توهّم عدم الإطلاق في الآيات
وتوهّم أنّ الآيات المتضمّنة للقصاص بل آية الانتصار بنفسها غير كافية لذلك
الإطلاق والشمول وعدم الفرق بين أبناء البشر في القصاص ، حيث إنّ القصاص والمماثلة
كان صادقاً عندهم مع التفاوت في الذكوريّة والاُنوثيّة والحريّة والعبديّة في
الأزمنة السابقة عرفاً ، لاسيّما في زمان النزول وعصر الجاهليّة الذي كانت تحكمه
الموازين الباطلة والخرافية الناشئة عن الكبر والغرور والرذائل الأخلاقيّة . وعليه
فلا دلالة في تلك الآيات على عدم الفرق ، وعلى أنّ النفس بالنفس ، لصدق ما في
الآيات من الموضوع كالقصاص ونحوه على قتل الذكر بالاُنثى مثلاً في تلك الأزمنة ،
فكيف التمسّك بالإطلاق ؟ !
مدفوع بكفاية بقيّة الآيات لاسيّما مثل : (وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا)[21] و (أنّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[22]
ممّا لا كلام ولا إشكال في صدقها وإطلاقها المقتضي للقصاص بيـن جميع أبناء البشر
مـن دون التفاوت والتفضيل بينهم فـي ذلك أصلاً أوّلاً .
وبأنّ الصدق عندهم كذلك كان مبتنيّاً على الباطل عندهم أيضاً ، حيث إنّ العرف
بفطرته الأصليّة معتقد بالمماثلة ، وبعدم الفرق بين أبناء البشر من حيث الدم
والخلقة ثانياً .
وبأنّ العرف في زماننا ـ حيث بلغ العلم والإدراك والفهم مرتبة عالية نسبيّاً ،
بحيث أصبح يطالب بالحكومة الموحّدة التي وعدها الله تعالى بقوله : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[23] ـ حاكم بصدق القصاص
والمماثلة على الإطلاق والشمول وعدم التفاوت في الأفراد من تلك الجهة ثالثاً .
والمناط في الأحكام الثابتة على العناوين ـ مثل تلك الآيات ـ الصدق وإن كان
متأخّراً عن زمان النزول بالنسبة إلى بعض المصاديق ، وهذا بخلاف الثابتة منها على
المصاديق والقضيّة الخارجيّة ، فأ نّها مختصّة بالمصاديق الموجودة في زمان جعل
الحكم كما لايخفى ، ويكون ذلك الصدق في تلك الأزمنة مخالفاً للآيات والأخبار
الكثيرة الدالّة على التساوي وعدم التفاوت بين الناس وأبناء البشر في الحقوق
الاجتماعيّة والإنسانيّة والبشريّة والرادعة النافيّة المبطلة لذلك الفكر والنظر ،
فيكون باطلاً من رأس ولا محلّ له أصلاً رابعاً .
أ مّا الآيات فهي من قبيل قوله تعالى : (يـا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا . . .)[24] .
وقوله تعالى : (يـا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً
كَثِيراً ونِسَاءً . . .)[25] .
أ مّا الأخبار فكقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث : «أ يّها الناس ، إنّ
ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب ، إنّ أكرمكم عند الله
أتقاكم ، وليس لعربيٍّ على عجميّ فضل إلاّ بالتقوى . . .»[26] .
وهناك غيرها من الآيات والأخبار الظاهرة في أنّ التفاوت بالتقوى التي هي الفعلية
الكاملة عند الله فقط لا عند الحقوق والشرع والقانون ، بل عدم التفاوت بين الأبناء
من تلك الجهة من الأمور الرفيعة الظاهرة في الإسلام ، بل ومن البديهيّات فيه ،
وممّا يفتخر به المسلمون ويجعلونه دليلاً على حقيقة الإسلام ومطابقته للفطرة
والخلوّ عن العلوّ والاستبعاد . ومن المعلوم أنّ المتّبع في موارد الاختلاف في
المصاديق بين الشرع والعرف هو الشرع ، فإنّه المشرّع الذي يحكم بالحق ويقصّه وهو
خير الفاصلين .
