الكتاب: الاستذكار
المؤلف: ابن عبد البر
الجزء: 7
الوفاة: 463
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: سالم محمد عطا-محمد علي معوض
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2000م
المطبعة: بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:
((32 كتاب القراض (1)))
((1 - باب ما جاء في القراض))
قال أبو عمر [اما] أهل الحجاز يسمونه القراض وأهل العراق لا يقولون قراضا البتة وليس عندهم كتاب قراض وانما يقولون (مضاربة) وكتب مضاربة اخذوا ذلك من قوله تعالى * (وإذا ضربتم في الأرض) * [النساء 101] وقوله تعالى * (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) * [المزمل 20]
وفي قول الصحابة بالمدينة لعمر في قصته مع ابنتيه (لو جعلته قراضا) ولم يقولوا مضاربة دليل على أنها لغتهم وان ذلك هو المعروف عندهم
والقراض مأخوذ من الاجماع الذي لا خلاف فيه عند أحد من أهل العلم وكان في الجاهلية فاقره الرسول صلى الله عليه وسلم في الاسلام
1355 - مالك عن زيد بن اسلم عن أبيه أنه قال خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال لو أقدر لكما على امر انفعكما به لفعلت ثم قال بلى ها هنا مال من مال الله أريد ان ابعث به إلى أمير المؤمنين فاسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان راس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب ان يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فاربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال اكل الجيش اسلفه مثل ما اسلفكما قالا لا فقال عمر بن
3
الخطاب ابنا أمير المؤمنين فاسلفكما أديا المال وربحه فاما عبد الله فسكت واما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر ادياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا فقال عمر قد جعلته قراضا فاخذ عمر رأس المال ونصف ربحه واخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال
قال أبو عمر هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه - لأنهما ابناه وحاباهما أبو موسى [الأشعري] بما أعطاهما فاجتهد للمسلمين في ذلك واحتاط عليهم كما فعل بعماله [إذ شاطرهم أموالهم] احتياطا لعامة المسلمين
1356 - مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ان عثمان بن عفان أعطاه مالا قراضا يعمل فيه على أن الربح بينهما
قال أبو عمر أصل هذا الباب اجماع العلماء على أن المضاربة سنة معمول بها مسنونة قائمة
وروي عن عمر بن الخطاب وعائشة وبن مسعود وبن عمر [انهم كانوا يقولون] اتجروا في أموال اليتامى [لا تأكلها الزكاة وكانوا يضاربون بأموال اليتامى]
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة) وقال لا تذهبها الزكاة (1)
وهو حديث مرسل
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (ألا من ولي مال يتيم فليتجر له فيه ولا يتركه فتأكله الزكاة) (2)
وهذه الآثار وما كان مثلها عما ذكرناه من الصحابة تدل على جواز القراض فيما ذكرنا من اجماع العلماء واتفاق الفقهاء - أئمة الفتوى - على جواز القراض حجة كافية شافية - إن شاء الله وبالله التوفيق
4
((2 - باب ما يجوز في القراض))
1357 - قال مالك وجه القراض المعروف الجائز ان يأخذ الرجل المال من صاحبه على أن يعمل فيه ولا ضمان عليه ونفقة العامل في المال في سفره من طعامه وكسوته وما يصلحه بالمعروف بقدر المال إذا شخص في المال إذا كان المال يحمل ذلك فإن كان مقيما في أهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة
قال أبو عمر اما قوله في وجه القراض الجائز المعروف ان يأخذ الرجل من الرجل المال على أن يعمل فيه ولا ضمان عليه
ولا خلاف بين العلماء ان المقارض مؤتمن لا ضمان عليه فيما يتلفه من المال من غير جناية منه [فيه] ولا استهلاك له ولا تضييع هذه سبيل الأمانة وسبيل الامناء
وكذلك اجمعوا ان القراض لا يكون الا على جزء معلوم من الربح نصفا كان أو أقل أو أكثر
ذكر عبد الرزاق عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن الشعبي عن علي - رضي الله عنه - قال في المضاربة الوضيعة على رب المال والربح على ما اصطلحوا عليه
ورواه الثوري عن أبي حصين عن علي
وروي ذلك عن قتادة وبن سيرين وأبي قلابة وجابر بن زيد وجماعة
ولا اعلم فيه خلافا الا ان يشترط رب المال على العامل الضمان فان اشترط ذلك عليه
فقال مالك لا يجوز [ذلك] القراض ويرد إلى قراض مثله
وقد روي عنه إلى اجرة مثله
وهو قول الشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه المقارضة جائزة والشرط باطل
واما قوله (ونفقة العامل من المال في سفره إلى اخر كلامه) فان الفقهاء اختلفوا في ذلك
5
فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ينفق العامل من المال إذا سافر [ولا يكون حاضرا الا ان مالكا قال إذا كان المال كثيرا فحمل ذلك ونحو ذلك
وقال الثوري ينفق ذاهبا] ولا ينفق راجعا
وقال الليث [بن سعد] يتغدى في المصر ولا يتعشى
وقال الشافعي لا ينفق في سفره ولا في حضره الا باذن رب المال
وقال أصحابه في المسالة ثلاثة أقوال
أحدهما هذا
والآخر مثل قول مالك
والاخر ينفق في المصر بقدر [ما بين] نفقة السفر والحضر
وله في قرض نفقته قولان
أحدهما انه يقرض له النفقة
والثاني لا يقرض له وينفق هو
والمشهور عن الشافعي انه لا ينفق في الحضر
وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري
وقال بن القاسم إذا كان للعامل في القراض أهل في البلد الذي يسافر إليه فلا نفقة له في ذهابه ولا رجوعه
[وقال اشهب له النفقة في ذهابه ورجوعه] ولا نفقة له في مقامه عند أهله
ولم يختلف قولهما انه لا نفقة له إذا كان مقيما في أهله
وهو قول مالك
