نخبة اللآلي شرح بدأ الأمالي

 

محمد بن سليمان الحلبي
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد من وجب له الوجود كما وجب له السجود وفاض منه الجود ففاض منه
كل موجود المقدس بصفات الجلال وجلال الصفات المتوحد ربوبيته في
الوحدانية وواحدية الذات المتفضل بصلات النوال ونوال الصلات
السميع البصير العليم الخبير بالجزئيات والكليات من سائر المصنوعات والمعلومات
المنزه عن الحدود والجهات وعن الوالد والولد والزوجات المتعالي عن كل ما تصوره
الخيالات وتخيله أفكار الذوات وتقدره بالأمثلة والاحتمالات حمدا لا يحويه
الحد ولا يحصيه العد على ما شرح صدورنا بنور التوحيد ونور قلوبنا بنور يقين يقيها
من ترديد التقليد ونشهد أن لا إله إلا الله الحميد المجيد ونشهد أن سيدنا محمدا
عبده ورسوله سيد المخلوقات وأشرف الموجودات والمؤيد بالمعجزات الباهرات
والآيات البينات صلى الله عليه وسلم وكرم وعظم وعلى آله الذين بلغوا بشرفه
أشرف الغايات وعلى أصحابه الذين نالوا بصحبته أرفع الدرجات ما لاح مصباح
وانفلق إصباح وسلم تسليما وبعد فيقول العبد المفتقر إلى رحمة ربه الغني
المنان محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي الحنفي عامله الله بلطفه الخفي وغفر له ولوالديه
وأحسن إليهما وإليه لما رأيت منظومة العلامة سراج الدين أبي الحسن علي بن عثمان
الأوشي نسبة إلى أوش قرية من قرى فرغانة الموسومة ببدء الأمالي في علم الكلام
قد مد إليها بعض أهل زماننا يد المسخ والتبديل وكدر صورة وجهها الجميل مع أنها
مكتفية عن القيل والقال بما وضع عليها من شروح ذوي الأفضال للأئمة المحققين
والفضلاء المدققين وإن كان منهم من أقل فأخل ومنهم من أكثر فأمل فأردت
أن أجلي عنها تلك الكدورات التي لحقتها والشوائب التي تبعتها بشرح يزيل عن وجنة
تراكيبها الصعاب ويكشف عن وجوه معانيها النقاب مغن عن بقية الشروح والايضاح
2

إغناء الصباح من المصباح ناكبها عن الإيجاز والإطناب الممل متمسكا بقوله عليه
السلام خير الكلام ما قل ودل وإن كنت في الأواخر وكم ترك الأول للآخر مع ما
بي من اشتغال البال وعدم انتظام الحال سائلا من الكريم المتعال الحفظ عن
الزلل في المقال والصيانة عن الخلل في الأقوال وراجيا ممن وقف على ما في هذه الأوراق
وإن لم يكن مما لاق بنظره أوراق أن يغض الطرف بعد الامعان عن مواضع زللي
ويقض الحرف بعد الاتقان من مواقع خللي ويعذرني فيما لم يصب فيه سهمي
ولم يصل فيه إلى الحقيقة فهمي فإني بقصور الباع عن هذه الشأن مقر وعلى
هذا الاعتراف ما حييت مصر على أن الأمر بيد الله يفعل ما يريد وينقص من خلقه
ما يشاء ويزيد وهو المسؤول لنيل الرشاد ومنه المبدأ وإليه المعاد وسميته نخبة اللآلي
لشرح بدأ الأمالي التي هي من العروض الأولى والضرب الأول من البحر الوافر سمى به
وأتى بها منه لوفور أجزائه وتدا فوتدا وهو البحر الأول من الدائرة الثانية وهي الدائرة
المؤتلفة مقدمة اعلم أن أول الواجبات الاشتغال بعلم الكلام إذ هو أصول
أصول الشرايع كلها والفائدة فيه أتم وبه الهدى وسمي كلاما لأن الاشتغال بالتعليم
والتعلم لا يكون إلا بالتكلم ولم يسم غيره من العلوم به للتمييز قال المولى سعد الدين رحمه الله
سموا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه ومعرفة أحوال الأدلة
إجمالا في إفادتها الأحكام بأصول الفقه ومعرفة العقائد عن أدلتها بالكلام لأن عنوان
مباحثه كان قولهم الكلام في كذا وكذا انتهى واختلف في معنى العلم المفروض في قوله
عليه الصلاة السلام (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) فقيل علم الكلام وقيل علم الفه
وقيل علم التفسير والحديث والحق إن كل ما يجب على المكلف فعله أو تركه أو اعتقاده
يجب العلم به لأن متابعة الشارع واجبة و هي متوقفة على ذلك وما توقف عليه الواجب
فهو واجب لكن أوله اعتقاد أن للعالم صانعا واحدا قادرا لا شريك له ثم الصلاة
والصوم والحج والزكاة ونحو حرمة الخمر والسرقة وقتل النفس والزنا وغير ذلك مما هو
من ضرورات الدين التي تعرفها العامة فإن معرفة هذه القدر فرض عين على كل مسلم
ومسلمة وصحة ذلك متوقفة على صحة الاعتقاد وصحته متوقفة على علم التوحيد فتعين
تقديم هذا العلم على بقية العلوم وسئل أبو حنيفة رضي الله عنه عن التفقه في الدين والتفقه
في العلم على الفرع معلوم قال تعالى إن الدين عند الله الإسلام ولا شك أن العبد يلزمه
3

أولا الإسلام لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليوحدوني فالدين
هو التوحيد والعلم هو الديانة أعني الشرايع وهي بعد التوحيد فالدين عقل على الصواب والديانة سيرة على الصواب
ولكن العلم أفضل من العقل خلافا للمعتزلة ودرجة العلم بقدر المعلوم والمعلوم بعلم
الكلام ذات الله تعالى وصفاته والله أعلى وأجل وأعظم وأعز فما توصل به إلى معرفة ذاته
يكون أعلى درجة وأعظم منزلة من سائر العلوم ولأنه لا يتخلص من الكفر إلا بمعرفة
الإيمان كما قيل وبضدها تتميز الأشياء ألا ترى أن من قال لا أعرف الكافر كافرا فهو ضال لأنه
لما لم يعرف الكفر لم يكن عارف الإيمان وكذا من لم يعرف البدعة والضلالة لم يكن عارفا الاهتداء
والاستقامة فلا يأمن أن يقع في البدعة والضلالة وقد قال عليه الصلاة والسلام من أحدث حدثا في
الإسلام فقد هلك ومن ابتدع بدعة فقد ضل ومن ضل ففي النار وفيه دليل على أن أهل الأهواء
والبدع والضلالة كلهم في النار وأنهم أصناف شتى باختلاف بدعهم وإن زعموا أنهم من
أهل الإسلام قيل أصولهم أربع فرق: القدرية، والصفاتية، والشيعة، والخوارج ويتشعبون
إلى اثنين وسبعين فرقة قال ملا خسروا رحمه الله أهل الأهواء هم أهل القبلة الذين لا يكون معتقدهم
معتقد أهل السنة وهم الجبرية والقدرية والروافض والخوارج والمبطلة والمشبهة وكل منهم
أثني عشر فرقة فصاروا اثنين وسبعين فرقة انتهى والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة
ما روي أنه عليه السلام قال: ستفترق أمتي من بعدي على بضع وسبعين فرقة كلها في
النار إلا واحدة قيل من هم قال الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي وفي رواية فرقة ناجية
والباقون في النار قيل وما الناجية قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي اتبعوني ولا تختلفوا
على فإنما هلك من كان قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وصلوا كما رأيتموني ومن
اتبعني حذو القذفة بالقذفة ومن خالف الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من
عنقه وقال عليه السلام لكل شئ آفة وآفة هذا الدين هذه الأهواء وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى
فتحصل لك أن علم التوحيد أشرف العلوم لكونه أساس العلوم الشرعية ورئيس العلوم الدينية
وقانون العقائد الإسلامية ومعلومات الأصلية وغايته المواهب الإلهية والسلامة من
ظلمات الفرق الاعتزالية والفوز بالسعادة الدينية والدنيوية وبراهينه الحجج القطعية
المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية وما نقل عن بعض السلف من الطعن في علم الكلام والمنع عنه فإنما
فيه بما لا يعني عما يعني وإلا فكيف ينهى عما يتوقف عليه صحة الإسلام من علم الكلام والحمد
لله على نعمة الإيمان قال عليه رحمة الرحمن:
4

1 يقول العبد في بدأ الأمالي * لتوحيد بنظم كاللآلي
يقول فعل مضارع أصله يفعل بسكون فائه وضم عينه ثم نقلت ضمة عينه إلى فائه واشتقاقه
من القول وهو كما قال النحاة اللفظ الدال على معنى وهو أعم من الكلام والكلم والكلمة كما أشار
إليه ابن مالك بقوله: والقول أعم. لأنه يطلق على من الثلاثة حقيقة وهو أخص من اللفظ
لإطلاقه على المهمل خلافا لمن جعلهما مترادفين ولا يشترط في دلالته الصدق بقطع
النظر عن قائله وإلا فقد يكون مقطوعا بصدقه كقوله تعالى وقول رسول الله صلى عليه وآله وقد
يكون بكذبه كأقوال مسيلمة لعنة الله وأتى به مضارعا دون الماضي لدلالته على الاستقبال
المناسب لمقوله لأنه مشترك بين الحال والاستقبال على الأرجح وقيل حقيقة في الحال مجاز
في الاستقبال وقيل عكسه وقيل حقيقة في الحال ولا يستعمل في الاستقبال أصلا وقيل عكسه
والعبد من التعبد وهو التذلل والخضوع وصف به نفسه لأنه أحب الأوصاف إلى الله تعالى
وأرفعها إليه ومن ثم وصف به نبيه عليه الصلاة والسلام في أشرف المقامات فذكره في إنزال
القرآن عليه بقوله مما نزلنا على عبدنا * أنزل على عبده الكتاب * نزل الفرقان
على عبده وفي مقام الدعوة إليه وأنه لما قام عبد الله يدعوه وفي مقام الإسراء
والوحي فأوحى إلى عبده ومن ثم لما خير وعليه صلى الله عليه وآله بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا
فاختار الثاني وسليمان عليه السلام سائل الأول فانظر بعدما بين المرتبتين وأنشد في شرف
العبودية قوله: لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي قبله بيت وهو
يا قوم قلبي عند زهراء * يعرفها السامع والرائي تحفة الأعالي والأمالي في الأصل
جمع الإملا كعليا وعلايى وهو الكتابة عن ظهر القلب من غير نظر إلى مكتوب ثم صار علما
منظومته هذه وقوله لتوحيد أي العلم التوحيد والصفات وإنما سمي هذا العلم به أيضا لتوحده
في إثبات أعظم المقاصد وهو الوحدانية له تعالى لأن أشرف مباحثه وأعظم مقاصده وأصل
المقصود به: إثبات وحدانيته تعالى وفيه براعة الاستهلال كما لا يخفى على أهل الكمال وقوله
بنظم هو لغة الجمع والترتيب بين الأشياء المتناسبة أخص من الضم ومن مطلق الجمع
ومن التأليف أيضا إذ المراد به ضد النشر وهو الكلام المنظوم الموزون المقفى بالقصد زيد
القيد الأخير لإخراج نحو قوله عليه السلام ما أنت إصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
وهو مصدر بمعنى اسم مفعول كالخلق بمعنى المخلوق ووقع ههنا صفة لمحذوف أي بكلام منظوم
أو قول واللآلئ جمع لؤلؤة وهو المستخرج من جوف الصدف صح (الإعراب) العبد فاعل يقول وفي ظرفية ومجرورها ظرف للقول واللام في لتوحيد
للاختصاص متعلق بالأمالي أو بيقول وهو الأظهر إن جعل الأمالي علما على هذه المنظومة وإلا
فالأول أظهر فتدبر وبنظم في محل جر صفة لتوحيد أي لعلم توحيد منظوم كنظم اللآلي ومقول
5

القول قوله الآتي: إله الخلق مولانا ا ه‍ (وحاصل معنى البيت) يقول عبد الله في ابتداء
كلامه المسمى بالأمالي أو في ابتداء أماليه لبيان توحيد عظيم لرب كريم بنظم كلام حسن
الترتيب والسبك متناسب الكلمات مثل اللآلي المنظومة في سلك واحدة عند البصيرة والباصرة
واعلم أنه ينبغي لكل طالب علم أن يعلم حده وموضوعه وفائدته ليكون على بصيرة
إذ ربما كان اشتغالا بما لا يعني فيكون عبثا أو لعبا وقد نهى عن كل منهما فنقول: حد
هذه العلم معرفة العقائد الدينية عن أدلتها اليقينية أو هو علم يبحث فيه عما يجب اعتقاده
واختلف في موضوعه فقيل المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية من جهة
ما يجب للذات المقدسة العلية أو ينفي عنها من الصفات الوجودية والسلبية ونحو ذلك
وقيل هو ذات الله تعالى من حيث هو وذات الممكنات من حيث إسنادها إليه وقيل هو الموجود
بما هو موجود والأول أحسن وأليق بالأدب كما لا يخفى على أهل الأدب وفائدته إرشاد العبد
إلى ما يفوز به في دينه ودنياه وينجو به من بدع أهل الضلال والاشتباه وهي غايته وهي
أشرف الغايات قال بعض الشراح وما نقل عن بعض السلف كالشافعي ومالك وغيرهما من ذم
الخوض فيه وأنه بدعة محرمة ولأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن
يلقاه بشئ من علم الكلام فقد أجيب عنه انتهى وقدمنا جوابه وإلا فكيف يتصور الذم والمنع
خصوصا من هؤلاء الأئمة الأعلام من تعلم ما هو واجب عينا أو كفاية لأنا نحتاج إلى رد ما
يرد علينا من شبه المخالفين الضالين فيجب أن يوجد في كل بلدة عالم متقن هذه العلم حتى
جوزوا الاشتغال بعلم المنطق لذلك ويجب على كل مكلف عينا أن يقر أولا بلسانه ويصدق
بجنانه بوحدانية الله تعالى أنه واحد أحد فرد صمد لا شريك له ولا ضد له ولا شئ مثله ولا
شئ يعجزه ولا إله غيره ولا رب سواه غني عن الشريك والوزير متعال عن الصاحب والنظير
وعن الوالد والولد والأزواج وهو إله السماوات والأرض خالق الخلائق أجمعين وأن يعلم ما
يجب له تعالى وما يمتنع في حقه إلى غير ذلك ومعرفة ذلك كله يتوقف على هذا العلم فيكون الاشتغال
به واجبا وبما ذكرنا اندفع أيضا ما قيل إنه إنما نهى عنه لكونه محدثا لم يكن في زمن الصحابة
6

والتابعين وقد قال عليه السلام شر الأمور محدثاتها وإياكم ومحدثات الأمور
ومن أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد وحاصل الجواب بعد ما قدمنا أنه
إن أريد أن البحث عن دليل وجود الصانع وتوحيده والنبوة وغيرها كالمبدأ والمعاد
بدعة ومحدث فهو ممنوع إذ القرآن مشحون به وإن أريد أن الاشتغال به على الوجه
المتعارف بيننا كذلك فمسلم لكنه أمر حسن قد مست إليه حاجة لم تكن في زمن الصحابة
والتابعين وكذلك الأدلة المنصوصة والأمارات الموضوعة للأحكام الفقهية كانت
قائمة في زمانهم والملكة المسماة بالفقه حاصلة لآحادهم وإن لم يكن هذا الترتيب والتدوين
وبالجملة فمن المبتدعات ما هي حسنة بل بعضها واجب كالاشتغال بالعلوم العربية المتوقف
عليه فهم الكتاب والسنة فإن الزمان يختلف والاستعدادات متفاوتة فقد يستدعي الوقت
مصلحة يجب على أهلها رعايتها وإن لم تكن فيمن سلف ولذا قال الإمام الرازي ولو بقي الناس
على ما كانوا عليه في صدر الإسلام لما أوجبنا الاشتغال بعلم الكلام كما لم يشتغل به الصحابة
رضي الله عنهم أجمعين ولأنه اختلف في صحة إيمان المقلد كما سيأتي توضيحه إن شاء الله وقد اتفقوا
على أن الإيمان باللسان من غير تصديق بالقلب لا ينفع ولا تصديق القلب بغير اللسان على قول
كما سنبينه بل الإيمان على الجارحتين: القلب واللسان فالقرار والتصديق ركناه وهو
المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن اللسان عبارة عن الروح والجسد فيجب لكل منهما حصة من الإيمان
وذهب قوم إلى أنه التصديق فقط والقرار باللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا لأن تصديق
القلب أمر باطن فلا بد من علامة تدل عليه وهو النطق فهو شرط لا شطر وبالجملة فتصديق
القلب متفق عليه عند أهل السنة والخلاف إنما هو في الإقرار هل هو شرط أو شطر فعلى الأول
يكون مؤمنا عند الله لا على الثاني وبالاتفاق لا تجري عليه أحكامه في الدنيا وعلى كل حال
فكمال الإيمان وما يتبعه من الأحكام متوقفة على علم الكلام والسلام فإن قيل هل الإيمان
مخلوق أم غير مخلوق فالأصح في الجواب أن يقال إن الإيمان إقرار وهداية فالاقرار صنع
العبد وهو مخلوق والهداية صنع الرب وهو غير مخلوق فانقياد العبد وقبوله وقوله لا إله إلا الله وإقراره
ونحو ذلك وتحريك لسانه وتصديق جنانه مخلوق إذ هو بجميع ذاته وأفعاله مخلوق له تعالى
وحصول ذلك بهدايته تعالى وقدرته وتوفيقه وهو تعالى بجميع صفاته غير مخلوق فمن العبد المعرفة
والإقرار والطاعة والانقياد ومن الله تعالى التوفيق والتعريف فافهم والله أعلم فإن قلت
قد جرت عادة المصنفين الابتداء في مصنفاتهم باسمه باسمه تعالى اقتداء بكتابه العزيز وعملا بخبر
كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع أو أبتر أو أجزم ولا شك أن منظومته
هذه أمر ذو بال فلم لم يبدأها باسمه تعالى قلت أتى في أولها بالبسملة لفظا وخطا وهي موجودة
في سائر متونه وعليها شرح المقدسي على أنه وإن تركها خطاء لا يقال في مثله إنه تركها لفظا
وبه يحصل المودة وما قيل إنه تركها أصلا إشارة إلى عجزه عن أداء شكر الله تعالى وحمده فكلام واه
لا يصغى إليه قال الناظم رحمه الله تعالى:
7

2 إله الخلق مولانا قديم * وموصوف بأوصاف الكمال،
لفظ إله في الأصل موضوع لكل معبود مطلقا ثم غلب على المعبود بحق كالنجم للثريا والكتاب
لكتاب سيبويه والصعق لخويلد بن نفيل مع أنه موضوع لكل من أصيب بصاعقة واشتقاقه من
آله يأله كعلم يعلم إذا عبد فهو بمعنى اسم المعبود وقيل غير ذلك ثم حذفت همزته
وعوض عنها الألف واللام ثم أدغمت اللام في اللام فقيل الله وعند البصريين دخلت عليه
آل فصارت الإله فحذفت همزته غير قياس وعند الكوفيين أصله لاه دخلت عليه أل وقيل
الله: اسم موضوع كأسماء الأعلام لا اشتقاق له وهو مذهب أهل الحق فهو مختص به تعالى ابتداء
ومما يدل عليه أن غيره من الأسماء نقل عن العرب اشتقاقاتها إلا هذا الاسم الكريم لا قبل
الرسول ولا بعده وهو جامع لصفات الألوهية والربوبية ولذا كان أعظم التسعة والتسعين
اسما لدلالته على الذات الجامعة لجميع الصفات وقد رئي الخليل بن أحمد بعد موته فقيل
له ما فعل الله بك فقال غفر لي بقولي في اسمه تعالى إنه غير مشتق وذكر بعضهم أنه الاسم الأعظم
وقد ذكر في الكتاب العزيز في الفين وثلاثمائة وستين موضعا واختار النووي تبعا لجماعة أن الاسم
الأعظم هوى الحي القيوم قال ولذا لم يذكر في القرآن إلا في ثلاثة مواضع في البقرة وآل عمران وطه
لكن كون اسمه تعالى الأعظم الذين هو المختص به وهو الله أظهر فتدبر والخلق بمعنى المخلوق من
إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول واللام فيه للاستغراق أي إله جميع المخلوقات وهي ما
سواه تعالى والمولى من الولاء وله نيف وعشرون إطلاقا مدلولها غالبا من حصلت منه النعمة
كالرب والمالك والسيد والمنعم والناصر والمعتق بالفتح والعبد المنعم عليه وقد تكون من
الطرفين كالجار وابن العم والحليف والصهر ومن اختص بها كالأولى بالشئ وقد أطلقه بعضهم
على كل من ولي أمرا ويصح ههنا إرادة أحد الخمسة الأولى والقديم ههنا هو الذي لم يسبق
بعدم فهو في حقه تعالى سلب العدم السابق على الوجود أو عدم الأولية لوجوده إذا العدم عبارة
عن نفي السبق لأنه تعالى لو لم يكن قديما لاقتضى محدثا واحتاج هذا المحدث أيضا إلى محدث وهكذا
فيدخل التسلسل وهو محال أو ينتهي إلى صانع قديم محدث للكل وذلك هو المطلوب الذي
سميناه قديما صانع العالم وخالقه ومبدعه وإذا ثبت أنه قديم لا أول له فاعلم أنه أبدي
لا نهاية له مستمرا لوجود لا آخر له قيوم لا انقطاع له دائم لا انصرام له لا يقضى عليه
بالانفصال وتصرم الآباد وانقراض الآجال إذ ما ثبت قدمه استحال عدمه فهو متضمن
لصفة البقاء وعدم سبق العدم في حقه تعالى وأما القدم الزماني في حق غيره تعالى فهو حادث
مسبوق بالعدم وذلك محال في حقه تعالى قال تعالى والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون
8

القديم * إنك لفي ضلالك القديم أي في خطاك الذي حدث لك في الزمن السابق من
إفراطك في محبته ورجاء لقائه قال بعضهم أقل زمن يوصف به زمن القدم الزماني الحادث حول
فلو علق حرية القديم من عبيده أو أوصى بعتقه عتق من له حول في ملكه وأوصاف الكمال
أراد بها الثبوتية والسلبية إذ نفي النقايص كمال كما أن الوصف بالكمال
كمال إذ لو لم يتصف بذلك لاتصف بأضداده وهي نقايص لكن الثاني طاهر الاستحالة
لأنه من أمارات الحدوث وأفاد بقوله وموصوف إلى أنه ليس بصفة لظهور استحالته قال
المقدسي رحمه الله ودليل كونه موصوفا لا صفة أنه لو كان صفة لاستحال قيام المعاني به ولو
لم تضم به الصفات التي هي معان لاستحال اتصافه لكنه قد اتصف بأحكام الصفات فوجب
أن يكون موصوفا بالمعاني الموجبة لتلك الأحكام الواجبة له شرعا وعقلا وكما يجب وصفه
بأوصاف الكمال يجب تنزيهه عن النقايص الإعراب إله الخلق مضاف ومضاف إليه مبتدأ
وفائدة الإضافة فيه نفي الاشتراك ومولانا بدل وهو الأظهر من كونه عطف بيان كما لا يخفى على
ذوي الأذهان وقديم خبر وموصوف عطف على الخبر وبأوصاف متعلق بموصوف وإضافته إلى
الكمال بيانية وقيل على معنى اللام وقيل للتخصيص (وحاصل معنى البيت) يقول عبد الله إن
المعبود بحق الخالق لجميع المخلوقات كلها وهو الله تعالى قديم واجب القدم والوجود بالذات واجب
البقاء أبدا وكمال الصفات لا يجري عليه عدم سابق ولا لاحق تتمة قال الرازي خلق الله
الخلق بعلمه وقدرهم إقدارا وضرب لهم آجالا لم يخف عليه شئ بعد أن خلقهم وعلم ما هم عاملون قبل
أن يخلقهم ومن قال إنه لم يكن خالقا قبل أن يخلق الخلق فلما خلق الخلق صار خالقا فقد كفر انتهى
قال علي القاري ثم الخلق من صفات الأفعال وهي قديمة عندنا فإنه تعالى كان خالقا قبل أن يخلق
الخلق خلافا للأشاعرة فما قال شارح من أن من قال إنه لم يكن خالقا قبل أن يخلق الخلق فقد كفر
نشأ من جهله بتحقيق المرام انتهى وظاهر أنه أراد به ما قدمنا عن الرازي لكنه لم يبين تحقيق
المرام ونحن نقول بعون الملك المنان إن حاصل هذا على ما سيأتي راجع إلى مسألة التكوين
وهو المعنى الذي يعبر عنه بالفعل والخلق والتخليق والإيجاد والاختراع ونحو ذلك وقد أثبته الحنفية
صفة حقيقة قديمة مغايرة للقدرة والإرادة وفسروه بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود
وعبروا عنه بالخلق والتخليق ونحوهما وهو وصف له تعالى أزلي لإطباق العقل والنقل على أنه تعالى
خالق للعالم مكون له قال تعالى الله خالق كل شئ فقد وصف ذاته في كلامه القديم الأزلي بأنا الخالق
فلو لم يكن متصفا في الأزل بكونه خالقا لزم الكذب في كلامه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولامتناع
9

إطلاق الاسم المشتق إطلاقا حقيقيا من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفا له قائما به حال
الإطلاق ومذهب الأشعري إن التكوين من الإضافات والاعتبارات العقلية مثل كون الصانع تعالى
قبل كل شئ ومعه وبعده ومحييا ومميتا ونحو ذلك والحاصل في الأزل مبدء التخليق والترزيق والإحياء
والإماتة وغير ذلك وتكوينه للعالم ولكل جزء من أجزائه لا في الأزل بل لوقت وجوده على حسب
علمه في الأزل وإرادته فالتكوين ثابت أزلا وأبدا والمكون حادث لحدوث التعلق كما في العلم
والقدرة وغيرهما من الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها فافهم وسيأتي
له زيادة تحقيق قال السعد رحمه الله في شرح العقائد ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث
ولا ينسب إلى الراسخين من علماء علم الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة لم له أدنى تمييز
بل يطلب لكلامه محملا يصلح محلا لنزاع العلماء فإن من قال التكوين عين المكون أراد أن الفاعل
إذا فعل شيئا فليس هناك إلا الفاعل والمفعول وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد
ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل في الفعل من نسبة الفاعل إلى المفعول وليس أمرا محققا مغايرا
للمفعول في الخارج ولم يرد أن مفهوم التكوين هو بعينه مفهوم المكون ليلزم المحالات ثم قال
ولا يتم إبطال هذا الرأي إلا بإثبات أن تكون الأشياء وصدورها عن الباري تعالى يتوقف
على صفة حقيقية قائمة بالذات مغايرة للقدرة والإرادة والتحقيق إن تعلق القدرة على ووفق
الإرادة بوجود المقدور لوقت وجوده إذا نسب إلى القدرة يسمى إيجادا وإذ نسب إلى
الخالق يسمى الخلق والتكوين ونحو ذلك فحقيقة كون الذات بحيث تعلقت قدرته بوجود المقدور لوقته
ثم يتحقق بحسب خصوصيات المقدورات خصوصيات الأفعال كالترزيق والتصوير والإحياء
والإماتة وغير ذلك إلى ما لا يكاد يتناهى وأما كون كل من ذلك صفة حقيقية أزلية فمما تفرد
به بعض علماء ما وراء النهر وفية تكثير القدماء جدا وإن لم تكن مغايرة والأقرب ما ذهب إليه
المحققون منهم أن مرجع الكل إلى التكوين فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياء وبالموت إماتة وبالصورة
تصويرا وبالرزق ترزيقا إلى غير ذلك فلكل تكوين وإنما الخصوص بخصوصية المتعلقات انتهى
فعلم أن في التكوين والترزيق والخلق وغيرها مذاهب ثلاثة (الأول) إن كل واحد من تلك
الصفات صفة حقيقية أزلية قائمة بذاته تعالى كالعلم والحياة والقدرة وغيرها من الصفات
(والثاني) إن كل واحد منها عبارة عن تعلق القدرة بوجود المقدور لوقت وجوده فيكون من
قبيل الصفات الإضافية لا من قبيل الصفات الحقيقية (الثالث) إن التكوين صفة أزلية حقيقية
قائمة بذاته تعالى وإن التصوير والترزيق والإحياء والإماتة يحصل من تعلق التكوين
بالمكونات على وجه مخصوص وهو مذهبنا قال ملا رمضان الأقرب إلى الحق من هذه المذاهب
10

الثلاثة هو المذهب الثالث دون الأول والثاني فافهم والله أعلم قال الناظم رحمه الله
3 هو الحي المدبر كل أمر * هو الحق المقدر ذو الجلال
الحي من ثبت له الحياة وهو ضد الموت قال الله تعالى هو الحي لا إله إلا هو * الله لا إله إلا
هو الحي القيوم والحياة صفة من شأنها حصول العلم ونحوه لم قامت به وهي في حقه تعالى
صفة أزلية قديمة من صفات الذات ولا تعلق لها كما سيأتي والمدبر اسم فاعل من التدبير وهو
لغة التأمل والتفكر في إيقاع الفعل وفي حقه تعالى تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها
حسب ما سبق به علمه الأزلي فهو شؤون يبديها ولا يبتديها قال الله تعالى يدبر الأمر من السماء
إلى الأرض وكل هنا كلية لا كل ولا كلي والأمر يطلق حقيقة على القول ومجازا على الفعل قال
تعالى وشاورهم في الأمر، أي الفعل الذي تعزم عليه فهو في كلام الناظم مجاز شايع لإطلاقه
على كل ما يفعل والأظهر أن يراد بالأمر ههنا الأعم من القول والفعل فيكون الشئ إذ كلها
تدبيره تعالى فمعنى المدبر كل أمر أي الموقع كل شئ على قدر مخصوص في وقت مخصوص بقضائه
وقدره حسب ما سبق في علمه والحق لغة الثابت من حق الشئ إذا ثبت والمراد في حقه تعالى
الثابت الوجود على وجه الوجوب وهو من أسمائه تعالى وله إطلاقات فيطلق على الدين الثابت
في الذمة والمطالبات والأمر العظيم الشأن والأقوال والعقائد والأديان والحكم المطابق
للواقع وغير ذلك بخلاف الصدق فإنه شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب والحق يقابله
الباطل والمقدر بكسر الدال موجد الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها
وأحوالها فهو اسم فاعل من قدر يقدر فهو مقدر وهو من له القدرة على ذلك وهي صفة
تخالف العجز وتؤثر في الشئ عند تعلقها به لكن تعلقها به مرتب على تعلق الإرادة وتعلق الإرادة
مرتب على تعلق العلم ولا قصور في عدم تعلق الإرادة والقدرة بالواجب والمستحيل إذ لو
تعلقا بهما لزم القصور لأنه يلزم على هذا أن يجوز تعلقهما بانعدام أنفسهما بل وإعدام الذات
العلية وإثبات الألوهية لمن لا يقبلها من الحوادث وسلبها عمن تجب له وهو المولى جل وعلا
وآي نقص وفساد أعظم من هذا وذو ههنا بمعنى الصاحب والجلال العظمة والاستغناء
المطلق لوسع مجده وعلاه وسلطان ملكوتيته على ما سواه ويشمل ذلك الصفات الثبوتية
والسلبية وإنكار المعتزلة ثبوت العلم والقدرة والحياة ونحوها من سائر أوصاف الكمال
وقولهم إنه لا يوصف بها لأنه لا يخلوا إما أن تكون قديمة فيتعدد القدماء أو حادثة فيكون
محلا للحوادث فهو قول باطل مردود بالأدلة القطعية لأنه وصف ذاته المقدسة متمدحا
بها قال تعالى إن الله هو الرزاق * أنزله بعلمه * ولا يحيطون بشئ مه علمه * هو الحي
11

كما قدمنا فقد أثبت لنفسه العلم والقدرة والحياة ونحوها فإنكار هذه الصفات الثابتة بنص
الكتاب كفر بالنزاع (الإعراب) هو الحي متبدأ وخبر والمدبر خبر بعد خبر وكذا هو الحق
المقدر وكل بالنصب مضاف إلى أمر مفعول المدبر دال على مفعول المقدر المحذوف أي
المقدر كل أمر (وحاصل معنى البيت) إنه تعالى حي لا يزال وهو الموجد لجميع الأشياء من خير
وشر ونفع وضر وحلو ومر بقضائه وقدره على أقدار مخصوصة في أوقات مخصوصة قال تعالى
وكل شئ خلقناه بقدر فيجب اعتقاد أنه تعالى حي باق أزلا وأبدا واجب الوجود وكل ما في
الوجود بتدبيره وتقديره لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وفيه
إشارة إلى دخول أفعال العباد في كل مخلوق ردا على المعتزلة في قولهم إن أفعال العباد
مخلوقة لهم وقول بعضهم بعضها مخلوق لهم كما سيأتي وتمسكوا في ذلك بما هو مذكور مع
رده في المطولات من هذا الفن قال الناظم رحمه الله
4 مريد الخير والشر القبيح ولكن ليس يرضى بالمحال
المريد اسم فاعل من الإرادة وهي عبارة عن صفة في الحي تقتضي الحياة وفي حقه تعالى
صفة من صفات الذات له تعالى تقتضي تخصيص أحد طرفي الشئ من الفعل والترك بالوقوع
في وقت دون وقت وترادفها المشيئة والرضاء عبارة عن الإرادة ويرادفها المحبة وهذا
ما ذهب إليه أكثر أهل السنة وقالت المعتزلة الرضاء والمحبة نفس المشيئة والإرادة وقال
بعضهم إنه تعالى مريد بإرادة حادثة لا في محل وقالت الفلاسفة إنه موجب بالذات لا بإرادة
ولنا الآيات الناطقة بإثبات صفة الإرادة والمشيئة له تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون قال الكستلي وجزم أصحابنا القول باستواء
نسبة العلم إلى الضدين كالقدرة وإن العلم بالمصلحة لا يكون داعيا إلى الفعل ما لم تحصل الحالة المعلومة
بالوجدان المسماة بالإرادة ونبهوا على ذلك بأنا لا موجود إلا ويمكن تصوره على وجه
أحسن منه فوقوعه على ما هو عليه تخصيص من غير مخصص لكن أورد عليه أنه إذا جاز تعلق
الإرادة بكل واحد من الضدين بدلا عن الآخر فتعلقها بإحداهما ترجيح بالمرجح وإن لم يكن
كذلك بل كان تعلقها بأحدهما مقتضى ذاتها فالمريد غير قادر على الفعل بالمعنى المذكور إذ قد
وجب وجود أحد الضدين فيه لا وجوبا مرتبا على تعلق إرادته بل لم يجز منه إلا وقوع هذه
الضد وغارة ما يمكن أن يجاب عنه بأن تعلق الإرادة بأحد الضدين لذتها لا بمعنى أن
ذاتها تقتضي المتعلق به البتة بل بمعنى أنها لا تحتاج في ذلك إلى مرجح غير ذاتها وهذا خاصة
الإرادة فلا يجوز مثلها في القدرة هنا فافهم والمحال هنا هو الذي أحيل من جهة الصواب
12

إلى غيره والذي قبحه الشرع كالكفر والمعاصي وهو الذي أراده المص رحمه الله بالشر فهو
واقع بإرادته لكن لم يرض به قال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر لا المحال الذين يستحيل وقوعه
إذ الكفر والمعاصي موجودان واقعان بإرادته تعالى لا برضاه ولا يخفى أن المحال هو الممتنع لكن
امتناعه إما شرعا أو غيره وغيره إما عقلا وعادة كالجمع بين الضدين فهو امتناع لذاته أو عادة
فقط كطيران الإنسان أو عقلا فقط كالإيمان ممن علم الله أنه لا يؤمن فهو فيهما امتناع لغير
ذاته والمراد ههنا الأول أي الممتنع شرعا كما ذكرنا إذ الممنوع شرعا ما خالف المطلوب شرعا
وهو الفعل المنهي عنه حراما كان أو مكروها أو خلاف الأولى يشمل الكفر وسائر المعاصي والمناهي
والمطلوب شرعا هو الفعل الفرض والواجب والمستحب يشمل الإيمان وسائر الطاعات الإعراب
مريد اسم فاعل مضاف إلى مفعوله خبر مبتدء محذوف أي هو مريد الخير والشر عطف على الخير والقبيح صفة
كاشفة للشر إذ ما قبح شرعا ليس فيه حسن ولكن للاستدراك دفعا لتوهم رضاه أتى به حيث
كان مراد له واسم ليس مستتر راجع إلى المبتدء المقدر وجملة يرضى خبرها وبالمحال متعلق
بيرضى المنفي (وحاصل معنى البيت) أنه يجب اعتقاد أن وقوع جميع الأشياء من خير وشر وإيمان
وكفر وطاعة ومعصية بإرداته تعالى لكن ما كان بعيدا عن الصواب عند أولي الألباب كالكفر
والقبايح والمعاصي فإنه مريد له لكنه غير راض به فيقع بمشيته وإرادته لا برضاه ولا بمحبته قال
تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله وقال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وهذا مذهب أهل السنة
وقالت المعتزلة جميع المعاصي واقعة بإرادة العبد على خلاف إرادة الرب فالخير من الله والشر
من العبد كيلا ينسب القبيح إليه تعالى وهو مردود بما قدمنا وبقوله تعالى قل كل من عند الله وخلق
كل شئ يضل من يشاء ويهدي من يشاء وظهور ذلك من العبد إنما هو بتقدير الله تعالى
ومؤاخذة العبد به إنما هو بحسب كسبه وأقبح من قولهم قول النظام إن الله تعالى لا يقدر على خلق
الجهل والقبيح مستدلا بأنا لو قدر على خلق ذلك لزم أن يكون جاهلا وقبيحا لأن خالق الجهل جاهل
وخالق القبيح قبيح وهو مردود وفساده ظاهرا أيضا بعموم ما قدمنا ولا يلزم ما ذكره إذ المتصف
بذلك من قام به المعنى وهو الجاهل كقائل هذه القول لا خالقهما كالكسر والجرح ونحوهما فإنه إنما
يقوم بالمكسور والمجروح لا بالجارح والكاسر وما أحسن قول القائل
قضى الرب كفر الكافرين ولم يكن ليرضاه تكليفا لدى كل ملة
دعا الكل تكليفا ووفق بعضهم وخص بتوفيق وعم بدعوة
إليك اختيار الكسب والله خالق مريد بتدبير له في الخليفة
ولم يرض فعلا قد نهى عنه شرعه تعالى وجل الله رب البرية قال الناظم رح
13

5 صفات الله ليست عين ذات * ولا غيرا سواه ذا انفصال
الصفات جمع صفة وهي الإمارة اللازمة لذات الموصوف التي يعرف بها والصفة والوصف سيان من حيث اللغة
وبينهما تغاير من حيث الاصطلاح وذلك إن الوصف ما قام بالواصف من حيث إنه واصف والصفة
ما قام بالموصوف من حيث إنه موصوف وبهذا اندفع قول بعضهم ليت شعري من أين هذه التفرقة
فإن كلا منهما مصدر يصح أن يتصف به الواصف وأن يتصف به الموصوف فافهم وصفاته تعالى
مختصة لذاته لا هي هو ولا غيره هذا عند أهل السنة والجماعة وليست بمحدثة سواء كانت من
صفات الذات أو من صفات الأفعال فلا يقال هي هو ولا بعضه ولا هي أغيار له بل هي صفات
أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى ليست كصفات البشر ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد
كفر وأشار الناظم رحمه الله بقوله ليست عين ذات ردا لما تزعمه الكرامية من قولهم إنها غيره ذو انفصال
عن الذات وهي عندهم حادثة لئلا يلزم تعدد القدماء إذ النصارى كفروا بإثبات ثلاثة فما
بال الثمانية وهي الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام والتكوين والنصارى
وإن لم يصرحوا بالقدماء المغايرة ولكن لزمهم ذلك من زعمهم لأنهم أثبتوا الأقانيم الثلاثة
التي هي الوجود والعلم والحياة وسموا الوجود بالأب والعلم بالابن والحياة بالروح القدس
وزعموا أن أقنون العلم قد انتقل إلى بدن عيس عليه السلام فجوزوا الانفكاك والانتقال فكانت
الأقانيم الثلاثة ذوات متغايرة وأيضا وصفوا الأقانيم الثلاثة بصفات الألوهية وقد كذبهم الله
تعالى بقوله لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وبقوله عقيبه إنما هو إله واحد وبقوله
قل هو الله أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وقول المعتزلة أيضا ظاهر البطلان
لأن الصفة لو كانت عين الموصوف لزم تعدد الذات باعتبار تعدد الصفات وهو باطل ولو
كانت غير ذاته لا يخلوا إما أن يتصف بها غيره أو تقوم بنفسها وكلاهما باطلان أما الأول فلأنه
يلزم أن توجد صفاته الكاملة في غيره فيكون ناقصا في ذاته مستكملا بالغير وهو وباطل وأما
الثاني فإنه يلزم قيام العرض بنفسه وهو باطل أيضا وليست بعضا كما قال بعضهم لأنه لو كان
كذلك لأدى إلى أن لذاته تعالى حدا ونهاية حتى يتبعض ويتجزى وهذا من أمارات الحدوث
وصفات الإمكان وهو باطل فثبت بهذه الدلالات أنها لا عين ولا غير قالوا فهي كالواحد
من العشرة ليس هو عين العشرة لاستحالة حد العينية ولا غيرها لانعدام حد الغيرية والواحد
وإن كان بعض العشرة إلا أنه يستحيل في حقه تعالى التركيب والتبعيض والتجزي فالتمثيل للتقريب لا
14

للتسوية وفي قوله إذا انفصال إشارة إلى أن المراد بالغيرية الغيرية الاصطلاحية وهو الذي يمكن
انفصاله عن الذات انفصالا لا يقتضي المغايرة فهو كالتأكيد للغيرية الإعراب صفات الله مبتدأ
واسم ليس مستتر وعين خبرها مضافا إلى ذات وجملة ليس مع اسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ
واسم ليس مستتر وعين خبرها مضافا إلى ذات وجملة ليس مع اسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ
ولا عطف على ليس وغيرا خبرها وحذف اسمها لدلالة الأول عليه أي وليست غيرا فهو من عطف
الجمل ويصح أن يكون عطفا على عين فيكون من عطف المفردات وسواه للتأكيد وضميره للذات
وذكر الضمير تأدبا ومراعاة للمعنى وذا انفصال صفة للغير ومعنى البيت ظاهر قال الناظم رحمه الله
6 صفات الذات والأفعال طرا * قديمات مصونات الزوال
صفات الذات ما دل عليه فعله تعالى لتوقف الفعل عليها وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة وما دل
عليه التنزيه له تعالى عن النقص وهي السمع والبصر والكلام والبقاء وصفات الأفعال قد اختلف فيها
فمذهب أئمتنا الحنفية هي قديمة أيضا كالأولى ومذهب الأشاعرة أنها حادثة باعتبار تعلقها
التنجيزي كالتكوين والإبداء والانشاء والترزيق والإماتة والإحياء وفسر بعضهم صفات الذات
بأنها كل ما يلزم من نفيه نقيضه والفرق بين الذات والصفات إن الذات كل ما يمكن تصوره
بالاستقلال بخلاف الصفات فإنها كل ما لا يمكن تصوره إلا تبعا وكل منهما يدل على معنى زائد على
معنى الواجب لا كما تزعمه المعتزلة أنه تعالى عالم لا علم له قادر لا قدرة له إلى غير ذلك فإنه
محال بمنزلة قولنا أسود لا سواد له وقد نطقت النصوص بثبوت علمه وقدرته وغيرهما ودل
صدور الأفعال المتقنة على وجود الأفعال المتقنة على وجود عمله وقدرته لا على مجرد تسميته
عالما وقادرا وليس النزاع في العلم والقدرة التي من جملة الكيفيات والملكات لما صرح
مشايخنا من أنه تعالى حي وله حياة أزلية ليست بعرض ولا مستحيل البقاء والله تعالى عالم وله
علم أزلي شامل ليس بعرض ولا مستحيل البقاء ولا ضروري وما مكتسب وكذا سائر الصفات
بل النزاع في أنها كما أن للعالم منا علما هو عرض قائم به زائد عليه حادث فهي للصانع العالم
علم هو صفة أزلية قديمة قائمة زائدة عليه وكذا جميع الصفات فأنكره الفلاسفة والمعتزلة
وزعموا أن صفاته عين ذاته بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالما وبالمقدورات
قادرا إلى غير ذلك فلا يلزم تكثير في الذات ولا تعدد في القدماء والواجبات والجواب أن المستحيل
تعدد الذات القديمة وهو غير لازم ويلزمهم كون العلم مثلا قدرة وحيا وعالما وحيا
إلى غير ذلك من المحالات وقوله طرا بضم الطاء أي جميعا وبفتحها أي قطعا من طر الثوب
إذ قطعه فهو طرار والأول أنسب ههنا وقوله قديمات جمع قديمة وتقدم معنى القديم أي
15

أزلية لا كما تزعمه الكرامية من أن له صفات إلا أنها حادثة الاستحالة قيام الحوادث بذاته
تعالى مصونات أي محفوظات عن الزوال عن ذاته تعالى لأن صفاته تعالى أزلية أبدية لا يزال
عنها أبدا فلا تزايله ولا تفارقه إذ المزايلة والمفارقة من صفات الحدوث ومولانا بجميع
صفاته قديم الإعراب صفات الذات مبتدأ والأفعال عطف على الذات وطرا نصب
على الحال وقديمات خبر المبتدأ ومصونات الزوال خبر بعد خبر (وحاصل معنى البيت)
إن صفاته تعالى مطلقا ذاتية كانت أو فعلية كلها قديمة مصونة عن الزوال عن الذات المقدسة
وعن الزوال بمعنى الفناء والعدم قال شارح ويجوز أن يراد كلا المعنيين وهو الأصح وصفات
الأفعال عند الأشاعرة حادثة باعتبار تعلقها التنجيزي وهو حادث وأما باعتبار تعلقها
الأزلي ويسمونها المعنوية فهي قديمة لأن التكوين باعتبار رجوعه إلى صفة القدرة يكون
أزليا فالتخليق مثلا هو القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق فح لا خلاف في المعنى ذكره الإمام النووي وغيره
انتهى وفيه نطر ولذا نقله علي القاري (2) وقد قدمنا تحقيقه والحاصل أنه يجب على المكلف
بالشرع معرفة ما قام عليه دليل عقلي أو نقلي من الصفات مع اعتقاد أنها كلها قديمة وهي
عشرون صفة الوجود، والقدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس، والوحدانية
والحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام، وكونه حيا، وعالما
، ومريدا، وقادرا، وسميعا، وبصيرا، ومتكلما. ويستحيل في حقه تعالى كل ما ينافي الصفات
الواجبة كالعدم، والحدوث، والفناء، والمماثلة للحوادث، وكونه صفة، والاحتياج إلى
الفاعل، والتركيب في الذات، والمثل فيها أو في الصفات، ووجود الشريك في الأفعال
، والعجز، والجهل وما في معنى ذلك وأفراد الجائز في حقه تعالى لا تنحصر في عدد بل هي
الفعل والترك لكل ما يقضي العقل بجوازه وإمكانه ونظم بعضهم صفات الذات بقوله
حياة كلام ثم علم وقدرة * إرادته سمع صفات مع البصر
لذات الإله عند كل محقق * وزيد بقاء عند حبر مع النظر
(2) حاصل ما قدمه أن الإمام الرازي أثبت الكفر لمن نفى خالقية الله تعالى قبل أن
يخلق المخلوقات من المخالفين أي أهل العقائد الباطلة ورده علي القاري بأن الأشاعرة
أيضا من المخالفين فإنهم لا يوصفون الله تعالى بأنا خالق قبل أن يخلق الخلق مع أنهم
الفرقة الناجية كما في المواقف والعضدية ولم يعترض عليهما الشروح والحواشي هذا
والحق ما قاله الإمام النووي رحمه الله من أن الخلاف لفظي ولا معنى للنظر فيه اعتناء بنقل علي
القاري فإنه يوهم التعصب وإن فتشت كتب الكلام كحواشي شرح المواقف وجدت كلام الماتريدية مضطربا في أجوبتهم لدفع
الاعتراضات الأشاعرة على إثبات التكوين صفة زائدة لا سيما كلام صاحب نظم الفرائد حيث أتى بتكلفات
باردة لدفع تلك الاعتراضات بنقول مختلفة لا تخلو عن العصبية. لمحرره أحمد حلمي القوغى
16