فدلالة الآيات كلّها تامّة ، والإشكال فيها ـ بما ذكر ـ غير وارد جدّاً ومذبوب
قطعاً .
نعم ، في الآية الاُولى من القسم الأوّل إشكال يخصّها ، حيث إنّها تدّل على
التفاوت والاختلاف ، وأنّ الحرّ والعبد والاُنثى لايقتلون إلاّ في قتل المماثل لا
المخالف ، فلا يُقتل الحرّ بالعبد ولا الرجل بالاُنثى .
وهذا كما ترى حجّة على التفضيل وعدم المساواة بين الأبناء من جهة الدم والحياة ،
ومخالفة لجميع الآيات المستدلّ بها على المساواة .
لكنّه مدفوع بأ نّه لعلّ المراد من الآية ومن تخصيص الثلاثة بالذكر بيان
المساواة وردّ التفاوت والاختلاف ، وأ نّهم مساوون للآخرين ، وأنّ القصاص غير واقع
إلاّ على القاتل كائناً من كان ، وكذا المقتول ، وذلك بأن يقال :
الآية ناظرة إلى أنّ القصاص لابدّ من وقوعه على القاتل لا على غيره ، وأنّ الحرّ
إذا كان قاتلاً للحرّ فالقصاص يكون منه ، والحرّ بالحرّ لا من غيره كعبده ; بناءً
على التصوّر الذي يرى المقتول دون شأن القاتل ، لما له من الطَول على المقتول من
جهة الغنى ، أو الطائفة التي ينتمي إليها ، أو غيرها من الاُمور الموجبة للوجاهة
الاجتماعيّة ، فلا يجوز قتله به ، بل لابدّ من قتل عبده مثلاً بذلك الحرّ المقتول .
وأنّ العبد إذا كان قاتلاً للعبد فلابدّ من قصاصه لا قصاص حرّ غير قاتل ; للقول
بأنّ العبد المقتول لارتباطه بمن له طول أفضل من العبد القاتل المرتبط بمن ليس له
ذلك الطَول فلابدّ ، إلاّ من قتل الحرّ غير القاتل من المرتبطين بمولى القاتل .
وأنّ الأنثى إذا كانت قاتلة لمثلها فلابدّ لأولياءِ الدم من قتل الرجل غير
القاتل عوضاً عن القاتلة ; وفقاً للرؤية الباطلة المبتنية على أنّ لبعض النساء
فضيلة على البعض الآخر ، وأنّ تلك الفضيلة موجبة للتفاوت في الدم ، فلابدّ من قتل
الرجل في مقابل قتل ذلك البعض من النساء المفضّلات ; لما في الرجال عموماً من
الفضيلة على النساءِ ، فتكون تلك الفضيلة موجبة للمساواة مع الفضيلة الخاصّة للمرأة
المقتولة .
وعلى هذا ، ففي الآية احتمالان متقابلان ، فبأحدهما يثبت التفاوت ، وبالآخـر
التساوي . لكـنّ الأظهـر بل الظاهـر منهما هـو الثاني ; وذلك لمخالفـة الآيـة علـى
الأوّل مع مـذاق الشرع وسياق بقيـة الآيات ، ولاستلزامـه التقييد فـي الإطلاقات
الكثيرة ، وألسنتها آبيـة عنه كما لايخفـى .
هذا مع موافقة الثاني لشأن النزول ، ففي «مجمع البيان» : «نزلت هذه الآية في
حييّن من العرب لأحدهما طَول على الآخر ، وكانوا يُزوّجون نساءهم بغير مهور ،
وأقسموا لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرجل منهم ، وبالرجل منّا
الرجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك ، حتّى جاء الإسلام فأنزل
الله هذه الآية»[27] .
وإن أبيتَ عن ذلك واعتقدتَ عدم الظهور في الثاني فلابدّ من احتماله ، فالآية ذات
احتمالين ، وإطلاق بقيّة الآيات محكّم ، هذا ما في الكتاب .