هل يعتبر إذن جميع أولياء الدم إذا كان أكثر من واحد
(9) البحث في هذه المسألة في اعتبار إذن الجميع في الاستيفاء وعدمه ، وفي
السابقة عليها في اعتبار إذن الحاكم ، فكلٌّ من المسألتين مستقلّة عن الآخر .
وشرطيّة الإذن من الحاكم وعدمها تكون في كلتا المسألتين ، فلا يتوهّم خصوصيّة
وحدة الوليّ ، بل إنّما يكون ذكر وحدة الوليّ في السابقة من جهة المثال والمصداق
لامن جهة الموضوعيّة والخصوصيّة .
فالقائل باعتبار إذن الحاكم مع كون الوليّ واحداً قائل باعتباره مع التعدّد
زائداً على إذن الجميع على اعتباره ، والقائل بعدم اعتباره قائل بعدمه في المسألة
وإن كان قائلاً باعتبار إذن الجميع .
وبالجملة : إذن الحاكم وإذن الجميع على الشرطيّة وعدمها مستقل عن الآخر ، وما في
كلٍّ من المسألتين يجري مع كلا المبنيين في المسألة الاُخرى ، وعلى هذا ليس لتقييد
المتن وغيره في السابقة الوليّ بالوحدة وجه ظاهر ، لما عرفت من جريان الخلاف مع
الكثرة أيضاً ، ولعلّه لأنّ مع الكثرة خلاف آخر أيضاً ، وهو إذن الجميع .
وكيف كان ، ففي المسألة قولان :
أحدهما : اعتبار اجتماعهم في الاستيفاء بالوكالة أو بالإذن لواحد منهم ، وعدم
جواز الاستيفاء من دون ذلك ، وهو المحكي عن الفاضل[1277]
والشهيدين[1278] والمقداد[1279] ، ومختار المحقّق[1280]
والعلاّمة[1281]
و «مجمع الفائدة»[1282] و «المفاتيح»[1283] .
ثانيهما : جواز الاستيفاء لكلّ واحد منهم من دون التوقّف على إذن الآخر ، وهو
المحكي عن أبي علي[1284] وعلم الهدى[1285]
والقاضي[1286] والكيدري[1287] .
بل في «مجمع الفائدة والبرهان»[1288] نسبته إلى الأكثر ، وفي
«الخلاف»[1289] و «الغنية»[1290]
وظاهر «المبسوط»[1291] الإجماع عليه ، وهو المحكي عن علم الهدى في
«مفتاح الكرامة»[1292] .
حجّة قول الأوّل أنّ الحقّ للكلّ ، فلا يجوز للغير التصرّف والاستيفاء ، فعلى
الفاعل ضمان العهدة .
وفيه : مع ما سيأتي من الشهادة في أدلّة القول الثاني على عدم كون الحقّ للكلّ
بذلك المعنى ، بل له معنى آخر موافق مع القول الآخر ، أ نّه لا قرينة ولا دليل على
ذلك المعنى وعلى ذلك النحو من الشركة في الحقّ ، وأ نّه أيّ مانع من كون الشركة في
المقام كالشريك في حقّ الخيار للورثة في أنّ لكلٍّ منهم الاستبداد في إعمال الخيار
؟
وبذلك يظهر عدم تماميّة ما يقال في توجيهه من عدم كون حقّ القصاص قابلاً للتبعيض
، فلابدّ من اتّفاق الجميع على استيفائه ، وذلك لعدم انحصار الشركة في الحقّ بذلك ،
بل لها معنى آخر ، وهو الموجود في شركة مثل حقّ الخيار .
هذا مع أ نّه لو سلّم اقتضاء قاعدة الشركة ذلك كان المتّجة الخروج منها بما يأتي
من بعض الوجوه .
واستُدلّ للقول الثاني بوجوه :
أحدها : ما مرّ من الإجماع المعتضد بما في «المجمع» من نسبته إلى الأكثر[1293]
.
بل يظهر من «مفتاح الكرامة»[1294] أ نّه العمدة في الأدلّة .