(2) نسمي الله شيئا لا كالأشيا * وذاتا عن جهاد الست خالي
أي نحن أهل السنة والجماعة نسمي الله تعالى شيئا أي نطلق عليه هذا اللفظ بناء على أن الشئ
عندنا هو الموجود فهو أولى بإطلاقه عليه لأنه تعالى واجب الوجود لكن لا نعتقد أنه
كسائر الأشياء لأنها ممكنة الوجود وممتنعة الشهود ومولانا قديم واجب الوجود وأما
إذا كان الشئ مصدر شاء من المشيئة فإن أريد به معنى الفاعل جاز أيضا إطلاقه عليه
تعالى وإن أريد به معنى المفعول فلا يجوز وهو الذي احترز عنه المص بقوله لا كالأشيا
لأنها كلها مشيئة له تعالى موجودة بخلقه ونسمي الله تعالى ذا ذاتا أيضا لكن لا كالذوات
(2) نسمي صيغة متكلم معلوم لا غائب مجهول كما في بعض النسخ إذ يرده نصب قوله وذاتا على قاري
قوله إذ يرده) أي يرد بعض النسخ الذي فيه بناؤه للغائب المجهول نصب قوله وذاتا قال بعض
الفضلاء بعد أن ذكر كلا من النسختين وأقول لم يظهر وجه الردفان ذاتا منصوب على كل حال سواء
بني نسمي للمعلوم أو المجهول على أنه مفعول ثان لنسمي ولفظ الجلالة نائب الفاعل على الثاني أي جعله
مبنيا للمجهول ومفعول أول على الأول أي جعله مبنيا للمعلوم نعم نظهر ترجيح النسخة الأولى
من حيث إنها نص في نسبة القول إلى أهل السنة والإشارة إلى خلاف المعتزلة بخلافه على بناء المجهول
لفوات تلك الإشارة ولعدم نكتة حذف الفاعل التي أشار إليها النحاة فتأمل تحفة الأعالي على شرح على قلوى
وقد كتب على هذا الموضع قطب الإرشاد قامع الفساد دستور العلماء العاملين ملجأ المريدين والسالكين
شيخنا ومولانا الشيخ محمد شريف العربكندي فأظهر الرموز وكشف الكنوز وإليك ما كتبه: (إذ يرده
نصب قوله وذاتا ا ه‍) فارتبك فيه كثير حيث لا فرق بين المعلومية والمجهولية في نصب ذاتا فلاح لي
بعد مدة أن الفرق بحسب المعنى لا اللفظ الإعراب فقلت إن قيل كيف يرد المجهولية نصب ذاتا وهو
منصوب عطف على شيئا المفعول الثاني متكلما معلوما أو غائبا مجهولا كما عطف هو نفسه بقوله بعد
ونسميه ذاتا لا كسائر الذوات وما وجه الرد يقال ليس الرد من حيث الإعراب وجانب اللفظ إذ لا فرق
بين النسختين من هذه الحيثية بل من حيث المعنى وجانبه لأن المعنى على تقدير كونه مجهولا يسميه أهل الاعتقادات
مطلقا منا أو من غيرنا كما يفيده ظاهر المجهولية وليس كذلك لأن المعتزلة والقدرية والمشبهة والكرامية
لا يسمونه ذاتا متصفا بهذه الصفة المذكورة من كونه لا كالذوات لخلوه عن الجهة والمكان
كما سيأتي وهو قول القاري وفيه أي في هذا البيت رد على المعتزلة والقدرية إن الله
في كل مكان وعلى المشبهة والكرامية إنه على العرش سبحانه وتعالى
في آخر شرح البيت بخلاف المعنى على تقدير كونه متكلما معلوما فإنه نص ح في
التسمية عند أهل السنة فإن قيل إذا كان الرد المذكور من هذه الحيثية فما وجه
اختصاص الرد بنصب ذاتا مع أن نصب شيئا أيضا
كذلك لخلاف الجهمية حيث قالوا إنه سبحانه لا يوصف بأنا شئ لأنهم لا يرون اتصافه تعالى بما يشارك
فيه غيره قلت لعدم العبرة بخلافهم لكونهم مفرطين في هذا الرأي لاستلزامه نفي اتصافه تعالى
بكثير من الصفات الكمالية كأنه لا خلاف بخلاف الذاتية المذكورة فإن فيها خلافا من فرق كثيرة أولى
دراية وإن أخطأوا ولم يصيبوا جعلنا الله وإخواننا مصيبين غير مخطئين في العقائد كلها هذا ما بلغ
إليه فكري القاتر ونظري القاصر والله أعلم بالصواب ثم يا إخواني والله لست من رجال ميدان
المشكلات لأني كثيرا ما أقف في أدنى مسألة من كل باب ولكن قليلا ما يلوح لي شئ في بعض العويصات
من القوة المدركة والله بل كالإلهام فأتكلم فيه بما خيل والله ملهم الصواب وهو
يهدي السبيل. شيخنا محمد شريف العربكندي قدس الله سره.
17

لأن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقايق كما أن صفاته تعالى مخالفة لجميع الصفات وكل ما خطر
ببالك فالله وراء ذلك ولأن الذوات لا تخلو عن الجهات الست أعني الفوق والتحت واليمين
والشمال والأمام والخلف وهو تعالى بذاته عن الجهات الست خال لأن البرهان القاطع
قام على أنه تعالى غير متحيز في مكان إذ التحيز عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شئ
ممتد كالجسم أو غير ممتد وهو الجوهر الفرد كما سيأتي وواجب الوجود ليس كذلك فال يكون
متحيزا ثم اعلم أنه يجوز أن يطلق عليه تعالى كل ما ورد الشرع بإطلاقه عليه من الأسماء
والصفات ويمتنع ما منعه الشرع وأما ما لم يرد به إذن ولا منع وكان تعالى موصوفا بمعناه
وإطلاقه مشعر بتعظمه غير موهم لما يستحيل في حقه تعالى فجوزه جمهور أهل السنة ومنعه المعتزلة
ومال إليه القاضي الباقلاني وتوقف إمام الحرمين وجوز الرازي والغزالي إطلاق الصفة
دون الاسم والمراد بالصفة ما دل على معنى زائد على الذات كما مر وكل ما أوهم معنى مستحيلا في
حقه تعالى لم يجز إطلاقه عليه مطلقا اتفاقا كالعاقل والعارف والفقيه لأن العقل مأخوذ من
العقال وهو المنع من الإقدام ولا يتصور ذلك إلا إذا دعى إلى ما لا يليق والعارف مأخوذ من
المعرفة وقد يسبقها وجهل أو غفلة والفقه هو الفهم لغرض المتكلم وقد يسبقه جهل وكل
ذلك لا يليق في حقه تعالى وقس على ذلك ترشد الإعراب نسمي مضارع صيغة متكلم معه
غيره أي نحن أهل السنة ولفظ الجلالة مفعوله الأول وشيئا مفعوله الثاني يقال سميته كذا
وسميته بكذا ولا نافية بمعنى غير أو بمعنى ليس وكالأشياء متعلق بها في محل نصب صفة شيئا
أي مغاير للأشياء أوليس هو كالأشياء وذاتا عطف على شيئا وخالي صفة ذاتا وحقه
خالية وتركت التاء تأدبا ومراعاة للمعنى وعن جهاد متعلق به ولا يصح أن يكون خبرا مقدما
وخالي مبتدء مؤخرا فتدبر ويصح في نسمي أن يقرأ بالياء مبنيا للمفعول ولفظ الجلالة
نائب فاعله وشيئا مفعوله الثاني وذاتا عطف عليه فهو منصوب على كل حال خلافا لما توهمه
بعضهم (وحاصل معنى البيت) أنه يجوز لنا أهل السنة أن نسمي الله تعالى شيئا معتقدين أنه
18

مغاير لسائر الأشياء لأنها حادثة مفتقرة إلى الموجد والمحدث والله تعالى موجد الأشياء
كلها قال تعالى قل أي شئ أكبر شهادة قل الله. كل شئ هالك إلا وجهه *
والاستثناء معيار العلوم ونسميه أيضا ذاتا معتقدين أنه مغاير لسائر الذوات خال عن
جميع الجهاد الست لورود الشرع بذلك تنبيهان الأول يجب التفكر في مصنوعات الله
تعالى ولا يجوز التفكر في ذاته تعالى للنهي عنه قال عليه السلام لا تتفكروا في ذات الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنهما
تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذات الله ولأنه ربما يتصوره العقل بما لا يليق به تعالى وكل ما
خطر ببالك فالله بخلاف ذلك والثاني هل يجوز عقلا علم حقيقة ذاته في الآخرة أم لا قال
بعضهم نعم لحصول الرؤية فيها ومن لازمه تحقق المرئي وقال بعضهم لا إذ الرؤية لا تفيد
العلم بالحقيقة البتة فاللزوم ممنوع وصححه بعضهم فقال والصحيح أنه لا سبيل إلى القول
بذلك وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى قال الناظم رحمه الله:
8 وليس الاسم غيرا للمسمى * لدا أهل البصيرة خير آل
اعلم أن الاسم ما دل على مسمى في نفسه غير متعرض ببنيته لزمان والتسمية جعل اللفظ
دليلا على المعنى وذلك المعنى الذي جعل اللفظ بإزائه هو المسمى ثم اختلف هل الاسم عين المسمى
أو غيره وهي مسألة طويلة لا يحتملها هذا المختصر وحاصلها أن ههنا ألفاظ ثلاثة التسمية
والاسم والمسمى ثم التسمية غير الاسم والمسمى بلا خلاف بين الأدمة وأما الاسم والمسمى
فقال أصحابنا أهل السنة هما واحد وقال أصحاب السنة والمتأخرون الاسم والصفة واحد
ثم الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام صفة هي غير الموصوف كصفة الوجود للموجود وصفة لا هو
ولا غيره كصفات الله تعالى كما تقدم وصفة هي غير الذات كصفاتنا وكذلك الاسم ينقسم إلى
ثلاثة أقسام اسم هو المسمى كقولنا موجود ومعبود وهو الله وهو الذي أراده المص رح
واسم للصفة لا هو ولا غيره كالعالم والقادر وللتسمية وهو ذكر الاسم ولفظ فهو غير المسمى
بالخلاف بين الأمة هذا حاصل ما في شر أبي بكر الرازي وحاصل ما في حاشية السعد على
الكشاف عند قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها إن الخلاف في الجواب لفظي لأنه أريد
بالاسم لفظ زيد مثلا والمسمى مدلوله الذي هو الذات المشخصة فهو غيره قطعا أو بالاسم
المدلول وبالمسمى الذات من حيث هي أي الماصدق فهو في الجامد عين المسمى إذ لا يفهم من
اسم الله تعالى سواه وفي المشتق على قول الأشعري غيره إن كان صفة فعل كالخالق ولا عينه
ولا غيره إن كان صفة ذات كالعالم وعلى قول غيره عينه كما في الجامد ثم قيل إن الخلاف في
19

الاسم بمعنى الكلمة المركبة من الهمزة والسين والميم لأن تمسكات الفريقين يشعر بذلك إذ
القائلون بأن الاسم عين المسمى تمسكوا بمثل قوله تعالى سبح اسم ربك وقوله تعالى ما تعبدون
من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم فههنا الاسم والمسمى واحد إذ
الحكم لا يناسب إلا المسمى وهذا هو المراد بقولهم الاسم عين المسمى والقائلون بأنا
غيره تمسكوا بمثل قوله تعالى فله الأسماء الحسنى فههنا الاسم غير المسمى إذ المفهوم أنه
غيره وهذا هو المراد بقولهم الاسم غير المسمى لكن ما ذكروه من التفصيل من أنه قد يكون عينه نحو
لفظ الجلالة في الجوامد وأنه قد يكون غيره كالخالق من صفات الأفعال وقد يكون لا عين
ولا غير كالعالم من صفات الذات يشعر بأن الخلاف ليس في لفظ الاسم المركب من الهمزة
والسين والميم بل ما تصدق عليه تلك الكلمة مثل زيد بالنسبة إلى مدلوله ومسماه وفيه
إنه حيث أريد ذلك كيف ساغ الاختلاف بين الأئمة وأجيب بأنا لما كان الاسم كزيد
مثلا قد يراد به نفس لفظه كزيد ثلاثي وقد يراد به مدلوله ومسماه كزيد كاتب
ورأيت زيدا وقع الاختلاف و ح الخلاف لفظي فمن أطلق أن الاسم عين المسمى ليس
في محله وكذا من أطلق أنه غيره بل تارة يكون المراد غيره وتارة عينه فهو راجع إلى
قرينة المقال عند الإطلاق فافهم والله أعلم وقوله لدى بالدال المهملة بمعنى عند
والبصيرة: نور في القلب يدرك به الأشياء خيرها وشرها ويجمع على بصائر وأما الأبصار
فجمع بصر وهو قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين اللتين يلتقيان فيفترقان إلى العينين
وعمى الأول أشد كما قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وأراد
بأهل البصيرة محققي أهل السنة الإعراب الاسم اسم ليس وغير خبرها وللمسمي متعلق
بغير أي ليس الاسم مغاير للمسمى ولدى ظرف مكان وأهل مجرور به والبصيرة مجرور بإضافة
أهل إليه وخير افعل تفضيل صفة لأهل وآل مجرور به (وحاصل معنى البيت) إن الاسم
ليس مغايرا للمسمى عندنا أي بل هو عينه كما قال شارحوه قال علي القاري ولو قال وإن الاسم
عين للمسمى لكان نظامه أسنى وأسمى وفيه نظر وقد علمت ما فيه تنبيه قال بعضهم
هل حقيقة ذاته تعالى معلومة للناس الآن قال جماعة من أهل السنة والمعتزلة نعم لأنهم
مكلفون بالعلم بوحدانيته وهو متوقف على العلم بحقيقته حتى زعم طائفة منهم أنه كصورة
آدم مستدلين بقوله عليه السلام لا تقولوا إن فلانا قبيح فإن الله خلق آدم على صورته
وفي رواية رأى رجلا يضرب آخر فقال ذلك ورده المحققون من الفرق الإسلامية
وطائفة من غيرهم ونمنع توقف العلم بالوحدانية على العلم به بالحقيقة الذاتية وإنما يتوقف
20

العلم بوحدانيته على العلم به بوجه ما وهو عز وجل معلوم بصفاته ومصنوعاته كما أجاب
به موسى عليه السلام فرعون لما سئله عن حقيقة ذاته بقوله وما رب العالمين قال رب
السماوات والأرض إلى آخر ما قصه تعالى علينا ولفظة ما يسئل بها عن الماهية غالبا
ومولانا لا يتصف بها ولذا قال بعض العلماء إن سئلنا سائل عن الله تعالى ما هو قلنا
أن أردت ما اسمه فالله الرحمن الرحيم وإن أردت ما صفته فالسميع البصير وإن
أردت ما فعله فخلق المخلوقات ووضع كل شئ في موضعه وإن أردت ما ماهيته فهو
متعال عن المثال والجنس وهو الذي يجب اعتقاده والجواب عن الحديث أنا لا نسلم
أن الضمير راجع إلى الله تعالى بل إلى فلان وروي أنه عليه السالم رأى رجلا يضرب آخر على
وجهه فنهاه عن ذلك وقال إن الله تعالى خلق آدم على صورته أي صورة المضروب
ويحتمل أن يكون راجعا إلى آدم وفائدته أنه تعالى خلق آدم على صورته التي شوهد
عليها في الدنيا ولم تتغير عند إهباطه من الجنة كما كانت عليها فيها كما غيرت صورة إبليس
حين أخرج منها ولئن سلم أنه راجع إلى الله تعالى كما جاء في الخبر أن الله خلق آدم على صورة
الرحمن إلا أن الصورة كما تطلق على الصورة المحسوسة كذلك تطلق على مفهوم الشئ وما
يختص به في ذاته ولذا قالت الحكماء: العلم حصول صورة الشئ في ذاته وأرادوا بها
مفهومه ومعناه فمعنى خلق آدم على صورته أنه خلقه على صفاته من العلم والحكمة والرحمة
والكرم والغضب ونحو ذلك فلا يكون حجة على إثبات الصورة المحسوسة على أنه ينبغي
إرادة ذلك ويعين أحد ما ذكرنا من الاحتمالات قوله عليه السلام من قال إن لله صورة
كصورة آدم فهو كافر نقله ملا رمضان على شرح العقائد قال الناظم رحمه الله
9 وما إن جوهر ربي وجسم * ولا كل وبعض ذو اشتمال
ما هنا بمعنى ليس ولم تعمل هنا لعدم ترتب الخبر على الاسم وهو شرط في عملها كما علم
في محله ولا يقال أبطل عملها إن الزائدة لأنها اقترنت بخبرها وهو لا يبطل عملها بخلاف ما لو
اقترنت باسمها وقيل إن إن هنا لتأكيد المنفي كما قاله الكوفيون ورد بأنا جمع بين
متفقي المعنى فالأظهر أنها هنا زائدة أي وما ربنا جوهر والجوهر هو ما يقابل العرض
أو هو المحتاج إلى فراغ يشغله أو هو المتحيز أو هو كل ما له حجم أو غير المستغني عن المحل
أو القابل للأعراض أو ما له خط في المساحة والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزى
أي لا يقبل الانقسام لا فعلا ولا وهما ولا فرضا وعلى كل فهو الواقع بجهة وقابل
21

للكيفيات المتضادة كالحركة والسكون وما كان كذلك فهو من قبيل الممكنات وربنا
محال عن ذلك علوا كبيرا ولا جسم لأنه لو كان جسما لكان مركبا وكل مركب مفتقر إلى
جزئه والمفتقر إلى غيره ممكن والله تعالى منزه عن الإمكان فلا يكون جسما إذ الجسم
مركب من جزئين فصاعدا وعند الحساب والمعتزلة الجسم ما له طول وعرض وعمق
وأدناه عندهم ما تركب من ستة أجزاء إن كان مثلثا وإن كان مربعا أدناه من ثمانية
أجزاء بيانه إن الجزء الواحد يسمى نقطة عندهم وإذا ضم إليه جزء يسمى خطا لأنه
صار ذا طول يقبل القسمة بجهة واحدة والخط ما له طول فقط فإن ضم إليه خط آخر من
جانبه يسمى سطحا فيكون هذا مع الأول ذا طول يقبل القسمة بجهتيه وإذا وضع عليه
سطح آخر مثله أي أربعة أجزاء كذلك صار جسما لأنه حصل له طول وعرض وعمق
فصار يقبل القسمة بجهاته الثلث وقس عليه المثلث فهو ثلاثة أجزاء فوق ثلاثة فالجسم
اسم للمركب المطلق بالإجماع إلا أن أصحابنا أبطلوا الحد الذي قاله المعتزلة والحساب
والصحيح ما قلنا إن أدناه جزآن فصاعدا كذا ذكره الرازي والرب في الأصل
من التربية وهي تبليغ الشئ إلى كماله وصف به تعالى للمبالغة في تربية الإنسان مثلا من
النطفة إلى انتهاء عمره والشجرة من حبه إلى أن تبلغ كذا إلى غير ذلك مما يدل على قدرته
الباهرة فهو رب كل شئ ويختص المعرف باللام به تعالى ولا يطلق على غيره إلا مضافا كرب
الدار وقوله ولا كل لأن الكل اسم لجملة تركبت من جوهرين فصاعدا وكل جزء
تركب منه لا يخلوا إما أن يكون موصوفا بصفات الكمال أو لا فإن كان الأول كان كل
جزء منه حيا عالما سميعا بصيرا إلى غير ذلك فيلزم تعدد الآلهة وهو باطل وإن كان
الثاني كان متصفا بأضدادها وهو نقص ومولانا منزه عن ذلك ولأن كل ما له
أجزاء يسمى باعتبار تأليفه منها مركبا وباعتبار انحلاله إليها متبعضا متجزيا وكل ذلك
مناف للوجوب ولا بعض لأنه اسم لما تركب الكل منه ومن غيره وقوله ذو اشتمال صفة
لكل وبعض أي لا يشتمل مولانا على غيره لأنه لو كان كلا لاشتمل على الغير ولو كان بعضا
لاشتمل عليه الغير وكل ذلك من الاحتياج المنافي للوجوب وتبين بهذا أنه تعالى لا يحويه
مكان ولا زمان ولا جهة من الجهاد ولا يدانيه شئ من المكونات ولا يماثله شئ
من المخلوقات إذ كل ذلك محال على واجب الوجود المنزه عن الافتقار ومماثلة الحوادث
الإعراب ما نافية كما قدمنا وإن زائدة أو مؤكدة للنفي على ما قيل وجوهر خبر مقدم
وربي مبتدأ مؤخر على الأظهر وجسم عطف على الجوهر وكذا كل وبعض وذو بمعنى صاحب قيل
22

هو صفة لكل لا لبعض والأظهر أن يتنازع فيه كل وبعض أي لا كل يشتمل على الغير ولا
بعض يشتمل عليه الغير كما قدمنا واشتمال مجرور بإضافة ذو إليه وهو مصدر اشتمل
بالثوب إذ التف به (وحاصل معنى البيت) إنه ذكر من صفاته تعالى السلبية أربع صفات أنه
تعالى ليس جوهرا ولا جسما ولا كلا ولا بعضا لأنه تعالى ليس بعين الممكنة وهي ما له قيام
بذاته سواء تركب من جوهرين فصاعدا وهو الجسم على ما مر أو غير مركب وهو الجزء الذي
لا يتجزى المعبر عنه تارة بالجوهر الفرد وتارة بالنقطة وهو الذي يمتنع بالذات انقسامه
وسيأتي تمامه وإذا انتفى أن يكون شيئا من الأعيان الممكنة انتفى بالضرورة أن يكون
عرضا وهو ما لا يقوم بذاته إذ العرض أقسام العالم وهو بجميع أقسامه ممكن وربنا متعال
عن ذلك علوا كبيرا (تنبيه) ذكر الرازي ههنا كلاما مخالفا لكلام المحققين وقد ضربت
عليه بعد نقله وحاصل الصواب فيه ما نقله السعد رحمه الله من أنه تعالى ليس بجوهر قال أما عندنا
فلأنه اسم للجزء الذي لا يتجزى وهو متحيز وجزء من الجسم والله تعالى متعال عن ذلك وأما
عند الفلاسفة فلأنهم وإن جعلوه من أقسام الممكن وأرادوا به الماهية الممكنة التي إذا
وجدت كانت لا في الموضع فإنما يمتنع إطلاقه على الصانع من جهة عدم ورود الشرع
بذلك مع تبادر الفهم إلى المركب والمتحيز وذهب المجسمة والنصارى إلى إطلاق
الجسم والجوهر عليه بالمعنى الذي يجب تنزيهه تعالى عنه انتهى وهذا هو الصواب الموافق
لنقل المحققين في محل الخلاف وإذا تأملت ما هنا لك يظهر لك حقيقة ذلك والله الموفق والمرشد
قال الناظم رحمه الله
10 وفي الأذهان حق كون جزء بالوصف التجزي يا ابن خال
الأذهان جمع ذهن وهو قوة مدركة ينتقش فيها صور جميع المحسوسات والمعقولات
وقد تسمى بالحافظة والنقش الحاصل فيها يسمى علما وإدراكا ومعرفة وتصورا وتعقلا
وقد يطلق الذهن على العقل ويحتمل إرادته ههنا وقوله حق أي ثابت متقرر في عقول
أولي الألباب من أهل السنة كون الجزء أي وجوده بلا وصف التجزي ممكن وواقع
وقوله يا ابن بكسر النون منادى حذف منه ياء المتكلم أي يا ولدي وقوله خال أي
الجزء خال عن وصف التجزي وحاصل هذه المسألة أن المتكلمين من أهل السنة
والجماعة ذهبوا إلى إثبات وجود الجزء الذي لا يتجزى في الخارج وإن لم ير عادة إلا بانضمامه
إلى غيره كما قدمنا وعبروا عنه بالنقطة وقالت المعتزلة يتصور تجزيه عقلا وفعلا إلى ما لا نهاية له وهذا
القول ظاهر الفساد لأنه يشعر بأن لا تكون الخردلة أصغر من الجبل العظيم ولا الجبل العظيم أكبر
23

من الخردلة إذ أجزاء كل منهما غير متناهية وما لا يتناهى كيف يكون أصغر مما لا يتناهى
أو أكبر منه وفائدة هذا الخلاف تظهر في ثلاثة أمور أحدها وصفه تعالى بالقدرة على
خلق الجزء الذي لا يتجزى فعندنا يوصف به تعالى وهو على كل شئ قدير ولأنه ممكن وعندهم
لا يوصف لكونه محالا والثاني في الاحصاء والدليل لنا عليه قوله تعالى وأحصى كل شئ عددا
فلو لم يكن نهاية لما يتحقق الاحصاء من حيث العدد فيلزم الخلف في كلامه تعالى والثالث في
مسألة الحوض الكبير إذا وقع فيه نجاسة فعندنا لا يتنجس ما لم يظهر أثرها وعندهم يتنجس
وإن قلت النجاسة لأنه لا يتناهى تجزيها فكان في كل قطرة من قطرات الماء نجاسة الإعراب
في الأذهان متعلق بحق أي ثابت في الأذهان وحق خبر مقدم وكون مبتدأ مؤخر
وبلا وصف التجزي صفة جزء وخال صفة بعد صفة ويا ابني جملة ندائية معترضة بين الصفتين
(وحاصل معنى البيت) إن وجود الجزء الذي لا يوصف بالتجزي الخالي بنفسه عن قبول
التجزي ثابت ومتحقق في عقول أهل السنة والجماعة وله ثبوت وتحقق في الأذهان والله
تعالى قادر على خلقه خلافا لما يقوله المعترضة وقد علمت بطلان قولهم وكون خالي صفة كما قلنا
ومشى عليه بعض الشراح مفيد كما ترى وقال شيخنا في شرحه وقوله يا ابن خالي ترحم وتلطف
لأن ابن الخال له رحم فكأنه قال إني نصحت لك القول بذكر هذه الفوائد النافعة كما ينصح ذو
الرحم رحمه أنتهي وعلى كل فهو تتميم للبيت لكن حمله على الأول المفيد أولى تنبيه
اعلم أن في إثبات الجوهر الفرد الذي لا يقبل التجزي نجاة من كثير من ظلمات أهل الاعتزال
مثل إثبات الهيولى والصورة المؤدي إلى قدم العالم ونفي حشر الأجساد لأن إثباتهما
موقوف على نفي الجزء الذي لا يتجزى فإذا ثبت بطل إثبات الهيولى والصورة والحشر مبني على حدوث
العالم وانفطار السماوات وكون الصانع مختارا وإلا لصار الكل منتفيا على تقدير قدم العالم
واعلم أن الهيولى أربعة أنواع، هيولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الشكل، وهيولى
الأولى فهيولى الصناعة، كل جسم يعمل منه الصانع مصنوعه كالحديد للحداد مثلا يعمل منه
السيف والسكين والفأس وغير ذلك فكلها معمولة من جوهر واحد وهو الحديد فهو
الهواء والماء والنار والتراب لأن ما تحت فلك القمر من الكائنات أعني المعادن والنبات
والحيوان إنما يكون من هذه الأربعة وإليها ينتقل عند الفساد والنوع الثالث هيولى
الشكل وهو الجسم المطلق الذي يحصل من جملة العالم الجسماني أعني الأفلاك والكواكب
والأركان الأربعة والمواليد الثلث والنوع الرابع وهو الهيولى الأولى فعند بعضهم
24

هو الجزء الذي لا يتجزى وعند آخرين منهم ذات قائمة بنفسها يحل فيها الجسمية فيولد من
ذلك القابل وذلك المقبول ذات الجسم فليحفظ هذا الكلام فإنه من مزالق الأقدام
قال السعد رحمه الله فإن قيل هل لهذا الخلاف ثمرة قلنا نعم له ثمرة وهي أن في إثبات الجوهر
نجات من كثير من ظلمات الفلاسفة مثل إثبات الهيولى والصورة المؤدي إلى قدم
العالم ونفي حشر الأجساد وكثير من أصول الهندسة المبني عليها دوام حركة السماوات
وامتناع الخرق والالتيام انتهى والله أعلم قال الناظم رحمه الله
11 وما القرآن مخلوقا تعالى * كلام الرب عن جنس المقال
أي ليس القرآن كلام الله تعالى حادثا أحدثه الله تعالى باللفظ المركب من الحروف والأصوات
لأن ذلك من صفات المخلوقين الحادثة وكلامه تعالى قديم منزه عن الحدوث وعن جنس
ما يقوله الناس وعن كتابتهم وتلك إنما هي دوال على كلامه القديم إذ الشئ له وجود
عينا ووجود ذهنا ووجود عبارة ووجود كتابة فالكتابة تدل على العبارة والعبارة تدل على
ما في الذهن وما في الذهن يدل على ما في الخارج وهو الكلام القديم والدوال الثلاثة حادثة
والقرآن يطلق بالاشتراك فيطلق على القراءة الحاصلة بالحروف وبالأصوات فهذه حادثة
مخلوقة لله تعالى دالة على كلامه القديم بواسطة ما في الذهن فقولك سمعت القرآن فالمسموع
إنما هو القراءة الحادثة الدالة على كلامه القديم فهي غيره ولذا صحت الإضافة في قولك
قراءة القرآن عبادة ويطلق أيضا على ما بين الدفتين من النقوش المسمي بالمصحف
وهذا حادث أيضا إذ هو فعل العبد والعبد بجميع أفعاله مخلوق ويطلق أيضا بالحقيقة على
القرآن الحكيم كلام رب العالمين أي الذي نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين
فحيث وصف القرآن بما هو من لوازم القدم كقولنا القرآن غير مخلوق دل على أن المراد
الكلام القديم القادم بذاته تعالى وحيث وصف بما هو من لوازم الحدوث كقولنا القرآن مخلوق
دل على أن المعنى اللفظي أو النقوش الحادثة كقولنا فلان يحسن القرآن وقولك يحرم على
الإطلاق لشموله كلامه تعالى القديم وشموله الحادث أيضا ولا يقال مخلوق لشموله لهما إلا
عند نصب قرينة تبين المراد قال السعد رحمه الله على العقائد عقب القرآن بكلام الله تعالى لما
ذكر المشايخ من أنه يقال القرآن كلام الله غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف
من الأصوات والحرف قديم كما ذهب إليه بعض الحنابلة يعني به ابن تيمية الحراني جهلا وعنادا وأقام غير المخلوق مقام
25

غير الحادث تنبيها على اتحادهما وقصدا لجري الكلام على وفق الحديث حيث قال عليه السلام
القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم وتنصيصا على محل
الخلاف بالعبارة المشهورة فيما بين الفريقين وهو أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا
نترجم المسألة بمسألة خلق القرآن وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم يرجع إلى إثبات الكلام النفسي
ونفيه وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف وهو لا يقولون بحدوث الكلام النفسي ودليلنا ما مر
إن ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم السلام أنه تعالى متكلم ولا معنى له سوى أنه
متصف بالكلام ونمنع قيام اللفظي الحادث بذاته تعالى فتعين النفسي القديم وأما استدلالهم
بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوقين وسمات الحدوث من التأليف والنظم
والانزال وكونه عربيا مسموعا فصيحا معجزا إلى غير ذلك فإنما يقوم حجة على هذه الحنابلة
لا علينا لأنا قائلون بحدوث النظم وإنما الكلام في المعنى القديم والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه
تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محلها أو إيجاد أشكال الكتابة
في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة
لا من أوجدها وإلا لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علوا كبيرا
انتهى وحاصله أنه اتفق المتكلمون على أنه تعالى متكلم للإجماع على أنه حي فلزم أن يتصف بالتكلم
إذ لو لم يوصف به لوصف بضده وهو نقص في حقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والاختلاف
إنما هو في معنى الكلام فعند أهل السنة أن كلامه تعالى قائم بذاته كسائر صفاته وليس بحرف ولا
صوت ولا متبعض ولا متجز وعند المعتزلة محدث مخلوق ولم يكن تعالى متكلما به في الأزل
مستمسكين بقوله تعالى حتى يسمع كلام الله والمسموع هو الألفاظ المركبة من الحروف فيكون
مخلوقا ومعنى كونه متكلما أي موجد لهذه الحروف والأصوات وبقوله تعالى إنا أنزلناه في
ليلة القدر والمنزل في وقت مخصوص يلزمه الحدوث والجواب إن المعنى حتى يسمع ما يدل
على كلام الله وأنزلناه أي المقروء الدال على كلامه تعالى القديم وقرآنا معبرا عنه بالعربية
المفهمة تقريبا للفهم عن كلامه القديم الذي ليس بحرف ولا صوت إذ الحروف والأصوات
حادثان وذاته تعالى قديمة والقديم لا يقوم به الحادث فمن قال إن كلام الله تعالى القائم بذاته
مخلوق حادث فقد كفر كما قدمنا ومن قال لا أدري أمخلوق أم غير مخلوق فهو أشر ممن قال
إنه مخلوق كمن قال لا أعرف المؤمن خير أم الكافر ونقل شيخنا الحديث المتقدم عن الفردوسي
مسندا من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق
فمن قال غيرها فقد كفر وفي لفظ لأنس رضي الله عنه فاقتلوه وقال الفراء ابن جماعة روينا بالسند عن الربيع
26

عن أحمد أن رجلا سأله أصلي خلف من يشرب الخمر فقال لا فقال أصلي خلف من يقول
إن القرآن مخلوق فقال سبحان الله أنهاك عن مؤمن وتسألني عن كافر انتهى والعلم أن
هذه المسألة قد انتشر فيها الكلام جدا وهي مما وجه بها تسمية هذا العلم بالكلام لأنها أشهر
مباحثها وأكثرها جدالا حتى أن بعض أهل الحق قتل لما لم يقل بخلق القرآن والمحنة بذلك
وقعت في زمن الخلفاء العباسيين وأول من أظهر القول بخلق القرآن المأمون بن السيد
هارون الرشيد في سنة 214 بعد وفاة الإمام الشافعي رحمه الله بنحو تسع سنين فأجاب كرها
أكثر من دعاه إلى ذلك وامتنع الخائفون من عذاب الله تعالى فحبس وأهين منهم أبو مسهر
الغساني إلى أن مات في أيام المعتصم ثم لما ولي أخوه المعتصم أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد
شدد المحنة وضرب الإمام ثم لما ولي ابنه هارون بالغ في المحنة بإشارة ابن داود وقتل نصر
بن أحمد الخزاعي بسبب ذلك وفي تلك السنة مات أبو يعقوب يوسف البويطي في السجن
كما أعلمه بذلك الإمام رحمه الله عند موته بأنه يموت في قيوده ويقال إن الواثق تاب عن
ذلك في آخر عمره ثم لما ولى المتوكل جعفر بن المعتصم كشف المحنة وقمع البدعة وأكرم الإمام
أحمد كما في شرح ابن الفرس النجاري تتمة اللفظ الدال على الكلام النفسي إن كان عربيا
فالقرآن الكريم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان عبرانيا فالتوراة الذي أنزل على موسى
عليه السلام وإن كان قبطيا فالزبور الذي أنزل على داود عليه السلام وإن كان سريانيا فالإنجيل
الذي أنزل على عيسى عليه السلام فالاختلاف في العبارات الحادثة لا في كلامه تعالى الإعراب
ما نافية بمعنى ليس القرآن اسمها ومخلوقا خبرها ويصح رفعه على عدم أعمالها وكلام الرب
فاعل تعالى وعن جنس المقال متعلق بتعالى (وحاصل معنى البيت) إنه يجب على المكلف
أن يعتقد أن القرآن الذي هو كلام الله تعالى قديم منزه عن الحدوث وعن جنس قول البشر
وعن الحروف والأصوات وأن القائل بخلقه وحدوثه فهو كافر فإن المقروء بألسنتنا المكتوب
في مصاحفنا حادث دال على كلامه القديم قال الناظم رحمه الله
12 ورب العرش فوق العرش لكن * بلا وصف التمكن واتصال
يعني أنه يجوز أن يقال إن الله تبارك وتعالى فوق العرش لقوله تعالى الرحمن على العرش
استوى لكن نعتقد أن ذلك الاستواء لا كاستواء الأجسام وأن تلك الفوقية لا كالفوقيات
المقتضية للجهات والمماسة والمحاذاة وارتفاع الجسم على الجسم والتمكن فإن ذلك محال في حقه تعالى
بل تفوض حقيقة العلم بذلك إليه تعالى معتقدين الفوقية مع جهلنا بحقيقة الكيفية
27

وهذا طريقة المتقدمين من الخائفين من أئمة الدين فإن السلف ومن تابعهم كالأئمة الأربعة
مشو على ذلك قال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في
الأرض فقد كفر لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا ومن يوهم ذلك فهو مشبه وسئل
الإمام مالك رضي الله عنه عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به
واجب والسؤال عنه بدعة وسئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن ذلك فقال آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا
تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الامساك وسئل الإمام أحمد
رضي الله عنه فقال استوى كما أخبر لا كما يخطر بقلب البشر فعلم بهذا أنه لا خلاف بين الأئمة الأربعة في ذلك
ومن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد أعظم الفرية على أئمة الأمة وأساء بهم الظن نعوذ
بالله من ذلك وكذلك يقولون في كل ما جاء من المتشابهات في كتاب أو سنة كقوله تعالى
خلقت بيدي ولتصنع على عيني الله نور السماوات والأرض وقوله صلى الله عليه وسلم
إن الله
خلق آدم على صورته كما مر وقوله إن الله يضحك لأوليائه حتى تبدو نواجده وغير ذلك
مما يوهم التشبيه فنفوض الأمر لجميع ذلك إليه تعالى كما فوضوا ولا تشتغل بتآويله وتفاسيره
لعدم تكليفنا به مع اعتقاد أنه تعالى ليس بجسم ولا شبيه بالمخلوقات وأن جميع علامات
الحدوث ممتنعة عليه تعالى فإن قلت ما الحكمة في تنزيل المتشابهات قلنا نجعله مما تقدم والله
أعلم بمراده وقيل ليعلم العالمون عجزهم وقصور أفهامهم عن معرفة جميع كلام ربهم
كما قال تعالى وما يعلم تأويله إلا الله فيفوضون العلم بما لا يدركون معناه إليه تعالى
والتفويض إليه تعالى كمال العبودية في العبد ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء كما
قال بعض المحققين: والعجز عن درك الإدراك إدراك والبحث في سر ذات الله إشراك
وقال بعضهم تفسير المتشابهات وتأويلها عبادة في العبد وتسليمها عبودية في العبد
والعبودية فوق العبادة إذا العبودية الرضاء بما يفعل الرب والعبادة فعل ما يرضي الرب
والرضاء فوق العمل حتى كان ترك الرضاء كفرا وترك العبادة فسقا والعبادة تسقط
في الآخرة والعبودية لا تسقط في الدارين انتهى وأما على طريقة الخلف فإنهم يؤلون
كل ما ورد من المتشابهات فيؤولون الاستواء بالاستيلاء واليد بالقدرة والقهر والضحك
بالرضاء إلى غير ذلك وتوسط بعضهم وتابعه جماعة كالكمال بأن الهمام في المسايرة وفصل
بين ما إذا دعت الحاجة إلى التأويل كدفع خلل يدخل في فهم وبين أن لا تدعو الحاجة
وهذا كمال من الكمال والله أعلم بحقيقة الحال الإعراب رب مبتدأ مضاف إلى العرض
والإضافة للتشريف كرب الكعبة وفوق منصوب على الظرفية في محل رفع خبر المبتدأ أي كائن
28

قدرته فوق ولكن للاستدراك والاحتراس وقوله بلا وصف متعلق بما تعلق به الظرف
ووصف مضاف والتمكن مضاف إليه واتصال معطوف على التمكن (وحاصل معنى البيت إنه تعالى قد
استوى كما أخبر لإطلاق الآية فهو فوق العرش لكنه تعالى غير متصف بالتمكن والاتصال
كتمكن الأجسام واتصالها لاحتياجها إلى مكان تقوم فيه ومكان تستقر عليه وكل تلك من
صفات الحدوث وربنا منزه عن ذلك تتمة المشهور إن العرش جسم وإنه أعظم المخلوقات
جرما ولذا خص بالذكر إذ في قدرة الله متسع فيجب الإيمان بذلك وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن بين
كل سمائين خمسمائة عام وبين الكرسي وبين العرش خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله
فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وروي عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة رضوان الله
عليهم أجمعين أن السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش وعن
أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم قال الكرسي ثم قال يا أبا ذر
ما السماوات السبع من الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي
كفضل الفلاة على الحلقة كما في شرح خليل رحمه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما خلق الله حملة
العرش قال لهم احملوا عرشي فلم يطيقوا فخلق مع كل ملك منهم من أعوانهم مثل جنود سبع
سماوات وسبع أرضين وما في الأرض من عدد الحصى والثري وقال احملوا عرشي فلم
يطيقوا فقال قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقالوها فاستقلوا بعرش ربنا
فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة فلم تستقر فكتب في قدم كل ملك منهم اسما من
أسمائه فاستقرت أقدامهم قال الناظم رحمه الله
13 وما التشبيه للرحمن وجها * فصن عن ذاك أصناف الأهالي
في هذا البيت تأكيد التنزيه له تعالى المفهوم من سابقه أو أعم يريد أن الواجب عند أهل
السنة والجماعة اعتقاد أنه تعالى لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد من المخلوقات لا ذاتا ولا صفاتا
ولا أفعالا وأن تشبيهه تعالى بشئ من الحوادث ليس طريقا مرضيا يجوز اعتقاده لا شرعا ولا
عقلا وكل ما خطر ببالك فالله وراء ذلك وأما ما أطلقه الشرع مما يوهم المشابهة بينه
وبين المخلوق في الذات فقد تقدم الكلام فيه مستوفى وكذا في الصفات كعلم الخالق
والمخلوق يوصف كل منهما بأنا موجود فقد تماثلا في الوجود مثلا فهو من جهة اللفظ
لا من جهة المعنى لأن صفات القديم غير صفات الحادث وإذا تأملت قوله تعالى ليس
كمثله شئ انجلت عنك غياهب الآلام وصفت عقيدتك من الشكوك والأوهام
29

وقد قال جماعة التحقيق التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات
وقوله فصن عن ذاك أي عن نسبة التشبيه إليهم أو إلى أحد منهم بالمعنى المذكور بوجه ما
قال العلامة رحمه الله
في شرح العقائد عند قوله ولا يشبهه شئ أي لا يماثله أما إذا أريد
بالمماثلة الاتحاد في الحقيقة فظاهر وأما إذا أريد بها كون الشيئين بحيث يسد أحدهما
مسد الآخر أي يصلح كل منها لما يصلح له الآخر فلأن شيئا من الموجودات لا يسد مسده في شئ
من الأوصاف فإن أوصافه من القدرة والعلم وغير ذلك أجل وأعلى مما في المخلوقات حيث
لا مناسبة بينهما قال في البداية إن العلم منا موجود وعرض ومحدث وجائز الوجود ومتحدد
في كل زمان فلو أثبتنا العلم صفة لله تعالى لكان موجود أو صفة قديمة وواجب الوجود ودائما
من الأزل إلى الأبد فلا يماثل علمه علم الخلق بوجه من الوجوه هذا كلامه وقد صرح بأن
المماثلة عندنا إنما تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف حتى لو اختلفا في وصف انتفت
المماثلة عندنا وقال الشيخ أبو المعين في التبصرة إنا نجد أهل اللغة لا يمتنعون من القول بأن
زيدا مثل عمرو وفي الفقه إذا كان يساويه فيه يسد مسده في ذلك الباب وإن كان بينهما
مخالفة بوجوه كثيرة وما يقوله الأشعري من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة فاسد لأنه قال
عليه السلام الحنطة بالحنطة مثلا بمثل وأراد الاستواء في الكيل لا غير وإن تفاوت الوزن وعدد
الحبات والصلابة والرخاوة والظاهر أنه لا مخالفة لأن مراد الأشعري المساواة من كل
الوجود فيما فيه المماثلة كالكيل مثلا وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام البداية أيضا وإلا فاشتراك
الشيئين في جميع الأوصاف ومساواتها من جميع الوجود يرفع التعدد فكيف يتصور المماثلة
وقوله أصناف الأهالي أي جماعات أهل السنة والجماعة أي اعتقد براءتهم عن القول
بمثل ذلك لتيقنهم بانتفاء وجود المثل له تعالى بالدلائل القطعية فإن قلت الآية دلت
على نفي مثل المثل له تعالى وهو لا يقتضي نفي المثل فيجوز أن يثبت المثل قلنا نفي مثل مثله
يستلزم نفي مثله بسبب انتفاء المماثلة لكونها من الجانبين فإذا انتفى أحد المثلين انتفى
الآخر ضرورة فبقي تبارك وتعالى بلا مثل بالضرورة وهو المطلوب وإذا قيل بزيادة الكاف
فلا إشكال الإعراب ما بمعنى ليس والتشبيه اسمها وللرحمن متعلق به وجها خبر ليس
فصن أمر والفاء واقعة في جواب مقدر أي إذا لم يكن للتشبيه وجه فصن أيها المكلف
وعن ذلك متعلق بصن ووضع ذاك موضع هذا تحقيرا للتشبيه بالعبد عن ساحة القبول و
كما يقال ذاك للعين فعل كذا تنزيلا لعبده عن ساحة الحضور (وحاصل معنى البيت) إنه يجب
عليك أيها المكلف أن تعتقد أن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ من مخلوقاته لا في ذاته ولا في صفاته
30

ولا في أفعاله لأنه تعالى بجميع صفاته قديم والقديم لا يشبهه شئ من الحوادث وأن
تعتقد براءة أهل السنة عن القول بمثل ذلك وإن تنسب إليهم التكلم بما لا يليق
به تعالى فإنه اعتقاد الضالين عنه تعالى رب العالمين * قال الناظم رحمه الله
14 ولا يمضي على الديان * وقت وأحوال وأزمان بحال
الديان بتشديد الياء من دانه إذا جازاه ومنه قوله دناهم كما دانوا وهو صفة مبالغة
في اسم الفاعل وهو من أسمائه تعالى ومعناه المجازي على الكليات والجزئيات قولا وفعلا إن
خيرا فخير وإن شرا فشر قال بعض المحققين مأخوذ من الدين بمعنى الأجزاء وقيل معناه
الصادق وهو ليس في الأسماء الحسين لكنه وأرد فجاز إطلاقه عليه تعالى إذ من المعلوم أن
مذهب أهل ألسنة أنه لا بد في صحة الإطلاق من الإذن الشرعي وقد تقدم وأما تسمية أهل
كل لغة على حسب لغتهم مثل قول العجم خدا وقول الترك تگرى 2 فصحيح انعقد الإجماع على
صحته وكون إذن الشرع بأسمائه مخصوصة إذنا بمرادفاتها لا بد أن يعلم أن مجرد ورود
الشرع لا يكفي في الإذن بذلك بل لا بد أيضا أن يخلو عن سوء أدب وقلة تعظيم في
شأنه عند الإطلاق كالمستهزئ والرامي والزارع وغير ذلك كما في شرح أسماء الله الحسنى للعلامة
محمد بهاء الدين وقدمنا نحوه والوقت والزمان بمعنى واحد ولعله أراد بالوقت المعين وبالزمان
الأزمنة المختلفة أو بالوقت الجزء من الزمان الذي هو عند المتكلمين مقارنة متجدد موهم
لمتجدد معلوم فألزمناه هو تلك المقارنة وعند الحكماء هو مقدار حركة الفلك وبالإزمان
الوقت الطويل بدليل أفراده الأول وجمعه الثاني إشارة إلى أنه لا فرق في استحالة مرور
الزمان عليه تعالى بين أن يكون طويلا أو قصيرا والأحوال جمع حال والحال والحالة كون
الشئ على صفة في وقت من الزمان وأراد به صفة تقوم بالشئ تقبل التبدل وربنا عن ذلك
متقدس ومتعال وقوله بحال أي بوجه من الوجوه لأنه تعالى منزه عن جريان تعاقب الزمان
وتفسير الأحوال مطلقا إذ هما حادثان مخلوقان له تعالى قال عز وجل من قائل خلق الليل
والنهار الإعراب لا نافية ويمضي مضارع مضى الشئ إذا مر وانقضى على الديان
متعلق به ووقت فاعل يمضي وأحوال وأزمان عطف على وقت وبحال متعلق بيمضي
(وحاصل معنى البيت) أن وجوده تعالى لا يمضي عليه الأوقات ولم تتبدل عليه الحالات ولا
يقترن بزمن من الأزمنة على معنى التأثير إذا الزمن حادث يجري على حادث والله سبحانه
وتعالى قديم والقديم لا يقترن بالحادث وقد كان الله تعالى ولم يكن معه شئ وهو الآن على ما
31

كان من كمال الذات والصفات وعدم جريان الأوقات وتبدل الحالات وكما أنه لا يمضي
عليه الأزمنة والحالات لا يوصف بالكيفيات من اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام وتوابع المزاج والتركيب لأنها
من لوازم الحدوث وربنا منزه عن الحدوث ولا بالماهية أي المجانسة للأشياء لأن معنى
قولنا ما هو أي من أي جنس هو والمجانسة وجب التمايز عن المتجانسات بفصول مقومة
فيلزم التركيب وهو من لوازم الأجسام وربنا متعال عن ذلك علوا كبيرا قالا الناظم رحمه الله
15 ومستغن إلهي عن نساء * وأولاد إناث أو رجال
في هذا البيت رد على اليهود في قولهم عزير ابن الله وعلى النصارى في قولهم بزوجية مريم
وببنوة عيسى عليه السلام وعلى بني مليج في قولهم الملائكة بنات الله وهذه أقوال باطلة
نقلا وعقلا قال تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا لقد
كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ويجعلون لله البنات سبحانه ولأنه تعالى منزه عن
الذكورة والأنوثة والافتقار إلى المعين فهو غني عن النساء والوالد والولد وهو خالق
الذكور والإناث والكل عبيده إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا فمن قال
باحتياجه إلى شئ من ذلك فهو كافر لأنه افتراء على الله وتكذيب لقوله تعالى قل هو الله أحد
الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وغيره مما قدمنا والكفر بهذه النسبة
إلى الله تعالى من الزوجية أعظم أنواع الكفر إذ هو افتراء عليه تعالى والافتراء على المخلوق من
أعظم المعاصي فما بالك على الخالق ولذا قال عليه السلام وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال
على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وفي المعجم الكبير للطبراني وللبيهقي في الشعب من حديث
أبي وائل عن ابن مسعود قال ارتقى ابن مسعود رضي الله عنه الصفا فأخذ بلسانه فقال يا لسان قل خيرا تغنم
واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكثر خطايا ابن آدم من لسانه وللشافعي رحمه الله:
احفظ لسانك أيها الإنسان * لا يلد غنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه * كانت تهاب لقائه الشجعان
الإعراب إلهي مبتدأ مؤخر ومستغن خبر مقدم وعن نساء متعلق به وأولاد عطف على نساء وإناث
أو رجال بدل مفصل من مجمل واو بمعنى الواو (وحاصل معنى البيت) إنه يجب
أن نعتقد أن مولانا جل وعلا مستغن عن اتخاذ نساء زوجات أو مملوكات يعني أنه منزه
32

عن ذلك إذ لا يلزم من الاستغناء التنزه كما لا يخفى فكلام المص لا يخلو عن نوع قصور
وكذا مستغن عن والد وولد ذكرا كان أو أنثى لاستحالة ذلك في شأنه تعالى ومن قال
بذلك كان كافرا فائدة الولد حقيقة هو ولد الصلب يتناول الذكر والأنثى
ويطلق على الولد مجازا والرجل يتناول الذكر البالغ من الإنس قطعا وهل يطلق على
الملائكة والجن جوزه بعضهم في قوله تعالى وعلى الأعراف رجال قال هم الملائكة
فأوقع اسم الرجل عليهم كما أوقعه على الجن في قوله تعالى وإنه كان رجال من الإنس
يعوذون برجال من الجن ورد بأنا لم يرد في وصف الملائكة بالذكورة والأنوثة نقل
ولا دل عليه عقل لعدم وجود كل من الوصفين فيهم وأهل الأعراف قيل هم أهل الفترة
وقيل أطفال المشركين وما زعم عباد الأصنام أنهم بنات الله ظاهر البطلان وافتراء
عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا كما مر وإن قلنا لا يطلق حقيقة على الجن أيضا فيكون الآية
على ما قال بعضهم وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن أي من شر
الجن والله أعلم قال الناظم رحمه الله
16 كذا عن كل ذي عون ونصر * تفرد ذو الجلال وذو المعال
الإشارة إلى ما في البيت السابق من استغنائه تعالى عما تقدم أي كما أنه تعالى مستغن
عن النساء والأولاد كذلك مستغن عن المعين والناصر وذو الجلال من أسمائه تعالى ولم يقل
والإكرام لضيق المقام ومعناه الجامع بين عظمة الذات وجميل الصفات والمعالي جمع
المعلى من العلو وهو قسمان علو مكان وعلو مكانة أي مرتبة والله تعالى منزه عن الأول
وأما الثاني فالله تعالى متصف به ومنه العلى من أسمائه تعالى ومن تخلق بهذه الاسم تقرب
إليه قربا معنويا روحانيا بتقليل الحجب التي بينه وبين ربه فإن البعد منه ليس إلا بكثرة
الحجب ومعلوم أن العلو الإضافي لا يكون إلا لمن كان قريبا ممن له العلو المطلق وهو الواحد
الأحد المستغني عن الزوجة والولد وعن المعين في الألوهية والناصر لدفع الأعداء
وهو القاهر فوق عباده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ليس له شريك في خلقه إذ لو
كان له معين أو ناصر لاحتاج إليه فيلزم الافتقار فيلزم عدم الاستقلال فيلزم
العجز والحدوث فيحتاج إلى محدث فيلزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فكذا ما أدى
إليهما فثبت أنه تعالى ليس له معين ولا ناصر ولا يفتقر إلى شئ وهو غني عما سواه له
ما في السماوات وما في الأرض قيل لا يقال الاحتياج إلى المعين لا يقدح في الانفراد
بالوحدانية إذ من ملك الأمر في شئ يجوز أن يستعين بالغير والأمر منسوب إلى المالك
33