وقال بن المواز قال لي عبد الله بن عبد الحكم في الذي يأخذ المال ببلده وهو يريد الخروج إلى بلد اخر [في حاج ويريد بذلك المال قال أحب الينا ان لا تكون له نفقة كالذي يكون بغير بلده] فيتجهز يريد الرجوع إلى بلده فأعطاه [رجل] مالا قراضا [فإنه لا نفقة له فيه وانما النفقة للذي يخرج من [أجل] القراض خاصة وكالذي يخرج إلى الحج انه لا نفقة له
قال بن المواز وروى بن القاسم عن مالك في التاجر له المال ويأخذ مالا قراضا] ويخرج في السفر انه لزم القراض حصته من نفقة العامل
وقال قتادة النفقة في الربح والربح على ما اصطلحوا عليه والوضيعة في المال
6
وقال بن سيرين ما انفق المضارب على نفسه فهو دين عليه
وقال إبراهيم يأكل ويلبس بالمعروف وقال الحسن يأكل بالمعروف]
قال أبو عمر القياس عندي الا يأكل المقارض في سفر ولا حضر [ولا] على أنه لا يجوز القراض على جزء مجهول [من الربح] وهو إذا اطلق له الانفاق لم تكن [له] حصته من الربح ولا حصة ربح المال معلومة وأيضا فإنه ربما اغترفت النفقة كثيرا من المال ولم يكن ربح
ولما اجمع الجمهور انه لا ينفق في الحضر وهو يتعب في الشراء والبيع وينصب كان كذلك في السفر والله أعلم
فقال مالك (1) ولا باس بان يعين المتقارضان كل واحد منهما صاحبه على وجه المعروف إذا صح ذلك منهما
قال أبو عمر هذا إذا كان على غير شرط في عقد القراض فان اشترطه فسد عند جميعهم والعمل الخفيف بغير شرط
قال مالك لا يختلفون في أنه لا باس به
قال مالك (2) ولا باس بان يشتري رب المال ممن قارضه بعض ما يشتري من السلع إذا كان ذلك صحيحا على غير شرط
قال أبو عمر اختلفوا في ذلك أيضا
فقال مالك في المضارب يبتاع من رب المال لا يعجبني لأنها ان صحت من هذين أخاف الا تصح من غيرهما ممن يقارض
وقال أبو حنيفة ذلك جائز
وقال الشافعي إذا كان مما يتغابن الناس فيه فلا باس به والبيع منه كالشراء عندهم [سواء]
قال مالك (3) فيمن دفع إلى رجل والى غلام له مالا قراضا يعملان فيه جميعا ان ذلك جائز لا باس به لان الربح مال لغلامه لا يكون الربح للسيد حتى ينتزعه منه وهو بمنزلة غيره من كسبه
7
وهذه أيضا اختلف فيها فقال مالك في الموطأ ما ذكرنا وروى عنه بن القاسم وغيره ذلك المعنى
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما إذا شرط للعامل ثلث الربح ولرب المال ثلث الربح ولعبد رب المال ثلث الربح على أن يعمل العبد معه كان ذلك جائزا فكان لرب المال الثلثان وللعامل الثلث
قال أبو عمر هذا على أصلهما في العبد لا يملك شيئا
وقول مالك على أصله في أن العبد يصح ملكه لما بيده من المال ما لم ينتزعه [منه] سيده
وقد مضى القول في هذه المسالة في موضعها
وقال الليث لا باس أن يشترط رب المال عمل عبده مع العامل في المال ولا يجوز له أن يشترط عمل عبد المضارب شهرا أو أقل أو أكثر كان له اجر مثله والقراض على حاله
((3 - باب ما لا يجوز في القراض))
1358 - قال مالك إذا كان لرجل على رجل دين فسأله ان يقره عنده قراضا ان ذلك يكره حتى يقبض ماله ثم يقارضه بعد أو يمسك وانما ذلك مخافة ان يكون أعسر بماله فهو يريد ان يؤخر ذلك على أن يزيده فيه
قال أبو عمر قد بين مالك العلة عنده في كراهة ما كره من القراض بدين على العامل
وكذلك لا يجوز ان يقول [الرجل] للرجل اقبض مالي على زيد من الدين واعمل به قراضا وهو عنده قراض فاسد لأنه ازداد عليه فيما كلفه من قبضه
وقال الشافعي لا يجوز ان يقول لغريمه اعمل بمالي عليك من المال قراضا لان ما في الذمة لا يعود أمانة [حتى يقبض الدين ثم يصرفه على وجه الأمانة] ولا يبرا الغريم بما عليه الا بابرائه أو القبض منه أو الهبة له
وقول أبي حنيفة في ذلك نحو قول الشافعي
واختلفوا في أن عمل الذي عليه الدين بما عليه قراضا بعد اتفاقهم انه لا يصلح القراض في ذلك
فقال الشافعي ما اشترى وباع فهو للعامل المديان له ربحه وخسارته
8
وهو قول أبي حنيفة ومالك وبن القاسم
ولصاحب الدين دينه [على] ما كان
وقال أبو [يوسف] ومحمد ما اشترى وباع فهو للامر رب الدين وللغريم المضارب اجره
وهو قول اشهب
واصل أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في المدين يأمره رب الدين ان يشتري له فيه شيئا بعينه انه يبرا من دينه إذا اشتراه له وان امره ان يشتري له شيئا بغير عينه انه لا يبرا حتى يقبض الامر الشيء المشتري
وأجاز الشافعي والكوفي إذا قال له اقبض مالي على فلان واعمل به قراضا ان يكون [له] قراضا إذا قبضه لأنه لم يجعل له قبض المال شرطا في المضاربة وانما وكله بقبضة فإذا حصل بيده كان مضاربة
واختلف قول بن القاسم واشهب في الذي له الوديعة [يقول] للذي هي عنده اعمل به قراضا فكرهه بن القاسم ولم يجزه
وكرهه اشهب واجازه إذا وقع
وقال بن المواز لا باس به
وهو قول سائر الفقهاء لأنها أمانة كلها
قال مالك (1) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فهلك بعضه قبل ان يعمل فيه ثم عمل فيه فربح فأراد ان يجعل راس المال بقية المال بعد الذي هلك منه قبل ان يعمل فيه قال مالك لا يقبل قوله ويجبر راس المال من ربحه ثم يقتسمان ما بقي بعد راس المال على شرطهما من القراض
قال أبو عمر [لم يقبل قوله] فكذلك الزمه ان يجبر راس المال
وهذا يدل على أنه لو قبل قوله وصح ان بعض المال تلف قبل ان يشرع في العمل [به] لم يكن راس المال الا الذي بقي بعد الباقي
وفي (المدونة) في الرجل العامل يخسر في المال ثم يجبر ربه فيصدقه ويقول له خذ ما بقي عندك [مالا] قراضا واستأنف العمل فيعمل على ذلك ويربح
9
قال بن القاسم ليس قوله بشيء حتى يفاضله ويقبض منه ماله وينقطع القراض الأول بينهما [ثم يرده إليه] قراضا ثانيا [والا] فهو على القراض الأول ويجبر الخسارة من الربح
قال وكذلك بلغني عن مالك
وذكر بن حبيب قال أصحاب مالك [كلهم] على أنه يلزمه ذلك القول ويكون راس المال ما ذكر وما رضي به من ذلك
وروى عيسى [بن دينار] ان اشهب كان يقول الذي اسقط عنه ساقط والباقي هو راس المال قال عيسى وهو أحب إلي
