دلالة النصّ في تعارض البيّنة مع الإقرار
ثانيهما : البحث في حكم المسألة من حيث النصّ فنقول : إنّ ما في المسألة منحصر
بصحيح زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن رجل قتل فحمل إلى الوالي ،
وجاءه قوم فشهد عليه الشهود أ نّه قتل عمداً ، فدفع الوالي القاتل إلى أولياء
المقتول ليقاد به ، فلم يريموا حتّى أتاهم رجل فأقرّ عند الوالي أ نّه قتل صاحبهم
عمداً ، وأنّ هذا الرجل الذي شهد عليه الشهود بريء من قتل صاحبه ، فلا تقتلوه به
وخذوني بدمه قال : فقال أبو جعفر(عليه السلام) : «إن أراد أولياء المقتول أن يقتلوا
الذي أقرّ على نفسه فليقتلوه ولا سبيل لهم على الآخر ، ثمّ لا سبيل لورثة الذي أقرّ
على نفسه على ورثة الذي شهد عليه . وإن أرادوا أن يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوا
ولا سبيل لهم على الذي أقرّ ، ثمّ ليؤدّ الدية الذي أقرّ على نفسه إلى أولياء الذي
شهد عليه نصف الدية» .
قلت : أرأيت إن أرادوا أن يقتلوهما جميعاً ؟ قال : «ذاك لهم ، وعليهم أن يدفعوا
إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصّة دون صاحبة ، ثمّ يقتلونهما» .
قلت : إن أرادوا أن يأخذوا الدية ؟ قال : فقال : «الدية بينهما نصفان ; لأنّ
أحدهما أقرّ والآخر شُهد عليه» .
قلت : كيف جعلت لأولياء الذي شُهد عليه على الذي أقرّ نصف الدية حيث قتل ، ولم
تجعل لأولياء الذي أقرّ على أولياء الذي شُهد عليه ولم يقرّ ؟ قال : فقال : «لأنّ
الذي شُهد عليه ليس مثل الذي أقرّ ، الذي شُهد عليه لم يقرّ ولم يُبرئ صاحبه ،
والآخر أقرّ وبرئ صاحبه ، فلزم الذي أقرّ وبرئ صاحبه ما لم يلزم الذي شُهد عليه ولم
يقرّ ولم يبرئ صاحبه»[936] .
ولا ريب في مخالفته للقواعد من وجوه :
أحدها : في جواز قتلهما معاً مع انتفاء الشركة في القتل ، كما هو مقتضى الشهادة
والإقرار ، بل فيهما بدلالتهما الالتزاميّة دلالة على انتفاء الثالث ودلالةٌ على
عدم الشركة .
ثانيها : في إلزامهما بالدية نصفين بعد عدم ثبوت المقتضي لاشتراكهما في موجبه ،
وهو القتل ، بل فيهما دلالة على عدم الشركة ، كما مرّ .
ثالثها : في إلزام المقرّ بردّ النصف ، ضرورة أ نّه إن كان كذلك لاعترافه ببراءة
المقتول ، فالمتّجه ردّ الجميع ، وإلاّ فلا وجه لردّ النصف ، فإنّ أقصى ما هناك
إقرار المقرّ بأ نّه القاتل وأنّ المشهود عليه قتل مظلوماً ، فلم يقصّر في الدفع
عنه ، وليس عليه إلاّ تخطئة البيّنة ، ولعلّه بهذا لايلزمه شيء ، وإن أبيتم عن
إلزامه بشيء فالجميع عليه كما مرّ .
رابعها : في إلزام الأولياء بردّ النصف إلى أولياء المشهود عليه مع قتلهما دون
أولياء المقرّ ، فإنّ القاعدة في قود المتعدّد في مقابل الواحد ردّ دية الزائد على
أولياء المقتولين بالسويّة ، ففي قتل الاثنين بالواحد مثلاً يردّ وليّ الدم الدية
كاملة على أوليائهما بالمناصفة ، وفي الثلاثة بالواحد أثلاثاً ، كما مضى في محلّه ،
فردّ نصف الدية على أولياء أحد المقتولين في الصحيح مخالف لهذه القاعدة أيضاً .
خامسها : ما فيه في تخيير وليّ الدم في القود بينهما ، مع أنّ الحجّتين ـ أي
الشهود والإقرار بالتعارض ـ سقطتا عن الحجيّة ، فالتخيير بلا وجه ، كما لايخفى .
سادسها : أنّ في تخيير الوليّ مع عدم الدليل عليه ، فيه احتمال قتل غير القاتل ،
وهو مخالف للاحتياط في الدماء وحرمة الأنفس .
سابعها : أنّ اللازم في إلزام المقرّ بردّ النصف إلى أولياء المشهود عليه
المقتول قوداً ، كون أولياء المقتول آخذين حينئذ دماً ونصفاً ، وهو زائد على حقّهم
، فإنّما حقّهم واحد ، وهم وإن لم يأخذوا النصف مباشرةً لكنّهم باختيارهم القود على
المشهود عليه صاروا سبباً في ردّ الزائد فكأ نّهم الآخذون له ، وإلاّ فلهم القود
على المقرّ ، فكان ردّ النصف منتفياً .
