علی والتدوین المبکر للسنة النبویة الشریفة ویلیه نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

علی والتدوین المبکر للسنة النبویة الشریفة ویلیه - نسخه متنی

مصطفی قصیر العاملی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

كتاب علي والتدوين المبكر للسنة النبوية الشريفة ويليه

تمهيد


الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على من بُعث رحمةً للعالمين، محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، الأئمة الميامين.قال تعالى في محكم كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ''''وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا''''

[
سورة الحشر/ 7.] وقال: ''''يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ واحسن تأويلا''''

[
سورة النساء/ 59.]

قال أمير المؤمنين "عليه السلام": ''''فالرّادّ الى اللّه الآخذ بمحكم كتابه، والرادّ إلى الرسول الآخذ بسنته الجامعة غير المفرّقة''''

[
الشريف الرضي: نهج البلاغة/ عهد الامام أمير المؤمنين "عليه السلام" إلى مالك الاشتر.] يَعتبِر المسلمون ـ كل المسلمين ـ أنّ السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني من مصادر الشريعة الاسلامية ومعارفها بعد القرآن الكريم، ومما يؤكد أهميّة السنة النبوية ومكانتها، كونها تفسر الغامض من آيات الكتاب العزيز وتفصّل المجمل منه، فضلاً عن كونها طريقاً لتبليغ الأحكام وبيان معارف الدين.

هذا مما لا ريب فيه ولا يناقش فيه أحد من المسلمين أصلاً.

غير أن الوسائل التي انتقلت عبرها السنة النبوية الشريفة، ومرّت من خلالها حتى وصلت إلينا، أدّت إلى وقوع جدل بين المسلمين حول سلامة تلك الوسائل والطرق على نحو يمكن الاطمئنان بأن هذا الواصل إلينا هو سنة رسول اللّه "صلى الله عليه وآله وسلم"، أو أنها تعرّضت أثناء انتقالها من جيل إلى جيل، ومن طبقة إلى طبقة، لعقبات ومشاكل أدّت إلى هبوط ميزان الاعتبار بالنسبة للكثير من مفرداتها، مما يفتح الباب أمام دراسة تلك الطرق وتمحيصها.

ومما لا شك فيه أنها قد تعرضت في بعض المنعطفات إلى حالة من الدسّ والتزوير والتحريف والتشويه، تارة عن قصد، وأخرى عن غير قصد.

والبحث في هذه المسألة أخذ جانباً كبيراً من اهتمام العلماء والمحدثين، وثارت بينهم نزاعات عظيمة حول ذلك، فاندفع البعض منهم إلى اغلاق البحث تماماً بسبب حرصهم الشديد على تصحيح الواقع التاريخي للمسلمين، وابعاد التهمة عن أصحابهم ومحدثيهم ومصنفيهم، وبسبب إحساسهم بخطورة الاستجابة للتشكيكات المطروحة حول سلامة الموجود والمدوّن فيما بأيدينا من الكتب والمجاميع الحديثية، اعتقاداً منهم بأن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى فقدان الوسيلة إلى سنة الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله"، وبالتالي التخلّي عن هذا المصدر الأساس من مصادر الشريعة الاسلامية. لأجل ذلك أغلقوا باب النقاش والبحث في هذا الموضوع، ومنعوا من التعرّض لدراسة الطرق والوسائط، ووضعوا خطاً أحمر يضفي هالة من الحرمة والقداسة على الصحابة الكرام، بالمعنى الواسع جداً للصحابي

[
عرّف البخاري الصحابي بأنه: من صحب النبي "صلى الله عليه وآله" أو رآه من المسلمين، ووافقه على ذلك ابن حجر العسقلاني في الشرح وقال: ان عمل من صنّف في الصحابة يدلّ على الاكتفاء بمجرد الرؤية ولو من دون تمييز، وقال علي بن المديني: من صحب النبي أو رآه ساعة من نهار فهو من اصحاب النبي.

انظر: محمود ابو ريّة: أضواء على السنة المحمّدية/ 341، القسطلاني: ارشاد الساري 6/ 79.]، وصرحوا بأنهم حملة السنة النبويّة والواسطة بيننا وبين الرسول "صلى الله عليه وآله"، وأن التعرض لهم والتشكيك بعدالة أحد منهم أو بصحة ما نقلوا يؤدي إلى اسقاط السنّة النبويّة الشريفة، ولما كان ذلك يجرّهم إلى كارثة كبرى ـ حسب زعمهم ـ فلا بدّ من غضّ النظر عن ذلك، والتسليم بسلامة الطرق، وعدالة الصحابة جميعاً، بل اتهام من يطعن بعدالة أحد منهم بأنه يريد هدم الدين والقضاء على الشريعة.

