المباشرة والتسبيب في القتل
(3) المباشرة والتسبيب وإن لم يكونا موضوعاً في الأدلّة بعنوانهما حتّى يلزم
البحث عن تعريفهما وبيان مفهومهما عرفاً ، بل المعيار في القصاص نسبة القتل إلى
القاتل من دون فرق بين المباشرة و التسبيب . إلاّ أنّ وقوعهما في كلمات الأصحاب
يطلب الحاجة إلى بيان المفهوم والتعريف ، وما في مثل المتن لايزيد عن بيان المصاديق
.
فنقول : المباشرة : هي إيجاد أقرب العلل إلى الزهوق ، أيّ المؤديّة إليه ابتداءً
وبلا واسطة بين الفعل والقتل ، كالضرب بالسيف على عنقه .
وأ مّا التسبيب : فهو إيجاد ما لَهُ دخل في القتل مع الواسطة ، كمنعه من الطعام
والشراب إلى أن يموت .
ولا يخفى أنّ الجامع بين المباشرة والتسبيب الدخالة في القتل الموجبة لنسبة
القتل إلى القاتل عرفاً ، وهو المناط في القصاص كما عرفت .
وأ مّا الاُمور غير الدخيلة في النسبة كالمعدّات والمقدّمات البعيدة ، فلعدم
الدخالة في النسبة فلا تكون دخلية في القتل والقصاص ، ووجودها كعدمها في ذلك ، كما
هو واضح .
ففي حفر البئر بما هو حفر لا دخالة له أصلاً في وقوع الشخص فيه وقتله به ، إذ
الوقوع مستند إلى علّته وهي التخطّي ، بخلاف العلّة التي يستند الإزهاق إليها
ابتداءً (المسمّى بالمباشرة) أو بواسطة كالجراحات القاتلة بالسراية فإنّها تولّد
السراية ، والسراية مولّدة للموت ، أو بوسائط كالرمي المولّد للجرح المولّد للسراية
المولّدة للموت فأ نّهما من التسبيب .
وبالجملة : قتل العمد منوط بدخالة الفعل في القتل : إمّا بلا واسطة وهو المباشرة
، وإمّا معها وهو التسبيب ، وإمّا ما ليس فيه الدخالة في تأثير الفعل ، بل يكون
معِدّاً (بالكسر) اصطلاحاً فلا اعتبار به فيه ، وهو المسمّى بالشرط في الباب على ما
في «الجواهر»[103] وغيره .
هذا ، مع أ نّه لا ثمرة في البحث عن التقسيم ولا عن التعريف ، بعد ما عرفتَ أنّ
المناط في القصاص والدية صدق القتل عمداً وخطأً ، وأنّ شيئاً من المباشرة والتسبيب
ليس عنواناً للحكم في الأدلّة ، وإنّما المعتبر فيها القتل عمداً والسيئة والمقتول
ظلماً وأمثالها ، فالاعتبار بصدقها دون صدقهما . نعم ، ما لا يحصل فيه الصدق
المزبور فالضمان فيه بالقصاص أو الدية لابدّ له من الدليل .
إذا عرفت ذلك فنقول : ما في المتن من ذكر الأمثلة للمباشرة والضابطـة فيها بقوله
: ـ سلام الله عليه ـ «ونحوها ممّا يصدر بفعله المباشري عرفاً» جيّد جدّاً ، وموافق
لما بيّناه شرحـاً لها وللتسبيب ، والزائـد على ذلك ـ كما فعلـه صاحب «القواعد»
وشارحها صاحب «كشف اللثام» أي الفاضل الأصبهاني ـ ليس إلاّ ذكراً للأمثلة والمصاديق
الخارجة عن شؤون الفقاهة ، هذا مع ما في الأمثلة مـن المناقشـة وإن لم تكـن
المناقشـة فيها مـن دأب المحصّل ، فتأ مّل .
وكيف كان ففي «اللثام» مزجاً بـ «القواعد» :
«وهي نوعان : الأوّل : أن يضربه بمحدّد : وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف
والسكين والسنان ، وما في معناه ممّا يحدّد فيجرح ويقطع من الحديد والرصاص والنحاس
والذهب والفضّة والزجاج والحجر والقصب والخشب ، فهذا كلّه إذا جرح به جرحاً كبيراً
يقتل مثله غالباً ، فهو قتل عمداً إذا تعمّده .
وإن جرحه بأحد ما ذكر جرحاً صغيراً لا يقتل مثله غالباً كشرطة الحجّام أو غرزه
بابرة أو شوكة ، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدع وأصل الاُذن
والاُنثيين والمثانة والأجدعين ونقرة النحر ، فمات فهو عمد أيضاً ; فإنّه ممّا يقتل
غالباً .