وفيه نظر لأن ذلك عين الفساد للزوم العجز عن الاستقلال بالفعل وثبوت المشاركة
وهما باطلان للزوم انتفاء الوحدانية وقد ثبت بالنصوص القاطعة أن صانع العالم
واحد لا شريك له فلا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة
منزهة عن الافتقار إلى شئ قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا إذ لو أمكن ثبوت
إلهين لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما موت زيد مثلا والآخر حياته لأن كلام منهما
أمر ممكن في نفسه وكذا تعلق الإرادة بكل منهما إذ لا تضاد بين الإرادتين بل بين المرادين
و ح إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدان وهو باطل أو لا فيلزم عجز أحدهما وهو أمارة
الحدوث والامكان فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال فيكون محالا
وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه وإن قدر لزم عجز
الآخر وبما ذكر يندفع ما يقال إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة
غير ممكنة لاستلزامها المحال أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين كإرادة الواحد الحركة زيد
وسكونه معا وتمامه في المطولات الإعراب كذا متعلق بالخبر المحذوف مع مبتدئه بقرينة
البيت السابق والإشارة إلى الجملة أو في محل نصب صفة لمصدر محذوف تقديره
مستغن عن المعين والناصر استغناء كاستغنائه عن الزوجة والولد وعن كل متعلق
بمستغن المقدر وكل مضاف وذي بمعنى صاحب مضاف إليه وذي مضاف إلى عون
ونصر عطف على عون وتفرد فعل ماض بمعنى توحد وذو الجلال فاعله وذو المعالي
عطف على ذو الجلال وفي بعض النسخ وذو التعالي ومنه المتعال من أسمائه تعالى
(ومعناه) على بقهره وقدرته كل شئ وفي بعضها ذو الجلالة والمعالي ومشى عليه بعض
الشراح قال الناظم رحمه الله
17 يميت الخلق قهرا ثم يحيى * فيجزيهم على وفق الخصال
أي يجب اعتقاد أن الله تعالى يميت الخلائق كلها على سبيل القهر الإنس والجن والملائكة
والطير والوحوش وغير ذلك ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وهو حي لا يموت
قال تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ا ه‍ روي أنه لما نزل قوله تعالى كل نفس
ذائقة الموت ظن الملائكة عدم الموت لكونهم ليسوا بنفوس فلما نزل قوله تعالى كل من
عليها فان قوي ذلك عندهم لأنهم ليسوا عليها فلما نزل قوله تعالى ويبقى وجه ربك
ذو الجلال والإكرام تيقنوا بالموت ومن قدر على الإبداء من العدم قادر على الإماتة ثم الإحياء
فيحيي الأموات كلها للجزاء يوم القيامة ويعيدها بأعيانها عند النفخة الأخيرة وبين
34

النفختين أربعون سنة كما قال تعالى فإذا نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وقال تعالى
ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون وقال تعالى ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه
ثم توفي كل نفس ما كسبت فيجزيهم على حسب أعمالهم من الحسنات
والسيئات قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا
يره قال العلامة في شرح العقائد والبعث حق وهو أن يبعث الله الموتى من القبور بأن
يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها للنصوص القاطعة بحشر الأجساد وأنكره الفلاسفة
بناء على امتناع إعادة المعدوم لعينه وهو مع أنه لا دليل لهم عليه يعتد به غير مضر بالمقصود
لأن مرادنا أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية للانسان ويعيد روحه إليه سواء سمي ذلك
إعادة المعدوم لعينه وهو مع أنه لا دليل لهم عليه يعتد به غير مضر بالمقصود
لأن مرادنا أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية للانسان ويعيد روحه إليه سواء سمى ذلك
إعادة المعدوم بعينه أو لم يسم وبهذا سقط ما قالوا إنه لو أكل إنسان إنسانا بحيث صار
الآخر جزء منه فتلك الأجزاء إما أن تعاد فيهما وهو محال أو في أحدهما فلا يكون الآخر
معادا بجميع أجزائه وذلك إن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره
والأجزاء المأكولة فضلة في الأكل لا أصلية فإن قيل هذا قول بالتناسخ لأن البدن
الثاني ليس هو الأول كما ورد في الحديث أن أهل الجنة جرد مرد وأن الجهنمي ضرسه
مثلا أحد ومن هنا قال ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ قلنا إنما يلزم التناسخ
لو لم يكن البدن مخلوقا من الأجزاء الأصلية للبدن الأول وإن سمي مثل ذلك تناسخا
كان نزاعا في مجرد الاسم ولا دليل على استحالة إعادة الروح بقوله فيجزيهم على قدر
الخصال عن ذكر سؤال الملكين وعذاب القبر والحشر والحساب وأخذ الكتب ووزن
الأعمال والمرور على الصراط وسيذكرها فيما بعد وكلها حق عند أهل السنة والجماعة
يجب الإيمان بوقوعها لثبوتها بالأدلة القطعية أولها سؤال الملكين منكر ونكير
وهما ملكان يدخلان القبر فيسألان العبد عن توحيد ربه وعن دينه وعن نبيه
كما ورد إذا أقبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقا العينين يقال لأحدهما المنكر
وللآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك
تقول ذلك ثم يفسح له فيقبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له نم
فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم كنوم العروس الذي لا يوقظه إلا
أحب أهله إليه فينام حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا يقول
35

سمعت الناس يقولون شيئا فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك كنت
تقول ذلك ثم يقولان للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال
معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وقوله فيجزيهم على قدر الخصال أي المسطرة
في الصحف فيعطى كل إنسان كتابه المثبت فيه طاعته ومعاصيه يعطى للمؤمن بيمينه وللكافر
بشماله من وراء ظهره قال تعالى ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وقال تعالى وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب
حسابا يسيرا إلى غير ذلك من الأدلة ثم عليه يقع الحساب لأنه الجامع لما قدمت يداه
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا *
فيجازي بما في كتابة إن خيرا فخير وإن شرا فشر وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى
الإعراب يميت مضارع أمات وفاعله مستتر يرجع إلى الله تعالى والخلق مفعوله وقهرا منصوب
أما على الحال من الفاعل أو من المفعول أي حال كونه قاهرا أو حال كونهم مقهورين وعلى
كل فهي حال لازمة أو على المصدرية مؤكدا للفعل المقدر أي يقهرهم قهرا ويحتمل التمييز
وثم للتراخي عطف على يميت وفاعل يحيي فاعل يميت ومفعوله محذوف أي الخلق
فيجزيهم عطف على يحيي والفاء للتعقيب على وفق متعلق بيجزي (ومعنى البيت) ظاهر
تتمة يجب الإيمان بأن ملك الموت يقبض أرواح العالمين بأمر ربهم عند حلول
الأجل والإماتة فعل الله تعالى وإسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله تعالى قل يتوفاكم
ملك الموت الذي وكل بكم بطريق المجاز لأنه المباشر بنفسه أو بأعوانه والمقتول ميت
بأجله عند أهل السنة والجماعة وليس له أجل آخر قطعه القاتل قال تعالى لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وقال الشاعر:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تنوعت الأسباب والعمر واحد
وزعم بعض المعتزلة أن القاتل قطع على المقتول أجله وهو مردود بما قدمنا فإن قيل
إذا كان المقتول ميتا بأجله فمؤاخذة القاتل لماذا أجيب بأن مؤاخذته بسبب أنه ارتكب
المنهي ومباشرته خراب بنيان الله تعالى قال تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
وقال عليه السلام إلا دمي بنيان الرب ملعون من هدمه ولأنه لو لم يقتل القاتل لظهر الفساد
بين العباد بانتقام كل خصم من خصمه قال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولو الألباب
أي إذا علم قاتل أنه إذا قتل قتل به انكف عن القتل فيسلم القاتل والمقتول فالأجل واحد
عند أهل السنة لا يزيد ولا ينقص وأما ما ورد من نحو صلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تزيد
36

في العمر ونحو ذلك فمعناه أنه تعالى يعطي السعادة والتوفيق لمن يصل رحمه بإحياء الليالي
والاشتغال في الطاعات وفعل الخيرات فيرى بركة في عمره لأن النوم كالموت قال عليه السلام
النوم أخو الموت فمعنى زيادته حصول البركة فيه وأجيب أيضا بأنا تعالى كان يعمل أنه لو لم يفعل
هذه الطاعة لكان عمره أربعين لكنه يعلم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة تلك
الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت الزيادة وأصل هذا إنه تعالى
كما يعلم المعلوم الذي سيوجد كيف يوجد يعلم المعدوم الذي لا يوجد أنه لو وجد كيف
كان يوجد كما أخبر تعالى عن أهل النار أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر مع علمه
تعالى بأنهم لا يردون لقوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولو حرف امتناع لامتناع واختلف
في الموت هل هو أمر وجودي أو عدمي قال الشيخ النسفي رحمه الله في عقائده والموت قائم بالميت
مخلوق لله تعالى لا صنع للعبد فيه تخلقا ولا اكتسابا قال السعد رحمه الله وهذا مبني على أن الموت
وجودي بدليل قوله تعالى خلق الموت والحياة والأكثرون على أنه عدمي ومعنى خلق الموت
قدره خاتمة أنكر أكثر المعتزلة حشر من لا خطاب عليهم وهو مردود بما ورد من
أن الله تعالى يحيي الحيوانات كلها للقصاص إظهارا لكمال العدل والقدرة فيقتص للشاة الجماء
من الشاة القرناء ثم يقول لها كوني ترابا فتصير ترابا و ح يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا والله
إعلم وأحكم قال الناظم رحمه الله:
18 لأهل الخير جنات ونعمى * وللكفار إدراك النكال
أراد بأهل الخير المؤمنين بدليل مقابله وأورد هذا البيت بيانا وتفصيلا لما أجمله من
الأحوال في قوله في البيت السابق فيجزيهم على وفق الخصال أي التي ماتوا عليها فيجازيهم
عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر خلق الجنة للمؤمنين وخلق النار للكافرين فيثيب المطيع
ويعاقب العاص تفضلا منه وعدلا لا وجوبا عليه تعالى فيجوز عليه تعالى تعذيب المطيع وإثابة
العاصي إذ الكل ملكه وعبيده فيفعل في ملكه ما يشاء ويختار إلا أنه وعد المؤمنين بالخير
والكافرين بالشر والتخلف في الوعد لا يليق بجناب الكريم قال تعالى أعدت للذين آمنوا بالله
ورسله وقال تعالى إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا جزاؤهم عند ربهم جنات
عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا إلى غير ذلك مما يدل على أنه يكرمهم فيها بأنواع
للكرمات من الحلل والحور العين ومشاهدة وجهه الكريم ومجاورة الأنبياء عليهم السلام وغير
ذلك من النعيم التي لا تحصى وكل ذلك بفضله وإحسانه لا وجوبا عليه تعالى وأوعد الكافرين بالشر
37

والنيران في كثير من القرآن وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا
إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا إلى غير ذلك فيجب اعتقاد أن من مات على الكفر
يستحق النار ويدخلونها بعد أن ينادى لهم و للمنافقين على رؤس الخلائق: هؤلاء الذين
كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين وأن الجنة حق وأن النار حق لأن الآيات
والأحاديث الواردة في حقهما أكثر من أن تحصى وأنكر الفلاسفة وجودهما متمسكين
بأن الجنة موصوفة بأن عرضها كعرض السماوات والأرض وهذا في عالم العناصر محال لأن
عالم العناصر أصغر من السماوات والأرض والأصغر لا يسع الأكبر وفي عالم الأفلاك أو عالم
آخر خارج عن عالم الأفلاك يستلزم جواز الخرق والالتيام وهو باطل قلنا هذا مبني على
أصلكم الفاسد والمراد عرض الجنة مثل عرض السماوات والأرض في الماهية ولا يلزم من
ذلك تساوي مقدارهما فإن الإنسان الصغير مثل الإنسان الكبير في الماهية مع عدم
تساويهما في المقدار وأنهما مخلوقتان موجودتان الآن عند أهل السنة والجماعة وذهب
أكثر المعتزلة إلى أنهما مخلوقتان يوم الجزاء لعدم المقتضي الآن دليلنا قصة آدم وحواء
عليهما السلام وإسكانهما في الجنة وإهباطهما منها والآيات الظاهرة في إعدادهما
مثل أعدت للمتقين أعدت للكافرين ولا ضرورة في العدول عن الظاهر فإن
عورض بمثل قوله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
من حيث إن الجعل مستقبل قلنا هو محتمل للحال والاستقبال فتبقى قصة آدم سالمة عن المعارض
على أن الجعل يحتمل معنى التخصيص كما يقال اجعل هذا لزيد أي أخصه به فلا ينافي سبق وجودهما وإذا ثبت وجودهما الآن فلا قائل بفنائهما بعد
وجودهما لكن لم يرد نص صريح في تعيين مكانهما الآن والأكثرون على أن الجنة فوق السماوات
السبع تحت العرش أخذا من قوله تعالى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وقوله عليه
السلام سقف الجنة عرش الرحمن وإن النار تحت الأرضين السبع وقال بعض المحققين
والحق تفويض ذلك إلى علم العلمي الخير والكافرين فشمل
أطفالهم باعتبار التبعية لكن اختلف فيهم والصحيح التفصيل فأطفال الأنبياء عليهم
السلام في الجنة بلا خلاف وكذا بقية أطفال المؤمنين على الصحيح واختلف في أطفال
المشركين والأصح إنهم خدمة المؤمنين في الجنة لعدم التكليف ولا يليق بكرمه أن يعذب
بالذنب وإن جاز عليه كما قدمنا ومن قال إنهم في النار مع آبائهم مستدلا بقوله تعالى
ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا فقد أول على المعنى الأول وقيل هم على الأعراف بين الجنة
والنار وقيل يصيرون ترايا وقيل السكوت عنهم أولى ولذا توقف فيهم الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه
38

الإعراب لأهل خبر مقدم وجنات مبتدأ مؤخر وتعمى معطوف عليه وهي بضم النون
لغة في النعمة أو اسم لها وأراد بها مطلق نعم الجنة أو الروية لأنها أعظم نعم الجنان كما
سيأتي وللكفار خبر مقدم وإدراك النكال مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على
الجملة والإدراك إما بفتح الهمزة جمع درك بفتح الراء بمعنى أسفل قال تعالى إن المنافقين
في الدرك الأسفل من النار وقد تسكن الراء في المفرد وبه قرأ الكوفيون والدرك بالكافر
ما كان إلى الأسفل والدرج بالجيم ما كان إلى الأعلى وإما بكسر الهمزة مصدرا درك إذ لحقه
فيكون من إضافة المصدر إلى فاعله تنبيهات الأول نكر المص رحمه الله لفظ جنات للتعظيم
وجمعها لأنها سبع على قول ابن عباس رضي الله عنهما: جنة الفردوس، جنة عدن، حنة النعيم
دار الخلد، جنة المأوى، دار السلام، وعليون. في كل منها مراتب ودرجات على حسب
تفاوت الأعمال قال الإمام محمد بن محمود بن السمرقندي في تفسير قوله تعالى فهم في روضة
يحبرون عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة مأة درجة
ما بين كل درجتين منهما كما بين السماوات والأرض والفردوس أعلاها وأوسطها
محلة أي مكانا ومنها تفجر أنهار الجنة وعليها يوضع العرش يوم القيامة انتهى والثاني
روي عن كعب أن الجنة في السماء السابعة بميزان بيت المقدس والصخرة ولو وقع
منها حجر لوقع على الصخرة رواه عمران بن بكار وفي العرايس عن عبد الله قال الجنة
اليوم في السماء السابعة فإذا كان غدا جعلها الله حيث يشاء والثالث ذكر بعض
العلماء أن علامة أهل الجنة وعلامة أهل النار تظهر على الإنسان حال حياته وعند الموت
لمن كشف الله عن بصيرته وقال بعض شراح أربعين النووية فائدة قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم علامة الشقوة جمود العين وقساوة القلب وحب الدنيا وطول الأمل وقال
ذو النون المصري علامة السعادة: حب الصالحين والدنو منهم وتلاوة القرآن
وسهر الليل ومجالسة العلماء ورقة القلب ونقل الشيخ الأجهوري أن من
علامة البشرى للميت أن يصفر وجهه ويعرق جبينه وتذرف عيناه دموعا ومن
علامة السوء: أن تحمر عيناه وتربد شفتاه ويغط كغطيط البكر وتربد بالراء
المهملة بعدها باء موحدة قال في القاموس الربدة: لون إلى الغبرة والله أعلم قال الناظم رحمه الله
19 ولا يفنى الجحيم ولا الجنان * ولا أهلوهما أهل انتقال
هذا مذهب أهل السنة الذي يجب اعتقاده فإنهم يقولون لا فناء للجنة ونعيمها ولا للجحيم
39

وسعيرها ولا لأهليهما بعد دخولهما ولا انتقال عنهما بدليل قوله تعالى إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها وقوله تعالى والذين
كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها وغيرهما من الآيات
الدالة على الخلود والتأبيد وقوله عليه السلام في الخبر المشهور نادى مناد بين الجنة
والنار يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت إلى غير ذلك والظاهر
أن معنى الخلود البقاء المستمر فلا وجه للعدول عنه قال العلامة رحمه الله في شرح العقائد
عند قوله باقيتان لا يفنيان ولا يفنى أهلهما أي دائمتان لا يطرأ عليهما عدم مستمر
لقوله تعالى في حق الفريقين خالدين فيها أبدا وأما ما قيل من أنهما يهلكان ولو
لحظة لقوله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه فلا ينافي البقاء بهذا المعنى على أنك
قد عرفت أنه لا دلالة في الآية على الفناء. وذهبت الجهمية إلى أنهما يفنيان
ويفنى أهلهما وهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع ليس عليه شبهة
فضلا عن حجة انتهى فتأمل والجهمية هم أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية
وهم قائلون بأنا إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار واستوفى كل منهما بقدر
أعمالهم من التنعم والعقاب يفني الله الجنة والنار وأهلهما، احتجوا بقوله تعالى هو
الأول والآخر وبأن للقوة الجسمانية عدة ومدة فلا بد من فنائهما وبأن الإحراق
يفني الرطوبة والبينة وهما شرط الحياة فبقاء الحياة معه خروج عن العقل والجواب
عن الأول بأنا نمنع تناهي قوة الحياة الجسمانية بعد إخباره تعالى بخلودهما بالنصوص
القطعية ومن قدر على إنشائها وتصويرها من العدم وعلى جمعها وإحيائها ثانيا
قادر على حفظها دائما أبدا وعن الثاني بأن الحياة يخلقها الله تعالى بلا اشتراط الرطوبة
كما في السمندر فإنه حيوان مأواه النار لا يتأذى بها ومعلوم أنه لا رطوبة فيه ولو
سلم فجسمانية الجهنمي تفنى وتجده كما قال تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم
جلودا غيرها ليذوق العذاب فيكون المنع العدم المستمر كما قدمنا الإعراب
الواو هنا يصح أن تكون عاطفة ويصح أن تكون حالية كما لا يخفى ولا نافية ويفنى
مضارع يصح أن تكون بالياء أو بالتاء والجحيم فاعله والجنان عطف عليه ولو قدمنا
الجنان لكان أحسن مع استقامة الوزن وقوله ولا أهلوهما يصح أن تكون لا بمعنى
ليس وأهلوهما اسمها وأهل بالنصب خبرها مضاف إلى انتقال تنبيه ليس لأحد
أن يشهد على نفسه أنه من أهل النار لأنه يصير قانطا قاطعا رجائه من رحمة الله تعالى فيكون مكذبا
40

كلامه ولا لغيره من الأحياء كذلك لأنه لا يعرف عواقب الأمور ولا أنه من أهل الجنة
ولو فعل جميع الصالحات إذ لا يعلم أنه يخرج من الدنيا بالإيمان أو لا بل يكون بين
الخوف والرجاء ويجوز أن يقول إن المؤمن في الجنة بلا شك لأن من جملتهم الأنبياء
عليهم السلام والشهداء والصالحين ويقول إن الكافر في النار وإن أشار إلى أحد بعينه فإن
كان المشار إليه نبيا أو رسولا أو من شهد له الكتاب أو السنة الجنة أو بالنار جاء
القطع بلا شك وإلا فلا والله أعلم. قال الناظم رحمه الله
20 يراه المؤمنون بغير كيف * وإدراك وضرب من مثال
الضمير البارز في يراه لغير مذكور لكنه معلوم ذهنا بقرينة المقال أو المذكور إجمالا
في قوله ونعمى إذا أراد بها رؤيته تعالى على ما قدمنا والكيف: ما هو من صفات الأجسام
وتوابع المزاج والتركيب والحرارة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك سمي كيفا لأنه يسئل
عنه بكيف هو فيقال أحمر أو أصفر وغير ذلك كما علم في المقولات العشرة وإدراك
الشئ العلم بحقيقته على ما هو عليه وضرب المثال أراد به نوعا من المثل أي التشبيه يعني
أنه اتفق أهل السنة والجماعة على أن لقاء الله تعالى ورؤيته لأهل الجنة في دار الآخرة
حق ثابت بدليل قطعي والعقل أيضا يجوز ذلك فهو ممكن سمعا وعقلا خلافا لمن
أنكر ذلك ممن أضله الله فيجب اعتقاد أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة قبل
دخولهم الجنة وبعده بعين الرأس بالشبه ولا كيف ولا إدراك حقيقة ونهاية
وإحاطة ومماسة ولا في مكان أو على مكان بل كما عرفوه في الدنيا عقلا وقوله تعالى
لا تدركه الأبصار إنما ينفي الإدراك ولا ينفي نفس الرؤية ولا يلزم من نفيه نفيها
ثم إن استدلال أهل الحق على إمكان الرؤية بوجهين عقلي وسمعي ردا على من أنكر
وقوع الرؤية لكن أطبق المحققون على أن إثبات صحة الرؤية بالأدلة العقلية
لا يخلو من شوب والمعتمد في ذلك هو السمع وهو مختار الشيخ الإمام أبي منصور
الماتريدي ولذا اقتصر كثير من المحققين في الاستدلال على الأدلة السمعية التي
أقواها قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فهي صريحة في رؤية المؤمنين
ربهم يوم القيامة ومن الأحاديث الشاهدة على ذلك قوله عليه السلام إنكم سترون
ربكم كما ترون القمر ليلة البدر يوم القيامة وهو حديث مشهور رواه أحد وعشرون
من أكابر الصحابة رضي الله عنهم وزيد في رواية لا تضامون في رؤيته أي لا تشكون
41

وفي رواية لا تضارون كما في شرح الحنفي وفي شرح ابن الفرس ما ثبت في الصحيح
من قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم كما ترون هذا يعني القمر ليلة البدر لا تضامون في
رؤيته أي لا يحصل لكم في رؤية ربكم أي ظلمة ضيم ولا ضرر يمنعكم من ذلك انتهى فعلي
هذا تكون الرواية الأولى بالمعني أو هي رواية أخرى ولأن موسى عليه السلام قد سأل
ربه الرؤية بقوله رب أرني أنظر إليك فلو لم تكن ممكنة لكان طلبها جهلا بما يجوز
في ذات الله تعالى وما لا يجوز وطلبا للمحال أو سفها أو عبثا بعد أن عرفه حق المعرفة
والأنبياء عليهم السلام منزهون عن ذلك ولأنه علق الرؤية باستقرار الجبل أو استقراره
أمر ممكن في نفسه والمعلق بالممكن ممكن لأن معناه الإخبار بثبوت المعلق عند
ثبوت المعلق عليه والمحال لا يثبت على شئ من التقادير الممكنة قال العلامة رحمه الله في
شرح العقائد وقد اعترض هذه بوجوه أقواها أن سؤال موسى عليه السلام كان لأجل
قومه حيث قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فسأل ليعلموا امتناعها كما علمه هو
وبانا لا نسلم أن المعلق عليه ممكن بل هو استقرار الجبل حال الحركة وهو محال وأجيب
عنه بأن كلا من ذلك خلاف الظاهر ولا ضرورة في ارتكابه على أن القوم إن كانوا
مؤمنين كفاهم قول موسى عليه السلام إن الرؤية ممتنعة وإن كانوا كفارا لم يصدقوه في
حكم الله تعالى بالامتناع وأيا ما كان يكون السؤال عبثا والاستقرار حال الحركة أيضا
ممكن بأن يقع السكون بدل الحركة إنما المحال اجتماع الحركة والسكون معا آه وحاصله
أنه أجمع أهل الحق على وقوع الرؤية في الآخرة وأن الآيات والأحاديث الواردة
محمولة على ظواهرها ثم ظهرت مقالة المخالفين وشاعت شبههم الفاسدة
وتأويلاتهم الباطلة كقولهم إن الرؤية مشروطة بكون المرئي في مكان وجهة
ومقابلة من الرائي وبثبوت مسافة واتصال شعاع وكل ذلك محال في حقه تعالى
وأجيب مع ما تقدم بمنع هذا الاشتراط فإنه تعالى يرى لا في مكان ولا تدرك ذاته
فإنه تعالى يتجلى لأهل الجنة ويريهم ذاته في حجاب صفاته لأنهم لا يطيقون رؤية ذاته
بلا حجاب وقياس الغائب على الشاهد فاسد قال الإمام في الإحياء رحمه الله إن الرؤية
نوع كشف وعلم إلا أنها أوضح وأتم من العلم فإذا جاز تعلق العلم به ليس في جهة
جاز تعلق الرؤية من غير جهة وكما جاز أن يعلم بغير كيفية وصورة جاز أن يرى
كذلك وما ذكروا من الشروط إنما هي في رؤية الموجودات المحسوسة وقياس
الغائب عن الحس وهو الله تعالى على الشاهد في الحس فاسد ودليلهم من السمعيات
42

لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار والجواب أولا بأن أل في الأبصار للجنس
فيصدق بالبعض ولو سلم كون الأبصار للاستغراق وإفادة عموم السلب لا سلب
العموم وكون الإدراك هو الرؤية مطلقا على وجه الإحاطة بجوانب المرئي أنه لا دلالة
فيه على عموم الأوقات والأحوال فيجوز أن يكون المنفي الرؤية في الدنيا لا في الآخرة وهو
المطلوب وقد يستدل على جواز الرؤية إذ لو امتنعت مطلقا لما حصل التمدح بنفيها كالمعدوم
لا يمدح بعدم رؤيته لامتناعها وإنما التمدح أن يمكن رؤيته ولا يرى للتمنع والتعزز بحجاب
الكبرياء وإن جعلنا الإدراك عبارة عن الرؤية على وجه الإحاطة بالجوانب والحدود
فدلالة الآية على جواز الرؤية بل تحققها أظهر لأن المعنى أن الله تعالى مع كونه مرئيا لا
يدرك بالأبصار لتعاليه على التناهي والاتصاف بالحدود والجوانب ومن أدلتهم أن
الآية الواردة في سؤال الرؤية مقرونة بالاستنكار والاستعظام والجواب إن ذلك
لتعنتهم وعنادهم في طلبها لا لامتناعها وإلا لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك كما فعل حين
سألوه أن يجعل لهم آلهة فقال بل أنتم قوم تجهلون فهذا مشعر بإمكان الرؤية في
الدنيا أيضا وبهذا اختلفت الصحابة رضي الله عنهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج
والاختلاف في الوقع دليل الإمكان كما سيأتي الإعراب يراه مضارع من الرؤية البصرية
والضمير البارز في محل نصب مفعوله عائد إلى الله والمؤمنون فاعل يرى وبغير كيف
متعلق بيرى ومحله نصب على الحال اللازمة من مفعول يرى أو صفة للرؤية المقدرة
المفهومة من يرى والتقدير يرى المؤمنون ربهم حال كونه مغايرا للكيفيات وإدراك عطف
على كيف وكذا ضرب والمراد به النوع أو ضرب المثل والمثال الصورة ومن زائدة أي بغير
تشبيه وتصوير تتمة رؤية الله تعالى في الدنيا هل هي جائزة عقلا يقظة ومناما تردد
فيه الأئمة فمنهم من قال بالجواز ومنهم من قال بالمنع ومنهم من توقف ثم الراجح إن نبينا
صلى الله عليه وسلم رأى به بعين رأسه ليلة المعراج مرة أو مرتين على الخلاف بدليل قوله تعالى ثم رآه
نزلة أخرى عند سدرة المنتهى وأما غيره فقد قال في الشيبانية و
ومن قال في الدنيا يراه بعينه فذلك زنديق طغى وتمردا
وأما في المنام فذهب طائفة إلى أن رؤيته في المنام مستحيلة لأنه لا يرى في المنام إلا خيال
ومثال وصورة وكلها على الله محال وجوز ذلك جماعة من غير كيفية وجهة ومقابلة ونقل
ذلك عن كثير من السلف أنه رأى ربه في المنام منهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه
وحكي ذلك عن أبي حنيفة رضي الله عنه وعن أبي يزيد أنه قال رأيت ربي في المنام فقلت له كيف
43

الطريق إليك فقال اترك نفسك ورآى ابن الحمزة القارئ أنه قرأ القرآن على الله
تعالى من أوله إلى آخره في المنام حتى بلغ قوله تعالى وهو القاهر فوق عباده فقال
تعالى قل يا حمزة وأنت القاهر قيل هذا إنما يدل على أنه كليم الله لا على رؤيته
ولا خفاء أن الرؤية في المنام نوع مشاهدة تكون بالقلب دون العين وهل
رؤيته تعالى في الآخرة خاصة بالبشر فقيل نعم وإن الملائكة والجن لا يرون لأن
الوجوه الموصوفة بالنضارة في الآية إنما هي وجوه البشر وقيل يراه الملائكة أيضا
وهو الأرجح وعليه الجمهور وقيل وكذا مؤمنوا الجن على ما نقله على قاري
في شرحه ثم قال وفي النساء أقوال أحدها إنهن لا يرينه لأنهن مقصورات
في الخيام ولا يخفى ضعفه الثاني إنهن يرينه أخذا من عمومات النصوص وهو
الظاهر وتمامه فيه وأما الكفار فإنهم عن رؤيته تعالى محجوبون بلا خلاف وقيل
إنهم يرونه مرة ثم يحجبون ليكون ذلك أشد حسرة عليهم كم أنكر الرؤية من
المعتزلة والله تعالى أعلم قال الناظم رحمه الله
21 فينسون النعيم إذا رأوه * فيا خسران أهل الاعتزال
يعني أن المؤمنين إذا رأوا ربهم في الجنة ينسون نعيمها وقصورها وما أعد لهم
فيها من الخيرات مما لأعين رأت ولا أذن سمعت إذ كل ذلك في جنب لقاء الرب
الكريم كخردلة بالنسبة إلى الكنز العظيم وقد روي الإمام هشام عن الحسن
أنه قال إن الله عز وجل ليتجلى لأهل الجنة فإذا رأوه نسو نعيم الجنة وما أعد لهم
فيها وأشار بقوله فيا خسران ا ه‍ إلى أن المعتزلة في تلك الحالة يكونون خاسرين
متحسرين لاحتجابهم عن رؤيته تعالى ومنعهم عن تلك النعمة العظيمة لأنهم أنكروا
الرؤية فحرموها علما بزعمهم ومجازاة لهم قال علي قاري رحمه الله وفي البيت إشارة
إلى حرمان المعتزلة عن الرؤية وإن دخلوا الجنة وذلك بإنكارهم جزاء وفاقا
لإصرارهم وللحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي انتهى قال شيخنا فأفاد أن
المعتزلة يدخلون الجنة ولايحرمونها لأن الاعتزال كبيرة والكبيرة لا توجب
الخلود في النار انتهى وفيه نظر لأن المص رحمه الله إن أراد بأهل الاعتزال
هؤلاء الذين لا يكفرون ببدعتهم فيكونون منابذا لإطلاقهم في البيت المتقدم في
قوله يراه المؤمنون لأن هؤلاء مؤمنون عاصون فكان الواجب التنصيص على
44

التخصيص وبيان الدليل وإن أراد بهم مطلق المعتزلة أو الذين يكفرون ببدعتهم
فيصح إطلاقه المتقدم ويبطل ما قاله الشيخان المذكوران ويكون المراد حقيقة
الخسران في قوله فيا خسران أهل الاعتزال قال شارح قال الجوهري خسرت الشئ
بالفتح وأخسرته: نقصته والخسار والخسارة والخسرى: الضلالة والهلاك يقال
الهالك خاسر لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزلته من الجنة إذا علم
ذلك فإن كان الناظم من القائلين بكفرهم انخرط كلامه في سلك هذا المعنى الذي
ذكر للخسران وإن لم يره وهو الراجح فمراده أصل معنى الخسران لإتمامه فتأمل
وروي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها إن الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا إنما هم أصحاب البدع والأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة
يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء
فليس لهم توبة وأنا برئ منهم وهم برءاء منا وفي الحديث وإياكم ومحدثات
الأمور فإن كل بدعة ضلالة رواه أبو داود والترمذي وجاء هذا الحديث في
بعض الروايات فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
وقال بعض المفسرين، المغضوب عليهم: هم أهل البدعة وعن عطاء الخراساني
لما نزل قوله تعال ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
صرخ إبليس صرخة عظيمة اجتمع عليه جنوده من أقطار الأرض قائلين ما هذه
الصرخة التي أفزعتنا قال أمر أنزل بي لم ينزل قط أعظم منه قالوا وما هو فتلا
عليهم الآية وقال هل عندكم من حيلة قالوا ما عندنا حيلة فقال اطلبوا وإني سأطلب
قال فلبثوا ما شاء الله ثم صرح صرخة أخرى أعظم من الأولى فاجتمعوا عليه
وقالوا ما هذه الصرخة التي أعظم من الأولى قال هل وجدتم شيئا قالوا لا قال
لكني وجدت قالوا وما وجدت قال أزين لهم البدع حتى يتخذوها دينا ثم لا يتوبون
ولا يستغفرونه فأبلغ المقصود وجاء في الحديث أبي الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع
بدعته وأخرج أبو نعيم: أهل البدعة شر الخلق والخليقة وهما مترادفان وقيل
المراد بالأول البهائم وبالثاني غيرهم وأخرج غيره أصحاب البدع كلاب النار
قال بعض المحققين واعلم أن أهل البدعة سبعة: المعتزلة القائلون بأن العباد
خالقوا أفعالهم وهم الذين ينفون الرؤية ويقولون بوجوب الثواب والعقاب
وهم عشرون فرقة الثانية الشيعة المفرطون في محبة علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه
45

وهم اثنان وعشرون فرقة الثالثة الخوارج المفرطة المكفرة المؤمن أذنب ذنبا
كبيرا وهم عشرون فرقة الرابعة المرجئة القائلون بأنا لا يضر مع الإيمان
معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وهم خمس فرق الخامسة النجارية الموافقة
لأهل السنة في خلق الأفعال وللمعتزلة في نفي الصفات وحدوث الكلام وهم
ثلث فرق السادسة الجبرية القائلون بسلب الاختيار عن العباد وهم فرقة
السابعة المشبهة الذين يشبهون الخالق بالخلق وهم فرقة أيضا فتلك اثنان وسبعون
فرقة كلهم في النار والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة كما ورد ستفترق أمتي
من بعدي على بضع وسبعين فرقة كلهم في النار إلا فرقة واحدة وهي من كان
على ما أنا عليه وأصحابي وقدمناه فإن قلت فكيف التوفيق بين هذا وبين قوله
عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة قلت المراد بالأول أمة الدعوة وبالثاني أمة المتابعة
فافهم الإعراب فينسون عطف على يراه المؤمنون وفاعل ينسون ضمير مستتر
يرجع إلى المؤمنين والنعيم مفعوله والمراد به الجنة وما أعد لهم فيها كما مرا أو نفس
التنعم بذلك وإذا وقتية وقوله فيا خسران منادى منصوب مضاف إلى أهل وهو
نداء عليهم بالخسران أو منصوب بفعل مقدر والمنادى محذوف أي يا قوم احذروا
خسران أهل الاعتزال وحرمانهم من النعمة الكبرى بما أسلفوه قال شيخنا تبعا لغيره
وقول الشارح المقدسي أنه متبدأ سوغ الابتداء به وصفه تقديرا أي يا خسران عظيم
غير مستقيم وفيه نظر إذ لا مانع من ذلك فقد جوزوا الابتداء بالنكرة الموصوفة
تقديرا كما قالوا شرا أهر ذا ناب ذكره العلامة رحمه الله في المختصر ردا لمذهب السكاكي فعلم
به أنه يجوز في خسران الرفع على جعل المنادى محذوفا أي يا قوم خسران عظيم
كائن لأهل الاعتزال لأن الخسران من قبيل المشكك يطلق على فوات بعض الشئ
وعلى فوات كله كما قدمنا والله أعلم وأحكم قال الناظم رحمه الله
22 وما أن فعل أصلح ذو افتراض على الهادي المقدس ذي التعالي
يعني أن فعل الصلاح أو الأصلح للعبد ليس واجبا على الله تعالى لأنه تعالى مالك والمالك
يتصرف في مملوكه كيف يشاء فإن فعل به الأصلح له كان إحسانا منه وفضلا وإن
فعل به ما هو شر له كان حكمة منه وعدلا لأن وجوب فعل الأصلح عليه تعالى يوجب
إبطال منته وتفضله واستحقاق شكره في الهداية وإفاضة أنواع الخير إذ من
46

أدى حقا واجبا عليه لا يكون له فيه منة وهو باطل لقوله تعالى لقد من الله على
المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا الآية وقوله تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم
للإيمان وفيه رد على معتزلة بغداد القائلين بوجوب الأصلح عليه تعالى
بمعنى الأرفق للعبد في الدارين في الحكمة والتدبير وعلي معتزلة البصرة القائلين
بأن الواجب عليه ما هو الأنفع في الدارين واتفق الفريقان على وجوب الأقدار
والتمكن وفساد أصولهم في ذلك أشهر من أن يذكر لما يلزم عليها من الفساد الناشئ
عما ارتكبوه من العناد إذ لو كان كما زعموا لما خلق الله الكافر الفقير في الدنيا المعذب
في الآخرة ولما كان امتنانه تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم فوق امتنانه على أبي جهل لعنه الله
إذ فعله تعالى لكل منهما غاية مقدوره من الأصلح له ولما كان لسؤال العصمة
والتوفيق وكشف الضر والبسط في الخصب والرخاء معنى لأن ما لم يفعله في حق
كل أحد فهو مفسدة له يجب على الله تعالى تركها ولما بقي في قدرته تعالى بالنسبة إلى
مصالح العباد شئ إذ قد أتى بالواجب وكل ذلك ظاهر البطلان ومولانا القادر
على كل شئ منزه عنه ولذا ترك الأشعري مذهب أستاده أبي علي الجبائي حين قال
له ما تقول في ثلاثة أخوة مات أحدهم مطيعا والثاني عاصيا والثالث لا يثاب ولا يعاقب
قال الأشعري فإن قال الثالث يا رب لم أمتني صغيرا وما أبقيتني إلى أن أكبر فأؤمن
بك وأطيعك فأدخل الجنة فقال يقول الرب كنت أعلم أنك لو كبرت لعصيت
فدخلت النار فكان الأصلح أن تموت صغيرا فقال الأشعري فإن قال الثاني
يا رب لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصيك فلا أدخل النار ماذا يقول الرب فبهت
الجبائي فترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تابعه بإبطال رأي المعتزلة
وإثبات ما ورد به الكتاب والسنة ومضى عليه الجماعة فسموا أهل السنة والجماعة
تنبيه نقل بعض محشي العقائد أن المشهور من أهل السنة في ديار
خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار: الأشاعرة أصحاب أبي الحسن علي بن
إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن أبي عبد الله أبي بردة بن أبي
موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من خالف أبي علي الجبائي
ورجع عن مذهبه كما تقدم وفي ديرا ما وراء النهر: الماتريدية أصحاب أبي
منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجرجاني صاحب أبي
47

سليمان الخوزجاني تلميذ محمد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام الأعظم
أبي حنيفة رضي الله عنه وما تريد قرية من قرى سمرقند وأراد المص رحمه الله بالافتراض
في البيت مطلق اللزوم الشامل للواجب ولما فعله أولى أي ليس ذلك متعينا
على الله تعالى بوجه من الوجوه والهادي من أسمائه تعالى أي خالق الاهتداء
والمشهور عند المعتزلة الهداية هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب وعندنا الدلالة
على طريق يوصل إلى المطلوب حصل الوصول والاهتداء أو لم يحصل كذا قاله العلامة
رحمه الله في شرح العقائد وأورد أن كلا من القولين منقوض أما الأول فمنقوض
بقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدي وأما الثاني فمنقوض
بقوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت واحتمال التجوز مشترك ولا يندفع بقول من
قال إنها تطلق تارة ويراد بها خلق الاهتداء كقوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت
وتارة يراد بها مجرد البيان كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم * وإنك لتهدي إلى
صراط مستقيم فتدبر قال في شرح أسماء الحسنى والهادي من أسمائه تعالى الحسنى
ومعناه الدال عباده قاطبة إلى الإيمان والتوحيد بإرسال الرسل وإنزال الكتب
ونصب الآيات في الآفاق والأنفس كما قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
حتى يتبين أنه الحق والمؤمنين خاصة إلى الأعمال الصالحة والملكات الفاضلة
والأحوال السنية بلطف توفيقه وحسن إرشاده وتعليمه للاستهداء بقوله اهدنا
الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم والسالكين خاصة إلى التحقيق بحقائق
الأسماء والصفات والتمكن في مقامات التجليات والتوصل إلى حضرة الحضرات
بجذبات عنايته ولمعات هدايته كما قال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
والمتخلق باسم الهادي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أصالة وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام كل
منهم في نوبته ثم ورثة الأنبياء الداعون للخلق إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة
الحسنة كما أمر الله تعالى نبيه أصالة وورثته تبعا بقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن أي خاصمهم وناظرهم بوجه حسن
والرفع شبههم وشكوكهم بوجه لا يؤدي إلى العتو والعناد انتهى والمقدس
مأخوذ من القدس بضم الدال وسكونها وهو الطهارة أو الإبعاد عن الأكدار يقال
قدس في الأرض إذا ذهب فيها وبعد ولا تنافي بين المعنيين إذ الطهارة ترجع
إلى البعد لأنها التنزه عن الأقذار حسية أو معنوية ومنة أدخلوا الأرض المقدسة أي
48

المطهرة ومنه القدوس من أسمائه تعالى الحسنى ومعناه المطهر أي المنزه عما عدا
خصائص الوجوب الذاتي والألوهية وعن التصور بالصور الحسية والخيالية
والعقلية وسائر الأحكام الامكانية والطبعية في مرتبة الأحدية لا يحوم حول
حمى حقيقته إدراك غيره وأما في مرتبة الواحدية فطاهر عن أن يشاركه في وجوب
الوجود أو في الوجود غيره وعن أن يوجد شئ خارج عن حيطته فهو طاهر من أن
يقدسه المقدسون بحق تقديسه كما أنه متعال عن أن يعرف حقيقة ذاته العارفون
والمتخلق بهذا الاسم المتطهر من أرجاس الذنوب والآثام واختيار المص هذين
الاسمين من قبيل مراعاة النظير باعتبار المقام كما لا يخفي على ذوي الأفهام
العراب ما نافية وإن زائدة وفعل بالرفع اسم ما أو مبتدأ ولك فيه وجهان
التنوين مع نقل حركة همزة أصلح إليه للضرورة وأصلح بالرفع صفة له أو بغير تنوين مضاف
إلى أصلح من إضافة المصدر إلى مفعوله وأصلح مجرور بالفتح لعدم صرفه وذا بالنصب
خبر ما على أنها عاملة أو بالرفع على أنه خبر فعل أصلح وعلى كل من الوجهين فهو
بمعنى صاحب مضاف إلى افتراض وعلى الهادي متعلق بافتراض والمقدس
صفة للهادي وكذا ذي التعالي (وحاصل معنى البيت) إنه يجب على الموحد أن يعتقد
أن فعل ما هو الأصلح للعبد ليس بواجب على الله تعالى الذي بيده أمر الضلالة والهداية
بل هو فعال لما يريد يضل من يشاء ويهدي من يشاء إذ الكل عبيده فيتصرف فيهم كيف
يشاء والهداية منه فضل والضلالة منه عدل وتقدس أن ينسب إليه وجب عليه
ثم لما انتهى الكلام على ما يتعلق بالإلهيات شرع يتكلم على النبوات وما يتبعها فقال الناظم رحمه الله
23 وفرض لازم تصديق رسل * وأملاك كرام بالنوال
المراد بالفرض ههنا الفرض العيني على كل مكلف ولذا أكده بقوله لازم والمراد أنه
قطعي لا ظني وتصديق الرسل عليهم السلام اعتقاد أن جميع ما جاؤوا به حق من
عند الله وأنهم بلغوا كما أمروا والرسل جمع رسول وهو من البشر إنسان حر ذكر
أكمل معاصريه غير الأنبياء عقلا وفطنة وقوة ورأيا وخلقا بالفتح وعقدة موسى
عليه السلام أزيلت بدعوته عن الإرسال كما في الآية معصوم ولو من صغيرة قصدا ولو
قبل النبوة على الأصح سليم من دناءة أب وخناء أم وإن عليا ومن منفر كبرص
وجذام ولا يرد بلاء أيوب وعما يعقوب عليهما السلام بناء على أنه حقيقي لطروه بعد
49

الأنباء والكلام فيما قارنه والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته ومن
قلة مروءة كأكل في طريق ومن دنائة صنعة كحجامة أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه
وإن لم يكن له كتاب ولا نسخ كيوشع فإن لم يؤمر بتبليغ فنبي فقط فبينهما عموم
وخصوص مطلق وهو أفضل من النبي إجماعا لتميزه بالرسالة التي هي على الأصح
أفضل من النبوة خلافا لبعضهم ووجه تفضيل الرسالة على النبوة كما قال المحققون
إن الرسالة تثمر هداية الأمة والنبوة قاصرة على النبي فنسبتها إلى النبوة كنسبة العالم المقرر المحدد إلى العالم صح فقط والخلاف فيهما مع اتحاد
محلهما وقيامهما معا بشخص واحدا ما مع تعدد المحل فلا خلاف في أفضلية
الرسالة على النبوة فقط ضرورة ضم الرسالة إليها وأراد المص بالرسول ما يعم النبي
على القول بأنهما مترادفان لكنه مخالف لما عليه الجمهور كما قدمنا والأملاك جمع
ملك كسفر وأسفار أو جمع مألك بهمزة قبل اللام من الالوكة وهي الرسالة ثم أخرت
الهمزة عن اللام وحذفت تخفيفا لكثرة الاستعمال ويجمع لي ملائك برد الهمزة
ويلحقه زيادة التاء فيقال ملائكة وبه ورد القرآن الكريم وهم باتفاق العقلاء
ذوات موجودة فأئمة بأنفسها واختلف في حقيقتهم فذهب جمهور المسلمين إلى
أنهم أجسام لطيفة نورانية تظهر في صور مختلفة وتقوى على أفعال شاقة لا يوصفون
بأنوثة ولا بذكورة وهم قسمات قسم شانهم الاستغراق في معرفة الخلاق كما
وصفهم الله قوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون والقسم الثاني شانهم تدبير
الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي لا يعصون
الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم المدبرات أمرا وهؤلاء منهم سماوية ومهم أرضية
على تفصيل ذكره في الطوالع وقد جاء في صفتهم من الأحاديث ما يدل على عظمهم روي
أنه عليه السلام قال أتاني ملك لم ينزل في الأرض قبلها قط برسالة من ربي فوضع
رجله فوق سماء الدنيا ورجله الأخرى ثابتة في الأرض لم ير قبلها وورد أن
لله ملكا يملأ ثلث الكون وملكا يملأ ثلثيه وملكا يملأ الكون وقد ورد في عظمهم
ما هو فوق ذلك فإن قيل إذا ملأ أحدهم الكون أين يكون الآخر أجيب بأنهم
أنوار والأنوار لا تتزاحم ألا ترى أنه لو وضع سراج في بيت ملأه نورا فلو أتيت
بعده بألف سراج وسع البيت أنوارها كلها ذكره ابن عطاء عن شيخه المرسي
وأخرج الترمذي وابن ماجة والبزار من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا أطت
السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد الحديث
50

وأخرج الطبراني من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعا ما في السماوات موضع قدم ولا
شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع وللطبراني أيضا نحوه من حديث عائشة
رضي الله عنها وذكر في ربيع الأبرار عن سعيد بن المسيب قال الملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثا
ولا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون ولا يتوالدون وأما ما وقع من قصة
الأكل من الشجرة أنها شجرة الخلد يأكل منها الملائكة فليس بثابت وفي هذا وما ورد من
القرآن رد على من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة والأشبه ما قال الحليمي إنهم لا
يكتب لهم عمل إذ الملك هو الذي يكتب فيحتاج كل ملك إلى آخر فيتسلسل ولا يحاسبون
أيضا إذ لا سيئات لهم وسيأتي تفصيله وأما الإثابة فقيل يثابون برفع التكليف
عنهم ويحتمل أن يكون لهم وراء رفع التكليف نعمة أعدها لهم ولا تبلغها عقولنا
فإن الله تعالى يقول أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر وذكر القرطبي في تفسير سورة القدر أن الروح طائفة من الملائكة
جعلوا حفظة على غيرهم وقول المص رحمة الله كرام أي أعزاء على ربهم أو عن المعاصي
فهو صفة للملائكة كما قيل ولا ينافي كون الرسل عليهم السلام مكرمين أيضا بل
أكرم والأظهر أن يكون صفة لكل منهما وقوله بالنوال بالنون متعلق بالكرام
الإعراب الواو عاطفة الجملة على الجملة التي قبلها وفرض لازم يصح أن يكون
مبتدأ لوجود المسوغ وتصديق رسل خبره ويصح عكسه وهو الأنسب للمحل والأملاك
بالجر عطف على رسل وكرام نعمت لهما أو للثاني ونعت الأول مقدر أي تصديق رسل
كرام وتصديق أملاك كرام فيكون من قبيل الاحتباك والنوال متعلق بكرام أي مكرمين
بإنعام الله تعالى عليهم بتلك المراتب (وحاصل معنى البيت) أنه يجب على الملك تصديق
كل رسل فيما جاء به من عند الله ربه جل وعلا تصديقا بالغا حد الجزم والقطع
بالقلب واللسان إذ تصديق البعض دون البعض تكذيب للجميع وهو كفر وقد
قال تعالى في مقام الذم والتوبيخ على من أنكر البعض ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض
لكن لا يجب العلم بهم تفصيلا وإن ورد في مسند أحمد أن عدة الأنبياء عليهم السلام
مئة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر بل نؤمن بهم كم
كانوا لكن يجب العلم ببعضهم تفصيلا كآدم ومحمد عليهما السلام فإن الله تعالى أرسلهم
إلى الخلق لهدايتهم إلى طريق الحق وتكميل معايشهم ومعادهم فضلا منه لا وجوبا عليه تعالى
51