والحقيقة أن هذا النوع من الباحثين نظر إلى الأمور بمنظار ضيق، وفاته أنّ غض النظر عن دراسة وتقييم الطرق التي انتقلت عبرها السنة النبويّة الشريفة، يشكّل خطراً أكبر على الشريعة الاسلاميّة، إذ أنه يكرّس واقعاً مرّاً، ويضفي الشرعية ـ بلا دليل ولا برهان ـ على كل ما يحتمل أنه مدسوس في كتب الحديث، وعلى كل ما كذب على رسول اللّه "صلى الله عليه وآله"، أو حرّف من أحاديثه بالزيادة أو بالاسقاط أو بالتغيير والتبديل، مما كان يحصل تارةً عن عمد خدمة لبعض المصالح الدنيويّة والمآرب السياسيّة، وأخرى عن غير عمد نتيجة لتقادم العهد وعدم التدوين.

فلماذا ندسّ رؤوسنا في التراب، ونتغاضى عن المشكلات الحقيقية التي عانى منها المسلمون في الحفاظ على الشريعة الغرّاء، لماذا نصرّ على تعديل وتوثيق من صرّح معاصروه بفسقه وانحرافه، لماذا نكابر والرسول "صلى الله عليه وآله" نفسه يصرح بكثرة الكذّابة عليه

[
المجلسي: بحار الأنوار 225/2 و 273/36 و 80/50.]

وعلى أي حال فان المشكلة ـ كما ذكرنا ـ نشأت من ضيق النظر والاقتصار على ملاحظة الأمور من زاوية واحدة، والمسألة ليست كما يتصور هؤلاء، وذلك لما يلي:

1 ـ إن تسرية الجرح والتعديل إلى جميع رواة السنة الشريفة، بما فيهم الصحابة الكرام، لن يؤدّي إلى انسداد باب العلم بالسنة ـ كما يدعى ـ، إذ أن الكثير من الصحابة الأجلاء العدول الذين أحرزت وثاقتهم قد نقلوا لنا من الروايات المتضمنة للأحكام ما يطمأن إليه، وجرح البعض ليس هدماً للسنة وانما هو تنقيةٌ لها من الشوائب الغريبة عنها.

2 ـ ان معرفة السنّة الصحيحة الثابتة النقيّة الخالية عن الأحاديث المشكوكة يهدف إلى التمسك بالدين، والاعتصام بالسنّة الحقيقية دون الأوهام والافتراءات والشبهات، وهذا هو الاسلوب العلمي الصحيح في تشييد الدين وترسيخ أركانه، وما أبعده عن الهدم.

3 ـ ان هؤلاء يدافعون عن أمور ظنيّة ـ في أحسن حالاتها ـ، ويهملون سنّة رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" القطعيّة التي دوّنت في عصره وبأمره واملائه، بل ينكرونها دون مبرّر معقول.

والمؤسف أن مصنّفيهم ومحدثيهم لا يتعرض لشيء من ذلك ولو على نحو الاحتمال، ولا يخفى ما يكمن وراء ذلك من دوافع سياسية.

فانّ الثابت عندنا بشكل قاطع لا يقبل الشك أنّ رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" ترك سنّة مكتوبة فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وأن الخلفاء منعوا تدوين السنة النبويّة الشريفة في القرن الأول الهجري

[
راجع: ابن سعد: الطبقات الكبرى 140/5، الذهبي: تذكرة الحفاظ 2/1 ـ 5، العسكري: معالم المدرستين 46/2، الجلالي: تدوين ا لسنّة النبويّة/ 263 وما بعدها و431.]، وأمروا بمحو ما كان كُتب منها، بل منعوا الرواية إلا في دائرة ضيقة وحدود معيّنة، حتّى تقادم العهد، ومضى الرعيل الأول من المسلمين الذين صحبوا النبيّ "صلى الله عليه وآله" وسمعوا منه، بل مضى تقريباً جل من قارب عهده "صلى الله عليه وآله" ممّن كانوا على صلة وثيقة وتماس مباشر بالصحابة الكرام. وبدأ المسلمون بالإهتمام بالحديث ففكّروا بجمع المتناثر منه وتدوينه في مطلع القرن الثاني كما يقولون، عندما أمر عمر بن عبدالعزيز بذلك

