيّة»[221] .
والتقيّة : إمّا عامّة ومحمولة على معناها اللغوي ، أي التجنّب والتحفّظ من كلّ
سوء أوجبت ضرورة وعذراً ، كما يظهر من سيّدنا الاُستاذ ـ سلام الله عليه ـ في
«رسالة التقية» إذ قال : «وبالجملة يظهر من مجموع ما ورد فيها أ نّها على أقسام
(منها) كونها كسائر الأعذار والضرورات فرخصت للضرورة والاضطرار ، ويدخل فيها
التقيّة الإكراهيّة التي لم نتعرّض لها هاهنا ، وفصلّنا حولها في الرسالة المعمولة
في «المكاسب المحرّمة»[222] »[223] .
واستشهد عليه بما في الأخبار مثل : «التقيّة في كلّ ضرورة»[224] ، أو
«التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له»[225]
ومثل ما ورد في شأن نزول آية : (إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ
بِالاِْيمَانِ)[226] في عمّار ، ومثل غيرها من الواردة في أخبار
التقيّة ، فعليه وجه الاستدلال واضح .
وإمّا خاصّة بالتحفّظ من السوء الحاصل من المخالفين للمذهب ، كما هو المعروف في
معناه ، فعليه الاستدلال بالأولويّة ، فإنّ الدم إذا لم يكن إهراقه جائزاً مع
التقيّة التي هي دين الله ، وأ نّه «لا دين لمن لا تقيّة له»[227] ، وأ
نّه المجعول حفظاً للمذهب لئلاّ يذهب مذهب الحقّ ، فعدم جوازه مع الإكراه بطريق
أولى . وإلى هذا الوجه ـ أي أخبار استثناء التقيّة في الدم ـ يرجع ما في كلامهم من
الاستدلال للقصاص على المباشر بعدم استباحة الدم بالإكراه ، فلا أقوائيّة للسبب ـ
أي المكرِه المُلجئ ـ حتّى يكون القصاص عليه .
فعلى هذا ، السبب والمباشر هنا متعادلان ، وإنّما القصاص على المباشر فقط في
المورد ; لجهات خاصّة به كالإجماع والأخبار وآية النفس وأمثالها .
والإشكال على هذا الوجه بأنّ التقيّة لما كانت مجعولة لحقن الدم على ما في تلك
الأخبار المستدلّ بها ، فعدمها مع عدم الحقن وإهراق الدم موافق للاعتبار ، وهذا
بخلاف الإكراه الذي لم يكن لذلك ، بل كان رفعه للإمتنان على الاُمّة ، فالفرق موجود
والقياس ممنوع ولو على نحو الأولويّة ; لأ نّها مع الخصوصيّة غيرمقطوعة .
مذبوب بأنّ المذكور في تلك الأخبار إشارة إلى أصل الجعل ومبدئه لا إلى العلّة
والحكمة ، حيث إنّ التقيّة مجعولة ديناً وحفظاً للمذهب وسهولة على الملّة وضرورة
واضطراراً ، كما يظهر من أخبارها ومن التأ مّل في الواقع منها في زمن الأئمّة
(عليهم السلام) ، فالفرق غير فارق ; لأنّ الدم مبدء له للجعل لا منشأ ومناط وعلّة
منحصرة كما عرفت .
ثانيها : أنّ قتل الغير رفعاً لتوعيد المكرِه بالقتل دفع ضرر عن نفسه بإيقاعه
على الغير ، وهو قبيح عقلاً وغير جائز شرعاً .
ثالثها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل ،
فقال : «يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت»[228]
.
الاستدلال بها لابدّ وأن يكون بالشمول للمفروض بترك الاستفصال ، فإنّه(عليه
السلام) لم يستفصل من كون المأمور مكرَهاً (بالفتح) أو غير مكرَه ، وأنّ المكرِه
الآمر هل كان ممّن توعّد بالقتل أو بما دونه .
رابعها : إطلاق مثل قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[229] .
