أدلّة القائلين بشرطيّة التساوي في الدين
إذا عرفت ذلك فنقول : استدلّوا على الشرطيّة بالكتاب والسنّة والإجماع :
الكتاب
أ مّا الكتاب فقوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)[524] ، والأصل في الاستدلال بالآية الشيخ في
«الخلاف» : «لا يقتل مسلم بكافر ، سواء كان معاهداً أو مستأمناً أو حربيّاً ، وبه
قال في الصحابة : علي(عليه السلام)وعمر وعثمان وزيد بن ثابت ، وفي التابعين : الحسن
البصري وعطاء وعكرمة ، وفي الفقهاء : مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق ، وإليه ذهب أبو عبيد وأبو ثور ، وذهبت طائفة إلى أ نّه يقتل بالذمّي
ولا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي ، ذهب إليه الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه .
والمستأمن عند أبي حنيفة كالحربي .
دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضاً قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولم يفصّل . ومراد الآية : النهي لا
الخبر ; لأ نّه لو كان المراد الخبر لكان كذباً»[525] .
ويرد على الاستدلال بالآية أنّ الظاهر كون النفي إخباراً لا إنشاءً ، وما استدلّ
به(قدس سره) على الإنشائيّة باستلزام الإِخبار كذباً لوجود السبيل والسلطة منهم في
الخارج في الأيام الماضية والحالية بل والمستقبلية ، ففيه : أنّ وزان الآية وزان
قوله تعالى : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ)[526] ، فكما أنّ الاختلاف في النسبة في الآية
ليس بكذب ، مع أنّ الحسنة والسيئة كلاهما باعتبار العلّة الاُولى ومنشأ العلل من
الله تعالى ، فإنّه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، وباعتبار تحقّقهما بيد الإنسان
واختياره وعمله فكلاهما من الإنسان ; لأنّ[527]
النسبة في الحسنة باعتبار الأمر بها والتوفيق من الله تعالى فيها ، وهذا بخلاف
السيئة ، فلا أمر من الله تعالى بها ولا توفيق منه إليها ، بل منه تعالى النهي عنها
، فكذلك الأمر في الآية ، فالإخبار بنفي السبيل إن كان على سبيل الإخبار عن التكوين
وما هو الواقع في الخارج وعالم الحقيقة ، فلا شبهة في عدم كونه مراداً من الآية ;
لاستلزامه الكذب لما ذكره (رحمه الله) .
أ مّا إن كان الإخبار بقوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) باعتبار عدم الأمر ، بل والنهي منه تعالى عن سبيلهم
على المؤمنين بالمكر والحيلة بقولهم مع تربّصهم بالمؤمنين : (فَإن كَانَ لَكُمْ
فَتحٌ مِنَ اللهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ) ، وبقولهم مع الكافرين إن كان لهم
نصيب : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[528]
، فالمنفي هو السبيل بمعنى المكر والحيلة والنفي باعتبار عدم الأمر ، بل النهي منه
، مثل ما ذكرناه في اعتبار كون السيئة من أنفسهم حرفاً بحرف .
ولا يخفى أ نّه على هذا لا دلالة للآية على الحكم التشريعي والإنشائي من رأس ،
لا حكماً مربوطاً بالمسألة ولا بغير المسألة ، فالآية ليست بأزيد من الإخبار .
وفي مناسبة صدر الآية مع ذيلها شهادة على ما ذكرناه من الظاهر والمراد منها كما
لا يخفى ، فكما أنّ باب الصدر باب الإخبار عن الواقع لا الإنشاء والتشريع ، فكذلك
الذيل ، هذا كلّه أوّلاً .
وثانياً : على تسليم الإنشائيّة والنهي عن سبيل الكفّار وضعاً وتكليفاً على
المؤمنين ، فالاستدلال بالآية على شرطيّة التساوي غير تامّ أيضاً ، للاُمور التالية
:
أ : بالنقض بمثل حدّ السرقة وغيره من الحدود والتعزيرات فيما لو كان السارق
مسلماً والمسروق منه كافراً مثلاً ، فإن كان ثبوت القصاص على المسلم بقتله الكافر
سبيلاً عليه كان منهياً عنه ومنفياً ، وكذلك حقّ حدّ السرقة ومطالبة الكافر المسلم
من الحكومة سبيل أيضاً فلابدّ من عدمه .