[
العسقلاني: فتح الباري 208/1 باب كتابة العلم، محمد ابو زهرة: الحديث والمحدثون/ 179، 245، محمد عجاج الخطيب: اُصول الحديث/ 176 ـ 177.]، على أن التدوين لم يأخذ الطابع الجدّي إلاّ على رأس المئتين كما نصّ عليه ابن حجر والحافظ الذهبي واعترف به إبن تيميّة

[
ولعل مرادهم أنه بداية التصنيف لا التدوين، فمن المعروف أن أقدم المصنفات الحديثية ترجع إلى بداية القرن الثالث.] ولقد تعرضت السنّة الشريفة خلال تلك الحقبة لهزّات عنيفة، لا يؤمن معها بقاؤها على نقائها وسلامتها، بل الأدلّة متظافرة على أن تلك الفترة شهدت نشاطاً واسعاً للوضاعين والكذابين خاصة خلال الفترة الأولى من قيام الدّولة الأموية

[
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 63/4 ـ 72.] وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إنا كنا مدّة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول اللّه، ابتدرته أبصارنا وأصغينا بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف

[
محمود أبو ريّة: أضواء على السنّة المحمدية/ 67.]

وقد كنّى "رضي الله عنه" بركوب الصعبة والذلول عن الخلط بين الكذب والصحيح في حديثهم.

إنّ قلة الإقبال على الكتابة عند العرب قبل الاسلام، وعدم إدراك قيمة التدوين من قبل الكثير من المسلمين، لم يمنع العديد من الصحابة الكرام أن يقيّدوا بعض ما سمعوه من رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" من حديث وتشير بعض النصوص إلى أنه "صلى الله عليه وآله" قد أذن بذلك، بل حث عليه، حتى أن الكثير من الصحابة الكرام نسبت لهم صحائف كانوا دوّنوها على عهد رسول اللّه "صلى الله عليه وآله"، إلاّ أن التدوين لم يصبح ظاهرة عامة، فتركت كارثة المنع من التدوين في القرن الأول الهجري والأمر بمحو واحراق ما كتب من الحديث النبوي الشريف أسوء الأثر على السنة النبوية الشريفة، فقد اتيحت الفرصة لمن يريد العبث بها، مستفيداً من عوامل عدّة، منها تقادم العهد وتفرق الصحابة والنسيان وتوسع البلاد الاسلامية، كل هذا جعل من دراسة الحديث النبوي الشريف والتثبت منه عملية شاقة تتطلب خبرة واسعة وجهوداً كبيرة.

ويبدو أنّ رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" قد أدرك بعلمه الواسع وحكمته ونظره الثاقب وتدبيره المسدّد بالوحي، أنّ الشريعة الاسلامية لكي يضمن لها البقاء والاستمرار والسلامة تحتاج إلى ثلاثة دعائم:

الاُولى: القرآن الكريم الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، وكتاب اللّه الذي فيه الهدى، ومعجزة الرسول "صلى الله عليه وآله" الخالدة. فركز "صلى الله عليه وآله" إهتمامه على نشره وحث المسلمين على حفظه والعناية به والتمسك بمعارفه واحكامه، وأمر كتّاب الوحي بتدوينه ونشر صحائفه ليحفظ من التحريف والتغيير، وقد تأتّى له ذلك، ولم يرحل عن هذه الدنيا حتى كان مجموعاً مدوّنا عند عدد لا يستهان به من المسلمين

[
نحن نعتقد بأن القرآن جمع في حياة الرسول "صلى الله عليه وآله"، وأن الجمع الذي تم بعد وفاته "صلى الله عليه وآله" كان لغرض استنساخ نسخة منه لدار الخلافة ليس إلاّ، وهناك العديد من النصوص التي رووها عن جمع عدد من الصحابة للقرآن الكريم في حياة الرسول "صلى الله عليه وآله"، فراجع: السيد جعفر مرتضى العاملي: حقائق هامة/ 90 ـ 99.]

الثانية: العترة النبوية الطاهرة من أهل البيت "عليهم السلام" الذين ربّاهم الرسول "صلى الله عليه وآله" تربية خاصة، وأهّلهم لتحمل أعباء الرسالة من بعده، فكانوا المطهّرين من الذنوب، المنزهين عن المعاصي، والأوعية النقية لاحتواء الشريعة ومعارف الدين، وقد جعلهم "صلى الله عليه وآله" مرجعاً للأمة وولاةً لأمرها، وحراساً على الدين، وأمانا من الضلال والعمى، وأوصى باتباعهم والالتزام بهم والتمسك بعروتهم الوثقى جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، فقال:

''''إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض''''

[
روى هذا الحديث عن رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" 35 صحابياً وصحابية، وقد نقله الخاصة والعامة في كتبهم ومجاميعهم ونص على صحته كثير من الحفاظ والمحدثين والفقهاء والمحققين. راجع مصادره في خلاصة عبقات الأنوار للسيد الميلاني، وفصل مصادر حديث الثقلين في مجلة رسالة الثقلين العدد السابع ص106.]