ثانيها : كون بناء القصاص على التغليب ، ولذا إذا عفا الأولياء إلاّ واحداً كان
له القصاص مع أنّ القاتل قد أحرز بعض نفسه .
ثالثها : أ نّه إذا جاز القصاص مع عفو الباقين وإحراز القاتل بعض نفسه ، فمع
السكوت أو الجهل وعدم الإحراز أولى .
رابعها : قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً)[1295] ، فإنّ ثبوت السلطان للوليّ يقتضي تسلّط كلّ واحد
منهم على ذلك منفرداً ، كما هو مقتضى الإضافة ، وإلاّ لم يتمّ له السلطان .
خامسها : أنّ الباقين إمّا أن يريدوا قتله أو الدية أو العفو ، والفرض أنّ
الأوّل قد حصل ، والدية مبذولة من القاتل ، والعفو باق في محلّه ، فإن المقصود به
المثوبة وهي موجودة .
سادسها : أ نّه مخالف لما أجمع عليه العامّة .
سابعها : أنّ اشتراك الحقّ المزبور ليس على حسب غيره من الأموال التي لايجوز
التصرّف فيها بدون إذن الشريك ، بل المراد من اشتراكه أنّ لكلّ واحد منهم استيفاءه
لا لكونه بينهم على الحصص ، ولا أ نّه حقّ للمجموع من حيث كونه كذلك ، ضرورة عدم
تعقّل الأوّل ، ومنافاة الثاني لبقائه مع عفو البعض ، وغرم الدية إنّما هو لدليله
لا لاشتراكه ، بل لعلّ ذلك ظاهر كلّ ما يستفاد من كون القصاص لأوليائه من كتاب أو
سنّة بعد العلم بعدم إرادة المجموع من حيث كونه كذلك ، ولعلّه لذا نسبه في ما سمعته
من «الخلاف» إلى أخبار الفرقة .
وهذه الوجوه وإن كان بعضها قابلاً للمناقشة ، لكن في الآية وبعضها كفاية .
وفي تعليقات صاحب «مفتاح الكرامة» على «اللثام» هنا كلام متضمّن لفوائد جيّدة
ينبغي نقله : «والحاصل أ نّه لا معارض لأدلّة هذا القول إلاّ الشهرة المتأخّرة
المعلومة والمنقولة ، وهي ليست بحجّة ، على أنّ المتقدّمة متقدّمة عليها في هذا
المقام ; لأنّ المسألة ليست من الغامضات التي تحتاج إلى النظر ، بل الظاهر من
الإجماعات والشهرة المتقدّمة أ نّها راجعة إلى نقل عمل وسيرة واستمرار طريقة على
أنّ إجماع القدماء قد يكون معلوماً ، إذ لم يعرف الخلاف إلاّ من المحقّق والمصنّف
وبعض من تأخّر عنهما ، وما كان ليخفى على القدماء أنّ الحقّ مشترك بين الجميع فلا
يستوفيه بعضهم ، وأ نّه موضوع للتشفّي ولا يحصل بفعل بعضهم ، مع إطباق علماء
العامّة على عدم الجواز واستدلالهم بهذه الأدلّة والمناقشة في الأخير ظاهرة ، إذ
لايمكن أن يقتله الجميع وأصحابنا أجابوهم ـ كما في «الخلاف» وغيره ـ بأنّ إجماعنا
منعقد على ذلك وطريقتنا مستمرة ، ومن المعلوم أنّ ذلك مع إطباق العامّة على خلافهم
وظهور الوجه في قولهم إنّما كان صادراً عن أئمّتهم (عليهم السلام) ، وأشاروا إلى
بيان مأخذ الإجماع واستمرار الطريقة على سبيل التقريب والاستظهار على العامّة بأنّ
الله سبحانه وتعالى جعل للوليّ سلطاناً ، وهذا أولى ، فيجب أن يكون له سلطان ، فلو
توقف على إذن شركائه لم يكن له سلطان .
