شرطيّة العقل في القصاص
(43) شرطيّة العقل ممّا لا كلام ولا إشكال فيه ، فلا قصاص على المجنون ; إجماعاً
، ونصوصاً . عموماً كحديث رفع القلم[671] ، وخصوصاً كصحيح محمّد بن مسلم
عن أبي جعفر (عليه السلام) : قال : «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل جناية
المعتوه على عاقلته ، خطأً كان أو عمداً»[672] .
وموثّق السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) : «أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى
أميرالمؤمنين (عليه السلام) يسأله عن رجل مجنون قتل رجلاً عمداً ، فجعل الدية على
قومه ، وجعل خطأه وعمده سواء»[673] .
وخبر بريد العجلي : قال : سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل رجلاً عمداً ،
فلم يقم عليه الحدّ ولم تصحّ الشهادة عليه حتّى خولط وذهب عقله ، ثمّ إنّ قوماً
آخرين شهدوا عليه بعد ما خولط أ نّه قتله ، فقال : «إن شهدوا عليه أ نّه قتله حين
قتله وهو صحيح ليس به علّة من فساد عقل قتل به ، وإن لم يشهدوا عليه بذلك وكان له
مال يعرف دفع إلى ورثة المقتول الدية من مال القاتل ، وإن لم يكن له مال أعطى الدية
من بيت المال ، ولا يبطل دم امرء مسلم»[674] .
وخبر أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي(عليه السلام) أ نّه كان يقول في
المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ : «عمدهما خطأ تحمله العاقلة ،
وقد رفع عنهما القلم»[675] .
وعن «دعائم الإسلام»[676] عن أبي عبدالله (عليه السلام) أ نّه قال :
«ما قتل المجنون المغلوب على عقله والصبي ، فعمدهما خطأ على عاقلتهما» .
وقال أبو جعفر (عليه السلام) : «إذا قتل رجل رجلاً عمداً ، ثمّ خولط القاتل في
عقله بعد أن قتله وهو صحيح العقل ، قتل إذا شاء ذلك وليّ الدم ، وما جنى الصبي
والمجنون فعلى عاقلتهما»[677] .
وقال الصدوق في «المقنع» : «وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعل جناية
المعتوّه على عاقلته ، خطأً كانت جنايته أو عمداً»[678] .
ولا يخفى أنّ الظاهر كون الاستدلال برفع القلم برفعه القصاص بنفسه ، لكن مع
توقّفه على عموميّة القلم للوضع والتكليف ، وعدم اختصاصه بالثاني فقط ، متوقّف
أيضاً على كون القصاص مجعولاً على القاتل ، كجعله لوليّ الدم ، وهو محلّ تأ مّل
وإشكال ، حيث إنّ القصاص للأولياء ، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)[679] ، و (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيـوةٌ يـا
أُولِي الاَْلْبَابِ)[680] .
وما في بعض الأخبار من نسبة القود والقصاص إليه ، فالظاهر أ نّها بيان اللازم
كما لا يخفى . فالأولى ـ إن لم يكن متعيّناً ـ الاستدلال بالحديث برفع الحرمة ، حيث
إنّ القصاص والقود جزاء مترتّب على القتل المحرّم ، فبرفع الحرمة يرتفع القصاص ،
وعليه فالقصاص مرفوع برفع الموضوع لا بنفسه وبلا واسطة رفع الحرمة ، والأمر في ذلك
سهل بعد تمامية الاستدلال .
وعلى أيّ حال لا فـرق في المجنون بين أن يكون مطبقاً أو إدواريّاً إذا قتل حين
الجنون ، كما هـو واضح ; للإطلاق وعدم الخصوصيّة للمطبق ، فإنّ المناط الجنون .
هل تثبت الدية على العاقلة في المجنون أم لا ؟
وتثبت الدية على عاقلته عندنا ، كما في «الجواهر» ، وفيه التعليل بقوله : «لأنّ
عمده خطأ»[681] .
ويدلّ عليه صحيح ابن مسلم[682] ، وموثّق السكوني[683] ،
وخبر أبي البختري[684] من تلك الأخبار الخاصّة التي مضى نقلها ، ولا
إشكال في حجيّتها وتماميّة الاستدلال بها على المدّعى سنداً ودلالةً .
وليس في ما فيها وما في الفتاوى من كون الدية على العاقلة ، وفي الجملة بالنسبة
إلى بعض الموارد ، مخالفةً للقواعد ولا مورداً للإشكال والكلام أصلاً ، وذلك مثل ما
كان المجنون مضرّ بالناس ومهاجماً عليهم كما سيظهر وجهه .
وإنّما الكلام والإشكال بنظري القاصر في إطلاق تلك الأحاديث والفتاوى ; وذلك
لشمولهما المجنون الذي ليس بضارٍّ للناس ، ولا خطر فيه عليهم ، ولا يهجم عليهم بحيث
لابدّ من المحافظة عليه بالحبس والقيد لئلاّ يضرّ الناس ويقتلهم ، وهذا هو الغالب
في المجانين ، وأ مّا الخَطر والمهاجم منهم فقليل جدّاً .