خامسها : الإجماع .
سادسها : أنّ المسلمين تتكافؤ دماؤهم ، فلا يجوز قتل الغير لحفظ النفس .
وفي كلّ الوجوه مناقشة وإشكال ، ولا شيء منها قابل للاستدلال والاحتجاج به في
مقابل القواعد والاُصول الشرعيّة المعتبرة النافذة والاعتبارات العقلائيّة .
ففي الأوّل : إنّه مختصّ بغير المفروض ، حيث إنّ الدم المانع من التقيّة موجود
معها أيضاً ، لكون التوعيد به ، فترك التقيّة غير موجب لعدم الدم ; لتحقّقه بالنسبة
إلى نفس المكرَه من جانب المكرِه (بالكسر) ، فنفي التقيّة منتفية بانتفاء علّته .
وبالجملة : التقيّة في الحديث معلول لعدم الدم وحفظاً للدم والنفس ، ومع فرض
الدم ـ ولو دم المتّقي ـ النفي منفي قضاءً للعلّية ، فالحديث لمكان العلّية مختصٌ
بغير التوعيد بالقتل ، وتوهّم اختصاص الدم بدم الغير ، كما ترى ، فإنّه مخالف
لإطلاق العلية بل لظاهرها ; لعدم كون الدم المطلق عليه علّة ، بل العلّة الدم
المقيّد المحتاج إلى القيد المباين للمطلق .
هذا مع أنّ مناط الحكم أهمّية الدم والنفس ، فعلى الخصوصيّة تكون الخصوصيّة
ملغاة بالفحوى وبالإلغاءِ العرفي ; لعدم الفرق بين دماء الأفراد في الأهمّية عندهم
.
هذا مع أ نّه على عدم الإطلاق في الدم فالاستدلال بالحديث غير تامّ أيضاً ;
لاحتمال الانصراف إلى المتعارف في التقيّة في تلك الأزمنة من الإكراه والتقيّة
بالتوعيد بغير القتل من الضرر بالمال أو العرض أو النفس ، فإنّ التوعيد بالقتل في
تلك الأزمنة ـ بل في زماننا أيضاً ـ نادر جدّاً . وكيف كان تلك الأخبار غير مقيّدة
لإطلاق أدلّة الإكراه ; لعدم شمولها لهذه الصورة حتّى تكون مقيّدة له كما بيّناه .
وفي الثاني : أنّ مفروض البحث ليس من ذلك الباب ، بل من باب عدم تحمّل الضرر على
الغير بالضرر على النفس ، وهو أمرٌ جائز ، فإنّ الضرر في مفروض البحث متوجّه من
أوّل الأمر إلى الثالث ، والمكرِه (بالكسر) يريد قتله بتوعيد الغير عليه ، فالمكرَه
(بالفتح) مع قتله الثالث ليس بموقع ضرر نفسه على الغير ، لعدم توجّه الضرر من
المُلجئ إليه من أوّل الأمر ، بل منه متوجّه إلى الثالث بدواً كما هو واضح . فتركه
المكره عليه موجب لكونه موقعاً لضرر الثالث على نفسه ، عكس إيقاع ضرر النفس على
الغير .
وبالجملة : دفع ضرر المتوجّه إلى النفس بالإيقاع على الغير ـ كجريه السيل الوارد
في بيته على بيت الجار ـ قبيح وحرام .
وأ مّا دفع الضرر المتوجّه إلى الغير بتوجيهه إلى نفسه ـ كدفع السيل عن بيت
الغير لحفظه إلى بيت نفسه ـ فغير واجب ، وقتل المكرَه (بالفتح) الثالث المقصود
للمكرِه مع التوعيد عليه بقتل المكرَه (بالفتح) مع تركه ـ كما في محل البحث ـ يكون
من باب ترك تحمّل ضرر قتله الغير بإيقاعه على نفسه ، وهو غير واجب ، لا من باب
إيقاع ضرر نفسه على الغير حتّى يكون قبيحاً ومحرّماً كما لا يخفى .