وإن كان في غير مقتل : فإن كان قد بالغ في إدخالها فهو كالكبير مـن الجرح ; لأ
نّه قد يشتدّ ألمه ويقضي إلى القتل ، فإذا بالغ مبالغة كذلك فقد فعل ما يقتل غالباً
.
وإن كان الغرز يسيراً أو جرحه بالكبير جرحاً يسيراً كشرطة الحجّام ، فإن بقي
المجروح من ذلك ضَمناً ـ أي مريضاً زمناً ـ حتّى مات ، أو حصل بسببه تشنج أو تآكّل
أو ورم حتّى مات فهو عمد كما في «المبسوط»[104] ; لتحقّق العلم بحصول
القتل بفعله ، كما إذا سرى الجرح فمات فإنّه يوجب القصاص . فالضابط في القصاص العلم
العادي بتسبب موت المقتول من فعله المتعمّد به ، وإن مات في الحال بغير تجدّد شيء
من ذلك فالأقرب وجوب الدية في ماله كما مرّ .
النوع الثاني : أن يضربه بمثقل يقتل مثله غالباً كاللت ـ أي الدبوس وهو فارسي ـ
والمطرقة والخشبة الكبيرة والحجارة الكبيرة ، أو يضربه بحجر صغير أو عصا ، أو يلكزه
ـ أي يضربه ـ بجمع الكفّ بها ـ أي بيده أو كفّه ـ وإن لم يجر بها ذكراً واللكزة أو
بالحجر والعصا واللكزة أي يضربه بها في مقتل أو في حال ضعف المضروب بمرض أو صغر أو
في زمن مفرط الحرّ والبرد .
وبالجملة : بحيث يقتله بتلك الضربة غالباً بحسب الزمان وحال المضروب ومحلّ الضرب
، أو تكرّر الضرب عليه حتّى يقتله بما يقتل من العدد غالباً عادة ، وهوأيضاً يختلف
باختلاف الزمان وباختلاف حال المضروب كما سمعته من عبارة «المبسوط» . وكلّ ذلك يوجب
القود وإن لم يقصد القتل بذلك ، أو ادّعى الجهل بإفضائه إلى القتل عادة ، فإنّه لو
سمع منه ذلك أدّى إلى إهدار دماء المسلمين .
أ مّا لو ضربه بشيء صغير جدّاً كالقلم والإصبع في غير مقتل ، أو مسّه بالكبير من
غير ضرب ولا مسّ عنيف ولم يكن بما يقتل بثقله ، وبالجملة فعل ما لا يحتمل استناد
القتل إليه عادة ولا نادراً ، فلا قود ولا دية ; لأ نّه لم يقتله عمداً ولا خطأً ،
وإنّما اتّفق موته مع فعل من أفعاله . وكذا يجب القصاص بالذبح ونحوه ممّا لا يدخل
في الضرب بمحدّد أو مثقل ، والخنق الذي هو كذلك»[105] .
ولا يخفى عليك أ نّه ليس في إطنابهما(قدس سرهما) إلاّ ذكر الأمثلة للمباشرة ، مع
أنّ الفاضل ذكر الخنق تارة من أقسام المباشرة واُخرى من التسبيب ، ومثله واقع من
المحقّق في «الشرائع»[106] . والإطناب كذلك وإن لم يكن فقهيّاً وراجعاً
إلى محصّل بعد أنّ المدار على الضابطة ، لكنّه مفيد في التسلّط على المصاديق
والموضوعات .
وما في «اللثام» من بيان الضابط بقوله : «فالضابط في القصاص العلم العادي بتسبّب
موت المقتول من فعله المتعمّد به»[107] ، وفي «الجواهر» من قبوله بأ نّه
موافق لما ذكره(قدس سره) : «نعم ما سمعته من الضابط المزبور في القصاص موافق لما
ذكرناه»[108] .
ففيه : أوّلاً : أنّ الضابط هو ذلك التسبّب بضميمة قصد القتل أو كون القتل ممّا
يقتل به غالباً ، لا مطلقاً كما بيّنّاه .
وثانياً : أنّ مقتضى ذلك عدم الفرق في موت المقتول بالغرزة اليسيرة مثلاً كشرطة
الحجّام ، وبين ما صار ضمناً ثمّ مات ، أو مات في الحال ; لاستناد القتل فيهما إلى
الفعل المتعمد به ، فكيف تفصيله بينهما تبعاً للمتن أي «القواعد»[109] ؟
!
وفي «المسالك» التصريح بالإشكال في مسألة الضرب بما لايقتل به غالباً أيضاً ،
بقوله : «ولا يخلو من إشكال . . .»[110] .
هذا ، لكنّ الظاهر من «المسالك» و «اللثام» و «الجواهر» الاستدلال على الفرق
بوجوه ثلاثة :