اختيار بعض الأولياء الدية أو العفو
(19) المسألة متضمّنة لمسائل أربع كلّها مشتركة في أنّ بعض أولياء الدم يريد
القصاص وبعضهم الآخر يريد عفو الجاني مجّاناً أو صلحاً ، كان الجاني مؤدّياً للمال
أو ممتنعاً من أدائه ، وإليك تفصيل المسائل .
وعمـدتها ما إذا اختار بعض الأولياء الدية عوضاً عـن القود وأجابـه الجاني
بالدفع أو بالذمّة ، فللباقي القصاص مـع أدائهم نصيب من فاداه من الدية إلى الجاني
على المشهور ، كما في «الشرائع»[1369] و «التحرير»[1370]
و «المسالك»[1371] ، وعن «المهذّب البارع»[1372]
و«المقتصر»[1373] و «ملاذ الأخبار»[1374]
و «المفاتيح»[1375] ، بل وفي «التنقيح»[1376]
و «الروضة»[1377] و «الرياض»[1378] : أنّ ثبوت القصاص
للباقين هو المشهور لانعلم خلافاً فيه ، وعن «المبسوط»[1379] : كان
للباقي القصاص عندنا في عدّة من مواضعه ، وفي «الغنية»[1380] : الإجماع
عليه .
وعلى تماميّـة ما يقال مـن أنّ هـذه الصورة مـع صورة العفو مجانـاً مـن سنخ
واحـد ، كما هـو المحكـي عـن نصّ جماعـة ، يكثر الإجمـاع فـي المسألـة ، حيث إنّ
الإجمـاع في صورة العفو إجمـاع على المسألـة أيضـاً ; لأ نّهما مـن سنـخ واحـد ،
فعـن «الخـلاف»[1381] و «الغنيـة»[1382]
تعرّضهما لصورة العفـو مجـانـاً وادّعائهما الإجمـاع عليه صريحـاً ، وعـن ظاهـر
«المسالك»[1383] و «ملاذ الأخبار»[1384]
و «الرياض»[1385] : الإجماع عليه أيضاً .
وكيف كان ، ففي «مفتاح الكرامة» : «ويظهر من جماعة أنّ مسألة العفو لاخلاف فيها
، وإنّما الشبهة أو الخلاف فيما إذا اختار أحدهما الدية ، وأوّل من فتح ذلك المحقّق
في «الشرائع» ، فإنّه قال ما أسمعناكه فيما إذا اختار أحدهما الدية ، وجزم فيما إذا
عفا البعض بعدم سقوط القصاص من غير تأ مّل ولا نسبة إلى رواية ، وتبعه على ذلك
المصنّف في «المنتهى» والشهيد الثاني في «المسالك» و «الروضة» وغيرهما ، فنسب في
«المسالك» مسألة العفو إلى الأصحاب ومسألة اختيار الدية إلى المشهور .
والحاصل أنّ المحقّق في «الشرائع» في مسألة ما إذا اختار بعضهم الدية وأجاب
القاتل نسب سقوط القود إلى الرواية ، وتبعه على ذلك المصنّف في «المنتهى» والشهيد
الثاني في «المسالك» و «الروضة» .
ونحن قد تتبّعنا أخبار الباب فوجدنا الأخبار الدالّة على سقوط القود إنّما هي في
صورة ما إذا عفا بعضهم ، وليس في الباب خبر ولا أثر يدلّ على سقوط القود إذا اختار
بعضهم الدية بمنطوقه ولا بمفهومه ، فكان الواجب على المحقّق وغيره أن يعكسوا الأمر
، كما هو واضح»[1386] .
واستدلّ للمشهور بوجوه :
أحدها : الإجماع ، والمستدلّ به «اللثام»[1387] .
ثانيها : قوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليِّه سُلْطاناً)[1388]
، فإنّ مقتضى إطلاقه ثبوت الولاية للأولياء مع أخذ البقيّة الدية ومع عدمه .
ثالثها : صحيحة أبي ولاّد الحنّاط ، قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عـن
رجل قتل وله اُمّ وأب وابن ، فقال الابن : أنا أريد أن أقتل قاتل أبي ، وقال الأب :
أنا (أريد أن) أعفو ، قالت الاُمّ : أنا أريد أن آخذ الدية ، قال : فقال : «فليعط
الابنُ اُمّ المقتول السدس مـن الدية ، ويعطي ورثـة القاتل السدس مـن الدية حـقّ
الأب الذي عفا وليقتله»[1389] .