وفي الثالث : أنّ الاستدلال بالصحيحة كما عرفت موقوف على ترك الاستفصال ،
والظاهر عدم المحلّ له لما بين الإكراه والأمر من المباينة مفهوماً ، فالاتحاد
الموجب للسؤال لابدّ وأن يكون من جهة المصداق ، فإنّ الإكراه وإن كان أخصّ مطلقاً
من الأمر بحبسه ، لكنّ المتعارف انفراد كلّ واحد منهما عن الآخر في السؤال والجواب
والمكالمات ، ولذلك كان البحث في الكتب الفقهيّة عن كلّ واحد منهما مستقلاًّ ، فإنّ
لكلٍّ منهما عناية خاصّة ، فالعناية في الأمر إليه وإلى الآمر القانوني أو
الاجتماعي الأعمّ من المشروع وغير المشروع ، وفي الكراهة إلى حيث الإكراه والإجبار
.
فعلى هذا ، لا موقع للاستفصال أصلاً كما لا يخفى ، وبعبارة اُخرى : حيثيّة الأمر
حيثيّة استلزام تخلّفه العقوبة قانوناً وعقلاءً حقيقة ، أو ناشئاً من جهة سوء
استخدام الآمر سلطته وحاكميّته ، فالعقوبة في الأمر تدخل في العقوبات المجعولة في
الشرع والقانون والحكومة ، أو ناشئاً من سوء مُعاقبة المتخلّف بما يضرّه من الاُمور
الاستخداميّة وغيرها ، وحيثيّة الإكراه حيثيّة التوعيد بإضرار المُلجئ على المكرَه
(بالفتح) بما في يده واختياره الشخصي من التوعيد إضراراً في المال أو في العرض
وغيرهما من دون ارتباطه بالحكومة والقانون .
هذا مع ما في موثّقة إسحاق بن عمّار والسكوني في أمر المولى عبده بالقتل من قتل
السيد وسجن العبد[230] ، بل وفي «الشرائع» ما يؤذن بتوقّفه في حبس الآمر
وإن جزم بقتل المكرَه المباشر ، فقد جاء هناك : «إذا أكرهه على القتل فالقصاص على
المباشر دون الآمر ولا يتحقّق الإكراه في القتل ويتحقّق فيما عداه ، وفي رواية علي
بن رئاب[231] يحبس الآمر بقتله حتّى يموت»[232] .
وفي «المسالك» اختياره : «ونسبة المصنّف الحكم (الحبس) إلى الرواية يؤذن
بالتوقّف فيه ، ولا بأس به ـ أي بالحكم ـ لصحّة الرواية»[233] .
هذا كلّه ، مع أ نّه لا يبعد أن يكون السؤال في الصحيحه عمّا يتفق من أمر بعض من
الأفراد بعضاً آخر بالقتل حقداً وحسداً وجنايةً وبُغضاً على المقتول ، مع اشتراكهم
في تلك الرذائل الأخلاقيّة والدواعي المؤدّية إلى القتل .
وليست مخالفة ذلك الآمر مستتبعة ومتعقبة للجزاء والعقوبة القانونية ، ولا
الناشئة من سوء استخدام الآمر سلطته ووجاهته ومقامه ، ولا للضرر الشخصي المتوعّد به
، بل مخالفته مخالفة لتلك الدواعي المشتركة ، ومخالفة في قتله المحبوب للمأمور
وللآمر معاً ، فهذا النحو من الآمر مفارق مع غيره من الأوامر في الجزاء والعقوبة
أوّلاً ، وفي داعي الامتثال ثانياً ، فإنّ الداعي في غيره هو الخوف من العقوبة
القانونيّة أو الضرر المتوعّد عليه من جهة الإكراه ، أو من جهة سوء الاستفادة من
السلطة القانونيّة دونه فإنّه البغض والتواطؤ على القتل ، وفي الآمر ثالثاً ، فإنّ
الآمر في غيره له القدرة والآمرية دونه فليس في آمره تلك القدرة .
