حبس المتّهم ومدّته
(10) ما في المسألة وكلمات الأصحاب وإن كان مختصاً باتّهام القتل وحبس المتّهم
به لكشف الحقيقة ، لكنّه ينبغي البحث عن الحبس الاستظهاري للمنكر في جميع الدعاوي
وحقوق الناس أوّلاً ، ثمّ البحث عن خصوص المتّهم بالقتل ثانياً .
وأ مّا حقوق الله تعالى فالحبس كذلك فيها حرام ; لكونه منافياً لوجوب درئ الحدّ
بالشبهة ، ومخالفاً للسيرة المنقولة عن علي(عليه السلام) في إجراء الحدود ، ولكونه
عقوبة بلا دليل . ولا يخفى أنّ حرمته في حقوق الله غير مختصّـة بالحـدود ، بل يكون
الحبس كذلك حراماً في التعزير منها ; قضاء لجريان الدرئ في التعزير بالأولويّة ،
واشتراكه مع الحدود في كونه عقوبة بلا دليل ، فتدبّر جيّداً .
إذا عرفت ذلك فنقول : مقتضى القاعدة حرمة الحبس الاستظهاري وعدم جوازه ; لكونه
ضرراً وإيذاءً وحرجاً على المنكر المتّهم وتدخّلاً في حدود سلطنته أوّلاً ، ولتسلّط
الناس على أنفسهم كتسلّطهم على أموالهم بل تسلّطهم عليها أولى من الأموال ثانياً ،
وعقوبة عليه بلا وجه ثالثاً ، فكلّ واحد من الجهات الثلاثة كافية في حرمته فضلاً عن
كلّها .
هذا مع أنّ مقتضى الاستصحاب أيضاً حرمة الاستظهاري ، كما لا يخفى .
وبالجملة : حبس الأفراد من المحرّمات الواضحة ، لكن إذا كان ذلك الحبس حفظاً
لحقّ الغير واحتياطاً فيه ; حذراً من فرار المتّهم مع انحصار الطريق به ففي حرمته
تأ مّل وإشكال ، بل الظاهر جوازه مع أهمّية مورد الدعوى ; وذلك قضاءً لقاعدة
التزاحم ، فكما أنّ الحبس من دون ثبوت سببه ـ كحبس المتّهم بإمساك المقتول مثلاً ـ
حرام ومعصية وتركه واجب ، فكذلك تضييع حقوق الناس للحاكم وعدم تحفّظه لها بالحبس
الاستظهاري محرّم ، وتركه المتوقّف عليه واجب ولازم ، فالحكمان متزاحمان بالنسبة
إلى الحاكم ، فلابدّ عليه من رعاية قاعدة التزاحم من الترجيح بالأهمّية أو
باحتمالها ، ففي مثل حقّ القصاص ممّا يكون أهمّ من الحبس الاستظهاري يجوز للحاكم بل
يجب عليه حبس المتّهم بالقتل مع انحصار طريق الاحتياط ومنعه من الفرار به كما هو
المفروض .
ولا يخفى عليك أ نّه كان الجواز هنا مربوطاً بقاعدة التزاحم ، فمدّته أيضاً
مربوطة بما يراه العقلاء وعلماء الاجتماع والحقوق الجزائيّة والمدنيّة والإنسانيّة
، ممّا تكون كافية للحاكم عادة في حفظ حقوق الناس ورعاية الاحتياط لكشف الحقيقة في
مثل القتل ، ومن المعلوم أنّ ذلك يختلف باختلاف الموارد والأشخاص والأزمنة والأمكنة
، ولما أنّ الضابطة والقاعدة في الأهمّ أو محتمل الأهمّية ، ومدّة الحبس الاستظهاري
لازمة في الحكومة ، فلابدّ من جعل القوانين في المجالس الشورائيّة ضابطة وقاعدة
لموارد الأمرين ، مع ملاحظة كشف أهمّية المورد مع الرجوع إلى العقلاء والمتشرّعة
والأحكام الثابتة له في الشرع ، أو إلى الفقيه مع بيان خصوصيّات الموضوع .
بل لقائل أن يقول : الرجوع إلى الضوابط والقوانين المجعولة بين العقلاء والنظر
والبحث فيها كافية في الاعتبار ، وفي جعل القوانين في الحكومة الإسلاميّة على حذوها
; لأنّ أهمّية بعض الحقوق قياساً إلى الآخر وكفاية أيّ مدّة للحبس في الاستظهار
تكون أمراً عقلائيّاً ، وليس في الشرع ما يضادّ أمرهم ، فتدبّر جيّداً .