قال أبو عمر مسألة مالك في هذا الباب من (الموطأ) أولى بهذا الجواب
وعليه جمهور الفقهاء وهو الصواب - إن شاء الله عز وجل
قال مالك (1) لا يصلح القراض الا في العين من الذهب أو الورق ولا يكون في شيء من العروض والسلع
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في صفة المال الذي يجوز به القراض فقال مالك في (الموطأ) ما ذكرناه
وزاد في غيره ولا بالفلوس
وقول مالك في ذلك كله كقول الليث والثوري والشافعي وأبي حنيفة
وقال بن أبي ليلى يجوز القراض بالعروض
وقال إذا دفع إليه ثوبا على أن يبيعه فما كان من ربح فبينهما نصفين أو أعطاه دارا بينهما ويؤاجرها على أن اجرها بينهما نصفين جاز والاجر والربح بينهما نصفين
قال وهذا بمنزلة الأرض المزارعة
[وقال محمد بن الحسن يجوز القراض بالفلوس كالنفقة بالدنانير والدراهم
قال أبو عمر القراض] بالمجهول يجوز عند جميعهم وكذلك لا يجوز عندهم ان يؤخذ الربح [الا] بعد حصور راس المال فلما كانت العروض تختلف
10
قيامها واثمانها عاد القراض إلى جهل راس المال والى جهل الربح أيضا ففسد القراض على ذلك
ولا يجوز عند جميعهم ان يقول [بع عبدك الذي لك ان تبيعه به ثمنا لسعي هذه لان ذلك مجهول وجائز عندهم ان يقول] اشتر لي بدراهمك هذه عبدا [بعينه] فكذلك جاز القراض بالعين ولم يجز بالعروض والله أعلم
واختلفوا في القراض بنقد الذهب والفضة
فروى اشهب عن مالك قال يجوز القراض بالنقد من الذهب والفضة لان الناس قد تقارضوا قبل ان يضرب الذهب والفضة
[قال بن القاسم سمعت ان مالكا يسهل في القراض بنقد الذهب والفضة] ولا يجوز القراض بالمصوغ
وقد روى عنه بن القاسم أيضا كراهية القراض بنقد الذهب والفضة [ويجيزه] في (المدونة) (والعتبية)
وزاد في (العتبية) فان نزل ذلك لم يفسخ وبعد على شرط من الربح
وقال الليث لا يجوز القراض بالنقد ولا يجوز الا ثمنا قبل الذهب والفضة
وهو قول الشافعي والكوفي
وروى يحيى عن بن القاسم ان كان ذلك في بلد يجيز فيه الذهب والفضة غير مضروبين فلا باس وان كان [ذلك] ببلد لا يجزئ ذلك فيه فهو مكروه وإذا تفاضلا رد مثل وزن ذلك في طيبه ثم يقتسمان ما بقي
واختلف بن القاسم واشهب في القراض بالفلوس فأجازه اشهب ولم يجزه بن القاسم قال لأنها تحول إلى الفساد والكساد
مسألة وقعت في هذا [الباب] من رواية يحيى في (الموطأ)
قال مالك (1) ومن البيوع ما يجوز إذا تفاوت امره وتفاحش رده فاما الربا فإنه لا يكون فيه الا الرد ابدا ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره لان الله تبارك وتعالى قال في كتابه * (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) * [البقرة 279]
قال أبو عمر هذا قول صحيح في النظر وصحيح من جهة الأثر فمن قاده
11
ولم يضطرب فيه فهو الخير الفقيه [وما التوفيق الا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم]
((4 - باب ما يجوز من الشرط في القراض))
1359 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضان وشرط عليه ان لا تشتري بمالي الا سلعة كذا وكذا أو ينهاه ان يشتري سلعة باسمها
قال مالك من اشترط على من قارض ان لا يشتري حيوانا أو سلعة باسمها فلا باس بذلك ومن اشترط على من قارض ان لا يشتري الا سلعة كذا وكذا فان ذلك مكروه الا أن تكون السلعة التي امره ان لا يشتري غيرها كثيرة موجودة لا تخلف في شتاء ولا صيف فلا باس بذلك
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في المقارض يشترط عليه رب المال خصوص التصرف
فقول مالك ما وصفنا
وقال الشافعي لا يجوز ان يقارضه ويشترط عليه الا [ان لا] يشتري الا من فلان [أو] الا سلعة واحدة بعينها أو يشتري نخلا أو دوابا فان فعل [ذلك] فذلك كله فاسد
وان اشترط ان يشتري صنفا [موجودا] في الشتاء والصيف فذلك جائز
وقال أبو حنيفة إذا اشترط على المقارض الا يشتري [الا من فلان] الا الرقيق أو على أن لا يبيع ولا يشتري إلا الرقيق أو على ألا يبيع ولا يشتري الا بالكوفة [كان ذلك] على ما شرط ولا ينبغي ان يتجاوزه فان تعداه ضمن
قال أبو عمر قول مالك - رحمه الله - في هذا الباب اعدل الأقاويل وأوسطها لأنه إذا قصر العامل على ما لا يوجد الا نادرا غبا فقد حال بينه وبين التصرف وهذا عند الجميع فساد [في عقد] القراض وإذا اطلعه على صنف موجود لا يعدم فلم يحل بينه وبين التصرف
[ومذهب مالك والشافعي في هذا الباب سواء
ومن اشترط عندهما على العامل في القراض] الا يشتري الا سلعة بعينها - يعني - عين صنف أو الا يشتري الا من فلان أو يوقت في القراض وقتا ويضرب له اجلا فالقراض في ذلك كله فاسد
12
وسيأتي حكم القراض الفاسد في موضعه - إن شاء الله
قال مالك (1) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه فيه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه فان ذلك لا يصلح وان كان درهما واحدا الا ان يشترط نصف الربح له ونصفه لصاحبه أو ثلثه أو ربعه أو أقل من ذلك أو أكثر فإذا سمى شيئا من ذلك قليلا أو كثيرا فان كل شيء سمى من ذلك حلال وهو قراض المسلمين
قال ولكن ان اشترط ان له من الربح درهما واحدا فما فوقه خالصا له دون صاحبه وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين فان ذلك لا يصلح وليس على ذلك قراض المسلمين
قال أبو عمر لا اعلم خلافا انه إذا اشترط [العامل] أو رب المال على صاحبه شيئا يختص به من الربح معلوما دينارا أو درهما أو نحو ذلك ثم يكون الباقي [في الربح] بينهما نصفين أو على ثلث أو ربع فان ذلك لا يجوز لأ نه يصير النصيب لتلك الزيادة مجهولا ولا يجوز عند جميعهم ذلك لان الأصل في القراض الا يجوز الا على نصيب معلوم ولا تخالف به سنة وبالله التوفيق
((5 - باب ما لا يجوز من الشرط في القراض))