نعم ، يكون الآمر في هذا القسم محرّكاً للمأمور ودافعاً له فيه فيقول مثلاً :
«اقتله فعليّ دمه» ، أو «ليس بينكم رجل يقتل فلاناً» وغير ذلك ممّا يظهر للمطّلع
على ما بين الناس وعداوة بعضهم لبعض ، لا سيّما العداوة الطائفيّة والتعصبيّة
وأمثالها .
وعلى ذلك ، الصحيحة مربوطة بأمر عرفي خارجيٍّ بين الناس ، ولا ارتباط لها بالأمر
مع القدرة ، فضلاً عن صورة الإكراه ، وإن أبيتَ عن ظهور الرواية في هذا ، فلا أقلّ
من الاحتمال المبطل للاستدلال ، فتدبّر جيّداً فإنّه ممّا ينبغي التدبّر فيه ;
لتزداد المعرفة في محاسن كلامهم وحسن الاتّباع لهم صلوات الله عليهم أجمعين .
وفي الرابع : أ نّه لا كلام في كون المراد من الآية قصاص القاتل وأنّ نفس القاتل
بنفس المقتول ; ولا بحث فيه من حيث الكبرى أصلاً ، وإنّما الكلام في المسألة في
الصغرى من أنّ القاتل المباشر ، لمباشرته أو السبب أي الملجئ المكرِه لأقوائيّته ،
فإنّ ثبوت القصاص على السبب الأقوى من مسلّمات الفقه في القصاص وفي غيره من
الضمانات ، والقائل بكون القصاص على الملجئ المكرِه قائل بأقوائيّته في القتل من
المباشر المكرَه (بالفتح) ، فذلك القائل عامل بالآية كغيره من القائلين بقصاص
المباشر كما لا يخفى .
وبالجملة : مقتضى الآية في المقام هو مقتضاها في كلّ ما كان السبب أقوى ، ولا
إشكال عندهم في قصاص السبب الأقوى دون المباشر .
وفي الخامس : فمضافاً إلى أنّ الأصل في هذا الإجماع هو ما نقله الشيخ في
«الخلاف» ، كونه في مسألة اجتهاديّة فلا يكون حجّة ، فإنّ الإجماع حجّة حيث ما ليس
للعقل إليه سبيل ولا للنقل فيه دليل .
ولننقل عبارة «الخلاف» بأجمعها ; لما فيها من الفائدة ومن الشهادة على عدم
البُعد في كونه إجماعاً حدسيّاً لا حسيّاً ، وعبارة المبسوط أيضاً ; لما فيها من
الإشعار أو الظهور على كون المسألة اتفاقيّه ، بل هي ممّا لا خلاف فيها :
ففي الخلاف : «إذا أكره الأمير غيره على قتل من لايجب قتله فقال له : «إن قتلته
وإلاّ قتلتك» ، لم يحلّ له قتله بلا خلاف ، فإن خالف وقتل فإنّ القود على المباشر
دون الملجئ ، وفرض الفقهاء ذلك في الإمام والمتغلّب مثل الخوارج وغيرهم ، والخلاف
في الإمام والأمير واحد .
وللشافعي فيه قولان :
أحدهما : يجب عليهما القود كأ نّهما باشرا قتله معاً ـ وبه قال زفر ـ قال : وإن
عفا الأولياء فعلى كلّ واحد منهما نصف الدية والكفّارة .
والقول الثاني : على المُلجئ وحده القود ، وعلى المكرَه نصف الدية ، فإن عفا عن
الإمام فعليه نصف الدية ، وعلى كلّ واحد منهما الكفّارة . ولا يختلف مذهبه أنّ
الدية عليهما نصفان وعلى كلّ واحد منهما الكفّارة ، وأنّ على الإمام القود ، وهل
على المكره القود ؟ على قولين .
وقال أبو حنيفة ومحمّد : القود على المكرِه وحده ، ولا ضمان على المكرَه من قود
، ولا دية ولا كفّارة .