وبباب الضمان فيما لو كان المضمون له كافراً والمضمون عليه مسلماً ضماناً
قهريّاً أو جعليّاً ، فلابدّ من عدم الضمان من حيث نفي السبيل ، وبغيره من الموارد
الكثيرة في الفقه ، فكما أنّ تلك الأحكام غير مشروطة بالمساواة من جهة نفي السبيل
فكذلك الكلام في محل البحث ، وكيف كان الجواب فيها هو الجواب في المسألة .
ب : بالحلّ من حيث إنّه ليست القوانين المجعولة في شرع الإسلام وغيره لوصول
الناس إلى حقوقهم عند العرف والعقلاء سبيلاً وسلطةً لمن له الحقّ على من عليه الحقّ
أصلاً ، وإنّما السبيل والسلطة يكونان في موارد الظلم وعدم الحقّ ، فجعل الحقّ
لأحدهما على الآخر في تلك الموارد ظلم وسبيل قطعاً ، كما هو واضح لمن يراجع الكتاب
والسنّة والعرف والعقلاء ، فتدبّر جيّداً .
ج : على تسليم الشمول وصدق السبيل على القانون والشرع الموجب لوصول صاحب الحقّ
إلى حقّه وكون قصاص المسلم بالكافر ، ففيه : أنّ الدليل أخصّ من المدّعى بوجهين :
أحدهما : أنّ الكافر ـ كما حقّقناه في مسائل متناثرة ـ أخصّ من غير المسلم ،
فإنّه الساتر للإيمان ، وذلك لا يكون إلاّ مع علمه بالحقّ من التوحيد والنبوّة
والمعاد وتقصيره في ذهابه إلى الخلاف والباطل ، وهذا ليس إلاّ في قليل من غير
المسلمين .
ولتكن على ذكر من تلك الأخصيّة حتّى تفرّق في ترتّب الأحكام بين ما تكون لغير
المسلم وما تكون للكافر ، والظاهر لمن يراجع الكتاب والسنّة أنّ الموضوع لغالب
الأحكام المختصة بغير المسلمين كون الموضوع فيها الكفر ، فتدبّر جيّداً حتّى تعلم
أنّ ما يكون موضوعاً في الإسلام للحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسية وغيرها
هو الإنسان بما هو إنسان ، لا بما هو أهل العقيدة الحقّة والملّة الإسلاميّة ، ولا
بما هو أهل اُمور اُخرى خارجة عن حقيقة الإنسانيّة ، وما ليس منها للكفّار بالمعنى
المذكور فمن باب العقوبة والجزاء لشرّهم وعنادهم .
وهذا أمر صحيح عقلائي في كلّ الشرائع وواضح لكلّ عالم بحقوق البشر والإنسان ،
ودونك عبارة «الفقيه» من الكتب الأربعة للمحدّث المتعبّد الخبير حتّى تطمئن بأنّ
الإسلام دين الوحدة الإنسانيّة : «وأنّ الله عزّ وجلّ إنّما حرّم على الكفّار
الميراث عقوبة لهم بكفرهم ، كما حرّمه على القاتل عقوبة لقتله»[529] .
ثانيهما : عدم جـريان الآيـة فيما لو كان الوارث للكافـر المقتول مسلماً ، فإنّ
السبيل للمسلم على المسلم لا للكافر على الكافر ، ودعوى تماميّـة الاستدلال بعدم
القول بالفصل بين ما كان الوليّ كافراً وبين ما كان مسلماً ، بأنّ القصاص ثابت في
الكافر بالآية وفي المسلم بعدم القول بالفصل ، مدفوعة بعدم حجيّة الإجماع البسيط في
مثل المسألة التي هي مصبّ الاجتهاد من الكتاب والسنّة ، فضلاً عن مركّبه .
د : مع الغضّ عن جميع ما مرّ من المحاذير الثلاثة وتسليم الدلالة فالآيـة غير
تامّة في الاستدلال أيضاً ; لأنّ الآية ـ كحديث نفي الضرر وقاعـدة نفي الحـرج ـ
ناظرة إلى السبيل من الله تعالى ، أي ما كان ناشئاً من حكمه تعالى ، لا الأعمّ منه
وممّا كان بسبب المكلّف وإقدامه ، وقصاص المسلم بالكافر إنّما يكون بسبب قتله
الكافر وإقدامه على القصاص .
وبالجملـة : كما أنّ قاعـدة نفي الحـرج والضرر منصرفان عـن المقدَمين (بفتح
الدال) منهما ، فكذلك الآية منصرفة عن السبيل المقدَم كالقصاص مثلاً .