وأنهم صادقون في جميع ما أخبروا عن الله تعالى وبلغوا عنه كما أمروا وبينوا للملكلفين ما
أمروا ببيانه وأنه يجب احترامهم وتعظيمهم وأن لا نفرق بين أحد منهم وأن
إرسالهم رحمة من الله وفضلا وحكمة وعدلا فإنه تعالى لما خلق الجنة للمؤمنين
والنار للكافرين وأعد فيهما من الثواب والعقاب و تفاصيل أحوالهما وطريق الوصول
إلى الأول والاحتراز عن الثاني لا يستقل به العقل وكذا خلق الأجسام النافعة
والضارة ولم يجعل للعقول والحواس الاستقلال بمعرفتها وكذا جعل القضايا
منها ما هي ممكنات لا طريق للجزم بأحد جانبيه ومنها ما هي واجبات أو ممتنعات
لا تظهر للعقل إلا بنظر دائم وبحث كامل بحيث لو اشتغل الإنسان لتعاطى
أكثر مصالحه فكان من فضل الله تعالى ورحمته إرسال الرسل لبيان ذلك كما قال الله
تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فيكونون وسائط بين الحق والخلق قال
شارح وقال السمنية والبراهمة إرسال الرسل محال لأنه لو أتى بما يقتضي العقل ففي
العقل غنية عنه ولو آتي بخلاف مقتضى العقل فالعقل يرده ويحيله قلنا إن الرسل
يأتي بما يقصر العقل عن دركه إذ قضايا العقل ثلاثة أقسام واجب وممتنع وجائز والعقل
يحكم بالواجب والممتنع ولكن يتوقف في الجائز فلا يحكم فيه بشئ إلا بعد أن
يقف على أن ذلك مما يتعلق به عاقبة حميدة أو ذميمة وذلك لا يصح إلا ببيان
الرسول لأنه الواقف من الله تعالى على عواقب الأمور فلا نسلم حينئذ أن في العقل غنية
عن إتيان الرسول ويجوز أن يكون تيسيرا للأمر للعاقل لئلا تتعطل أكثر مصالحه بملازمة
التفكر والبحث الكامل في إدراك المقصود فيكون التنبه منه على ذلك بواسطة
الرسول تنبيه قدم المص رحمه الله الرسل على الملائكة إشارة إلى القول الأصح
من أنهم أفضل من الملائكة مطلقا وقد ذكروا في الأفضلية طرقا الأولى طريقة
ابن الحاجب وجماعة من الأشاعرة وأهل الحديث والتصوف أنهم أفضل من
الملائكة العلوية والسفلية وعلى هذا جمهور أهل السنة لقوله تعالى إن الله اصطفى
آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين والملائكة من جملة العالمين وإن الملائكة
ولو غير العلوية أفضل من غير الأنبياء من البشر ولو كان وليا كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
ويقابله قول بعض من أهل السنة كالباقلاني والحليمي بأفضلية الملائكة العلوية
والسفلية على الأنبياء أي ما عدا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضل من الملائكة إجماعا
52

والمراد إجماع من يعتد بإجماعهم وما وقع في الكشاف في تفسير قوله تعالى إنه لقول
رسول كريم الآية من أفضلية جبرائيل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو فرية اعتزالية
الثانية طريقة الأوحدي والبيضاوي في قصر الخلاف على الملائكة العلوية
وأما السفلية فلا خلاف في أن الأنبياء أفضل منهم لقوله تعالى يسبحون بحمد ربهم
ويستغفرون لمن في الأرض وقوله تعالى ويستغفرون للذين آمنوا الثالثة طريقة
الإمام الماتريدي وهي الراجحة عندنا إن خواص البشر وهم الأنبياء أفضل
من خواص الملائكة كجبرائيل وميكائيل وخواص الملائكة أفضل من عامة
البشر والمراد بهم الصلحاء كالإمام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعامة البشر أفضل من
عامة الملائكة وهم غير المرسل منهم كحملة العرش والكروبيين وأفضل الملائكة
جبرائيل عليه السلام كما جزم به المحققون وقال بعضهم إسرافيل عليه السلام وسيأتي
تمامه إن شاء الله تعالى قال الناظم رحمه الله
34 وختم الرسل بالصدر المعلى * نبي هاشمي ذي جمال
الختم مصدر ختمت الشئ ختما أي طبعت على آخره ثم استعمل في إتمام كل شئ وخاتم
كل شئ آخره وخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم وأراد المص هنا أن الله تعالى ختم الرسل
بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا نبي بعده كما نطق به الكتاب والسنة ولا يعارضه نزول عيسى
عليه السلام لأنه يكون خليفة في الحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون على دينه كما سيأتي
والصدر في الأصل هو العضو المعروف في الإنسان استعير له صلى الله عليه وسلم إذ صدر كل شئ
أشرفه قيل خص به لقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك وفيه إشارة إلى أنه أول الرسل
وجودا كما أنه آخرهم شهودا على ما ورد أول ما خلق الله نوري أو روحي وكنت
نبيا وآدم بين الماء والطين والمعلى اسم مفعول أي الذي علاه الله ورفع مقامه على
سائر المخلوقين حسا ومعنى والهاشمي نسبة إلى جده هاشم سمي بذلك لأنه
أول من هشم = هشم الثريد لقومه أي كسر الخبز وفته وبله بالمرق فجعله ثريدا = منجد. الثريد لقريش بمكة وقيل غير ذلك وكان اسمه عمر العلا بن عبد
مناف بن قصي وكان قصي يدعى مجتمعا وفيه يقول الشاعر:
أبوه قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
الإعراب وختم يصح أن يكون بالجر عطفا على رسل أي وتصديق بكون ختم
الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالصدر متعلق بختم ويصح أن يكون بالرفع متبدأ مضافا إلى الرسل
53

وبالصدر خبره والمعلى نعت للصدر وبني بالجر بدل من الصدر أو بالرفع خبر مبتدأ
محذوف وهو فعيل بمعنى مفعول إن كان من النبوة بفتح النون وسكون الباء الموحدة
أي الرفعة لأن النبي رفعت رتبته أو بمعنى فاعل إن كان من النبأ أي الخبر لأنه مخبر
من الله تعالى فأصله الهمزة إلا أنهم تركوها في النبي كما تركوا في الذرية (وحاصل معنى
البيت) إنه يجب على المكلف أن يعتقد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين
وأنه لا نبي بعده لقوله تعالى ولكن رسول الله وخاتم النبيين وقوله عليه السلام لا نبي بعدي
ولا يمكن الاستدلال ههنا بالعقل لتجويزه إرساله تعالى رسلا آخر معهم الكتاب المنزل
من عنده سوى القرآن وإلا لأوهم عجزه تعالى وهو محال فالدليل على ذلك سمعي
لا عقل فافهم تنبيه وجوب الإيمان بنبينا محمد صلى الله على وسلم ووجوب محبته وتعظيمه
واحترامه خصوصا لا ينفي وجوب ذلك علينا لسائر الأنبياء عليهم السلام وإنهم
لصادقون فيما جاؤوا به من عند الله تعالى مبلغون كما أمروا مع اعتقاد أن أفضلهم
وأكرمهم على الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأن شريعته نسخت جميع شرايعهم ولكن لا يجب
تعيين عددهم وإن ورد في بعض الأحاديث كما قدمنا لقوله تعالى منهم من قصصنا
عليك ومنهم من لم نقصص ولأنه لا يؤمن في تعيين عددهم من أن يدخل فيهم
من ليس منهم أو يخرج من هو فيهم بل نؤمن بهم كم كانوا وأن أولهم آدم وآخرهم
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام بعدما قرر
أن خواص البشر أفضل من الملائكة فصار أفضل من الملائكة بدرجتين وأعلى منهم بمرتبتين
لا يعلم قدر تلك المرتبتين وشرف تلك الدرجتين إلا من خاتم النبيين وسيد
المرسلين المفضل على جميع العالمين وإنما كان صلى الله عليه وسلم لجمعية استعداده وكلية فؤاده
لأنه صلى الله عليه وسلم مظهر الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء والصفات والجائز لجملة
الكمالات وحقيقته ليست إلا الروح الإلهي الذي هو أول المبدعات وأصل سائر
الموجودات عليه أفضل الصلوات وأكمل التسليمات قال الناظم رحمه الله
25 إمام الأنبياء بلا اختلاف * وتاج الأصفياء بلا اختلال
الإمام هو المقتدى به إما حسا كإمام الصلاة أو معنى كالعالم والسلطان ونبينا محمد
صلى الله عليه وسلم قد جمع بينهما في الأنبياء عليهم السلام أما الأولى فقوله عليه السلام: ليلة أسري بي
54

جمعت لي النبيون وأذن جبرائيل وأقام وصليت بهم فصلى خلفي الملائكة وأرواح
الأنبياء وخبر أنه صلى بهم ركعتين ببيت المقدس قبل عروجه إلى السماء وأما
الثاني فقوله عليه السلام: ما من نبي آدم فمن صواه إلا تحت لوائي يوم القيامة والاختلاف
ضد الاتفاق وحقيقته في الأحكام وقد يكون رحمة وقد يكون ظلمة والثاني
كاختلاف المعتزلة والأول كما في حديث رواه الأصوليون والفقهاء لا يعرف من
خرجه وإنما نقله ابن الأثير: اختلاف أمتي رحمة والتاج الزينة التي توضع على
الرأس وهي أشرف أنواع الحلي لشرف محلها ولذا شبه به صلى الله عليه وسلم والأصفياء جمع صفي
مأخوذ من الصفوة وهي الخلوص من شوائب الكدورات وصفوة كل شئ أحسنه والمراد
بهم الصافون عن الكدورات النفسية الموصوفون بالحالات القدسية والمقامات
الأنسية أو الذين اصطفاهم الله تعالى أي اختارهم من جميع المخلوقين وفضلهم على
جميع العالمين فهم صفوة البشر إذا البشر أربعة أقسام: كامل مكمل أكمل وهو نبينا
صلى الله عليه وسلم وكامل مكمل وهم بقية الأنبياء عليهم السلام وكامل غير مكمل وهم الأولياء
والصالحون ولا كامل وغير مكمل وهم من عداهم والاختلال افتعال من الخلل بمعنى
أنه صلى الله عليه وسلم تاج الأنبياء حقا يقينا لا خلاف ولا اختلال في هذا القول بين أهل السنة والجماعة
الإعراب إمام بالجر مضاف إلى الأنبياء صفة لنبي في البيت السابق أو بالرفع خبر
مبتدأ محذوف وبلا اختلاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وذلك بلا اختلاف
وإعراب المصراع الثاني كإعراب الأول على الاحتمالين سواء بسواء (وحاصل معنى البيت)
أنه يجب اعتقاد أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين والخلائق أجمعين أما فضلة على
الأنبياء فلقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس ولا شك أن خيرية الأمة على
غيرها من الأمم إنما هو بحسب أكمليتهم في الدين وهي تابعة لأكملية نبيهم الذي
يتبعونه والاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر،، لا يفيد تصريحه أنه أفضل
من آدم إذ لا يفيد أفضليته عليه بل على أولاده وإنما يفيده قوله عليه السلام أنا سيد الناس
يوم القيامة زاد في مسند أحمد ولا فخر وقوله عليه السلام أنا أكرم الأولين والآخرين على
الله ولا فخر أي ولا فخر أعظم من ذلك وقوله عليه السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر
وبيدي لواء الحمد ولا فخر أي أقول ذلك شكرا لا فخرا ولا أقوله تكبرا وتفاخرا وتعاظما
وما من نبي آدم فمن سواه إلا تحت لوائي يوم القيامة فمن آخر هذا وصريح
الأولين علمت أفضليته على آدم وقوله أنا سيد ولد آدم أما للتأدب مع آدم
أو لأنه علم فضل بعض بنيه عليه كإبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم عليه السلام
55

فإذا فضل نبينا من آدم فقد فضل على آدم بالأولى ولفظ ولد في الحديث
يشمل الواحد والجماعة فاندفع ما قيل إنه لا يقتضي العموم إلا لو قيل أولاد وقال
ابن عباس رضي الله عنه إن الله تعالى فضل محمد صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء عليهم السلام
وأما حديث الصحيحين لا تخيروني على موسى وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير
من يونس بن متى فمحمول على التواضع أو على أنه قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أو
أن النهي محمول على النهي عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص بعضهم فإنه كفرا أو عن تفضيل
في نفس النبوة التي لا تفاوت فيها والتفاوت إنما هو في مراتب الكمال وكمال الصفات
والأعمال حكي عن أبي المعالي أنه سئل في مجلسه عن الدليل على أنه الله تعالى لا يوصف
بالجهة ولا بحدودها فقال نعم قوله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوني على يونس بن متى فقال
السائل إني أريد أن أعرف وجه الدليل فقال إن الله تعالى أسري بعبده إلى فوق سبع
سماوات حتى سمع صرير الأقلام فلم يكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في علو مكان بأقرب إلى الله
تعالى من يونس في بعد مكانه فإن الله تعالى لا يتقرب إليه بالأجرام والأجسام وإنما يتقرب
إليه بأحسن الأعمال انتهى ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم لم يدانه أحد من الخلق في استجماع جميع
الكمالات لما تواتر من أحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها ولا في أخلاقه
العظيمة وأحكامه الحكيمة وإقدامه من حين تهجم به الأبطال وولوعه وتمسكه بعصمة
الله تعالى في جميع الأحوال وثباته على حالة واحدة لدى الوقائع والأهوال بحيث لم يجد
أعداؤه مع شدة عداوتهم وحرصهم على الطعن فيه مطعنا ولا إلى القدح فيه سبيلا
مع الاستمرار فيه على ذلك ثلاثة وعشرين سنة حتى أظهر الله دينه على سائر
الأديان ونصره على أعدائه وأحيى آثاره بعد موته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ببقاء
شريعته وقد ادعى ذلك الأمر العظيم بين أظهر قوم لا كتاب لهم ولا حكم معهم وبين
لهم الكتاب والحكمة وعلمهم الأحكام والشرائع وأتم لهم مكارم الأخلاق
الجميلة وأكمل كثيرا من الناس في الفضائل العلمية والعملية ونور العالم بالإيمان
ونور التوحيد والعمل الصالح وأظهر الله دينه على الدين كله كما وعده ونسخ
بشريعته سائر الشرائع إلى غير ذلك مما لا يحصره العد والعقل يجزم بامتناع اجتماع
هذا المجموع في غيره من المخلوقين فهو أفضل المخلوقين وحبيب رب العالمين والحبيب
فوق الخليل على الراجح لخبر البيهقي: أن الله تعالى قال ليلة الإسراء يا محمد سل تعط
فقال يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما فقال ألم أعطك
56

خيرا من هذا إلى قوله واتخذتك حبيبا أو ما في معناه ولأن الحبيب وصل بلا واسطة
بخلاف الخليل وقال تعالى في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين أو أدنى
وقال في حق الخليل: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض والخليل قال ولا
تخزني الله النبي والخليل قال في المحنة حسبي الله
والحبيب قيل له يا أيها النبي حسبك الله على أنه صلى الله عليه وسلم يوصف بالخليل أيضا كما يوصف
بالحبيب وإبراهيم عليه السلام يوصف أيضا بالحبيب قال بعض المحققين وما يظن من
الاستدلال بما ذكر اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالحبيب واختصاص إبراهيم عليه السلام
بالخليل فهو غلط وجهل وإنما المفهوم من تفضيل ذات محمد على ذات إبراهيم
عليهما السلام مع قطع النظر عن وصف المحبة والخلة وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في
الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين والذي قامت عليه الأدلة استنادها إلى
وصف الخلة الموجودة في كل من الخلتين فخلة كل منهما أفضل من محبته واختصاصها
بهما عليهما السلام لتوفر معناها فيهما أكثر من بقية الأنبياء إذ هي من الخلة بالضم وهي
صفاء المودة ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم كانت خلته أرفع من
خلة إبراهيم عليه السلام ذكره ابن القيم ففيه دلالة على ثبوت وصف الخلة والمحبة لكل
منهما ويلي محمدا في الأفضلية إبراهيم عليه السلام ونقل بعضهم الإجماع على ذلك لخبر
الصحيحين خير البرية خص منه محمد صلى الله عليه وسلم فبقي على عمومه فموسى وعيسى ونوح
عليهم السلام الثلاثة بعد إبراهيم ولم يرد التفضل بينهم فيجب الكف عنه وهم أي الخمسة أولوا
العزم من الرسل المذكورون في سورة الأحقاف أي أصحاب الجد والاجتهاد
وسائر الأنبياء بعد الخمسة أفضل من غيرهم على تفاوت في درجاتهم بما خص
به كل منهم من غير النبوة فهم فيها سواء ومن الملائكة كما قدمنا قال شارح وخواص
البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وخواص الملائكة وهم جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش والمقربون والكروبيون أفضل
من عوام بني آدم وعوام بني آدم وهم الأتقياء أفضل من عوام الملائكة وعوام
الملائكة أفضل من فسقة البشر دليلنا قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا
إلا إبليس والمسجود له أفضل من الساجد فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص
ثبت تفضيل العوام على العوام، وعوام الملائكة خدام أهل الجنة والمخدوم أفضل من
الخدم إلا أن الفساق عصاة فلا يكونون أفضل من الملائكة المبرئين عن المعاصي والذنوب
57

ولا يرد إبليس وكفره وقد كان من الملائكة بدليل صحة استثنائه منهم في قوله تعالى
فسجدوا إلا إبليس لأنه لم يكن من الملائكة حقيقة بل كان جنيا مستورا بينهم لكنه
لما كان من الملائكة في صفتهم من العبادة ورفعة القدر وغير ذلك صح استثناؤه
منهم تغليبا وأما هاروت وماروت فالأصح أنهما ملكان لم يصدر عنهما كفر ولا
كبيرة وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة وكانا يعظان الناس ويعلمان السحر ويقولان
إنما نحن فتنة فلا تكفر ولا كفر في تعليم السحر بل في اعتقاده والعمل به فافهم قال الناظم رحمه الله
26 وباق شرعه في كل وقت * إلى يوم القيامة وارتحال
باقي كقاض اسم فاعل من البقاء بمعنى الدوام والشرع شرعا وضع إلهي لما يتعرف
العباد منه أحكام عقايدهم وأفعالهم وأقوالهم يترتب عليه صلاحهم في الدارين
فذلك الموضوع بالوضع الإلهي هو الشريعة وهي فعيلة بمعنى مفعولة ويطلق
الشرع أيضا بهذا المعني على ذلك الموضوع من إطلاق المصدر على اسم المفعول كما هو
المراد ههنا وأصل معنى الشرع الإظهار من شرع إذا أظهر ومنه الشريعة للطريقة
الظاهر المسلوك فالمناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه ظاهرة والشريعة والملة والدين
ألفاظ مترادفة ويوم القيامة هو المشهود سمي به لأن الناس يقومون فيه ثلاثمائة سنة
لا يأتيهم فيها خبر وعن أبي سعيد الخدري أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف
من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا وورد في الحديث حساب أمتي كركعتي الفجر وقيل
سمي به لأن الناس يقومون فيه من قبورهم والارتحال من الرحلة بالكسر وهي
الانتقال من مكان إلى آخر ومنه رحلة الشتاء والصيف والمراد هنا الرحلة الكبرى
وهي انتقال الناس من الدنيا إلى الآخرة العراب باق خبر مقدم وشرعه مبتدأ
مؤخر وفي كل وقت متعلق بالخبر وهو كالتأكيد إذ يلزم من بقائه ممتدا إلى يوم القيامة
بقاؤه في كل وقت إذ قوله إلى يوم القيامة غاية لبقاء شرعه وارتحال عطف على
القيامة أو على يوم القيامة عطف تفسير أي وإلى يوم ارتحال لقوله عليه السلام القبر
أول منزل من منازل الآخرة (وحاصل معنى البيت) إن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باقية
على الدوام مستمرة إلى يوم القيامة ولا يرد نزول عيسى عليه السلام كما قدمنا وسيأتي
وهذا من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم فإن شريعته نسخت جميع الشرايع مع استمرارها إلى يوم
58

القيامة وما خص به صلى الله عليه وسلم في ذاته وصفاته وأفعاله وأحواله وشريعته وأمته
يكاد أن لا يحصى وقد جمع بعضهم في مؤلف على حدة لا يسعه هذا المختصر كانشقاق
القمر ومجئ الشجر وتسبيح الحصى وكلام البهائم ونبع الماء بين أصابعه الشريفة والمعراج ورؤية
ربه في الدنيا كما سيأتي وغير ذلك وكذا ما نقل من أوصاف حليته ولطف خلقته
ومحاسن صورته ومكارم أخلاقه وجميل مكارمه وأفعاله وصفاته وهذه وأن يشاركه
في بعضها غيره من الأنبياء عليهم السلام إلا أنه لم تجتمع جميعها في أحد قط لا قبله ولا بعده
وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان كلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وتأمل في أوصافه
يقول ما خلق هذا إلا لأمر عظيم فلما دعاه إلى الإسلام قال هذا الذي كنت أرجو منك
حتى في اسمه عليه السلام كما قال مادحة بيت:
وشق له من اسمه كي يجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقرن اسمه باسمه في كلمة الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله ورفع ذكره بقوله
تعالى ورفعنا لك ذكرك وكمال رفع ذكره استمراره إلى يوم القيامة وذلك ببقاء
شريعته المؤيدة بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
الدال على صدق دعواه فيما جاء به من عند الله المرشد إلى الإيمان في كل وقت
وزمان فهو من أعظم خصائصه عليه السلام وأما من قبله من الأنبياء عليهم السلام فخصه الله
من المعجزات بما يثبت به دعواه بحسب زمانه فإذا انقضى زمانه انقضت معجزاته
كقلب العصى حية وإخراج اليد بيضاء في زمن موسى عليه السلام لأن الغلبة فيه كانت
بالسحر فأتاهم بما هو فوق ذلك وفي زمن سليمان عليه السلام كانت بالملك فأتاهم بملك
لم ينله غيره وفي زمن عيسى عليه السلام كانت بالطب فأتاهم بما هو أبهر منه أعني إحياء
الموتى وفي حديث النجاري ما من نبي إلا أعطى ما بمثله آمن عليه البشر وإنما كان
الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلى وفي معناه قولان غير متنافيين يرجع
حاصلهما إلى أن معجزات الأنبياء عليهم السلام انقرضت بانقراض أعصارهم مع
كونها حسية تشاهد بالأبصار كعصاة وناقة صالح فلم يشاهدها إلا من حضرها ومعجزة
تشاهد بالبصيرة فيشاهدها كل من جاء بعد الأول وإنما كان أكثر معجزات الأمم
السابقة حسية لبلادتهم وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وشدة أفهامهم والله أعلم. قال الناظم رحمه الله:
59

27 وحق أمر معراج وصدق * ففيه نص أخبار عوال
الحق: الثابت من حق الشئ إذا ثبت والحق معرفا من أسمائه تعالى الحسنى وله إطلاقات
كثيرة فيطلق على الديون والمطالبات وعلى الأمر العظيم الشأن ومنه حتى فاجأه
الحق وهو بغار حراء وعلى الحكم المطابق للواقع وعلى العقائد والأديان والمذاهب
باعتبار اشتمالها على ذلك وعلى الأعيان الثابتة نحو الجنة حق والنار حق بمعنى
ثابتة الوجود وعلى الأفعال الصابية وعلى الأقوال الصادقة وهو المراد ههنا
ويحتمل المعنيين الأخيرين أيضا أي القول بالعروج حق أو عروجه عليه السلام أمر حق
أو المعنى: اعتقاد أمر المعراج واجب والمعراج مفعال بكسر الميم من العروج وهو
الصعود إلى الأعلى ويجمع على معارج وبه ورد التنزيل ويجمع أيضا على معاريج
كمفاتيح ومفتاح قال تعالى ذو المعارج وقال وعنده مفاتيح الغيب والمعارج
المصاعد أي الدرجات يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يرتقي فيها
المؤمنون في سلوكهم إلى دار ثوابهم وأن الملائكة يعرجون فيها كما قال الله
تعالى تعرج الملائكة والروح إليه والصدق ضد الكذب وقد شاع استعماله في الأقوال
فقط فهو أخص من الحق لما قدمنا والنص مصدر بمعنى المنصوص تقول
نصصت الحديث إلى فلان أي رفعته إليه وأما اصطلاحا فهو اللفظ الدال في محل النطق على معنى لا يحتمل غيره ممن يعتد به والأخبار بفتح الهمزة جمع خبر
وهو ما احتمل الصدق والكذب لذاته من حيث هو خبر وإن قطع بأحدهما
الأمر الخارج كما قدمنا وعند البيانين ما يحصل مدلوله في الخارج بعين الكلام
الأول أي ما له خارج صدق أو كذب وليس بينهم واسطة خلافا للجاحظ
الإعراب حق خبر مقدم وأمر معراج مبتدأ مؤخر وصدق عطف على حق
وقوله ففيه الفاء تعليلية والجار والمجرور في محل الرفع خبر مقدم والضمير
راجع إلى معراج ونص مبتدأ مؤخر مضاف إلى أخبار وعوال كغواش جمع
عال نعت أخبار (وحاصل معنى البيت) أنه يجب اعتقاد أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم
عرج بروحه وجسده يقظة بعد أن أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى من بيت المقدس إلى السماوات العلى إلى السدرة المنتهى إلى حيث شاء الله
تعالى وكلمه ربه فسمع كلامه ورآه بعين رأسه على ما عليه جماهير العلماء ومن أنكر
60

هذا يكون مبتدعا ومن أنكر الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يكون
كافرا لثبوته بالدليل القطعي قال تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا وهي التي رآها ليلة
الأسرى من العجائب ولقاء الأنبياء عليهم السلام وصلاته بهم وبالملائكة وغير ذلك
وقد تواردت الروايات بشق صدره ليلة الإسراء حين جاء به جبرائيل بالبراق
ففي البخاري وغيره أنه شق قلبه فيها وهو بالمسجد قبل أن يخرج به إلى ركوب البراق
وروي الشق أيضا مرة عند حليمة وهو ابن سنتين وشهرين أو ثلاثة وروي أيضا أخرى
وهو ابن عشر سنين أو نحوها فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي أيضا أخرى
عند مجئ جبرائيل إليه بالوحي وهو بغار حراء رواه أبو نعيم وروي خامسة ولم
تثبت وآخرها كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف وصح عن ابن عباس
رضي الله عنهما في رواية أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره وفي أخرى أنه رآه بقلبه قال بعض المحققين
ولا مخالفة بين الروايتين لأنه صح عنه كما رواه الطبراني بإسناد رجاله أنه
عليه السلام رأى ربه مرتين واحدة بالعين وواحدة بالقلب بمعين أنه خلق فيها
إدراك البصر وإنكار عايشة رضي الله عنها الرؤية بالبصر فيهما رواه مسلم عنها وهوا أن
مسروقا قال لها لما أنكرت الرؤيا ألم يقل الله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة
المنتهى فقالت أنا أول من سأل عن هذه الآية سئلت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت
ربك قال لا إنما رأيت جبرائيل لأنها إنما سألت عما في الآية فأجاب بها عليه السلام
بأنه لم يره في قصة الآية وهي غير قصة المعراج وهذا الذي اختاره جماعة من
المحققين كابن حجر والنسفي في عقايده وغيرهما وصحح السعد رحمه الله والمعراج لرسول
الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة بشخصه إلى السماء ثم إلى ما شاء الله حق) أي ثابت بالخبر
المشهور حتى أن منكره يكون مبتدعا وإنكاره وادعاء استحالته إنما يترتب على
أصول الفلاسفة وإلا فالخرق والالتيام جائز عندنا والأجسام متماثلة
يصح على ما يصح على الآخر والله تعالى قادر على الممكنات كلها فقوله في اليقظة
إشارة إلى الرد على من زعم أن المعراج كان في المنام على ما روي عن
معاوية رضي الله عنه أنه سئل عن المعراج فقال كانت رؤيا صالحة وروي عن عائشة
رضي الله عنه أنها قالت ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وقد قال تعالى
61

وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس وأجيب بأن المراد الرؤيا بالعين
والمعنى ما فقد جسد محمد عن الروح بل كان مع روحه وكان المعراج للروح
والجسد معا وقوله بشخصه إشارة إلى الرد على ما زعم أنه كان للروح فقط ولا
يخفى أن المعراج في المنام أو بالروح ليس مما ينكر كل الإنكار والكفرة أنكروا
أمر المعراج غاية الإنكار بل كثير من المسلمين قد ارتدوا بسبب ذلك وقوله إلى
السماء إشارة إلى الرد على من زعم أن المعراج في اليقظة لم يكن إلا لبيت المقدس
على ما نطق به الكتاب وقوله ثم إلى ما شاء الله إشارة إلى اختلاف السلف
فقيل إلى الجنة وقيل إلى العرش وقيل إلى طرف العالم فالإسراء وهو من المسجد
الحرام إلى البيت المقدس قطعي ثبت بقوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا الآية
والمعراج من الأرض إلى السماء مشهور وإلى سماء الجنة أو العرش أو غير ذلك آحاد
ثم الصحيح أنه عليه السلام إنما رأى ربه بفؤاده لا بعينه انتهى فتأمل فإنه مع مفهوم قوله
ليس مما ينكر كل الإنكار مثل الإنكار والله تعالى أعلم قال الناظم رحمه الله
28 وإن الأنبياء لفي أمان * عن العصيان عمدا وانعزال
العصيان إتيان الذنب عمدا والزلة إتيان الذنب سهوا والعاصي من أتى
الكبائر عمدا طائعا والمسئ من آتي الصغائر كذلك ما لم يصر عليها والأنبياء
عليهم السلام معصومون عن الكبائر بالاتفاق وعن الصغائر عمدا قبل
النبوة وبعدها على الصحيح وكذا عن الانعزال أي الانخلاع عن النبوة لأنه
يكون نقصا في حقهم وهم مبرؤون عنه وقد أمنهم الله بفضله فما فيه خسة
لا يصدر عنهم لا عمدا ولا سهوا وأما ما ليس فيه خسية ففي صدوره منهم خلاف
والذي جزم به أبو إسحاق الإسفرايني وأبو الفتح الشهرستاني والقاضي عياض
وغيرهم: أن الصغائر لا تصدر عنهم أيضا لا عمدا ولا سهوا وهو الذي ندين الله
تعالى به كما في شرح شيخنا ونحن نقول بما قال خلافا لما قال بعض الشراح من أنهم
غير معصومين عن الصغائر قال لأن الله أثبت لهم الشفاعة فلو عصموا عن
الصغائر لوقع الضعف في مقام الشفاعة انتهى وفي هذا الاستدلال ما لا يخفى
على ذوي البصائر والحق إن الصغائر لا تقع منهم عمدا وأما سهوا فيجور وقوعها
عند جماعة من أهل السنة يعني ما لم يكن فيه خسية كسرقة لقمة قال النكساري وأكثر أهل الحق
62

رحمهم الله منعوا الكبائر عمدا كانت أو سهوا وجوزوا الصغائر سهوا أي ما لم
يكن فيه خسية ثم قال وأما ما نقل عنهم فهو إما بسهو أو نسيان أو محمول على
ترك الأولى واشتباه المنهي بالمباح انتهى وإلى هذا أشار المص رحمه الله بقوله عمدا
وقد توسع السعد رحمه الله ههنا قال وهذا إشارة إلى أن الأنبياء معصومون
عن الكذب خصوصا فيما يتعلق بأمر الشرايع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة
إما عمدا فبالإجماع وإما سهوا فعند الأكثرين وفي عصمتهم عن سائر الذنوب
تفصيل وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع وكذا عن
تعمد الكبائر عند الجمهور خلافا للحشوية وإنما الخلاف في امتناعه بدليل
السمع أو العقل وأما سهوا فجوزه الأكثرون وأما الصغائر فتجوز عمدا عند
الجمهور خلافا للجبائي وأتباعه وتجوز سهوا بالاتفاق إلا ما دل على الخسة
كسرقة لقمة والتطفيف بحبة لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا عليه فينتهوا
عنه هذا كله بعد الوحي وأما قبله فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة انتهى
فتأمل ثم قال وذهب بعض المعتزلة إلى امتناع الكبيرة لأنها توجب النفرة
المانعة عن اتباعهم فتفوت مصلحة البعثة انتهى قلت والقول الذي نسبته
إلى المعتزلة المؤدي إلى تقرير عصمتهم أظهر مما قاله فتدبر والله أعلم
والحق منع وقوع الكبائر منهم مطلقا ومنه ما يوجب النفرة كقهر الأمهات
والفجور والصغائر الدالة على الخسة مطلقا وأما ما ليس فيه خسة منها
فجوزه بعضهم سهوا كما قدمنا وهذا الذي يجب اعتقاده في حقهم عليهم السلام فافهم
ومنع الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده مطلقا إذا تقرر
هذا
فما نقل عن الأنبياء عليهم السلام مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولا بطريق
الآحاد فمردود وما كان منقولا بطريق التواتر فمصروف عن الظاهر إن أمكن
وإلا فمحمول على ترك الأولى فليعتقد هذا الكلام في هذا المقام في حق صفوة
الأنام عليهم الصلاة والسلام وتفصيل ذلك في الكتب المبسوطة في علم الكلام الإعراب
إن بكسر الهمزة عطف على حق في البيت المتقدم أو مستأنفة أو بفتحها عطف
على أمر معراج وهي حرف مشبهة بالفعل والأنبياء اسمها ولفي أمان خبرها وعن
العصيان متعلق بأمان وعمدا منصوب على التمييز أو على الحال وانعزال
عطف على العصيان (وحاصل معنى البيت) إنه يجب اعتقاد أن الأنبياء عليهم السلام
63

كلهم كانوا مؤمنين من أول الفطرة معصومين عن الكبائر عمدا وسهوا
قبل البعثة وبعدها وعن الصغائر عمدا وأنهم في أمان من الانعزال عن مرتبة
النبوة والرسالة وأنهم كانوا مخبرين عن الله تعالى مبلغين كما أمروا صادقين
فيما أخبروا به ناصحين مبشرين لأهل الإيمان والطاعة بالجنة والثواب ومنذرين
لأهل الكفر والعصيان بالنار والعقاب ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من
أمر دينهم ودنياهم وأن الله تعالى أيديهم بالمعجزات الناقضات للعادات وأمنهم
من سلب المقامات وعصمهم من الوقوع في المعاصي والسيئات وهذا بخلاف
حال الأولياء فإنهم قد تسلب منهم الولاية كما يسلب الإيمان من المؤمن في الخاتمة
نسئل الله حسنها وقد سئل الجنيد رحمه الله تعالى هل يزني العارف بالله تعالى
فقال وكان أمر الله قدرا مقدورا لكن ذكر بعضهم أن من رجع إنما رجع من
الطريق لا من وصل إلى فريق وحقق حق التحقيق كما قال بعض المشايخ الإيمان إذا
دخل القلب وتمكن حق التمكن أمن من السلب وإليه يشير قوله تعالى فمن يكفر
بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وما رواه أبو
سفيان في حديث هرقل رضي الله عنه وكذا الإيمان إذا تخلط بشاشة القلوب لا يسخط
أبدا رواه البخاري كما في علي قاري والله أعلم قال الناظم رحمه الله
29 وما كانت نبيا قط أنثى ولا عبد وشخص ذو افتعال
يعني أن الأنبياء عليهم السلام كلهم كانوا من آدم ذكورا أحرارا لأنهم أكرم الخلق على الله
فلا بد أن يكونوا من أفضل أنواع المخلوقات وهم بنو آدم كما قال تعالى ولقد كرمنا
بني آدم وأفضلهم الذكور الأحرار وأفضلهم المتقون والمعصومون عن الكبائر
والصغائر وهم الأنبياء عليهم السلام فلا رسول من الجن عند جماهير العلماء وأما
قوله تعالى ألم يأتكم رسل منكم فالمراد من أحدكم وهو الأكرم على حد قوله تعالى
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما وقوله وجعل القمر فيهن
نورا ولا من الملائكة بالنسبة إلى نبينا عليه السلام لأنه مرسل إليهم على الأصح
عند جمع من المحققين كما يدل عليه خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة ولا من
النساء لأنهن ناقصات العقل وقاصرات عن التبليغ وأمور النبوة من الخروج إلى
المحافل والمجامع والتكلم مع كل أحد وأما مريم وآسية وسارة وهاجر وحواء وأم موسى
64

واسمها يحابذ بياء مضمومة فواو ساكنة فخاء معجمة فألف مقصورة فباء
موحدة مفتوحة فذال معجمة آخر الحروف بنت لاوي بن يعقوب فلن
أنبياء وما صححه القرطبي من نبوة مريم لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة
جبرائيل كما أوحى إلى النبيين وأنه ظهر لها ونفخ في درعها وصدقت بكلمات
ربها وأنها سبقت السابقين مع الرسل إلى الجنة لقوله عليه السلام لو أقسمت لبررت
ولا يدخل الجنة قبل سابق أمتي إلا بضعة عشر رجلا منهم إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومريم ابنة عمران إلى غير
ذلك فقد أجيب عنه بأن ذلك كله كان كرامة لها لا معجزة ورؤيتها لجبرائيل
كان كما رآه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام
في صفة سائل كما أخبر تعالى بقوله فتمثل لها بشرا سويا وكما رأته عائشة رضي الله عنها
في صفة دحية الكلبي ولم يكونوا أنبياء فكان كرامة لها ومن أنكر كرامات الأولياء
زعم أن ما وقعت لها كانت معجزة كزكريا عليه السلام وإرهاصا لنبوة ولدها عيسى
عليه السلام قال البيضاوي رحمه الله الإجماع على أنه لم تتنبأ امرأة لقوله تعالى وما أرسلنا
من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم وكذلك لم يكن مملوك نبيا لأن المملوك ناقص الحال
والتصرف فلا يصلح أن يكون مقتدى للخلائق ورسولا من رب العزة قيل ولأن
المملوك لا بد أن يجرى عليه الكفر غالبا ولو حكما والأنبياء مبرؤون عن ذلك وبيع
يوسف عليه السلام وإطلاقه عليه في قوله تعالى وشروه بثمن بخش دراهم معدودة إنما هو
حكاية حالهم باعتبار زعمهم وإلا فهو حر وبيع الحر باطل ولا ذو افتعال أي
فعل قبيح كالسحر والكذب لأن ذلك من الكبائر والأنبياء عليهم السلام مبرؤون عنها
كما مر ولأنه يلزم منه الكذب في خبر الله تعالى لتصديقه لهم بالمعجزات وقال تعالى
صدق عبدي في كل ما يبلغ عني والكذب على الله تعالى محال الإعراب ما نافية
وكان ناقصة والتاء للتأنيث ونبيا خبر كان قدم على اسمها وهو أنثى وقط
ظرف زمان مبني على الضم ومعناه الزمان الماضي المنفي على سبيل الاستغراق
ولا تستعمل في غير الماضي إلا شذوذا والعامل فيه كان ولا عبد عطف على اسم
كان أي وما كان عبد نبيا وكذا شخص عطف على اسم كان أو على عبد وذو بمعنى
صاحب مضاف إلى افتعال صفة لشخص (وحاصل معنى البيت) إنه يجب اعتقاد أن
الأنبياء عليهم السلام لم يكن أحد منهم أنثى ولا عبدا ولا كذابا ولا ساحرا ولا من ارتكب ذنبا لأن
65

وذلك كله نقص وهم مبرؤون عن النقائص وأفضل خلق الله أجمعين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم قال الناظم رح
30 وذو القرنين لم يعرف نبيا * كذا لقمان فاحذر عن جدال
ذو القرنين هو الإسكندر الرومي صاحب الخضر قيل إنه لقب بذلك لأنه ملك فارس
والروم أو المشرق والمغرب أو لأنه طاف قرني الشمس شرقا وغربا أو لأنه كان
له قرنان أي ضفيرتان أو لأن أباه سد فرج أمه حال ولادته برجله حتى يتحكم
الوقت المطلوب فيه ولادته فيبلغ من الملك ما أمله فأثر ذلك في رأسه وصار له
كالقرنين من وضع الرجل في وسط رأسه وقيل يحتمل أن يكون وصف بذلك لشجاعته
كما يقال للشجاع كبش ينطح أقرانه وقيل غير ذلك وقد اتفقوا على أنه كان رجلا
مؤمنا صالحا ملكا عادلا وصل المشرق والمغرب ودخل في الظلمة لطلب ماء الحياة
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة قال البيضاوي ولعله بلغ
ساحل المحيط فرآها فيه كذلك إذ لم يكن في مطمح نظره غير الماء أي ماء الحياة
وهو وجد عندها قوما فكانوا كفارا فخيره الله تعالى فيهم بين التعذيب وبين أن
يرشدهم ويعلمهم الشرايع قيل وكان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه
البحر ثم إن لما لم يبلغ مراده توجه إلى المشرق حتى إذا بلغ مطلع الشمس أي الموضع
الذي تطلع الشمس عليه أولا من معمورة الأرض ثم توجه حتى بلغ السدين أي
الجبلين الذين بنى بينهما سده وهما جبلا أرمينية وآذربيجان وقيل وهو الصواب جبلان في
أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج ووجد عندها
قوما فشكوا إليه تعدى يأجوج ومأجوج وفسادهم في الأرض في أموالهم وزروعهم
وعرضوا عليه أن يعينوه بأموالهم ليسد بينهم وبينهم فأعرض عن أخذ شئ منهم
وقال ما مكني فيه ربي من الملك خير مما تبذلون لي ولكن أعينوني بعملة وآلات
وآتوني زبر الحديد قيل إنه حفر الأساس حتى باغ الماء وجعله من الصخر والنحاس
المذاب ولما ساوى وجه الأرض جعل زبر الحديد طاقين بينهما ورفعه كذلك
حتى ساوى أعلى الجبلين وملأ بينهما الفحم والحطب ثم وضع المنافيخ حتى صار الجميع
نارا ثم صب النحاس فذاب عليهما والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا فلما
رآه على تلك الحالة وعلم أنه يمنع يأجوج ومأجوج أو بقيام الساعة جعله دكا مستويا بالأرض
66

وكان وعد ربي حقا كائنا لا محالة ويأجوج ومأجوج إخواننا من الأبوين على
الصحيح من أولاد آدم وحواء وقيل من الأب فقط من مني سقط من آدم على
الأرض فخلقوا منه والأول هو الصحيح فهم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام لما رواه
الحاكم عن معاوية رضي الله عنه أن أولاد نوح عليه السلام سام وحام ويافث فولد سام العرب
وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير وولد حام السودان والبربر والقبط وولد
يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، ثم إن الإسكندر بعد رجوعه من بناء
السد أدركته الوفاة قبل أن يصل إلى مملكته قيل إنه أوصى أمه أن تصنع طعاما
وتدعوا إليه جميع أهل مملكته وتأمر أن لا يأكل منه من أصيب في عمره فلما وصل
إليها ذلك فعلت ودعت الناس وأمرتهم كذلك فلم يتقدم أحد إلى الطعام
فسألتهم وقالوا هل في الناس من لم تصبه مصيبة فقالت رحم الله ولدي وعظني
حيا وميتا وقد اختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه وعدله قال ابن
جماعة أختلف في نبوته فقيل ليس بنبي بل كان ملكا عادلا وهو الحق واختلف
أيضا في لقمان فقيل نبي وقيل لا بل هو ولي وهو الحق انتهى ثم اعلم أن الإسكندر
اثنان، رومى وهو صاحب الخضر وهو الذي بنى السد كما ذكرنا وهو الذي فيه
الخلاف والصحيح عدم نبوته ولا يلزم ثبوتها بخطاب الله تعالى إليه في قوله تعالى قلنا
يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا لاحتمال ذلك أن يكون بالإلهام
قال البيضاوي رحمه الله ونداء الله إياه إن كان نبيا فبوحي وإن كان غير نبي فبإلهام أو
على لسان نبي انتهى ظاهر كلامه أنه لم يقطع فيه بشئ وأخرج الطبراني أن رجلا
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين فقال كان من الروم فأعطي ملكا فصار إلى مصر
وبنى الإسكندرية الحديث وكان على عهد إبراهيم الخليل عليه السلام قيل إنه حج ماشيا
ودخل المسجد الحرام قيل إنه لما دخله أخبر أن فيه إبراهيم الخليل عليه السلام فخرج إلى لقائه
فسلم على إبراهيم عليه السلام وصافحه ويقال إنه أول من صافح ولما لم يرد قاطع بنبوته
ولا بعدمها بل الأظهر عدمها قال المص لم يعرف نبيا ولم يقل ليس بنبي لما علم أن
نفي النبوة عن نبي كفر كجعل من ليس بنبي نبيا ولذا قال المحققون الأولى أن لا
يقتصر في الأنبياء على عدد معين لأن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم في حقهم بقوله
منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فبعضهم لم يذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فعد من
67

ليس بنبي نبيا مخالفة للكتاب الثاني يوناني وهو صاحب أرسطو وليس
الخلاف فيه وكان هذا قريبا من زمن عيسى عليه السلام وبين زمن إبراهيم وزمن عيسى
عليهما السلام أكثر من ألفي عام والأكثرون على هذا وقيل الأول عمر ألفي سنة لما روي أن
قس بن ساعدة لما خطب بسوق عكاظ قال في خطبته يا معشر أياد بن الصعب ذو
القرنين قد ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر الفين ثم كان لحظة عين والأول هو
الصحيح ونقل عن المفسرين أنهم قالوا ملك الدنيا شرقا وغربا مؤمنان سليمان عليه السلام
وذو القرنين وكافران نجت النصر ونمرود بن كنعان الإعراب ذو القرنين مبتدأ
ويعرف مبني للمفعول مجزوم بلم ونائب فاعله مستتر أي ذو القرنين ونبيا مفعول
ليعرف على أنه بمعنى يعتقد ومحل هذه الجملة رفع خبر مبتدأ كذا جار ومجرور في محل
رفع خبر قدم على المبتدء وهو لقمان فاحذر أمر فاعله ضمير من صلح لهذا الخطاب
والغاء فيه واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمت ذلك فاحذر عن جدال متعلق به
(وحاصل معنى البيت) احذر أيها العاقل أن تجادل في إثبات نبوة ذي القرنين ونبوة لقمان
فإن ظاهر الأدلة يشير إلى نفي نبوتهما ونبوة نحوهما كالخضر فقيل إنه نبي وقيل ولي
وقيل رسولا فلا ينبغي لأحد أن يقطع بنفي أو إثبات لما علمت أن اعتقاد نبوة من
ليس بنبي أو نفي نبوة نبي من الأنبياء كفر كما قدمنا تتمة لقمان هو ابن باعور بن
ناحور بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم عليه السلام وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما
بعث قطع الفتوى فقيل له ألا تفتي فقال ألا أكتفي إذا كفيت يعني كفيت أمر الفتوى ببعثة
داود عليه السلام والجمهور على أنه ليس بنبي كما قدمنا بل حكيم تلمذ لألفي نبي والله تعالى
أعلم بالصواب. قال الناظم رحمه الله رحمة واسعة
31 وعيسى سوف يأتي ثم يتوى * لدجال شقي ذي خبال
عيسى بن مريم عليهما السلام ومن أسمائه أيضا المسيح وكلمة الله وروح الله وسوف حرف
تنفيس يدخل على المضارع فتمحضه للاستقبال مرادا به المهملة وفيها لغات ذكرها
في المغني ثم قال تنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو ولسوف يعطيك ربك فترضى
وبأنها قد تفصل بالفعل الملغى كقوله: وما أدري وسوف أخال أدرى أقوم الحصن أم نساء
ويتوى إما بفتح حرف المضارعة مبني للفعال من توى إذا قام واسم الفاعل منه تاو ومنه قوله تعالى
68

تاويا في أهل مدين فعلى هذا يكون المعنى أن عيسى عليه السلام سوف يأتي ويقيم في الأرض
للدجال أي لأجل قتله وإما بضم حرف المضارعة مبني للفاعل أيضا من الاتواء
بمعنى الاهلاك من قولهم توى المال بكسر الواو أي هلك ثم استعمل في مطلق
الهلاك وعدي إلى المفعول بالهمزة فيكون المعني أن عيسى عليه السلام سوف يأتي ويهلك
الدجال وهو الأنسب ههنا فتكون اللام في قوله لدجال زائدة أو للتقوية وتنازع فيه
كل من يأتي ويتوى وعلى الأول تكون اللام لتعليل ودجال فعال مبالغة في اسم
الفاعل من الدجل وهو الكذب والتمويه وخلط الحق بالباطل ووصف بذلك
لأن حاله مبني على ذلك المعنى ولأنه وصف أيضا بالمسيح فيتميز عن وصف عيسى
عليه السلام بالمسيح وجه تسميته مسيحا قيل لأنه يمسح الأرض وقيل لأنه ممسوح العين
ويروى في حقه المسيخ بالخاء المعجمة لقبح صورته ووجه تسمية عيسى عليه السلام
بالمسيح أنه مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسحه جبرائيل عليه السلام والمراد
بالشقي الكافر إذ لا شقاوة فوق الكفر والخبال فساد الحال الإعراب الواو
عاطفة قصة على قصة عيسى مبتدأ سوف حرف تنفيس واستقبال وجملة
يأتي من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ وثم حرف عطف يقتضي ثلاثة
أمور التشريك في الحكم والترتيب والمهلة وهي موجودة ههنا ويتوى عطف
على يأتي ولدجال متعلق بيتوى وتنارع فيه يأتي ويتوى وشقي صفة لدجال
ونكر الصفة نظرا للفظ الموصوف فصار مخصوصا معلوما بالمجموع أو حذف أل
من الصفة للضرورة على أن دجال علم بالغلبة كفضل (وحاصل معنى البيت) أن نزول
عيسى بن مريم عليه السلام حق يجب اعتقاده فينزل على المنارة الشرقية في جانب
بني أمية بالشام ويأتي بيت المقدس وفي يده عصى يقتل بها الدجال عند باب لد
الشرقي حين محاصرة المهدي في قلعة القدس ويل يضربه بحربة وهو لا ينافي
الأول لجواز أن يكون للعصى حربة وقيل بمجرد رؤيته عيسى يذوب كما يذوب
الملح في الماء كما قيل وكأن معناه أنه يذل ويحقر عند رؤية عيسى عليه السلام ويكون
الأعور يدعي الألوهية والناس يؤمنون به إلا من شاء الله سعادته ويكون
معه جبلان في أحدهما أنواع الثمار وفي الآخر أنواع العذاب يلبث في الأرض
أربعين يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وباقي أيامه كأيامنا كما ورد في مسلم
عن النواس بن سمعان وروي عن أبي أمامة الباهلي قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
69