وذلك[685] لأنّ الحكم بكون الدية في الغالب ـ الذي لايكون مضرّاً
وخطرياً على العاقلة ـ موجب لكون ضمان المجنون وضرره على الغير ، أي العاقلة ، وجعل
وزره عليه ، وهل هذا إلاّ ظلمٌ وضررٌ على العاقلة ووزر عليها ، مع عدم دخالتها في
الضمان والوزر من رأس ؟ ! وهل لا يكون إطلاق الخبر الدالّ على ذلك مخالفاً للكتاب
والسنّة القطعيّة ، وحكم العقل بقبحهما وبناء العقلاء على عدمهما في التشريع ؟ !
وهل يصّح القول بحجيّة إطلاق تلك الأخبار مع ما ورد من ضرب الخبر المخالف للكتاب
والسنّة على الجدار ، وأ نّه زخرف[686] ، وأنا لم أقله[687]
، ومع أنّ الإسلام دين العقل ، وأ نّه رسولٌ من الباطن ، كما أنّ الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) عقل ظاهر ؟ ! فليس فيه ما يخالف العقل ، لاسيّما مثل مخالفة قبح
الظلم ، ومع أنّ باب الضمان باب إمضائي عقلائي لا تأسيسي تعبّدي ، فكيف يحصل الوثوق
والاطمئنان بإعمال التعبّد من الشارع ، والحكم على الخلاف رغم انفهم ، من دون جهة
مقتضية لذلك بيّنة ولا مبيّنة ؟ ! بل الظاهر الوثوق بخلافه .
فعلى هذا ، إطلاق الأخبار غير حجّة قطعاً ، وتكون مخصوصة بالمجنون الخطر الذي
لابدّ لعاقلته ـ بحكم العقل والعقلاء ; حفظاً لأنفس المجتمع ـ من حبسه وقيده ;
لئلاّ يهلك الناس ويقتلهم أو يضرّهم ، فقتله وضرره ليس إلاّ بترك الحفظ والدفع من
العاقلة ، فالضمان والوزر عليه ; لأقوائيّة السبب من المباشر ، كما هو أوضح من أن
يُبيّن .
ألا ترى أنّ في أزمنتنا ـ أي أزمنة الحكومة مع بسط اليد ـ وجوب حفظ غالب
المجانين من الناس ودفع خطرهم ، وعلى الحكومة رعايتهم وتهيئة الأماكـن الخاصّة لهم
، فالحكم بالدية على العاقلة في مثل هؤلاء المجانين عدل وموافق للقواعد ، وتخصيص
للضمان المباشر ، بل خروج عنه تخصّصاً ، كما لا يخفى على المتأ مّل .
لا يقال : فما تقول في ضمان دية الخطأ على العاقلة ؟
لأ نّه يقال : ما ذكرناه من الإشكال موجود فيه أيضاً ، والحكم فيه أيضاً مخالف
للكتاب والسنّة والقواعد .
نعم ، فيما كانت العاقلة سبباً وموجباً لكون الدية عليه بحيث لا يعدّونه العقلاء
والعرف ظلماً ومخالفاً للقواعـد بل بناؤهم على ذلك ، تكون الديـة فيه على العاقلة
أيضاً .
وبالجملة : إطلاق الحكم بالدية على العاقلة في قتل الخطأ محلّ إشكال ومنع ،
وتفصيل الكلام في محلّه .
وعليك بالنظر والدقّة في رواية محمّد بن مسلم عـن أبي جعفر(عليه السلام) ، وحسين
بن خالد وغيره عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) أيضاً مثله ، حتّى تعلم بعدم
التعبّد ، وبعدم الحكم على خلاف القواعـد في ديـة الخطأ فضلاً عـن غيرها ، ودونك
الرواية :
محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن
اسلم ، عن هارون بن الجهم ، عن محمّد بن مسلم قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) :
«أ يّما ظئر قوم قتلت صبيّاً لهم وهي نائمة فقتلته ، فإنّ عليها الدية من مالها
خاصّة إن كانت إنّما ظاءرت طلب العزّ والفخر ، وإن كانت إنّما ظاءرت من الفقر فإنّ
الدية على عاقلتها» .
محمّد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمّد بن خالد مثله .
وبإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن محمّد بن نائحة ، عن محمّد بن عليّ ، عن
عبدالرحمن بن سالم ، عن أبيه ، عن أبي جعفر(عليه السلام) مثله .
وبإسناده عن الصفّار ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن أسلم الجبلي ، عن
الحسين بن خالد وغيره ، عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) مثله .
ورواه الصـدوق بإسناده عـن محمّد بـن أحمد بـن يحيى ، عـن محمّـد بـن ناحيـة .
