كيفيّة مخالفة هذه الأخبار للكتاب
هذا كلّه في الكبرى وشرطيّة عدم المخالفة للكتاب والسنّة في حجيّة الخبر ، وأ
مّا الصغرى ، أي مخالفة تلك الأخبار لهما ، وهي العمدة في المسألة ، ولابدّ من بسط
الكلام فيها . فنقول مَستعينين بالله تعالى : إنّ هذه الأخبار مخالفة لآيات كثيرة
من الكتاب .
منها : قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً)[364]
.
ومنها : قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إلاّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ
خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)[365] .
ومنها : قوله تعالى : (وَمَا رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ)[366]
وغيرها من الآيات الدالّة على أنّ كلماته وأحكامه تعالى عدل وحقٌّ وأ نّه تعالى ليس
بظالم للعباد ، لا في التكوين ولا في التشريع ، و (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ
شَيْئاً وَلَـكِنَّ النّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[367] ، و (إِنَّ
اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقـالَ ذَرَّة)[368] ، و (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِباَدِ)[369] ، و (لا يُحِبُّ الظّـالِمِينَ)[370]
إلى غيرها من الآيات الكثيرة الدالّة على حرمة الظلم وقبحه وأ نّه سبحانه وتعالى
منزّه عنه .
وذلك أنّ التفاوت في نظر العرف بين الرجل والمرأة في القصاص ، وإلزام أولياء
المرأة بردّ نصف الدية إلى أهل الرجل عند القصاص دون عكسه ، ظلم وخلاف العدل والحقّ
، فإنّ المرأة تساوي الرجل في الحقيقة الإنسانيّة والحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة
وغيرها عقلاً وكتاباً وسنّةً . دلّ عليه قوله تعالى في الآية الاُولى من سورة
النساء : (يـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس
وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَاءً)[371] .
فإنّ الظاهر كون المراد من التقوى المأمور بها المنسوبة إلى ربّ الناس وإلى
مدبّرهم ومربّيهم ، بمناسبة ما في الآية ; من أنّ الناس متّحدون في الحقيقة
الإنسانيّة من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم والمرأة ، والصغير والكبير ، والعاجز
والقويّ ـ أي بمناسبة الحكم والموضوع ـ التقوى في عدم إجحاف الناس بعضهم على بعض
كإجحاف الرجل بالمرأة ، أو الكبير بالصغير ، أو المولى بالعبد ، أو القويّ بالضعيف
، أو مثل غير بمثل غيرهم ممّن هو دونهم بأنظارهم الباطلة .
وهذا التقوى بعمومه من جهة حذف المتعلّق ظاهر في التقوى عن الإجحاف بكلّ شؤونه
وأنواعه وأقسامه من الإجحاف في الاقتصاد والسياسة والتشريع والقانون والشخصيّة
الاجتماعيّة وغيرها .
وبما أنّ الكتاب بلسان عربي مبين ، فاللازم للناس تحرّزهم من القوانين التي تكون
مجحفة بنظر العرف والعقلاء كما هو واضح ، وإذا كان التحرّز لهم واجباً فالله تعالى
أولى بالوجوب وسبحانه وتعالى عن الإجحاف في التشريع بالتبعيض في الحقوق الإنسانيّة
والاجتماعيّة ، فالآية ظاهرة بل كأ نّها ناصّة في نفي الأحكام الإجحافيّة بنظر
العرف في الإسلام ، وأنّ أفراد البشر متساوية في الأحكام وإن لم تكن متشابهة ، فإنّ
المعتبر التساوي والعدل وعدم الإجحاف لا التشابه والتماثل ; لعدم الوجه له عقلاً
ولا شرعاً ، فإنّ اللازم عقلاً وشرعاً العدل وعدم الإجحاف ، سواء كان مع التشابه أو
مع عدمه قطعاً .
فإرث الذكر وإن كان ضعفي إرث الاُنثى على ما نصّ به كتاب الله وعليه الضرورة
وليس متشابهاً ، لكنّه مع ذلك عدل وتساوي وليس فيه إجحاف ولا إشكال أصلاً ، كما
حقّقه العلاّمة الطباطبائي في «الميزان»[372] في ذيل الآية .
ومثل الآية في الدلالة وإن لم تكن بقوتها فيها قوله تعالى : (إنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر واُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ)[373] .
كيف لايتساويان ؟ ! مع أنّ الله تعالى عندما ذكر مراحل خلقة الإنسان قال :
(ثُمَّ أنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقِينَ)[374]
من دون اختصاص في ذلك بالرجل ، ومنه يعلم أنّ لكلٍّ منهما منزلة واحدة عند الله
تعالى ، أضف إليهما غيرهما من الآيات الدالّة على عدم الفرق بينهما بالصراحة أو
بالظهور .
وعن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : «الناس سواء كأسنان المشط»[375]
.
وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) : «فالناس اليوم كلّهم أبيضهم وأسودهم وقرشَيّهم
وعربيّهم وعجميّهم من آدم ، وأنّ آدم(عليه السلام) خلقه الله من طين ، وأنّ أحبّ
الناس إلى الله عزّوجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم»[376] .
وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً : «إنّ الناس من آدم إلى يومنا هذا مثل
أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجميّ ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى»[377]
.
وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً : «أ يّها الناس إنّ ربّكُم واحد ، وإنّ
آبائكم واحد كلّكم لآدم وآدم من تراب ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربيٍّ
على عجميٍّ فضل إلاّ بالتقوى»[378] .
مع وجود هذه الآيات والروايات لا ينبغي الشكّ في كون التفاوت في المسألة ظلماً
في منطق الكتاب والسنّة فضلاً عن العرف والعقلاء ; فإنّهم بعد الالتفات إلى المسألة
لا يشكّون في كونه ظلماً ، ويخطر ببالهم أ نّه تعالى وسبحانه كيف أصدر هذا الحكم
الموجب للتفاوت ولتحقير النساء ، وأنّ قدرهنّ نصف قدر الرجال ، بل في نفس عرض
السؤال والشبهة واهتمام العلماء بالجواب عنها لَدلالة واضحة على تسليمهم بوجود
الظلم في هذا التفاوت مع قطع النظر عن جوابهم .
ومنها : قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ
والعَيْنَ بِالعَينِ والأنْفَ بِالأَنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ
بِالسِّنِّ والجُروحَ قِصَاصٌ)[379] ، فإنّ مخالفة تلك الأخبار لهذه
الآية واضحة غير محتاجة إلى بسط القول ، فإنّ قتل الرجل بالمرأة قصاصاً مع ردّ نصف
الدية إلى أهله ليس نفساً بنفس بل نفساً بنفس مع نصف الدية .
وبتعبير آخر : لك أن تقول : إنّ الآية تدلّ على أ نّه ليس دم إنسان أحمر من دم
إنسان آخر كما هو الشائع في الألسنة ، فإلزام أولياء المرأة المقتولة بردّ نصف
الدية إلى أهل الرجل القاتل ـ كما هو مفاد الأخبار وعليه الفتاوى ـ مخالف للآية
ومغاير لها .