شرطيّة البلوغ أو التمييز في القصاص
وأ مّا البلوغ وهو الخامس منها على ترتيبه فنقول : شرطيّة التمييز ممّا لا كلام
ولا بحث فيه أصلاً ، بل ضرورة العقل والعقلاء على شرطيّته ، وعدم القصاص على الصبي
مع عدم تمييزه ، فإنّه ـ مع عدم التمييز ـ كالبهائم والجدران والآلات والأدوات
الجمادات ، فكيف تصحّ نسبة القتل إليه ، وأ نّه قاتل ، وأنّ عليه القصاص ؟ !
وأ مّا شرطيّة البلوغ زائداً على التمييز والإدراك ففيها الخلاف :
ففي «الجواهر» : «البلوغ شرط في المشهور أيضاً ، بل عليه عامّة المتأخّرين ، بل
نسبه بعض إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه ، بل عن «الغنية»[703]
دعواه عليه صريحاً ، بل عن «الخلاف»[704] : عليه إجماع الفرقة وأخبارهم»[705]
.
وفي «اللثام» بعد نقل ما رواه السكوني ، الدال على الاقتصاص إذا بلغ الغلام خمسة
أشبار ، وعليه الدية ما لم يبلغ خمسة أشبار ، قال : «وعليه الشيخان والصدوق وجماعة»[706]
، وبعد نقله (رحمه الله) صحيح أبي بصير[707] قال : «فيحتمل أن يكون في
غلام وامرأة علم أ نّهما تعمدا القتل ، وأنّ الغلام قد اُدرك ، وزعم السائل أ نّه
لم يدرك ، وأ نّهما قتلاه خطأً»[708] .
وفي «الجواهر» : «ولكن في رواية مقطوعة ومرسلة في الكتب : يقتصّ من الصبي إذا
بلغ عشراً ، وإن حُكي عن الشيخ في «النهاية» و «المبسوط» و «الاستبصار» الفتوى
بمضمونها»[709] .
ولا يخفى أنّ المستفاد من عبارات «اللثام» مخالفة الشيخين والصدوق وجماعة في
الصبي البالغ خمسة أشبار ، وأنّ عليه القصاص ، بل مخالفة الشيخ في «التهذيب»
والصدوق في «الفقيه» والكليني في «الكافي» في عمد الغلام غير المدرك مطلقاً ، وأنّ
في عمده القصاص[710] .
ومن عبارة «الجواهر» مخالفة الشيخ في كتبه الثلاثة بالنسبة إلى قصاص الصبي
البالغ عشراً ، فالمسألة خلافيّة .
هذا كلّه في أقوال المسألة .
وأ مّا أدلّة الطرفين ، فقد استدلّ للمشهور بالأصل ، والاحتياط في الدماء ،
وحديث رفع القلم[711] المجمع عليه ، كما عن «السرائر»[712]
.
وخصوص قول الصادق (عليه السلام) في صحيح ابن مسلم : «عمد الصبي وخطأه واحد»[713]
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر إسحاق بن عمّار : «عمد الصبيان خطأ (يحمل
على) العاقلة»[714] كقوله في المروي عن أبي البختري ، عن جعفر ، عن
أبيه ، عن علي(عليه السلام)أ نّه كان يقول في المجنون والمعتوّه الذي لايفيق ،
والصبي الذي لم يبلغ : «عمدهما خطأ تحمله العاقلة»[715] .
وفيه : الأصل والاحتياط لا محلّ لهما مع الدليل ولو على الوفاق ، فضلاً عن
الخلاف ، فهما ليسا بدليل اصطلاحي قابل للمعارضة مع الدليل المخالف ، كما هو أوضح
من أن يُبيّن .
وأ مّا حديث رفع القلم ، فمضافاً إلى عدم كونه بأزيد من عموم قابل للتخصيص ، أ
نّه قد مرّ في الاستدلال به لشرطيّة العقل عدم كون القصاص مرفوعاً به بما هو هو ;
لعدم كونه وضعاً على القاتل أوّلاً ، واحتمال اختصاصه بالتكليفيّات ثانياً ، بل
غاية الأمر في الاستدلال به إنّما هو القول برفعه باعتبار رفع الحرمة ، وقد بدا لي
الآن في الاستدلال به كذلك للمقام نظراً وإشكالاً ، حيث إنّ الحديث بما هو حديث
امتنان لا يناسبه رفع التكليف والنهي في المحرّمات والمعاصي التي فيها مفاسدٌ عن
الصبي ، وجعلها له مباحةً .