1360 - قال مالك لا ينبغي لصاحب المال ان يشترط لنفسه شيئا من الربح خالصا دون العامل ولا ينبغي للعامل ان يشترط لنفسه شيئا من الربح خالصا دون صاحبه ولا يكون مع القراض بيع ولا كراء ولا عمل ولا سلف ولا مرفق يشترطه أحدهما لنفسه دون صاحبه الا ان يعين أحدهما صاحبه على غير شرط على وجه المعروف إذا صح ذلك منهما ولا ينبغي للمتقارضين ان يشترط أحدهما على صاحبه زيادة من ذهب ولا فضة ولا طعام ولا شيء من الأشياء يزداده أحدهما على صاحبه قال فان دخل القراض شيء من ذلك صار إجارة ولا تصلح الإجارة الا بشيء ثابت معلوم ولا ينبغي للذي اخذ المال ان يشترط مع اخذه المال ان يكافئ ولا يولي من سلعته أحدا ولا يتولى منها شيئا لنفسه فإذا أوفر المال وحصل عزل راس المال ثم اقتسما الربح على شرطهما فإن لم يكن للمال
13
ربح أو دخلته وضيعة لم يلحق العامل من ذلك شيء لا مما انفق على نفسه ولا من الوضيعة وذلك على رب المال في ماله والقراض جائز على ما تراضى عليه رب المال والعامل من نصف الربح أو ثلثه أو ربعه أو أقل من ذلك أو أكثر
قال أبو عمر قد تقدم معنى هذا الباب كله واضحا فيما مضى من كتاب القراض في الباب الذي قبل هذا أو فيما قبله
ولا يجوز من الشرط في القراض عند مالك وأصحابه أشياء كثيرة
فمنها ان يزداد أحد المتقارضين على صاحبه زيادة على الحصة التي تعاملا عليها من الربح على ما ذكر مالك في هذا الباب وفي الذي قبله
ومنها ان يعطيه المال قراضا على الضمان أو على أن يعمل به إلى اجل أو يدفع إليه المال على قراض منه أو يشترط عليه الا يشتري الا من فلان أو من متاع فلان أو من عمل فلان أو على الا يتحرى الا في حانوت بعينه أو على أن يشتري به سلعة غير موجودة في الأغلب تخلف في شتاء أو في صيف أو على أن يسلف أحدهما صاحبه سلفا أو على أن يبيع أحدهما من صاحبه سلعة أو يهب له هبة أو على أن [لا] ينفق منه ان سافر أو على أن يضع عنه نصف النفقة أو على أن ينفق ولا يكتسي أو على أن يكتسي ولا ينفق أو على أن يدفع إليه مالين أحدهما على النصف والاخر على الثلث أو على أن [لا] يخلطهما أو على أن يجعل معه حافظا يحفظ عليه أو غلاما أو ولدا يعلمه له أو على أن يشترط زكاة الربح في المال وزكاة المال في الربح أو على أن يبتاع بالمال دواب يطلب نسلها أو شجرا يطلب ثمرتها أو على أن يشتري بالمال سلعة يخرج بها إلى بلد [يبيعها به] أو يقدم بها من البلد الذي ابتاعها فيه
ومن هذه الوجوه ما [قد] اختلف فيه أصحاب مالك وغيرهم من العلماء
ومنها ما يرد إلى قراض مثله ان وقع
ومنها ما يرد إلى اخرة مثله
نذكر من ذلك كله ما حضرنا ذكره [بعون الله عز وجل إن شاء الله تعالى] بعد ذكرنا ما رسمه مالك - رحمه الله - في هذا الباب
قال مالك (1) لا يجوز للذي يأخذ المال قراضا ان يشترط ان يعمل فيه سنين لا
14
ينزع منه قال ولا يصلح لصاحب المال ان يشترط انك لا ترده إلي سنين لأجل يسميانه لأ ن القراض لا يكون إلى اجل ولكن يدفع رب المال ماله إلى الذي يعمل له فيه فان بدا لأحدهما ان يترك ذلك والمال ناض لم يشتر به شيئا تركه واخذ صاحب المال ماله وان بدا لرب المال ان يقبضه بعد ان يشتري به سلعة فليس ذلك له حتى يباع المتاع ويصير عينا فان بدا للعامل ان يرده وهو عرض لم يكن له حتى يبيعه فيرده عينا كما اخذه
قال أبو عمر اما القراض إلى اجل فلا يجوز عند الجميع لا إلى [سنة ولا إلى] سنين معلومة ولا إلى اجل من الآجال فان وقع فسخ ما لم يشرع العامل في الشراء بالمال فإن كان ذلك مضى ورد إلى قراض مثله [عند مالك
واما الشافعي فيرد عنده إلى اجرة مثله] وكذلك كل قراض فاسد
هذا قوله وقول [عبد العزيز] بن [أبي سلمة] الماجشون
وأما أبو حنيفة فقال في المضاربة إلى اجل انها جائزة الا ان يتفاسخا
واجمعوا ان القراض ليس عقدا لازما وان لكل واحد منهما ان يبدو له فيه ويفسخه ما لم يشرع العامل في العمل به بالمال ويشتر ي به متاعا أو سلعا فان فعل لم يفسخ حتى يعود المال ناضا عينا كما اخذه
قال مالك (1) ولا يصلح لمن دفع إلى رجل مالا قراضا ان يشترط عليه الزكاة في حصته من الربح خاصة لان رب المال إذا اشترط ذلك فقد اشترط لنفسه فضلا من الربح ثابتا فيما سقط عنه من حصة الزكاة التي تصيبه من حصته
قال أبو عمر هذا قول الشافعي لأنه يعود إلى أن تكون حصة العامل ورب المال مجهولة لأنه لا يدري لمن يكون المال في حين وجوب الزكاة لأنه قد يمكن ان يتوى كله أو بعضه بالخسارة أو افات الدهر
وفي (المدونة) قال بن القاسم جائز ان يشترط أحدهما على صاحبه ان يكون عليه زكاة الربح لأنه يرجع إلى نصيب معروف
وفي (الأسدية) عن بن القاسم انه لا يجوز ان يشترط العامل على رب المال زكاة الربح كما لا يجوز له ان يشترط عليه زكاة المال
وروى اشهب عن مالك ان ذلك لا يجوز
15
وقال اشهب هو جائز لأنه يعود [إلى] الاجراء
قال أبو عمر هذا في زكاة الربح لا في زكاة المال
قال مالك (1) ولا يجوز لرجل ان يشترط على من قارضه ان لا يشتري الا من فلان لرجل يسميه فذلك غير جائز لأنه يصير له أجيرا باجر ليس بمعروف
وقد تقدم القول في هذه المسالة
وقد اتفق الشافعي ومالك ان العامل إذا عمل على ذلك رد إلى اجر مثله
وقد اختلف أصحاب] مالك فيما يرد في القراض الفاسد إلى قراض المثل وما يرد منه إلى أجرة المثل
فقال بن القاسم كل ما دخله التزيد والتحجير فان العامل يرد فيه إلى اجرة مثله ويكون في ذلك كله أجيرا حاشا مسالتين فإنهما خرجتا عن أصله
إحداهما العامل يشترط عليه ضمان مال القراض فقال يرد إلى قراض مثله ممن لا ضمان عليه
والمسالة الثانية إذا ضرب اجلا فإنه يرد إلى قراض مثله وسائر ذلك من هذا الباب خاصة يكون أجيرا وما عدا التزيد والتحجير فإنه يكون فيه على قراض مثله
وذكر بن حبيب عن اشهب وبن الماجشون [انهما قالا] يرد في القراض الفاسد [كله] إلى قراض مثله
قال وقال [عبد العزيز بن أبي سلمة] القراض الفاسد [كله] يرد [العامل فيه] إلى أجرة المثل