فكان أكثر خطبته ذكر الدجال فحدثنا عنه حين فرغ عن خطبته فكان فيما قال
لنا يومئذ إن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وإني آخر الأنبياء
وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا
حجيج كل مسلم وإن يخرج فيكم بعدي فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي
على كل مسلم إنه يخرج من حلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا
عباد الله أثبتوا فإنه يبدأ فيقول أنا ربكم وإنكم لن ترون ربكم حتى تموتوا
وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه
وليقرأ فواتح سورة الكهف وإنه يسلط على نفس من بني آدم فيقتلها ثم يحييها
وإنه لا بعد ذلك ولا يسلط على نفس غيرها وإن من فتنته أن معه جنة ونارا
فمن ابتلى بناره فليغمض عينه وليستعن بالله تكن عليه بردا وسلاما وإن من
فتنته أن يمر على الحي فيؤمنوا به فيدعوا لهم فتمطر السماء عليهم من يومهم
وتخصب لهم الأرض من يومها وتروح عليهم ماشيتهم من يومها أعظم ما كانت
وامده خواصر وأدرها ضروعا ويمر على الحي فيكفروا به ويكذبوه فيدعو
عليهم فلا يصبح لهم سارح يسرح وأن أيامه أربعون يوما يوم كسنة ويوم
كشهر ويوم كالأيام وآخر أيامه كالسراب تقدرون الأيام الطوال ثم تصلون
يصبح الرجل عند باب المدينة فيمسي قبل أن يبلغ الباب الآخر قالوا كيف
نصلي يا رسول الله في تلك الأيام القصار قال تقدرون فيها ثم تصلون رواه
الحاكم في مستدركه ثم بعد أن يقتله عيسى عليه السلام لم يبق أحد من أهل الكتاب
إلا ليؤمنن به قبل موته حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ولم تقبل حينئذ
الجزية ويقع إلا من في الوجود وترتع الإبل مع الأسود والنمور مع البقر
والذئاب مع الغنم وتلعب الصبيان بالحيات ويلبث في الأرض أربعين سنة
ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وفي رواية أنه يمكث سبح سنين وهي
الصواب والمراد بالأربعين في الرواية الأولى أنه مدة مكثه قبل الرفع وبعده
فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة وروي غير ذلك قال بعض المشايخ رحمه الله
والصحيح أنه لم يمت قبل رفعه والوفات أتت في القرآن على ثلاثة أشياء وفات
موت كقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موته ووفاة نوم كقوله تعالى والتي لم تمت
في منامها ووفاة رفع وهي المراد بقوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي واعلم أنه يجب
70

الإيمان بنزول عيسى عليه السلام وكذا بخروج المهدي ففي فوائد الأخيار لأبي بكر
الإسكافي مسندا إلى مالك بن أنس عن محمد المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب بالدجال فقد كفر ومن كفر بالمهدي فقد كفر وقال
حذيفة ابن أسيد الغفاري طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال
ما تذكرون قلنا نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات
فذكر المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس والقمر من مغربهما ونزول عيسى
ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب
وخسف بجزيرة العرب كما في شرح المقدسي ورواية غيره: قال عليه السلام لا تقوم الساعة
حتى يظهر عشر علامات طلوع الشمس والقمر من مغربهما والدجال ودابة الأرض
ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه اللام وخروج الأسود الذي يخرب
الكعبة وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب
ونار تخرج مع قعر عدن تسوق الناس تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا
قالوا ذكره بعض الشراح ثم أول الآيات المؤدية بتغيير أحوال العالم من معظم
الأرض خروج الدجال ثم نزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج ومن الآيات
العظام المؤدية بتغيير أحوال العالم العلوي طلوع الشمس من مغربها ولعل خروج
الدابة في ذلك الوقت أو قريب منه وأول المؤدية بقيام الساعة: النار التي
تحشر الناس روي أنه عليه السلام سئل عن مخرج الدابة فقال من أعظم المساجد حرمة
على الله تعالى يعني المسجد الحرام وقيل من تهامة وقيل من حيث فار التنور وقيل غير
ذلك قال الترمذي فتخرج معها عصى موسى وخاتم سليمان فتجلد وجه المؤمن
بالعصا وتختم آنف الكافر بالخاتم حتى أن أهل المائدة الواحدة يجتمعون للطعام
فينادي بعضهم لبعض يا مؤمن ويا كافر لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى
أن الرجل يتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه وتقول يا فلان الآن تصلي
قيل وهذه الدابة فصيل ناقة صالح عليه السلام فلما عقرت أمها هربت فانفتح لها
حجر فدخلت فيه فانطبق عليها فهي فيه إلى أن يأذن الله بخروجها وروي
أن طولها ستون ذراعا ولها قوائم وذنب وريش وجناحان وهي على
خلقة الآدمي وأنها جمعت من خلق كل حيوان وينقطع بخروجها الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر يومئذ لله والله أعلم وأحكم قال الناظم رحمه الله
71

32 كرامات الولي بدار دنيا * لها كون فهم أهل النوال
الكرامات جمع كرامة والمراد بها ههنا أمر خارق للعادة مقرون بالعرفان والطاعة خال عن
دعوى النبوة فخرج بالقيد الأول العاديات وبالثاني ما قرن بالفسق والفجور
فإنه يكون استدراجا أو سحرا أو مؤكدا لتكذيب الكاذبين كما روي أن مسيلمة
اللعين دعا للأعور لتصح عينه العوراء فذهب ضوء عينه الصحيحة أيضا
ويسمى هذا إهانة وبالثالث معجزات الأنبياء عليهم السلام وقد تظهر الخوارق من عوام
المسلمين للتخلص من المكاره والمظالم والمحن ويسمى هذا معونة وحاصله أن الخارق
للعادة ستة وهي المعجزة والإرهاص والكرامة والمعونة والاستدراج والإهانة
والأولان مختصان بالأنبياء عليهم السلام والثالث بالأولياء والرابع بكل مؤمن والأخيران
بالفساق والفجرة والولي هو العارف بالله تعالى وصفاته بحسب ما يمكن المواظب
على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات
المباحة المعرض عن الدنيا المقبل على العقبى المديم على ذكر المولى جل شأنه
وهو فعيل بمعنى فاعل سمي به لأنه تولى أمر ربه ولم يخالف أمره ونهيه أو
بمعنى مفعول لأن الله تعالى تولى أمره والدنيا بضم الدال على الأشهر وحكى
ابن قتيبة وغيره كسرها من الدنو وهو القرب سميت به لدنوها أي قربها من
الآخرة أو من الزوال أو من الدنائة أو الخسة كما قال الشاعر:
أعاف دنيا تسمى من دناءتها * دنيا وإلا فمن مكروهها الداني
وحقيقتها جميع المخلوقات الموجودة قبل الآخرة وقيل الأرض مع الهواء والجو
قال بعض المحققين والأول أظهر فإن قلت حقها أن تستعمل باللام كالكبرى
والحسنى لأنها في الأصل مؤنث أدنى تفضيل قلت الدنيا خلت عن الوصفية
وأجريت مجرى ما لم يكن وصفا مما وزنه فعلى كرجعى ونهمى ومن استعمالها
منكرة قول الفرزدق بيت: لا يعجبنك دنيا أنت تاركها * كم نالها من أناس ثم قد ذهبوا
وكثير من القرآن مشتمل على ذمها والانصراف عنها إلى الآخرة لأنه عدوة الله
تعالى لقطعها طريق الوصلة إليه ولذا لم ينظر إليها منذ خلقها وعدوة لأوليائه
لتزيينها لهم حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها وفي الخبر الحسن الدنيا
ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم والكون الوجود أي
72

كرامات الأولياء لها وجود ومستلزم للجواز كجريان النيل بكتاب عمر رضي الله عنه
والنوال: العطاء الإعراب كرامات مضاف إلى الولي مبتدأ وبدار مضاف
إلى دنيا متعلق بكون أو حال من كرامات أو من الولي لأن المضاف عامل فيه
معنى ولها في محل رفع خبر قدم على المبتدأ وهو كون والجملة في محل رفع خبر
وقيل خبره محذوف تقديره حق والأظهر ما قلنا كما لا يخفى فهم الفاء تفريعية
أو فصيحية هم مبتدأ وأهل النوال خبره (وحاصل معنى البيت) أن كرامات الأولياء
حال كونهم في الدنيا لها وجود وثبوت وقوع أي حال حياتهم وكذا بعد الموت
بمعنى إكرامه في قبره وإدخال حضرة فيه وتوسيعه لا بمعنى تصرفه في العالم كما
يعتقده جهلة العوام والمتصرف والمؤثر حقيقة هو الله تعالى وذكر هؤلاء الأخيار
سبب عادي في في ذلك التأثير وذلك مثل الكسب العادي ولا ينافيه قول الناظم
بدار دنيا لأن البرزخ من أحكام الدنيا إلا أنه أراد بالكرامات المعنى الأول
فيكون القيد احترازيا واعلم أن الدلائل على حقية الكرامات ووقوعها
قد تواترت عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم وممن بعدهم بحيث لا يمكن إنكارها إلا
ممن أعمى الله بصيرته خصوصا الأمر المشترك أعني مطلق الكرامة وإن كان
تفاصيلها آحادا فمن أنكر كرامات الأولياء كان خارجيا معتزليا لأنه ينكر
كلام الله تعالى قال تعالى لأم موسى فألقيه في اليم وهو كرامة لها وقال تعالى وقال
الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك وهو آصف بن
برخيا وكان وزير سليمان بن داوود عليهما السلام ولم يكن آصف نبيا فأتى بعرش
بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان عليه السلام إليه في تلك الساعة من المسافة البعيدة
وكذا ظهور الطعام والشراب لمريم رضي الله عنها فإنه كلما دخل عليها زكريا المحراب
وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله وكذا تكلم الكلب
لأصحاب الكهف فلما جاز أن يكون في الأمم السابقة كرامات للأولياء جاز أن
يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء فأمته أشرف الأمم فجاز أن يخص الله
تعالى منهم من شاء بكرامات كسماع سارية رضي الله عنه في العسكر وهو بنهاوند
قول عمر بالمدينة: يا سارية الجبل الجبل وبينهما أكثر من خمسمأة فرسخ وكذا
جريان النيل بكتاب عمر رضي الله عنه وسكون الأرض بضربة لها بدرته حين زلزلت زلزلة عظمة
73

وقال لها اسكني أنا عدل فسكنت ومنعه النار التي كانت تأتي المدينة
كل عام نشر ثوبه في وجهها ولم تأت بعد ذلك وكشرب خالد رضي الله عنه
قدحا من السم وكالمشي على الماء كما وقع لكثير من الأولياء وفي الهواء كما
نقل عن جعف بن أبي طالب وعن لقمان السرخسي وغيرهما وكلام الجماد
كما روي أنه بين يدي سلمان وأبي درداء رضي الله عنهما قصعة فسبحت
وسمعا تسبيحها وكما روي أنه عليه السلام قال بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها
إذ التفتت إليه وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان
الله بقرة تتكلم وغير ذلك مما وقع للأولياء من خوارق العادات وكل ذلك
من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأن الولي تابع له وكل كرامة لو لي تكون معجزة لمتبوعه
ولا عبرة لانكار المعتزلة كرامات الأولياء واستدلالهم بأنا لو جاز ظهور
خوارق العادات من الأولياء لاشتبهت الكرامة بالمعجزة ولم يتميز بين النبي
والولي لأنا نقول إن ظهور الخارق من الولي ليس معه دعوى نبوة بخلافه
من النبي وهو الفارق لأنه مأخوذ في تعريف المعجزة دون الكرامة.
تتمة ينبغي للولي الذي أكرمه الله تعالى أن يجتهد في كتمان ما خصه الله به
من الكرامات ولا يظهره بالدعوى فإنه انحطاط في درجته ونقصان في مرتبته
لاستر بينه وبين ربه فلا ينبغي أن يبوح به كما قال قائلهم * من باح بالسر كان
القتل سيمته * وأما ما يظهره بعضهم مما يزعم به المكاشفات والعلم بالمغيبات
مع جهله بأمور الدين فإنما هو شأن الدجالين الزائغين عن الحق المبين
الضالين المضلين وسيأتي تمامه والحمد لله رب العالمين قال الناظم رحمه الله
33 ولم يفضل ولي قط دهرا * نبيا أو رسولا في انتحال
يفضل بضم كينصر من الفضل خلاف النقص وأراد به هنا نفي الرجحان أي لا
يرجح عليه بالفضل يقال فضل فلان فلانا إذا زاد عليه في الفضل فذاك فاضل
وهذا مفضول والفضيلة النعمة القاصرة على صاحبها كالزهد والصلاح والولاية
والعلم الذي لا ينفع به غيره وغير ذلك والفاضلة النعمة التي يتعدى نفعها إلى
الغير ويقع الشكر بمقابلته كالكرم والتعليم ونحوهما وكل منهما يكون سجية وقد
يحصل بالكسب وقد يجتمعان في الشخص فيقال ذو الفضائل والفواضل وتقدمت قط وتخفيفها
74

أفصح من تشديدها وهي لاستغراق ما مضى من الزمان وتختص بالنفي يقال
ما فعلتها قط وبعض العامة لا أفعله قط وهو ولحن واشتقاقه من قططت الشئ
أي قطعته فمعنى ما فعلته قط ما فعلته فيما انقطع من العمر لأن الماضي منقطع
عن الحال فيكون قوله دهرا تأكيدا والدهر هو الزمان كما قدمنا وتقدم
أيضا معنى النبي والرسول والانتحال افتعال قيل هو الادعاء الكذب وقيل المراد
به مرتبة الشرف وهذا حل مراد لا حل معنى لما في القاموس أنحله وتنحله ادعاه
لنفسه وهو لغيره ونحله القول كمنعه نسبه إليه انتهى فالمعنى ههنا أن الولي مهما
نسب إليه من الكرامات وإن عظمت لم يجز أن يدعي أن مرتبته تعدل مرتبة نبي
أو رسول وقيل معناه العطية يعني أنه مأخوذ من النحلة أي العطية لأن الكرامة
عطاء الله تعالى ثم اعلم أن كلام المص رحمه الله لا يخلو عن مسامحة لأن نفي التفضيل
يصدق بالمواساة ولا قائل به أيضا فكان الأولى تبديل كلمة يفضل بيعدل أو نحوها
أو أن يقول ومرتبة الولاية لا توازي لمرتبة النبوة في انتحال وقد يقال كان مراده
الرد على القائل بذلك فصرح به كما سنذكره الإعراب يفضل مجزوم بلم وولي
فاعله وقط ظرف زمان ودهرا منصوب على الظرفية أيضا والعامل فيهما يفضل
فهو من ذكر العام بعد الخاص ونبيا مفعول يفضل واو بمعنى الواو بمعنى بل
فتكون للإضراب لأن الولي إذا لم يفضل النبي لم يفضل الرسول بالأولى وهذا
بناء على ما في بعض النسخ من تقديم رسولا على نبيا فيكون المعنى لا يفضل
الولي رسولا بل ولا نبيا فضلا عن رسولا وأما على ما في أكثرها من تقديم
نبيا فيتعين أن تكون بمعنى الواو أو بمعنى ولا على ما قاله ابن مالك في وقوعها
في مثل ذلك وإن ردة ابن هشام أي لم يفضل الولي نبيا ولا رسولا وهذا مستقيم
على النسختين وفي انتحال متعلق بيفضل (وحاصل معنى البيت) إن الولي وإن
علت رتبته وعظمت كرامته لا يفضل نبيا ولا رسولا ولا يساوي ولا يبلغ
مرتبة أحدهما في زمن من الأزمنة أو لم يقع ذلك في جميع الدهر لأن الولي
إنسان صالح تابع لسنة الرسول ولا يصح أن يكون التابع أعلى من المتبوع أو
في رتبته وقد قال عليه السلام في حق أبي بكر رضي الله عنه ما طلعت الشمس ولا غربت
على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر،، فإن فيه دلالة صريحة على أن النبي أفضل
من أبي بكر مع أن أبا بكر أفضل من غير الأنبياء فيكون النبي أفضل من سائر الأولياء
75

بالضرورة وقد خالف في ذلك بعض الصوفية من أهل الإباحة فقال مرتبة الولي
الكامل من الكمل أفضل من النبي وهو كفر وزندقة فقد قال تعالى في حق الأنبياء
عليهم السلام وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، وكثير من الآيات شاهد على ذلك
واعلم أن من وصل إلى درجة الأولياء وارتفعت منزلته بحيث بلغ أقصى مراتب
الولاية لا يسقط عنه التكاليف والعبادات المفروضة كالصلاة والزكاة والحج
والصوم وحقوق العباد ومن زعم أن من صار وليا ووصل إلى الحقيقة تسقط
عنه أحكام الشرع فهو ملحد فاحذره كل الحذر فإن العبادات لم تسقط عن الأنبياء الذين
هم في أمان عن الانعزال فكيف تسقط عن الأولياء الذين ليسوا في أمان عن ذلك
على أن دعوى مثل ذلك لا يصدر عن ولي بحق لأنه لا يكون إلا عالما ما اتخذ الله
وليا جاهلا فدعوى مثل ذلك يدل على جهله وبعده عن الإسلام فضلا عن مرتبة
الولاية وأكثر ما يوجد هذا النوع في زماننا بالديار المصرية فإنهم يتوسلون
بترك العبادات وكشف العورات إلى قضاء الشهوات ويزعمون الولاية وهم
مكلفون والجهلة بهم يتبركون. ومنهم الدجالون وأكثر ما يوجدون بالديار الرومية
يدعون الكشف وعلم الغيب ويخبرون بما سيكون ليتوسلوا بذلك إلى السحت والقبول
عند الرؤساء وهم عندهم في أعلى المراتب والقبول ويصدقونهم فيما يزعمون وقد
قال عليه السلام من أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أو كما قال ولما أراد
علي رضي الله عنه لقاء الخوارج قال له مسافر بن عوف وكان يعمل بالنجوم يا أمير المؤمنين
لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات تمضي من النهار فإنك إن سرت في هذه
الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضرر وإن سرت في الساعة التي أمرتك
بها ظفرت وأصبت ما طلبت فقال علي رضي الله عنه ما كان ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لنا
من بعدة في كلام طويل يحتج فيه بآيات فمن صدقك فيما تقول لا أؤمن عليه أن
يكون كمن اتخذ لله تعالى ندا اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك
ثم قال نكذبك ونخالفك ونسير في هذه الساعة ثم أقبل الناس فقال أيها الناس
إنما المنجم كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار والله لئن بلغني أنك تنظر
في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ولأحرمنك العطاء ما كان
لي من سلطان ثم سار في الساعة التي نهاه عنها فلقى القوم وقتلهم وهي واقعة
النهروان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الناظم رحمه الله:
76

34 وللصديق رجحان جلي * على الأصحاب من غير احتمال
هذا شروع في بيان التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين والمراد بالصديق أبو بكر
رضي الله عنه لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم لتصديقه له في النبوة من غير تعلثم وفي المعراج بلا تردد واسمه
عبد الله وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة واسم أبيه عثمان وكنيته أبو قحافة
والمراد بالرجحان الزيادة في الفضيلة على سائر الصحابة رضي الله عنهم والجلي الظاهر ظهورا
بينا لا خفاء فيه والأصحاب جمع صحب وهو عند سيبويه اسم جمع لصاحب وجمع
له عند الأخفش وبه جزم الجوهري وفي القاموس صحبة كسمعه صحابة ويكسر وصحبه
عاشره وهم أصحاب وأصاحب وصحبان وصحاب وصحابة وصحب انتهى والصاحب
بمعنى الصحابي وهو من لقى النبي صلى الله عليه وسلم لا على وجه خرق العادة مؤمنان به ومات على
ذلك وإن لم يرو عنه شيئا ولم تطل صحبته وقوله من غير احتمال نفي لأن يكون
في ذلك قول آخر عند أهل السنة والجماعة الإعراب للصديق في محل رفع خبر
مقدم ورجحان مبتدأ مؤخر وعلى الأصحاب متعلق برجحان ومن غير احتمال
إما في محل رفع صفة أخرى لرجحان أو خبر مبتدأ محذوف أي وذلك من غير احتمال
أو صفة مؤكدة لجلي (وحاصل معنى البيت) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة
أجمعين باتفاق المسلمين وإذا كان أفضلهم كان أفضل جميع الناس بعد الأنبياء عليهم السلام
بالضرورة لثبوت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة قال تعالى ثاني اثنين إذ هما
في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه أي على أبي بكر
رضي الله عنه لأنه هو الذي خاف وقال عليه السلام ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل
من أبي بكر وقد تقدم. عن ابن عمر رضي الله عنهما كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمته
بعده أبو بكر ثم عم ثم عثمان زاد الطبراني فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره وروي
عن عمرو بن العاص قال للنبي صلى الله عليه وسلم من أحب النساء إليك يا رسول الله فقال عائشة
فقال ومن الرجال قال أبوها فمن قال إن أحدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من أبي بكر كان
معتزليا رافضيا ولا يرد النقض بعيسى عليه السلام حيث إنه سيأتي بعد نبينا لأنه وإن
كان تابعا لدين نبينا إلا أنه لا يقال له أمة في العرف ألا يرى أن لوطا كان تابعا لإبراهيم
وهارون لموسى عليهم السلام وليس أحدهما أمة للآخر ويلقب أبو بكر بالعتيق أيضا لقوله
عليه السلام من أراد أن ينظر إلى عتيق الله من النار فلينظر إلى أبي بكر ولد بمكة بعد الفيل
77

بسنتين ونحو أربعة أشهر وتولى الخلافة يوم الثلاثاء لثلاثة عشر خلت من ربيع
الأول وهو ثاني يوم مات فيه النبي صلى الله عليه وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة
أشهر وتسع ليال ومات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخر
رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة منقلبة ومثواه. قال الناظم رحمه الله:
35 وللفاروق رجحان وفضل * على عثمان ذي النورين عالي
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابن نفيل ابن عبد العزى بن رياح بكسر الراء وفتح
الياء المثناة بن عبد الله بن قرط بضم القاف بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي
العدوي القرشي يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب الأب الثامن وأمه ختمة بخاء فنون
فتاء فميم بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب
وكونها بنت هاشم هو الصحيح أسلم عمر رضي الله عنه سنة ست من النبوة وقيل سنة خمس
بعد أربعين رجلا وعشر نسوة كما قال سعيد بن المسيب أو بعد خمسة وأربعين
رجلا وإحدى عشرة امرأة كما قال عبد الله به ثعلب أو بعد تسعة وثلاثين رجلا
كما قال غيرهما وكان بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين
إليك بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب
روي أنه خرج متقلدا بسيفه فلقيه رجل من بني زهرة فقال له إلى أين تعمد
يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد
قتلت محمد فقال عمر ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي كنت عليه قال
أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وزوجها قد أسلما فمشى نحوهما مغضبا حتى
أتاهما وكان عندهما رجل يقال له خباب فلما أحس بعمر توارى في البيت
خوفا من عمر فدخل عليهما عمر وهم يقرؤون سورة طه فقال ما هذه الهيمنة التي
سمعتها عندكم قالا ما عدا حديثا تحدثنا بيننا قال لعلكما صبأتما فقال له ختنه
أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك فوثب عليه عمر فوطئه برجله وطئا
شديدا فدفعته أخته عن زوجها فضرب رأسها فأدماها فقالت وهي
غضبى كان ذلك على رغم أنفك: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمد رسول الله
فلما يئس عمر منهما قال أعطوني هذا الكتاب الذي تقرأونه فاقرأه وكان يقرأ
الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو فتوضأ فقام
78

فتوضأ ثم قرأ طه إلى قوله تعالى إنني أنا الله لا الله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكرى
وفي رواية سورة الحديد إلى قوله آمنوا بالله ورسوله فقال دلوني على محمد فلما
سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون
دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو
بعمرو بن هشام قال وأين رسول الله قال في الدار التي أسفل الصفا فانطلق حتى
أتى الدار وكان على الباب حمزة وطلحة وناس من الصحابة فلما رأى حمزة وجل
الوقم من عمر قال نعم هذا عمر فإن يرد الله بقمر خيرا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم وإن
يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم داخل الدار يوحى إليه فخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه فقال أما أنت
منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم
هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب فقال أشهد أنك رسول
الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد ثم قال يا رسول الله
السنا على ألحق إن متنا وإن حيينا قال بلى والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم
وإن حييتم قال عمر ففيم الاختفاء والذي بعثك بالحق لنخرجن فخرج في صفين
حمزة في أحدهما وعمر في الآخر حتى دخلوا المسجد فنظرت إليهم قريش وإلى حمزة
وإلى عمر فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فلقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ح بالفاروق
إما لأنه فرق الصحابة فرقتين أو لأنه فرق بين ألحق والباطل وصح أنه لما أسلم
نزل جبرائيل عليه السلام وقال يا محمد قد استبشر أهل السماء بإسلام عمر وأن المشركين
قالوا قد انتصف القوم اليوم منا وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي حسبك الله ومن
اتبعك من المؤمنين وهو أول من لقب بأمير المؤمنين وعد مناقبه يضيق عنها المقام
وقدمنا بعضا منها رضي الله وأرضاه ولي الخلافة عشر سنين وستة أشهر وخمس
ليال واستكمل سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي أول المحرم سنة أربع وعشرين طعنه
أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة المجوسي لعنه الله بالمدينة يوم الأربعاء لأربع
بقين من ذي الحجة سنة ثلث وعشرين من الهجرة ودفن رضي الله عنه يوم الأحد
وناحت عليه الجن روي أنه قال لولده عبد الله رضي الله عنه وعنه اذهب إلى أم المؤمنين عائشة
وقل لها يستأذن منك عمران يدفن مع صاحبه فذهب إليها فقالت كنت أريده تعني المكان
79

لنفسي ولأؤثرنه على نفسي فأتى عبد الله فقال له قد أذنت فحمد الله تعالى ثم دفن فيه
وهو ثالث الأقمار التي رأتهم عائشة رضي الله عنها نزلوا في حجرتها وإعراب البيت ظاهر
(وحاصل معنى البيت) أن عمر أفضل من عثمان بن عفان رضي الله عنهما وإذا فضل عثمان
كان أفضل سائر الصحابة بعد أبي بكر بالأولى فليس فوق عمر في الفضل سوى
أبو بكر فهما أفضل جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين إذ هما وزيرا النبي صلى الله عليه وسلم لقوله عليه السلام
إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال الناظم رحمه الله
36 وذو النورين حقا كان خيرا * من الكرار في صف القتال،
المراد بذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه لقب بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه
بنتيه: رقية ثم بعد موتها زوجه بنته أم كلثوم وبعد موتها قال له لو كان لي غيرهما
لزوجتكها تولى الخلافة اثنتي عشرة سنة إلا اثنتي عشرة ليلة قتل يوم الجمعة
لثمانية عشر خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلثين وهو ابن تسعين سنة
وكان استشهاده في الدار وبين يديه المصحف فنضح الدم على هذه الآية: فسيكفيكهم
الله وهو السميع العليم وتمام قصته مذكور في السير وصلى عليه الزبير رضي الله عنه بوصيته
إليه ودفن بالبقيع وهو أول من دفن فيه وكان رضي الله عنه أشبه الناس بالنبي
صلى الله عليه وسلم خرج ابن عدي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته
أم كلثوم بعثمان قال لها إن بعلك أشبه الناس بجدك إبراهيم وأبيك محمد
عليهما الصلاة والسلام الإعراب الواو عاطفة جملة على جملة ذو النورين مرفوع بالواو
مبتدأ وهو أظهر مما في بعض النسخ من جره بالياء عطفا على الفاروق لأنه
يكون خبرا وليس في الكلام ما يصلح مبتدأ ويصير الكلام منفكا كما لا يخفى على
المتأمل وحقا مفعول مطلق أي أحق ذلك وقد تقدم من تأخير وكونه قسما
كما قيل غير ظاهر من التركيب وكان ناقصة اسمها مستتر يرجع إلى ذو النورين
وخيرا خبرها والجملة خبر المبتدء ومن الكرار متعلق بخيرا وجملة في صف القتال
متعلق بالكرار أو في محل نصب حال من الضمير المستتر فيه (وحاصل معنى البيت)
إنه ثبت بالسنة والإجماع ثبوتا قطعيا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قال في حقه النبي
صلى الله عليه وسلم لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي في الجنة عثمان بن عفان أفضل من علي
الموصوف بالحيدر الكرار في صف القتال الذي لم يقع له نعت الفرار لا بالاختيار ولا بالاضطرار لثبات
80

قلبه على القرار وصدق صحبته ومجاهدته مع النبي المختار وإليه أشار الناظم رحمه الله
37 وللكرار فضل بعد هذا * على الأغيار طرا لا تبالي
لقب علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه بالكرار لما قدمنا وقوله بعدا هذا إشارة إما إلى ما ذكر من ترتيب
تفضيل الثلاثة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فيستفاد منه تفضيلهم عليه مقابلة أو إشارة إلى
عثمان فيستفاد تفضيل الأولين عليه بطريق الأولوية لأنه إذا فضله المفضول
فضله الأفضل بالأولى وعلى كل فتفضيلهم عليه قد علم مما تقدم أنه كرر ذكر تفضيل
عثمان عليه ردا لما سنذكره من الخلاف فالأظهر أن الإشارة إلى عثمان أقرب مذكور
والأغيار جمع غير والمراد بهم بقية الصحابة أو جميع الأمة بعد الثلاثة المذكورين
لا يقال يتعين إرادة الأول لأن أغيارا جمع قلة فيحمل على الأول فإنا نقول استعماله
في الكثرة شايع ذايع وعلى آل الجنسية تبطل إرادة الجمعية بالكلية الإعراب للكرار خبر
مقدم على المبتدأ وهو فضل وبعد منصوب على الظرفية متعلق بكائن مضاف وهذا في
محل جر مضاف إليه على الأغيار متعلق بفضل أو بما تعلق به الظروف الأول وكل منهما
في محل رفع صفة بعد صفة لفضل وطرا بمعنى جميعا حال من الأغيار لا تبال لا نافية
تبال مجزوم بها بحذف الياء والياء الموجودة للإشباع (وحاصل معنى البيت) أن عليا رضي الله عنه
وكرم الله وجهه بعد هؤلاء الثلاثة أفضل جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بقية الصحابة
وغيرهم فعليك بالتمسك بهذا القول فإنه مذهب أهل السنة والجماعة ولا تبال بقول
من خالف في ذلك من الشيعة وكثير من المعتزلة القائلين بتفضيل علي على الصديق
وقول بعض أهل السنة منهم سفيان الثوري بتفضيله على عثمان وما نقل عن مالك
من أنه توقف بينهما فقد حكى الإمام القاضي أبو الفضل عياض أن مالكا رجع إلى
قول الأكثر الذي استقر عليه مذهب أهل السنة ولا يرد السؤال بأنهم كيف فضلوا عليا وهو
أقربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبا وصهرا لأن ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء
على أن ذلك لا يقدح في كمال مرتبته كيف وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت
أخي في الدنيا والآخرة ويدل لأفضليتهم على هذا الترتيب خلافتهم كذلك كما أشار إليه صاحب
الجوهرة بقوله وأمرهم في الفضل كالخلافة * والأدلة من السنة على ذلك كثيرة تظافر
دلالة مجموعها حتى تظهر لمن اطلع عليها كفلق الصبح وبعلي رضي الله عنه ختمت الخلافة الثابتة للأربعة
بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب في تلك المدة ووقع على ذلك الترتيب
81

الإجماع وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتمعوا يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم
في سقيفة بني ساعدة واستقر رأيهم بعد المشاورة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فأجمعوا على ذلك
وبايعه علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه على رؤس الإشهاد ولو لم تكن الخلافة حق له لما اتفق عليه
الصحابة ولنازع علي رضي الله عنه كما نازع معاوية رضي الله عنه ولأحتج عليهم لو كان في حقه
نص كما زعمه الشيعة وكيف يتصور في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الاتفاق على
الباطل وترك العمل بالنص الوارد ثم إن أبا بكر رضي الله عنه لما آيس من حياته دعى عثمان وأملى عليه
كتاب عهده لعمر فلما كتب ختم الصحيفة وأخرجها إلى الناس وأمرهم بأن يبايعوا لمن
في الصحيفة فبايعوه حتى مرت بعلي فقال بايعنا لمن بها وأن كان عمر فوقع الاتفاق
على خلافته ثم استشهد وترك الخلافة شورى بين الستة عثمان وعلي وعبد الرحمن بن
عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ثم فوض الأمر خمستهم إلى عبد الرحمن بن عوف ورضوا بحكمه فاختار عثمان وبايعه بمحضر من الصحابة فبايعوه
وانقادوا إلى أمره وصلوا معه الجمع والأعياد فكان إجماعا ثم استشهد عثمان رضي الله عنه وترك الأمر مهملا
فاجتمع كبار المهاجرين والأنصار على علي كرم الله وجهه لما كان أفضل عصره وأولاهم
بالخلافة وما وقع من المخالفات والمحاورات لم يكن عن نزاع في خلافته بل عن
خطأ في الاجتهاد وما وقع من الاختلافات بين الشيعة وأهل السنة في هذه المسألة
وادعاء كل من الفريقين النص في باب الإمامة وإيراد الأسئلة والأجوبة من
الجانبين فمذكور في المطولات ثم كانت مدة خلافة الأربعة ثلاثين سنة كما أخبر
به عليه الصلاة والسلام الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا،، أي الخلافة الكاملة التي لا يشوبها
من المخالفات فلا يرد أنه أتى بعدهم خلفا ء راشدون كعمر بن عبد العزيز أسلم علي رضي الله عنه وكرم وجهه
وعمره سبع سنين حين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة بعد عثمان
خمس سنين إلا ثلاثة أشهر قيل أول من أسلم ولذلك كان يفتخر بذلك وفيه يقول:
سبقتكم إلى الإسلام طررا * صبيا ما بلغت أوان حلمي * وسبقتكم إلى الإيمان قهرا * بقوة صارمي ووان عزمي
وبهذا استدل أصحابنا على صحة إسلام الصبي العاقل وصحة ارتداده وقيل إن أول
من أسلم أبو بكر رضي الله عنه وقيل خديجة رضي الله عنها وقيل زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال المحققون
توفيقا بين الأقوال والأورع أن يقال إن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر
رضي الله عنه ومن الصبيان علي رضي الله عنه ومن النساء خديجة رضي الله عنها ومن الموالي زيد بن حارثة
رضي الله عنه ومن العبيد بلال رضي الله عنه وعنهم أجمعين ولم يسجد علي رضي الله عنه لصنم قط ولهذا يقال كرم الله وجهه
82

قال الثوري نقولا عنه آثارا كثيرة تدل على أنه علم السنة والشهر والليلة التي يقتل
فيها وأنه لما خرج إلى صلاة الصبح صاحت الرواقي أي الديوك في وجهه فقال
دعوهن فإنهن نوايح وروي أنه جاء إليه رجل من مراد وهو يصلي في المسجد
فقال له احترس فإن أناسا من مراد يريدون قتلك فقال إن مع كل رجل ملكين
يحفظانه مما لم يقدر عليه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه فإن الأجل حصينة
ضربة عبد الرحمن المرادي بن ملجم بسيف مسموم في جبهته فأوصله إلى دماغه
ليلة الجمعة وتوفي ليلة الأحد التاسع أو سابع عشر من رمضان سنة أربعين
ثم بعد الأربعة الخلفاء رضي الله عنهم في الفضل بقية العشرة المشهود لهم بالجنة والإجماع
على ذلك روى أصحاب السنن وصححه الترمذي عن سعيد رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال عشرة في الجنة أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة
والزبير في الجنة وطلحة في الجنة وعبد الرحمن في الجنة وأبو عبيدة في الجنة وسعد
بن أبي وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة ولم يرد صريح تفضيل بين هؤلاء
الستة وممن شهد له بالجنة فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم لما في الحديث الصحيح
أن فاطمة أسعد النساء وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم أهل بدر
وفي الحديث الصحيح لعل الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد
غفرت لكم ويليهم أهل أحد الذين شهدوا وقعتها ويليهم أهل بيعة الرضوان
قال عليه السلام لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة رواه أبو داود ونقل أبو منصور
التميمي الإجماع على هذا الترتيب وهذا باعتبار من حضر إحدى الغزوات دون
غيرها وإلا فقد يكون أحديا بدريا مثلا فافهم ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم
أفضل من غيرهم من بقية الأمة قال عليه السلام لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق
أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه رواه مسلم فباقي الأمة أفضل
من سائر الأمم قال تعالى كنتم خيرا أمة أخرجت للناس، وذلك مع اختلاف مراتبهم
باختلاف أوصافهم وأعمالهم فمنهم العالم والعابد والتالي والسابق والمقتصد
والظالم لنفسه وقد قال بعض العلماء: من الدين تفضيل الشيخين يعني أبا بكر وعمر
وحب الختنين يعني عثمان وعليا لأن الختن هو الصهر ومن جعلهما الحسن
والحسين فقد غلط كما نبه عليه غير واحد وأن يرى المسح على الخفين ويعتقد أن
أبا حنيفة إمامنا ومالكا والشافعي وأحمد وسائر أئمة أهل السنة على هدى من ربهم
83

في العقائد وغيرها ولا التفات لمن تكلم بما هم بريئون عنه قال الناظم رحمه الله
38 وللصديقة الرجحان فاعلم * على الزهراء في بعض الخصال
يعني أن الصديقة أي عائشة أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعنها
زوجة النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة على ما سنبينه أفضل من فاطمة الزهراء بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم في بعض الخصال لا مطلقا وأفضل نساء العالمين مطلقا وأحب النساء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمهن بالسنة قال عليه السلام خذوا شطر دينكم عن هذه الحمير أو قال
عليه السلام كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة
فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الأطعمة وروي عن أبي
موسى أنه قال ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديث فسألنا عنه عائشة
إلا وجدنا عندها منه علما وتكنى بأم عبد الله كناها به النبي صلى الله عليه وسلم باسم ابن أختها
عبد الله بن الزبير لما سألته في ذلك تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين
وقيل بثلاثة وقيل بنحو ثمانية عشر شهرا وهي بنت ست سنين وبنا بها في المدينة
في شوال منصرفة من بدر وهي بنت تسع سنين وبقيت عنده تسع سنين روي
أنه عليه السلام لما خطبها من أبيها أبي بكر قال يا رسول الله إنها صغيرة لا تصلح لك ولكن
أنا أرسلها فإن كانت تصلح فمن السعادة الكاملة قال عليه السلام إن جبرئيل أتاني بصورتها
على ورقة من الجنة وقال إن الله تعالى زوجك بهذه ثم ذهب أبو بكر رضي الله عنه
إلى
منزله وملأ طبقا من تمر وغطاه وقال يا عائشة اذهبي بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقولي له هذا الذي ذكرته لأبي بكر فإن كان يصلح فبارك عليك فمضت إليه عائشة
رضي الله عنها بالطبق وهي تظن أن أبا بكر يعني التمر فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغته
فقال قبلنا يا عائشة قبلنا وجذب طرف ثوبي قالت فنظرت إليه مغضبة ودخلت
على أبي بكر فأخبرته بما وقع فقال يا بني لا تظنين برسول الله صلى الله عليه وسلم ظن سوء إن
الله تعالى قد زوجك به وإني قد زوجتك منه قالت عائشة فما فرحت بشئ أشد
من فرحي بقول أبي قد زوجتك منه والصحيح إنها لم تلد قط وذكر السهيلي في الروض
أنها ألقت سقطا ولم يثبت ذلك وذكر النووي في التفضيل بينها وبين خديجة أوجها
ثالثها الوقف واختار السبكي تفضيل خديجة ثم عائشة ثم حفصة ثم الباقيات من أزواجه
صلى الله عليه وسلم ولم يتعرض له المص وأراد بالزهراء فاطمة رضي الله عنها كما قدمنا لقبت بالزهراء قيل لأنها
84

لم تحض قط وروي أنها ولدت وقت غروب الشفق فطهرت من النفاس في ليلتها واغتسلت
وصلت العشاء في وقتها قيل سبب عدم حيضها أنه عليه السلام دخل
الجنة ليلة المعراج أعطاه رضوان تفاحة فلما أكلها تقوى وتفرقت القوة في
جميع أعضائه فجامع خديجة فحملت بفاطمة وفيه نظر ظاهر وكان لها نور
يضئ حتى روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول كنت أسلك الخيط في سم الخياط
في الليلة المظلمة من نور وجه فاطمة فلذلك لقبت بالزهراء وعن أبي جعفر الاستروشيني
وبعض الأئمة أنها أفضل من عائشة لأن درجة عائشة إنما ارتفعت تبعا للنبي
صلى الله عليه وسلم بالزوجية ودرجة فاطمة أصلية بالجزئية وأكثر الأئمة قالوا إن عائشة
رضي الله عنها أفضل لأن درجتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة وفاطمة رضي الله عنها مع علي في الجنة وفرق
بين المقامين وقال القاسم بن محمد إن عائشة استقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعمر
وعثمان فمن بعدهم ولم يحصل لغيرها من النساء هذه المرتبة وقيل التفضيل بينهما بالاعتبار
فعائشة أفضل من جهة العلم وفاطمة من جهة البضعية وإلى هذا يشير كلام المصنف
بقوله في بعض الخصال وهو الراجح وقال بعضهم لا نقول بالترجيح بل نقول كانت
عائشة رضي الله عنها أفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وفاطمة رضي الله عنها أفضل بناته
وقال الشراح والذي أشار إليه المص في البيت هو الصحيح دفنت عائشة رضي الله عنها
بالبقيع سنة سبع أو ثمان وسبعين وعاشت ستا وستين سنة وصلى عليها أبو
هريرة رضي الله عنه وروي لها ألف حديث وعشرة اتفق البخاري ومسلم منها على مئة
وأربعة وسبعين وانفرد البخاري بأربعة وسبعين ومسلم بثمانية وستين وأما
فاطمة رضي الله عنها فروي لها ثمانية عشر حديثا الإعراب للصديقة خبر مقدم
الرجحان مبتدأ مؤخر على الزهراء متعلق بالرجحان وقوله فاعلم معترض بينهما
وفي بعض الخصال متعلق بالرجحان أيضا أو في محل نصب حال منه نظرا للفضه قال الناظم رح
39 ولم يلعن يزيدا بعد موت * سوى المكثار في الإغراء غال
وجه مناسبة إيراد هذا البيت ههنا أنه كما يجب التفضيل والتعظيم للصحابة رضي الله عنهم
وكذلك للتابعين رضي الله عنهم أجمعين يجب الكف عن التكلم في حقهم بما لا يليق وما وقع
بينهم من التشاجر وما وقع من بعضهم من السقطات وخص يزيد بالذكر لرد الخلاف
في جواز لعنه وليفيد أن التكلم في حق غيره من الصحابة والتابعين ممن لم يقع منه ما وقع
85

من يزيد من قبيح الأفعال لا يجوز بالأولى واللعن الطرد والإبعاد واصطلاحا
يحتمل معنيين الأول البعد عن رحمة الله تعالى وهو مراد المص وهذا لا يجوز إلا في حق
من قطع بموته على الكفر أو يئس من توبته كإبليس والثاني البعد عن مقام الأبرار
ودرجات الأخيار وهو محمل ما ورد من لعن نحو الفاسق والظالم وآكل الربا المسلم
ونحوهم كما سيأتي ويزيد هو ابن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عن أبيه وجده والمكثار
مفعال وهو كثير اللغو في ما لا يعني قيل أراد بهم الروافض والمعتزلة والإغراء بكسر
الهمزة والمد الإفساد والتحريض عليه وغال بالغين المعجمة اسم فاعل من الغلو وهو المبالغة
في التعصب الإعراب يلعن مجزوم بلم ويزيد مفعوله وصرفه للضرورة وبعد موت في محل
نصب حال من يزيد وحذف الضمير الرابط للضرورة أي حال كونه ميتا ولو ذكره
ووقف عليه بالسكون لاستقام أيضا وقيل تنوينه عوض عن الضمير وسوى أداة
استثناء مفرع في محل رفع فاعل لم يلعن مضاف إلى المكثار في الإغراء جار ومجرور
إما متعلق بالمكثار وغال صفة لأنه في معنى النكرة أو بدل منه ومعمول غال محذوف
دل عليه ما قبله أي غال في الإغراء وإما متعلق بغال قدم عليه وغال بدل من المكثار
أو حال منه ووقف عليه بالسكون أي حال كونه غاليا في الإغراء (وحاصل معنى البيت)
لم يلعن يزيدا ميتا وكذا حيا بالأولى إلا كل باغ مفتر كثير اللغو مخالف لأهل السنة والجماعة
أو لما عليه الجمهور منهم فاحترز أيها العاقل عن شمته واكفف عن لعنه فإنك لست
مكلفا بذلك ولا مسؤولا عنه في الآخرة وما قاله الروافض والخوارج وبعض
المعتزلة وذهب إليه التفتازاني من جواز لعنه لرضاه بقتل الحسين واستبشاره
به وإهانة أهل بيت النبوة وقوله: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
وأن ذلك يؤذن بكفره إذ معناه أنه يتمنى لو وجد كفار قريش الذين قتلوا ببدر كأبي
جهل فيروا إهانته لأهل المدينة وفعله ببيت النبوة فمردود فقد نقل في التمهيد أن
يزيد لم يأمر بقتل الحسين رضي الله عنه وإنما أمرهم بطلب البيعة منه أو بأخذه وحمله إليه حيا
فهم قتلوه من غير حكمه وكان ذلك من عبيد الله بن زياد حيث جيش عليه الجيوش
من الكوفة فلاقوه في كربلا فقتلوه والقصة مذكورة في المطولات على أن الأمر بقتل
الحسين بل نفس قتل غير الأنبياء مباشرة من غير استحلال لا يوجب جزاء اللعن
على مقتضى أهل السنة إذ غاية الأمر أنه إذا لم يستحله يكون بذلك فاسقا لا كافرا
ولا يجوز لعن الفاسق المؤمن بل ولا الكافر الحي بعينه لاحتمال موته مؤمنا ما لم يتحقق
86

موته على الكفر وبغير عينه يجوز كقوله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين وقوله عليه السلام
لعن الله آكل الربا وموكله الحديث ونحو ذلك ومن المحقق أن يزيد لم يخرج
عن كونه من المصلين وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لعن المصلين وقد توسع
بعضهم وقالوا نحن لا نتوقف في لعنه لما صدر منه وقال السعد التفتازاني على
العقائد رحمه الله واختلفوا في لعن يزيد بن معاوية فذكر في الخلاصة وغيرها أنه
لا ينبغي اللعن عليه ولا على الحجاج لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لعن المصلين ومن
كان مه أهل القبلة وما نقل من لعن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض من أهل القبلة فلما أنه
يعلم من أحوال الناس ما لم يعلمه غيره وبعضهم أطلقوا اللعن عليه لما أنه كفر حين
أمر بقتل الحسين رضي الله عنه واتفقوا على جواز اللعن على من قتله أو أمر به أو أجازه أو رضي به
والحق إن رضا يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت النبوة
مما تواتر معناه وإن كان تفاصيلها آحادا فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه
لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه انتهى فتدبر ونقل علي قاري رحمه الله الباري أيضا
عن بعض العراقيين لعنة لما أنه كفر بما استحل من محارم الله بفعله في أهل البيت
ثم قال ولا يخفى أن الاستحلال أمر قلبي غائب عن ظاهر الحال ولو فرض وجوده
أو لا يحتمل أنه مات تائبا آخرا فلا يجوز لعنه باطنا ولا ظاهرا انتهى والحاصل
إن الظاهر من كلامهم أن الاختلاف في جواز لعنه مبني على أنه هل كفر بذلك
حيث ثبت صدوره منه أو لا وذلك مبني على أنه هل استباح ذلك أم لا ولم
يظهر لنا حقيقة الحال فأولى لنا السكوت عن شأنه فإنه أسلم وأورع على أنا لم
نكلف بلعنه ولا نسأل بتركه في الآخرة فلا يضرنا السكوت عنه مع أن لعنه
يوجب السؤال وإن لم يكن فيه نكال غاية الأمر أنه يجب علينا الإنكار ما وقع
منه من قبيح الأفعال لأنه مسبب على كل حال والله أعلم بحقيقة الحال.
تتمة يجب الكف عما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ونعتقد أن الكل مأجورون
إذا الطعن فيهم إن كان مما يخالف الدليل القطعي كقذف عائشة رضي الله عنها أو سب
أحد الشيخين فهو كفر وإلا ففسق واعتزال ما لم يكن من الطاعن عن اجتهاد
ممكن فجائز منه كقول علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه في حق معاوية رضي الله عنه وأهل الشام إنهم
إخواننا بغو علينا وفي الجملة لم ينقل عن أحد من السلف المعتبرين جواز التكلم في حق
معاوية وأمثاله لأنهم كانوا مجتهدين والمجتهد مأجور وإن أخطأ ولم يسلم إن أمرهم
87

لم يكن عن اجتهاد فغاية أمرهم البغي والخروج على الإمام وهو فسق والفسق عند
أهل السنة لا يخرج عن الإيمان كما قدمنا والله تعالى أعلم وأحكم. قال الناظم رحمه الله تعالى
40 وإيمان المقلد ذو اعتبار * بأنواع الدلائل كالنصال
المقلد اسم فاعل من التقليد وهو قبول قول الغير بلا استدلال والمراد به ههنا العقد
الجازم بما يأتي به الشرع من العقائد بدون استدلال ونظر بل آخذا من الغير
فيكفي في صحة الإيمان ممن لم يكن أهلا للنظر والاستدلال التلفظ بالشهادتين المبني
على العقد الجازم ويقاس غير الإيمان من التكاليف عليه وأراد بالاعتبار الاعتداد
بالشئ والأنواع جمع نوع وهو المقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة
حقيقيا كان أو إضافيا والمراد بها ههنا العقل والنقل وفعله صلى الله عليه وسلم والإجماع فجعل
كلا منها نوعا والدلائل جمع دليل وهو عند الأصوليين ما يمكن التوصل بصحيح النظر
فيه إلى العلم بمطلوب خبري فهو عندهم ما يستدل بوقوعه أي بشئ من حالاته على
وقوع غيره وهو المناسب ههنا وعند غيرهم هو الذي يلزم من العلم به العلم بشئ
آخر وهو المدلول فالعالم عند الأصوليين دليل على إثبات الصانع وعند غيرهم
ما ينتجه الحكم عليه من القضايا كالعالم حادث وكل حادث له صانع وهذا ظاهر
كلام بعض المحققين من الأصوليين فإنهم لا يطلقون الدليل على القضايا بل على
المفردات فقط ولم نظفر بتصريحهم بذلك بل كلامهم عام كما علم في محله والنصال
جمع نصل وهو حديدة السيف والسهم ونحوهما أي الدلائل القطعية الإعراب
الواو عاطفة قصة على قصة أو استينافية وإيمان مبتدأ مضاف والمقلد مضاف
إليه وذو مرفوع على الخبرية مضاف إلى اعتبار وبأنواع متعلق بمقدر أي ثابت
أو ثبت ذلك بأنواع الدلائل ولا يصح تعلقه باعتبار كما لا يخفى على أهل الاعتبار
وقيل متعلق بالمقلد أي يكتفي بإيمان من قلد بالدلائل القطعية قيل فيه نظر لأنه
يكون ناظرا لا مقلدا يعني إذا أريد بالدلائل مصنوعاته تعالى أما إذا أريد بها ما قدمنا
فلا مانع وقوله كالنصال في محل النصب حال من أنواع الدلائل أو في محل الجر صفة
للدلائل أي المماثلة للنصال (وحاصل معنى البيت) أن إيمان المقلد معتبر عند
الأكثر ثبت ذلك بأدلة قطعية كالنصال القاطعة واضحة لا شبهة فيها أو في صحة تقليده
بها كقوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكان عليه السلام
88