وهذا بخلاف التكاليف الواجبة ، فرفع التكليف فيها رفع مستلزم لعدم وجوب جلب
المصلحة ، وذلك بخلاف رفع الحرمة ، حيث إنّه إذنٌ وإجازةٌ في جلب المفسدة ، وهو كما
ترى غير مناسب في مقام التشريع من الحكيم الرؤوف اللطيف بعباده المحرّم للمحرمات ;
ردعاً للناس عن الوقوع في المفاسد ونجاة لهم عن المهالك والخسران والخذلان في
الدنيا والآخرة ، ومع أنّ الأحكام الشرعيّة ألطاف في الأحكام العقلية ، فضلاً عن
مقام الامتنان فيه .
نعم ، شمول حديث الرفع لرفع قلم الحرمة عن المجنون أو الصبي غير المدرك قضاءً
لإطلاقه لا بأس به ، ولا يتنافى مع الامتنان ; لعدم كون الحرمة بالنسبة إليهما
زاجراً ومانعاً عن إرتكاب الحرام ودفع المفسدة ; لعدم التفاتهم وإدراكهم الحرمة
والمفاسد المترتّبة عليها ، والعواقب اللازمة لها ، كما لا يخفى .
هذا مع ما في أخبار البلوغ من اشتراط الحدود التامّة به لا أصل الحدود ، وكذلك
ما في مثل أخبار[716] سرقة الصبي من حَكّ أنامله وإدمائه وقطعه من
التأييد ; لاختصاص الرفع بالواجبات وعدم شموله للمحرّمات ، كما لايخفى ، فراجعها .
وكيف كان ، فحديث رفع القلم ليس بأزيد من عموم وإطلاق قابل للتخصيص والتقييد .
وأ مّا صحيح ابن مسلم فعلى تسليم التنزيل في الآثار وإن كان مقتضى إطلاقه عدم
القصاص في عمد الصبي كخطائه ، وكون ديته في العمد على عاقلته ، لكنّه ليس بأزيد من
الإطلاق ، إلاّ أنّ الشأن مع ذلك في وجه التنزيل ، فمن المحتمل كون المراد : لا
قيمة لأعماله ، بمعنى أ نّه كما لا قيمة لخطأ الصبي فكذلك الحال في عمده ، فلا قيمة
لأفعاله وأقواله من حيث الحقوق المدنيّة ، فعقده وإيقاعه غير موجب للإلزام وترتيب
الأثر ; لكونها فاقدة للقيمة ، فالصبي مسلوب العبارة والأفعال بذلك المعنى ،
فالتنزيل في نفي القيمة وأنّ عمده كخطائه في ذلك .
ولعلّه إلى ذلك الإشارة والنصّ فيما يقال في شرائط المتعاملين : إنّ الصبي مسلوب
العبارة ، فلا ارتباط للحديث بمسألة نفي القصاص وإثبات الدية على العاقلة من رأس .
ومع هذا الاحتمال يبطل الاستدلال ، فضلاً عن القول بظهور الحديث في ذلك .
وأ مّا مثل خبر إسحاق بن عمّار ، فالظاهر أو المحتمل مع التوجّه إلى القواعد
العقلائيّة في باب ضمان السبب إن كان أقوى من المباشر ، أن يكون مختصّاً بالصبيان
الذين لم يكن لهم تمييز ولا إدراك ممّن تُنْتسب أعمالهم إلى أوليائهم ، ويكونون هم
السبب الأقوى من المباشر عند العرف ، مثل ما مرّ في دية العاقلة في قتل المجنون .
وإن أبيتَ عن الفهم كذلك وجمدتَ على ظاهر الألفاظ فنقول : الإطلاق كذلك مخالف
للكتاب والسنّة والقواعد ، فلابدّ من تقييد الحديث ، مثل ما مرّ من التقييد في حديث
المجنون ، فتدبّر جيّداً .
وممّا ذكرناه يظهر عدم تمامية الاستدلال بخبر أبي البختري ، عن جعفر ، عن أبيه ،
عن علي(عليه السلام) ، أ نّه كان يقول في المجنون والمعتوّه الذي لا يفيق والصبي
الذي لم يبلغ : «عمدهما خطأ تحلمه العاقلة»[717] ، لأ نّه على تسليم
إطلاقه ، وعدم انصرافه ـ بقرينة مقارنة الصبي مع المجنون ـ إلى الصبي غير المدرك
المماثل للمجنون والمعتوه فإطلاقه غير حجّة ; للمخالفة مع الكتاب وقوله تعالى
(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى)[718]
على ما مّر بيانه .
بل لك أن تقول : أنّ في الخبر بقرينة المقارنة شهادة على المراد من مثل خبر
إسحاق بن عمّار كما لايخفى .