وهو قول أبي حنيفة والشافعي في القراض الفاسد انه يرد العامل فيه إلى اجرة مثله والمال كله وربحه لرب المال
وذكر بن خواز بنداذ قال الأصل من قول مالك في القراض الفاسد انه يرد إلى أجرة المثل الا في مسائل يسيرة مثل القراض على جزء مجهول من الربح [والقراض إلى مدة] والقراض بعرض والقراض على الضمان [قال] وأظن ذلك كله استحسانا والأصل فيه الرد إلى أجرة المثل
قال أبو عمر قد اختلف قول مالك في القراض الذي يشترط فيه على العامل
16
ضمان المال فمرة قال يرد إلى قراض مثله ومرة قال يرد إلى اجرة مثله
وهو قول الشافعي
وقال أبو حنيفة المضاربة جائزة والشرط باطل
واما القراض إلى اجل فاجازه الكوفيون وقالوا المضاربة جائزة الا ان يتفاسخا
وقال مالك والشافعي لا يجوز الا ان مالكا قال إن وقعت ردت إلى قراض المثل
وقال الشافعي ان اخذ المال قراضا إلى اجل فسخ القراض فان عمل على ذلك رد إلى اجرة مثله
وقال مالك (1) في هذا الباب من (الموطأ) في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا ويشترط على الذي دفع إليه المال الضمان قال لا يجوز لصاحب المال ان يشترط في ماله غير ما وضع القراض عليه وما مضى من سنة المسلمين فيه فان نما المال على شرط الضمان كان قد ازداد في حقه من الربح من اجل موضع الضمان وانما يقتسمان الربح على ما لو أعطاه إياه على غير ضمان وان تلف المال لم ار على الذي اخذه ضمانا لان شرط الضمان في القراض باطل
قال أبو عمر السنة المجتمع عليها في القراض ان البراء في المال من رب المال وان الربح بينهما على شرطهما وما خالف السنة فمردود إليها
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه (ردوا الجهالات إلى السنة)
قال مالك (2) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واشترط عليه ان لا يبتاع به الا نخلا أو دواب لأجل انه يطلب ثمر النخل أو نسل الدواب ويحبس رقابها قال مالك لا يجوز هذا وليس هذا من سنة المسلمين في القراض الا ان يشتري ذلك ثم يبيعه كما يباع غيره من السلع
قال أبو عمر هذا قول سائر الفقهاء لان القراض باب مخصوص خارج عن الإجارات والبيوع فلا يتجاوز به سنته ولا يقاس عليه غيره كما لا يقاس على
17
العرايا غيرها لأنها سنة ورخصة مخصوصة من المزابنة خارجة عن أصلها فلا تقع ولا تنعقد الا على سنتها فان اشترى النخل للثمر لا للبيع والدواب للنسل لا للبيع لم يصح ذلك وكان له فيما اشتراه اجرة مثله وكان الدواب والنخل لرب المال
قال مالك لا باس ان يشترط المقارض على رب المال غلاما يعينه به على أن يقوم معه الغلام في المال إذا لم يعد ان يعينه في المال لا يعينه في غيره (1)
قال أبو عمر قد تقدم معنى هذه المسالة في شرط المقارض عمل عبد رب المال وهل يستحق العبد لذلك نصيبا من الربح من اجل عمله أو يستحقه سيده فيما تقدم من كتابنا هذا في القراض
وقال بن القاسم في العامل في القراض يشترط على رب المال الغلام والدابة ان ذلك جائز في القراض وغير جائز في المساقاة
وقال سحنون لا يجوز ذلك في القراض ولا في المساقاة
وهو الصواب - إن شاء الله عز وجل لأنها زيادة ازدادها العامل على قدر حصته
وقد مضى من قولهم وقول غيرهم ان ذلك غير جائز وعلتهم ان تلك الزيادة لو كانت درهما ربما لم يكن في المال ربح سواها فصار ذلك إلى المجهول والغرر
((6 - باب القراض في العروض))
1361 - قال مالك لا ينبغي لاحد ان يقارض أحدا الا في العين لأنه لا تنبغي المقارضة في العروض لان المقارضة في العروض انما تكون على أحد وجهين اما ان يقول له صاحب العرض خذ هذا العرض فبعه فما خرج من ثمنه فاشتر به وبع على وجه القراض فقد اشترط صاحب المال فضلا لنفسه من بيع سلعته وما يكفيه من مؤونتها أو يقول اشتر بهذه السلعة وبع فإذا فرغت فابتع لي مثل عرضي الذي دفعت إليك فان فضل شيء فهو بيني وبينك ولعل صاحب العرض ان يدفعه إلى العامل في زمن هو فيه نافق كثير الثمن ثم يرده العامل حين
18
يرده وقد رخص فيشتريه بثلث ثمنه أو أقل من ذلك فيكون العامل قد ربح نصف ما نقص من العرض في حصته من الربح أو يأخذ العرض في زمان ثمنه فيه قليل فيعمل فيه حتى يكثر المال في يديه ثم يغلو ذلك العرض ويرتفع ثمنه حين يرده فيشتريه بكل ما في يديه فيذهب عمله وعلاجه باطلا فهذا غرر لا يصلح فان جهل ذلك حتى يمضي نظر إلى قدر اجر الذي دفع إليه القراض في بيعه إياه وعلاجه فيعطاه ثم يكون المال قراضا من يوم نض المال واجتمع عينا ويرد إلى قراض مثله
قال أبو عمر قد بين مالك - رحمه الله في هذا الباب معنى الكراهية للقراض بالعروض بيانا شافيا لا يشكل على من له أدنى تأمل
وقد تقدم من أقوال الفقهاء في المال الذي تجوز فيه المضاربة ما اغنى عن تكراره ها هنا
ولا خلاف بينهم في أن القراض جائز بالعين من الذهب والورق
واختلفوا في القراض بالفلوس والنقد على ما ذكرناه في صدر هذا الكتاب والحمد لله
وذكرنا عن بن أبي ليلى انه أجاز القراض بالعروض [وقد بان وجه قوله بما ذكرناه هنالك] وما ذكره مالك رحمه الله هنا يبين انه لا وجه لقوله يصح [إن شاء الله عز وجل]
((7 - باب الكراء في القراض))
1362 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى به متاعا فحمله إلى بلد التجارة فبار عليه وخاف النقصان ان باعه فتكارى عليه إلى بلد اخر فباع بنقصان فاغترق الكراء أصل المال كله قال مالك ان كان فيما باع وفاء للكراء فسبيله ذلك وان بقي من الكراء شيء بعد أصل المال كان على العامل ولم يكن على رب المال منه شيء يتبع به وذلك أن رب المال انما امره بالتجارة في ماله فليس للمقارض ان يتبعه بما سوى ذلك من المال ولو كان ذلك يتبع به رب المال لكان ذلك دينا عليه من غير المال الذي قارضه فيه فليس للمقارض ان يحمل ذلك على رب المال
19
قال أبو عمر لست اعلم فيما ذكره مالك خلافا وهو أصل واجماع