يكتفي في إيمان الأعراب الخالين عن النظر بمجرد التلفظ بكلمتي الشهادة وكذلك
الصحابة من بعده قال الشارح الحنفي قال أبو حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي
رضوان الله عليهم أجمعين إيمان المقلد صحيح ولكنه عاص بترك الاستدلال عليه
وهذا مذهب أهل السنة وقالت المعتزلة إيمان المقلد ليس بصحيح إذ لا معرفة له
والإيمان هو المعرفة فهو لا مؤمن ولا كافر وحكم أو هاشم من رؤسائهم بكفره
وهو مردود بما قدمنا والصحيح ما عليه أهل العلم واللغة من أن الإيمان هو التصديق
مطلقا فإذا أخبر المقلد بما يجب عليه الإيمان به فأذعن له وانقاد إليه كان مؤمنا
ويدل على صحته أيضا قوله عليه السلام حين سئله جبريل عن الإيمان: أن تؤمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فإنه عليه السلام ما أجاب إلا
بمجرد التصديق وهو حاصل في المقلد والجواب عن شبهتهم أن المعرفة غير الإيمان
بدليل انفكاكه عنها فإن أهل الكتاب يعرفون الله كما يعرفون أبنائهم ولكن لا يصدقون
كما نطق به القرآن وهذا إنما هو في حق من نشأ على شاهق جبل ولم يبق له التفكر
في العالم ولا في الصانع حتى أخبر بذلك فصدقه وأما من نشأ في بلاد مسلمين وسبح
الله تعالى عند رؤيته صنعا من صنايعه فهو خارج عن التقليد خصوصا بعد انتشار
الدين ووضوح البراهين حتى أن الصبي المميز إذا تأمل في هذا الملكوت علم أن صانعه
واحد أحد فرد صمد مستحق لجميع العبادات ثم اعلم أن الإيمان هو التصديق
بجميع ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله بالقلب مع القبول والانقياد واختلف في النطق
به فقيل شطر واختاره بعض أئمتنا الحنفية كشمس الأئمة وفخر الإسلام البزدوي
رحمهم الله حيث ذهبوا إلى أنه التصديق بالقلب فقط والإقرار شرط لإجراء
أحكام الإسلام في الدنيا فمن صدق بجنانه حق التصديق بما قدمنا وانقاد إليه
كان مؤمنا عند الله تعالى وإن لم يتلفظ بلسانه غير معاند وعلى الأول لا يكون مؤمنا
قال شيخنا وخلاصة الكلام إن إيمان المقلد صحيح عند الأئمة الأربعة رحمهم الله وكان
عاصيا بترك الاستدلال على أنه قل لنا يرى مقلد في الإيمان بالله تعالى إذ المعتبر في الاستدلال
على ذلك الاستدلال والنظر على طريق العامة كالاستدلال بحدوث الحوادث
على وجوده تعالى وعلى صفاته من العلم والإرادة والقدرة وغيرها وكلام
العوام في الأسواق محشوة بذلك والله أعلم بالصواب. قال الناظم رحمه الله تعالى
89

41 وما عذر لذي عقل بجهل * بخلاق الأسافل والأعالي
العذر ما يسقط معه اعتبار الحكم وإن أمكن إيجاده بكلفة فهو أعم من المانع إذ
المانع ما يلزم من وجوده انعدام الحكم بالكلية فالمريض قد يمكنه التكلف للصوم
بخلاف الحائض والعقل في الأصل الحبس ومنه عقال البعير ثم نقل وسمي به الإدراك
الإنساني لأنه يحبس صاحبه عما يستقبح ويعقله بما يستحسن ثم سمي به القوة النظرية
التي يدرك بها النفس هذا الإدراك وهو معنى قولهم غريزة يتبعها العلم
بالضروريات عند سلامة الآلات وقول بعضهم هو نور في القلب يفيد الإدراك
وذلك النور يقل ويكثر فإذا قوي قمع ملاحظة الهوى مبني على أن العقل عرض وهو
التحقيق وما قيل من أنه جوهر تدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات
بالمشاهدة فمبني على أنه هو النفس لأنه عند جمهور المتكلمين جوهر جسماني لطيف
سار في البدن وعند جماعة منهم الغزالي رحمه الله إلى أنها جوهر مجرد أي ليس جسما
ولا قوة جسمانية حالة في البدن وإنما اتصالها بالجسم اتصال كاتصال حكم حاكم
بمصر في الشام يديرها وهو غير حال فيها وهو قول الفلاسفة وذهب كثير من
المتكلمين إلى أنها عرض والحق أن العقل والنفس متغايران لغة وعرفا وأن الإمساك
عن الخوض في العقل أحوط كالخوض في الروح بناء على تغايرهما وهو الراجح كما أشار إليه
صاحب الجوهرة بقوله: ولا تخض في الروح إذ ما وردا * نص عن الشارع لكن وجدوا
لمالك هي صورة كالجسد * فحسبك النص بهذا السند
والعقل كالروح ولكن قرروا * فيها خلافا فانظرن ما فسروا
وقد ذكرنا بعض ما فسروا وهو من أشرف المواهب الإلهية كما قيل:
لم يهب الله لامرئ هبة * أحسن من عقله ومن أدبه
هما حياة الفتى فإن فقدا * من الفتى فالموت أليق به
ثم الحاصل من نظر العقل نوعان ضروري يحصل بأول النظر من غير تفكر كالعلم
بأن الكل أعظم من جزئه واستدلالي يحتاج فيه إلى نوع تفكر كالعلم بوجود
النار عند رؤية الدخان واختلف في محله من الإنسان فقيل الدماغ ونوره
في القلب حتى يدرك به الغايات وكماله أن ينجي صاحبه من ملامة الدنيا وندامة
الآخرة وقيل محله القلب وإشراقه يضرب إلى الدماغ وسئل علي رضي الله عنه عن محله فقال القلب
90

وإشراقه إلى الدماغ واختلف هل للكافر عقل فقيل لا يعطى الكافر لأنه ينافي
الشرك بالله تعالى ولو كان له عقل لآمن وإنما يعطى الذهن واستدلوا بقوله تعالى
وقالوا لو كنا نسمه أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وهذا موافق لقول من قال
إن العقل هو العلم والجمهور على أنه يعطاه وحملوا العقل في الآية على النافع
إذا العقل إذا لم يفد فائدته ينزل منزلة العدم ولأن الشرك نوع من الجهل
والجهل يجامع العقل ولأنه يلزم عدم خطابه وتكليفه بالإيمان وعرفوا الجهل
بأنه معرفة للمعلوم على خلاف ما هو به وقيل انتفاء العلم بالمقصود وهو الأظهر لشموله
قسميه: البسيط والمركب وأراد بالأسافل والأعالي الأرضين والسماوات وما فيهما
وما بينهما وما سوى ذلك مما تسافل الإعراب ما بمعنى ليس عذر اسمها وذو بمعنى
صاحب مجرور باللام مضاف إلى عقل في محل نصب خبر ما وبجهل متعلق بعذر
والياء فيه سببية وبخلاق متعلق بجهل والأسافل مجرور بإضافة خلاق إليه والأعالي
عطف عليه (وحاصل معنى البيت) أنه لا عذر للعاقل البالغ في جهله بخالقه مع ما
يرى من وصول نعمته وعظيم قدرته من خلق السماوات والأرض وما في خلق
نفسه وإنشائه من العدم وخلق هذا العالم وتكوينه وانتظامه قال تعالى أولم ينظروا
في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فإن في
كل منها للمتأمل دلالة واضحة على وحدانية خالقها كما قيل: وفي كل شئ له آية
تدل على أنه واحد،، وقال المحققون لم يبعث الله الرسل إلا للتوحيد لا لإثبات وجود
الصانع كما يعشر به قوله تعالى قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض
فالكفار كلهم لم يكونوا شاكين في وجود الصانع وإنما كفروا بالقول بتعدد الآلهة
وقال الأشعرية لا عبرة للعقل بدون السمع حتى قالوا إن من اعتقد الشرك ولم تبلغه
الدعوة فهو معذور وحاصله أن أهل القبلة كلهم اتفقوا على حرمة الكفر ووجوب
الإيمان وإنما اختلفوا في أنه هل يكفي في وجود الإيمان العقل فقط أو لا بد من السمع
فمن نشأ بعيدا من المسلمين ولم تبلغه الدعوة وهو بالغ عاقل هل يجب عليه المعرفة
والإيمان بربه بدون تبليغ أم لا وإذا لم يؤمن هل يخلد في النار أم لا فيه خلاف
بين أصحابنا الحنفية أيضا فعن بعضهم نعم وهو مروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه
قال ولو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم وقال أبو اليسر البزدوي لا يجب
91

عليه ويعذر ولا يكفي مجرد العقل بدون السمع وبه قالت الأشعرية ومنهم من قال
بوجوبه إلا أنه لا يعذب به كما هو رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه بل يكون عاصيا
لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا والأولون حملوا نفي العذاب على عذاب
الاستئصال في الدنيا لا على العذاب في العقبى وبعضهم جعل الرسول ما يشمل العقل
أيضا وفيه بعد وملخص كلام الشيخ النسفي في أصوله حيث قال العقل معتبر لإثبات
الأهلية وأنه خلق متفاوتا وقال بعض الأشعرية لا عبرة للعقل أصلا دون السمع
وإذا جاء السمع فله العبرة دون العقل وقالت المعتزلة العقل علة موجبة لما استحسنه
محرمة لما استقبحه على القطع فوق العلل الشرعية وقالوا لا عذر لمن عقل في الوقف
وترك الإيمان والصبي العاقل مكلف بالإيمان ومن لم تبلغه الدعوة إذا لم يعتقد
إيمانا ولا كفرا كان من أهل النار ونحن نقول في الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف
بمجرد العقل فإذا لم يعتقد إيمانا ولا كفرا كان معذورا فإذا أعانه الله تعالى بالتجربة
وأمهله لدرك العواقب لم يكن معذورا وإن لم تبلغه الدعوة كان معذور ولا
يصح إيمان الصبي العاقل عندهم وعندنا يصح وإن لم يكن مكلفا به انتهى قال بعضهم
ومن هنا نشأ الخلاف في أهل الفترة هل يعذبون أم لا والصبي العاقل إذا كان بحال
يمكنه الاستدلال هل يجب عليه المعرفة قال كثير من مشايخ العراق يجب وإليه يشير
ظاهر كلام المص رحمه الله بقوله لذي عقل إلا أن يكون مراده به الاحتراز عن المجنون
وقال بعضهم لا يجب عليه شئ قبل البلوغ وهو الظاهر ولذا لو ارتد ح لا يقتل
وبالاتفاق إنه لا يعاقب على ترك العبادات وإن أمر بها تخلقا وأما إسلامه وارتداده
فصحيح عندنا والصبي الذي لا يعقل لا يخاطب بشئ أصلا اتفاقا قال الناظم رحمه الله
42 وما إيمان شخص حال يأس * بمقبول لفقد الامتثال
اليأس بالمثناة التحية على ما في بعض النسخ وهو انقطاع الرجاء والمراد به ههنا
أن يصر إلى حالة لا يرجى فيها حياته ويقطع بموته عاجلا بأن تبلغ روحه
الحلقوم أو يقطع الحلقوم والمرئ أو يشق بطنه ويخرج حشوه أو يغرق وسط
البحر ويغمره الماء وهو لا يحسن السياحة ونحو ذلك لأنه إذا صار في جالة من هذه
الحالات يئس من حياته عادة فلا يقبل إيمانه ح وضبطه بعض الشراح بالباء
92

الموحدة قال وهو الشدة والمضرة والمراد هنا سكرات الموت قال ولم يقله بالياء
المثناة موافقة لقوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما راو بأسنا انتهى ولا يخفى أنه
بالباء الموحدة أعم منه بالياء كما هو الظاهر إلا أن يراد باليأس ههنا مشاهدة عذاب
الآخرة كما قال شارح والمراد هنا شدة عذاب الآخرة لأن المؤمن عند نزع الروح يرى
مكانه في الجنة والكافر يرى شدة عذاب الآخرة ومكانه في النار وهو الظاهر
ههنا والامتثال: الانقياد والطاعة إلى الأمر والنهي الإعراب ما نافية بمعنى
ليس أيمن اسمها مضاف إلى شخص وحال منصوب على الظرفية مضاف إلى
ياس والعامل فيه إيمان وتعلقه بمقبول غير مقبول كما لا يخفى على أهل العقول
وبمقبول في محل النصب خبر ما ولفقد في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وذلك
لعدم الامتثال أي الانقياد والايتمار بأوامره تعالى قبل أن يصل إلى تلك الحالة
(وحاصل معنى البيت) أن إيمان الكافر وقت يأسه من الحياة أو عند معاينة
البأس غير مقبول لقوله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانه لما راو بأسنا وقوله تعالى وليست
التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن
فقد قال جماعة إن المراد بالسيئات: الشرك أو عمل النفاق وقال تعالى في شأن فرعون
حتى إذا أدركه الفرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من
المسلمين فقال تعالى باستفهام الإنكار الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
فلم يقبل إيمانه ح كما مشى عليه الجمهور. قيد بالإيمان لأن توبة المؤمن العاصي
ح مقبولة عندنا قال شارح وأما توبة المؤمن المذنب في تلك الحالة فمقبولة بإجماع
الأمة انتهى يعني حالة الاحتضار لكن في دعوى الإجماع نظر قال الشارح المقدسي
وهذا بخلاف توبة المسلم العاصي ح فإنها تقبل ما لم يغرغر أي تبلغ الروح الحلقوم
لما روي ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغر غره والفرق
بين المؤمن والكافر فيما ذكر أن المؤمن العاصي قد سبقت منه المعرفة بربه قبل ذلك
وأما الكافر فلا معرفة له ويريد أن يبتدئ ح إيمانا فلا يفعه انتهى ورده علي قاري
رحمه الباري وساوى بينهما في عدم القبول ح مستدلا بظاهر الآية المتقدمة بأن
السيئات شاملة لغير الكفر قال ومن القواعد إن معارضة النص القطعي غير مقبولة انتهى
أقول وبالله التوفيق إن فيه خبطا لا يخفى منشأه التخليط بين الحالتين فإن المراد باليأس
في الآية مشاهدة أهوال الآخرة كما قدمنا فهذه حالة لا يرجى فيها الحياة فهي حالة اليأس
93

فصار فيها في حكم أهل الآخرة فلا فرق بينهما في هذه الحالة في عدم قبول كل منهما على
الأصح وأما إطلاق اليأس على ما قبلها فالمراد به شدة المرض والخوه والقرب من الحالة
الأولى والكلام فيها فالتوبة فيها مقبولة دون الإيمان كما تقدم والجمهور على هذا
وعليه فلا حاجة إلى الجواب بأن المراد من السيئات في الآية الشرك لأنه صرف الكلام عن
ظاهره من غير مقتض فافهم وإلى هذا يشير كلام صاحب الكشاف وهو الحق ولا
عبرة بكلام من لم يفهم كلامه حيث قال في قوله تعالى ثم يتوبون من قريب الزمان القريب
ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت الآية فيتعين أن
الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقي ما وراء ذلك في حكم القريب ثم
ذكر بعد خطوط أن قوله تعالى الذين يموتون عطف على الذين يعملون السيئات قال
ساوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى الموت وبين الذين ماتوا على الكفر في أنهم
لا توبة لهم لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة فكما أن المائت على الكفر فاتته
التوبة على التوبة على اليقين فكذلك المسوف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما أو أن
التكليف والاختيار انتهى وتابعه على ذلك البيضاوي فقال ساوى بين من سوف
التوبة إلى وقت حضور الموت من الفسقة والكفار في نفي التوبة للمبالغة في عدم
الاعتداد بها في تلك الحالة وكأنه قال وتوبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء انتهى
فتدبر وقال في البزازية قال علماؤنا وإنما صحت التوبة في هذا الوقت لأن الرجاء باق
ويصح من الندم والفرم على ترك الفعل قال في التفسير الكبير في قوله تعالى وليست التوبة
الآية دلت على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فتوبته غير مقبولة وكذلك
قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت الآية وكذلك قوله تعالى وأنفقوا مما رزقناكم من
قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق واكن من
الصالحين فإنه تعالى أخبر في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت ثم قال
أي في التفسير الكبير والمحققون على أن قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع
من قبولها مشاهدة الأهوال التي تجعل العلم عندها على سبيل الاضطرار بالله
تعالى فهذا كلام الحنفية والمالكية والشافعية من المعتزلة والسنية والأشاعرة
والماتريدية وأن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس بجامع عدم الاختيار
وخروج النفس من اليد وعدم ركن التوبة وهو العزم بطريق التصميم على أن
لا يعود في المستقبل إلى ما ارتكب وهذا لا يتحقق في توبة اليأس إذا أردت باليأس
94

معاينة أسباب الموت بحيث يعلم قطعا أن سلطان الموت مدركه لا محالة كما
أخبر الله تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وهذا البيان لأن اليأس ما هو
وقد ذكر في بعض الفتاوى أن توبة اليأس مقبولة إن أراد باليأس ما ذكرنا
يرد عليه ما قلنا وإن أراد باليأس القرب من الموت مطلقا فلا كلام فيه لكن
الظاهر أن زمان البأس زمان اليأس ومعاينة الهول والمسطور في الفتاوى
أن توبة اليأس مقبولة بخلاف إيمان اليأس لأن الكافر أجنبي غير عارف بالله تعالى
وابتدأ إيمانا وعرفانا والفاسق عارف وحاله حال البقاء والبقاء أسهل وقوله
تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن يحتمل أن يراد به تقييد التوبة بالآن
بأن يقيد توبته بزمان العجر كما يقال تاب يوما أو عاما والدليل على قبولها مطلقا
إطلاق قوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده انتهى كلام البزازي فتحصل لك
أن إيمان اليأس غير مقبول بالاتفاق وأن توبته مختلف فيها والأصح عدم القبول
وأن الحالة التي تقرب من اليأس قد يطلق عليها اليأس والتوبة فيها مقبولة
بالاتفاق فيفهم هذه المقام على النظام فإنه من مزالق الإقدام وقد وقع فيه كثير
خبط من بعض فضلاء الأنام والحمد لله ملهم الصواب وإليه المرجع والمآب
فائدة قيل لما وصل فرعون إلى قوله وأنا من المسلمين أخذ جبرائيل من أوحال
البحر أي طينه الأسود فسد فمه مخافة أن تدركه الرحمة وإنما فعل به ذلك
عقوبة له على ما كان منه والله أعلم. قال الناظم رحمه الله تعالى رحمة واسعة
43 وما أفعال خير في حساب * من الإيمان مفروض الوصال
المراد بأفعال الخير هنا الطاعة والعبادات مطلقا فيتناول البدنية والمالية وغيرهما
كالصوم والصلاة والزكاة والصدقات وحب الخير للمسلمين وإن اطلق الخير في
بعض المواضع وأريد به خصوص المال كما في قوله تعالى وإنه لحب الخير لشديد قال البيضاوي
أي المال من قوله تعالى إن ترك خيرا وقوله في حساب أي في اعتداد بمعنى أنها لا
يحتسب ولا يعتد بها في حقيقة الإيمان وليست جزء منه بل هي خارجة عن حقيقته
وإن كان كماله بها لأنه عبارة عن التصديق وحده أو مع الإقرار باللسان على ما قدمنا
إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلا ولا يتوقف على شئ آخر من فعل
خير أو غيره والإقرار قد يحتمل السقوط كما في حالة الإكراه و كالخرس وقولهم انتفاء الجزء
95

يستلزم انتفاء الكل مبني على أن الإقرار شطر وهو خلاف الراجح ولو سلم فإن ذاك
إنما هي في الماهية الحقيقية لا الاعتبارية و إذا سقط الإقرار في الجملة ولم يعتبر
كان التصديق فقط نفس الإيمان فمن صدق حق التصديق كان مؤمنا عند الله
وإن توقف إجراء الأحكام عليه على الإقرار باللسان على ما قدمنا قال السعد رحمه الله والإجماع
منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد الإقرار باللسان ومنعه مانع من خرس
ونحوه انتهى فلا تكون أفعال أفعال الخير داخلة في ذات الإيمان وإن حصل بها
كماله ولذا قيد الناظم بقوله مفروض الوصال دفعا لما يتوهم من نفي كونها من الإيمان
أن لا يكون لها تعلق به أصلا فأفاد أن المنفي كونها من حقيقة الإيمان وليست متصلا
به كاتصال الجزء بالكل وإلا فلها تعلق بكماله فافهم الإعراب ما بمعنى ليس أفعال
اسمها مضاف إلى خير في حساب في محل نصب خبر ما ومن الإيمان متعلق
بحساب أي ليست محسوبة ويصح أن يجعل الظرف الثاني خبر ما وفي حساب في محل نصب
حال من الإيمان قدمت عليه ومفروض الوصال حال أخرى من الإيمان وحذفت
تنوينه وأضيف والأصل مفروضا وصاله فأل في الوصال عوض عن الضمير أو
حال من أفعال خير وحذفت منه التاء للضرورة والتقدير مفروضة الوصال
وفائدة التقييد بها أنه لما نفى الخير أن يكون من الإيمان أو هم أن لا يكون به تعلق
أصلا فدفعه بصرف النفي إلى هذا القيد كما قدمنا وإلا فكمال الإيمان إنما هو
بالأعمال (وحاصل معنى البيت) أن الأعمال الصالحة كالعبادات ليست عندنا داخلة
في مفهوم الإيمان ولا محسوبة منه مفروضة الاتصال لأنه تعالى عطفها على الإيمان
بقوله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمعطوف غير المعطوف عليه وجعله شرطا
لها بقوله: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن والشرط غير المشروط له وخاطب
بوجوب الإيمان قبل وجوب الأحكام بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام
كما كتب على الذين من قبلكم فلو كانت من جملة الإيمان لما سماهم بالمؤمنين قبل وجودها
ولما نزل فرضية شظ منها إلا بعد وجود الإيمان وقد أثبت الإيمان لمن ترك بعض
الأعمال بقوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأثبت لهم الإيمان مع وجود
المقاتلة التي هي بعض الأعمال وفسره عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حين سئله
جبرائيل ما الإيمان بقوله أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن
بالقدر خيره وشره ولم يذكر الأعمال ولو كانت داخلة في حقيقته لذكرها خصوصا والمقام مقام
96

العليم وللاجماع على من آمن فمات قبل أن توجد منه الأعمال مات مؤمنا وكذا
من عاش في أقصى البلاد أو على رأس جبل وبقي سنين ولم يعلم بالشرايع
ومات مؤمنا ولأنه قد يرتفع العمل ولا يرتفع الإيمان كالحائض فإنها أمرت بترك
الصلاة مثلا ولا يجوز أن يقال بترك الإيمان وكذا سقوط الحج والزكاة عن
الفقير وهذا ما عليه أكابر العلماء كأبي حنيفة رحمه الله وأصحابه واختاره إمام الحرمين
وجمهور الأشاعرة لما قدمنا من أن حقيقة الإيمان التصديق القلبي فقط أو مع
الإقرار باللسان وعلى القولية فالأعمال ليست داخلة فيه ويتفرع عليه أن الإيمان
عندنا لا يزيد ولا ينقص لكنه يقوى ويضعف وذهب الإمام الشافعي والأوزاعي
من أئمة الحديث إلى أنها داخلة في الإيمان وأنه يزيد وينقص وعليه البخاري قال
كتبت عن ألف وثمانين رجلا ليس فيهم الأصاحب حديث كلهم كانوا يقولون
الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص وقيل النزاع في المسألة بين الفريقين لفظي وبينه
بعض المحققين بأن الشافعي ومن وافقه يقولون إنها ركن من الإيمان الكامل بمعنى
أن تاركها لا يكون كافرا بل يخرج عن الإيمان الكامل لا عن حقيقة الإيمان بحيث
لا يكون مؤمنا أصلا كما هو قول المعتزلة قال السعد رحمه الله ولا يخفى أن هذه الوجوه يعني
الدلالة على أن الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان إنما تقوم حجة على من يجعل
الطاعات ركنا من حقيقة الإيمان بحيث إن تاركها لا يكون مؤمنا كما هو رأي المعتزلة
لا على من ذهب إلى أنها ركن من الإيمان الكامل بحيث لا يخرج تاركها عن حقيقة
الإيمان كما هو مذهب الإمام الشافعي انتهى وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو
الإقرار فقط وذهب بعض المعتزلة إلى أنه العمل فقط فتحصل أن الأقوال خمسة
في ثلاثة منها هو بسيط وفي واحد منها هو مركب من اثنين وفي واحد مركب من ثلاثة
واحتج من قال بدخول الأعمال في الإيمان وأنه يزيد باعتبارها وينقص بقوله تعالى
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وأجيب بأن المعنى والله أعلم زادتهم نور الإيمان
والتمكن منه لا نفس الإيمان إذ لو كانت داخلة في حقيقته لزم عدم الفائدة في خطابه
تعالى بالإيمان في حق من علم إيمانه كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
وقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وغير ذلك كما قدمنا ولو كان ما أمر به من
الأعمال من حقيقة الإيمان لدخل في خطاب الإيمان ولخرج خطاب الأمر بالأعمال
عن الفائدة تعالى كلام الرب عن ذلك علوا كبيرا قال في شرح العقائد وما ورد من الآيات
97

الدالة على زيادة الإيمان كقوله تعالى وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فمحمول على ما
ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أنهم كانوا آمنوا في الجملة ثم يأتي فرض بعد فرض وكانوا
يؤمنون لكل فرض خاص فالزيادة إنما هي باعتبار زيادة ما يجب الإيمان به تفصيلا
وهذا لا يتصور في غير عصر النبي صلى الله عليه وسلم انتهى فإن قلت إن بعض الأحكام
ثبت بعد النبي عليه السلام كالثابت بالإجماع قلنا هو مؤمن به قبل إجماعهم إجمالا
بقوله عليه السلام عليكم بسنتي وسنة الخلافة الراشدين المهديين من بعدي تتمة الإيمان
والإسلام واحد إذ الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قوله الأحكام والإذعان
حقيقة التصديق عل ما قدمنا ويؤيده قوله تعالى فأخرجنا من كان من المؤمنين * فما
وحدنا فيها غير بيت من المسلمين وبالجملة لا يصح في الشرع أن يحكم على أحد بأنا وليس
بمسلم أو مسلم وليس بمؤمن ولا نعني بوحدتهما سوى هذا وظاهر كلام المشايخ أنهم
أرادوا عدم تغايرهما بمعنى أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر لا الاتحاد بحسب المفهوم لما ذكر في
الكفاية من أن الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر به من أوامره ونواهيه والإسلام هو
الانقياد والخضوع لألوهيته وذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي فإن الإيمان لا ينفعك
عن الإسلام حكما ومن أثبت التغاير يقال له ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم
يؤمن أي أثبت لأحدهما حكما ليس بثابت للآخر والأظهر بطلان قوله فإن قيل قوله
تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا صريح في تحقيق الإيمان بدون
الإسلام قلنا المراد أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان وهو في الآية
بمعنى الانقياد والظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفظ بكلمة الشهادة من غير
تصديق في باب الإيمان فإن قيل قوله عليه السلام في تفسير الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة الحديث دليل على أن الإسلام هو الأعمال دون
التصديق القلبي الذي فسر به الإيمان فلا يكون الإسلام والإيمان واحدا قلنا
المراد أن ثمرات الإسلام وعلاماته ذلك كما قال عليه السلام للوفد أتدرون ما الإيمان
بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس وكما
قال عليه أفضل الصلاة والسلام الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق فقد أطلق الإيمان على ثمراته وما يكون
به كماله والله أعلم. قال الناظم رحمه الله تعالى رحمه واسعة:
98

44 ولا يقضى بكفر وارتداد * بعهر أو بقتل واختزال
العهر بفتح العين المهملة وسكون الهاء الزنا واسم الفاعل منه عاهر ومنه
قوله عليه السلام الولد للفراش وللعاهر الحجر أي وللزاني الرجم بالحجر والمراد بالقتل
قتل النفس المعصومة عمدا بغير حق غير مستحل قتلها ويتبعه قتل عضو معصوم كذلك
والاختزال بالخاء المعجمة والتاء المثناة والزاء أي الاقتطاع والمراد اقتطاع مال
معصوم بغير حق كالسرقة ونحوها وفي معنى ذلك جميع مظالم العباد فإنها كلها كبائر وإنما
اقتصر على هذه الثلاثة منها لأنها أعظمها بعد الكفر ولذا خصها عليه السلام بالذكر في النهي
عن انتهاكها بقوله كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه رواه مسلم وجعلها
كل المسلم لأن قوامه بها وروي ابن عمر رضي الله عنهما أنها تسعة أعظمها الشرك بالله تعالى
ثم قتل النفس وقذف المحصن والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم
وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم أي الذنب فيه قيل ولو صغيرة
فالكبيرة فيه كبيرتان وزاد فيه أبو هريرة رضي الله عنه أكل الربا وزاد علي رضي الله عنه السرقة
وشرب الخمر وقيل هي كل ما توعد عليه الشارع بخصوصه في كتاب أو سنة وقيل كل
معصية أصر عليها العبد فهي كبيرة وما استغفر عنها فهي صغيرة وقيل غير ذلك
وبالجملة فالمؤمن لا يخرج عن إيمانه بفعل شئ منها أو فعل كلها ما عدا الكفر
الإعراب لا نافية يقضى مضارع مبني للمفعول من قضى بمعنى قدر أو قطع
والمراد أن لا يحكم أو لا يقطع بكفره ونائب فاعله محذوف أي على المؤمن وبكفر
متعلق بيقضى وارتداد معطوف على كفر وبعهر وما عطف عليه متعلق بكفر والباء
سببية واو بمعنى الواو أو على بابها وهو أبلغ (وحاصل معنى البيت) إنه لا يحكم بكفر
المؤمن عن الإسلام وخروجه عن الإيمان بسبب ارتكابه زنا أو قتل نفس أو سرقة
مال معصوم أو غير ذلك كترك عبادة تكاسلا أو كل ما هو كبيرة غير الكفر فإن
شيئا من ذلك أو مجموعه لا يخرج المؤمن من إيمانه لبقاء التصديق ما لم يستحل شيئا
من ذلك وهذا مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج حيث قالوا بكفره
وخلوده في النار زعما بأن الإيمان لا يجامع المعصية ولا واسطة عندهم بين
الكفر والإيمان بخلاف المعتزلة حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا
كافر وثبتوا له منزلة بين المنزلتين يزعمون أنه ليس بمؤمن لانتفاء الأعمال الصالحة
99

التي هي عندهم جزء من حقيقة الإيمان على زعمهم ولا كافر لبقاء التصديق الذي
هو أصل الإيمان واحتج كل من الفريقين بظواهر أدلة متروكة الظاهر مردودة
بما في المطولات ونحن نقول إنه يكون بذلك عاصيا تحت المشيئة باقيا على إيمانه
حيث لم يكن مستحلا شيئا من ذلك ولم تكن الكبيرة شركا قال الله تعالى إن الله
لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا نقول إن المعصية لا تضر
مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر كما ذهب إليه أهل البدعة بل نقول لها
دخل في ضعف الإيمان نعم إذا فعل المعصية على طريق الاستحلال أو ترك الطاعة
على الإنكار أو الاستخفاف فلا كلام في أن يكون كفرا لكونه علامة التكذيب ولا
نزاع في أن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة التكذيب وعلم كونه كذلك بالأدلة
الشرعية ولا يتوقف على النية كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات
ونحو ذلك مما ثبت بالأدلة القطعية تنبيه الكفر لغة الستر وأصله الكفر بفتح
الكاف سمي به لأنه ستر الإيمان وشرعا جحد ما علم بالضرورة مجئ النبي صلى الله عليه وسلم
به كما مر وهو أربعة أقسام الأول كفر الجحود وهو أن يعرف الحق ولا يقر
بلسانه ككفر إبليس وأمية بن أبي الصلت الثاني كفر النفاق وهو أن يقر بلسانه
ولا يعتقد بقلبه كالمنافقين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم الثالث إن يعلم
بقلبه ويقر بلسانه ولكن يأبى أن يقبل الإيمان فلا يدين به ككفر أبي طالب حيث قال
إني لأعلم أن دين محمد * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار سبته * لوحدتني سمحا بذاك مبنيا
الرابع كفر الإنكار وهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف بوحدانية الله تعالى
أصلا وبقي قسم خامس وهو الكفر الطارئ بأن يرجع عن الإيمان بعد التصديق
والإذعان بالقلب واللسان وهذا القسم الذي أشار إليه المص والناظم رحمه الله تعالى
45 ومن ينو ارتدادا بعد دهر يصر عن دين حق ذا انسلال
النية قصد القلب مطلقا واصطلاحا قصد القلب الجازم على فعل أو ترك والردة
الرجوع عن الشئ مطلقا وفي الشرع قطع الإسلام بقول كفر أو فعله أو نيته
والدهر والزمان والحين بمعنى واحد وقد تقدم الدهر في الأصل اسم لبقاء
مدة العلم من مبدأ التكوين إلى أن ينقرض وقد يعبر به عن كل مدة طويلة ولم يتكلم
100

فيه أبو حنيفة لورعه رحمه الله قيل سب توقفه وعدم تكلمه فيه خبر لا تسبوا الدهر فإن
الله هو الدهر وقال صاحباه هو ستة أشهر فأكثر فأراد المص رحمه الله به ههنا
مطلق الوقت طال أو قصر ودين الحق هو دين الإسلام والانسلال هو الخروج
بسهولة من انسل إذا خرج من حيث لا يدري الإعراب من اسم شرط جازم يجزم
فعلين الأول فعل الشرط والثاني جوابه ينو: فعل الشرط مجذوم بحذف وفاعله
مستتر يرجع إلى من وارتدادا مفعول وبعد منصوب على الظرفية مضاف إلى
دهر يصر جواب الشرط مجزوم بسكون آخره وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين
وهو من الأفعال الناقصة واسمه مستتر عائد إلى من أو إلى ضميره وانسلال مضاف
إليه (وحاصل معنى البيت) إن من ينو أي يعزم بقلبه الردة والرجوع عن الإسلام
أو على الكفر ولو بعد مدة طويلة أو قصيرة يخرج بذلك العزم عن دين الإسلام في الحال
سواء فعل ما نواه بعد ذلك أولا لأن قصد الكفر يزيل التصديق وبزواله يصير
منافقا والمنافق كافر باطنا فإن فعل ما قصد صار كافرا ظاهرا وباطنا ولأنه رضي
بالكفر في الحال والرضا به كفر في الحال والمال ثم الرضاء بكفر نفسه كفرا إجماعا وإنما
الخلاف في الرضاء بكفر غيره لقصد غيره لا لاستحسان الكفر في نفسه وإلا يكون
كافرا أيضا إجماعا ولذا قالوا الكافر بطول البقاء ونحوه إن قصد استدامة كفره
يكفر لأنه يكون مستحسنا للكفر وإن أراد يؤول أمره إلى الإسلام أو لينفع المسلمون
بجزيته فلا واختلف في الدعاء على الظالم بموته على الكفر بقصد أن يجازى بالخلود
على ظلمه والصحيح عدم الجواز وحاصله إن قصد الكفر والرضاء به مطلقا كفر وهو
غير معفو إجماعا وإن كان هاذلا به لأنه تعالى نهى العفو عن الشكر أيضا بقوله عز
شأنه إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وهذا بخلاف قصد
المعصية والتصميم على فعلها فإنها مرجوة العفو بوعده تعالى وإن فعل لدخولها تحت
قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن لم يكن معها تصميم ولم يفعلها كتبت له حسنة
كما قال عليه السلام فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها
كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمأة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة
فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة
وفي هذا رد على من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من أفعال العباد وسمع من
أقوالهم محتجا بقوله عائشة رضي الله عنها لأن أذكر الله في قلبي مرة واحدة أحب إلى من أن
101

أذكره بلساني سبعين مرة،، وذلك أن ملكا لا يكتبها وبشرا لا يسمعها وأجيب عنه
بأن ذلك إن صح عليها فهو محمول على أنها قالته قبل اطلاعها على الكتب ثم اطلاع
الملكين الموكلين بالعبد على كتب الهم بالقلب على معصية أو طاعة أما بكشف الله
تعالى لهما على القلب وما يحدث فيه كما يقع لبعض الأولياء وأما بإعلام الله تعالى
أيهما بذلك ويؤيده ما وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنه فينادي الملك اكتب
لفلان كذا وكذا فيقول يا رب إنه لم يعمل فيقول إنه نواه وأما بريح يظهر لهما
من القلب فريح الحسنة طيبة وريح السيئة خبيثة تمتاز بها وعلم بقوله بعددهن
أنه لو نوى الارتداد في الحال يصير كافرا في الحال بالأولى ويحتمل كلامه معنى آخر وهو
أن من دام على الإيمان دهرا طويلا مع إحسان العمل ثم بعد ذلك نوى الردة
يخرج عن الإيمان في الحال ويبطل جميع ما قدمه من الخير لكن المعنى الأول أبلغ
والمراد بالنية العزم والتصميم كما قدمنا لأن مجرد الخطور بالبال غير معتبر اتفاقا
لأن ذلك ليس في وسع العبد لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلو خطر له مع كراهته
وخوف إظهاره بلسانه أو فعله كان مثابا لأنه عين الإيمان ما دام مصمما على
التصديق وقد قال عليه السلام إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم
تعمل به أو تتكلم إذ الاحتراز عنه غير ممكن بخلاف العزم والتصميم فإن الاحتراز
عنه ممكن ولذا كان عزمه على الكفر ولو بعد سنين يخرجه عن الإيمان في الحال
فإن قلت في حديث رواه مسلم والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه
الناس قلنا معناه إن كل ما حاك في النفس واستكرهته كان أثمان عند وقوعه لأن
النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وتكره ضد ذلك ولكن قالوا الهم
بالمعصية الذي لا يؤاخذ به شرطه أن لا يصر عليه وإلا فهو به آثم وإن تكلم اللسان
بخلافه حتى أن الله تعالى يلي في قلوب الناس ما أضمره كما روى محمد بن داود قال
حدثنا محمد بن جعفر عن إبراهيم النخعي قال إن الرجل ليتكلم بالكلام وفي كلامه المقت
ولكنه ينوي به الخير فيلقي الله تعالى في قلوب الناس الاعتذار عنه حتى يقولوا ما أراد
بقوله هذا إلا خيرا وإن الرجل ليتكلم بكلام حسن لا ينوي به الخير فيلقي الله
تعالى في قلوبهم حتى يقولوا ما أراد بقوله هذا إلا شرا فعلم به أن العبرة لما في القلب
وأن الوسوسة ساقطة الاعتبار وأن الجزم والتصميم هو المعتبر ولذا شرط ذلك
في الإيمان بحيث لا يخالطه شئ ينافيه إذ لو كان معه تردد أو تشكيك لم تثبت
102

حقيقة على ما قدمنا إذا علم هذا فلا يتصور أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله
على وجه الشك لا في الحال ولا في المآل اتفاقا وأما على وجه التبرك فجوزه الشافعي
رحمه الله ومنعه أبو حنيفة مطلقا لأن وضع هذه الكلمة على التشكيك ولذا أجمعا على
أنها تبطل اليمين والطلاق والعتاق والبيع والإقرار ونحو ذلك وقيد بنية الارتداد
لأن الكافر إذا عزم على أن يؤمن في الحال والمآل لا يخرج بذلك عن الكفر فلا
يجتمع مع الإيمان إذ الضد لا يجتمعان والحمد لله الكريم المنان قال الناظم رحمه الله
46 ولفظ الكفر من غير اعتقاد * بطوع رد دين باغتفال
أراد باللفظ التلفظ بما يوجب الكفر عن طوع واختيار كنفي الصانع أو الرسل أو أحدهم
أو تكذيب رسول أو شتمه أو تحليل محرم إجماعا أو عكسه أو نحو ذلك معلوم بما هو معلوم
من الدين بالضرورة والطوع الاختيار ضد الإكراه واحترز به عنه كما سيأتي
والاغتفال افتعال من الغفل بالضم وهو انعدام الشئ وانطماس أثره يقال أرض غفل
أي لا علم بها ولا أثر عمارة أو من الغفل بفتح الغين بمعنى الترك يقال أغفلت الشئ
وتغافلت عنه إذا تركته على ذكر وغفلت عنه إذا تركته عن ذهول الإعراب
ولفظ مبتدأ مضاف إلى الكفر من غير اعتقاد في محل نصب حال من الكفر
أي حال كونه غير معتقد للتكلم لأن المضاف عامل فيه أو من لفظ الكفر أو في
محل جر صفة للكفر لأنه في معنى النكرة أو حال من الفاعل المفهوم من المقام أي حال
كون اللافظ غير معتقد والباء في قوله بطوع بمعنى مع متعلق بلفظ في محل
نصب حال من الفاعل وقوله رد بالرفع خبر مع متعلق بلفظ في محل
نصب حال من الفاعل وقوله رد بالرفع خبر المبتدأ مضاف إلى دين من
إضافة المصدر إلى مفعوله وقوله باغتفال متعلق برد والباء للملابسة.
(وحاصل معني البيت) إن من أجرى كلمة كفر على لسانه حال كون الكفر غير
معتقد له أو حال كونه غير معتقد للكفر وحال كونه طائعا مختارا يصير مرتدا بذلك
عن الإسلام تاركا للدين عن أصله أو مع غفلته عن كونه صار مرتدا خارجا
عن دين الإسلام ودائرة الأحكام لزعمه عدم كفره بعد اعتقاده الكفر وهذا
ما عليه أئمة بخارى وسمرقند وعليه الفتوى كما قال الشارح الحنفي فعلم أن
القيود ثلاثة أن لا يعتقد الكفر وأن لا يكون مكرها عليه وأن يكون غافلا
عن كون ذلك اللفظ مكفرا وقيل إن الفتوى على أنه لا يكفر والجهل عذر واستظهره
103

بعض المشايخ لأن الجهل غالب في أكثر العوام بحيث لا يميزون بين الألفاظ
المكفرة وغيرها فيلزم عليه تكفير كثير من المسلمين ولو اعتقد مع ذلك الكفر
يكفر اتفاقا ولو كان يعلم أن ذلك اللفظ مكفر فتلفظ به عمدا عن طوع من
غير اعتقاد غير حاك له عن غيره يكفر أيضا فتحصل المسألة بأربعة أوجه يكفر في
صورتين ولا يكفر في صورة والخلاف في صورة المتن وقد علمت ما فيها وبقي وجه
خامس وهو ما إذا سبق لسانه غلطا إلى كلمة كفر فإنه لا يكفر بخلاف الطلاق
والعتاق وسادس وهو ما إذا نقله على لسان غيره كقوله: النصارى يقولون المسيح
ابن الله فلا يكفر اتفاقا ثم الإكراه المبيح للتلفظ به لا بد أن يكون بما يزيل الرضاء بأن
لا يكون بنحو قتل أو قطع عضو أو ضرب يخاف منه تلف النفس مع اطمئنان
قلبه بالإيمان كما وقع لعمار بن ياسر رضي الله عنه حين أسره المشركون ولم يخلوا سبيله
حتى تكلم بالنبي صلى الله عليه وسلم فحين جائه قال له صلى الله عليه وسلم ما تركت وراءك قال شرا يا رسول
الله ثم أخبره بذلك فقال عليه السلام كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان
فقال عليه السلام إن عادوا فعد قيل أي فعد إلى التكلم مع الاطمئنان وقيل إلى الاطمئنان
وفيه نزل قوله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية وإن صبر على القتل كان
مأجورا كما روي أن خبيبا رضي الله عنه صبر على القتل حتى صلب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد
الشهداء ولو أكره بقيد أو حبس أو أخذ مال أو ضرب قيل لا يخاف منه تلف نفس
أو عضو لا يباح له ذلك قال علي قاري رحمه الله ثم من فروع الارتداد أنه تبطل أعماله
الصالحة وتقع الفرقة بينه وبين امرأته ولو جدد الإيمان خلافا للشافعي لأنه
لا يبطلها إلا بالموت على الكفر وعندنا تعود أعماله السابقة لكن قالوا تعود بلا ثواب
ويجب عليه حجة الإسلام لأن وقت الحج ممتد إلى آخر العمر وكذا لو أسلم في آخر
وقت صلاة ارتد في أوله بعد أدائها يجب إعادتها لبقاء الوقت وإمكان التدارك وأما
الصلوات ونحوها الواقعة في أيام الارتداد فلا يجب قضائها قال شيخنا أقول وكذا
يبطل وقفه وروايته للحديث فيجب إعادة وقفه بعد الإسلام كما صرح بذلك في
كتب الفروع انتهى والألفاظ المكفرة وغير المكفرة والمختلف فيها مذكورة في المطولات
وقد بالغ في ذلك صاحب البزازية وقال إن الرجل ليتكلم بالكلمة فيهوي بها في النار
فهو لا يدري فينبغي للمسلم أن يتحرز في كلامه عن سقطات اللسان وإذا طغى لسانه
من غير قصد ينبغي أن يحمل على وجه حسن ولو رواية ضعيفة لئلا يلزم عليه تكفير
104

كثير من المسلمين قال ابن نجيم وقد آليت على نفسي أن لا أفتي بتكفير مسلم في
كفره خلاف ولو رواية ضعيفة والله الموفق والمرشد قال الناظم رحمه الله
47 ولا يحكم بكفر حال سكر * بما يهذي ويلغو بارتجال
هذا البيت يشبه أن يكون تفريعا على البيت السابق إذ لا اعتقاد ولا طواعية مع
حقيقة السكر ويهذي بالذال المعجمة مضارع هذى إذا تكلم بكلام لا معنى له من
غير رؤية يقال هذى في منطقة يهذي هذيا وهذا إيانا إذا تكلم بغير معقول لمرض
أو غيره ويلغو مضارع لفا في كلامه إذا تكلم بكلام لا فائدة فيه أو باطلا من غير
قصد فهو أخص من الهذيان ويقال كلام ملغى أي مطروح من ألغيته إذا طرحته
ومنه يمين اللغو التي لا ينعقد عليها القلب ولا يترتب عليها حكم قال تعالى لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم وهو المراد هنا والارتجال مصدر ارتجل إذا تكلم بكلام بسرعة
من غير تفكر وتأمل الإعراب لا ناهية ونحكم بالنون أو التاء على البناء للفاعل
أو بالياء بالبناء للمفعول مضارع حكم مجزوم بلاء الناهية بكفر متعلق به وحال
منصوب على الظرفية مضاف إلى سكر بما الباء للسببية متعلقة بكفر أو بسكر وما
مصدرية أو نكرة موصوفة ويلغو عطف على يهذي وفاعلهما مستتر يعود إلى السكران
المفهوم من السكر والعائد محذوف أي به أو فاعل يلغو محذوف على أنه مستأنف
أي ويلغو كفره دل عليه قوله بكفر وقوله بارتجال تنازع فيه الفعلان أو متعلق
بيلغو فقط (وحاصل معنى البيت) إنا لا نحكم بكفر السكران بسبب تكلمه حال سكره بما
يهذي ويلغو به من الألفاظ المكفرة من غير قصد وتفكر فيما يقول أو لا نحكم
بكفره بما تكلم به من كلمات الكفر بما يهذي به من المسكرات أو ويلغو كفره في الحال
ولا يعتبر ثم اعلم أن كلام المصنف مجمل يحتاج تفصيله إلى مقدمتين الأولى في
سبب السكر أو قد قالوا إنه على نوعين الأول ما يكون بطريق مباح كشرب
الدواء والسكر والبنج وما يتخذ من الحبوب والعسل ونحوه فهذا لا يقع طلاقه ولا
عتاقه ولا تنعقد لأنه ليس من جنس اللهو فصار كالمريض النوع الثاني السكر
بطريق محظور كشرب الخمر ونحوه ومنه العرق لأنه من أجزاء الخمر ونجاسته
مغلظة فهذا لا ينافي الخطاب ببطلان أهليته وتلزمه الأحكام وتنفذ تصرفاته
كلها تغليظا عليه لا الردة فلا يحكم بها عليه استحسانا أنها تتوقف على أقصد وغيرها
105

من التصرفات كالطلاق والعتاق يتعلق بالألفاظ وإذا لم يحكم عليه بالردة في
هذا ففي النوع الأول بالأولى ولذا أطلقه المص رحمه الله والأصل فيه ما روي
أن صحابيا أم قوما في صلاة المغرب وهو سكران قبل أن تحرم الخمر فقرأ قل يا أيها
الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها وترك كلمة لا وبتركها يكفر المؤمن
العاقل الصاحي مع أن الله تعالى خاطبه بلفظ المؤمن في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا
الصلاة ونتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية فصار ذلك سببا في تحريم السكر ثم
حرمت مطلقا والثانية في حد السكر وحده عند أبي حنيفة رحمه الله أن يصير بحال
لا يعرف
الرجل من المرأة ولا الأرض من السماء وقيل إن تختل مشيته وقيل إن
يختلط كلامه وقيل غير ذلك وحاصله إن المراد أن يصير بحال لا يعني ما يقول ولا
يفرق بين الخير والشر فإن فرق يحكم بكفره اتفاقا والله أعلم وأحكم قال الناظم رحمه الله
48 وما المعدوم مرئيا وشيئا * لفقه لاح في يمن الهلال
المعدوم خلاف الموجود يشتمل المستحيل والجائز والمرئي اسم مفعول من رأيت
الشئ فهو مرئي من الرؤية البصرية وأراد بالفقه الفهم وباليمن البركة والهلال
في الأصل رفع الصوت ثم سمي به القمر لليلتين من أول الشهر وليلتين من آخره
وقيل لثلاث من أو له ثم يسمي قمرا بقية الشهر وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه
السماء وذلك ليلة سبع ويمنه في أوائله لأن أواخره إدبار وقيل أراد بيمنه
لياليه البيض وهي ليلة الثالثة عشر والرابعة عشر والخامسة عشر وهو مناسب
هنا لأن المراد شدة ظهوره وهو في هذا أظهر إذ المعنى على التشبيه أو الاستعارة
كما لا يخفى الإعراب ما بمعنى ليس المعدوم اسمها مرئيا خبرها وشيئا معطوف
على مرئيا لفقه اللام تعليلية وفقه مجرور بها في محل رفع خبر مبتدأ محذوف وذلك
لفه لاح ماض بمعنى ظهر وفاعله مستتر يعود على فقه والظرف متعلق به
ويمن مضاف والهلال مضاف إليه وجملة لاح ومتعلقه في محل جر صفة فقه
(وحاصل معنى البيت) إن المعدوم ليس مرئيا لله تعالى ولا يطلق عليه شئ إذ الشئ
هو الموجود والمعدوم ضده وذلك لظهور العلم بذلك ظهورا بينا واشتهاره
عند أرباب العقول كظهور الهلال المبارك للناظرين وارتفاعه ليلة كماله بحيث
لا يخفى إلا على من أعمى الله بصره وبصيرته إذ الرؤية إنما تتعلق بالموجود والمعدوم ضده
106

