بحث حول المهدی (عج) نسخه متنی1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بحث حول المهدی (عج) - نسخه متنی1

سید محمد باقر صدر؛ تحقیق و تعلیق: عبدالجبار شرارة

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
بسم الله الرحمن الرحيم \n
بسم الله الرحمن الرحيم
بحث حول المهدي (عج)
الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر
قدس سره الشريف
تحقيق و تعليق
الدكتور عبدالجبار شرارة
مقدمة المحقق
الاعتقاد بالامام المهدي المنتظر عليه السلام قضية أساسية في عقيدة المسلمين و قد شغلتهم و ما تزال منذ بشّر خاتم المرسلين (ص) به و أكّد ظهوره في آخر الزمان في أحاديث جمّةٍ ، و في موارد و مناسبات لا تحصى كثرة بلغت حد التواتر ، فصار الاعتقاد به من الضروريات الإسلام ، و مع ذلك كله فقد نجم في القرون الماضية و في قرننا الحالي من أنكر و شكّك فيه إمّا تأثراً بمناهج مادية أو بسبب عصبيةٍ مذهبية أو لجهلٍ بما أودع في الصحاح و المسانيد و السنن من مئات الروايات[1] عن طريق الفريقين السنة و الشيعة ، و لقد ألّف العلماء المتقدمون و المتأخرون عشرات الكتب ، كما كُتبت فصول أو دراسات تضمنت أدلة معتبرة و احتجاجات سليمة و قوية على وجود المهدي(ع) و صدق القضية بما لا ينبغي معه أن يرتاب فيه مسلم صحيح العقيدة يؤمن بما يُخبر به الرسول (ص) .
و لقد بلغ رسوخ هذه العقيدة في الأمة المسلمة أن استغلها بعض الأدعياء ، و ادعوا المهدوية ، و لكن سرعان ما انكشفوا و افتضحوا ، كما افتضح أدعياء النبوة ، و قد حاول الدكتور أحمد أمين في كتابه ( المهدوية في الإسلام ) أن يجعل من ادعاء المهدوية سبباً للطعن على فكرة المهدي و أصالتها ، و لكن العكس هو الصحيح . فالادّعاء يدل على أن المدعين يستغلون حقيقيةُ موضوعية ً ، و اعتقاداً راسخاً عند الناس ، ثم لو صح أن الادعاء مُبطل لأصل القضية ، فلازم ذلك إبطال النبوات لكثرة المدعين.
و الأمر المثير للعجب أن يتصدى بعض أدعياء العلم و المعرفة قديماً و حديثاً للتشكيك و التشويش على الأمة المسلمة ، لا لشيءٍ إلا بسبب قصور فهمهم عن إدراك أسرار هذه العقيدة ، و مقاصدها السامية ، أو بسبب غرض أخر ، و من هؤلاء في عصرنا الحديث المستشرقون و تلامذتهم من أمثال كولدزيهر ، و فلهاوزن ، و فان فلوتن ، و مكدونالد ، و برنارد لويس ، و مونتغمري وات ، و ماسنيون و غيرهم ممن تبعهم من تلامذتهم من أبناء الإسلام ، و سار على منهجهم في إثارة الشبهات و التشكيك بعقائد الإسلام و مقولاته و في القرآن الكريم و السُنة المطهرة ، ثم سلك هذا المسلك الوهابية و من سار في ركابهم من أبناء الشيعة و السنة في التشكيك بعقيدة المهدي المنتظر (ع)، و ليس لدى جميع هؤلاء ما يدعم إنكارهم من الأدلة و المستمسكات الموثوقة ، بل الدليل قائم على خلاف مذاهبهم و البرهان ساطع و قاطع على صحة العقيدة في المهدي (ع) ، لثبوت التواتر كما حكاه غير واحدٍ ، و منهم البرزنجي في الإشاعة لأشراط الساعة ، و الشوكاني في التوضيح كما سيأتي .
والغريب أن هؤلاء يتوسلون بنفس الذرائع ، و يتعللون بنفس التعلّلات التي توسل بها منكرو ما جاء من أنباء الغيب التي احتواها القرآن الكريم ، أو التي نطق بها الرسول الكريم نبينا محمد (ص) كإنكارهم الإسراء و المعراج[2] .
إن قراءة متأنية لما أثاره المشككون من إشكالات ، و ما يطرحونه هذه الأيام من تشويشات ، كما في مزاعم و ادعاءات السائح ، و القصيمي ، و غيرهم من المشوشين - و هي لا تختلف عما طرحه الخصوم قبلهم - الذين هم عن العلم بعيدون ، و بعرفة علم الحديث روايةً و درايةً أبعد ما يكونون ، و بحقائق التاريخ و وثائقه على أتم الجهل أو العناد ، إن هذه القراءة ستوقفنا على سذاجة تفكيرهم و سُقم و اختلال مناهجهم في التعامل مع هذه القضية الخطيرة[3] .
و من هنا كان التصدي الإمام الشهيد الصدر (رض) لها بالبحث و الدراسة وفق منهج علمي جديد ، يعتمد النقل الصحيح ، و الدليل العقلي السليم ، و مناقشة القضية مناقشةً هادئة رصينة متعرضاً لكل الإشكالات المثارة في المقام ، و الواقع أننا إزاء ما أثاره الخصوم قديماً و حديثاً لم نجد - في حدود تتبعنا القاصر - مَن درسَها و ناقشها بمثل هذا المنهج و الأسلوب الذي اتبعه الإمام الشهيد الصدر (رض) ، كما سيتضح للقارئ العزيز .
و لعل من المناسب في هذه المقدمة أن نتعرف على جملة حقائق أو ملاحظات يمكن أن تشكل مدخلاً مناسباً لبحث السيد الشهيد (رض) الذي وُفقنا و الحمد لله إلى تحقيقه تحقيقاً علمياً حديثاً .
و يتضمن المدخل الإلمام بالأمور الأتية :
أولاً: منهج المشككين قديماً و حديثاً .
ثانيا: منهج المثبتين :
1-المنهج الروائي .
2-المنهج العقلي ( منهج الشهيد الصدر (رض)) .
[1] راجع : المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنة و الإمامية / الشيخ نجم الدين العسكري ، و فيه أكثر من أربعمئة حديث من كتب أهل السنة .
منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (ع) / العلامة الشيخ لطف الله الصافي ، و فيه ما مجموعه (6000) ستة آلاف حديث عن طريق الفريقين .
[2] راجع : تفسير ابن كثير 3 : 9 و ما بعدها تفسير أول سورة الإسراء .
[3] راجع مناقشة السائح و أمثاله في ( نقد الحديث بين الاجتهاد و التقليد ) للسيد محمد رضا الجلالي المنشور في مجلة تراثنا / العددان 32 و 33 - السنة الثانية 1413 هـ - إصدار مؤسسة آل البيت عليهم السلام .
أولاً : منهج المشككين
ينطلق المنكرون للإمام المهدي المنتظر عليه السلام من دوافع و منطلقات لا تنسجم مع منهج الإسلام العام في طرح العقائد و الدعوة إلى الإيمان بها ، فمنهج الإسلام الذي يعتمد و المنطق و الفطرة ، يقوم في جانب مهمٍ منه على ضرورة الإيمان بالغيب ، و تتكرر الدعوة في القرآن الكريم إلى ذلك ، إذ هناك عشرات الآيات[1] التي تتحدث عن الغيب و الدعوة إلى الإيمان به ، و المدحة عليه كما في قوله تعالى ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ) البقرة 2-3 ، و في الحديث النبوي الشريف[2] كذلك ، إذ هناك مئات الروايات و بصورٍ متنوعة و عديدة ، و كلها تؤكد الإيمان بالغيب و على أنه جزء لا يتجزأ من العقيدة ، و أنّ هذا الغيب سواء تعقّله الإنسان و أدرك جوانبه أو لم يستطع إدراك شيء منه و خفيت عليه أسراره ، فإنه مأمور بالإيمان ، غير معذورٍ بالإنكار ، بلحاظ أنّ مثل هذا الإيمان هو من لوازم الاعتقاد بالله تعالى ، و بصدق سفرائه و أنبيائه الذين يُنبئون و يُخبرون بما يُوحى إليهم ، كما هو الأمر في الإيمان بالملائكة و بالجن و بعذاب القبر و بسؤال الملكين ( منكر و نكير ) و بالبرزخ[3] و بغير ذلك من المغيّبات التي جاء بها القرآن الكريم أو نطق بها الرسول الأمين و نقلها إلينا الثقات المؤتمنون ، و إذن فكلّ تشكيك بشأنها - أي قضية المهدي (ع) - إنما يتعلق بأصل التصديق بالغيب ، و الكلام فيه يرجع إلى هذا الأصل .
و من هنا حاول المنكرون لعقيدة المهدي (ع) أن يهربوا ، و ينأوا بأنفسهم عن طائلة ذلك الاعتقاد ، فلجأوا إلى التشكيك بالأخبار الواردة بشأنه أو تضعيف أسانيدها كما فعل ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثاني و الخمسين الذي عقده في أمر الفاطمي ، حيث ضعّف الأحاديث المروية في المهدي مع اعترافه بظهور المهدي (ع) آخر الزمان ، و بصحة بعض الأحاديث المروية بشأنه ، و تبعه عدد من المقلدين أمثال علي حسين السائح أُستاذ كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا في بحثه ( تراثنا و موازين النقد )[4] إذ تعرّض فيه لموضوع المهدي المنتظر(ع) ، و تعلق بالخيوط العنكبوتية التي نسجها ابن خلدون حول عقيدة المهدي (ع) ، و حسب أنه لجأ إلى ركن شديد ، و أنه سيرقى عليها إلى السماء ، غافلاً عن أنه تشبث بأوهن البيوت .
و عندما اصطدم هؤلاء بعدم إمكانية ردّ تلك الروايات أو تضعيفها لكثرتها ، و تعدد طرقها ، و صحة أسانيد عدد كبير منها كما أثبتها أئمة الحديث[5] ، لجأوا مرة ً أخرى إلى إحاطة أمر المهدي(ع) بالأساطير التي اخترعوها ، كاختراعهم أُكذوبة السرداب التي لا أصل لها عند المعتقدين به ، و قد ناقشها الشيخ العّلامة الأميني مناقشة وافية أبان تخبط القوم الخصوم في الأساطير التي نسجوها تارةً في موقع السرداب - إذ اختلفوا فيه اختلافاً مضحكاً - و تارةً أُخرى في مواقف الشيعة و طقوسهم المزعومة حول السرداب[6] .
و لجأ آخرون إلى إنكار ولادته[7] الميمونة بإغراء ذوي المطامع[8] أو الطموح السياسي و الاجتماعي لتبني هذا الإنكار و الإفادة منه ، إلى غير ذلك من التعلقات الواهنة التي تسقط لدى عرضها على الحقائق الوفيرة ، فضلاً عن مقتضيات الأحاديث الصريحة الصحيحة .
و بالجملة فإن منهج المشككين لم يخرج عن مثل تلك المنطلقات و التوهمات أو المغالطات المنكرة ، فضلاً عن تعارضه مع الأصول المعتبرة الدينية و الروائية .
و لعل من المناسب أن نورد ضمن هذا المنهج ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أمثال إحسان إلهي ظهير[9] و البنداري[10] و السائح ، و من احتذى حذوهم ، و قلدهم تقليداً أعمى من المنسوبين إلى الشيعة .
و ملخّص ما أثاروه و استندوا إليه أمور نذكرها كما وردت على ألسنتهم ، ثم نناقش أسس مدّعياتهم و منهجهم ،
و ذلك كما يأتي :
1-قالوا : إنّ الشيعة وقعوا في حيرة و اضطراب بعد وفاة الإمام العسكري(ع) ، و خاصة فيما يتعلق بولادة الإمام المهدي ( محمد بن الحسن ) ( ع) ، لوجود الغموض فيما وردت عنه من طريق الأئمة (ع) عندما سُئلوا عنه .
2-قالوا : إنّ الشيعة انقسموا و تفرقوا إلى أربعة عشرة فرقة في مسألة الإمام بعد وفاة الإمام الحسن العسكري ، و أن أمر الإمام المهدي لو كان واضحاً و مهماً و جزءاً من المذهب الجعفري لما جاز الإختلاف فيه ، و لما أمكن أن يبقى أمره سراً غامضاً .
3-زعموا أنّ الروايات التي تتحدث عن هوية الإمام المهدي (ع) ضعيفة و موضوعة و مختلفة ، سواء منها ما يتعلق بإسم أمه ، أم بتاريخ ولادته ، أم بما لا يمس ولادته ، أم بغيبته و سفرائه .
و قد ختم أحدهم تخرصاته زاعماً بأنه لم يرفض إماماً ثبت وجوده من أهل البيت (ع) ، إنما حصل عنده شكّ بولادة الإمام الثاني عشر ، لعدم توفر الأدلة الكافية - بحسب زعمه - أو لعدم قناعته بها أي بالأدلة المذكورة ، و ذكر أنه لا يستبعد أن يطيل الله عمر إنسان كما أطال عمر النبي نوح (ع) ، بالرغم من عدم الحاجة و الضرورة لذلك . و أنه يبحث عن الأدلة التي تثبت أن الله تعالى قد فعل هذا بشخص آخر ، لأنه لا يمكن أن يعتقد بحدوث هذا عن طريق القياس و التشبيه ، ثم قال : " و قد كان سيدنا الصادق يرفض القياس بالأمور الفرعية الجزئية فكيف في الأمور التاريخية و العقائدية " .
هذا ملخص ما أوردوه و انفتقت به عبقرياتهم و هم يحسبون أنهم جاءوا بما لم يتنبه إليه الأوائل .
و ردّاً على هذه الإشكالات ، و جواباً عن هذه الإثارات ، نقول :
أولاً : إنّ وجود الغموض في تحديد هوية الإمام المهدي (ع) ، و وقوع الحيرة لدى الشيعة - لو صحّ كما صوّره الخصم و ضخّمه - هو دليل على الخصوم و ليس لهم ، إذ عدم تحديد الهوية و الإصرار على بقاء الأمر سراً دليلٌ على وجود الإمام و الخوف عليه من الأعداء لا على عدم وجوده ، كما توهّموا .
فالأئمة عليهم السلام - كما وردت الروايات[11] - لم يريدوا الكشف عن النفاصيل المتعلقة بحياة الإمام المهدي (ع) و ولادته الميمونة ، لمعرفتهم بتكالب الأعداء في طلبه ، و جدّهم و تربّصهم به ، و قد كانوا يبثون العيون و يترصدون كلّ حركة للعثور على الإمام و التخلص منه ، بعد أن تيقنوا بالأمر و شاهدوا ترقّب الأُمة و تطلعها لمقدمه الشريف ليملأ الأرض قسطاً و عدلاً بعد أم مُلئت ظلماً و جوراً .
و كيف لا يحرص الأئمة عليهم السلام على حياته العزيزة ، و قد فعل سلاطين الجور الأفاعيل ، و ارتكبوا الحماقات و الشناعات بحق أهل البيت و ذرية الرسول الأكرم (ص) ، إذ طاردوهم و سجنوهم و أذاقوهم التشريد و القتل أخذاً بالظنِة و التُهمة و الوشاية المغرضة ، و دونك التاريخ فاقرأ في ( مقاتل الطالبين ) الأصفهاني العجب العجاب .
و إذن فكيف يكون الحال و قد اطّلع هؤلاء السلاطين على الروايات في صحاح المسلمين و مسانيدهم عن المهدي (ع) من العترة الطاهرة ، و من ذرية فاطمة عليها السلام و من أولاد الحسين عليه السلام تحديداً ، و أنه سيظهر ليملأها قسطاً و عدلاً ، فهذه المعرفة اليقينية قد خلقت شعوراً قوياً لدى الحكام الظلمة بأنّ عروشهم ستنهار . و كان هذا الهاجس هو الذي يفسّر لنا تلك الإجراءات الغريبة و غير الاعتيادية التي اتخذتها السلطة الحاكمة عند سماع نبأة وفاة الإمام الحسن العسكري عليه السلام مباشرة ، و ليس هناك من تفسير معقول سوى اعتقادهم بوجود الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن ، و أنه الإمام الموعود كما نطقت به الأخبار المتواترة لدى السنة و الشيعة ، و لذا أسرعوا إلى دار الإمام عليه السلام و اتخذوا مثل تلك الإجراءات الاستثنائية بدءاً من التفتيش الواسع و الدقيق ، إلى حبس جواري الإمام و إخضاعهن للفحص [12] ، كل ذلك في محاولة يائسة للقبض على الإمام . و لاعجب فقد حصل ذلك من نظرائهم ، و حدّثنا القرآن الكريم عن فعل فرعون للقبض على النبي موسى عليه السلام فنجاه الله من الكيد .
و من هنا نفهم السبب في إخفاء الإمام الصادق عليه السلام هوية المهدي و التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر .
و ليست الحيرة بعد ذلك و الإضطراب إلا حالة طبيعية في ظل مثل تلك الظروف و الملابسات الخاصة التي رافقت قضية المهدي عليه السلام في وجوده و ولادته ، و شغب السلطة و تمويهاتهم و إعلامهم الزائف ، و إذن فليست ( الحيرة ) إلا بسبب تلك الظروف و الملابسات ، فضلاً عن أن الروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام قد أشارت إلى وقوع مثل هذه الحيرة و الفتنة و التفرق ، كما نقل ذلك ابن بابويه القمي في ( التبصرة ) ، و الشيخ النعماني في ( الغيبة ) الباب الثاني عشر .