ومثل هذا يكفي في بيان مأخذ الإجماع بالنسبة إلى العامّة ، وإلاّ فقد يكون
الإجماع منعقد إلاّ عن نصّ مسطور في الكتب ، بل عن نص محفوظ في الأذهان متداول في
العمل ، كما هو الشأن في كثير من إجماعات «الانتصار» و «الخلاف» و «الغنية» ، وقد
حررّ ذلك في محلّه .
وقولهم : إنّ بناء القصاص على التغليب آخر ما ذكره الشارح ، إنّما هو جواب عن
استبعاد جواز استبداد بعض الشركاء باستيفاء الحقّ من دون إذن ، وهو جواب صحيح في
محلّه رافع للاستبعاد المذكور ، وليس دليلاً مستقـلاًّ ، وإنّما الدليل السيرة
واستمرار الطريقة والإجماع . فلا تتوجّه المناقشة في الاستدلال بالآية الشريفة بأ
نّها غير ظاهرة في المطلوب ، لما عرفت . على أنّ ظهورها في الجملة لايكاد ينكر وإن
كان ليس بتلك المكانة ، كما هو الشأن في كثير من ظواهر القرآن المجيد في كثير من
المسائل ، كما لايخفى على المتتبّع .
ولا معنى للمناقشة أصلاً في التغليب بعد ما عرفت الحال بأ نّـه ليس حجّـة بـل
غير مسلّم ، فإنّه يسقط بالشبهة كسائر الحدود ، وأنّ جواز استقلال البعض بالاستيفاء
والقصاص بعد عفو الباقي أو أخـذه حقّه لايستلزم جـوازه بدون أخـذهم ذلك .
ثمّ إنّ المحقّق ومن وافقه أطلقوا ولم يفرّقوا في الأولياء بين أن يكونوا كلّهم
بالغين أو لا ، لأنّ المسألتان كانتا من سنخ واحد .
والشيخ في «الخلاف» ادّعى إجماع الفرقة وأخبارهم في الثانية والذي يحكيه كالذي
يرويه ، وظاهره في «المبسوط» الإجماع فيها ، وإجماع «الغنية» يتناولها ، فقد تكرّرت
دعوى الإجماع منهم ، وحكى لنا في «الخلاف» أنّ في المسألة أخباراً أقصاها أ نّها
مرسلة منجبرة بما عرفت ، فكانت حجّة اُخرى .
وناهيك بقتل مولانا الحسن(عليه السلام) ابن ملجم (لعنه الله تعالى) وله من
الإخوة والأخوات ستّة وعشرون ; لأنّ أولاد أمير المؤمنين(عليه السلام) سبعة وعشرون
وفيهم البالغ وغيره ، والحقّ للجميع وإن كانت له الولاية والإمامة .
ثمّ إنّ خلاف المحقّق والمصنّف ومن وافقهم مآله إلى أنّ دعوى الإجماع خطأ ، وهذه
قد تسمع لو كان المدّعى له واحداً ، وقد وجد الخلاف ممّن عاصره أو تقدّمه .
وأ مّا إذا كان المدّعى له جماعة غير مرة ولم يوجد خلاف ممّن عاصرهم أو تقدّمهم
، فكيف يصح الإقدام على تخطئتهم ومخالفتهم ، مع أنّ دليل المخالف نصب أعينهم يدلي
به مخالفوهم من العامّة ، وهم يردّونه بإجماعهم وسيرتهم المأخوذين عن أئمّتهم
(عليهم السلام) ، فكان هذا القول ممّا لاريب فيه ولا أجد عذراً لمن خالف إلاّ بأ
نّه لم يتلبّث ولم يعط النظر حقّه في تتبّع كلام القوم وسيرة قدمائهم وأئمّتهم
(عليهم السلام)»[1296] .
ثمّ إنّه على القول الثاني وإن كان الاستيفاء من دون إذن بقيّة الأولياء جائزاً
، لكن يضمن الوليّ المستوفي حصص البقيّة بلا خلاف ولا إشكال ، بل الإجماعات
المزبورة كلّها عليه .