ليس بشئ قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال في المقاصد وهذا ما ذهب
إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشئ وإنما هو نفي محض وفيه الرد على المعتزلة
القائلين إن المعدوم شئ مستدلين بقوله تعالى إن زلزلة الساعة شئ عظيم فقد
أطلق عليها اسم الشئ مع أنها الآن معدومة والجواب أن معناه أن زلزلة
الساعة يكون شيئا عظيما عند وجوده وما أخبر به تعالى أنه سيكون فهو كالكائن
فصح الإطلاق ثم اعلم أن المعدوم على نوعين معدوم ممتنع الرؤية وهو
ما يكون وجوده محالا وعدمه واجبا كشريك الباري تعالى وكاجتماع الضدين
والثاني المعدوم البسيط الممكن الوجود والعدم فالرؤية لا تتعلق بالنوع الأول
ولا يطلق عليه اسم الشئ اتفاقا والخلاف في النوع الثاني قبل وجوده فعند أهل
السنة لا تتعلق به الرؤية ولا يسمي شيئا لأن علة الرؤية والتسمية الوجود وهو
منتف إذ الشئ هو الموجود وكل موجود شئ كما هو مذهب الأشعري أيضا
وتمامه في شرح المواقف من الخاتمة وقال وفيه الحال وهو الواسطة بين الموجود
والمعدوم أثبته إمام الحرمين وأبو هاشم وبطلانه ضروري ثم نقل التوفيق والله أعلم قال الناظم رح
49 وغيران المكون لا كشئ * مع التكوين خذه لاكتحال
غير أن مثنى غير والمكون بفتح الواو المشددة اسم مفعول من التكوين والتكوين مصدر
من كون بتشديد الواو وقد أثبته علماؤنا صفة لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة
وقالوا بقدمه وفسروه بأنا صفة حقيقة وهي مبدأ الصفة الإضافية التي هي إخراج
المعدوم إلى الوجود لا عينها لأن نفس الاخراج وصف إضافي في حادث
وقديم والمكون هي الشئ الحاصل بالتكوين فهما متغايران الإعراب غير أن
خبر مقدم والمكون مع التكوين مبتدأ مؤخر وفصل بينهما بالجملة المحذوفة المبتدأ
الواقعة صفة لغيران أو تأكيد له أو خبر بعد خبر أي لا هما كشئ واحد على ما فيه
من التسامح في التركيب لضرورة الوزن ولا يصح أن يقدر ذلك المبتدأ مفردا
راجعا للمكون أي لا هو كشئ ويتنازع مع المكون في مع التكوين كما لا يخفى وخذه
فعل أمر والهاء مفعولة راجع لمقدر أي خذ هذا الكلام أو هذا التقرير أو نحو
ذلك ولاكتحال متعلق بخذ وأسقطت همزته تخفيفا (وحاصل معنى البيت) إن المكون
والتكوين متغايران لا هما متحدان كشئ واحد فاحتفل أي أحسن القيام به بهذا الكلام فإنه يجلوا البصيرة كما
107

يجلوا الكحل البصر لأن التكوين الإيجاد والمكون هو الشئ الذي يوجد بالتكوين
وهما متغايران إذ الفعل غير المفعول والسبب غير المسبب وذهبت المعتزلة إلى أنهما
شئ واحد ونسب أيضا إلى الأشعري لكن المحقق التفتازاني والشارح الشافعي
ردا نسبة ذلك على ظاهره إليه وحملا كلامه على محمل صحيح قال المحقق رحمه الله من قال
إن التكوين عين المكون أراد أن الفاعل إذ فعل شيئا فليس ههنا إلا الفاعل
والمفعول وأما المعبر عنه بالتكوين فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة
الفاعل إلى المفعول وهو ليس أمرا محققا مغايرا للمفعول في الخارج ولم يرد أن
مفهوم بالتكوين هو بعينه مفهوم المكون وهذا خلاصة كلامه في شرح المقاصد
والعقائد ونقله علي قاري لكن مقتضى ما في الطوالع أن الخلف حقيقي قال البحث
الخامس في التكوين قال الحنفية التكوين صفة قديمة مغايرة للقدرة فإن متعلق
القدرة قد لا يوجد أصلا بخلاف متعلق التكوين والقدرة تتعلق بإمكان الشئ
والتكوين بوجوده قلت الإمكان بالذات فلا يكون بالغير والتكوين هو التعلق الحالي
ولذا يترتب عليه الوجود كما قال الله تعالى إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن
فيكون انتهى فبعد قوله والتكوين هو التعلق الحالي كيف يمكن التوفيق فتدبر وبالله
التوفيق والأظهر الموافق لمذهبنا ما قاله في العقائد وشرحه قال ولما استدل القائلون
بحدوث التكوين بأنا لا يتصور بدون المكون كالضرب بدون المضروب التكوين هو
تكوينه تعالى للعالم ولكل جزء من أجزائه لوقت وجوده على حسب علمه وإرادته فالتكوين
باق أزلا وأبدا والمكون حادث بحدوث المتعلق كما في العلم والقدرة وغيرهما من
الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون متعلقاتها حادثة
وهذا تحقيق ما يقال إن وجود العالم إن لم يتعلق بذات الله تعالى وصفة من صفاته لزم
تعطيل الصانع واستغناء تحقق الحوادث عن الموجد وهو محال وإن تعلق فإما أن
يستلزم ذلك قدم ما يتعلق وجوده به فيلزم قدم العالم فهو باطل فليكن التكوين أيضا
قديما مع حدوث المكون المتعلق به فافهم والله أعلم قال الناظم رحمه الله تعالى
50 وإن السحت رزق مثل حل * وإن يكره مقالي كل قال
السحت بضمتين وبسكون الثاني أيضا وهو الأكثر هو الحرام الذي لا يحل كسبه ولا الانتفاع
108

به سمي به لأنه يسحت البركة أي يذهبها والرزق بكسر الراء بمعنى الشئ المرزوق
الذي قدره الله تعالى للحيوان مدة حياته وأراد بالحل المقابل للسحت والمقال مصدر
ميمى بمعنى القول والمراد المقول والقالي اسم فاعل أي المبغض من القلا بالكسر هو
البغض أو الترك والهجر وأراد بهم المعتزلة يعني أن الحرام عندنا يعد من الرزق
كالحلال لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان لينتفع به وذلك قد يكون
حلالا وقد يكون حراما وهذا أولى من تفسيره بما يتغذى به الحيوان لخلوه عن
معنى الإضافة إلى الله تعالى مع أنه معتبر في مفهوم الرزق وعند المعتزلة الحرام ليس
برزق لأنهم فسروه تارة بمملوك يأكله المالك وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به وذلك
لا يكون إلا حلالا ويلزمهم على الأول أن لا يكون ما يأكله الدواب رزقا وعلى الوجهين
أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى أصلا وفساده ظاهر ومبنى هذا الاختلاف
على أن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معنى الرزق وأنه لا رازق سواه تعالى وأن العبد
يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام ولا يستحق ذلك إلا على ارتكاب القبيح وما يكون
مسندا إلى الله لا يكون قبيحا ومرتكبه لا يستحق الذم والعقاب والجواب إن استحقاق
ذلك لسوء مباشرته أسبابه باختياره وخالق المليح والقبيح هو الله لا سواه ثم اعلم
أن الحرام وإن كان عندنا رزقا إلا أنه أضر ما يكون على آكله في دنياه وآخرته ولذا
سماه الله تعالى خبيثا بقوله ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وقال صلى الله عليه وسلم من اكتسب مالا
من حرام فأنفق منه ووصل رحمه كان ذلك إضرارا عليه أخرجه الحاكم وابن حبان، وأخرج أحمد
عن ابن عمر رضي الله عنهما من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيها درهم من حرام لم يقبل الله عز وجل
صلاته ما دام عليه ثم أدخل إصبعيه في أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أكل لقمة من حرام لم يقبل الله
عمله أربعين صباحا ومن اكتسب مالا من حرام فإن تصدق به لم يقبل منه وإن خلفه
من بعده كان دليله إلى النار ومن أكل الحلال أربعين صباحا نور الله قلبه وأجرى
ينابيع الحكمة على لسانه ومن سعى على عياله من حل كان كالمجاهد في سبيل الله
وفي الحديث من حج بمال حرام فقال لبيك قال الله تعالى لا لبيك ولا سعديك
وحجك مردود عليك وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز أنه قال يوما قد أكلت
الليلة حمصا وعدسا فنفخني فقال له بعض القوم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول
كلوا من طيبات ما رزقناكم فقال عمر هيهات هيهات ذهبت به إلى غير مذهبه إنما
109

يريد به طيب الكسب ولا يريد به طيب الطعام الإعراب إن هنا بكسر الهمزة على
الظاهر والسحت اسمها ورزق خبرها ومثل صفة رزق مضاف إلى
حل أي مماثلا للحل وإن وصلية على الأظهر أي أقول ذلك وإن يكره إلى آه
ويحتمل أن يكون شرطية بحذف جواب الشرط والتقدير وإن يكره أقل ذلك
وعلى كل فيكره مجزوم بها ومقالي مفعول مقدم ويحتمل الوزن فتح يائه
وتسكينها وكل فاعل مؤخر مضاف إلى قال و الكلية حقيقية أو إضافية
(وحاصل معنى البيت) إن الحرام عندنا رزق كما أن الحلال رزق لأنه ما يسوقه
الله تعالى إلى الحيوانات لينتفع به حلالا كان أو حراما وإن كان ضررا عليه لأنه
تعالى لا يجب عليه فعل الأصلح للعبد والخير والشر كله بيده يفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد كما قدمنا وهو المبني عليه زعم المعتزلة من أن الحرام ليس برزق للانسان
وأنه قبيح والقبيح لا ينسب إليه تعالى كما قدمنا قال شارح والاختلاف فيه بناء
على أن الرزق عندنا هو الغذاء المقدر للحي المتغذي فما قدره الله تعالى أن يكون
غذاء الحيوان معين لا يصير غذاء لغيره سواء ملكه أو لم يملكه وعندهم الرزق
اسم للملك تمسكا بقوله تعالى ومما رزقناهم ينفقون أي مما ملكناهم قلنا الرزق
هنا مفسر بالتقدير من الغذاء وهو غير التمليك وما ذكروه فيه من أن الأصلح
للعبد أن يقدر له من الحلال دون الحرام وإلا لكان ظلما ممنوع بما قدمنا من
أنه لا إيجاب عليه تعالى وإلا لكان فوقه موجب وهو باطل وأيضا لو كان الرزق
هو الملك لما رزق الدواب لانتفاء أهلية التملك وكذا المماليك عندنا لكن الكل
مرزوقون عندنا بقوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها قال الناظم رحمه الله
51 ودنيانا حديث والهيولى * عديم الكون فاسمع باجتذال
الدنيا بضم الدال على الأشهر وزنها فعلى مقصورة كحبلى غير منونة إذ هي غير منصرفة
للوصفية ولزوم ألف التأنيث وحكي فيها كسر الدال سميت لسبقها الدار الآخرة
وقربها منها من الدنو وهو القرب أو لدنوها من الزوال ولدناءتها من
الدنائة أي الخسة وفي حقيقتها قولان للمتكلمين أحدهما أنها الأرض مع
الهوى والجو والثاني جميع المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الآخرة
ورجح الثاني وهو المناسب ههنا وهي بما فيها حادثة عند أهل السنة والجماعة
110

فرع كثير من القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى
الآخرة بل هذا هو المقصود بالذات من بيان الشرايع كيف لا وهي عدوة الله
تعالى لقطعها طريق الوصلة إليه وعدوة أوليائه لتزينها لهم بزينتها حتى تجرعوا
مرارة الصبر في مقاطعتها وعدوة لأعدائه لاستدراجها لهم حتى خذلتهم وصح
أنه عليه أفضل الصلاة والسلام رأى شاة ميتة فقال والذي نفسي بيده الدنيا أهون
على الله تعالى من هذه الشاة على أهلها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقي
كافرا منها شرة ماء وفي الخبر الحسن: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله
وما والاه وعالم ومتعلم وصح أن أبا بكر رضي الله عنه دعا بشراب وعسل فلما جيئ به
بكى حتى بكى أصحابه فسألوه عن ذلك فقال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته
يدفع عن نفسه شيئا ولم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن
نفسك فقال هذه الدنيا مثلت لي فقلت إليك عني فرجعت ثم قالت إنك أفلت
مني لم يفلت مني من بعدك وصح من جملة الحديث المشهور فوالله ما الفقر
أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تسلط عليكم الدنيا كما سلطت على من
قبلكم فتنا فسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم وقدمنا أيضا والحديث
ضد القديم ومعنى الهيولى عند القائلين بها وهم الفلاسفة والدهرية طينة
العالم وهيولى الشئ مادته التي يتخذ منها كالخشبة يتخذ منها السرير والباب
ونحوهما وكالحنطة يتخذ منها الخبز ونحوه وهم اختلفوا في الطينة فمنهم من قال
هي الطبايع الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وأصل العالم هذه
الأربع وهي عندهم قديمة ومنهم من قال هي الاستقصات وهي الماء والتراب
والنار والهواء وهي قديمة عندهم وحاصله أنهم قائلون بقدم الممكنات
كالهيولى يزعمون أنه محتاج إلى العقل الأول صادر عنه دائم بدوامه قديم
بقدمه وهو ظاهر البطلان لأن العالم على زعمهم مركب من الهيولى والهيولى
قديم فيلزم قدم العالم والأجسام والصور ونفي حشر الأجساد كما قدمنا
وسنبين أيضا وجه فساده وقوله باجتذال بالجيم والذال المعجمة الفرح أي
فاسمع مقالي ملتبسا بالفرح والسرور بسماع هذه الحق الإعراب دنيانا
مبتدأ وحديث خبره وفعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث أو المعنى مخلوق حديث
والهيولى مبتدأ وعديم الكون خبره وقال بعض الناس الهيولى معطوف على دنيانا
111

وحديث خبر عنهما وفيه نظر من جهة المعنى والإعراب كما لا يخفى على أولي الألباب
(وحاصل معنى البيت) إن الدنيا وما فيها بجميع أجزائها محدثة فإنه تعالى أحدث
هذا العالم بعد أن كان معدوما وأوجده بعد أن لم يكن شيئا مذكورا على وفق
ما سبق في علمه الأزلي من غير توقف قدرته على مادة وإبداعه على استفادة
فائدة والقول بكون الهيولى أصل العالم ومادة بني آدم من العناصر الأربعة أو
غيرها وأنه قديم في الكون قول قديم وفهم سقيم مخالف للأدلة النقلية أو العقلية
قال تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ولأنه يلزم أن تتوقف قدرته تعالى وإيجاده
على مادة فيلزم العجز وينتفي وصفه بالبديع أي المبدئ ويلزم قدم العالم وكل
ذلك ظاهرا البطلان كما يدل عليه ظاهر من القرآن قال الله تعالى بديع السماوات
والأرض * وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول
له كن فيكون إلى غير ذلك من الآيات وفي الحديث القدسي (كنت كنزا محتفيا فأردت
أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف) وأظهر منه بطلانا وأقوى فسادا قول القدرية: إن
بعض العالم مخلوق للعبد وهذا هو الشرك الظاهر وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام
القدرية والجبرية مجوس هذه الأمة فإنهم يضيفون الخيرات إلى الله تعالى
والشرور إلى العبد وقد قال تعالى كل من عند الله قال الناظم رحمه الله تعالى
52 وللجنات والنيران كون * عليها مر أحوال خوال
الجنات جمع جنة وهي في الأصل اسم للبستان والمراد بها ههنا التي أعدها الله
تعالى لتنعم عباده المؤمنين في الآخرة والنيران جمع نار والمراد بها جهنم التي أعدت
لعذاب الكافرين وأراد بالكون الوجود أي لها وجود الآن والأحوال جمع
حول بمعنى السنين أي مر عليها سنين كثيرة أو جمع حال أي مر عليها أحوال كثيرة
من أحوال العالم والخوالي جمع خالية أي الماضية والقرون الخالية أي الماضية يعني
أنه مما يجب اعتقاده أن الجنة حق والنار حق وأنهما مخلوقتان موجودتان الآن
وقد مر عليها أزمان كثيرة وأحوال عديدة قال تعالى: وقلنا يا آدم اسكن أنت
وزوجك الجنة الآية والنصوص الظاهرة في إعدادهما مثل أعدت للمتقين
أعدت للكافرين ولا ضرورة في العدول عن الحقيقة وفيه إشارة إلى الرد على
المعتزلة في إنكارهما وجود الآن وأنهما يخلقان يوم الجزاء لعدم الاحتياج إليهما الآن
112

واحتجوا بمثل قوله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا والجواب مبتدأ بأن هذا يحتمل الحال والاستقبال وقصة آدم عليه إسلام
نص في الوقوع فبقيت سالمة عن المعارض على أن معنى نجعلها يحتمل أن يكون
نخصها بهم كما يقال أجعل هذه لزيد وهذا لعمرو أي أخص به فلا ينافي وجودهما
الآن وقولهم لو كانتا موجودتين الآن لما جاز هلاك أكل الجنة لقوله تعالى
أكلها دائم وظلها لكن اللازم باطل لقوله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه
مردود خبر لأنه نقول لا خفاء في أنه لا يمكن دوام أكل الجنة بعينه وإلا فكيف يصح
التنعم في الآخرة وإنما المراد بدوامه أنه إذا فنى منه شئ جيئ ببدله وهذا لا ينافي
الهلاك لحظة وقدمنا بقية الكلام في ذلك الإعراب للجنات خبر مقدم والنيران
معطوف عليه وكون مبتدأ مؤخر ومر فعل ماض وفاعله أحوال وعليها
متعلق به ويحتمل أن يكون مصدرا مرفوعا بالابتداء مضافا إلى أحوال وعليها
في محل رفع خبر قدم عليه وخوال صفة أحوال على كل حال (وحاصل معنى البيت)
إن معتقد أهل السنة أن للجنات والنيران وجود الآن وثبوت وفيما يقابله من
الأزمان كما يستفاد من صريح القرآن خلافا لما تزعمه المعتزلة من نفي وجودهما
الآن أو نفيهما بالكلية قال القاضي ذهب جمهور الأمة إلى أن الجنة مخلوقة
والدليل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقال العلامة السيوطي في كتابه
المسمى بشرح الصدور وقد ثبت بالأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة وأن
النار تحت الأرض السابعة وعن مجاهد أنه قال السجين صخرة تحت الأرض السابعة
في جهنم جعل كتاب الفجار فيها والله أعلم قال الناظم رحمه الله تعالى
53 وللدعوات تأثير بليغ * وقد ينفيه أصحاب الضلال
يعني أن معتقد أهل السنة أن للدعوات تأثيرا أي فائدة لنفس الداعي ولغيره بدعائه
من حي أو ميت بإجابة الله تعالى وكذا للصدقات وفعل الخيرات لكل ذلك نفع بأمر الله
تعالى كما هو صريح الكتاب والسنة وعليه إجماع الأمة قال تعالى ادعوني أستجب لكم وقال
أجيب دعوة الداع إذا دعان وغير ذلك من الآيات وقال عليه السلام يستجاب دعاء
العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وقال إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه
أن يردهما صفرا وقال فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما خمس دعوات لا ترد دعوة الحاج حتى يصدر
113

ودعوة الغازي حتى يرجع ودعوة المظلوم حتى ينتصر ودعوة المريض حتى يشفى ودعوة الأخ
لأخيه بظهر الغيب وأسرع هذه الدعوات دعوة الأخ لأخيه بالغيب. أخرجه الحافظ
وصححه الطبري وقال عليه السلام دعاء الأحياء ينفع الأموات وقال عليه السلام اهدوا إلى
أمواتكم قالوا وما الهدية يا رسول الله قال الدعاء والصدقة وقال تصدقوا على موتاكم فإن الله
تعالى وكل ملائكته يحملون صدقات الأحياء إليهم فيفرحون بها ويقولون اللهم اغفر لمن نور
قبورنا وبشره بالجنة كما بشرنا الحديث والأخبار في ذلك كثيرة وعليه إجماع المسلمين
وفي قوله وقد ينفيه أصحاب الضلال إشارة إلى الرد على المعتزلة في زعمهم
أنه لا تأثير للدعاء وأن العبد لا ينتفع بعمل غيره ولا بدعائه وهو مردود بما
ذكرنا وقوله تعالى وأن ليس للانسان إلا ما سعى اللام فيه بمعنى على أو المعنى ليس له من
عمل غيره شئ إذا لم يجعله له ثم اعلم أن تأثير الدعوات في القضاء المعلق فإن
القضاء على نوعين معلق ومبرم فالقضاء المعلق يندفع بالدعاء بشروطه وهو الذي
أشار إليه المص وكذا بالصدقات وفعل الخيرات والبر والاحسان وصلة
الأرحام ومبرم لازم الوقوع لما علمت من قواعدنا أن ما سبق في عمله تعالى من
غير تعليق لا بد من وقوعه فهذا لا تغير ولا تبدل وإنما يحصل بذلك الرفق والبركة
في العمر والتيسير وعلى هذا حمل كل ما ورد من نحو الصدقة تدفع البلا وتزيد في العمر
وصلة الرحم تزيد في العمر ونحو ذلك ثم أن للدعاء شروطا ألزمها خلو جوف الداعي
من الحرام لما في حديث مسلم يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه
حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له أي كيف ومن أين يستجاب لمن هذه صفته وقبح
ما فيه فهو ظاهر في أن تناول الحرام مانع من إجابة الدعاء ومنها أن لا يدعو
بحرام كان يدعو بالشر على غير مستحقه ولا بمحال ولو عادة فإن الله تعالى أجرى
الأمور على العادة فالدعاء بخرقها تحكم على القدرة القاضية بدوامها وذلك
سوء أدب مع الله تعالى قيل إلا بالاسم الأعظم ومنها أن لا يكون فيما يسئل غرض
فاسد كطلب مال للتفاخر وطول عمر لغير طاعة ومنها أن لا يكون فيما يسئل غرض
فاسد كطلب مال للتفاخر وطول عمر لغير طاعة ومنها أن يكون على وجه
الاختيار فإنه سوء ظن بالله تعالى وهو تعالى على كل شئ قدير ومنها أن لا يستعظم
حاجته وأن يكون حاضر القلب وتكون الإجابة عنده أغلب من الرد لخبر
ادعوا الله وأنتم موقنون فإن الله تعالى لا يسمع دعاء من قلب غافل لاه ولخبر يقول الله
عز وجل أنا عند ظن عبدي بي ومنها أن لا يشتغل به عن فرض ومنها أن لا يضجر
114

من تأخير إجابة فيقول كم أدعو فلم يستجب لي فإنه سوء أدب مع الله تعالى
وربما كان الخير في التأخير بمقتضى الحكم الإلهي وأن لا يدعو بدعاء مجهول
أو ينقله عن مجهول ما لم يسئل عنه من أهل العلم ويأخذه من أستاذ مع الضبط
والاتقان بقدر الإمكان وأن يحترز عما يعد إساءة في المخاطبات كجماع ونحوه
وأن يعدو بأسماء الله الحسنى دون غيرها وإن كان حقا كخالق الخنازير قيل وأن
لا يعلق بما هو شأنه تعالى كاللهم أفعل بي ما أنت أهله في الدنيا والآخرة وروي أن
إبراهيم بن أدهم مر بسوق البصرة فاجتمع الناس عليه وقالوا يا أبا إسحاق ما لنا
ندعو فلا يستجاب لنا قال لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء الأول عرفتم الحق فلا
تؤدوا حقه الثاني زعمتم إنكم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته الثالث
قرأتم القرآن فلم تعملوا به الرابع أكلتم نعم الله تعالى ولم تؤدوا شكر الله تعالى الخامس
قلتم إن الشيطان عدونا ولم تخالفوه السادس قلتم إن الجنة حق ولم تعملوا لها
السابع قلتم إن النار حق ولم تهربوا منها الثامن قلتم إن الموت حق ولم تعتدوا له
التاسع انتبهتم من النوم فاشتغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم العاشر دفنتم
موتاكم ولم تعتبروا بهم ثم اعلم أن إجابة الدعاء ليست منحصرة بالإسفاف بالمطلوب
بل هي حصول واحد من الثلاثة في قوله عليه الصلاة والسلام ما من داع يدعوا إلا كان بين
ثلاثة إما أن يستجاب له وإما أن يدخر له يعني أفضل مما طلب وإما أن يكفر عنه
من ذنبه،، وفي لفظ أو يدفع عنه من السوء مثله الإعراب للدعوات في محل رفع
خبر مقدم وتأثير مبتدأ مؤخر وبليغ صفة تأثير والواو في وقد للحال على الأظهر
وقد حرف تحقيق ولا يحسن أن تجعل للتقليل باعتبار القائل بنفيه كما لا يخفى وينفيه
مضارع مرفوع بثبوت الياء والهاء في محل نصب مفعول راجع إلى التأثير
وأصحاب بالرفع فاعل ينفي مضاف إلى الضلال (وحاصل معنى البيت) إن لدعوات
المؤمنين تأثيرا بل يحصل فيه الرفق بليغا في صرف أثر القضاء المعلق على الدعاء
لا القضاء المبرم وزعم المعتزلة نفي تأثيره مردود بالكتاب والسنة وإجماع الأمة
كما تقدم تتمة اختلف المشايخ في أنه هل يجوز أن يقال يستجاب دعاء الكافر
فمنعه الجمهور لقوله تعالى وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ولأنه لا يدعو الله تعالى لأنه
غير عارف به لأنه وإن أقر به إلا أنه لما وصفه بما لا يليق به فقد نقض إقراره وما
روي في الحديث من أن دعوة المظلوم وإن كان كافرا تستجاب محمول على كفران النعمة
115

وجوز بعضهم لقوله تعالى حكاية عن إبليس قال رب انظرني إلى يوم يبعثون فقال
تعالى إنك من المنظرين فهذه إجابة وإليه ذهب أبو القاسم الحكيم وأبو نصر
الدبوسي وقال صدر الشهيد وبه يفتي ولكن لا يخفى ما في الاستدلال بالآية
لاحتمال أن يكون ذلك إخبارا عما سبق في العلم الأزلي لا استجابة فالأولى أن يقتصر
في الاستدلال لهذا القول بالحديث ولا مقتضى لصرفه عن ظاهره فافهم. قال الناظم رحمه الله
54 وفي الأجداث عن توحيد ربي * سيبلى كل شخص بالسؤال
الأجداث بالجيم وفي آخره ثاء مثلثة جمع جدث بسكون الدال وقد تحرك ويجمع
أيضا على أجدث بضم الدال على وزن أفعل جمع قلة أيضا والمراد ههنا جمع الكثرة
وهو مستفاد من آل الاستغراقية يقال أجدث إذا اتخذ جدثا أي قبرا وقد
تبدل ثاؤه فاء لغة فيه والمشهور الأول وبه ورد القرآن الكريم وسيبلى من
البلاء بالفتح والمد لا من البلى بالكسر والقصر يعني سؤال منكر ونكير في القبر
حق ثابت بالدلائل السمعية يبتلى به كل شخص في قبره فيسألان عن توحيد ربه
ولو كان قبره البحر أو الهواء أو جوف السباع أو غيرها بعد رد روحه إليه
وجلوسه قيل معتمدا على يديه مائلا إلى قفاه فيجيب بما مات عليه من إيمان أو كفر وقد
وردت الأحاديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كقوله إذا دفن الميت في قبره أتاه ملكان
أسودان أزرقا العينين وهما شخصان مهيبان معهما مرزبتان يقعدان العبد في قبره ويسألانه
عن ثلاثة من ربك وما دينك ومن نبيك فإذا أجابهما وسعا في قبره سبعين ذراعا بشارة
ويقولان له ثبتك الله بالقول الثابت نم قرير العين وإن كان كافرا يقول هاه هاه لا أدري فيقولان
له لا دريت ويضربانه بمرزبة يسمعها ما بين الخافقين إلا الجن والإنس فمن أنكر سؤال القبر
كان معتزليا أو قدريا وظاهر كلام المص رحمه الله تعميم السؤال إذ الأصل في كلمة كل
استغراق أفراد النكرة الداخلة هي عليها وهذا عند البعض من أن للأنبياء والصبيان
سؤالا قال السيد أبو شجاع أن للصبيان سؤالا وكذا للأنبياء عند البعض وقدمناه
مع زيادة لكن قال الكمال ابن الهمام في مسايرته الأصح أن الأنبياء لا يسألون ولا
أطفال المؤمنين واختلف في أطفال المشركين ودخولهم الجنة أو النار وتردد فيهم
أبو حنيفة رحمه الله وغيره ووردت فيهم أخبار متعارضة فالسبيل تفويض أمرهم إلى
الله تعالى قال محمد بن الحسن رحمهما الله اعلم أن الله تعالى لا يعذب أحد بلا ذنب انتهى واختلف
116

في سؤال الجن فذهب بعض المتأخرين إلى أنهم يسألون لعموم الأدلة ولأنهم مكلفون
بالإيمان والنبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم أيضا على الصحيح وكذا يأجوج ومأجوج في الصحيح
لأنهم كفار من بني آدم وقد سئل عنهم عليه السلام هل بلغتهم دعوتك يا رسول
الله قال مررت بهم ليلة أسري بي فدعوتهم إلى الإسلام فأبوا فهم من أهل النار
وأما الملائكة فلا يسألون ولا يحاسبون على الظاهر لأنهم لا ذنوب لهم وقيل
يحاسبون وقدمنا معناه وسيأتي بيانه أيضا وقيل إن الكافر الصريح يعذب من
غير سؤال بخلاف المنافق وقيل يسئل كل منهما وهو ظاهر الحديث المتقدم هذا
وقد وردت الأحاديث في عدة من المؤمنين أنهم لا يسألون منهم الشهيد و
المرابط ولو يوما وليلة في سبيل الله تعالى ومن مات يوم الجمعة وليلتها ومن داوم
على قراءة سورة الملك في كل ليلة والمبطون أي صاحب الاستقاء أو الاسهال
قولان فعلى هذا إطلاق المص في غير موضعه والمعنى كل شخص من غير نص
عليه أنه لا يسأل ثم اختلف هل السؤال بالسرياني أو كل أحد يسأل بلغته فقيل
بالأول وقيل بالثاني قال بعضهم وهو الحق وقيل غير معروف بين المتكلين وهل السؤال
مرة واحدة فقيل نعم وقيل يسأل ثلاثا وقيل إن المؤمن يسأل سبعة أيام والكافر
أربعين صباحا ونقل الشارح المقدسي أن سؤال القبر دون عذابه من خصائص
هذه الأمة تبتلى في قبورها الحديث أخرجه مسلم والحكمة في ذلك لتعجل عذابها
في البرزخ فتوافي القيامة ممحصة وذكروا في خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه مما خص به
في أمة أنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم ويأتون غرا محجلين وعجل
عذابهم في الدنيا وفي البرزخ ليوافوا القيامة ممحصين ويدخلون قبورهم بذنوبهم
ويخرجون منها بلا ذنوب ونقل شيخنا أن السؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون عن نبينا
عليه الصلاة والسلام خاصة كما هو ظاهر حديث الصحيحين بي تفتنون وعني تسألون فهو
معدود من خصائصه عليه السلام انتهى وكان هذا بناء على أن السؤال مختص بهذه الأمة
وأن المعنى أن سؤال هذه الأمة مختص بكونه عن نبينا عليه السلام دون غيره وإلا فإذا
كان للأمم السابقة سؤالا فالظاهر أن يكون سؤال كل أمة عن النبي الذي أرسل
إليها فالخطاب في قوله عليه السلام وعني تسألون لهذه الأمة فافهم الإعراب
في الأجداث متعلق بسيبلى وعن توحيد ربي متعلق بالسؤال فهو لف ونشر مرتب
وقيل الظرف الثاني أيضا متعلق بسيبلى ولا معنى له كما لا يخفى وكل مرفوع نائب فاعل
117

سيبلى وشخص مجرور بإضافة كل إليه وبالسؤال متعلق بسيبلى (وحاصل معنى البيت)
سيبلى كل شخص من المكلفين أو من بني آدم في قبره بالسؤال عن توحيد ربه
إلا من استثنى عن ذلك والله أعلم وأحكم قال الناظم رحمه الله تعالى
55 وللكفار والفساق يقضى * عذاب القبر من شر الفعال
الواو عاطفة قصة على قصة وللكفار متعلق بيقضى وللفساق عطف على
الكفار ويقضى على صيفة المبني للمفعول ونائب فاعله عذاب القبر وحذف
الفاعل لعينه لأن هذا القضاء لا يكون إلا من الله تعالى كما دل عليه القرآن الكريم
ومن شر متعلق بيقضى أو بعذاب ومن ههنا تعليلية كما في قوله تعالى مما خطيئاتهم أغرقوا
وقول الشاعر: يقضى حياء ويقضى من مهابته * كما في المغني والفعال بكسر الفاء جمع
فعل وبالفتح مصدر كما في الصحاح وكلا المعنيين محتمل ههنا (وحاصل معنى البيت)
إن عذاب القبر حق ثابت بالأدلة واقع للكفار ولمن يستحق ذلك من عصاة
المؤمنين وكذلك نعيمه للمؤمنين فوقوعه أيضا واجب وتركه المص رحمه الله وقد ذكر
في سائر كتب هذا الفن اكتفاء بذكر المقابل ولأن النصوص الواردة في عذاب
القبر أكثر ولأن غالب أهل القبور كفار وعصاة لكن ما ذكره أولى كما فعل غيره
كالنسفي رحمه الله وقال صاحب الجوهرة: سؤالنا ثم عذاب القبر نعيمه واجب كبعث الحشر
وهو أمر ممكن أخبر به الصادق ونطقت به النصوص قال تعالى النار يعرضون عليها
غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وقال تعالى ومن
أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا أريد به عذاب القبر وقال تعالى سنعذبهم
مرتين أي مرة في القبر ومرة يوم القيامة وقوله تعالى فلنذيقنهم من العذاب
الأدنى دون العذاب الأكبر جاء في التفسير الأدنى عذاب القبر وقال عليه السلام
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت نزلت في عذاب القبر إذا قيل له من ربك وما دينك
ومن نبيك الحديث وقال عليه السلام القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
وبقية الأحاديث في هذا المعنى قد بلغ جملتها حد التواتر وإن لم يبلغ آحادها حد
التواتر وأنكر عذاب القبر بعض المعتزلة والروافض زعما بأن الميت جماد لا حياة
له ولا إدراك له فتعذبه محال. الجواب إنه مردود بما قدمنا ولأنه يجوز أن
يخلق الله تعالى في جميع أجزائه أو في بعضها نوعا من الحياة قدر ما يدرك ألم العذاب
118

ولذة النعيم وهذا لا يستلزم إعادة الروح إلى بدنه ولا أن يتحرك ويضطرب
أو يرى أثر العذاب عليه حتى أن الغريق في الماء والمأكول في بطون الحيوانات
والمصلوب في الهواء يعذب وإن لم تطلع عليه ومن تأمل في عجائب ملكه
وغرائب قدرته وجبروته لم يستبعد أمثال ذلك فضلا عن الاستحالة. فائدة قال
ابن القيم عذاب القبر قسمان دائم وهو عذاب الكفار وبعض العصاة ومنقطع
وهو عذاب من خفت جرايمهم من العصاة فإنهم يعذبون بحسبها ثم يرفع عنهم بدعاء
أو صدقة أو غير ذلك قال اليافعي بلغنا أن الموتى لا يعذبون ليلة الجمعة تشريفا
لها ويحتمل اختصاص ذلك بعصاة المسلمين دون الكفار وعممه بعض العلماء للكفار
أيضا فقال إن الكافر يرفع عنه العذاب يوم الجمعة وجميع شهر رمضان. وأما
المسلم العاصي فإن مات في غير الجمعة عذب إليها ثم ينقطع فلا يعود إلى يوم
القيامة وممن صرح بأن عذاب القبر نوعان دائم ومنقطع الدميري من
السادة الشافعية نقله شيخنا في شرحه وفيه بشارة عظيمة والله أعلم. قال الناظم رحمه الله
56 حساب الناس بعد البعث * حق فكونوا بالتحرز عن وبال
حساب الله الناس عدا عما لهم عليهم يوم القيامة ومجازاتهم عليها إن خيرا فخير
وإن شرا فشر والناس إن كان من الإنس ضد الوحشة اختص ببني آدم وإن
كان من نوس إذا تحرك فيعم الجن بالحقيقة أو الغلبة والثاني هو الظاهر ههنا لأنه
عليه السلام مرسل إليهم على ما قدمنا وأسلم منهم جمع على يديه كجن نصيبين
فيحاسبون خصوصا على حقوق الآدميين لأن شرورهم تصل إلينا وأصل الناس
الأناس حذفت الهمزة تخفيفا وقال صاحب القاموس يكون من الإنس
ومن الجن جمع آنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل وفيما قاله نظر إذ
جعله شاملا للجن مع كون مفرده إنس غير متجه ولذا قال إنه جمع عزيز ومخالف
لما صرح به صاحب الكشاف في سورة البقرة والأعراف من أنه اسم جمع غير تكسير بدليل
عود الضمير إليه وتصغيره على لفظه ولأنه لم يسمع جاء جمع على فعال بالضم إلا
في ثمانية ألفاظ كما قاله السعد رحمه الله لكن زاد عليه صاحب المزهر وغيره ألفاظا
والبعث أن يخرج الله تعالى الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد
الأرواح إليها وهو على جمعها القدير ثم يساقون إلى المحشر والوبال سوء العاقبة
119

(وحاصل معنى البيت) إن حساب الله الناس بعد بعثهم من قبورهم على أفعالهم
وأقوالهم قلت أو كثرت ومجازاتهم عليها حق ثابت يجب اعتقاد وقوعه فكونوا
معشر الناس متسمين بالتحرز عن الوقوع في الآثام وما يوجب النكال والملام وادخروا
لذلك اليوم ما ينفعكم فسيرى الله عملكم ويجازيكم على ما كسبتم من خير أو شر
كما قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى
ثم توفى كل نفس ما كسبت وقال تعالى ثم إنكم يوم القيامة تبعثون وقوله
عليه السلام حلالها وحرامها عذاب فالبعث والحساب والمجازات حق عند
أهل السنة للنصوص القاطعة مما ذكرنا وغيرها بحشر الأجساد وأنكره الفلاسفة
بناء على امتناع إعادة المعدوم بعينه قال العلامة رحمه الله في شرح العقائد وهو
أي قول الفلاسفة مع أنهم لا دليل لهم عليه غير مضر بالمق لأن مرادنا أن الله تعالى
يجمع الأجزاء الأصلية للانسان ويعيد روحه إليه سواء سمي ذلك إعادة المعدوم
بعينه أو لم يسم انتهى ومفاده أنهم يقولون بالحشر وإنما يخالفون في التسمية
وفيه نظر فتأمل ثم إطلاق المص رحمه الله الناس يحتمل دخول الجن فيهم ويحتمل
عدمه على ما قدمنا لكن الأكثرون على دخولهم لأنهم مكلفون لهم ثواب وعليهم عقاب
فيحاسبون كبني آدم وهو الراجح وأما الملائكة هل يحاسبون: أخرج ابن أبي
حاتم عن عطاء بن السائب قال أول من يحاسب جبرائيل عليه السلام والمراد من حسابه
والله أعلم ما أخرجه ابن حبان عن سنان أنه قال: اللوح المحفوظ معلق بالعرش فإذا
أراد الله تعالى أن يوحي بشئ كتب في اللوح المحفوظ فيجئ اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل فينظر
فيه فإن كان متعلقا إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى
جبرائيل فأول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به فترعد فرائصه فيقال له هل
بلفت فيقول نعم فيقال من يشهد لك فيقول إسرافيل فيدعى إسرافيل فترعد فرائصه
فيقال هل بلغك اللوح فإذا قال نعم قال اللوح الحمد لله الذي نجاني من سوء الحساب. وأخرج
أيضا عن وهب بن الورد قال إذا كان يوم القيامة دعي إسرافيل ترعد فرائصه
فيقال ما صنعت فيما أدى إليك فيقول بلغت جبرائيل فيدعى جبرائيل ترعد فرائصه
فيقال ما صنعت فيما بلغك إسرافيل فيقول بلغت الرسل فيؤتى بالرسل فيقال ما صنعتم
فيما أدى إليكم جبرائيل فيقولون بلغنا الناس وهو قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل
إليهم ولنسألن المرسلين ثم تسئل الأمم وسؤالهم بحسب أحوالهم فمنهم من
120

يسأل على رؤس الأشهاد فينفضح بالسؤال ومنهم من لم يطلع على سؤاله أحد كما
قال عليه السلام إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وسره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب
كذا فيقول نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورآى في نفسه أنه قد هلك قال سترتها
عليك في الدنيا وإن أغفرها لك اليوم فيعطيه الله كتاب حسناته وأما الكافرون والمنافقون
فينادى لهم على رؤس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة على الظالمين
وروى الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى
للجماء من القرناء وحتى للذرة من الدرة وقال ليختصمن كل شئ يوم القيامة
حتى الشاتان فيما انتطحا ذكره علي قاري قالوا اختلف في دخول الجن الجنة على
أربعة أقوال أحدها نعم الثاني لا بل يكونون في ربضها الثالث أنهم على الأعراف
الرابع الوقف وحكى القول بدخولهم عن أكثر العلماء وعن مجاهد أنهم إذا دخلوا
الجنة لا يأكلون ولا يشربون ويلهمون من التسبيح والتقديس ما يجده أهل الجنة
من لذة الطعام والشراب ذكر الحارث المحاسبي إنا نراهم إذ ذاك وهم لا يروننا
عكس ما كانوا عليه في الدنيا الإعراب حساب مضاف إلى الناس مبتدأ من
إضافة المصدر إلى مفعوله أي حساب الله الناس وبعد منصوب على الظرفية
مضاف إلى البعث و حق خبر المبتدأ فكونوا الفاء فصحيحة أو تفريعية وكونوا فعل
أمر من كان الناقصة واسمها مستتر وبالتحرز متعلق بخبر كان المحذوف أي متلبسين
أو متسمين بالتحرز عن وبال أي سوء العاقبة يعني عن الأنام من إطلاق السبب
وإرادة المسبب ومعنى البيت قد ظهر تتمة يحاسب العبد يوم القيامة بلا ترجمان
فالله يسأل والعبد يجيب وأول شئ يحاسب عليه الصلاة وأول ما يقضى بين
الناس في الدماء رواه ابن بريدة مرفوعا وأول من يساق إلى النار من الآدميين
قابيل لأنه رأس هذه الخطيئة ومن الجن إبليس لعنة الله تعالى والله أعلم قال الناظم رحمه الله
57 ويعطى الكتب بعضا نحو يمنى * وبعضا نحو ظهر الشمال
الكتب بضمتين جمع كتاب وخفف بالسكون وهو قليل والمراد بها الصحائف التي
أثبت فيها طاعات العباد ومعاصيهم بضبط الكاتبين على كل عبد جميع أقواله
وأفعاله وما أسلفه في دار الدنيا مدة حياته كما قال تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد وظاهر بعض الأخبار أن الذي يعرض ما بقي فيها بعد المحو منها لقوله
121

عليه السلام و اتبع السيئة الحسنة تمحها فظاهره أنها تزال حقيقة من الصحيفة إذ هو
المتبادر إلى الفهم من المحو لأن الأصل الحقيقة وجوز بعضهم كونه عبارة عن ترك
المؤاخذة بها مع بقائها في الصحيفة لكنه تجوز يحتاج إلى الدليل ويؤيد الأول ما
أخرجه الطبراني عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نام ابن آدم قال
الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفته محي بها عشر سيئات
من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات (وحاصل معنى البيت) إنه مما يجب اعتقاده والإيمان
به أن كل إنسان يعطى كتابه يوم القيامة فيجد جميع ما فعله في دار الدنيا من خير أو
شر فيجازى به ثبت ذلك بالأدلة القطعية كما قدمنا قال تعالى ونخرج له يوم القيامة كتابا
يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وقال تعالى فأما من أوتي
كتابه بيمنيه فسوف يحاسب حسابا يسيرا أي سهلا لا مناقشة فيه وينقلب إلى
أهله مسرورا * فرحا، إذا أخذ كتابه بيمينه يبيض وجهه ويمد له في جسمه ستون
ذراعا وإذا قرأ وجد عنوانه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب الله الجليل إلى الصالح
الخليل فيجد فيه أعماله الصالحة فينطلق إلى أهله وأصحابه وعلى رأسه تاج من لؤلؤ
فإذا رأوه دعوا الله أن يكون لهم مثل ذلك فيقول لهم أبشروا كل منكم مثل هذا
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره أي بشماله من وراء ظهره وقيل تغل يمناه إلى عنقه
وتجعل يسراه وراء ظهره ثم يعطى كتابه فيها لتشد حسرته و ح يتمنى الهلاك كما قال
تعالى فسوف يدعو ثبورا بمعنى أنه يتمنى الثبور فيقول وا ثبوراه عند رؤيته ضبط جميع
أفعاله وقبايحه وما صدر منه في الدنيا كما قال تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين
مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وأنكر بعض المعتزلة الكتاب يزعمون
أن الأعمال معلومة لله تعالى فكتابتها عبث ورد بما قدمنا وغيره من النصوص ولأن
أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض ولو سلم فهناك من الحكمة ما لم نطلع عليه وعدم
اطلاعنا عليه لا يوجب العبث تعالى الله أن يكون في أفعاله عبث الإعراب يعطى
مضارع أعطى يتعدى إلى مفعولين ويصح أن يكون ههنا بالياء التحتية وفيه
وجهان أحدهما أن يكون مبنيا للمفعول والأصل يعطي الله الكتب حذف
فاعله للعلم به والكتب مفعوله الأول أقيم مقام الفاعل وبعضا مفعوله الثاني
وحذف المضاف إليه للضرورة أي بعض الناس وقيل تنوينه عوض عن المحذوف
122

والثاني أن يكون فاعل يعطى محذوفا لما ذكرنا ونائب فاعله مستتر يرجع إلى
الناس في البيت السابق وهو مفعوله الأول والكتب مفعوله الثاني ويكون
بعضا وبعضا بدلا أما من نائب الفاعل باعتبار المحل أو من الكتب بدل مفصل
من مجمل ويصح أن يكون مبنيا للفاعل وفاعله مستتر يرجع إلى الله والكتب أحد
مفعوليه والثاني محذوف أي الناس وبعضا وبعضا بدل من أحدهما ويصح
أن يكون بالتاء الفوقية مبنيا للمفعول ونائب فاعله مستتر يرجع إلى الناس
والكتب مفعوله الثاني أو الكتب نائب الفاعل ومفعوله الثاني بعضا وبعضا
أو محذوف أي الناس وبعضا وبعضا بدل منه ونحو ظرف بمعنى الجهة متعلق
بيعطى مضاف إلى يمنى ومثله نحو ظهر، والشمال عطف على ظهر (وحاصل معنى
البيت) أن حساب الناس بعد البعث على أعمالهم حق وأن الله يعطي الناس
كتبهم التي ضبط فيها أعمالهم بعضهم من جهة يمينه وبعضهم من جهة شماله من
وراء ظهره أو يعطيهم كتبهم بعضا من جهة اليمين وبعضا من جهة الشمال كما أخبر
الكريم المتعال قال الناظم رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
58 وحق وزن أعمال وجري * على متن الصراط بلا اهتبال
الوزن مصدر وزن ومنه الميزان آلته ومتن الصراط ظهره وأراد هنا بالاهتبال
الكذب أي بلا كذب قال في القاموس اهتبل كذب كثير يعني أن كلا من وزن
الأعمال والمرور على الصراط حق ثابت وقوعه بالنصوص من غير كذب فيجب
اعتقاد وقوعه لثبوته بالكتاب وألسنة وإجماع محققي الأمة قال تعالى والوزن
يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه
فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون وقال تعالى فأما من
ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك
ماهية نار حامية إلى غير ذلك وقد بلغت أحاديثه مبلغ التواتر. انعقد
إجماع أهل الحق على وقوع الوزن وإن اختلف في كيفية الميزان وذهب جمع من
المحققين إلى أنه ميزان حسي له كفتان ولسان توضع فيه صحف أعمال العباد الإظهار
العدل بين رابح وخاسر لا لاحتياج إليه قال العلامة رحمه الله في شرح العقائد والميزان
عبارة عما يعرف به مقادير الأعمال والعقل قاصر عن إدراك كيفيته انتهى وهو موافق
123