هذا كلّه مع كون التزاحم والترجيح بالأهمّية مؤ يّدة ببعض الأخبار ، ففي موثّق
السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون
بسكاكين كانت معهم ، فرفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسجنهم فمات منهم
رجلان وبقي رجلان ، فقال أهل المقتولين : يا أمير المؤمنين أقدهما بصاحبينا ، فقال
للقوم : ما ترون ؟ فقالوا : نرى أن تقيدهما ، فقال علي(عليه السلام) للقوم : فلعلّ
ذينك اللذين ماتا قتل كلّ واحد منهما صاحبه ، قالوا : لا ندري ، فقال علي(عليه
السلام) : بل أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة ، وآخذ دية جراحة الباقين من
دية المقتولين»[1171] .
فإنّ الظاهر منه كون الحبس قبل ثبوت القتل ; لمكان قولهم : لا ندري .
وفي خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) ـ في حديث ـ «إنّ شابّاً قال لأمير
المؤمنين (عليه السلام) : إنّ هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر ، فرجعوا ولم
يرجع أبي ، فسألتهم عنه ، فقالوا : مات ، فسألتهم عن ماله ، فقالوا : ما ترك مالاً
، فقدّمتهم إلى شريح ، فاستحلفهم وقد علمت أنّ أبي خرج ومعه مال كثير ، فقال أمير
المؤمنين(عليه السلام) : والله لأحكمنّ بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلاّ داود
النبي(عليه السلام) ، يا قنبر ادع لي شرطة الخميس ، فدعاهم ، فوكّل بكلّ رجل منهم
رجلاً من الشرطة ، ثمّ نظر إلى وجوههم ، فقال : ماذا تقولون ؟ تقولون : إنّي لا
أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى ؟ إنّي إذاً لجاهل ، ثمّ قال : فرّقوهم وغطّوا رؤوسهم
، قال : ففرّق بينهم واُقيم كلّ رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم
مغطّاة بثيابهم ، ثمّ دعا بعبيدالله بن أبي رافع كاتبه ، فقال : هات صحيفة ودواة ،
وجلس أمير المؤمنين (عليه السلام)في مجلس القضاء ، وجلس الناس إليه ، فقال لهم :
إذا أنا كبّرت فكبّروا ، ثمّ قال للناس : اخرجوا ، ثمّ دعا بواحد منهم ، فأجلسه بين
يديه ، وكشف عن وجهه ، ثمّ قال لعبيدالله : اكتب إقراره وما يقول ، ثمّ أقبل عليه
بالسؤال ، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : في أيّ يوم خرجتم من منازلكم ،
وأبو هذا الفتى معكم ؟ فقال الرجل : في يوم كذا وكذا ، فقال : وفي أيّ شهر ؟ فقال :
في شهر كذا وكذا ، قال : في أيّ سنة ؟ فقال : في سنة كذا وكذا ، فقال : وإلى أين
بلغتم في سفركم حتّى مات أبو هذا الفتى ؟ قال : إلى موضع كذا وكذا ، قال : وفي منزل
من مات ؟ قال : في منزل فلان بن فلان ، قال : وما كان مرضه ؟ قال كذا وكذا ، قال :
وكم يوماً مرض ؟ قال : كذا وكذا ، قال : ففي أيّ يوم مات ؟ ومن غسّله ؟ ومن كفّنه ؟
وبما كفّنتموه ؟ ومن صلّى عليه ؟ ومن نزل قبره ؟ فلمّا سأله عن جميع ما يريد ، كبّر
أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكبّرالناس جميعاً ، فارتاب أولئك الباقون ، ولم
يشكّوا أنّ صاحبهم قد أقرّ عليهم وعلى نفسه ، فأمر أن يغطّى رأسه وينطلق به إلى
السجن . . .»[1172]
الحديث .
وهـذا الحديث ظاهـر أيضاً فـي السجـن قبل ثبوت القتل والمعصيـة ، كما لا يخفى .
لا يقال : حبس المتّهم غير جائز إلاّ في الدم في الجملة ; قضاءً للأصل ولرواية
دعائم الإسلام عن علي(عليه السلام) أ نّه قال : «لا حبس في تهمة إلاّ في دم ،
والحبس بعد معرفة الحقّ ظلم»[1173] .