الدعامة الثالثة: سنّة رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" المسدّدة بالوحي والمؤيدة بالتنزيل وقد أشرنا في صدر البحث لاثنتين من الآيات الآمرة باتباع الرسول "صلى الله عليه وآله" من دون فرق بين حياته وما بعد وفاته:

''''وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم''''

[
سورة آل عمران/ 144.]

''''من يطع الرسول فقد أطاع اللّه ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً''''

[
سورة النساء/ 80.]

ولم يكن المسلمون الذين عايشوا الرسول "صلى الله عليه وآله" على مستوى واحد في قدراتهم الفكرية وفي عمق إيمانهم وفي امكاناتهم التي تؤهلهم لحمل ثقل الرسالة ودرك جميع غاياتها وأسرارها، فكان الرسول "صلى الله عليه وآله" يلقي على الناس من المعارف ما يتناسب مع طاقاتهم الذهنية، ويبيّن لهم من أحكام الدين وتكاليفه ما يحتاجونه في ابتلاءاتهم اليوميّة.

إلاّ أن الرسالة المحمّدية باعتبارها الرسالة الخاتمة لا بدّ لها أن تحوي من الاحكام والمعارف ما يفي بحاجات كل العصور والأجيال وما يناسب كل العقول والأذهان، فمن هنا تبرز أهميّة الدعامة الثانية باعتبارها المؤهلة لأداء هذا الدور، وتحمل هذه المسؤولية وليس ذلك ناشئاً من عجز الرسول "صلى الله عليه وآله" عن تبليغ الرسالة أو تقصيره ـ والعياذ باللّه ـ بل من جهة خصوصيات الزمان والمكان واختلاف الناس، والمستجدات التي تستدعي البيان عند وقت الحاجة، وايصال ما يخص الأزمنة المتأخرة لأهلها سالماً، فضلاً عن مهمّة حفظ الأحكام الثابتة من الضياع وحراستها من تلاعب الأهواء واختلاف الأذواق، فان التبليغ بنفسه لا يفي بمثل هذه المهمة، ومن أجل كل ذلك كانت الامامة ـ بهذا المعنى الواسع ـ من ضرورات الرسالة.

وقد عمل الرسول "صلى الله عليه وآله" ـ بعد مهمّة الاعداد والتأهيل ـ على تعريف الأئمة الذين أعدّهم لتحمل الأمانة بكل ما تحويه الرسالة الخاتمة من معارف وأحكام، ورسم لهم كل ما يحتاجونه في طريق قيادة الأمة وولاية أمرها، فكانوا بذلك الثقل الثاني.

الرسول "صلى الله عليه وآله" لم يكن ضنيناً بشيء من أحكام الشريعة ولا معارف الدين، وهو المبعوث لتبليغها لا لكتمانها، إلاّ أن عامة الناس الذين آمنوا به وصدّقوه لم يكونوا يملكون القلوب والأوعية التي تؤهلهم لتحمل كل أسرار الرسالة ودقائق معارفها، وليس ذلك انقاصاً من شأنهم وتوهيناً لهم، ونحن جميعاً نعرف أن المعارف الإلهية وعظيم أسرارها إذا ألقيت على عوام الناس، لم يدركوها وربما تركت آثاراً سلبيةً بل ربما أدت إلى انحرافهم عن جادة الصواب.

ولأجل هذا نرى أساتذة الفلسفة والعرفان يوصون تلامذتهم بالحرص على كتمان علومهم عن عامة الناس وعدم إلقائها إلى من لا يتحملها، مع أنها من العلوم والمعارف التي يتوصل إليها الانسان بعقله وفكره، فكيف بما هو فوق عقول البشر وادراكهم.

أضف إلى ذلك أنّ الناس لا يحفظون كل ما يسمعون، ولا يستوعبون كل ما يحفظون، والشواهد على ذلك كثيرة جداً، فبعد رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" اضطربت آراء المسلمين في أبسط الأمور وأيسرها، فقد اختلفوا في عدد تكبيرات صلاة الميت ولم يحفظوا سنة رسول اللّه فيها حتى جمعهم الخليفة على عدد، رغم أنهم صلوا معه مئات وربما آلاف المرات

[
مصنف إبن أبي شيبة 183/3 ـ 188، كتاب الجنائز. وراجع كتب الحديث الاُخرى.]