نعم ، قـد يقال بظهورها فـي اعتبار الضمان قبل القتل إلاّ أنّ الأقـوى كونـه
ضمانـاً شرعيّـاً ، على معنى كـون الاستيفاء المزبور مـن أسباب الضمان علـى
المستوفي ، فلا وجـه لاعتبار سبقـه ، بل لايبعد أن يكون ذلك أيضاً مـراد القائل
بالسبق وأن يكون النزاع لفظياً ، حيث إنّ الضمان أمر تعليقي جعلي على العهدة وتابع
لسببه ، فلا معنى لتحقّقـه بالقتل ولجعلـه على العهدة ولو على حقيقة التعليقيّـة
إلاّ بعد تحقّق سببه .
فمراد القائـل بتقدّمـه على القصاص تقدّمـه على نحـو الكلّيـة التعليقيّة ،
والأمـر سهل .
نعم ، لابدّ للمستوفي من كونه مليّاً وقادراً على أداء الحصص من الدية ، وإلاّ
فمع عدم ملاءته وعدم قدرته على الأداء فالقصاص بدون إذن البقية غير جائز له حتّى
على القول بعدم التوقّف على إذن الجميع ; لكونه سبباً لتضييع حقوق البقيّة .
وأ مّا على القول الأوّل ، فيحتمل كونه كذلك وإن أثم وعليه التعزير ، مثل ما مرّ
في عدم الإذن من الحاكم ، بل هو الأقوى ، كما في المتن ; لضرورة عدم كونه قتل عمد
عدواني موضوع للقصاص بعد أن كان المستوفي من المستحقّين له ، فقتله قصاص وعدل
واستيفاء للحقّ لا عدوان وظلم واستيفاء بغير الحقّ ; ولأ نّه على تسليم تلك الضرورة
فلا أقلّ من كون المستوفي صاحب حقّ شبهة دارءة للعقوبة احتياطاً في الدماء ، ومن
اختلاف العلماء في جواز القتل ، وهو أيضاً شبهة دارءة للعقوبة .
ويحتمل القصاص عليه ، كما احتمله «القواعد»[1297]
وتبعه غيره ; لأ نّه استوفى أكثر من حقّه فيلزمه القصاص ، كما لو استحقّ الطرف
فاستوفى النفس ، ولأنّ القصاص لهما في فرض كون الأولياء اثنين ، فإذا قتله أحدهما
فكأ نّه أتلف نصف النفس متعدّياً ، وهو سبب يوجب القصاص ، كما إذا قتل الاثنان
واحداً فعلى هذا لم يقع القصاص ، ويكون قتل المستوفي من دون إذن الآخر ، كقتل
الأجنبيّ ، فيتّجه وجوب دية الأب المقتول أوّلاً في تركة الجاني ; بناءً على وجوبها
كذلك(مسألة 8) : لو تشاحّ الأولياء في مباشرة القتل وتحصيل الإذن يقرع
بينهم ، ولو كان بينهم من لايقدر على المباشرة ، لكن أراد الدخول في القرعة ليوكّل
قادراً في الاستيفاء ، يجب إدخاله فيها (10) .
بفوات محل القصاص ; لأ نّه لم يقع قتل الجاني قصاصاً ، فيكون كما لو قتلـه أجنبي
، فإن اقتصّ وارث الجاني مـن الابـن القاتل أخـذ وارث المقتصّ منه والابـن الآخر
الدية من تركة الجاني وكانت بينهما نصفين ، وإن عفا عن الدية فللأخ الذي لم يقتل
نصف الدية في تركة الجاني ، وللأخ القاتل النصف أيضاً ، ولكن عليه دية الجاني
بتمامها .
ويقع الكلام في التقاصّ ، فقد يصير النصف بالنصف قصاصاً ويأخذ وارث الجاني النصف
الآخر ، وقد يختلف المقدّر بأن يكون المقتول رجلاً والجاني امرأة ، فيحكم في كلٍّ
منهما بما يقتضيه الحال .
والأمر في ذلك سهل بعد سقوط ذلك من أصله على المختار .