والمستفاد منها عرفاً تقدّم مريد القصاص على مريد العفو ومريد أخذ الدية ، بل
تكون من أخبار المسألة أيضاً ، فإنّ الاُمّ والأب فيها مريدة للدية فدلالتها أوضح ،
وطلب الدية من الجاني ملازم مع قبوله ، فلا فرق بينه وبين ما أجاب القاتل بالدية
وهو المفروض في المسألة ، كما لايخفى .
وبالجملة : دلالتها على المشهور كسندها تامّة ، ولقد أجاد «المسالك»[1390]
في ذكرها في عداد الأدلّة ، وما وجدت غيره استدلّ بها .
رابعها : مرسلـة جميل بـن درّاج عـن بعض أصحابـه ، رفعـه إلـى أمير
المؤمنين(عليه السلام) في رجـل قتل ولـه وليان ، فعفا أحـدهما وأبـى الآخـر أن يعفو
، قال : إن أراد الـذي لم يعف أن يقتل قتل وردّ نصف الديـة على أولياء المقتول
المقاد منه»[1391] .
ومورد السؤال فيها وإن كان عفو البقيّة ، لكنّها دليل على محل البحث أيضاً من
جهة ترك الاستفصال في جوابه(عليه السلام) ، فتكون شاملة لعفو البعض مجاناً ولعفوه
مع المال .
والظاهر أنّ نظر «المجمع»[1392] في وجه الاستدلال بها ما بيّناه من
ترك الاستفصال ، وإلاّ فلا عموم فيها حتّى تكون شاملة لما نحن فيه .
خامسها : أصالة بقاء الحقّ ، حيث إنّ حقّ القصاص لمريد القصاص قبل جواب الجاني
بالدية والمال للمريد لها من الأولياء كان ثابتاً له قطعاً يستصحب بقاءه إلى بعد
الجواب .
ولايخفى عليك أنّ العمدة من الوجوه الخمسة الثاني ، ثمّ بعدها الثالث ، ثمّ
بعدها الرابع ، وأ مّا الخامس فمنوط بعدم الدليل ، فمع عدمه جار وتامّ ، وأ مّا
الأوّل ممنوع وجوداً وحجّة ، كما لايخفى .
وما فـي المتن من أنّ المـردود إلى الجاني نصيب مـن فاداه وإن كان ما دفعـه إلى
مـن فاداه أكثر أو أقل مـن سهمـه أو مساوياً له هـو الموافق للاعتبار ; لأ نّـه قد
ملك من نفسه بمقدار نصيب العافي ، سواء صالحه بأكثر أو أقل من نصيبه أو مساوياً له
.
هذا كلّه مع جـواب الجاني بالمال ، وهـو العمدة مـن الصور ، ومثلها بل أولى منها
بجـواز القصاص لمن أراده مـن الأولياء ما لو امتنع الجاني مـن الأداء بعد ما وقع
العفو والصلح معـه على مقدار من المال ، فإنّه بعد ما كـان له القصاص مـع أداء
الجاني المال فمع عدمه بطريق أولى ، نعم لابـدّ لـه مـن أداء سهم العافي مـن الدية
إليه .
وأ مّا لو اقتصر بعض الأولياء على مطالبته بالدية وامتنع الجاني ، فالظاهر جواز
الاقتصاص لمريده من الأولياء مع ردّ حصة المطالب بها ; لمامرّ من عدم اعتبار إذن
الجميع في القصاص ، غاية الأمر أنّ المستوفي للقصاص يضمن حصص البقيّة من الدية .
وما في المتن مـن عـدم الجـواز في هـذه الصورة مبني على مبناه فـي تلك المسألة .
هذا كلّه في صور العفو مع عدم كونه مجانيّاً ، وأ مّا صورة المجانيّة منه ، وهو
المذكور في المتن في آخر المسألة ، فجواز الاستيفاء فيها لغير العافي ، وعليه
الإجماع محصّلاً ومنقولاً مستفيضاً ، كما يظهر لمن راجع الإجماعات المنقولة في
الصورة الاُولى ، ومرّ الكلام فيها في تلك الصورة .