ورواه البرقي في «المحاسن» عن أبيه ، عن هارون بن الجهم مثله»[688] .
ولايخفى عليك أنّ ما في الرواية منقولة في «الكافي»[689]
و «التهذيب»[690] و «الفقيه»[691]
للمشايخ الثلاثة وفي «محاسن البرقي» من الكتب المعروفة وبإسناد متعدّدة مختلفة وعن
الإمامين الهامين الباقر والرضا عليهما صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله ،
فالرواية معتبرة ومعتمدة ، فإنّ بناء العقلاء على حجيّة مثل هذه الرواية .
هذا مع أنّ مضمونها موافق للعقل والنقل ، ومع هذه الجهات لاحاجة إلى البحث في
الإسناد كما لايخفى .
وتوهّم عدم مخالفة الضمان في المسألة على العاقلة للكتاب والسنّة بتخصيصها
بأدلّة دية المجنون على العاقلة ، مدفوع بما مرّ من عدم شرطيّة التساوي في الدين
والذكوريّة ، ومن إباء مثل الألسنة من التخصيص بما لا مزيد عليه ، فراجعه .
ثمّ من الواضح أنّ كون الدية على العاقلة مطلقاً أو في الجملة منوط بوجودها
للقاتل المجنون ، وأ مّا إن لم تكن فعن «النهاية»[692]
و «الجامع»[693] : أنّ الدية على بيت المال ، وهو الحقّ ; لئلاّ يبطل دم
امرء مسلم .
وفي «كشف اللثام» : «ويوافقه خبر البريد العجلي[694]
الآتي»[695] .
وفي «الجواهر» : «وفيه : مع أ نّه لاصراحة فيه ، بل ولا ظهور في كونه قاتلاً
مجنوناً ، يمكن أن يكون المراد بيت مال الإمام ; لانّه الوارث له ، ولذا كان المحكي
عن «السرائر»[696] أ نّها على الإمام دون بيت المال»[697] .
ولا يخفى أ نّه لعلّ نظره (قدس سره) إلى عموم العلّة ، وهو قوله (عليه السلام) :
«ولا يبطل دم امرء مسلم»[698] لا إلى المورد ، وإلاّ فلابدّ من الإشكال
عليه بظهوره في الخلاف ، فإنّ المورد مشكوك الجنون حين القتل ، لا الإشكال بما
أورده (رحمه الله) من عدم الصراحة ، بل عدم الظهور ، كما لا يخفى .
وفي حكم عدم العاقلة إعسارها ; لعموم العلّة ،وهو عدم هدر الدم .
ثمّ إنّ إطلاق النصّ والفتوى مقتض لكون الدية على بيت المال وإن كان للمجنون مال
وكان موسراً ، لكن مقتضى الأصل في باب الضمان ، وأ نّه على الجاني والمباشر وذي
اليد والمتلِف الاختصاص بحال العسر . وأ مّا مع اليسر فعلى مال المجنون ; لأ نّه
الأصل ، وفي رواية بريد إشعار بذلك إن لم نقل بظهورها فيه .
هذا مع أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في ضمان العاقلة في أبواب مختلفـة أنّ
الأصل في ضمان العاقلة عـدمه أيضاً ، وأنّ ضمانها فـي بعض الموارد على خلاف الأصل :
ففي خبر أبـي بصير عـن أبـي جعفر (عليه السلام) قال : «لاتضمن العاقلـة عمـداً
ولا إقراراً ولا صلحاً»[699] .
وفي موثّق السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) : «إنّ أمير المؤمنين
(عليه السلام)قال : العاقلة لا تضمن عمداً ولا إقراراً ولا صلحاً»[700]
.
وفي خبر زيد بن علي ، عن آبائه (عليهم السلام) قال : «لا تعقل العاقلة إلاّ ما
قامت عليه البيّنة ، قال : وأتاه رجل فاعترف عنده ، فجعله في ماله خاصّة ولم يجعل
على العاقلة شيئاً»[701] .
وفي خبر عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : في مكاتب قتل
رجلاً خطأً ، قال : «عليه ديته بقدر ما اُعتق ، وعلى مولاه ما بقي من قيمة المملوك
، فإن عجز المكاتب فلا عاقلة له إنّما ذلك على إمام المسلمين»[702] .
وفي مجموع هذه الأخبار دلالة على أنّ الحكم بضمان العاقلة على خلاف الأصل ، فتأ
مّل .
نعم ، على ما اخترناه من اختصاص ضمان العاقلة في قتل المجنون ببعض الموارد ،
الظاهر أنّ الضمان فيه عليها ولو مع يسر المجنون فضلاً عن عسره ; لكونها سبباً أقوى
من المباشر ، كما مرّ بيانه ، فالضمان عليها في تلك الموارد موافق مع الأصل
والقواعد في باب الضمان ، فتدبّر جيّداً .
هذا كلّه في شرطيّة العقل ، وهو الرابع من الشرائط على ترتيب المتن .