وقال أبو يوسف : لا قود على الإمام ولا على المكرَه ; أ مّا المكرَه فلأ نّه
مُلجأ ، وأ مّا الإمام فلأ نّه ما باشر القتل . دليلنا : قوله تعالى : (وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومَاً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانَاً)[234] ،
وهذا قُتِل مظلوماً ، وعليه إجماع الصحابة .
وروي : أنّ رجلين شهدا عند علي(عليه السلام) على رجل بالسرقة ، فقطعه علي(عليه
السلام) ، ثمّ أتياه بآخر وقالا : هذا الذي سرق وأخطأنا على الأوّل فردّ شهادتهما
على الثاني ، وقال : «لو علمت أ نّكما تعمّدتما على الأوّل لقطعتكما» .
فموضع الدلالة أ نّه(عليه السلام) قضى بالقصاص على مَن ألجأ الحاكم إلى القطع
بالشهادة مع قدرة الحاكم على الامتناع من قتله بأن يعزل نفسه عن النظر ، والمكرَه
أغلظ حالاً من الحاكم ، فإنّه مُلجأ إليه على وجه لا يمكنه إلاّ قتله خوفاً على
نفسه ، فإذا كان على الشاهد القود فبأن يكون على المكرَه أولى وأحرى .
وهذا دليل الشافعي ، وليس فيه دلالة ; لأ نّه قياس ، ونحن لا نقول به ، ومعوّلنا
على الآية قوله تعالى : (الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والاُْنْثَى
بِالاُْنثَى)[235] ، وعلى إجماع الفرقة .
وأيضاً روى عثمان بن عفان أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «لا يحلّ دم
امرء مسلم إلاّ باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زناً بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير
نفس» . وهذا قتل نفساً بغير نفس ، فيجب أن يحلّ دمه»[236] .
وفي «المبسوط» : «فأ مّا إن أكرهه على قتله ، فقال : «إن قتلته وإلاّ قتلتك» لم
يحلّ له قتله وإن كان خائفاً على نفسه ; لأنّ قتل المؤمن لا يُستباح بالإكراه على
قتله ، فإن خالفه وقتل فقد أتى كبيرة بقتل نفس محترمة . فأ مّا الضمان فعندنا أنّ
القود على القاتل ، وعند قوم منهم ، وقال بعضهم : عليه وعلى الآمر القود ، كأ نّهما
باشرا قتله واشتركا فيه»[237] .
ولا يخفى أنّ عبارة «الخلاف» وإن كانت ظاهرة في الإجماع ، إلاّ أنّ ظهور (عندنا)
في «المبسوط» المتأخر عن «الخلاف» تأليفاً ، كما يظهر من قوله في مقدّمة «المبسوط»
: «ولا أذكر أسماءَ المخالفين في المسألة لئلاّ يطول به الكتاب ، وقد ذكرت ذلك في
مسائل «الخلاف» مستوفاً»[238] إن لم يكن قرينة على وحدة المراد وأنّ
ذلك مقتضى المذهب فلا أقل من احتمالها .