ومذهب مالك في العامل يشتري من مال المضاربة شيئا ثم ينفق من ماله من كراء أو صبغ انه يرجع بالكراء ولا ربح فيه
هذا قوله وقول أكثر أصحابه
واما الصبغ فرب المال يخير عندهم ان شاء وزن ما اصبغ به ويكون ذلك في القراض وان شاء كان شريكا [وله ربحه]
وقاسه بن القاسم على قول مالك إذا زاد في السلعة ان شاء رب المال عوض وإ لا فهو شريك
وفي (المدونة) قال سحنون وقال غيره فان شاء ضمنه وان شاء دفع إليه قيمة الصبغ وان شاء كان معه شريكا بقيمة الصبغ فان دفع إليه قيمة الصبغ لم يكن على القراض لأنه يصير كأنه قراض ثان ولا يشبه الذي يريد عنده مالا قراضا فيرضي [به] رب المال بان يدفعه إليه لان ذلك في صفقة واحدة وهذا في صفقتين
قال مالك وليس للمضارب ان يستدين على المضاربة فكذلك لا يجوز ان يجعل ماله دينا فيه
وقال الشافعي ان استدان العامل لم يلزم المال ولا رب المال الا ببينة انه ادان
وقال أبو حنيفة ما استدان العامل فهو بينهما شركة على ما اشترطا وجائز عند أبي حنيفة والشافعي ان يأذن رب المال للعامل ان يستدين على المال ويكون الربح بينهما
على شرطهما
وقال مالك لا يحل هذا
((8 - باب التعدي في القراض))
1363 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فربح ثم اشترى من ربح المال أو من جملته جارية فوطئها فحملت منه ثم نقص المال قال مالك ان كان له مال اخذت قيمة الجارية من ماله فيجبر به المال فإن كان
20
فضل بعد وفاء المال فهو بينهما على القراض الأول وان لم يكن له وفاء بيعت الجارية حتى يجبر المال من ثمنها
قال أبو عمر ذكر بن وهب هذه المسألة في موطئه على ما في (الموطأ) لم يعتبر فضل قيمة الجارية يوم وطئها وانما اعتبر قيمتها في الوقت الذي وفى به المال راس ماله
قال بن وهب ثم رجع عنه وقال أقف فيه
وقال الأوزاعي إذا وطئها قبل ان يقع له ربح في المال فعليه حد الزاني وان كان له فيها ربح جلد مائة جلدة ان كان محصنا فان حملت قومت ودفعت إليه ورد على صاحب المال [ما قارضه] فيه
وقال الليث إذا ابتاع جاريتين فاعتق إحداهما واحبل الأخرى فإنهما ينتزعان منه جميعا ويكون الولد لأبيه بقيمته فما نقص من القراض فعليه ضمانه وما زاد فهو بينهما ولم يذكر فرقا بين ان يكون ثمن كل واحدة منهما أكثر من راس المال أو مثله
وقياس قول الشافعي انه إن وطئ الجارية التي اشتراها من مال القراض كان عليه صداقها لدرء الحد عنه بالشبهة ولأنه لا يملك منها شيئا ملكا صحيحا لأنه لا يستحق من الربح شيئا الا بعد حصول راس المال ناضا كما اخذه وتباع الجارية في القراض ان لم تحمل فان حملت ضمنها فإن كان موسرا جعل قيمتها في القراض وان كان معسرا بيعت لأنها مال غيره أراد استهلاكه ولا مال له
هذا قياس قوله عندي ولم أجد هذه المسألة في شيء من كتبه في القراض [الا أنه قال في كتاب القراض] ولو اشترى العامل أباه بمال رب المال فسواء كان في المال فضل أو لم يكن ولا يعتق عليه لأنه لا شيء له في المال قبل ان ينض وهو لا ينض الا وقد باع أباه
قال ولو كان يملك من الربح قبل ان يكون المال نضا كان شريكا وكان له النماء والنقصان لان من ملك شيئا زائدا ملكه ناقصا
وليس هذا سنة القراض لأنه [ليس] بشريك في نماء ولا نقصان وانما له إذا حصل راس المال حصته من الربح حينئذ وله في الزكاة [في] حصه العامل في القراض قولان هذا أظهرهما في مذهبه
ولم يختلف قوله ان العامل لو اشترى بالمال عبدا [انه لا يجوز عتقه ولا يقومن عليه أن كان موسرا
21
واما أبو حنيفة وأصحابه فمذهبهم ان المضارب لو اشترى بمال المضاربة عبدا] فيه فضل أو اشتراه ولا فضل فيه ثم صار فيه [فضل] كان المضارب مالكا لحصته من ذلك الفضل ما كان الفضل موجودا
[قالوا] ولو اعتق المضارب العبد وفيه فضل جاز عتقه [فيه] وكان كعبد بين رجلين اعتقه أحدهما ففي قياس قولهم إذا وطئ العامل جارية في مال القراض وفيه فضل كان حكمه كحكم الشريكين في الجارية يطؤها أحدهما وان لم يكن في المال فضل لا حين الشراء ولا حين الوطء فهو كمن وطئ مال غيره
واما مالك وأصحابه فقالوا إذا وطئ العامل جارية من مال القراض فحملت فإن كان مليئا غرم قيمتها وكانت القيمة قراضا وصارت له أم ولد وهذا قول بن القاسم واشهب وعبد الملك وغيرهم
واختلفوا إذا كان معدما فروى بن القاسم عن مالك انه يتبع بالثمن دينا وقاله بن القاسم
وقال سحنون هذا كلام غير معتدل وارى ان تباع عليه الا ان يكون فيها فضل فيباع بالقيمة والباقي يكون [منها] بحساب أم ولد
وروى عيسى عن بن القاسم انه [قال] ان كان استسلف المال من القراض فاشترى به الجارية فالثمن عليه دينا يتبع به مليئا كان أو معدما و [اما] إذا عدا عليها وهي من مال القراض فإنها تباع ان لم يكن له مال
قال عيسى ويتبع بثمن الولد الا ان يكون له ربح فيكون بمنزلة الجارية بين الشريكين يطؤها أحدهما وان ضمنها قيمتها يوم الوطء فلا شيء له من قيمة الولد
وذكر بن حبيب قال إذا استسلف من المال فعليه الأكثر من قيمتها أو من الثمن لأنه منعه وقد كان لرب المال الخيار في ذلك قبل الحمل فكذلك بعد الحمل
وروى أبو زيد عن بن القاسم انه إن لم يظهر ذلك بعد الحمل الا باقرار [السيد الوطء] لم يقبل قوله لأنه يريد بيع أم ولده
قال مالك (1) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتعدى فاشترى به سلعة وزاد في ثمنها من عنده قال مالك صاحب المال بالخيار ان بيعت السلعة بربح أو
22
وضيعة أو لم تبع ان شاء ان يأخذ السلعة اخذها وقضاه ما اسلفه فيها وان أبى كان المقارض شريكا له بحصته من الثمن في النماء والنقصان بحساب ما زاد العامل فيها من عنده
قال أبو عمر هذا قول الشافعي وأبي حنيفة ان أقر رب المال بالزيادة أو قيمت بذلك بينة
واما مالك فالعامل مصدق عنده ابدا إذا جاء بما نسيه
وروى بن القاسم عن مالك أنه قال لا باس ان يخلط المال القراض بماله يكون به شريكا