فهذه هي المحاذير السبعة فيه .
وفي ظاهر «نكت النهاية» للمحقّق حصر الإشكال في ثلاثة مواضع منه ، ففيه بعد نقل
الرواية : «والإشكال في هذه في ثلاثة مواضع :
أحدها : أن يقال : لِمَ يتخيّر الأولياء ؟
والجواب : لأنّ أحدهما يقتل بالبيّنة والآخر بالإقرار ، فإنّ المقرّ أباح نفسه
بإقراره بالانفراد .
الثاني : أن يقال : لِمَ وَجب الردّ لوقتلوهما ؟
لأ نّا نقول : حيث إنّه لايقتل اثنان بواحد إلاّ مع الشركة ، ومع الشركة تردّ
فاضل الدية ، وهو دية كاملة ، لكن المقرّ أسقط حقّه من الردّ ، فبقي الردّ على
المشهود عليه .
الثالث : أن يقال : لِمَ إذا قتل المقرّ وحده لايردّ المشهود عليه ، وإذا قتل
المشهود عليه يردّ إلى أوليائه ؟
لأ نّا نقول : المقرّ سقط حقّه من الردّ ، والمشهود عليه لم يقرّ فيرجع على ورثة
المقرّ بنصف الدية ; لاعترافه بالقتل وإنكار المشهود عليه»[937] .
ولا يخفى عليك عدم تماميّة جوابه عن الإشكال الأوّل ; لما مرّ من التعارض
والسقوط عن الحجيّة .
وأ مّا إشكاله الثاني وجوابه ، ففيه : ليس هذا من الإشكال في شيء وإن كان جوابه
عنه على الشيئية تامّاً ، حيث إنّ الإشكال في جواز قتلهما مع عدم الشركة بحسب
الظاهر والحجّة لا في وجوب الدية على تقدير قتلهما ، فما هو الإشكال لم يتعرّض له ،
وما تعرّض له فليس بشيء .
والكلام معه في الثالث مثل الكلام في الثاني فلا نعيده ، فتدبّر جيّداً .
وبالجملة: ما في «النكت» غير رافع لبعض محاذيرالصحيح ، فضلاً عن كلّها.
وكيف كان ، فعن الشيخ في «النهاية»[938] وأبي علي[939]
والحلبي[940] والقاضي[941]
والكيدري[942] ويحيى بن سعيد[943]
وابني حمزة[944] وزهرة[945] ، بل عن ظاهر الآبي[946]
، وعن ميل الشهيدين أو جزمهما في «غاية المراد»[947] : الفتوى والعمل
بالصحيح ، بل في «الرياض» : «وبشهرتها صرّح الفاضل في كتبه المتقدّمة ، وغيره من
الجماعة ، مشعرين ببلوغها درجة الإجماع ، ولعلّه كذلك ، فقد أفتى به الشيخ وأتباعه
والإسكافي والحلبي وغيرهم ، بل لم نرَ مخالفاً عدا من مرّ ، وعبائرهم غير صريحة في
المخالفة عدا الحلّي وفخر الدين»[948] .
لكن مع ذلك كلّه ، فمختار ابن إدريس في صريح «السرائر»[949] ، ومثله
العلاّمة في «التحرير»[950] وابنه في «الإيضاح»[951] ،
وظاهره في «القواعد»[952]
عدم العمل به ، والفتوى بتخيّر الوليّ في قتل كلّ واحد من المشهود عليه ومن المقرّ
.
ولعلّ وجه ردّ «السرائر» الرواية وعدم العمل بها ، ما فيها من بعض المحاذير التي
ذكرناها ، مضافاً إلى قاعدته .
وأ مّا عدم العمل من غيره فليس إلاّ بعض المحاذير قطعاً ، وهو وجيه وقويّ ، حيث
إنّ دليل حجيّة خبر الواحد بناء العقلاء ، وبناؤهم على العمل بمثل الخبر ممّا فيه
المخالفة للقواعد ولو من جهة واحدة ، فضلاً عن جهات متعدّدة ، غير محرز إن لم نقل
بأنّ عدمها محرز .
ومن المعلوم إناطة الحجيّة بإحراز البناء ، فمع الشكّ فيها ـ كما في مثل الصحيحة
فضلاً عن العلم بالعدم ـ لاحجيّة فيها .
هذا ، مع ما فيها من المخالفة الموجبة لإهراق الدم ، والإسراف فيه من الاُمور
الخطيرة والعقوبات غير القابلة للتدارك على فرض السهو والغفلة ، فإنّها كافية ;
لعدم إحراز البناء وإن كانت الرواية متعدّدة فضلاً عن الواحدة ، ألا ترى أنّ
العقلاء يحتاطون فيها ـ أي في الاُمور الخطيرة ـ ومع عدم حصول القطع لايقدمون ؟
وفي «جامع المدارك» : «في كلام بعض الأكابر الإشكال ، وعدم جواز التهجّم في
الدماء»[953] .