ويدلّ عليه آية السلطنة : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)[1393] ، وصحيحة أبي ولاّد[1394] ،
ومرسلة جميل[1395] ، من أدلّة الجواز لصورة العفو مع عدم مجانيّته ،
ودلالتهما على جواز الاستيفاء في هذه الصورة واضحة كالدلالة في تلك الصورة فغير
محتاجة إلى البيان ، لكنّ الأخبار المستفيضة التي تبلغ عددها الخمسة تدلّ على سقوط
حقّ القصاص عن البقيّة في هذه الصورة :
أحدها : صحيح عبدالرحمن بن الحجاج ـ في حديث ـ قال : قلت لأبي عبدالله(عليه
السلام) : رجلان قتلا رجلاً عمداً وله وليان فعفا أحد الوليين ، قا ل : فقال : «إذا
عفا بعض الأولياء درئ عنهما القتل وطرح عنهما من الدية بقدر حصّة من عفا ، وأَدّيا
الباقي من أموالهما إلى الذين لم يعفوا»[1396] .
ثانيها : صحيح زرارة ، عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجلين قتلا رجلاً عمداً وله
وليان فعفا أحد الوليين ، فقال : «إذا عفا عنهما بعض الأولياء درئ عنهما القتل ،
وطرح عنهما من الدية بقدر حصّة من عفا ، وأدّيا الباقي من أموالهما إلى الذي لم
يعف» ، وقال : «عفو كلّ ذي سهم جائز»[1397] .
ثالثها : خبر إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه(عليهما السلام) : «أنّ
عليّاً(عليه السلام) كان يقول : من عفا عن الدم من ذي سهم له فيه فعفوه جائز وسقط
الدم وتصير دية ، ويرفع عنه حصّة الذي عفا»[1398] .
رابعها : موثّق أبي مريم ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «قضى أمير
المؤمنين(عليه السلام)في من عفا من ذي سهم فإنّ عفوه جائز ، وقضى في أربعة إخوة عفا
أحدهم ، قال : يعطي بقيّتهم الدية ، ويرفع عنهم بحصّة الذي عفا»[1399] .
خامسها : مرسلة الفقيه ، قال : روي أ نّه إن عفا واحد من الأولياء ارتفع القود[1400]
. وهذه الأخبار قد أعرض عنها الأصحاب فليست بحجّة وإن كانت مستفيضة ، وفيها الصحيح
والموثّق ، فإنّ الخبر المعرض عنه يقال فيه : كلّما إزداد قوّة إزداد ضعفاً ،
وحملها جماعة على التقيّة .
قال في «ملاذ الأخبار»[1401] : هو الأظهر ; لاشتهار ذلك بين العامّة
، وحملت أيضاً على الاستحباب .
وحملها الشيخ في الاستبصار على ما «إذا لم يؤدّ من يريد القود إلى أولياء المقاد
منه مقدار ما عفا عنه ; لأ نّه متى لم يؤدّ ذلك لم يكن له القود على حال»[1402]
.
وتوهّم : عناية مثل «الشرائع» بتلك الأخبار لاستناده في سقوط القصاص إلى الرواية
، وليس في الأخبار ما يدلّ على ذلك إلاّ تلك الأخبار ، والمسألتان من سنخ واحد ،
كما عليه جماعة ، فالإعراض المسقط غير ثابت .
مدفوع : بأنّ المظنون ـ إن لم يكن المقطوع ـ عدم كون مراده من الرواية تلك
الأخبار ; لأ نّه أفتى بالجزم على عدم سقوط القود والقصاص عن البقيّة مع العفو
المجاني عن بعض الأولياء ، مع أ نّه المورد لتلك الأخبار ، كما عرفت ، ففي
«الشرائع» «ولو عفا البعض لم يسقط القصاص ، وللباقين أن يقتصّوا بعد ردّ نصيبمن عفا على القاتل»[1403] .
والمسألتان ليستا مـن سنخ واحـد ; لما عرفت مـن الإجماع وعـدم الخلاف ، والجـزم
بالجواز في هذه الصورة دون الصورة الاُولى ، وممّا في مثل «الشرائع» من نسبـة سقوط
القـود إلى الروايـة وعدم السقوط إلى الشهرة في الصورة الاُولى .
(مسألة 17) : إذا اشترك الأب والأجنبي في قتل ولده ، أو المسلم والذمّي فـي قتل
ذمّي ، فعلى الشريك القود ، لكـن يـردّ الشريك الآخـر عليـه نصف ديته ، أو يـردّ
الوليّ نصفها ويطالب الآخـر به . ولـو كان أحـدهما عامـداً والآخـر خاطئاً ، فالقود
على العامـد بعد ردّ نصف الديـة على المقتصّ منـه ، فإن كان القتل خطـأً محضاً
فالنصف على العاقلة ، وإن كان شبه عمـد كان الـردّ مـن الجاني . ولو شارك العامد
سبع ونحوه يقتصّ منه بعد ردّ نصف ديته (20) .