قال بن القاسم وإذا اخذ مائة دينار قراضا فاشتروا سلعة بمائتي دينار نقدا المائة من عنده والمائة القراض كان شريكا في السلعة ولا خيار لرب المال في أن يدفع إليه المئة الثانية وان كانت المائة التي زاد اخذها سلفا على القراض فرب المال بالخيار ان شاء أجاز إليه ودفع إليه ما زد وان شاء لم يجز ذلك وكان معه شريكا
قال أبو عمر اتفق الشافعي والليث وأبو حنيفة في العامل يخلط ماله بمال القراض بغير اذن رب المال انه ضامن الا ان يأخذ
قال إن قيل له اعمل فيه برأيك فخلطه لم يضمن
فقال مالك له ان يخلطه بغير اذن رب المال بماله وبمال غيره وهو قول الأوزاعي
وقال مالك ان دفع إليه الفاعل ان يخلطها الفاعل بألف له وله في الربح الثلثان فلا يصلح
رواه بن القاسم عنه
وروى عنه اشهب انه لا باس بها
قال قال لي مالك إياك وهذا التخليط
قال مالك (1) في رجل اخذ من رجل مالا قراضا ثم دفعه إلى رجل اخر فعمل فيه قراضا بغير اذن صاحبه انه ضامن للمال ان نقص فعليه النقصان وان ربح فلصاحب المال شرطه من الربح ثم يكون للذي عمل شرطه بما بقي من المال
23
قال أبو عمر لا اعلم خلافا في هذا الا ان المزني قال ليس للثاني الا اجر مثله لأنه عمل على فساد وزعم أنه أصل الشافعي في (الجديد) وان قوله كالغريم مجملة فقد اختلف أصحاب مالك فيه لو دفعه بعد ان خسر فيه
فقال بن القاسم في (المدونة) في الرجل يدفع إلى آخر ثمانين دينارا قراضا فيخسر فيها أربعين ثم يدفع تلك الأربعين قراضا إلى غيره فيعمل فيها فتصير مائة في يد العامل الثاني انه يبدأ برب المال الأول فيأخذ راس ماله ثمانين دينارا وعشرة دنانير نصف الربح تمام التسعين ويأخذ العامل الثاني العشرة الباقية تمام المائة ويرجع العامل الثاني على العامل الأول بعشرين دينارا قيمة الثلاثين دينارا وذلك نصف ما ربح
قال سحنون وقال غيره يأخذ رب المال السبعين الباقية وينظر إلى الأربعين التي تلفت في يد العامل الأول فإن كان تعدى عليها رجع عليه بها كلها تمام عشرة دنانير ومائة دينار وإن كان انما ذهبت بخسارة بعد رجع بعشرين تمام تسعين
قال مالك (1) في رجل تعدى فتسلف مما بيديه من القراض مالا فابتاع به سلعة لنفسه قال مالك ان ربح فالربح على شرطهما في القراض وان نقص فهو ضامن للنقصان
قال مالك (2) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاستسلف منه المدفوع إليه المال مالا واشترى به سلعة لنفسه ان صاحب المال بالخيار ان شاء شركه في السلعة على قراضها وان شاء خلى بينه وبينها واخذ منه راس المال كله وكذلك يفعل بكل من تعدى
قال أبو عمر معنى المسألتين متقارب بل هو واحد لان العامل اشترى بمال القراض أو ببعضه سلعة لنفسه يتجر فيها أو يقتنيها فصاحب المال يخير على ما قال مالك في ذلك ولا مخالف علمته له فيه لأنه مال قد قبضه على أن يعمل به قراضا فما عمل به فيه بما فيه ربح فهو على القراض لان ذلك هو المعنى المقصود إليه في القراض ولا يضره نية العامل الفاسدة وان لم يكن فيه ربح لزمه ما اخذ من مال القراض لنفسه كما [لو] استهلكه وتعدى فيه [فافسده] وبالله التوفيق
24
((9 - باب ما يجوز من النفقة في القراض))
1365 (1) - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا انه إذا كان المال كثيرا يحمل النفقة فإذا شخص فيه العامل فان له ان يأكل منه ويكتسي بالمعروف من قدر المال ويستأجر من المال إذا كان كثيرا لا يقوى عليه بعض من يكفيه بعض مؤونته ومن الاعمال اعمال لا يعملها الذي يأخذ المال وليس مثله يعملها من ذلك تقاضي الدين ونقل المتاع وشده وأشباه ذلك فله ان يستأجر من المال من يكفيه ذلك وليس للمقارض ان يستنفق من المال ولا يكتسي منه ما كان مقيما في أهله انما يجوز له النفقة إذا شخص في المال وكان المال يحمل النفقة فإن كان انما يتجر في المال في البلد الذي هو به مقيم فلا نفقة له من المال ولا كسوة
قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فخرج به وبمال نفسه قال يجعل النفقة من القراض ومن ماله على قدر حصص المال
قال أبو عمر قد تقدم معنى هذا الباب في درج غيره ولا بد من إعادة بعض ما للعلماء [فيه] ليكون المعنى المراد قائما في الباب إن شاء الله عز وجل أتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ان العامل بالقراض ينفق من مال القراض على نفسه إذا سافر ولا ينفق إذا كان حاضرا
وقال الثوري ينفق في ذهابه في سفره ومقامه ولا ينفق راجعا
وقال الليث يتغدى في المصر ولا يتعشى
وقال الشافعي لا ينفق في سفر ولا حضر الا باذن رب المال
وقال أصحابه في المسالة ثلاثة أقاويل
أحدها هذا
والاخر مثل قول مالك
والثالث ينفق في المصر بمقدار ما بين نفقة السفر والحضر
ولهم في فرض النفقة قولان
أحدهما انه لا ينفق حتى يفرض له باتفاق له ومن رب المال
25
والثاني انه لا يفرض له وينفق هو
واما التابعون فروي عن بن سيرين ان المضارب لا يأكل شيئا من المال وان اكل أو انفق فهو دين عليه
ذكره عبد الرزاق وغيره عن الثوري عن هشام عن بن سيرين
وذكر الثوري عن أشعث عن إبراهيم قال يأكل ويلبس بالمعروف
وعن الربيع عن الحسن مثله
((10 - باب ما لا يجوز من النفقة في القراض))
1366 - قال مالك في رجل معه مال قراض هو يستنفق منه ويكتسي انه لا يهب منه شيئا ولا يعطي منه سائلا ولا غيره ولا يكافئ فيه أحدا فاما ان اجتمع هو وقوم فجاؤوا بطعام وجاء هو بطعام فارجو ان يكون ذلك واسعا إذا لم يتعمد ان يتفضل عليهم فان تعمد ذلك أو ما يشبهه بغير اذن صاحب المال فعليه ان يتحلل ذلك من رب المال فان حلله ذلك فلا باس به وان أبى ان يحلله فعليه ان يكافئه بمثل ذلك ان كان ذلك شيئا له مكافاة
قال أبو عمر هذا [الباب] ليس فيه اختلاف والأصل المجتمع عليه ان المال القراض لن يعطه العامل ليهبه ولا ليتصدق به ولا ليتلفه وانما اعطيه ليثمره ويطلب فيه الربح والنماء ولا يعرضه للهلاك والتوى وهذا [ما لا اختلاف] فيه بين العلماء