ثانياً : قولهم بضعف الروايات و اختلاقها ، و لا ندري هل أنهم يفرّقون بين الضعيف و الموضوع أم هما عندهم سواء ؟ ثم لماذا هذا الخلط المقصود بين مسألة وجود الإمام الحجة (ع) الثابتة بالطرق الصحيحة و بين بعض الروايات التي تلابس ( حدث الولادة ) ؟ و العجب من ركوب هؤلاء جميعاً هذه الجرأة المفضوحة إذا إنّ روايات المهدي (ع) لم تروها كتب الشيعة فحسب ، و لم ترد عن طرقهم فقط ، و إنما روتها الصحاح و المسانيد و الجوامع الحديثية المعتبرة كصحيح أبي داود ، و صحيح البخاري و شروحه ، و مسند أحمد بن حنبل ، و جامع الطبراني ، و جمعها السيوطي في العرف الوردي [13] من عدة طرق ، و حكى تواترها البرزنجي في الإشاعة [14] و كذا الشوكاني في التوضيح[15]، و نقل ذلك أخيراً الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول [16] .
فانظر إلى جهل المشككين كيف رموا ما صحّ و تواتر عند الجمهور المسلمين من السنة و الشيعة بالوضع الاختلاق و اعجب لجرأتهم و شغبهم ! إذ لا يصح بعد ذلك شيء مما تناقله الرواة من حوادث التاريخ ، و أسماء الأعلام ، و آراء المذاهب المختلفة .
ثالثا : استدل بعضهم على نفي وجود الإمام المهدي (ع) و ولادته بقوله : إن الشيعة اختلفوا و انقسموا -على حد زعمه - إلى سبعة عشرة فرقة بعد وفاة الحسن العسكري (ع) ، و هذا يدل - بحسب زعمه - على عدم وجود الإمام !!
و لعل من المناسب أن ننبه إلى أن الاختلاف حول موضوع أو قضية أو شخص لا يستلزم العدم ، إذ لو جرينا على هذا المنطق لما قامت عقيدة ، و لا ثبت دين ، و لا استقام شأن من الشؤون ، فالاختلاف قائم دائم في العقائد ، و في التواريخ ، و في الشخصيات ، و في الحوادث الواقعة ، و في الفروع ، و في سائر الأمور ، و قد تفرق أبناء الفرقة الواحدة إلى فرقٍ و طوائف و اتجاهات و آراء كما حدث عند المعتزلة و الخوارج و الأشاعرة[17] وغيرهم . . ثمّ ألم تسمع بما تناقله أهل الحديث من الرواية المشهورة و هي قوله (ص) : " . . . و تفترق أُمتي على ثلاث و سبعين فرقة " [18] .
و نتسائل هنا حول أي شيء كان الإفتراق ؟ و هل يستلزم ذلك نفي ما تفرقوا ( فيه ) لهذا السبب ؟! و إذن لا تبقى عقيدة ، و لا تسلم حقيقة ، و لا يستقيم أمرٌ بسبب وقوع الافتراق و الانقسام في ذلك بحسب المنطق .
و السؤال الأهم ، ما هي هذه الفرق التي انقسم إليها الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (ع) ؟ و ما هي تسمياتهم ؟ و من هم زعماء و رجال هذه الفرق المزعومة ؟
لقد قال الشهرستاني في الملل و النحل " و أما الذين قالوا بإمامة الحسن -العسكري(ع)- : فافترقوا بعد موته إحدى عشرة فرقة ، و ليست لهم ألقاب مشهورة ، و لكنا نذكر أقاويلهم . . " [19] . و إذن هو لا يعرف أسماؤهم و لا رجالهم ، و هم حسب زعمه إحدى عشرة فرقة ، أما هؤلاء المقلدون الكذابون من أمثال إحسان إلهي و من تابعه أخيرا فقد زادوا العدد فرقاً أخرى ليس لهم اسم و لا رسم ، حتى أوصلها أحد هؤلاء المفضوحين إلى سبع عشرة فرقة !! و أنى لهم بعرفتها و هي من مختلقاتهم ؟ و لذا لم يذكر أحد منهم زعيماً أو رجلاً معروفاً في التاريخ من هذه ( السبع عشرة ) فرقة ، بل و لم يجرأ أحد هؤلاء المفترين على الشيعة أن يشير إلى مكان أو زمان وجودهم .
و يحسن أن ننقل تعليقة العلامة عبدالحسين شرف الدين في الفصول المهمة حول هذه الكذبة التي أطلقها الشهرستاني في ملله ، قال العلامة مُعقباً : " و ليته أسند شيئاً من الأقاويل التي نقلها عن تلك الفرق إلى كتاب يتلى أو شخص خلقه الله تعالى ! و ليته أخبرنا عن بلاد واحدة من تلك الفرق أو زمانها أو اسمها ! فبالله عليك ، هل سمعت بفرق متخاصمة ، و نحل آراؤها متعاركة لا يُعرف لهم في الأحياء و الأموات رجلٌ أو امرأة ؟! و لا يوجد في الخارج لهم مسمى و لا اسم ؟!! " [20] .
و الظاهر أن أحدهم قد أدرك خطأه و اشتباهه فقال أخيراً : إني لم أرفض إماماً ثبت وجوده من أهل البيت عليهم السلام ، و إنما حصل عندي شك بولادة الإمام الثاني عشر . زاعماً أن السبب هو عدم قدرة توفر الأدلة الكافية ، أو عدم قناعته بالأدلة !!
و السؤال الذي نثيره هنا هو ، عن أي نوعٍ من الأدلة يبحث هؤلاء ؟ و هل هناك أدلة أقوى من إطباق الطائفة و علماء الأمة و رواتها الثقات عاى مثل هذا الأمر ، أعني ولادة الإمام الحجة ابن الحسن عليه السلام ؟ إذ ليس هناك من سبيل إلى ثبوت مثل هذه الأمور إلا الخبر الصحيح ، و توفر الشواهد ، و قيام القرائن و المؤيدات من العقل و المنطق ، و قد ثبت من كل هذه الجهات .
و لعل من المناسب الإشارة إلى ما حققه السيد ثامر العميدي في كتابه ( دفاع عن الكافي ) الجزء الأول ، و أثبت ولادة الإمام و استمرار وجوده الشريف بالروايات و الأحاديث الصحيحة ، ثم بالنقل التاريخي المتواتر ، كما أورد اعترافات و شهادات الفقهاء و المحدثين و المفسرين و المؤرخين و أهل التحقيق و الأدباء و الكتاب ، و كلهم من أهل السنة بولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري (ع) ، و نقل ذلك عنهم بدءاً من بداية القرن الرابع الهجري كالروياني في المسند ، و سهل بن عبدالله البخاري ( ت /341هـ ) في سر السلسلة العلوية ، و الخوارزمي ( ت/387 هـ) في مفاتيح العلوم طبعة ليدن 1895 ميلادية .
كما أورد إعترافات من رجال القرن الخامس إلى القرن الرابع عشر ، و منهم :
· -أبو نعيم الأصفهاني ( ت/430 هـ) في الأربعين حديثا .
· -يحي بن سلامة الخصفكي الشافعي (ت/568 هـ) .
· -تذكرة الخواص لابن الجوزي .
· -محي الدين بن عربي ( ت/638 هـ) في الفتوحات المكية على ما نقله الشعراني في اليواقيت و الملك المؤيد .
· -أبي فداء اسماعيل بن علي ( ت/732 هـ) في المختصر في أخبار البشر .
· -ابن الصباغ المالكي ( ت/855 هـ) في الفصول المهمة .
· -جلال الدين السيوطي ( ت/911 هـ) في احياء الميت .
· -ابن طولون الحنفي مؤرخ دمشق ( ت/953 هـ) في كتابه الأئمة الإثنا عشر .
· -أحمد بن يوسف أبو العباس القرماني الحنفي ( ت/ 1019 هـ) في كتابه أخبار الدول .
· -الشبرواي الشافعي ( ت/ 1171 هـ) في الإتحاف بحب الأشراف .
· -محمد أمين السويدي ( ت/ 1246 هـ) في سبائك الذهب .
· الزركلي ( ت / 1396 هـ) في الأعلام .
و هذا الكم الكبير من الروايات و النقول و الشواهد و الشهود ألا تكفي للإقتناع بوجود شخص و ولادته ؟
و إذا لم يكن ذلك كله كافياً و دليلاً ، فلازمه بالضرورة الشك في كل الحوادث الماضية و الشخصيات العلمية و التاريخية و ما جرى في غابر الزمن البعيد و القريب و عند ذاك لا يصح شيء ، و لا يثبت شيء ، فهل هذا يرضي مثل هؤلاء المتطفلين على البحث و التحقيق ؟‍‍‍‍‍‌
و أما إذا كان الأمر من جه تعقل الموضوع ، فدونك ( بحث حول المهدي ) للشهيد الصدر- و هو هذا الكتاب الذي بين يديك -فهو الشافي الكافي ، و الحجة الدامغة و البرهان القاطع لمن يفكر بعقله ، و لا يتعبد بما نقله و حكاه ذوو الأغراض المعروفه و المغالطجات المفضوحة أمثال ظهير و البنداري و غيرهم .
و لعل من الأمور التي تدلك على المفضوحة هو قولهم : " لا نستبعد أن يطيل الله عمر إنسان . . . و لكن لا يمكن الإعتقاد بحدوث هذا عن طريق القياس ، و قد كان سيدنا الصادق يرفض القياس في الفروع ، فكيف في الأمور التاريخية و العقائدية ؟‍‍‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟ " .
و قد فاتهم أن القياس هنا أمر وارد ، و دليل معتبر عند أهل المنطق و أهل النظر في مثل هذه الموارد التي قد لا يدركها الإنسان إلا عن طريق التشبيه و القياس ، و هو اسلوب علمي ، و منهج قرآني ( و يضرب الله الأمثال للناس ) / إبراهيم : 25 ، و قال تعالى حاكيا قول المنكرين لبعض الأمور الإعتقادية كالمعاد كما في الآية المباركة : ( و ضرب لنا مثلاً و نسي خلقه قال من يحي العظام و هي رمييم * قل يحيها الذي أنشئها أول مرة ) / يس : 78 .
فانظر كيف يتنكب المتطفلون عن المنهج القرآني و العلمي ؟ و انظر إلى عدم تفرقتهم بين القياس في أحكام الشريعة المنهي عنه ، لعدم إحراز علة الحكم التي بنى الشارع عليها حكمه ، و بين القياس في مجال المعقولات الذي لا شبهة فيه .
و هكذا نخلص القول أنّ أصحاب هذا المنهج التشكيكي ليس بأيديهم حجة و لا برهان ، و لا يملكون سنداً علمياً أو تاريخياً مقبولاً و منطقياً في نفيهم و تشكيكاتهم ، و إنما هي مجرد ظنون و أوهام ، أو افتراضات و حدوس تتهاوى أمام الأدلة و البراهين المتينة ، الروائية و التاريخية و العقلية كما سطّرها و حققها المثبتون لولادة الإمام المهدي (ع) و استمرار وجوده الشريف المبارك .
و لا يضير ذلك ما أُحيطت به روايات ولادته التي اختلفت من بعض الوجوه ، و محاولة هذا النفر استغلالها بصورةٍ غير أمينة و لا دقيقة للتشويش على أصل الموضوع ، و هو ولادة الحجة ابن الحسن محمد المهدي (ع) ، و قد ثبت من الطريق الاعتيادي الذي تثبت به الولادات ، و هو شهادة القابلة حكيمة بنت الإمام الجواد ، و عمة الإمام العسكري ، و صحّة الرواية عنها بأسانيد معتبرة صحيحة[21] .
و إذا كان هناك من نقل روايات أُخرى سواء في زواج الإمام أبي محمد الحسن العسكري من ( نرجس ) أُمّ الإمام المهدي (ع) أم في اسمها ، أم في ولادة المهدي و ما جرى و لابس تلك الولادة المباركة ، أم في الإختلاف في تاريخ الولادة " فإن المشهور على ما نقلة الثقات من الشيعة و السُنة ، هو ولادته سنة 255 هـ في الخامس عشر من شعبان ، و أنّ أُمّه هي ( نرجس ) و كانت جارية عند إحدى أخوات الإمام علي الهادي (ع) ، فطلبها الإمام العسكري و تزوجها ، و ولدت منه الإمام المهدي ، كما صرح به الإمام العسكري بسند صحيح لا خدشة فيه " [22] . وقد بشّر الإمام العسكري أصحابه و شيعته خاصة بالمولود المبارك ، و أنه الخلف الحجة الموعود و الإمام من بعده[23] .
و أخيراً لابد من التنبيه أيضاً إلى أن منهج هؤلاء المنكرين في قضية الإمام المهدي (ع) يقوم على أُسلوب كان قد اتبعه المستشرقون من قبل في معالجتهم و مناقشاتهم لعقائد الإسلام ، و نبوة النبي محمد (ص) خاتم الأنبياء ، ولِماَ جاء في القرآن الكريم من المفاهيم و الأفكار و الأحكام ، و هذا الأسلوب يتمثل - كما يرى المستشرق المنصف آربري[24]- " باقتطاع النصوص من سياقها ، و بالتحليل السطحي . . . " هذا فضلاً عن المغالطات و المفارقات المنهجية كالإحالة إلى المصادر بصورةٍ غير دقيقة و غير أمينة[25] ، و كالتدليس و الكذب في نسبة الآراء ، إذ يوردون نصوصاً ثم يذكرون المصادر جملةً ، على سبيل التمويه ، و الأنكى و الأعجب أنهم -و بحسب تحليلهم السطحي - يطرحون فهمهم لبعض المطالب على أنه و الرأي عند المذهب أو الطائفة و هو فهم غير دقيق ، ثم يحاولون أن يحشدوا النصوص و يقسروها لتتلائم مع تصوارتهم و أفهامهم هُم ، و ليس مع ما ذهب إليه المذهب أو مع ما كان مقبولاً و معتمداً .
و أرى لزاماً عليّ التبيه أيضاً إلى أمرٍ مهم ، ذكره العلامة محمد تقي الحكيم في كتابه الأصول العامة للفقه المقارن قائلاً : "إن مجتهدي الشيعة لا يُسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الإجتهاد إلى المذهب ككل ، سواء كان في الفقه أم الأصول أم الحديث ، بل يتحمل كل مجتهد مسؤولية رأيه الخاص نعم ما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته "[26] .
و من هنا يكون من المجازفة في القول تعميم الرأي الإجتهادي ما لم يحظ بالقبول و الشهرة . و كذلك الأمر في المجالات الأخرى فإنه لو ذهب أحد المفسرين أو الإخبارين إلى رأي ، أو أخذ برواية ، أو أبدى وجهة نظر معينة ، و حتى لو اعتمد نظرية أو فكرة ، فإنه لا يصح تحميل المذهب أو الطائفة ذلك ، بل يكون من المنطقي نسبة الرأي إليه ، و تحمله هو اعتماده على هذه الرواية ، أو تلك ، مع ضرورة الأخذ بنظر الإعتبار منهجه الروائي الخاص .
و يكون حين حينئذ على الباحث العلمي أن يحصر رأي المذهب من مجموع آراء الفقهاء و العلماء ، و استناداً إلى المنهج العام ، لديهم بما في ذلك منهجهم في قبول الأخبار و الروايات و الأسانيد ، و كذلك يشترط الرجوع إلى ما أصلوه من المفاهيم و الآراء بالرجوع إلى المصادر الأصلية و الأساسية لديهم .
و عليه فبدون ذلك ، أعني بدون الالتفات إلى هذه الملاحظة المهمة ، فإن الباحثين سيقعون بلا أدنى شك في الخلط و المجازفة و الاشتباه ، و لا يُعفون حينئذ من سوء القصد و محاولة المشاغبة و التشويش و هو دأب عليه أسلافهم من المستشرقين و خصوم الإسلام أو الحاقدين على أهل البيت عليهم السلام ، و على مدرستهم الأصلية في الإسلام الحنيف ، كما هو شأن إحسان إلهي ظهير و الجبهان ، و البنداري و غيرهم في القديم و الحديث .
و تبقى كلمة أخيرة فيما يتعلق بالمهدي الموعود عليه السلام بعد ثبوت ولادته الميمونة و وجوده المبارك ، و هي مسألة تعقل و عقلانية استمرار وجوده الشريف و ثبوت ذلك منذ الغيبة الصغرى ، و حتى انقطاع السفارة ثم وقوع الغيبة الكبرى .
و هنا سيجد القارئ الكريم و الباحث الطالب للحقيقة سيجد فيما كتبه السيد الشهيد ، و وضحه من هذه المطالب ، و ما ساقه من الأدلة العقلية و المنطقية و العلمية ما يشفي الغليل ، و يزيل أوهام و تعلقات المشككين .
[1] راجع : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن مادة (غيب) ، و راجع التفاسير و منها تفسير ابن كثير المجلد الأول في تفسير أول سورة البقرة .
[2] راجع كتاب الفتن و علامات الساعة في الصحاح و المسانيد و السنن ، راجع مثلا : التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور علي ناصف 5: 300 و ما بعدها .
[3] راجع : التاج الجامع للأصول 1 : 25 .
في مجلة تراثنا المذكورة سابقاً .
[5] راجع : دفاع عن الكافي / ثامر هاشم العميدي 1 : 203 و ما بعدها ، فقد أوردمناقشة العلماء و أئمة الحديث لتضعيفات ابن خلدون و المقلدين لرأي ابن خلدون ، كما ناقش هو تلك التضعيفات مناقشة علمية متينة أبان فيها تهافتهم و عدم تبصّرهم و معرفتهم بفن الرواية و أصول الدراية .
[6] راجع : الغدير 3: 308-309 ، و راجع ما أورده العميدي من مناقشات متينة لهذه الفرية في دفاع عن الكافي 1 : 593 ، و راجع : سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني 2 : 559 .