وأمثال ذلك مما لا يخفى على من ألقى نظرة على كتب الفقه والحديث والسيرة.

فعمد رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" إلى علي بن أبي طالب "عليه السلام" الذي تربّى في حجره وصنع على عينه، بعد أن عرف فيه القدرة الكافية والمؤهلات المناسبة، فأخذ يزقه العلم زقاً ويلقنه المعارف يوماً بيوم حتى صار مستودع علمه والأمين على ما علّمه اللّه تعالى من العلوم والمعارف. وفي هذا يقول "عليه السلام":

''''علمني رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" ألف باب من العلم يفتح لي كل باب ألف باب''''

[
المجلسي: بحار الأنوار 144/40، وفي معناه أحاديث كثيرة، راجع ص127 ـ 145 من نفس المصدر.]

ويقول الرسول "صلى الله عليه وآله" فيما تواتر عنه:

''''أنا مدينة العلم وعليّ بابها''''

[
راجع طرق هذا الحديث في كتاب ''''فتح الملك العليّ بصحة حديث باب مدينة العلم عليّ'''' للامام المحدث أحمد بن محمد بن الصدّيق الحسني المغربي، وكتاب ''''احقاق الحق'''' للشهيد التستري وملحقاته للسيد المرعشي 469/5 ـ 501 و277/16 ـ 298، و415/21 ـ 428، حيث أحصى طرقه من كتب العامة، وراجع أيضاً كتاب ''''الفصول المائة'''' للسيد ناظم زاده القمي 509/2 ـ 520، وغيرها من المصادر.]، وفي بعض الروايات: ''''فمن أراد المدينة فليأت الباب''''، وفي بعضها: ''''فمن اراد العلم فليأتها من قبل بابها''''.

ويقول أمير المؤمنين "عليهما السلام":

''''ولقد كنت أتبعه |يعني رسول الله "صلى الله عليه وآله"| إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة''''

[
الشريف الرضي: نهج البلاغة/ الخطبة 192.]

ولم يكتف رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" بذلك بل كان يأمر علياً "عليهما السلام" أن يكتب كل ما يملي عليه فقال "عليه السلام" مرة لرسول اللّه "صلى الله عليه وآله":

''''يا نبيّ اللّه، أتخاف عليّ النسيان؟ قال: لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت اللّه لك أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن اكتب لشركائك، قال: قلت: ومن شركائي يا نبيّ اللّه؟ قال: الأئمة من ولدك...''''

[
المجلسي: بحار الأنوار 232/36، والصدوق: كمال الدين 206/1، وأمالي الصدوق/ 327، وأمالي الشيخ الطوسي 454/2، والصفار: بصائر الدرجات/ 167.]

وكان من جملة ما أملاه عليه رسول الله "صلى الله عليه وآله" وكتب بخطه صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم، وهذه الصحيفة اشتهر أمرها عند الشيعة وتحدث عنها أئمة أهل البيت "عليهم السلام"، وقد حوت كل ما يحتاج إليه الناس من الأحكام حتى قيام الساعة، وبقيت سنداً قطعياً دوّن باشراف من الرسول الاكرم "صلى الله عليه وآله" وحفظ عند أمناء الأمة وحفظة الدين أئمة أهل البيت "عليهم السلام"، من ضمن ودائع النبوة ودلائل الإمامة.

وكان هناك عدد آخر من الصحائف والمدوّنات التي أملاها رسول الله "صلى الله عليه وآله" على علي "عليه السلام" وخطها بيمينه نستعرضها في نهاية البحث إن شاء اللّه.

وهذا أهم ما يميّز مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" التي نتمسك بها، حيث أنها تعتمد في تلقي الأحكام الشرعية والمعارف الدينية على الدعائم الثلاثة المتقدمة، وقد منّ اللّه علينا بهذه النعمة الكبيرة التي نتمنّى ونحب أن تعم جميع المسلمين وأن ينعموا بها ويتفيّئوا ظلالها ويتذوقوا حلاوتها.

وأخيراً.. أليس من الجدير بنا ـ نحن المسلمين ـ إذا كنا طلاب حق أن نبحث عن سنّة رسول اللّه "صلى الله عليه وآله" التي انتقلت عبر الوسائل المأمونة والمضمونة، الخالية عن الشوائب، النقية عن الغرائب، فنشد الرحال إليها ونعض عليها بالنواجذ والاسنان؟! ''''فماذا بعد الحق إلاّ الضلال''''

[
سورة يونس/ 32.]

/ 16