لمن توقف في كيفيته والله أعلم بحقيقته وقال بعض المحققين والأصح أنه ميزان
واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال، كفتاه كأطباق السماوات والأرض يوضع
بين الجنة والنار وقيل لكل أمة ميزان وقيل لكل مكلف ميزان وقيل للمؤمن
موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته بدليل قوله تعالى ونضع الموازين
القسط وأجاب الأولون بأن الجمع للتعظيم نحو ارحموني يا إله محمد
واختلف في الموزون فقيل نفس الكتب وهو الذي ذهب إليه الجمهور
من المفسرين وذهب البعض إلى أن الذي يوزن نفس الأعمال فتصور
الأعمال الصالحة بصور نورانية كالجواهر فتطرح في كفة النور وهي
اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة
ظلمانية فتطرح في كفة الظلمة وهي الشمال المعدة للسيئات فتخفف بعدل
الله تعالى كما جاء به الحديث وذهب إلى أنه تعالى يخلق أجساما على عدد
الأعمال من غير قلب لها كما جاء به الأثر أيضا والكافر كالمؤمن في وزن
في وزن الأعمال عند جمع من المحققين لكن يؤتى بأعماله في أقبح صورة وقوله
تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا أي نافعا أو قدرا فإن قيل إذا وزنت
الأعمال فرجحت أو خففت ماذا يفعل بها بعد ذلك أجيب بما نقله بعض
المحققين أن من سعد وضعت أعماله الصالحة على باب داره في الجنة يكون
ذلك زيادة في السرور وإن كان خاسرا وضعت على بابه في النار وقيل
تلقى معه في النار والمرور على الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف
يعبره أهل الجنة وتزل به أقدام أهل النار وأنكره أكثر المعتزلة لأنه لا يمكن
المرور عليه وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين وتكليف بما لا يطاق والجواب أنه
تعالى قادر على أن يمكن من المرور عليه ويسهله على المؤمنين حتى يجوزه كالبرق
الخاطف كما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم فنفيه معارضة للنصوص قال الله تعالى
وإن منكم إلا واردها وورود المؤمن إنما يكون فوقها على الصراط وقال
عليه السلام إن الله تعالى خلق للنار جسرا وهو الصراط طوله مسيرة ثلاثة آلاف
سنة ألف صعود وألف هبوط وألف استواء، جبريل في أو له وميكائيل في وسطه
يسألان الناس عن عمرهم فيما أفنوه وعن شبابهم فيما أبلوها وعن أعمالهم
ماذا عملوا. وورد في بعض الآثار: إنه سبع قناطر أرق من الشعرة وأحد من السيف
124

وأظلم من الليل كل قنطرة آلاف سنة ألف صعود وألف هبوط
وألف استواء يسأل في أولة عن الإيمان وفي الثاني عن الصلاة بالأركان
وفي الثالث عن الزكاة وفي الرابع عن صوم رمضان وفي الخامس عن
الحج وفي السادس عن الوضوء والغسل والجنابة بالإسباغ وفي السابع
عن الوالدين وصلة الأرحام والاصلاح بين الإخوان فإن أجاب عن كلها
مر عليه كالبرق الخاطف وإلا تردى في النار وعن عائشة رضي الله عنها أنها
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
وبرزوا لله الواحد القهار إذا بدلت الأرض فأين يكون الناس فقال عليه السلام
يكونون على الصراط والنصوص في ذلك كثيرة لا ينكرها إلا من أضله الله
ثم مرورهم مختلف متفاوت في سرعة النجاة وعدمها بحسب تفاوت
أعمالهم يدل عليه حديث: يمر المؤمنون كطرفة عين وكالبرق وكالريح
وكالطير وكأجود الخيل والركاب فناج سليم ومخدوش مزمل ومكدوش في نار
جهنم، وأول من يمر على الصراط محمد صلى الله عليه وسلم ومن الأمم أمته ولا
يتكلم ح إلا المرسلون يقولون اللهم سلم سلم وفي بعض الروايات ثم عيسى
عليه السلام بأمته يدعون نبيا نبيا حتى يكون آخرهم نوحا وأمته وآخر من يمر
على الصراط رجل يتلبط على بطنه فيقول أي رب لم بطئت بي فيقال إنما بطئ
بك عملك الإعراب حق خبر مقدم ووزن أعمال مبتدأ مؤخر وجرى
معطوف على وزن فيكون من عطف المفردات أي الوزن والجري ذو حق
أو المعطوف محذوف وهو حق فيكون من عطف الجمل وعلى متن الصراط
متعلق بجرى وبلا اهتبال في محل رفع صفة حق أو خبر مبتدأ محذوف أي
وذلك بلا اهتبال (وحاصل معنى البيت) وزن أعمال العباد بعد بعثهم ووقوعهم
بين يدي ربهم حق والجري على متن الصراط حق خال عن الكذب فيجب اعتقاد
وقوع كل منهما و من أنكر ذلك كان مخالفا لأهل السنة والجماعة تتمة لم يتعرض
المص لذكر الحوض كما تعرض غيره وهو أيضا حق يجب اعتقاده لقوله تعالى
إنا أعطيناك الكوثر و لقوله عليه السلام حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه
أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نحوم السماء من شرب
منه لا يظمأ أبدا وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
125

بين أظهرنا إذ غفا إغفاء ثم رفع رأسه متبسما فقال ما أضحكك يا رسول الله
فقال أنزلت على آنفا سورة فقرأ إنا أعطيناك الكوثر ثم قال أتدرون ما الكوثر
قلنا الله ورسوله أعلم قال إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه
أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء يمنع العبد منه فأقول يا رب إنه من أمتي
فيقال ما تدري ما أحدث بعدك وروى ابن ماجة الكوثر نهر في الجنة حافتاه
الذهب مجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وأشد بياضا من الثلج
وظاهر هذا أن الحوض في الجنة والذي قبله يدل على أنه قبلها وأجيب بأنهما
اثنان قال الإمام السيوطي نقلا عن القرطبي أن الحوض حوضان الأول قبل
الصراط وقبل الميزان على الأصح والثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثرا انتهى والله أعلم قال الناظم رح
59 ومرجو شفاعة أهل خير * لأصحاب الكبائر كالجبال
مرجو اسم مفعول من رجوته رجاء بالمد بمعنى الأمل فإنا راج وهو مرجو
وهي مرجوة والشفاعة لغة الوسائل وعرفا سؤال الخير للغير مأخوذ من الشفع
ضد الوتر من شفع من باب فتح يفتح سميت به لأن الشافع يضم المشفوع له إلى
نفسه أو يضم سؤاله إلى سؤاله والكبائر جمع كبيرة والمراد بها ههنا كل معصية
غير الشرك وغير الصغائر ولذا وصفها بقوله كالجبال واختلفوا في حدها
وضبطها والأحسن ما قيل فيها كل ما كان شنيعا بين المسلمين وفيه هتك حرمة
من حرمات الله تعالى فهو كبيرة وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها تسعة الشرك
بالله وقتل النفس بغير حق وقدف المحصنات والزنا والفرار من الزحف
والسحر وأكل مال اليتيم بغير حق وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم
وزاد أبو هريرة رضي الله عنه أكل الربا وزاد علي رضي الله عنه السرقة وشرب الخمر
وقيل هو كل ما كان مفسدة مثل شئ مما ذكر أو أكثر منه وقيل هو كل ما توعد عليه
الشارع بخصوصه وقيل كل معصية أصر عليه العبد فهي كبيرة وكل ما استغفر
عنها فهي صغيرة ويقرب من هذا ما روي أن رجلا سأل ابن عباس رضي الله عنه أسبع
الكبائر فقال هي إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع
الإصرار وقيل هي كل معصية وجب بها حد وهو قول بعض الفقهاء وقال صاحب
الكفاية الحق إنهما اسمان إضافيان لا يعرفان بذاتهما فكل معصية أضيفت إلى ما
126

فوقها فهي صغيرة وإن أضيفت إلى ما دونها فهي كبيرة انتهى لكن قوله تعالى: إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم يدل بظاهره أن الكبائر
ممتازة عن الصغائر بالذات فتأمل والكبيرة المطلقة هي الكفر إذ لا ذنب فوقه
وبالجملة فالمراد بالكبائر ههنا غير الكفر إذ لا شفاعة ولا عفو في الكفر أصلا
والحاصل إن شفاعة أهل الخير كالأنبياء والمؤمنين لأهل الكبائر ثابتة مرجوة
القبول يجب الإيمان بوقوعها قال تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال تعالى
واستغفر أسلوب هذا الكلام يدل على ثبوت الشفاعة في الجملة وإلا لما كان لنفي نفعها عن
الكافرين عند القصد إلى تقبيح حالهم وتحقيق يأسهم معنى لأن مثل هذا المقام
يقتضي أن يوسموا بما يخصهم لا بما يعمهم وغيرهم وليس المراد أن تعليق الحكم
والكافرين يدل على نفيه عما عداهم حتى يرد علينا ما يقوم حجة على من يقول
بمفهوم المخالفة وقال عليه الصلاة والسلام شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وفي سنن ابن
ماجة من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء
ثم الشهداء وحديث يشفع نبيكم رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبيكم
صلى الله عليه وسلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء. رواه أبو عمرو بن السماك والشفاعة
العظمى التي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم الشفاعة في فصل القضاء حين يسأل الناس آدم
عليه السلام في ذلك فلا يجيبهم لتذكره ما وقع له من الأكل من الشجرة ثم يأتون إلى
نوح عليه السلام ثم إلى الأنبياء من بعده فكل يقول نفسي لا أريد سواها فيأتون محمدا
صلى الله عليه وسلم وقد زاد بهم الكرب فيسألونه الشفاعة العظمى في فصل القضاء فيقول أنا
لها ويسجد تحت العرش وقدر السجود والاختلاف فيه مبسوط في موضعه فيشفع
صلى الله عليه وسلم فيشفع ويعجل الحساب ويرتاح الناس من هول الموقف بهذه الشفاعة خاصة
به صلى الله عليه وسلم اتفاقا وكذا الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب عند الأكثر وكذا الشفاعة
في زيادة الدرجات وفي حديث الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنهما بعد أن ذكر
الدجال وخروج يأجوج ومأجوج وغير ذلك قال ثم يؤمر بالصراط فيضرب
على جهنم فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم زمر كلمح البصر والبرق
ثم كمر الريح ثم كمر الطير ثم كأسرع البهائم ثم كذلك حتى يمر الرجل سعيا
ثم مشيا ثم يكون آخرهم رجل يتلبط على بطنه فيقول أي رب لماذا أبطأت بي فيقال
127

إنما أبطأ بك عملك ثم يؤذن في الشفاعة فيكون أول شافع روح القدس
جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يقول نبيك رابعا لا يشفع بعده
أحد فما الظاهر فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى فليس من نفس
إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة أو بيت في النار وهو يوم الحسرة ثم تشفع
الملائكة والشهداء والصالحون والمؤمنون فيشفعهم ثم يقول الله تبارك
وتعالى أنا أرحم الراحمين فيخرج من النار أكثر مما أخرج منها من جميع الخلق
برحمته فإذا أراد أن لا يخرج منها أحدا غير وجوههم وألوانهم فيجئ الرجل
فينظر فلا يعرف فيناديه الرجل فيقول يا فلان أنا فلان فيقول لا أعرفك فعند
ذلك يقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيقول الله تعالى اخسؤوا
فيها ولا تكلمون فإذا قال ذلك أطبقت عليهم فلا يخرج منهم بشر وتمام الحديث
في مستدرك الحاكم وأنكر المعتزلة وقوع الشفاعة واحتجوا بمثل قوله تعالى
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا تقبل منها شفاعة وقوله تعالى
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع والجواب بعد تسليم دلالتها على
العموم في الأشخاص والأزمان والأحوال: إنه يجب تخصيصها بالكفار جمعا
بين الأدلة ولما كان أصل العفو والشفاعة ثابتا بالأدلة القطعية من الكتاب
والسنة والإجماع قالت المعتزلة يجوز العفو عن الصغائر مطلقا وعن الكبائر
بعد التوبة وبالشفاعة وزيادة الثواب وكلاهما فاسدان أما الأول فلأن
التائب ومرتكب الصغيرة المجتنب عن الكبيرة لا يستحقان العذاب عندهم فلا
معنى للعفو والثاني فلأن النصوص واردة في الشفاعة بمعنى العفو عن الجناية
ثم اعلم أن المراد من الشفاعة لأصحاب الكبائر أي التي ماتوا عليها من غير
توبة وأما التائب عنها بشروطها ولو عند اليأس كما قدمنا فكمن لا ذنب له لقوله
تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وذكروا
أن للتوبة شروطا ثلاثة اثنان عامان الأول الندم على الذنب وخوف عقابه
الثاني العزم على أن لا يعود إليه ما عاش كما لا يعود اللبن إلى الضرع الثالث وهو
خاص الاقلاع عن الذنب في الحال بأن يتركه إن كان متلبسا به أو مصرا على
المعاودة إليه فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد الظلامة
إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه إن قدر ولو إلى وارثه فإن كانت غير مال استغفر
128

له ولا فائدة للتوبة والاستغفار مع التلبيس بالمعصية والاصرار عليها ففي الحديث
المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه وقوله عليه السلام التوبة ندم
أي معظم شروطها الندم لا مجرد الندم قال العلامة ابن العماد وشروطها
المذكورة مأخوذة من القرآن أما الندم فمأخوذ من قوله تعالى والذين إذا
فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم وأما الاقلاع
وترك العود ورد المظلمة فمستفاد من قوله ولم يصروا على ما فعلوا لأن من
لم يقلع عن الذنب فهو مصر عليه ومن أقلع وعزم على العود بعد مدة فهو مصر
أيضا وكذا من عزم على ترك العود مطلقا لكن أمسك ما غصبه مثلا ولم يرد فهو
مصر وفي هذا الأخير نظر فتدبر وزاد بعضهم في الشروط وقوع التوبة في
وقتها وهو ما قبل الغر غرة لما رواه الترمذي وحسنه عنه عليه السلام أنه قال إن
الله يقبل توبة العبد ما لم يغر غر أي تبلغ روحه حلقومه قيل هذا عند الأشاعرة
وأما عندنا فإنما يشترط عدم الغر غرة في إيمان الكافر دون توبة المؤمن
العاصي عملا بالاستصحاب إذ المؤمن قد سبق منه المعرفة والكافر يريد
أن ينشئ إيمانا ح فلا يقبل منة فتوبة اليأس مقبولة عندنا لا إيمانه انتهى
وقدمنا الكلام فيه مفصلا فارجع إلى تحقيقه وزاد بعضهم شرطا آخر وهو
أن تقع التوبة قبل ظهور الآيات كطلوع الشمس من مغربها ثم اعلم أن توبة
الكافر من كفره مقطوع بقبولها وأما ما سواها من أنواع التوبة هل قبوله قطعي
أو ظني فيه خلاف بين أهل السنة فأختار إمام الحرمين أنه ظني واختار بعضهم
أنه قطعي فمن اختار الأول نظر إلى نحو قوله تعالى: ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن اختار الثاني نظر إلى قوله تعالى: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات
وقوله تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات من غير تعليق
وهو الأظهر وحاصله إن الناس على قسمين لا ثالث لهما ولا واسطة
بينهما عند أهل السنة مؤمن وكافر فالكافر في النار إجماعا والمؤمن على
قسمين طائع وعاص فالطائع في الجنة إجماعا والعاصي على قسمين تائب
وغير تائب فالتائب في الجنة إجماعا خلافا لإمام الحرمين كما قدمنا وغير
التائب من المعاصي غير الكفر كبيرة كانت أو صغيرة مات مصرا عليها فهو في
مشية الله تعالى إما أن يعاقبه بإدخاله النار ثم يدخله الجنة وإما أن يسامح بعد
129

دخوله النار بمجرد فضله تعالى أو بفضله بشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف
أو ممن يشاء الله مع خلاف في أن هذه الشفاعة هل هي مختصة به صلى الله عليه وسلم
أو لا كما قدمنا الإعراب مرجو خبر مقدم وشفاعة أهل خير مبتدأ مؤخر لأصحاب
متعلق بمرجو مضاف إلى الكبائر وكالجبال إما في محل جر صفة للكبائر نظرا للمعنى
أو في محل نصب على الحال منه نظرا للفظه (وحاصل معنى البيت) إن الشفاعة
ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر التي هي كالجبال غير الشرك أو حال
كونها كالجبال خلافا لما يزعمه أهل المعتزلة والله أعلم بحقيقة الحال قال الناظم رحمه الله
60 وذو الإيمان لا يبقى مقيما * بشوم الذنب في دار اشتعال
ذو بمعنى صاحب وأراد بقوله لا يبقى مقيما أي لا يخلد في النار بسبب شوم
ذنبه أي ارتكابه الكبائر كما يقوله بعض المعتزلة والشوم سوء العاقبة والمراد
بها أقبح الذنوب أو الذنوب القبيحة التي عاقبتها وبال ونكال وأراد بدار الاشتعال
جهنم والمعنى أن من ارتكب من أهل الإيمان كبيرة وإن عظمت ومات مصرا
عليها لا يخرج بسببها عن إيمانه ما لم تكن موجبة للكفر وإن دخل النار بسببها
وعوقب عليها لا يخلد فيها قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن الخير
الإيمان بالله ورسوله وكتابه المنزل فمن وجد منه ذلك ومات عليه يجب
أن يرى ثوابه في الجنة وإن كان لمن أهل الكبائر وذلك لا يكون إلا بعد
خلاصه من النار إذ الثواب قبل العقاب منتف بالاتفاق فثبت أن المؤمن
العاصي لا يخلد في دار الاشتعال أي جهنم وقال تعالى وعد الله المؤمنين
والمؤمنات جنات وقال تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم
جنات الفردوس نزلا فإن المؤمن وإن عمل جميع الكبائر غير الكفر لا بد أن
يوجد منه عمل الصالحات في الجملة إلى غير ذلك من النصوص الدالة على
أن المؤمن من أهل الجنة ابتداء أو مآلا وأنه وإن عمل جميع المعاصي غير الكفر
لا يخرج بها عن الإيمان ولا يخلد في النار ويرجى له الغفران وأيضا الخلود
في النار من أعظم العقوبات وقد جعل جزاء للكفر الذي هو أعظم الجنايات
فلو جوزي به المذنب كما جوزي به الكافر كان زيادة على قدر الجناية قال
الشيخ النووي مذهب أهل الحق من السلف والخلف إن من مات موحدا أدخل الجنة
130

قطعا على كل حال كيف ما كان فإن كان سالما من المعاصي كطفل أو مجنون اتصل
جنونه بالبلوغ وتائب توبة نصوحا وموفق ما ألم بمعصية قط فإنهم يدخلون
الجنة ولا يدخلون النار لكنهم يردونها على الخلاف في الورود وأما من عمل
كبيرة ومات بغير توبة فهو في المشيئة إن شاء جعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه
ثم يدخله النار ولا يخلد في النار أحد مات موحدا ولو عمل جميع المعاصي كما أنه
لا يدخل الجنة أحد مات كافرا وإن عمل أعمال البر ما عمل هذا مذهب أهل الحق
انتهى وقدمنا نحوه وذهبت المعتزلة إلى أن من دخل النار كان خالدا فيها لأنه
إما كافرا وصاحب كبيرة مات بلا توبة فالكافر مخلد بالإجماع وكذا صاحب الكبيرة
بلا توبة لوجهين أحدهما أنه يستحق العذاب الذي هو مضرة خالصة دائمة فينافي
استحقاق الثواب الذي هو منفعة خالصة دائمة والجواب عنه منع قيد الدوام
وإلحاقه بالكافرين بل منع الاستحقاق بالمعنى الذي قصدوه وهو الاستيجاب وإنما الثواب
فضل منه والعذاب عدل فإن شاء عفا وإن شاء عذبه مدة ثم يدخله الجنة
الوجه الثاني لهم النصوص الدالة على الخلود كقوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم خالدا فيها وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا
خالدا فيها وقوله تعالى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار
هم فيها خالدون والجواب إن قاتل المؤمن لكونه مؤمنا لا يكون إلا كافرا فيستحق
الخلود وكذا من تعدى جميع حدود الله الشاملة للكفر وكذا من أحاطت به الخطيئة
وشملت من كل جانب لأن هذا لا يتأتى في حق المؤمن لما قدمنا ولو سلم
فالخلود قد يستعلم في المكث الطويل كقولهم سجن مخلد ولو سلم فمعارض
بالنصوص الدالة على عدم الخلود ذكره السعد رحمه الله في شرح العقائد وفي
الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد قال لا إله إلا الله
ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق الحديث
فائدة اختلفت الماتريدية والأشاعرة في معنى السعادة والشقاوة قالت الماتريدية
السعادة الإسلام والشقاوة الكفر والسعيد هو المسلم والشقي هو الكافر وعلى هذا
فيتصور أن السعيد قد يشقى بأن يرتد بعد الإيمان وأن الشقي قد يسعد بأن
يؤمن بعد الكفر وأن السعادة والشقاوة قد يتغيران ويتبدلان وما ختم له به
من إيمان أو كفر هو الذي سبق له في العلم الأزلي الذي لا تبدل ولا تغير فيه
131

ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها
إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها الحديث وقالت
الأشاعرة هما أزليتان لا تتغيران ولا تتبدلان فالسعادة الموت على الإيمان
لتعلق العلم الأزلي بها والشقاوة الموت على الكفر لتعلق العلم الأزلي بها كذلك
والسعيد من علم الله في الأزل موته على الإيمان وإن تقدم منه كفر والشقي
من علم الله في الأزل موته على الكفر وإن تقدم منه إيمان فعلى هذا لا يتصور
في السعيد أن يشقى ولا في الشقي أن يسعد والظاهر أن الخلاف في الختام لفظي
وإنما يظهر الخلاف في الدوام فيجوز عندهم أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله
نظر للمآل لأنه مجهول الحصول ووافقهم الشافعي على ذلك وعند الماتريدية
لا يجوز ذلك نظر للحال فلا بد أن يكون جاز ما بوجود الإيمان غير
شاك فيه فإن وضع هذه الكلمة للشك ولذا بطل به الطلاق والعتاق واليمين
والبيع ونحو ذلك فكيف يتحقق الإيمان مع وجود الشك ووافقهم على
ذلك الإمام أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى فافهم وتحقق هذا المقام
فإنه من مزالق الأقدام وقد وقع فيه خبط من بعض الفضلاء الكرام.
الإعراب ذو الإيمان مبتدأ لا نافية ويبقى مضارع منفى بها وفاعله مستتر
يعود إلى ذو الإيمان والجملة في محل رفع خبر المبتدأ ومقيما منصوب على
الحال أو التمييز أو خبر يبقى على أنه بمعنى دام وبشوم جار ومجرور متعلق
به والباء فيه للسببية والذنب مجرور بإضافة شوم من إضافة الصفة
إلى الموصوف وفي دار اشتعال متعلق بما تعلق به شوم (وحاصل معنى البيت)
إن المؤمن لا يبقى مخلدا في جهنم إن دخلها بسبب ما اقترفه في الدنيا من
الكبائر وإن مات مصرا عليها بعد أن مات على الإيمان وإنما الخلود لمن
مات على الكفر لما تقدم من الأدلة القاطعة بذلك كما تقدم والله أعلم وأحكم
قال الناظم رحمه الله
61 دخول الناس في الجنات فضل * من الرحمن يا أهل الأمالي
يعني أن دخول المؤمنين الجنة إنما هو بفضل الله تعالى وكرمه لأن العبد
لا يستحقه بعمله ولو عمل جميع الطاعات ولم يعص الله تعالى قط إذ لو كان
كذلك لكان واجبا عليه تعالى إثابته وقد ثبت بالدلائل القطعية أن مولانا لا يجب
132

عليه شئ في ملكه ويجوز عليه سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي إذ الكل
ملكه وعبيده فيتصرف في ملكه كيف يشاء ويحكم ما يريد لكنه تعالى وعد الطائع
بالثواب والعاصي بالعقاب والكريم إذا وعد وفي كرما وفضلا قال تعالى إن الله لا يخلف
الميعاد وقال تعالى وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون فإن قلت ظاهر
الآيتين ونحوهما من النصوص يفيد بظاهره أن الأعمال سبب لدخول الجنة
فيؤيد ما ذهب إليه المعتزلة من أن دخول الجنة إنما هو بسبب الأعمال وأنه
يجب إثابة الطائع وعقاب العاصي على ما ذهبوا إليه أجيب بأن المراد بالجنة
فيهما جنة خاصة أي تلك الجنة الخاصة الرفيعة بسبب الأعمال وأما نفس
الدخول فبالرحمة فالمقابل بالعمل إنما هو زيادة الدرجات ورفع المقامات
لا نفس الدخول أو أن الباء للملابسة أي أورثتموها ملابسة لأعمالكم أي
لثواب أعمالكم أو للعوض والمقابلة والمعطى بعوض يعطى مجانا لا للسببية لأن
المسبب لا يجود بدون السبب فالعمل نفسه لا يستحق به أحد الجنة ولا ينال به
زيادة الدرجات وأيضا ما لم يكن مقبولا والقبول إنما يحصل برحمة الله لحديث
البخاري لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن
يتغمدني الله برحمته وفي رواية لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله ولو سلم كون
الباء للسببية وأخرج الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خرج من عندي
جبرائيل آنفا فقال يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله تعالى عبدا من عباده عبد الله
عز وجل خمسمائة سنة على رأس جبل في البحير عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلثين ذراعا والبحر
محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية وأخرج له عينا عذبة بعرض الإصبع تنبض
بماء عذب فتستنفع في أسفل الجبل وشجرة رمان تخرج كل ليلة رمانة يعبد الله يومه
فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل
ربة عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدا قال ففعل فنحن نمر عليه إذا هبطنا
وإذا عرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول
الرب جل جلاله ادخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول يا رب بل بعملي فيقول تعالى قايسوا
عبدي بنعمتي عليه وبعمله فيقايسونه فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة
خمسمائة سنة وبقيت نعم الجسد فضلا عليه فيقول الرب ادخلوا عبدي النار
فيخرج إلى النار فينادي يا رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه
133

فيقول يا عبدي من خلقك ولم تك شيئا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك لعبادة
خمسمأة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسطة اللجة وأخرج لك
الماء العذب من المالح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تطرح مرة في السنة وسألته أن
يقبضك ساجدا ففعل فيقول أنت يا رب قال فيقول تعالى ذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك
الجنة ادخلوا عبدي الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي فأدخله الله الجنة ثم قال جبرائيل
إنما الأشياء برحمة الله يا محمد الإعراب دخول الناس مبتدأ في الجنات متعلق
بدخول وفضل خبر المبتدأ من الرحمن متعلق لفضل يا أهل الأمالي جملة ندائية
تكملة للبيت والأمالي إن كان بغير ياء كما في بعض النسخ فهو جمع أمل وكان
حقه الآمال بالمد وتركه لضرورة الوزن وإن كان بالياء كما في أغلب النسخ
فيكون مراده الأمالي المتقدمة المقولة لتوحيد فكأنه قال هنا يا أهل التوحيد أو
يا طالب هذه المنظومة ويكون فيه رد العجز على الصدر وهذا آخر ما قصده
المص رحمه الله بمنظومته وأفاد وأحسنه وأجاد ثم أخذ يطنب في مدحه
ويبالغ في وصفه ويرحض على تعاطيه لما حوته أماليه بقوله رحمه الله رحمة كثيرة
62 لقد البست للتوحيد وشيا * بديع الشكل كالسحر الحلال
لأم لقد ابتدائية مؤكدة ولا معنى لجعلها ههنا موطئة للقسم كما قيل وقد حرف
تحقيق البست يتعدى إلى مفعولين والتاء ضمير المتكلم فاعله وللتوحيد اللام
زائدة والمجرور في محل نصب المفعول الأول وإن قدر المفعول الأول أي تأليفي
أو نظمي فاللام متعلقة به ولا زيادة ح وأليق بالأدب كما لا يخفى على
أهل الأدب مع أنه المناسب لأول بيت قصيدته ووشيا المفعول الثاني على
كل حال وفي بعض النسخ نظما مكان وشيا وبديع الشكل صفة أي بديعا
شكله فالإضافة ليست محضة وفي الكلام استعارة بالكناية شبه هذا العلم
كساه ثوب نظمه البديع أو تأليفه على ما قدمنا بشئ مضمر في النفس وهو
الإنسان المتساهل للبس الزينة على سبيل الكناية وأثبت له شيئا من لوازمه
وهو الباس الوشى تخييل وذكر بداعة شكله إيهام فاللباس هنا معنوي
لا حسي كما في قوله تعالى ولباس التقوى ذلك خير وقوله كالسحر الحلال صفة
ثانية لوشيا ووصف السحر بالحلال احتراس كقوله:
134

كسر الجرة عمدا وسقى الأرض شرابا * قلت والإسلام ديني ليتني كنت ترابا *
ثم شبه نظمه وما احتوى عليه من البيان وسلاسة النظم والأوزان بالسحر
الحلال بجامع الغرابة واستمالة النفوس إليه إذ كل من استمالك فقد سحرك
وخرج بقيد الحلال الذي احترس به السحر الحرام الذي يكفر مستحله إن أخذ
قبل التوبة وإن تاب بعده فاختلف فيه هل له حقيقة فذهب أهل السنة إلى
أن له حقيقة وهي ما استعان في تحصيله على التقرب إلى الشياطين وذهب
بعض المعتزلة وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا حقيقة له ورد بقوله تعالى
وجاؤا بسحر عظيم وقوله ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه
وبسورة الفلق وسبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم وحديثه
في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ففيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر عنه
بعد نزول المعوذتين: إن الله شفاني،، والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال
المرض فدل ذلك على أن له حقيقة فهي مقطوع به بإخبار الله ورسوله.
فائرة ذكر في الإستيعاب وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رجلان من أمتي
أما أحدهما فيسبق يده إلى الجنة ثم يتبعها سائر جسده وأما الآخر فيضرب ضربة فيفرق
بها بين الحق والباطل،، فأصيب يد زيد بن صرحان يوم حروراء ثم قتل يوم الجمل
مع علي رضي الله عنهما وأما الآخر جندب بن كعب فرأى ساحرا يقال له أبو سبتان بالكوفة
كان يلعب بين يدي الوليد بن عقبة يريهم أنه يدخل في فم الحمار ويخرج من
دبره وأنه يقطع رأس نفسه ثم يعيدها فلما رآه جندب على تلك الحالة ضربه
بسيفه فقتله فحبس الوليد جندبا فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فكتب إلى الوليد أن
خل سبيله فكانوا يرونه ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم (وحاصل معني البيت) أني
زينت علم التوحيد بقصيدة غريبة السبك فصحيحة الألفاظ محشوة بالبلاغة
كأنها حلة موشاة بالذهب وفرائد الجواهر تميل القلوب إليها مع الطرب
كأنها السحر الحلال ثم قال الناظم رحمه الله تعالى رحمة واسعة
63 يسلي القلب كالبشرى بروح * ويحيي الروح كالماء الزلال
يسلي مضارع سلاه عن كذا بتشديد اللام من التسلية إذا شغله بغيره عنه
وسلى عن الشئ إذا تناساه واشتغل بغيره وفاعله مستتر يعود إلى الوشى الذي
135

هو عبارة عن النظم أو إلى النظم على ما في بعض النسخ والقلب مفعول يسلي وهو
الشكل الصنوبري المشدق الرأس سمي به لتقلبه قال بعض الشراح وتبعه
شيخنا وليس المراد به اللطيفة القائمة به وهي البصيرة انتهى وفيه نظر بل هي
المراد ههنا إذ نفس الشكل الصنوبري لحمة فلا يوصف نفسه بالتسلي بل باعتبار
اللطيفة القائمة به كما لا يخفى على من له بصيرة وقوله كالبشرى متعلق بيسلي يعني كتسليته
بالبشرى والبشرى بضم الباء كالبشارة وهي اسم خبر سار حق لا علم به للمبشر به فهي
أخص مطلقا من الخبر ويحتمل أن يراد بالبشرى نفس المسرة الحاصلة من بشارة أو
غيرها والأول أنسب ههنا لقوله بروح وسميت بشارة لكونها تظهر في بشرة
الوجه والباء في بروح للمصاحبة أو بمعنى مع أو متعلقة بالبشرى والروح بفتح
الراء وسكون الواو بمعنى الراحة ومنه فروح وريحان أي يسلي القلب مع الراحة
بحيث لا ينال القلب معها تعب ولا مشقة ويحيي عطف على يسلي وهو مضارع من
الحياة ضد الموت مجاز عن الإنعاش أي ينعش الروح ففيه استعارة تبعية
أو مجاز عقلي وفاعله مستتر هو فاعل يسلي والروح بضم الراء وقد اختلف فيها
وأحسن ما قيل فيها أنها جوهر نوراني له سريان في البدن كسريان ماء الورد
في
الورد وهي غير النفس قال ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل
شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها التحرك والتنفس فإذا
نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه كما قال تعالى والتي لم تمت في منامها
ولا التفات لقول من قال إنها الدم لأن من الحيوان ما لا دم له ولا لقول من
قال إنها النفس الداخل الخارج لأن من الحيوان ما لا يتنفس إلا عند الموت
كالسمك والأقوال فيها كثيرة بلغت نحو الألف ومنهم من توقف لقوله تعالى
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وروى
مالك رضي الله عنه أنها صورة كصورة الجسد وقدمنا بقية الكلام فيها فارجع إليه
واختلف في تقديم خلقها على الجسد وتأخيرها عنه على قولين مشهورين الأول
تقديم خلق الروح على الجسد واستدل له بحديث إسناده ضعيف وهو أن
الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
والثاني ذهب إليه جماعة واستدلوا له بما في الحديث المشهور: ثم يرسل
الملك فينفخ فيه الروح وأجيب عنه بالفرق بين نفخ الروح وخلقه وقيل الخلف
136

لفظي إذ من قال بتقديم خلقها أراد خلقها في عالم الذر وذلك لا نزاع فيه إذ المخاطب
بالست بربكم إنما هو الأرواح وأين كانت الأجساد ح ومن قال بتأخيرها
أراد نفخها في الجسد وذاك لا نزاع فيه لحديث الصحيحين: إن أحدكم يجمع
خلقة في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم
يرسل الملك فينفخ فيه الروح الحديث قال ابن القيم الملك وحده يرسل إليه ولم
يقل ثم يرسل الملك إليه بالروح فيدخلها في بدنه لأن الله تعالى أرسل إليه الروح
التي كانت موجودة قبل ذلك بالزمن الطويل انتهى فافهم واختلف أيضا
في مقرها حال الحياة فجزم الغزالي إنه القلب قال السيوطي وقد ظفرت بحديث
يشهد له أخرجه ابن عساكر في تاريخه وانظر ما قاله الغزالي فإنه لا يتأتى على
قول الجمهور من المتكلمين من أنها جسم لطيف شفاف لذاته سار في البدن
كماء الورد واستظهر بعض المتكلمين أنها بقرب القلب وأما مقرها بعد الوفاة
فأرواح الأنبياء عليهم السلام في الجنة لقوله تعالى أولئك المقربون في الجنات النعيم
وأرواح السعداء من المؤمنين قيل إنها في أفنية القبور قال بعض العلماء وهو الأصح
قال ابن عبد البر وهي مع ذلك مأذون لها في التصرف وتأوي إلى محلها في عليين
أو سجين وقوله كالماء الزلال الماء هو الجوهر السيال المتلون بلون إنائه والعذب
منه به حياة كل نام بأمر الله ولذا بالغ في وصف نظمه بتشبيهه به بجامع إحياء
النفوس (وحاصل معنى البيت) إن هذا النظم تفرح به القلوب وترتاح له وتطرب
كما تفرح بالبشرى السارة المصحوبة بالراحة ويحيى به الأرواح الإنسانية من
إماتة الجهل والعقائد الظلمانية كما يحيى الماء العذب الأرض بعد موتها
وتنتعش به النفس عند ظلمائها وفيه من البديع الجناس التام بين روح وروح قال الناظم رح
64 فخوضوا فيه حفظا واعتقادا * تنالوا حسن أصناف المنال
خوضوا فعل والفاء فيه فصيحة من الخوض وأصله الدخول في الماء ثم استعمل
في الدخول في كل حديث محظور أو مهم قال تعالى حتى يخوضوا في حديث غيره
والمراد هنا الاعتناء في تعاطي هذه القصيدة المشتملة على ما يجب الاعتناء به
مما يخلص العقائد من الكدورات والشكوك وفيه متعلق بخوضوا والضمير راجع
إلى الكتاب وحفظا نصب على التمييز وكذا اعتقادا فهو كالقيد للأول إذ لا فائدة
137

لمجرد الحفظ بدون الاعتقاد ولا للعلم بدون العمل وتنالوا بمعنى تصيبوا أو تعطوا مضارع
نال وهو مجزوم بحذف النون على أنه جواب الأمر والواو فاعله وحسن مفعوله مضاف
إلى أصناف وأصناف إلى المنال والمنال العطاء وأراد ما فيه تخلق وإرشاد والأصناف
جمع صنف وهو أخص من النوع والنوع أخص من الجنس فالحيوان جنس والانسان
نوع والزنجي صنف (وحاصل معنى البيت) إنكم إذا علمتم ما أودعت في هذا النظم من
الفوائد التي وصفتها وما احتوى عليه من المقاصد التي يجب الاعتناء بها فأقبلوا عليه
إقبال رغبة واشرعوا في تعاطيه حفظا لمبانيه مع المداومة على قرائتها وفهما لمعانيه
مع الجزم بحقيقتها جزما لا يقبل التغيير تنالوا أحسن أصناف العطاء وأجمل أصناف الرضاء
من الله الكريم في الدنيا بالبركات والخلاص من ظلمة الشبهات وفي الآخرة بالفوز بأعلى
الدرجات والسلامة من البليات. قال الناظم رحمه الله تعالى رحمة واسعة
65 وكونوا عون هذا العبد دهرا * بذكر الخير في حال ابتهال
كونوا أمر من كان الناقصة والواو اسمها وعون خبرها والمراد به المعين وعون مضاف
واسم الإشارة في محل جر مضاف إليه والعبد بدل منها وأراد بالعبد نفسه ودهرا مفعول فيه
وتقدم معناه وما فيه والتنوين فيه عوض عن الضمير والمراد دهركم وبذكر الخير متعلق
بعون وفي حال ابتهال في محل النصب حال من ضمير كونوا أي حال كونكم مبتهلين أي حال
تضرعكم (وحاصل معنى البيت) إني التمس ممن وفقه الله تعالى إلى تعاطي تأليفي هذا وإلى
فعل الخير أن يكونوا ناصري هذا العبد ومساعديه مدى دهرهم بالترحم والدعاء له بالمغفرة
وسؤال الخير من الله تعالى حال ابتهالهم وتضرعهم إلى الله تعالى فإنه قد أسدى إليكم معروفا
وما جزاء الإحسان إلا الإحسان وقال عليه السلام من أسدى إليكم معروفا فكافؤوه فإن لم تقدروا
فادعوا له أو كما قال ولأن تنتفع الأموات بدعاء الأحياء. قال الناظم رحمه الله تعالى
66 لعل الله يعفوه بفضل * ويرزقه السعادة في المآل
لعل للترجي من أخوات أن ولا يترجى بها إلا ما هو مشكوك الوقوع نحو لعل الحبيب يقدم
ولا يقال لعل الميت يعود بخلاف ليت الشباب يعود وفي لعل عشر لغات مذكورة في محلها
والله اسمها وجملة يعفوه في محل رفع خبرها والمراد بالعفو الغفران أي عدم المؤاخذة به
من غير سبق عقوبة عليه إذ العفو قد يكون بعد نوع عقوبة بخلاف الغفران فإنه لا يكون
138

معه عقوبة البتة لأنه ستر من الأصل وعدي يعفو إلى المفعول بنفسه إما لتضمنه يسامى
أو هو من باب الحذف والإيصال والأصل يعفو عنه ولو قال لعل الله يعفو عنه فضلا لكان
أيضا حسنا مع استقامة الوزن وقيل عقد يتعدى بنفسه والمآل بالمد المرجع من آل إذا
رجع والمراد ههنا مآله إلى الدار الآخرة (وحاصل معنى البيت) إني أطلب منكم الدعاء لي
بالخير وسؤال العفو والمغفرة لعل الله تعالى يتقبل منكم فيعفو عن ذنوبي ويتجاوز عن سيئاتي
فيكون ذلك سببا لنجاتي ووصولي إلى السعادة الأبدية إذ الدعاء ينفع الأحياء والأموات
عند أهل السنة كما تقدم فائدة سعيد الآخرة من كتب في الأزل سعيدا وشقيها من كتب
في الأزل شقيا على ما قدمنا قال شارح شافعي ثم المكتوب في الأزل من سعادة وشقاوة
لا يتبدل بخلاف في غيره كاللوح المحفوظ وكالصحف التي تكتب الملائكة فيها عند نفخ الروح
في الإنسان رزقه المكتوب وأجله وشقيا أو سعيدا فلا مانع من تبدل ذلك قال ووقع في عقائد
الحنفية أن السعيد قد يشقى وعكسه والتغيير على السعادة والشقاوة دون الإسعاد والإشقاء
إذ هما من صفات الله تعالى ولا تغير على الله تعالى ولا على صفاته بل الحق كما قال المولى سعد الدين إنه
لا خلاف في المعنى لأنه إن أريد بالسعادة والشقاوة مجرد حصول المعنى أي الإيمان في السعادة
والكفر في الشقاوة فهو حاصل في الحال وإن حصول النجاة وترتب الثمرات فلا قطع بحصوله
في الحال و ح يجمع بين الأقوال وأدلة الطرفين بحمل ما دل على التبدل على أنه بالنسبة إلى الملائكة
وإلى ما في الصحف وما دل على عدم التبدل على أنه بالنسبة إلى علم مولانا عز وجل وقدمنا نحوه والله أعلم
قال الناظم رحمه الله
67 وإني الدهر أدعو كنه * وسعي لمن بالخير يوما قد دعا لي
وفي نسخة: وإني الدهر أدعو كل وقت، أراد بالدهر مدة عمره وكنه الشئ غايته وقيل يطلق ويراد
به حقيقة الشئ والوسع بضم الواو الطاقة الإعراب إني الياء اسم أن والدهر منصوب على
الظرفية لأدعو قدم عليه وأدعو مضارع دعا وفاعله مستتر ضمير المتكلم وفيه التفات بالنسبة
إلى البيت التي قبله وكنه منصوب بنزع الخافض أو على الظرفية توسعا وهو مضاف إلى وسعي
لمن جار ومجرور متعلق بادعو وبالخير متعلق بدعا ويوما ظرف له (وحاصل معنى البيت)
إني أدعو الله تعالى طول عمري ومدة حياتي بغية طاقتي لمن دعا لي يوما من الأيام بخير في حياتي
أو بعد وفاتي ونسئل الله تعالى أن يغفر لنا وله ولوالدينا ولمشايخنا ولإخواننا المسلمين
أجمعين ويسكننا وأيهم في الجنان إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير
تم تحرير الكتاب بعون الله الوهاب على يد أحمد حلمي القوغى، ذو القعدة 15 1398 ه‍، اكم 18 1978 م، تشرين 5 أول 1356 شمسية
139

بدء الأمالي
لسراج الدين علي بن عثمان الأوشي الفرغاني 569 ه
بسم الله الرحمن الرحيم
1 يقول العبد في،، بدء الأمالي * لتوحيد بنظم كاللألي صحيفة 5
2 إله الخلق مولانا قديم * وموصوف بأوصاف الكمال 8
3 هو الحي المدبر كل أمر * هو الحق المقدر ذو الجلال 11
4 مريد الخير والشر القبيح * ولكن ليس يرضى بالمحال 12
5 صفات الله ليست عين ذات * ولا غيرا سواه ذا انفصال 14
6 صفات الذات والفعال طرا * قديمات مصونات الزوال 15
7 نسمي الله شيئا لا كالأشياء * وذاتا عن جهات الست خالي 17
8 وليس الاسم غيرا للمسمى * لدى أهل البصيرة خير آل 19
9 وما إن جوهر ربي وجسم * ولا كل وبعض ذو اشتمال 21
10 وفي الأذهان حق كون جزء * بلا وصف التجزي يا ابن خالي 23
11 وما القرآن مخلوقا تعالى * كلام الرب عن جنس المقال 25
12 ورب العرش فوق العرش لكن * بلا وصف التمكن واتصال 27
13 وما لا تشبيه للرحمن وجها * فصن عن ذاك أصناف الأهالي 29
14 ولا يمضي على الديان وقت * وأحوال وأزمان بحال 31
15 ومستغن إلهي عن نساء * وأولاد إناث أو رجال 32
140

16 كذا عن كل ذي عون ونصر * تفرد ذو الجلال وذو المعالي 33
17 يميت الخلق قهرا ثم يحيي * فيجزيهم على وفق الخصال 34
18 لأهل الخير جنات ونعمى * وللكفار إدراك النكال 37
19 ولا يفنى الجحيم ولا الجنان * ولا أهلوهما أهل انتقال 39
20 يراه المؤمنون بغير كيف * وإدراك وضرب من مثال 41
21 فينسون النعيم إذا رأوه * فيا خسران أهل الاعتزال 44
22 وما إن فعل أصلح ذو افتراض * على الهادي المقدس ذي التعالي 46
23 وفرض لازم تصديق رسل * وأملاك كرام بالتوالي 49
24 وختم الرسل بالصدر المعلى * نبي هاشمي ذو جمال 53
25 إمام الأنبياء بلا اختلاف * وتاج الأصفياء بلا اختلال 54
26 وباق شرعه في كل وقت * إلى سوم القيامة وارتحال 58
27 وحق أمر معراج وصدق * ففيه نص أخبار عوال 60
28 وإن الأنبياء لفي أمان * عن العصيان عمدا وانعزال 62
29 وما كانت نبيا قط أنثى * ولا عبد وشخص ذو افتعال 64
30 وذو القرنين لم يعرف نبيا * كذا لقمان فاحذر عن جدال 66
31 وعيسى سوف يأتي ثم يتوى * لدجال شقي ذي خبال 68
32 كرامات الولي بدار دنيا * لها كون فهم أهل النوال 72
33 ولم يفضل ولي قط دهرا * نبيا أو رسولا في انتحال 74
34 وللصديق رجحان جلي * على الأصحاب من غير احتمال 77
141

35 وللفاروق رجحان وفضل * على عثمان ذي النورين عالي 78
36 وذو النورين حقا كان خيرا * من الكرار في صف القتال 80
37 وللكرار فضل بعد هذا * على الأغيار طربا لا تبال 81
38 وللصديقة الرجحان فاعلم * على الزهراء في بعض الخلال 84
39 ولم يلعن يزيدا بعد موت * سوى المكثار في الإغراء غال 85
40 وإيمان المقلد ذو اعتبار * بأنواع الدلائل كالنصال 88
41 وما عذر لذي عقل بجهل * بخلاق الأسافل والأعالي 90
42 وما إيمان شخص حال ياس * بمقبول لفقد الامتثال 92
43 وما أفعال خير في حساب * من الإيمان مفروض الوصال 95
44 ولا يقضى بكفر وارتداد * بعهر أو بقتل واختزال 99
45 ومن ينو ارتدادا بعد * دهر يصر عن دين حق ذا انسلال 100
46 ولفظ الكفر من غير اعتقاد * بطوع رد دين باغتفال 103
47 ولا يحكم بكفر حال سكر * بما يهذى ويلغو بارتجال 105
48 وما المعدوم مرئيا وشيئا * لفقه لاح في يمن الهلال 106
49 وغيران المكون لا كشئ * مع التكوين خذه لاكتحال 107
50 وإن السحت رزق مثل حل * وإن يكره مقالي كل قال 108
51 وفي الأجداث عن توحيد ربي * سيبلى كل شخص بالسؤال 116
52 وللكفار والفساق يقضى * عذاب القبر من سوء الفعال 118
53 دخول الناس في الجنات فضل * من الرحمن يا أهل الأمالي 132
142

54 حساب الناس بعد البعث حق * فكونوا بالتحرز عن وبال 119
55 ويعطى الكتب بعضا نحو يمنى * وبعضا نحو ظهر والشمال 121
56 وحق وزن أعمال وجري * على متن الصراط بلا اهتبال 123
57 ومرجو شفاعة أهل خير * لأصحاب الكبائر كالجبال 126
58 وللدعوات تأثير بليغ * وقد ينفيه أصحاب الضلال 113
59 ودنيانا حديث والهيولى * عديم الكون فاسمع باجتذال 110
60 وللجنات والنيران كون * عليها مر أحوال خوال 112
61 وذو الإيمان لا يبقى مقيما * بسوء الذنب في دار اشتعال 130
62 لقد البست للتوحيد نظما * بديع الشكل كالسحر الحلال 134
63 يسلي القلب كالبشرى بروح * ويحيي الروح كالماء الزلال 135
64 فخوضوا فيه حفظا واعتقادا * تنالوا جنس أصناف المنال 137
65 وكونوا عون هذا العبد دهرا * بذكر الخير في حال ابتهال 138
66 لعل الله يعفوه بفضل * ويعطيه السعادة في المآل...
67 وإني الحق أدعو كل وقت * لمن بالخير يوما قد دعا لي 139
143

قصيدة يقول العبد - في الكلام. للشيخ الإمام
سراج الدين علي بن عثمان الاوشي الفرغاني الحنفي،، توفي سنة
575،، وهو ستة وستون بيتا أولها:
يقول العبد في بدء الأمالي لتوحيد بنظم كاللألي
وآخرها:
وإني الدهر أدعو الله وسعي * لمن بالخير يوما قد دعا لي
وهي مقبولة متداولة (فرغ من نظمها سنة 569 تسع وستين
وخمسمائة كما نقله التميمي في طبقات الحنفية). شرحها جماعة منهم
محمد بن أبي بكر الرازي المتوفي سنة... قال فيه جمعته من السواد
الأعظم والفقه الأكبر ومن الطحاوي والكسائي ومن الدر الأزهر
وموجز التأليف وغير ذلك فسميته هداية من الاعتقاد،، لكثرة نفعه
بين العباد تم كتابته سنة 751،،. والشيخ الإمام عز الدين محمد
ابن أبي بكر ابن جماعة (المتوفي سنة 819 تسع عشرة
وثمانمائة) أوله الحمد لله الذي تاهت في تيه كبريائه لصائر
قلوب العرفاء الخ قال فاعلم أن القصيدة اللامية المشتملة
على قواعد عقائد أهل الدين في المسائل الدينية كبحر لجي
وهي وإن صغر حجمها كثرت فوائدها فأردت أن أرفع
أستارها بأن أرتب (عليها) ما علقت من فوائد الكتب المبسوطة
فشرحتها. شرحا كاشفا للمشكلات مبطلا لمعتقد أهل البدع
والضلالات سميته مطلع المثال في العقائد الإسلامية ومنبع
علي بن عثمان بن محمد التيمي الاوشي سراج
الدين الفرغاني الفقيه الحنفي توفي بالطاعون الواقع سنة 575
خمس وسبعين خمسمائة. من تصانيفه ثواقب الأخبار. غرر
الأخبار ودور الأشعار في الحديث. فتاوى السراجية. قصيدة
الأمالي.
مشارق الأنوار شرح نصاب الأخبار. نصاب
الأخبار لتذكرة الأخبار في مختصر غرر الأخبار له. يواقيت
الأخبار.
144

هذا الكتاب " نخبة اللآلي " شرح للقصيدة المشهورة "
بدأ الأمالي " وتتكون القصيدة من 67 سبعة وستين بيتا، ولقد
أخبرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن أمته ستفترق إلى
ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة واحدة تكون على الحق وأخبرنا
أيضا اسم هذه الفرقة، فقصيدة الأمالي شرحت لنا شرحا وافيا
عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الصحيحة. ولهذه
القصيدة شروح مختلفة بألسنة متنوعة وأحسن هذه الشروح و
أفيدها " نخبة اللآلي " وكان العلماء من قبل يحفظون هذه
القصيدة ونظم القصيدة: مفتي مدينة فرغانة بتركستان الشيخ
سراج الدين على الأوشي المتوفي هناك سنة 575 ه‍. [1180
م.]. مكتبة الحقيقة
145