[7] راجع : دفاع عن الكافي : 1: 569 فقد أورد المؤلف شهادات و اعترافات و إثباتات وافية عن علماء أهل السنة من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر في إثبات ولادة الإمام المهدي و استمرار حياته و وجوده الشريف .
[8] راجع : الارشاد / الشيخ المفيد : ص 345 ، و راجع أيضاً سيرة الأئمة الاثني عشر / الحسني / 2 : 534 - 538 في قضية جعفر الكذاب .
[9] راجع الشيعة و التشيع - فرق و تاريخ : ص 261 و 301 /الطبعة الثانية 1384 هـ - باكستان .
[10] راجع التشيع بين مفهوم الأئمة و المفهوم الفارسي / الطبعة الثانية - دار عمار - الأردن .
[11] راجع العيبة للنعماني من أعلام القرن الرابع الهجري / الباب 12 ، الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر / البحث التمهيدي .
[12] الإرشاد / الإرشاد المفيد : ص 345 .
[13] راجع الحاوي للفتاوي / السيوطي 2 : 213 و ما بعدها .
[14] الإشاعة لأشراط الساعة ، ص 87-122/ الباب الثالث .
[15] التوضيح في تواتر ما جاء من الأحاديث في المهدي و الدجال و المسيح ، كما في غاية المأمول .
[16] غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول 5 : 360 .
[17] راجع : مقالات الإسلامين للأشعري ، و الملل و النحل للشهرستاني ، و فرق النوبختي و غيرها .
[18] راجع هذه الرواية و غيرها في سنن ابن ماجه 2: 1321 / 3991 كتاب الفتن - باب افتراق الأمم .
[19] الملل و النحل 1: 151 و 152 .
[20] الفصول المهمة في تأليف الأمة : ص 169 .
[21] أُصول الكافي : الجزء الأول - كتاب الحجة ، و راجع إثبات الوصية / المسعودي : ص 219 .
[22] راجع المصدرين السابقين ، و تفصيلات وافية عن الموضوع في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 546 و ما بعدها .
[23] راجع دفاع عن الكافي المصدر السابق في ما نقله بطرق صحيحة معتبرة عن الكافي و غيره .
[24] راجع المستشرقون و الإسلام / الدكتور عرفان عبدالحميد : ص 19 .
[25] راجع إحسان إلهي ظهير في كتابه الشيعة و التشيع -فرق و تاريخ ، و مَن تابعه فيما أشاروا إليه من كتاب الإمامة و التبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي ( والد الصدوق) (ت/329) ففيه أدلة ضدهم ، و راجع ما انتقوه من فرق الشيعة للنوبختي ، و فيه غير ما ذهبوا إليه .
[26] الأصول العامة للفقه المقارن : ص 596 ، الطبعة الثانية 1979 ميلادي ، دار الأندلس - بيروت .
ثانياً : منهج المثبتين
1-المنهج الروائي :
إن الذين كتبوا في قضية المهدي (ع) كثيرون جداً ، قديماً و حديثاً ، و منهم من أفرده بكتاب مستقل و منهم من كتب فصلاً أو فصولاً ، و قد أحصى عبدالمحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة أكثر من عشرة مؤلفين من أجلاء علماء أهل السنة ، منهم :
· الحافظ أبو نعيم .
· السيوطي الشافعي .
· الحافظ ابن كثير .
· علي المتقي الهندي صاحب كنز العمال .
· ابن حجر الملكي في مؤلفه : ( القول المختصر في علامات المهدي المنتظر ) .
· مرعي بن يوسف الحنبلي ( ت / 1033 هـ) ، و مؤلفه الذي سماه ( فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر ) ، ذكره السفاريني في لوامع الأنوار البهية .
· القاضي محمد بن علي الشوكاني (ت/ 1250 هـ) الذي سمى مؤلفه ( التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر و الدجال و المسيح ) .
إلى غيرهم .
أما عند الشيعة فهناك عشرات الكتب و الرسائل التي كتبت و نشرت قديماً و حديثاً منهم أخيراً :
· منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي الكلبكاني .
· إلزام الناصب في اثبات الحجة الغائب للشيخ علي اليزدي الحائري .
· المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنة و الإمامية للشيخ نجم الدين العسكري ، نشر مؤسسة الإمام المهدي - طهران .
· الإمام المهدي لعلي محمد علي دخيل طبع بيروت ، و هو جليل و مهم جداً .
و قد اعتمد هؤلاء العلماء و غيرهم في مناقشاتهم لدعاوي المنكرين على الأدلة النقلية غالباُ ، فأثبتوا صحة أحاديث المهدي من طرق أهل السنة و الشيعة[1] ، وتعدد طرق الرواية ، و كثرة الرواة من الصحابة و التابعين و تابعي التابعين من سائر الفرق و المذاهب الإسلامية .
فقد نقل السيخ العباد أن رواة الحديث المهدي من الصحابة ستة و عشرون راوياً ، أما الأئمة الذين خرجوا الأحاديث و الآثار الواردة في المهدي فيبلغ عددهم ثمانية و ثلاثون ، ذكر أسماءهم و في مقدمتهم :
· أبو داود في سننه .
· الترمذي في جامعه .
· النسائي في سننه .
· أحمد في مسنده .
· أبو بكر بن شيبة في المصنف .
· الحافظ أبو نعيم في الحلية و في كتاب المهدي .
· الطبراني في المعجم الكبير و الأوسط .
· ابن عساكر في تاريخه .
· أبو يعلة الموصلي في مسنده .
· ابن جرير في تهذيب الآثار .
· البيهقي في دلائله .
· ابن سعد في الطبقات .
· و غيرهم .
و نريد أن نسأل ( أحمد أمين ) و من عزف على نغمته هنا : هل أن مثل هؤلاء الأئمة من علماء الحديث و الرواة المعتبرين الذين تلقتهم الأمة بالقبول ، و اعتمدت عليهم فيما نقلوه من صحيح الآثار أو صححوه ، كلهم يتواطؤن على نقل ( اسطورة ) ؟ ، و كيف يعقل أن تهتم الأمة ، و أجل العلماء و المحققين و أصحاب الصحاح و المسانيد ( بأسطورة) إلى هذا الحد ‍؟‍‍؟ و لماذا هذه الجرأة المنافية لأبسط قواعد الذوق و المنطق و العلم و الأخلاق ‍؟ ، أوليس تدل مثل هذه التشويشات على ركوب الهوى أو الانسياق و اللهاث وراء تلويحات الوهابية ، ( و رنين إغراءتها ) ؟ ، بل إن العلماء المتقدمين منهم و المتأخرين أثبتوا تواتر أحاديث المهدي ليقطعوا الطريق و العذر على المتشككين و المتأولين ، كما فعل :
· الشوكاني ( ت/ 1250 هـ) في رسالته المسماه بـ( التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي و الدجال و المسيح ) .
· البزرنجي (ت/ 1103هـ) في ( الإشاعة لأشراط الساعة) .
ثم ذكر الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية آخرين ، منهم :
· الحافظ الآبري السجزي (ت/ 363 هـ) .
· الشيخ محمد السفاريني ( ت/ 1188 هـ) في كتابه لوامع الأنوار البهية .
· الشيخ صديق حسن القنوجي (ت/ 1307 هـ) .
و من المتأخرين الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي الشيخ محمد بن جعفر الكتاني ( ت/1345هـ) في كتابه نظم المتناثر في الحديث المتواتر .
و قد تصدى العلماء أيضاً ما تعلق به الخصوم من دعاوي ، و ما أثاروه من اشكالات و طعون في الروايات و أجابو[2] عن ذلك بجوابات سديدة و متينة ، و لعل من أهم هذه الدراسات الحديثة :
ألف : دراسة عبد المحسن العباد [3]- و هو إستاذ جامعي و من علماء أهل السنة - و هي على ما فيها من زلات و اشتباهات ، إلا أنه عرض فيها بالتفصيل لذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي (ع) عن رسول الله (ص) و أحصى منهم ستة و عشرين صحابياً ، ثم ذكر أسماء الأئمة الذين خرجوا أحاديث المهدي (ع) ، و أحصى منهم - أي من أئمة الحديث - ثمانية و ثلاثين ، ثم أورد بعد ذلك أسماء العلماء الذين أفردوا مسألة المهدي (ع) بالتأليف ، و ذكر عشرة منهم ، ثم ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي (ع) ، ثم انتقل إلى ذكر ما ورد في الصحيحين مما له تعلق بالمهدي (ع) ، ثم انتقل إلى ذكر بعض الأحاديث في غير الصحيحين من السنن و المسانيد ، ثم ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي (ع) و اعتقدوا موجبها ، ثم تعرض بالمناقشة القوية للمنكرين لأحاديث المهدي (ع) أو المترددين في شأنه ، و ذكر منهم ابن خلدون ، و سجل عليه ملاحظات و إيرادات أظهر فيها تهافته و عدم تبصره بالأمور ، و نقل عن الشيخ المحقق أحمد شاكر الذي حقق مسند الإمام أحمد و خرج أحاديثه قوله عن ابن خلدون راداً عليه تشكيكاته : " أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس به علم و اقتحم قحماً لم يكن من رجالها ، و أنه تهافت تهافتاً عجيباً في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي (ع) و غلط أغلاطاً واضحة . . . " و انتهى آخر الأمر إلى أن المهدي (ع) حقيقة ثابته لا تقبل الشك .
باء : أما الدراسة الثانية فكانت للباحث و المحقق ثامر العميدي ، الذي جرى على منهج علماء الإمامية الأجلاء الذين عالجوا هذه المسألة ، و أشبعوها بحثاً و استقصاءً ، و استطاع هذا الباحث الفاضل أن يلخص تلك المطالب ، و يستوفي تلك المضامين و يستوعبها ، و يضفي على ذلك كله من بيانه و تحقيقاته ، و يخرجه على منهج علمي رصين ، و قد استغرقت هذه الدراسة الصفحات من 171 إلى 611 من الجزء الأول من كتابه القيم ( دفاع عن الكافي ) الذي نشره مركز الغدير للدراسات الإسلامية سنة 1995 م .
و من أهم الأمور التي عرض لها بأُسلوب علمي : تحليل فكرة الاعتقاد بالمهدي(ع) [4] ، و مناقشاته لتضعيفات ابن خلدون[5] ، و نقله أكثر من ثمانٍ و خمسين [6] شهادة و تصريح بصحة أحاديث المهدي (ع) أو تواترها ، ثم مناقشته لمن أنكر ولادة المهدي (ع) ، و إيراده أدلةً وافية متينة و اعترافات من أهل السنة بدءاً من القرن الرابع الهجري و حتى قرننا الحالي بولادة الإمام المهدي (ع) و وجوده الشريف[7] ، و أخيراً مناقشته الطريفة لفرية السرداب [8] و غيرها .
لقد أوردت هاتين الدراستين بصفتهما نموذجين حديثين للدراسات التي التزمت بمسلك العلماء المتقدمين و الإفادة منهم و اتباع منهجهم ، و إلا فهناك عشرات الدراسات لأفاضل العلماء و المحققين ممن برع في مناقشة تلك القضية [9] .
[1] راجع : عقيدة أهل السنة و الأثر في المهدي المنتظر - الشيخ عبد المحسن العباد ، مجلة الجامعة الإسلامية / العدد الثالث / السنة الأولى 1969 م ، و راجع : منتخب الأثر / العلامة الصافي الكلبكاني .
[2] راجع الأجوبة عن طعونهم في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 205 .
[3] تقدمت الإشارة إلى عنوان بحثه و مصدره .
[4] دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 171 و ما بعدها .
[5] المصدر نفسه 1: 205 .
[6] المصدر نفسه 1 : 343 .
[7] دفاع عن الكافي 1 : 535 .
[8] المصدر نفسه 1 : 593 .
[9] راجع ما أشار إليه و ذكره الشيخ العباد في دراسته المشار إليها سابقاً ، و راجع ما ذكره السيد الجلالي أيضاً في بحثه المذكور في مطلع المقدمه ، و راجع دراسة الشيخ علي محمد علي دخيل المشار إليها في الصحيفة 32 .
2- المنهج العقلي
( منهج الشهيد الصدر (رض))
لم ينطلق الشهيد الصدر في بحثه ( قضية المهدي (ع)) من بديهات و مقدمات مسلّم بها عند الأطراف ، و لم يعتمد تتبع القضية في كتب التفسير و الرواية ، أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد ، و إنما سلك مسلك آخر ، فبدأ بطرح الإثارات حول القضية و عرض التساؤلات و الإشكالات المنتزعة مما قيل و يقال حول القضية ، ثم بدأ بالمناقشة العميقة و الدقيقة معتمداً الدليل العقلي ، و مستنداً إلى معطيات العلم و الحضارة المعاصرة ، و نعرض معالم هذا المنهج كما يأتي :
ألف : لقد مهد السيد الشهيد لبحثه بإعطاء تصور واضح لفكرة المهدي(ع)[1] في جذورها الممتدة إلى التراث الديني و الإنساني ، ثم انتقل إلى تأصيلها في الفكر الإسلامي ، ثم عرضها في التصور الإسلامي على أنها ليست مجرد فكرة و أمل يداعب الشعور ، و يجد عنده الإنسان المسلم استراحة تخلصه من حالة التوتر النفسي عندما تشتد و تتعاظم المحنة - كما هو زعم بعض الباحثين - و إنما ( المهدي (ع)) يتجسد في إنسان معين [2] حي يعيش مع الناس و يشاركهم همومهم وآلامهم ،ب-إن هناك صعوبة في استيعاب هذا التصور الأصيل ،فقد أثار إشكالات الشهيد الصدر (رض)يطرح هذه التساؤلات والإثارات بكل صراحة و وضوح ، ثم يشرع في معالجتها باسلوبه الخاص ، و ذلك ليضع القضية في محلها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساساً على العقلانية و الواقعية و البرهان .
أ-و التساؤل الأول الذي يطرحه السيد الشهيد هو :
" إذا كان المهدي(ع) يعبر عن إنسان حي عاصر كل تلك الأجيال المتعاقبة منذ أكثر عشرة قرون ، و سيظل يعاصر امتداداتها ، فكيف تأتى له هذا العمر الطويل ؟؟ و كيف نجا من القوانين الطبيعية التي تحتم مروره بمرحلة الشيخوخة و الهرم ؟؟ " ثم ينتقل من سؤال إلى سؤال ، و من إثارة إلى إثارة بترتيب منطقي يمهد الجواب السابق للاحق ، و تترابط المضامين و المباحث ترابطاً منهجياً محكماً .
و بالنسبة إلى السؤال الأول أعاد طرحه كالآتي : هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً متطاولة كما هو المفترض في المهدي (ع) الذي طوى من العمر أكثر من ألف و مئة و أربعين سنة [3] ؟ و هذه الصياغة للسؤال لا تختلف بشيء عن السابق ، و تمهيداً للجواب أعطى إيضاحاً لأنواع الإمكان المتصورة أو المعروفة و هي الإمكان العملي ، و الإمكان المنطقي أو الفلسفي ، و بعد أن بين المقصود بها خلص إلى القول : " أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً ، لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية " ، و أن الإمكان العملي بالنسبة إلى نوع الإنسان ليس متاحاً الآن ، و التجربة المعاصرة لا تساعد عليه .
أما الإمكان العلمي فلا يُوجد ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية ، لأن التجارب آخذه بالازدياد لتحويل الإمكان العلمي إلى إمكان عملي ، و هي سائرة بهذا الاتجاه من زاوية محاولاتها لتعطيل قانون الشيخوخة . و في ضوء هذا لا يبقى مبرر منطقي للاستغراب و الإنكار اللهم إلا من جهة أن يسبق ( المهدي (ع)) العلم نفسه فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قيل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية . و هذا أيضاً لا يوجد مبرر عقلائي لاستبعاده و إنكاره ، إذ هو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء السرطان أو غيره مثلاً .
إن هذا السبق - كما يقول السيد الشهيد - في الأطروحة الإسلامية عموماً - التي صممت قضية المهدي (ع) - قد وقع و حصل في أكثر من مفردة و عنوان ، و قد سجل القرآن الكريم نظائر ذلك حين أورد و أشار إلى حقائق علمية تتعلق بالكون و الطبيعة و جاء العلم فأزاح الستار عنها أخيراً ، و الأكثر صراحةً أن القرآن قد دون أمثال ذلك كما في مسألة عمر النبي نوح (ع) ، قال تعالى ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) سورة العنكبوت : 14 ، ثم ينتقل السيد الشهيد إلى افتراض آخر ينشأ عن السابق و هو :
ماذا لو افترضنا أن قانون الشيخوخة قانون صارم ، و أن إطالة العمر أكثر من الحد الطبيعي و المعتاد خلاف القوانين الطبيعية التي دلنا عليه الاستقراء ؟! .
و جوابه : أنه حينئذ يكون من فبيل المعجزة ، و هي ليست حالة فريدة في تاريخ الأنبياء و المرسلين ، والأمر بالنسبة للمسلم الذي يتمد عقيدته من القرآن و السنة المشرفة ليس أمراً منكراً ، إذ هو يجد أن القانون الذي هو أكثر صرامة قد عطل ، كما حدث بالنسبة إلى النبي إبراهيم الخليل عليه السلام في نجاته من النار العظيمة بعد أن ألقي فيها ، و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله ( قلنا يا نار كوني برداً و سلاماً على إبراهيم ) سورة الأنبياء : 69 .
ثم يبين السيد الشهيد بعد ذلك أن مسألة المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومةً بدرجةٍ أكبر مما كانت عليه . و شرع في تقديم المعالجة الفلسفية المتينة مستنداً إلى النظريات الفلسفية الحديثة .