والظاهر أنّ ما نقله من الإشكال وعدم جواز التهجّم مربوط بأصل مسألة حجّيّة
الخبر في الاُمور الخطيرة لا في حكم هذه المسألة ، وإلاّ فالإشكال فيه في الكلمات
معروف ومشهور ، ونقلناه سابقاً ، فراجع «المدارك» .
وبما ذكرناه وقوّيناه من الوجه في عدم حجّيّة الصحيحة تظهر المناقشة ، وعدم
تماميّة ما في «الرياض» في التعليل والتوجيه على أنّ المخالفة مع الرواية مشكلة ،
وهذا لفظه : «وهي مشكلة ; لصحّة الرواية واعتضادها بعمل الطائفة ، فتخصّص بها
القاعدة . وليس هذا بأوّل قارورة ، فكم من اُصول قويّة وقواعد كلّية خصّصت بمثل هذه
الرواية بل وبما دونها ، كما لايخفى على ذي الإطلاع وخبرة ؟ ولكن المسألة مع ذلك
لعلّه لاتخلو عن شبهة ، فالأحوط الاقتصار فيها بقتل أحدهما خاصّة ; لعدم الخلاف فيه
ظاهراً فتوى ورواية ، وحكى الإجماع عليه الحلّي في «السرائر» صريحاً»[954]
.
ولقد أجاد في رعاية الاحتياط ; لاحتمال عدم خلّو المسألة من الشبهة وإن كان عليه
القطع بالشبهة وعدم الحجّيّة ; لما مرّ بيانه ، كما أ نّه قد مرّ أنّ مقتضى القاعدة
العمل بالإقرار ترجيحاً له على البيّنة ; قضاءً لبناء العقلاء لا التخيير ، وفي
«السرائر» : نفي الخلاف لا الإجماع ، فراجعه[955] .
وكيف كان ، بعد عدم حجيّة الصحيحة في المسألة لابدّ من الرجوع إلى الاُصول
والقواعد ، ومقتضاها تقديم الإقرار على البيّنة ، كما حقّقناه وبيّناه في المقام
الأوّل .
ثمّ إنّ الظاهر كون مورد الرواية والفتاوى ما لم يكن للوليّ علم تفصيلي بالقاتل
وبصدق الإقرار أو البيّنة ، ولا علم إجمالي به وبصدق أحدهما ، ولا علم بالشركة حيث
إنّ المعلوم كون الرواية والفتاوى ناظرين إلى الحجّتين المتعارضين بما هما هما من
دون انضمام العلم من رأس ، كما لايخفى .
وإلاّ فلا إشكال ولا كلام في الأوّل في لزوم متابعـة العلم التفصيلي وحجّيتـه
الموافق له من الإقرار والبيّنة دون الآخر المخالف له منهما . كما أ نّه لا إشكال
ولا كلام أيضاً في عدم حجيّة شيء منهما في الثاني ; لكون العلم الإجمالـي لكذب
أحـدهما مانعاً عـن الحجيّة كالعلم التفصيلي بالكذب بالنسبة إلى المعيّن منهما .
وأ مّا الثالث ، فالعلم بالشركة وإن كان مقتضياً لعدم حجيّة شيء من الإقرار(مسألة 7) : لو فرض في المسألة المتقدّمة : أنّ أولياء الميّت ادّعوا
على أحدهما دون الآخر سقط الآخر ، فإن ادّعوا على المشهود عليه سقط إقرار المقرّ ،
وإن ادّعوا على المقرّ سقطت البيّنة (11) .
والبيّنة القائمين على عدمها بالدلالة المطابقة ، كما هو المفروض ، فإنّ المقرّ
يبرئ المشهود عليه ، لكن للوليّ العمل بعلمه ، وله إجراء حكم الشركة في القتل فيما
بينه وبين الله تعالى ، لكنّه ممنوع بحسب الظاهر ; لعدم حجيّة علمه إلاّ لنفسه لا
للحاكم وأولياء المقتولين .
فالحاصل ، أنّ الإقرار والبيّنة ليستا بحجّة في هذه الصورة من رأس ، كالصورتين
السابقتين ; لما بينهما مع علمه من المخالفة . نعم في صورة احتمال الوليّ الشركة
هما حجّة بالقوّة ; لتمامية شرائط الحجيّة فيهما ، لكنّها غير فعليّة ; للتعارض ،
بل الظاهر كون هذه الصورة مشمولة للرواية والفتاوى ، حيث إنّ الاحتمال غير رافع
للجهل ولا مضرّ بالحجيّة ، فهذه الصورة كصورة علم الوليّ بعدم الشركة التي هي
المتيقّن من النصّ ، والفتاوى مشمولة لهما أيضاً .
(11) ما في المتن تامٌّ وموافق لما في «نكت النهاية» فيكون تابعاً له ، كأبي
العباس[956] والمقداد[957]
والفاضل الأصبهاني[958] .
في «نكت النهاية» بعد ذكر المسألة السابقة : «هذا كلّه بتقدير أن يقول