وبالجملة : ظهور الإجماع في اتفاق الكلّ وإن كان أقوى من كلمة (عندنا) فإنّها
ظاهرة في المذهب ومثله ، إلاّ أنّ تأخر «المبسوط» عن «الخلاف» موجب للتصرّف في
عبارة «الخلاف» أو لإجمالها ، فنقل الشيخ الإتفاق غير ثابت علي أيّ حال أوّلاً ،
وأنّ المظنون كون الإجماع حدسيّاً ثانياً ، لا لما ذكره الشيخ الأعظم في الإجماع في
المقصد الثاني من كتابه المسمّى بـ «الرسائل» من كون الأصل في الإجماعات المنقوله
كونها حدسيّة لما قال : «والحاصل ، أنّ المتتبّع في الإجماعات المنقولة يحصل له
القطع من تراكم أمارات كثيرة باستناد دعوى الناقلين للإجماع ـ خصوصاً إذا أرادوا به
اتّفاق علماء جميع الأعصار ، كما هو الغالب في إجماعات المتأخّرين ـ إلى الحدس
الحاصل من حسن الظنّ بجماعة ممّن تقدّم على الناقل ، أو من الانتقال من الملزوم إلى
لازمه مع ثبوت الملازمة باجتهاد الناقل واعتقاده»[239] ، لما حقّقناه من
عدم التماميّة ، بل لما في مثل هذا الإجماع من خصوصيّة مسبوقيّته وملحوقيّته بالآية
المتّفق دلالتها على القصاص ، واستدلاله (رحمه الله) على ذلك الادّعاء في «المبسوط»
أيضاً بقاعدة اتّفاقيّة وهي «أنّ قتل المؤمن لايستباح بالإكراه على قتله» ، ومن عدم
التعرّض للمسألة في المتون الفقهيّة التي بأيدينا من كتاب «الجوامع الفقهية» فضلاً
عن ادّعاء الإجماع عليه .
وهذه الوجوه الثلاثة ـ فضلاً عن واحد منها ـ كافية في الشهادة والقرينة على أنّ
مثل ذلك الإجماع حدسيّ لا حسيّ ، وكون الإجماع دون الأدلّة الاجتهادية لا فوقها ولو
احتمالاً ثالثاً ، فإنّ الإجماع حجيّته موقوفة على إحراز عدم الاستناد إلى الأدلّة
الموجودة التي بأيدينا كما هو واضح ، ومع كون المسألة مصبّ الآية والرواية ،
الإحراز مشكل بل ممنوع ، هذا كلّه في الإجماع ، وفي كلامه في «الخلاف» موارد للنقض
والإيراد :
أحدها : الإشكال على الشافعي وردّه عليه بعدم الدلالة وأ نّه قياس .
ففيه : أنّ الدلالة بالأولويّة وتنقيح المناط ، حيث استدلّ بأنّ المكرِه
(بالكسر) أغلظ حالاً من المكرَه ; لما له من القدرة على الامتناع بعدوله عن النظر ،
دون المكرَه فإنّه ملجأ على وجه لايمكنه إلاّ قتله خوفاً على نفسه ، فإذا لم يكن
القصاص على الحاكم فعلى المُلْجَأ والمكرَه (بالفتح) بطريق أولى .
ولك أن تقول : إنّ الاستدلال بإلغاء الخصوصيّة المعتبرة في الفقه ، وأ نّى ذلك
بالقياس المطرود عند الشيعة ؟ !
نعم ، لعلّه هو قياس اسماً لكنّه غير مضرّ قطعاً .
ثانيها : تعويله واعتماده على قوله تعالى : (الحُرُّ بالحُرِّ . . .)[240]
.
ففيه : أنّ الآية ليست في مقام بيان أصل القصاص ، بل في مقام بيان الكيفيّة
باعتبار الاتحاد في النوع وأنّ الحرّ بالحرّ ، فلا يُقتل الحرّ بقتل العبد مثلاً ،
أو في مقام بيان عدم قتل غير القاتل بدلاً عنه كما استظهرناه من الآية ، فالتعويل
والتمسك بإطلاقها على ما رامه (رحمه الله) كما ترى ، وكان الأولى بل المتيقّن
التعويل على مثل : (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيـوةٌ)[241]
ومثل : (جَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)[242] .
ثالثها : استدلاله بالنبوي ، وأنّ المكرَه المباشر للقتل هو القاتل للنفس ، فيجب
أن يحلّ دمه .
ففيه : أنّ القاتل هو المكرِه المُلجئ ; لأ نّه السبب الأقوى ، فالمورد كغيره من
موارد الأقوائية ، فالقتل منتسب عرفاً إلى السبب الأقوى .