ب- و ينتقل السيد الشهيد إلى سؤال آخر و هو :
لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمر المهدي(ع) إلى هذا الحد ، فتعطل القوانين لأجله ؟ و لماذا لا نقبل الافتراض الآخر الذي يقول : إن قيادة البشرية في اليوم الموعود يمكن أن تترك لشخص آخر يتمخض عنه المستقبل و تنضجه إرهاصات ذلك اليوم ؟ و يعيد صياغة السؤال كالأتي :
ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة ؟ و ما هو المبرر لها ؟ و يعقب هنا قائلاً : إن الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً أي أنهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها .
و للإجابة عن هذا السؤال ، يتقدم السيد الشهيد و هو متسلح بالمعرفة بقوانين الاجتماع ، و بمتطلبات التغيير الاجتماعي و قوانينه ، فيبدأ بطرح سؤال يمهد به للإجابة ، وهو :
هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل للقائد المدخر عاملاً من عوامل نجاحه في عملية التغيير المرتقب ؟ ثم يجيب بالإيجاب ، و يقدم أدلةً تستند إلى فهم عميق لحركة التاريخ ، و مستلزمات التغيير الحضاري الشامل ، و أثر الحضارات التي ينشأ الإنسان في ظلها على مستوى تفكيره و رؤاه و دوره الحضاري ، ثم يكيف المسألة في ضوء رسالة الإسلام و النقلة الحضارية التي يريدها .
و هكذا يحول السيد الشهيد البحث إلى دراسة اجتماعية تعتمد المقولات و المفاهيم الاجتماعية ، فضلاً عن تأصيل مفاهيم و نظرات اجتماعية مهمة .
ج-ينتقل الشهيد الصدر (رض) بعد ذلك إلى معالجة قضية أكبر ترتبط بقضية المهدي (ع) و هي :
( الإمامة المبكرة ) أو ( كيفية إعداد القائد الرسالي ) في نظرية الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية ، فيذكر أن هذه الظاهرة ( الإمامة المبكرة ) عاشتها الأمة فعلاً[4] ، و قد بلغت ذروتها في الإمام المهدي و الإمام الجواد عليهما السلام من قَبلِه .
و هذه الظاهرة - كما يقول رضوان الله تعالى عليه - " تشكل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون و وعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل و آخر ، و لا يمكن أن نطالب بالإثبات لظاهرةٍ من الظواهر هي أوضح و أقوى من تجربة أمة " [5].
و يورد السيد الشهيد كثيراً من الحقائق التاريخية التي تؤكد هذه الظاهرة ، ثم يخلص إلى القول : بأنها أي الإمامة المبكرة في ضوء ذلك كانت ظاهرةً واقعية و ليست وهماً أو مجرد افتراض ، و أن لها أمثلةً في القرآن الكريم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى النبي يحي (ع) ، في قوله تعالى ( و آتيناه الحكم صبياً ) سورة مريم : 12 . و هذا ما لا يسع المسلم إنكاره .
د-و ينتقل السيد الشهيد إلى البحث الروائي و إلى ما ردده و أثاره المشككون و الخصوم قديماً و حديثاً بقوله :
" كيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي (ع) ؟ و هل تكفي بضع روايات تُنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (ص) للإقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر (ع) على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة و خروج عن المألوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أن للمهدي وجوداً تأريخياً حقاً ، و ليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته ؟ "
هكذا يطرح السيد الشهيد هذا السؤال بكل تفرعاته الممكنة و المنتزع بعضها مما أثاره أو يثيره بعض المتأثرين بمناهج الغرب في دراسة تاريخنا الإسلامي و قضيانا الإسلامية مثل أحمد أمين في دراسته ( المهدي و المهدوية) و من سلك هذا المسلك من الخصوم [6] .
و يتصدى السيد الشهيد للإجابة عن هذا السؤال متسلحاً و متوسلاً بمنطق العقل و الدليل العقلي و عندما يعرض الدليل الروائي أيضاً في المقام نجده يعرضه مدعوماً بالوثائق و الواقع و التجربة التاريخية ، و لنسمعه يقول : " إن فكرة المهدي (ع) بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم (ص) عموماً ، و في روايات أئمة أهل البيت (ع) خصوصاً ، و أكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك ، و قد أحصي أربعمائة حديث عن النبي (ص) من طرق إخواننا أهل السنة ، كما أحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهدي(ع) من طرق الشيعة و السنة فكانت أكثر من ( ستة آلاف رواية) ، و هذا - كما يقول السيد الشهيد - رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة " [7] .
ج-يتخذ السيد الشهيد (رض) هنا مسلكاً جديداً في الإستدلال على ( الخصوصية المذهبية ) أي مسألة تجسيد الفكرة ( فكرة المهدي) في إنسان معين هو الإمام الثاني عشر (ع) ، مستفيداً من الروايات و البحث الروائي ، و موظفاً ذلك بصورة مبدعة في إثبات ( المهدي (ع)) ، فيطرح أولاً المبرارات التي يراها كافية للإقتناع و يلخصها في دليلين أحدهما أطلق عليه ( الدليل الإسلامي ) و الآخر ( العلمي ) فيقول : " فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر ، و بالدليل العلمي نبرهن على أن المهدي (ع) ليس مجرد اسطورة و افتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية " .
و يشرع بتقديم الدليل الإسلامي فيراه متمثلاً بمئات الروايات الواردة عن الرسول الأكرم (ص) ، و الأئمة من أهل البيت (ع) و التي تدل على تعين المهدي (ع) و كونه من أهل البيت (ع) ، و من ولد فاطمة (ع) ، و من ذرية الحسين (ع) و ليس من ذرية الحسن ، و أنه التاسع من ولد الحسين (ع) ، و أن الخلفاء اثنا عشر . فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة و تشخصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (ع) .
ثم يقول رضوان الله تعالى عليه بشأن تلك الروايات : " و هي روايات بلغت درجةً كبيرة من الكثرة و الإنتشار - كما ورد عن طرقنا - على الرغم من تحفظ الأئمة و إحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام وقاية للخلف الصالح من الإغتيال . . . " .
إن الروايات الكثيرة جداً التي تشكل رقماً إحصائياً كبيراً - أي بلوغها حدّ التواتر كما حكى غير واحدٍ من العلماء - يرى السيد الشهيد أن الأساس في قبولها ليس مجرد الكثرة العددية على الرغم من أنه قد استقر في الأوساط العلمية الروائية إعتبار مثل هذه الكثرة ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا و قرائن تبرهن على صحتها .
فالحديث الشريف عن الأئمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده (ص) ، و أنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة ، قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مئتين و سبعين رواية مأخذوة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة و السنة بما في ذلك البخاري ومسلم و الترمذي و أبي داود و مسند أحمد و مستدرك الحاكم ، و قد لاحظ الشهيد الصدر (رض) هنا أن البخاري ( المولود 194 ، و المتوفى 256 هـ) الذي نقل الحديث كان معاصراً للإمام الجواد (ع) و الإمامين الهادي و العسكري (ع) و في ذلك مغزى كبير ، لأنه يبرهن على أن الحديث قد سجل عن النبي (ص) قبل أن يتحقق مضمونه ، و هذا يعني أن نقل الحديث لم يكن متأثرأً بالواقع الإمامي الإثني عشري أو يكون انعكاس له ، لأن الروايات المزيفة التي تنسب إلى النبي (ص) و هي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخراً زمنياُ لا تسبق في ظروفها و تسجيلها كتب الحديث ، و لقد جاء الواقع الإمامي الإثنا عشري ابتداءاً بالإمام علي (ع) و انتهاء بالمهدي (ع) ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف .
هذا هو الدليل الإسلامي ، كما اصطلح عليه السيد الشهيد ، أي الدليل الروائي في اثبات المهدي (ع) .
أما الدليل الآخر الذي اصطلح عليه بـ( العلمي ) و الذي يسوقه السيد الشهيد لإثبات الوجود التاريخي للمهدي (ع) ، و انه إنسان بعينه ولد و عاش و اتصل بقواعده الشعبية و بخاصته ، فإن هذا الدليل يتكون كما يرى السيد الشهيد من التجربة التي عاشتها أمةً من الناس فترةً امتدت سبعين سنة تقريباً و هي فترة الغيبة الصغرى .
و يعطي السيد الشهيد هنا فكرة عن هذه الغيبة ، و يفلسفها ، مبيناً دور القائد المهدي (ع) ، و دور سفرائه الأربعة ، و ما صدر عنه من ( توقيعات ) أي رسائل و إجابات كلها جرت على اسلوب واحد ، و بخطٍ واحد و سليقة واحدة طيلة نيابة النواب الأربعة المختلفين اسلوباً و سليقة و ذوقاً و خطاً و بياناً ، و مثل هذا كاشف بالضرورة عن وجود ( الرجل ) ، لأنه ثبت و استقر في الأوساط الأدبية و بما لا يقبل الشك أن الأسلوب هو الرجل ، و كل الدارسين و المتذوقين للأدب يدركون هذه الحقيقة بوضوح .
و بعد هذه القرينة و الشواهد القوية على وجود الإمام المهدي (ع) كما يؤكدها السيد الشهيد يتجه إلى منطق الإستقراء و نظرية الإحتمال لتعزيز ذلك فيقول : " و قد قيل قديماً : إن حبل الكذب قصير ، و منطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الإحتمالات أن تعيش اكذوبة بهذا الشكل ، و كل هذه المدة ، و ضمن تلك العلاقات و الأخذ و العطاء ثم تكسب ثقة جميع من حولها " .
و هكذا يخلص السيد الشهيد إلى القول أخيراً : " أن ظاهرة الغيبة الصغيرة يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضعي ، و التسليم بالإمام القائد (ع) ، بولادته و حياته و غيبته و إعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح و لم يكشف نفسه لأحد " [8] أي حتى يأذن الله تعالى له بالظهور لتأدية دوره و وظيفته التغييرية الكبرى " فيملأ الأرض عدلاً و قسطاً بعدما ملئت ظلماً و جوراً " ، كما بشر بذلك خاتم الأنبياء و المرسلين نبينا محمد (ص9) و هذا هو ما عليه اعتقاد الإمامية ، و مقتضى توقيع الإمام الثاني عشر (ع) ، بإعلانه الغيبة الكبرى .
و أخيراً و استكمالاً للبحث ، ربما يثير بعضهم سؤالاً حول المنهج الذي اتبعه الإمام الشهيد - كما حددناه ، و كما هو في واقعه - و السؤال هو :
لماذا لم يسلك السيد الشهيد منهج المتقدمين في البحث الروائي ، و يفضي عليه من إبداعاته و التفاتاته ما يزيل الشكوك و التقولات التي تثار حول أسانيد الروايات ، و تضعيف بعضهم لها ؟
و في الجواب عن ذلك نسجل الملاحظات الآتية :
أولاً : لقد ذكر السيد الشهيد أن هناك عدداً هائلاً من الروايات بلغت رقماً إحصائياً لم يتوفر لأي قضية مشابهة من قضايا الإسلام ، بل إن بعضهم حكى التواتر فيها ، و عليه فليس بوسع مسلم إنكار ذلك أو عدم الإعتقاد بموجبه اللهم إلا لجهة أخرى ، و ليس هي إلا جهة تعقل المسألة ، و قد حظيت بإهتمامه و بالتركيز عليها .
ثانياً : إن أكثر المنكرين المعاصرين إنما أنكروها من زاوية عدم تعقل الفكرة أو تشخيصها و تجسيدها في إنسان وُلد قبل القرون ، و ما يزال ذا وجودٍ حي حقيقي ، و من هنا اتجه السيد الشهيد - بلحاظ أن القضية في حقيقتها إسلامية و ليست مذهبية فحسب - إلى ( عقلنتها ) من جميع جهاتها أو ما يلابسها ، تصوراً و قبولاً و واقعاً .
ثالثاً : إن شأن الإيمان بالمهدي (ع) شأن الإيمان بمطلق ما ورد من المغيبات مما ثبت عن طريق الرواية كسؤال منكر و نكير في القبر و نحو ذلك مما لم يرد في البخاري و مسلم [9] ، و مع ذلك فإن أحداً من أبناء الإسلام لا يسعه إنكاره .
رابعاً : إن الإختلاف بين المتعبدين بحجية الخبر الصحيح و الإيمان بموجبه ، و عدم جواز تكذيبه ، إنما كان في مصداق القضية المتجسد في إنسان لا في أصل قضية المهدي (ع) ، و هو مما احتاج إلى تقديم المبررات المنطقية و العلمية لقبوله .
خامساً : إن الذين أنكروا أو شككوا بالروايات الواردة في المهدي ، و حاولوا تضعيفها ليسوا من أهل الفن و العلم بالرواية و بالأسانيد [10] ، و لذلك فليس ما يدعو إلى إتعاب النفس معهم كثيراً ، بل لا بد من الاتجاه إلى تثبيت العقيدة في نفوس المؤمنين و ذلك ( بعقلنتها ) و توظيفها لإصلاح شأنهم و شؤونهم . و لقد تعامل السيد الشهيد مع قضية المهدي (ع) على انها تجربة أمة ، و قضية أمة ، و كحقيقة ثابتة تاريخية تعيشها الأمة شعوراً و أملاً و ترقباً و انتظاراً إيجابياً فاعلاً و مؤثراً في حياتها و جهادها المستمر بلا هوادة في مواجهة الظلم و الظالمين و الطغاة و الجبارين ، هذا فضلاً على أن العلماء المتقدمين و المتأخرين قد أشبعوا هذا الموضوع بحثاً و تحقيقاً و ناقشوا مناقشات وافية شافية كل الطعون و الأقوال و التضعيفات المزعومة ، و قد أشرنا إلى ذلك آنفاً .
سادساً : إن من التهافت ، و الخطل في الرأي بالنسبة إلى من يؤمن بموجب الخبر الصحيح ، و يوجب تصديقه لمجرد وروده في البخاري حتى لو كان مصادماً لبعض الحقائق الطبيعية أو منافياً للعقل أو للذوق إذ يوجب تأويله حينئذٍ [11] ، حيث وردت مجموعة من الأحاديث و الروايات مما يتنافى مع العقل و الذوق في صحيح البخاري . ثم عندما تصل النوبة إلى مسألة ( المهدي المنظر (ع)) على تعدد طرقها ، و صحة أسانيدها في السنن و المسانيد ، و على شرط البخاري و مسلم ، نراه يتوقف أو يتحفظ أو يتردد ، و ليس لديه حجة إلا أن المسألة - حسب تصوره القاصر- من معتقدات الشيعة [12] ، مع أنها كما ثبت عقيدة السلف و الخلف من جمهور الأمة على امتداد القرون ، كما نبه إلى ذلك الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول على التاج الجامع للأصول في الجزء الخامس و في الصحيفة ثلاثمئة و احدى و ستين .
سابعاً : إن بحث السيد الشهيد (رض) هو مقدمة لموسوعة ضخمة تتناول بالبحث الروائي مسألة المهدي (ع) ألفها العلامة السيد محمد الصدر ، و السيد الشهيد (رض) عبّر عن أمله بالمؤلف و بأنه أوفى المسألة حقها و من جميع جوانبها ، و لذا فلا مبرر للبحث الروائي عنده .
[1] راجع الصحيفة 55 و ما بعدها من هذا الكتاب .
[2] راجع الصحيفة 55 -56 من هذا الكتاب .
[3] هذا التاريخ إشارة الفترة من ولادة الإمام المهدي عليه السلام إلى تاريخ كتابة البحث و إنجازه في سنة 1397 هـ .
[4] راجع : الإرشاد / الشيخ المفيد : ص 319 و ما بعدها ، و أيضاً الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 223 و 224 .
[5] راجع : الصواعق المحرقة كما سيذكر في محله من الكتاب المحقق ص 94 .
[6] أشرنا إلى طائفة منهم في الصحيفة 16 .
[7] راجع الصحيفة 103_ 104 من هذا الكتاب .
[8] راجع الصحائف 104- 111 من هذا الكتاب .
[9] راجع بحث الشيخ عبدالمحسن العباد المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية الصادرة بالمدينة المنورة / سنة 1969 م .
[10] راجع البحث السابق للشيخ العباد ، و دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 205- 523 .
[11] راجع : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة : ص 276 ، طبعه القاهرة 1326 هـ ، أضواء على السنة المحمدية / الشيخ محمود أبو رية ، دراسات في البخاري و الكافي / هاشم معروف الحسني .
[12] راجع ما نقله الشيخ عبد المحسن العباد في بحثه المذكور سابقا ً .
المقدّمة
ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطريّ[1] ، أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، بعد عناء طويل.
بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينيّاً بالغيب، بل امتدّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشدّ الإيديولوجيّات والاتّجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، كالمادية الجدلية التي فسّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود[2] ، تُصفّى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام. وهكذا نجد أنّ التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مر الزمن، من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.
وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام، ويؤكّد أنّ الأرض في نهاية المطاف ستمتلىء قسطاً وعدلاً، بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً[3] يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية، ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة. فهو مصدر عطاء; لأنّ الإيمان بالمهديّ إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلّها، وهو مصدر قوة ودفع لا تنضب[4]، لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان، ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمّت الخطوب وتعملق الظلم; لأنّ اليوم الموعود يثبت أنّ بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور، فيزعزع ما فيه من أركان الظلم، ويقيم بناءه من جديد [5]، وأنّ الظلم مهما تجبّر وامتدّ في أرجاء العالم وسيطر على مقدّراته، فهو حالة غير طبيعية، ولا بدّ أن ينهزم[6]. وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمّة مجده، تضع الأمل كبيراً أمام كلّ فرد مظلوم، وكلّ أمّة مظلومة، في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.