وموثّقة السكوني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إنّ النبي(صلى الله عليه
وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم ستّة أ يّام ، فإن جاء أولياء المقتول بثبت[1174]
، وإلاّ خلّي سبيله»[1175] .
لأ نّه يقال : أ مّا الأصل فمدفوع بما مرّ من الدليل والحجّة .
وأ مّا رواية «الدعائم» فإنّها مرسلة ، مع ما في «الدعائم» من الإشكال والتأ مّل
فيه .
وأ مّا الموثّقة فلا دلالة لها على عدم الحبس في غير الدم أصلاً ومن رأس ; لعدم
المفهوم لها ، وإنّما دلّت على الحبس في الدم وأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يحبس فيه ، فأين دلالتها على عدم جواز الحبس في غيره ؟ فإثبات الشيء ليس مناف
لما عداه ، كما هو أظهر من الشمس وأبين من الأمس . فتلخّص من جميع ما ذكرناه جواز
حبس المتّهم في الجملة في الدم وغيره ، وأنّ الضابط في مدّته ما تكون من المدّة
مانعة عن فرار المنكر ; حفظاً لحقّ المدّعي مع رعاية الحقوق من الطرفين .
وما في الموثّقة من ستّة أ يّام غير مناف لذلك ; لأ نّها محمولة على كون تلك
المدّة في زمانه كافيةً للمنع وجامعةً لحقوق الطرفين .
هذا كلّه في الحبس الاستظهاري في غير المتّهم بالقتل . وأ مّا ما فيه من أقوال
الأصحاب فهي مختلفة : من القول بعدم جوازه ، كما هو خيرة الحلّي[1176]
والفخر[1177] وجدّه[1178]
وغيرهم على المحكي عنهم ، بل هو الظاهر من الشهيد الثاني في «الروضة» حيث قال :
«والرواية ـ أي رواية السكوني ـ ضعيفة ، والحبس تعجيل عقوبة لم يثبت موجبها ، فعدم
جوازه أجود»[1179] .
وفي «المسالك» : «القول بحبس المتّهم بالدم ستّة أيام للشيخ وأتباعه ، والأصح
عدم الحبس قبل ثبوت الحقّ مطلقاً»[1180] .
ومن الفيض الكاشاني في «المفاتيح»[1181] : «وهل يجوز حبس المنكر إلى
أن يحضر بيّنة المدّعي ؟ قيل : نعم إلى ستّـة أ يّام ، كما في الخبر ، وقيل :
ثلاثـة أ يّام ، ولا مستند له .
والأصحّ عدم الحبس قبل ثبوت الحقّ مطلقاً» ، بل ويظهر من المحقّق الثاني في
«جامع المقاصد» من نسبته الجواز إلى القيل عدم ارتضائه به : «قيل : ويحبس المتّهم
في الدم مع التماس خصمه حتّى تحضر البيّنة»[1182] .
ومن القول بجوازه مع الاقتصار بما في الموثّقة من ستّة أ يّام كما عليه المتن ،
وعن الشيخ[1183] وأتباعه ، والصهرشتي والطبرسي على المحكي عنهما[1184]
، والفاضل في «القواعد»[1185]
وغيره .
ففي الأوّل ـ أي القول بعدم الجواز ـ أ نّه بعد كون الجواز على القاعدة وعلى
الحجّة ، كما بيّناه ، لا وجه للتمسّك لعدمه بالأصل وضعف الرواية وأنّ الحبس تعجيل
عقوبة ، كما لا يخفى .
وفي الثاني ، أنّ المدّة في الموثّقة ليست تعبديّة بل كانت مرتبطة بزمان الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما يشهد عليه ما فيها من قوله (عليه السلام) : «إنّ
النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس» . . . إلى آخره ، فإنّه نقل لعمله وسيرته
، والمتفاهم منها عرفاً كون تلك المدّة من مصاديق مدّة حبس المتّهم وأ نّه لا
خصوصيّة ولا تعبّد فيه كيف مع أنّ التعبّد بتلك المدّة خاصّة ، مع ما فيه من مخالفة
العقل والعقلاء محتاج إلى أخبار مستفيضة محفوفة بقرائن ظاهرة في التعبّد ، فتدبّر
جيّداً .