وفي السادس : أنّ المراد منه تساوي المسلمين من حيث الدم ، ويُقتل القاتل كائناً
من كان ، ودمه ليس بأحمر من الآخر حتّى لايقتل به ، وقتل السبب ـ أي المكرِه ـ دون
المباشر غير مخالف له ، بل يكون موافقاً له كمال الموافقة ، فإنّه القاتل عرفاً لا
المباشر كما مرّ مراراً .
هذا تمام الكلام في المناقشة والإشكال على الوجوه المستدلّة بها على كون القود
على المكره المباشر ، وقد عرفت المناقشة في كلّها ، كما قد عرفت أنّ مقتضى التحقيق
كون الإكراه على القتل مع التوعيد به ـ أي بقتل المكرَه (بالفتح) ـ رافعاً للقود
والدية عليه كالإكراه على غيره من الاُمور الموجبة للضمان والجزاء ، وفقاً لقاعدة
الإكراه وحديث الرفع ، فلا قود على المباشر المكرَه (بالفتح) ، بل القود والدية على
السبب المكرِه المُلجئ قضاءً لقاعدة أقوائيّة السبب على المباشر كما هو ظاهر .
وتوهُّم أنّ حديث الرفع حديث امتنان ، فرفع الإكراه عن المباشر مخالف للامتنان
على الثالث وهو المقتول ، لاستلزامه جواز قتله للمكرَه أي المباشر .
مدفوعٌ بالنقض بالاكراه بما دون القتل مع التوعيد به أو بما دونه ، بل والإكراه
بجميع حقوق الناس أوّلاً .
وبالحلّ بأنّ الامتنان لعلّه من جهة التسعة ومجموعها ، لا كلّ واحد منها
مستقلاًّ ، فإنّ رفع الجميع من مختصّات الاُمّة ، وإلاّ فبعضها كان مرفوعاً من
الاُمم السابقة أيضاً ثانياً . وأنّ الامتنان على تسليم كونه لكلّ واحد منها
بالخصوص لما كان عن الاُمّة لا عن الشخص ، فلابدّ من رعايته لا رعاية الشخص ثالثاً
.
والرعاية على الاُمّة موجودة ; لأنّ الثالث مشمول للرفع مع فرض صيرورته مباشراً
مكرَهاً .
وبالجملة : الحديث كما أ نّه جار في حقوق الله فكذلك في حقوقالناس ، ولا منافاة بين الامتنان والرفع في حقوق الناس ; لما ذكرناه من الوجوه
الثلاثة . هذا مع أ نّه على المنافاة لابدّ من الاختصاص بحقوق الله ، وهو كما ترى
لإيجابه خروج المورد للنزول في آية الإكراه : (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ)[243]
، وهو قضيّة عمّار[244] التي كانت في حقّ الناس وحقّ الرسول(صلى الله
عليه وآله وسلم) .
ولاستدلال أبي الحسن(عليه السلام) بالحديث[245]
في الإكراه على الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، فإنّه كان من ذلك القبيل
أيضاً . وكيف كان ، لا إشكال في عموميّة الحديث كما يظهر من مراجعة الموارد .
ثمّ إنّ ما في المتن وغيره من حبس الآمر في المسألة ، المراد منه المكره ،
فالدليل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل ،
فقال : «يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتّى يموت»[246]
.
وفي «الجواهر» : «ولا بأس بالعمل بها بعد صحّتها وعمل غير واحد من الأصحاب بها ،
فما عساه يظهر من المتن من التوقّف في ذلك في غير محلّه»[247] .
وقد مضى الكلام منّا فيها مفصّلاً وأ نّها مربوطة بغير الإكراه ، بل الظاهر
كونها مربوطة بالأوامر العاديّة ممّا لاتكون إطاعتها واجبة على المأمور لا قانوناً
ولا سلطة ، والعمل بها في موردها لازم ; لأ نّها صحيحة وحجّة أيضاً . ومضى الكلام
بما لا مزيد عليه أنّ على المكره القود والدية ، وأ نّه القاتل من دون شيء على
المكرَه (بالفتح) كالمكره على غير القتل من سائر الاُمور .