وإذا كانت فكرة المهديّ أقدم من الإسلام وأوسع منه، فإنّ معالمها التفصيلية التي حدّدها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكلّ الطموحات التي انشدّت إلى هذه الفكرة منذ فجر التاريخ الديني، وأغنى عطاءً، وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذّبين على مرّ التاريخ. وذلك لأنّ الإسلام حوّل الفكرة من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن التطلّع إلى منقذ تتمخّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول إلى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً، وتطلّعه مع المتطلّعين إلى اليوم الموعود، واكتمال كلّ الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم. فلم يعد المهديّ فكرةً ننتظر ولادتها، ونبوءةً نتطلّع إلى مصداقها، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته، وإنساناً معيّناً يعيش بيننا بلحمه ودمه، نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد كلّ ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذّبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، ويكتوي بكلّ ذلك من قريب أو بعيد، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمدّ يده إلى كلّ مظلوم، وكلّ محروم[7]، وكلّ بائس، ويقطع دابر الظالمين.
وقد قدّر لهذا القائد المنتظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنه يعيش معهم انتظاراً للّحظة الموعودة.
ومن الواضح أنّ الفكرة بهذه المعالم الإسلامية، تقرّب الهوّة الغيبية بين المظلومين، كلّ المظلومين والمنقذ المنتظر، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار.
ونحن حينما يراد منّا أن نؤمن بفكرة المهديّ، بوصفها تعبيراً عن إنسان حيّ محدّد، يعيش فعلاً كما نعيش، ويترقّب كما نترقّب، يراد الإيحاء إلينا بأنّ فكرة الرفض المطلق لكلّ ظلم وجور التي يمثّلها المهديّ، تجسّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم، كما في الحديث[8] ، وأنّ الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحيّ القائم فعلاً، ومواكبة له.
وقد ورد في الأحاديث الحثّ المتواصل على انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهديّ أن يكونوا بانتظاره. وفي ذلك تحقيق لتلك الرابطة الروحية، والصلة الوجدانية بينهم وبين القائد الرافض، وكلّ ما يرمز إليه من قيم، وهي رابطة وصلة ليس بالإمكان إيجادها ما لم يكن المهديّ قد تجسّد فعلاً في إنسان حيّ معاصر[9].
وهكذا نلاحظ أنّ هذا التجسيد أعطى الفكرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاء وقوة بدرجة أكبر، إضافة إلى ما يجده أي إنسان رافض من سلوة وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحسّ أنّ إمامه وقائده يشاركه هذه الآلام، ويتحسّس بها فعلاً بحكم كونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرد فكرة مستقبلية. ولكنّ التجسيد المذكور أدّى في نفس الوقت إلى مواقف سلبية تجاه فكرة المهدي نفسها[10] لدى عدد من الناس، الذين صعب عليهم أن يتصوّروا ذلك ويفترضوه.
فهم يتساءلون!
إذا كان المهديّ يعبّر عن إنسان حيّ، عاصر كلّ هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظلّ يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتّى لهذا الإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل، وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كلّ إنسان أن يمرّ بمرحلة الشيخوخة والهرم، في وقت سابق على ذلك جدّاً، وتؤدّي به تلك المرحلة طبيعيّاً إلى الموت؟ أوَليس ذلك مستحيلاً من الناحية الواقعية ؟[11]
ويتساءلون أيضاً!
لماذا كلّ هذا الحرص من الله - سبحانه وتعالى - على هذا الإنسان بالذات ؟ فتُعطّل من أجله القوانين الطبيعيّة[12]، ويفعل ويُفعل لإطالة عمره والاحتفاظ به لليوم الموعود؟ فهل عقمت البشريّة عن إنتاج القادة ا لأكفّاء؟ ولماذا لا يترك اليوم الموعود لقائد يولد[13] مع فجر ذلك اليوم، وينمو كما ينمو الناس، ويمارس دوره بالتدريج، حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً؟
ويستاءلون أيضاً!
إذا كان المهديّ اسماً لشخص محدّد هو ابن الإمام الحادي عشر[14] من أئمّة أهل البيت (ع)، الذي ولد سنة (256 هـ)[15] وتوفّي أبوه سنة (260 هـ)، فهذا يعني أنه كان طفلاً صغيراً عند موت أبيه، لا يتجاوز خمس سنوات، وهي سن لا تكفي للمرور بمرحلة إعداد فكري وديني كامل على يد أبيه، فكيف وبأي طريقة يكتمل إعداد هذا الشخص[16] لممارسة دوره الكبير، دينياً وفكرياً وعلمياً؟
ويتساءلون أيضاً!
إذا كان القائد جاهزاً، فلماذا كلّ هذا الانتظار الطويل مئات السنين؟
أوليس في ما شهده العالم من المحن والكوارث الاجتماعية ما يبرّر بروزه[17] على الساحة وإقامة العدل على الأرض؟
ويتساءلون أيضاً!
كيف نستطيع أن نؤمن بوجود المهديّ، حتى لو افترضنا أنّ هذا ممكن؟ وهل يسوغ لإنسان أن يعتقد بصحة فرضية من هذا القبيل دون أن يقوم عليها دليل علمي أو شرعي قاطع[18]؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل عن النبيّ (ص) لا نعلم مدى صحّتها[19] للتسليم بالفرضية المذكورة ؟
ويتساءلون أيضاً بالنسبة إلى ما أعدّ له هذا الفرد من دور في اليوم الموعود!
كيف يمكن أن يكون للفرد هذا الدور العظيم الحاسم في حياة العالم؟! مع أنّ الفرد مهما كان عظيماً لا يمكنه أن يصنع بنفسه التاريخ، ويدخل به مرحلة جديدة، وإنما تختمر بذور الحركة التاريخية وجذوتها في الظروف الموضوعية وتناقضاتها، وعظمة الفرد[20] هي التي ترشّحه لكي يشكّل الواجهة لتلك الظروف الموضوعية، والتعبير العملي عما تتطلبه من حلول؟
ويتساءلون أيضاً!
ما هي الطريقة التي يمكن أن نتصور من خلالها ما سيتمّ على يد ذلك الفرد من تحوّل هائل وانتصار حاسم للعدل ورسالة العدل على كلّ كيانات الظلم والجور والطغيان، على الرغم مما تملك من سلطان ونفوذ، وما يتواجد لديها من وسائل الدمار والتدمير، وما وصلت إليه من المستوى الهائل في الامكانات العلمية والقدرة السياسية والاجتماعية والعسكرية؟[21]
هذه أسئلة قد تتردّد في هذا المجال وتقال بشكل وآخر، وليست البواعث الحقيقية لهذه الأسئلة فكرية فحسب، بل هناك مصدر نفسي لها أيضاً، وهو الشعور بهيبة الواقع المسيطر عالمياً، وضآلة أي فرصة لتغييره من الجذور، وبقدر ما يبعثه الواقع الذي يسود العالم على مرّ الزمن من هذا الشعور، تتعمّق الشكوك وتترادف التساؤلات. وهكذا تؤدّي الهزيمة والضآلة والشعور بالضعف لدى الإنسان إلى أن يحسّ نفسيّاً بإرهاق شديد، لمجرد تصور عملية التغيير الكبرى للعالم التي تفرغه من كلّ تناقضاته ومظالمه التاريخية، وتعطيه محتوىً جديداً قائماً على أساس الحق والعدل، وهذا الإرهاق يدعوه إلى التشكّك في هذه الصورة ومحاولة رفضها لسبب وآخر.
و نحن الآن نأخذ التساؤلات السابقة تباعاً; لنقف عند كلّ واحد منها وقفة قصيرة بالقدر الذي تتسع له هذه الوريقات.
[1] إشارة إلى أن هذا ارتكاز في ضمير الإنسانية ، واعتقاد سائد عند أغلب شعوب الأرض، إذ هناك شعور قويٌّ يخالج وجدان الإنسان بظهور المنقذ عندما تتعقّد الأمور، وتتعاظم المحنة، وتدلّهم الخطوب، ويطبق الظلم، وهو ما تبشّر به الأديان، ويحكيه تاريخ الحضارات الإنسانية. راجع: سيرة الأئمّة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني 2: 516 فيما نقله عن الكتب والمصادر، ومنها: نظرية الإمامية عند الشيعة / الدكتور أحمد محمود صبحي.
[2] إشارة إلى معتقد الماركسيّين وأمانيهم باليوم الموعود، حيث ستسود الشيوعيّة - كما يعتقدون - آخر الأمر ويتوقف الصراع المرير، استناداً إلى نظريّتهم الشهيرة في المادية التاريخية. راجع: فلسفتنا / الشهيد الصدر (ره): ص 26 في عرض النظرية ومناقشتها.
[3] إشارة إلى الحديث الشريف المتواتر: «لو لم يبق من الدهر إلا يومٌ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما مُلئت جوراً». راجع: صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2: 207، وراجع: التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف 5: 343.
[4] هذا ردُّ على من يزعم بأنّ العقيدة في الإمام المهديّ تورث الخمول والسلبية، وهو أبلغ ردّ مستفاد من الحديث الشريف نفسه.
[5] إشارة إلى دولة الإمام (ع) التي أشار إليها الرسول الأكرم (ص)، راجع: التاج الجامع للأُصول 5: 343.
[6] إشارة إلى الوعد الإلهي في قوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين). القصص: 5، وأيضاً إشارة إلى قوله تعالى: (ليظهره على الذين كلّه ولو كره المشركون). التوبة: 33، راجع في تفسير الآيتين الإشارة إلى المهديّ (ع) ينابيع المودّة / القندوزي الحنفي: ص 450.
[7] إشارة إلى بشارة الرسول الأعظم نبيّنا محمد (ص) في الحديث الشريف: «إنّ في أمّتي المهديّ، يخرج يعيش خسماً أو سبعاً أو تسعاً»، (الشك من الراوي) قال: قلنا: وما ذاك؟ «قال: سنين، قال: فيجيء إليه الرجل فيقول يا مهديّ أعطني أعطني قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله». رواه الترمذي. راجع: التاج الجامع للأصول / الشيخ منصور علي ناصف 5: 343، وفيه أكثر من إشارة إلى كون الإمام المهديّ موجود حيٌّ يعيش في وسط الأمّة، وأنّ خروجه وعيشه، سبع سنين يعني ظهوره، وقيام دولته المباركة التي فيها الخلاص والعدل.
[8] ورد عنه (ع) أنه سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم، راجع: الاحتجاج / الطبرسي 2 : 545.
[9] إشارة إلى أنّ (المهديّ) ليس مجرد حلم أو فكرة تداعب أفكار المظلومين وتناغي شعورهم، بل هو حقيقة حيّة مجسّدة متشخّصة فى ذات إنسان بعينه، ومن هنا تكون الفكرة ملامسة لوجدانهم، يعيشون بها، ويعيشون لها، ويسهمون في التحضير والتهيئة للالتحام في المعركة الفاصلة التي سيقودها القائد المنتظر، ولو كانت مجرد حلم أو فكرة، فليس من المتوقّع أن تكون مثل تلك الصلة الوجدانية والشعورية. ومن هنا تتأتّى أهمية الانتظار، وتبيّن فلسفته وغاياته، وهو في جملته يتّسق مع حالة الترقّب والإرهاص التي تسبق ظهور المنقذين من الأنبياء والمصلحين.
[10] اختلفت الآراء وتباينت المواقف من مسألة المهديّ المنتظر، تبعاً لاختلاف المواقف من مسألة الغيب الديني والنصوص الدينية المشهورة والمتواترة، على أنّ هناك إطباقاً بين علماء المسلمين والمحقّقين من أهل الحديث من السنّة والشيعة على صحة العقيدة بالمهديّ، وعدم جواز التشكيك بها حتى جاء في المأثور: «من أنكر المهديّ فقد كفر...» وقد استوفى هذه المسألة بحثاً الشيخ عبدالمحسن عبّاد في محاضرته التي نشرتها مجلة الجامعة الإسلامية / العدد الثالث / 1969 م. وراجع: غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف 5 : 343.
[11] هذا تساؤل فريق من الناس، والواقع أنه يمكن تسجيل الملاحظة السريعة الآتية، وإن كان سيأتي جوابه تفصيلاً:
أ ـ إنه ليس مستحيلاً بالمعنى المنطقيّ; بل هو في دائرة الإمكان.
ب ـ إنه ليس مستحيلاً عادةً; لوقوع نظائر ذلك فعلاً كما نصّ القرآن الكريم في مسألة نوح (ع) في قوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً). العنكبوت: 14.
[12] إنّ تعطيل القوانين الطبيعية قد حدث مراراً بالنسبة إلى معاجز الأنبياء (ع)، وهذا أمرٌ ضروريّ من الدين لا مجال لنكرانه فإذا أخبر بذلك من وجب تصديقه جاز بلا خلاف.
[13] هذا إشارة إلى عقيدة طوائف من إخواننا أهل السنّة. راجع: التاج الجامع للأصول 5 : 360 الهامش.
[14] هذا التساأل أثير من قبل ويثار اليوم، بأساليب مختلفة، وكلها تستند إلى موهومات وافتراضات لا تقوم على أساس من العلم، بل هي مجرد تشكيكات، ومحاولات بائسة للفرار من أصل القضية ولوازمها الضرورية، فهي لا تعدو أن تكون أشبه بتشكيكات المادّيين عندما جوبهوا بأدلة العقل والمنطق والعلم فيما يتعلق بالله تعالى، فلجأوا إلى تساؤلات ساذجة تحكي عدم إيمانهم بما قامت عليه الأدلة الوفيرة، نظير قولهم: لو كان موجوداً فلماذا لا نراه؟ ولماذا لا يفعل كذا وكيت؟
وهكذا شأن هؤلاء، فعندما جوبهوا بالأدلة المنطقية والروايات المتواترة في مسألة المهديّ المنتظر مما أطبق عليه الخاص والعام وبما لا يسع المرء إنكاره، لجأوا إلى التشكيك في أنه لم يعرف للحسن العسكري ولدُ، كما اخترعوا أمراً نسبوه زوراً إلى الشيعة من أنهم يقفون على السرداب يومياً ينادون على إمامهم بالخروج، إلاّ أنّهم اختلفوا في السرداب فقال قائل منهم: هو في سامراء، وذهب آخرون إلى أنه في النجف وثالث في مكان آخر، وهكذا شأن المنكرين للضرورات تراهم يخبطون خبط عشواء. راجع: معالجتنا في المقدمة.
[15] لقد أثبت الشيخ المفيد في الإرشاد: ص 346، والشيخ الشعراني في اليواقيت والجواهر ج 2 / المبحث 65، ولادة محمد بن الحسن العسكري في عام 255 هـ، وهما من أجلّة المحقّقين لدى الفريقين، وهذا ما يدحض التشكيكات التي يثيرها بعض أدعياء العلم، فضلاً على ما يقتضيه الحديث المتواتر: «الأئمّة اثنا عشر كلهم من قريش»، فهو لا يستقيم إلاّ بما تقرر لدى الإمامية، وبما التزموا به من إمامة اثني عشر إماماً كلّهم من العترة الطاهرة، أولهم الإمام علي بن أبي طالب (ع)، وآخرهم المهديّ. وهؤلاء هم المنصوص عليهم، ويدعم ذلك ويشهد له حديث الثقلين المتواتر، وحديث من مات لا يعرف إمام زمانه، فهما لا يستقيمان إلاّ على عقيدة الإمامية الاثني عشرية. راجع مناقشة وافية في: الأصول العامة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحكيم / بحث حجية السنّة: ص 145 وما بعدها.
[16] إنّ الذي تعهّد وتكفّل بإعداد النبيّ عيسى (ع)، ووهب النبيّ يحيى الحكم والحكمة وهو صبيّ، كما صرّح القرآن، يمكن أن يتعهّد ويتكفّل بمن أعدّه لتطهير الأرض من الظلم والجور في آخر الزمان، كما هو نصّ الخبر المتواتر في المهديّ الذي هو من عترة فاطمة وذريّة الحسين (ع). راجع: التاج الجامع للأصول 5 : 341 ـ 343.
[17] إنّ هذه المسألة مرهونة باشتراطاتها الخاصة، وكما تأخّر النبي (ص) إلى زمن ظهوره المبارك لحكم وأمور اقتضتها حكمة المرسل (الله) تعالى على رغم الاحتياج إليه، فكذا الأمر هنا.
[18] سيناقش الشهيد الصدر هذه المسألة تفصيلاً.
[19] الواقع ـ وكما سيأتي ـ أنّ علماء الأمّة الإسلامية أجمعوا على صحة أحاديث المهديّ (ع)، ولم يشذ إلاّ من هو ليس من أهل المعرفة بالحديث. راجع: التاج الجامع للأصول 5 : 361.
[20] لقد رأينا صنع (الأبطال) تاريخ أممهم، على أنّ الشهيد الصدر (ره) هنا يقدّم فهماً أصيلاً ومهمّاً جداً لحركة التاريخ ودور الفرد البطل، وأهمية الظروف الموضوعية في ا لتأثير. وقد أشار توماس كارليل في كتابه (الأبطال) إلى دور البطل. راجع كتابه المذكور، ترجمة الدكتور السباعي - مصر - سلسلة الألف كتاب.
[21][21] في هذا إشارة إلى أسلحة الدمار (الشامل) فضلاً عن التطور التكنولوجي الذي شمل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وتأثيراتها الهائلة. إلاّ أننا شهدنا كيف توجد بالمقابل الأسلحة المضادّة التي كثيراً ما تعطّل تلك التأثيرات، وكذلك رأينا تأثير المعنويات في إبطال مفعول أسلحة الخصم أو التقليل من آثارها إلى حدٍّ كبير جداً، كما حدث في الثورات والانتفاضات الشعبية.
عملي في التحقيق
أولاً : اعتمدت في ضبط النص على عدة طبعات ، و هي و إن كانت متقاربة ، و لا يوجد بينها اختلاف مهم ، إلا أننا أفدنا من مجموعها في إخراج النص بصورة دقيقة ، و الطبعات هي :
1-طبعة مكتبة النجاح طهران ، نشرت سنة 1978 م ، و فيها مقدمة قيّمة للدكتور حامد حفني داود .
2-طبعة دار التعارف - بيروت / الطبعة الثالثة 1981 م ، و فيها إشارة إلى أن البحث هو مقدمة كتبها الشهيد الصدر (رض) لكتاب الحجة السيد الصدر الموسوم بـ(موسوعة الإمام المهدي) ، و التي أشار الشهيد الصدر في آخر البحث .
3-طبعة معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي / الطبعة الأولى - طهران 1986 م ، و فيها مقدمة قيّمة للعلامة الشيخ محمد علي التسخيري .
ثانياً : قمت بتخريج الآيات القرآنية من المصحف الشريف .
ثالثاُ : خرّجتُ الروايات من مظانها المعتبرة و من كتب الفريقين المعتمدة .
رابعاً : وثّقتُ الإحالات و الأقوال التي ذكرها الإمام الشهيد بالرجوع إلى مصادرها .
خامساً : كتبت تعليقات مناسبة في الهامش للإشارات و التنبيهات التي وردت في البحث .
سادساً : ذكرت بعض النكات المهمة حيثما اقتضى الأمر ذلك في الهامش .
سابعاً : أضفنا بعض العناوين و حصرناها بين معقوفين ( ) .
ثامناً : هناك بعض الهوامش للشهيد الصدر علّمنا عليها بعلامة ( الشهيد الصدر ) .
و لا يسعني في الختام إلا أن أحمد الله تهالى على ما وفقني إليه ، شاكراً لكل من أعانني على إنجاز هذا التحقيق و نشره ، مع خالص الدعاء بالتوفيق لمركز الغدير للدراسات الإسلامية لقيامه بنشر هذا الكتاب .
و الحمد لله أولاً و آخراً .
الدكتور / عبد الجبار شرارة
قم المقدسة 1416 هـ .
المبحث الأوّل
كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل؟
هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومئة وأربعين سنة، أي حوالي (14) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟
كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معان: الإمكان العملي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي.
وأقصد بالإمكان العملي: أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحقّقه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر، أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلاً. فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكل وآخر.[1]
وأقصد بالإمكان العلمي: أنّ هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عملياً لي أو لك، أن نمارسها فعلاً بوسائل المدينة المعاصرة، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتّجاهاته المتحركة إلى ما يبرّر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه، بل إنّ اتّجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لك; لأنّ الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلاّ فارق درجة، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلاّ مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكناً عملياً فعلاً[2]. وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإنّه غير ممكن علمياً، بمعنى أنّ العلم لا أمل له في وقوع ذلك، إذ لا يتصوّر علمياً وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثّل أتّوناً هائلاً مستعراً بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي: أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قبليّة - أي سابقة على التجربة - ما يبرّر رفض الشيء والحكم باستحالته.
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطقي; لأنّ العقل يدرك - قبل أن يمارس أي تجربة - أنّ الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي; لأنّ انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً، فتكون فرداً وزوجاً في وقت واحد، وهذا تناقض، والتناقض مستحيل منطقياً. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية، إذ لا تناقض في افتراض أنّ الحرارة لا تتسرّب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنّما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.
وهكذا نعرف أنّ الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.
ولا شكّ في أنّ امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً; لأنّ ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض; لأنّ الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع، ولا نقاش في ذلك.
كما لا شكّ أيضاً ولا نقاش في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر، ذلك لأنّ العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا يستطيع أن يُمدّد عمر الإنسان مئات السنين، ولهذا نجد أنّ أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم، لا يتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمكان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرّر رفض ذلك من الناحية النظرية[3]. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان، فهل تعبّر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه - بعد أن تبلغ قمّة نموّها - أن تتصلّب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطّل في لحظة معيّنة، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي؟ أو أنّ هذا التصلب وهذا التناقض في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية، نتيجة صراع مع عوامل خارجية كالميكروبات أو التسمّم الذي يتسرّب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثّف؟ أو ما يقوم به من عمل مكثّف أو أي عامل آخر؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جادّ في الإجابة عنه، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي.
فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتّجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معيّنة، فهذا يعني أنّ بالإمكان نظريّاً، إذا عزلت الأنسجة التي يتكوّن منها جسم الإنسان عن تلك المؤثّرات المعيّنة، أن تمتدّ بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلّب عليها نهائياً.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعيّاً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول:
إذا أخذنا بوجهة النظر هذه، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو - على افتراض وجوده - قانون مرن; لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية; ولأنّ العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية، أنّ الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنيّة، قد تأتي مبكّرة، وقد تتأخر ولا تظهر إلاّ في فترة متأخرة، حتى أنّ الرجل قد يكون طاعناً في السن ولكنه يملك أعضاء ليّنة، ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء[4]. بل إنّ العلماء استطاعوا عمليّاً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرّات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية; وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.
وبهذا يثبت علمياً أنّ تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائن معقّد معيّن كالإنسان، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أنّ العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجّاهاته المتحرّكة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان، سواء فسّرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثّرات خارجية، أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخّص من ذلك: أنّ طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعدّدة أمر ممكن منطقياً وممكن علمياً، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً، إلاّ أنّ اتّجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهديّ عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب، ونلاحظ:
إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجاً، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهديّ العلم نفسه، فيتحوّل الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه، قبل أن يصل العلم في تطوّره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام - الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر - حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
فالجواب: إنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.
أو َليست الشريعة الإسلامية ككلّ قد سبقت حركة العلم والتطوّر الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة ؟ [5]
أولم تنادِ بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين؟
أولم تأتِ بتشريعات في غاية الحكمة، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلاّ قبل برهة وجيزة من الزمن ؟
أولم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثمّ جاء العلم ليثبّتها ويدعمها ؟
فإذا كنا نؤمن بهذا كله، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة - سبحانه وتعالى - أن يسبق العلم في تصميم عمر المهديّ ؟[6] وأنا هنا لم أتكلم إلاّ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدّثنا بها رسالة السماء نفسها .
ومثال ذلك أنها تخبرنا بأنّ النبيّ (ص) قد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهذا الإسراء[7] إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعيّة، فهو يعبّر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يُتح العلم أن يحقّقه[8] إلاّ بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية أتاحت للرسول (ص) التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء.
ولكن!
أوَليس الدور التغييري الحاسم الذي أعدّ له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس، وما مرّت بهم من تطورات التاريخ ؟
أوَليس قد أنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟
فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف، كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإنّ غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد[9] تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟
ولا أدري!
هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكلّ منها عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟
أحدهما مارس دور في ماضي البشرية وهو النبيّ نوح، الذي نصّ القرآن الكريم [10]على أنه مكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد.
والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهديّ الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام، وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهديّ ؟[11]
[1] ولم تكن مثل هذه الأمور بمتصوّرة سابقاً قبل وقوعها، ولو حدّث بها أحدٌ من الناس قبل تحقّقها فعلاً لعدّ الحديث مجرّد تخيّلات وأوهام.
[2] الكلام في وقته دقيق علميّاً، فهو يقول: إنه ممكن علمياً، ولكنه لم يكن قد تحقّق فعلاً، والواقع أنّ كثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء، وتسيير المركبات الفضائية إلى كواكب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبح حقائق في أواخر القرن العشرين.
[3] نعم، لا يوجد مبرّر علمي واحدٌ يرفض هذه النظرية، بل إنّ علماء الطبّ منشغلون فعلاً بمحاولات حثيثة لإطالة عمر الإنسان، وإنّ هناك عشرات التجارب التي تتمّ في هذا المجال، وذلك وحده ينهض دليلاً قوياً على الإمكان النظري أو العملي.
[4] يؤكد الأطباء والدراسات الطبيّة على هذه الملاحظة، وأنّ لديهم مشاهدات كثيرة في هذا المجال، ولعلّ هذا هو الذي دفعهم إلى إجراء محاولات وتجارب لإطالة العمر الطبيعي للإنسان، وكالمعتاد كان مسرح التجربة في البداية هي الحيوانات لميسورية ذلك، وعدم وجود محاذير أخرى تمنع إجراء مثل تلك التجارب على الإنسان.
[5] هذه التساؤلات التي يثيرها السيد الشهيد (ص) تهدف إلى ترسيخ حقيقة مهمة، هي أنّ الرسول الأعظم (ص) عندما بشّر (بالمهديّ)، وهو حالة غير اعتيادية في سياق البشرية، تنبىء في جملتها عن تسجيل سبق في الإمكانية العملية، بعد تأكيد الإمكانيّة العلمية، أي لبقاء الإنسان مدةً أطول بكثير من المعتاد، فإنّ مثل هذا السبق في التنبيه على حقائق في هذا الوجود كان قد سجّله القرآن الكريم والحديث الشريف في موارد كثيرة جداً في مسائل الطبيعة والكون والحياة، راجع: القرآن والعلم الحديث / الدكتور عبدالرزاق نوفل.
[6] إشارة إلى أنّ هذا من قبيل الإعجاز أيضاً، وهو إفاضة ربانية خاصة، وهذا أمر لا يسع المسلم إنكاره، بعد أن أخبرت بأمثاله الكتب السماوية، وبالأخص القرآن، كالذي ورد في شأن عمر النبيّ نوح (ع)، وكذا ما أخبر به القرآن من المغيبات الأخرى، على أنّ كثيراً من أهل السنّة ومن المتصوّفة وأهل العرفان يؤمنون بوقوع الكرامات ومايشبه المعجزات للأولياء والصلحاء والمقرّبين من حضرة المولى تعالى. راجع: التصوّف والكرامات / الشيخ محمد جواد مغنيّة. وراجع: التاج الجامع للأصول 5 : 228 / كتاب الزهد والرقائق ، الذين تكلّموا في المهد.
[7] إشارة إلى الآية المباركة: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...) الإسراء : 1.
[8] إشارة إلى تصميم المركبات الفضائية، وركوب الفضاء والتوغّل إلى مسافات بعيدة عن أرضنا، وقطعها في ساعات أو أيام معدودة، وقد أضحت هذه حقائق في حياتنا المعاصرة في أواخر القرن العشرين.
[9] إشارة إلى ما أعدّ للإمام المهدي المنتظر من دور ومهمة تغييرية على مستوى الوجود الإنساني برمّته كما يشير الحديث الصحيح: «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً». وهذا الدور وهذه المهمة عليهما الإجماع بين علماء الإسلام، والاختلاف حصل في أمور فرعية.
ومن هنا كان التساؤل الذي أثاره السيد الشهيد (رض) له مبرر منطقي قويّ.
[10] في الآية المباركة: (فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً). العنكبوت: 14.
[11] السؤال موجّه إلى المسلمين المؤمنين بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي الشريف، وقد روى علماء السنّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك. راجع تهذيب الأسماء واللغات / النووي 1: 176، ولا يصحّ أن يشكّل أحدٌ بأنّ ذاك أخبر به القرآن فالنصّ قطعيّ الثبوت، وهو يتعلق بالنبيّ المرسل نوح (ع)، أما هنا فليس لدينا نصّ قطعي، ولا الأمر متعلق بنبيّ.
والجواب: أنّ المهمة أولاً واحدة، وهى تغيير الظلم والفساد، وأنّ الوظيفة كما أوكلت إلى النبيّ، فقد أوكلت هنا إلى من اختاره الله تعالى أيضاً، كما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم (ص): «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم الطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً...» التاج الجامع للأصول 5 : 343.
وأما من جهة قطعيّة النص، فأحاديث المهديّ بلغت حدّ االتواتر، وهو موجب للقطع والعلم، فلا فرق في المقامين، راجع: التاج الجامع للأصول 5 : 341 و 360 فقد نقل التواتر عن الشوكاني، وانتهى المحقّقون من علماء الفريقين إلى القول بأنّ من كفر بالمهديّ فقد كفر بالرسول محمد (ص)، وليس ذلك إلاّ بلحاظ أنه ثبت بالتواتر، وأنه من ضرورات الدين، والمنكر لذلك كافر إجماعاً. وراجع: الإشاعة لأشراط الساعة / البرزنجي في بحثه حول المهديّ. وقد نقلنا حكاية التواتر في المقدّمة أيضاً.
المبحث الثاني
المعجزة والعمر الطويل
وقد عرفنا حتى الآن أنّ العمر الطويل ممكن علمياً، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم، ولا على خطّها الطويل أن تتغلب عليه، وتغيّر من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان - كنوح أو كالمهديّ - قروناً متعدّدة، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطّلت قانوناً طبيعياً في حالة معيّنة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة[1]، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويا، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (ع)،
حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون. فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) الأنبياء : 69، فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض، فَفُلق البحر لموسى[2] ، وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى[3] ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبيّ محمد (ص) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربّص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم[4]. كلّ هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين .
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو أنه كلّما توقّف الحفاظ على حياة حجة لله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمّته التي أعدّ لها، تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز مهمته التي أعدّ لها، وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي أعدّ لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرّره القوانين الطبيعية .
ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطّل القانون ؟[5] وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدّد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟!
والجواب: أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلك: إنّ القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدلّ بهذا الاطّراد على قانون طبيعي، وهو أنّه كلّما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها; لأنّ الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة و وسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤكد أنّ القانون الطبيعي - كما يعرّفه العلم - لا يتحدّث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين[6]، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الدينيّ، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببيّة.
فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالأخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد[7] بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبيّة.
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدّي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء [8]، فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة، في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنّا نرى أنّه يدلّ على وجود تفسير مشترك لا طّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، و هذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظّم الكون إلى ربط ظواهر معيّنة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة .
[1] أي أنّ الأمر يصبح من قبيل المعجز، وهو ما نطق به القرآن، وجاء في صحيح السنّة المطهّرة، والإعجاز حقيقة رافقت دعوة الأنبياء، وادّعاء سفارتهم عن الحضرة الإلهيّة، وهو ما لا يسع المسلم إنكاره أو الشك فيه، بل إنّ غير المسلم يشارك المسلم في الاعتقاد بالمعجزات.
[2] إشارة إلى قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلّ فرق كالطّود العظيم) الشعراء : 63
[3] إشارة إلى قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّهَ لهم...) النساء : 157.
[4] راجع: سيرة ابن هشام 2: 127، فقد نقل هذه الحادثة وهي مجمعٌ عليها.
[5] قد يقال: إنّ القانون بصفته قانوناً لابدّ يطّرد، ولا يتصور التعطيل والانخرام، وقد لا حظ بعضهم أنّ الانخرام إنّما هو بقانون آخر، كما هو الأمر بالنسبة إلى قانون الجاذبية، الذي يستلزم جذب الأشياء إلى المركز، ومع ذلك فإنّ الماء يصعد بعملية الامتصاص في النباتات من الجذر إلى الأعلى بواسطة الشعيرات، وهذا بحسب قانون آخر هو (الخاصيّة الشعريّة). راجع: القرآن محاولة لفهم عصري / الدكتور مصطفى محمود.
[6] وقد بسط الشهيد الصدر القول في هذه المسألة في كتابه فلسفتنا فراجع، ص 295 و 299.
[7] راجع: فلسفتنا ص282 وما بعدها.
[8] راجع بسط وشرح النظرية في "الأسس المنطقية للاستقراء" حيث توصّل الإمام الشهيد الصدر (ره) إلى اكتشاف مهمّ وخطير على صعيد نظرية المعرفة بشكل عام.
المبحث الثالث
لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمره (عج) ؟
ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول:
لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخّض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر.
وبكلمة أخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها ؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعة فريدة[1] لا يمكن التعويض عن أي واحد منهم، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود.
وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين[2] ، ونطرح السؤال التالي :
إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها، وتمكّنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟
ونجيب عن ذلك بالإيجاب، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي :
إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها، مشحوناً بالشعور... بالتفوّق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعدّ للقضاء عليها، وتحويلها حضاريّاً إلى عالم جديد.
فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنها مجرّد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية[3] على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدّها حتى النصر. ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة و كيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ، تطلّب زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكلّ قيمه الحضارية وكياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها; لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها; لأنّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أو جهها المختلفة.
وخلافاً لذلك، شخص يتوغّل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثمّ تداعت وانهارت[4]، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ..
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن..
ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر..
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة، ويحالفها التوفيق تارة أخرى..
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين، ينظر إلى هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه، لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو)[5] إلى الملكيّة في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرّد أن يتصوّر فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكريّاً وفلسفيّاً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ; لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل
الملكيّة، وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغّل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيّأت له الأسباب فوجد، وستتهيأ الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأنّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل .
هل قرأت سورة الكهف ؟
وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدىً ؟[6] و واجهوا كياناً وثنيّاً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم، و لجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ ويصفّي كلّ من يخفق قلبه للحقّ .
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم ؟
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين[7] في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّك ساكناً، كلّ ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
و لئن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمئة سنة، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم، والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرد نسمة[8].
أضف إلى ذلك، أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوّراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود; لأنها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التاريخية.
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيّته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضاره التي يقدّر لليوم الموعود أن يحاربها.
وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييريّة ضدها.
فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعدّ لاستبدالها، لابدّ أن تكون شخصيته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون فى الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجّه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.[9]
[1] إشارة إلى معتقد الإماميّة الاثني عشريّة المستند إلى أدلة المعقول والمنقول، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر «إني تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» . راجع: صحيح مسلم 4 : 1874 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89، قال: ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً.
وكذلك إلى قوله (ص):«لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...»، وإلى قوله (ص): «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش». ومفاد ذلك كلّه تقرير هذا المعنى.
[2] تحدّث النبيّ الأكرم محمد (ص) كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم، ووظيفتهم ومهمّاتهم، وأنهم حملة الشريعة، وسفن النجاة، وأمان الأمّة، وعصمتها من الضلال، كما إليه الإشارة في حديث الثقلين، وحديث لن يفترقا، وكلاهما يؤكّدان عصمتهم، إذ لا يعقل أنهم عصمة الأمّة من الضلال، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم، وهم غير معصومين!!
راجع في هذا المطلب: الأصول العامّة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحكيم / مبحث حجّية السنّة : ص 169 وما بعدها.
[3] أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة، أمرٌ مفروغ منه، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه يتحدّث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جدّاً، وبخاصة فيما يتعلّق بالنبيّ نوح (ع)، وهو أمرٌ يلفت الانتباه والنظر، وربّما يكون للتشابه والاتّفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما، كما نبّه الشهيد الصدر (ره) إليه.
راجع: مع الأنبياء / عفيف عبدالفتاح طبارة.
[4] ويمكن أن تقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتّحاد السوفيتي وترقّيه حتى صار القطب الثاني في العالم، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية، وركبا معاً أجواء الفضاء، ثمّ شهدنا انهيار الاتّحاد السوفيتي وتفكّك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟
[5] جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقّاد الوجه الأبعد نفوذاً في الأدب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة، وقد مهّدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي، راجع: موسوعة المورد / منير البعلبكيّ 8 : 169.
[6] إشارة إلى الآية القرآنية المباركة: (إنهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هدىً...)الكهف: 13، وراجع تفسيرها في الكشّاف / الزمخشري 2: 706، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
[7] إشارة إلى الآية: (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادو تسعاً...)الكهف: 25.
[8] وكلّ ذلك له مدخليّة في تربيته وإعداده الإعداد الخاص، بما في ذلك امتلاكه النظرة الشمولية العميقة، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً، ويسترهبون الناس، وهذا الشهود يؤهّله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير، أي ملئه للأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً، هذا بغمض النظر عن مؤهّلاته الذاتية، والعناية الربّانيّة الخاصة.
[9] ولا ينبغي أن يُشكِل أحدٌ بأنّ النبيّ محمد (ص) مع عالمية رسالته ومهمّته التغييرية الكبرى، إلاّ أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية، ولم يتأثر بها، وكذا الأنبياء السابقون، فما هو الوجه في هذا الرأي؟
فجوابه:
أ - إنّ النبيّ (ص) قد أخضع فعلاً إلى حالة عزلة تامة عن الحضارة الجاهلية، وأنه كما ورد في السيرة النبوية قد حبّب إليه الخلاء، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنّث فيه، وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عمّا عليه مجتمعهم، وكانوا يعتزلون، وإليه الإشارة في قوله تعالى: (فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق) مريم : 49.
ب ـ إنّ النبيّ المرسل يوحى إليه، ويسدّد مباشرة من السماء، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخّذها خطوةً، والإمام (ع) لا يوحى إليه ـ كما هو عقيدة الإمامية ـ، ولا يبلّغ بالأمور مباشرة من السماء، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانيّة، ولذلك فهو يحتاج إلى إعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتّصلاً بالحضارة الإسلامية، مستمدّاً من آبائه (ع) الأصالة والمعرفة والعلم، يكون مطّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تكوّنها وقوّتها، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً، هذا مع اعتقادنا بقدرات الإمام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له، وبكونه مسدّداً من السماء، كما سيتوضّح في المبحث الرابع.
المبحث الرابع
كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر؟
ونأتي الآن على السؤال الثالث القائل: كيف اكتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسكري إلاّ خمس سنوات تقريبا ً؟ وهي فترة الطفولة التي لا تكفي لإنضاج شخصية القائد، فما هي الظروف التي تكامل من خلالها ؟
والجواب: إنّ المهديّ (ع) خلف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنه كان إماماً بكلّ ما في الإمامة من محتوىً فكري وروحي في وقت مبكر جداً من حياته الشريفة .
والإمامة المبكّرة ظاهرة سبقهُ إليها عددٌ من آبائه (ع)، فالإمام محمد بن علي الجواد (ع) تولّى الإمامة وهو في الثامنة من عمره[1]، والإمام علي بن محمد الهادي تولّى الإمامة وهو في التاسعة من عمره[2]، والإمام أبو محمد الحسن العسكري[3] والد القائد المنتظر تولّى الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ والإمام الجواد، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنها كانت بالنسبة إلى عدد من آباء المهديّ (ع) تشكّل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر، ولا يمكن أن نُطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوى من تجربة أُمّة[4]. ونوضح ذلك ضمن النقاط التالية :
أ - لم تكن إمامة الإمام من أهل البيت مركزاً من مراكز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلى الابن، ويدعمها النظام الحاكم كإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العباسيّين، وإنما كانت تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي، والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام، وقيادته على أُسس روحية وفكرية.
ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت على عهد الإمامين الباقر والصادق (ع)، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشكّل تيّاراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي، يضم المئات من الفقهاء والمتكلّمين والمفسّرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتى قال الحسن بن عليّ الوشا: إنّي دخلت مسجد الكوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ[5]، كلّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمد.
ج - إنّ الشروط التي كانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيّة في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف على كفاءته للإمامة، شروط شديدة; لأنها تؤمن بأنّ الإمام لا يكون إماماً إلاّ إذا كان أعلم علماء عصره [6].
د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية كانت تقدم تضحيات كبيرة في سبيل الصمود على عقيدتها في الإمامة; لأنها كانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشكّل خطّاً عدائياً، ولو من الناحية الفكرية على الأقل، الأمر الذي أدّى إلى قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب، فقُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. و هذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت كان يكلّفهم غالياً [7]، ولم يكن له من الإغراءات سوى ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلى الله تعالى و الزلفى عنده.
هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يكونوا معزولين عنها، ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يكونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاكمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الكبير من الرواة والمحدّثين عن كلّ واحد من الأئمّة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المكاتبات التي كانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما كان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما كان يبثّه من وكلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخرى، وما كان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة عندما يؤمّون الديار المقدّسة من كلّ مكان لأداء فريضة الحج[8]ّ، كلّ ذلك يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.
و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة (ع) كانت تنظر إليهم وإلى زعامتهم الروحية و الإمامية بوصفها مصدر خطر كبير على كيانها و مقدّراتها ، وعلى هذا الأساس بذلت كلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلك كثيراً من السلبيّات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلى ذلك، وكانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّة للأئمّة[9] أنفسهم على الرغم ممّا يخلّفه ذلك من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين على اختلاف درجاتهم.
إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشكّ، أمكن أن نخرج بنتيجة، وهي: أنّ ظاهرة الإمامة المبكّرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام; لأنّ الإمام الذي يبرز على المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفكريّاً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة كلّ ذلك التيّار الواسع، لا بدّ أن يكون على قدر واضح وملحوظ، بل وكبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكّن من الفقه والتفسير والعقائد; لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع تلك القواعد الشعبية بإمامته، مع ما تقدم من أنّ الأئمّة كانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط على حياتهم وموازين شخصيّتهم. فهل ترى أنّ صبيّاً يدعو إلى إمامة
نفسه وينصّب منها علماً للإسلام وهو على مرأىً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلّف نفسها اكتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبكّرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيّ الإمام ؟[10] وهب أنّ الناس لم يتحركوا لاستطلاع المواقف، فهل يمكن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً، بل أعواماً دون أن تتكشّف الحقيقة، على الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يكون صبيّاً في فكره وعلمه حقّاً، ثمّ لا يبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل؟
وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتح لها أن تكتشف واقع الأمر، فلماذا سكتت الخلافة القائمة ولم تعمل لكشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وما كان أيسر ذلك على السلطة القائمة لو كان الإمام الصبيّ صبيّاً في فكره و ثقافته كما هو المعهود في الصبيان، وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلى شيعته وغير شيعته على حقيقته، وتبرهن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحيّة والفكرية. فلئن كان من الصعب الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر كبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة، فليس هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبيّ اعتيادي مهما كان ذكيّاً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون[11] ، وكان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع ، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ .
إنّ التفسير الوحيد لسكوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة[12]، هو أنها أدركت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة حقيقيّة وليست شيئاً مصطنعاً.
والحقيقة أنها أدركت ذلك بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلك الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها[13]، بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكّرة أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.
و هذا معنى ما قلناه من أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليست مجرّد افتراض، كما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة
ويكفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبكّرة في التراث الربّاني لأهل البيت (ع) يحيى (ع) إذ قال الله سبحانه وتعالى: ( يا يحيى خذ الكتاب بقوّة وآتيناه الحكم صبياً ) مريم: 12.
و متى ثبت أنّ الإمامة المبكّرة ظاهرة واقعية و متواجدة فعلاً في حياة أهل البيت (ع) لم يعد هناك اعتراض فيما يخصّ إمامة المهديّ (ع) وخلافته لأبيه وهو صغير[14].
[1] راجع: الفصول المهمّة لابن الصباغ المالكيّ المكّيّ (ت / 855 هـ). وراجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 316 وما بعدها.
[2] راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسّسة البعثة - قم. وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 ـ 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته.
[3] راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسّسة البعثة - قم. وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 ـ 124، إذ ذكر طرفاً من سيرة الإمام وكراماته.
[4] راجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 319 وما بعدها. والصواعق المحرقة: ص 123 ـ 124
فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد (ع) ويحيى بن أكثم زمن المأمون، وكيف استطاع الإمام (ع) أن يثبت أعلميّته وقدرته على إفحام الخصم وهو في تلك السن المبكّرة.
[5] راجع: المجالس السنيّة / السيد الأمين العاملي 5: 209، وهذه قضية مشهورة تناقلها الخاص والعام. وراجع: صحاح الأخبار / محمد سراج الدين الرفاعي: ص 44، نقلاً عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1: 56. وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 120: "جعفر الصادق، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني...".
[6] كون الإمام أعلم أهل زمانه أمرٌ متسالم عليه عند الإمامية. راجع: الباب الحادي عشر / العلاّمة الحلّيّ، هذا وقد عُرّضوا لأكثر من اختبار صلوات الله وسلامه عليهم لإثبات هذا المدّعى، ونجحوا فيه.
راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123، فقد نقل تفصيلاً في هذه المسألة عن مسائل يحيى بن أكثم للإمام الجواد (ع).
[7] إنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة كلّف أتباعهم غالياً، وهذا ثابت تاريخياً، وليس إلى إنكاره من سبيل، والشاهد يدلّ على الغائب أيضاً. راجع: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.
[8] وقد أوصى الأئمّة بذلك أتباعهم كما هو لسان الروايات الكثيرة.
راجع: أصول الكافي 1: 322 / كتاب الحجّة - باب 2 "إنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم، ويعلمونه ولايتهم ومودّتهم له ".
[9] راجع في تاريخ الأئمة (ع)، وتعرّضهم للاضطهاد والمطاردة والسجن والقتل أحياناً:
أ ـ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي.
ب ـ مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.
ج ـ الإرشاد للشيخ المفيد.
[10] إشارة إلى الإمام المهديّ (ع)، ومن قبل إلى الإمام الجواد مثلاً.
[11] أي على أنه يجب أن يكون أفضل الناس، وأعلم الناس كما هو معتقد الإماميّة الاثني عشريّة.
راجع: حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين للسيد عبدالله شُبّر (ت / 1242 هـ) 1: 141، المقصد الثالث.
[12] يقصد تقديم الإمام الصبيّ للاختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر.
[13] قد فعل المأمون ذلك، وانكشف لدى الخاصّ من العلماء مدى ما يمتلكه الإمام الجواد (ع) من الفقه والعلم. راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123.
[14] وقد شاهد خاصّة الشيعة الإمام المهديّ واتّصلوا به، وأخذوا عنه، كما حصل عن طريق السفراء الأربعة. راجع: تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهديّ / البحراني، والإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 535 وما بعدها.
المبحث الخامس
كيف نؤمن بأنّ المهديّ قد وُجد ؟
ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول: هب أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل، وإمامة مبكّرة، وغيبة صامتة، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً.
فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهديّ ؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (ص)، للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر، على الرغم ممّا في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي (ع) وجوداً تاريخياً حقّاً وليس مجرد افتراض توفّرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس ؟[1]
و الجواب : إنّ فكرة المهديّ بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً، وفي روايات أئمّة أهل البيت خصوصاً، وأكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشكّ. وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبيّ (ص) من طرق إخواننا أهل السنّة[2]، كما أُحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهديّ من طرق الشيعة والسنّة فكان أكثر من ستة آلاف رواية[3]، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفّر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشكّ فيها مسلم عادة.
و أما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبرّرات كافية و واضحة للاقتناع به.
ويمكن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين :
أحدهما إسلامي .
والآخر علمي .
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر.
وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهديّ ليس مجرّد أُسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أما الدليل الإسلامي :
فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (ص)[4] والأئمّة من أهل البيت (ع) ، والتي تدلُّ على تعيين
المهديّ (ع) وكونه من أهل البيت (ع) :
أخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حمّاد في الفتن عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): «المهديّ منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة».
راجع: الحاوي للفتاوي / السيوطي 2: 213 و 215 وفيه، أيضاً: أخرج أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود، عن عليّ، عن النبيّ (ص) قال: «لو لم يبقَ من الدهر إلاّ يومٌ لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»، و راجع : صحيح سنن المصطفى 2: 207، وسنن ابن ماجة 2: 1367 / 4085. [5]
ومن ولد فاطمة (ع) :
الحاوي للفتاوي / السيوطي جلال الدين 2: 214، قال: وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: «المهديّ من عترتي من ولد فاطمة». راجع صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2: 208.
ومن ذرية الحسين (ع) :
منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر / لطف الله الصافي الكلبكاني ص 203 دلايل الامامة ، ... قال : قال رسول الله (ص) : " لا تذهب حتى يقوم بأمر أمتي رجل من ولد الحسين يملأ الدنيا عدلاً كما ملئت ظلماً " - بتصرف الناقل- .[6]
وأنه التاسع من ولد الحسين (ع) :
منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر / لطف الله الصافي الكلبكاني ص 209 / 2- كفاية الأثر : . . . قال : قال رسول الله (ص) : " لا تقوم الساعة حتى يقوم قائم الحق منا ، و ذلك حين يأذن الله عز و جل فمن تبعه نجى ، و من تخلف عنه هلك ، فالله الله عباد الله ايتوه على الثلج !! فانه خليفة الله قلنا يا رسول الله (ص) متى يقوم قائمكم ؟ قال : اذا صارت الدنيا هرجاً و مرجاً و هو التاسع من صلب الحسين (ع) " - بتصرف الناقل - . [7]
و أن الخلفاء اثنا عشر (ع) :
حديث «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» أو «لا يزال هذا الدين قائماً ما وليه اثنا عشر، كلهم من قريش».
هذا الحديث متواتر، روته الصحاح والمسانيد بطرق متعدّدة وإن اختلف في متنه قليلاً. [8]
فإنّ هذه الروايات تحدّد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت، و هي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار، على الرغم من تحفّظ الأئمّة (ع) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته[9]. و ليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا و قرائن تبرهن على صحّتها، فالحديث النبوي الشريف عن الأئمّة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً - على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مئتين وسبعين رواية[10] مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة ، بما في ذلك البخاري[11] ومسلم[12] و الترمذي[13] وأبي داود[14] ومسند أحمد[15] ومستدرك الحاكم على
الصحيحين[16]، ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكريّ، وفي ذلك مغزىً كبير; لأنه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سُجّل عن النبيّ (ص) قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمّة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له; لأنّ الأحاديث المزيفة التي تنسب إلى النبيّ (ص) ـ وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً ـ لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكّل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمّة الاثني عشر،
وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري ، أمكننا أن نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى[17] ، فقال: «إنّ الخلفاء بعدى اثنا عشر»[18]. وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليّ وانتهاءً بالمهديّ ; ليكون التطبيق الوحيد المعقول[19] لذلك الحديث النبوي الشريف.
و أما الدليل العلميّ :
فهو يتكوّن من تجربة عاشتها أمّة من الناس فترة امتدّت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى. ولتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى[20] .
إنّ الغيبة الصغرى تعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام، فقد قدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ويظلُّ بعيداً باسمه عن الأحداث، وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حقّقت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الإسلامية; لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سبّبت هذه الغيبة[21]المفاجئة
الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كلّه ويشتّت شمله، فكان لابدّ من تمهيد لهذه الغيبة; لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهديّ عن المسرح العام، غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طرق وكلائه ونوّابه، والثقات من أصحابه الذين يشكّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي[22]. وقد شغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممّن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها.
وهم كما يلي :
1 - عثمان بن سعيد العمريّ.
2 - محمد بن عثمان بن سعيد العمريّ.
3 - أبوالقاسم الحسين بن روح.
4 - أبوالحسن عليّ بن محمد السمريّ.
وقد مارس هؤلاء الأربعة[23] مهامّ النيابة بالترتيب المذكور، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهديّ (ع) .
وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريريّة[24]في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة. ولا حظت أنّ كلّ التوقعيات والرسائل كانت ترد من الإمام المهديّ (ع) بخطّ واحد وسليقة واحدة[25] طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمّريّ هو آخر النواب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنوّاب معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لايوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق
الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها; لأنها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين[26]إلى خطّ عام[27]، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.
و الآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدم، لكي تدرك بوضوح أنّ المهديّ حقيقة عاشتها أمة من الناس، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم من الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدة تلاعباً في الكلام، أو تحايلاً في التصرف، أو تهافتاً في النقل. فهل تتصور - بربّك - أنّ بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشكّ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسّونها و يعيشون معها ؟!
لقد قيل قديماً: إنّ حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من المستحيل عمليّاً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكلّ هذه المدّة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثمّ تكسب ثقة جميع من حولها.
وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعيّ، والتسليم بالإمام القائد بولادته[28] وحياته وغيبته، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد[29].
[1] هذه التساؤلات يطرحها السيد الشهيد (ص) بصفتها من الإشكالات التي أثيرت وتُثار عادةً حول المهديّ (ع)، وهي أقصى ما يُثار في هذا الصدد، حتى أنّ بعض الكتّاب المعاصرين قد أثاروها أخيراً مدفوعين بدوافع غير علمية، مصحوبة تلك الإثارة بضجيج مكثّف، ومحاولات بائسة من الوهابية لترويجها وتبنّيها، ولا تخفى الدوافع بعد ذلك على أحد. وقد أجاب الإمام الشهيد بجواب علمي لمن يريد الحقيقة. راجع ما كتبناه في المقدمة أيضاً.
[2] يلاحظ كتاب (المهديّ) للسيد "العم" الصدر قدّس الله روحه الزكية. (الشهيد الصدر).
راجع: ما أثبته الشيخ العبّاد في مجلد الجامعة الإسلامية / العدد 3 سنة 1969.
وراجع: المهديّ الموعود المنتظر / الشيخ نجم الدين العسكري.
[3] يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي. (الشهيد الصدر).
[4] راجع: معجم أحاديث الإمام المهديّ / مؤسّسة المعارف الإسلاميّة / الجزء الأول ـ أحاديث النبيّ.
[5] و راجع: معجم أحاديث المهديّ 1: 147 وما بعدها، إذ ينقل أحاديث كثيرة عن الصحاح والمسانيد في هذا المعنى. موسوعة الإمام المهديّ / ترتيب مهدي فقيه إيماني، الجزء الأول، وفيها نسخة مصوّرة عن محاضرة الشيخ العبّاد حول ما جاء من الأحاديث والآثار فى المهديّ (ع).
[6] حديث المهديّ من ذرية الحسين (ع) كما في المصادر الآتية على ما نقل في معجم أحاديث المهديّ وهي: الأربعون حديثاً لأبي نعيم الأصفهاني كما في عقد الدرر للمقدسي الشافعي، وأخرجه الطبراني في الأوسط على ما في المنار المنيف لابن القيّم، وفي السيرة الحلبية 1: 193، وفي القول المختصر لابن حجر. راجع منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي في ما نقله من كتب الشيعة، وراجع توهين الرواية التي تقول بأنّه من ولد الإمام الحسن (ع) كتاب السيد العميدي (دفاع عن الكافي 1: 296).
[7] راجع الرواية التي تنص على أنّه التاسع من ولد الحسين (ع) في: ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي: ص 492، وفي مقتل الإمام الحسين للخوارزمي 1: 196، وفي فرائد السمطين للجويني الشافعي 2: 310 ـ 315 الأحاديث من 561 ـ 569، وراجع منتخب الأثر للعلاّمة الشيخ الصافي إذ خرّجها من طرق الفريقين (دفاع عن الكافي 1: 294).
[8] نعم، اختلفوا في تأويله واضطربوا. راجع: صحيح البخاري 9: 101 كتاب الأحكام ـباب الاستخلاف. وصحيح مسلم 2: 119 كتاب الإمارة. مسند أحمد 5: 90، 93، 97.
[9] راجع الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر: ص 272 وما بعدها.
[10] راجع التاج الجامع للأصول 3: 40، قال: رواه الشيخان والترمذي، وراجع في تحقيق الحديث وطرقه وأسانيده كتاب الإمام المهديّ (ع) / عليّ محمد عليّ دخيل.
[11] صحيح البخاري / المجلد الثالث / 9: 101، كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف. طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
[12] راجع: التاج الجامع للأصول 3: 40، قال تعقيباً على الحديث: رواه الشيخان والترمذي، وفي الهامش قال: رواه أبو داود في كتاب المهدي بلفظ: "لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة..."، وراجع سنن أبي داود 2: 207.
[13] المصدر السابق .
[14] المصدر السابق .
[15] مسند الإمام أحمد 5: 93، 100.
[16] المستدرك على الصحيحين 3: 618.
[17] إشارة إلى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)النجم: 3 ـ 4.
[18] تقدّم تخريج الحديث .
[19] اضطرب العلماء في تأويله بعد إطباقهم على صحته، وما أوردوه من مصاديق لا يمكن قبولها، بل أنّ بعضها غير معقول تماماً كإدخالهم يزيد بن معاوية المجاهر بالفسق، المحكوم بالمروق والكفر أو من هو على شاكلته. راجع ما نقله السيد ثامر العميدي من أقوالهم، وقد ناقش هذه القضية مناقشة وافية وعلمية، وأبطل تأويلاتهم بما لا مزيد عليه في دفاع عن الكافي 1: 540 وما بعدها.
[20] راجع: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر، فقد توسّع في بحثها.
[21] إشارة إلى الغيبة الكبرى.
[22] راجع: تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهديّ / السيد هاشم البحراني. ودفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 568 وما بعدها.
[23] راجع ترجمة هؤلاء الأربعة في كتاب الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر، الفصل الثالث: ص 395 وما بعدها، نشر دارالتعارف للمطبوعات / بيروت 1980.
[24] وهذه تُعرف بالتوقيعات، وهي الأجوبة التحريريّة والشفويّة التي نقلت عن الإمام المهديّ (ع). راجع: الاحتجاج / الطبرسي 2 : 523 وما بعدها.
[25] مما استقر في الأوساط الأدبية وعند نقّاد الأدب قديماً وحديثاً أنّ الأسلوب هو الرجل، وهذه المقولة صحيحة. ومن هنا رأينا وسمعنا أنّ كثيراً من الأدباء وقارئي الأدب يميّزون بمجرّد قراءة النصّ شعريّاً كان أم نثريّاً أنه لفلان، وما ذلك إلاّ لأنّ الأسلوب هو الرجل، وأنّ لكلّ كاتب سمةً وطابعاً خاصّاً في كتابته يمكن تمييزه من غيره، هذا فضلاً على تميّز خطّه الشريف من غيره من الخطوط .
[26] إشارة إلى النوّاب الأربعة المذكورين.
[27] وهو ما اصطلح عليه (بالمرجعيّة الدينيّة)، ويلاحظ هنا الصفات التي يرى الإمام الشهيد لزوم توفّرها في المرجعيّة.
[28] إنّ اتّصال الإمام القائد المهديّ بقواعده الشيعيّة عن طريق نوابه ووكلائه، أو بأساليب أخرى متنوّعة واقع تاريخي موضوعي ليس من سبيل إلى إنكاره، كما في السفارة، فضلاً عن الدلائل الأخرى الكثيرة المستندة إلى إخبار من يجب تصديقه، ثم هو مقتضى الأحاديث المتواترة، كحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»، وغير ذلك. إنّ كلّ ذلك مجموعاً ـ وهو محل اتّفاق أكثر طوائف الملّة الإسلامية ـ يدحض وبشكل قاطع ما يثيره المتشكّكون حول وجود الإمام واستمرار حياته المباركة الشريفة، راجع: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر: ص 566. وراجع ما أثبتناه في المقدمة: ص 15 وما بعدها.
[29] ورد التوقيع الشريف عن الإمام القائد المهديّ (ع) بعدم إمكان رؤيته بشكل صريح بعد وقوع الغيبة الكبرى، وهذا محل اتّفاق علماء الإمامية. وراجع مناقشة المسألة في: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر: ص 639 وما بعدها.
المبحث السادس
لماذا لم يظهر القائد إذن؟
لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة ؟ وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذ أبسط وأيسر، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قويّة، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطوّر العلمي والصناعي؟
والجواب: أنّ كلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتّى لها أن تحقّق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.
و تتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجّرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية[1] ; لأنّ الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربّانيّة، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف. ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيّ محمد (ص); لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخّرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها - مثلاً - لينين في روسيا بنجاح، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأولى وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلّل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتّفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح .
و قد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الربّاني على التقيّد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقّق المناخ المناسب والجو العام لإنجاج عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الإسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمرّ قروناً من الزمن.
فعلى الرغم من قدرة الله - سبحانه وتعالى - على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب; لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان يفرض على العمل التغييري الربّاني أن يكون طبيعيّاً وموضوعيّاً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخّل الله - سبحانه وتعالى - أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوّن المناخ المناسب، وإنما قد يتطلّبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في
لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم[2]، وإذا بيد اليهوديّ الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبيّ (ص) تُشلّ وتفقد قدرتها على الحركة[3]، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيّمات الكفّار والمشركين الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب[4]، إلاّ أنّ هذا كلّه لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهديّ (ع) لنجد أنّ عملية التغيير التي أعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن تُوقّت وفقاً لذلك. ومن المعلوم أنّ المهديّ لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك; لأنّ رسالته التي ادّخر لها من قبل الله - سبحانه وتعالى - هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كلّ البشريّة، من ظلمات الجور إلى نور العدل[5]، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلاّ لتمّت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلّب مناخاً عالمياً مناسباً، وجوّاً عاماً مساعداً، يحقّق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة، التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى، مدركاً حاجته إلى العون، متلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.
و من الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كلّه، وذلك بما تحقّقه من تقريب المسافات، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.
و أما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يُواجهها القائد في اليوم الموعود كلّما أُجّل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأول لمسة غازية; لأنه كان منهاراً قبل ذلك، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه[6].
[1] على الرغم من الأهمية التي يعطيها الشهيد الصدر (ره) هنا للظروف الموضوعية; ودور نضوجها أو إنضاجها في نجاح الثورات ـ وهذا فهم عميق لأثر العالم الاجتماعي والنفسيّ ـ إلاّ أنّ الشهيد الصدر (ره) يعرض نظرية جديدة في فهم عملية التغيير الاجتماعي الذي تحدثه السماء من خلال الرسالات السماوية، فهي في جانبها الرسالي ترتبط بقانونها الخاص، ولكن في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية وترتبط بها توقيتاً ونجاحاً، وأعني بالظروف الموضوعية: الحالة السياسية، والحالة الاجتماعية للأمة، والواقع الدولي المعاصر، ومدى قدرة الأمة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي.
[2] إشارة إلى قوله تعالى: (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم * وأرادو به كيداً فجعلناهم الأخسرين) الأنبياء : 68 ـ 70.
[3] راجع الرواية في تفسير ابن كثير 2 : 33، وراجع : البحار / المجلسي 18 : 47 و 52 و 60، 75، باب معجزات النبيّ (ص).
[4] تاريخ الطبري 2 : 244 حوادث السنة الخامسة من الهجرة.
[5] كما هو نصّ الحديث النبويّ الشريف: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً منّي أو من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً».
راجع: التاج الجامع للأصول / منصور علي ناصف 5 : 360 الهامش، قال: رواه أبو داود والترمذي.
[6] لقد شاهدنا في بداية التسعينات المصداق لهذه المقولة التي أطلقها الشهيد الصدر (ره) استناداً إلى خبرته العميقة بالمجتمع البشري، فقد انهار الاتّحاد السوفيتي وهو أحد القطبين اللذين كانا يهيمنان على العالم انهياراً سريعاً جداً، وبصورة أذهلت الجميع.
المبحث السابع
وهل للفرد كلّ هذا الدور؟!
و نأتي إلى سؤال آخر في تسلسل الأسئلة المتقدمة، وهو السؤال الذي يقول: هل للفرد ـ مهما كان عظيماً ـ القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم؟ وهل الفرد العظيم إلاّ ذلك الإنسان الذي ترشّحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها ؟
والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظر معيّنة للتاريخ تفسّره على أساس أنّ الإنسان عامل ثانوي[1] فيه، والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلاّ التعبير الذكي عن اتّجاه هذا العامل الأساسي.
و نحن قد أوضحنا في مواضع أخر من كتبنا المطبوعة[2] أنّ التاريخ يحتوي على قطبين: أحدهما الإنسان، والآخر القوى المادية المحيطة به. وكما تؤثر القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعة في الإنسان، يؤثر الإنسان أيضاً فيما حوله من قوىً وظروف، ولا يوجد مبرّر لافتراض أنّ الحركة تبتدئ من المادة وتنتهي بالإنسان إلاّ بقدر ما يوجد مبرر لافتراض العكس، فالإنسان والمادة يتفاعلان على مرّ الزمن، وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في تيار التاريخ، وبخاصة حين نُدخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء[3]. فإن هذه الصلة تدخل حينئذ كقوة موجّهة لحركة التاريخ.
وهذا ما تحقّق في تاريخ النبوّات، وفي تاريخ النبوّة الخاتمة بوجه خاصّ، فإنّ محمّداً(ص) بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلّم بنفسه زمام الحركة التاريخية، وأنشأ مدّاً حضاريّاً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخّض عنه بحال من الأحوال، كما أوضحنا ذلك في المقدمة الثانية للفتاوى الواضحة[4].
و ما أمكن أن يقع على يد الرسول الأعظم يمكن أن يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشّر[5] به ونوّه عن دوره العظيم .
[1] إشارة إلى نظرية المادية التاريخية، أي إلى التفسير الماركسي للتاريخ، راجع: اقتصادنا 1 : 19، وفيه تحليل علميّ ومناقشة فلسفية عميقة بقلم الإمام الشهيد الصدر (ره).
[2] إشارة إلى كتاب (فلسفتنا)، وإلى مقدّمة كتاب (اقتصادنا).
[3] راجع: كتاب الأبطال (البطل في صورة نبيّ) / توماس كارليل / ترجمة الدكتور السباعي، سلسلة الألف كتاب ـ مصر.
[4] راجع المقدمة الثانية في الفتاوى الواضحة: ص 63، وفيها توضيح وتفصيل لهذه المسألة.
[5] التاج الجامع للأصول 5: 343، عن أبي سعيد (رض) عن النبيّ (ص): المهديّ منّي أجلى الجبهة أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
المبحث الثامن
ماهي طريقة التغيير في اليوم الموعود؟
و نصل في النهاية إلى السؤال الأخير من الأسئلة التي عرضناها، هو السؤال عن الطريقة التي يمكن أن نتصوّر من خلالها ما سيتمُّ على يد ذلك الفرد من انتصار حاسم للعدل، وقضاء على كيانات الظلم المواجهة له .
والجواب المحدّد عن هذا السؤال يرتبط بمعرفة الوقت والمرحلة التي يقدّر للإمام المهديّ (ع) أن يظهر فيها على المسرح، وإمكان افتراض ما تتميز به تلك المرحلة من خصائص وملابسات لكي تُرسم في ضوء ذلك الصورة التي قد تتّخذها عملية التغيير، والمسار الذي قد تتحرك ضمنه، وما دمنا نجهل المرحلة ولا نعرف شيئاً عن ملابساتها وظروفها فلا يمكن التنبّؤ العلمي بما سيقع في اليوم الموعود، وإن أمكنت الافتراضات والتصوّرات التي تقوم في الغالب على أساس ذهني لا على أسس واقعية عينية.
وهناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدثت عنه[1]، والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ، وهو افتراض ظهور المهديّ (ع) في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة[2]. وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتدّ، وهذه النكسة تهيّء الجو النفسي لقبولها، وليست هذه النكسة مجرد حادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله - سبحانه وتعالى - التي لا تجدُ لها في نهاية المطاف حلاًّ حاسماً فتشتعل النار التي لا تُبقي ولا تذر، ويبرز النور في تلك اللحظة; ليطفئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء.
و الحمد الله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين. وقد وقع الابتداء في كتابة هذه الوريقات في اليوم الثالث عشر من جمادى الثانية سنة 1397 هـ، ووقع الفراغ منها عصر اليوم السابع عشر من الشهر نفسه.
و الله ولي التوفيق .
محمد باقر الصدر - النجف الأشرف
تمّ الفراغ من تحقيق هذا الكتاب في شهر رجب المرجّب من سنة 1416 هـ، و ذلك في قم المقدسة.
الدكتور عبدالجبار شرارة
[1] إشارة إلى علامات الظهور أو الملابسات والأحداث والوقائع التي تسبق ظهوره المبارك أو ترافق ظهوره كما صوّرتها الروايات ووردت بها الآثار الصحيحة، وقد بُسّطت تفصيلاً في (عصر الظهور) للسيد محمد الصدر. وراجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 356 وما بعدها.
وراجع أيضاً: الإشاعة لأشراط الساعة / محمد بن رسول الحسينيّ البرزنجيّ.
[2] وفيه إشارة إلى ما يمكن أن تجّر إليه الإنسانية من أزمة حضارية بسبب التنافسات والصراعات بين الحضارات المادية والكيانات السياسية، وفشلها في تحقيق الأمن والاستقرار والسعادة للإنسان، ولقد بدأت بوادر مثل هذا الفراغ تظهر وتتّسع شيئاً فشيئاً في عصرنا الراهن في شرق الأرض وغربها، وكلّ متتب،ع للأخبار والتقارير الصحفية والتحقيقات الخبريّة يعرف ذلك جيّداً. وما اليوم الموعود ببعيد.
/ 1