((11 - باب الدين في القراض))
1367 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فاشترى به سلعه ثم باع السلعة بدين فربح في المال ثم هلك الذي اخذ المال قبل ان يقبض المال قال إن أراد ورثته ان يقبضوا ذلك المال وهم على شرط أبيهم من الربح فذلك لهم إذا كانوا امناء على ذلك فان كرهوا ان يقتضوه وخلوا بين صاحب المال وبينه لم يكلفوا ان يقتضوهن ولا شيء عليهم ولا شيء لهم إذا أسلموه إلى رب المال فان اقتضوه فلهم فيه من الشرط والنفقة مثل ما
26
كان لأبيهم في ذلك هم فيه بمنزلة أبيهم فإن لم يكونوا امناء على ذلك فان لهم ان يأتوا بأمين ثقة فيقتضي ذلك المال فإذا اقتضى جميع المال وجميع الربح كانوا في ذلك بمنزلة أبيهم
قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا على أنه يعمل فيه فما باع به من دين فهو ضامن له ان ذلك لازم له ان باع بدين فقد ضمنه
قال أبو عمر ظاهر قول مالك هذا في (الموطأ) ان العامل يضمن إذا باع بالدين لأنه على ذلك اخذ المال انه ان باع بالدين ضمن فإن كان ذلك ضمن
وتلخيص مذهب أئمة الفتوى في بيع المقارض بالدين
ان مالكا والشافعي قالا لا يبيع العامل في القراض سلعة بنسيئة الا ان يأذن له رب المال فان فعل بغير اذنه ضمن
وقال أبو حنيفة وأصحابه له ان يبيع بالدين الا ان ينهاه رب المال أو ينص ذلك له إذا قارضه
واما موت العامل [في سلع أو دين فقول مالك فيما تقدم ذكره
قال الشافعي ان مات العامل] لم يكن لورثته ان يعمل مكانه ويبع ما كان في يديه حتى ثياب سفره وغير ذلك مما قل أو كثر فإن كان فيه فصل كان لورثته حصته وان كان خسرانا كان ذلك في المال وان مات رب المال صار المال لورثته فان رضوا ترك المقارض على قراضه والا فقد انفسخ قراضه
وقال الشافعي ومتى شاء رب المال اخذ ماله قبل العمل وبعده كان ذلك له ومتى شاء العامل ان يخرج من القراض فذلك له
قال أبو عمر هذا خلاف [قول] مالك وليس للعامل عنده ولا لرب المال ان يفسخ القراض الا إذا كان المال عينا فإذا [صار] في السلع أجبر المقارض على أن يرده عينا كما اخذه واجبر رب المال على ذلك أيضا في أ عجل ما يمكن من بيع السلع
قال مالك يجبر العامل على تقاضي ما باع بالدين وان كان فيه وضيعة حتى يرد المال عينا ولرب المال ان لا يرضى بالحوالة
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا باع المضارب بنسيئة [وأحب رب المال ان يفسخ] القراض فإن كان في المال فضل أجبر على التقاضي وان لم يكن له فضل لم يجبر على تقاضيه واجل الذي له المال حتى يتقاضاه
27
هذا يدل من قولهم ان للمقارض ولرب المال ان يفسخ كل [واحد منهما] القراض قبل العمل وبعده كما قال الشافعي
((12 - باب البضاعة في القراض))
1368 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا واستسلف من صاحب المال سلفا أو استسلف منه صاحب المال سلفا أو ابضع معه صاحب المال بضاعة يبيعها له أو بدنانير يشتري له بها سلعة قال مالك ان كان صاحب المال انما ابضع معه وهو يعلم أنه لو لم يكن ماله عنده ثم سأله مثل ذلك فعله لاخاء بينهما أو ليسارة مؤونة ذلك
عليه ولو أبى ذلك عليه لم ينزع ماله منه أو كان العامل انما استسلف من صاحب المال أو حمل له بضاعته وهو يعلم أنه لو لم يكن عنده ماله فعل له مثل ذلك ولو أبى ذلك عليه لم يردد عليه ماله فإذا صح ذلك منهما جميعا وكان ذلك منهما على وجه المعروف ولم يكن شرطا في أصل القراض فذلك جائز لا باس به وان دخل ذلك شرط أو خيف ان يكون انما صنع ذلك العامل لصاحب المال ليقر ماله في يديه أو انما صنع ذلك صاحب المال لان يمسك العامل ماله ولا يرده عليه فان ذلك لا يجوز في القراض وهو مما ينهى عنه أهل العلم
قال أبو عمر ما قاله مالك - رحمه الله - في هذا الباب صحيح واضح لان الأصل المجتمع عليه في القراض أن تكون حصة العامل في الربح معلومة وكذلك حصة [رب] المال من الربح لا تكون أيضا الا معلومة فإذا شرط أحدهما على صاحبه بضاعة يحملها له ويعمل فيها فقد ازداد على الحصة المعلومة ما تعود به مجهوله لان العمل في البضاعة له اجرة يستحقها العامل فيها قد ازدادها عليه رب المال والسلف من كل واحد هو في هذا المعنى إذا كان شيء من ذلك مشترطا في أصل عقد القراض واما ان تطوع منهما متطوع فلا باس إذا سلم عقد القراض من الفساد
هذا وجه الفقه في هذه المسالة وما عداه فاستحباب وورع وترك مباح خوف مواقعة المحذور والله أعلم
وهذا المعنى هو قياس قول الشافعي أيضا والكوفي وسائر أهل العلم إن شاء الله
28
وللتابعين فيه كراهية وإجازة
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن بن سيرين قال لا باس [ان يدفع] الرجل مالا مضاربة على أن يحمل له بضاعة
وعن معمر عن بن طاوس عن أبيه انه كرهه
وعن الثوري وعن مغيرة عن إبراهيم انه كره ان يدفع إليه ألفا مضاربه والفا قراضا والفا بضاعة
((13 - باب السلف في القراض))
1369 - قال مالك في رجل اسلف رجلا مالا ثم سأله الذي تسلف المال ان يقره عنده قراضا قال مالك لا أحب ذلك حتى يقبض ماله منه ثم يدفعه إليه قراضا ان شاء أو يمسكه
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في هذه المسألة فمذهب مالك انه لا يجوز فان فعل فالقراض فاسد وما اشترى وباع فهو العامل الذي كان عليه الدين
وهو قول أبي حنيفة واحد قولي الشافعي
وقال أبو يوسف ومحمد لا يجوز وما اشترى وباع فهو للامر وللمقارض اجر مثله
قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فأخبره انه قد اجتمع عنده وسأله ان يكتبه عليه سلفا قال لا أحب ذلك حتى يقبض منه ماله ثم يسلفه إياه ان شاء أو يمسكه وانما ذلك مخافة ان يكون قد نقص فيه فهو يحب ان يؤخره عنه على أن يزيده فيه ما نقص منه فذلك مكروه ولا يجوز ولا يصلح
قال أبو عمر قد بين مالك الفقه لكراهية ما كره في هذه المسألة وسائر أهل العلم على كراهة ذلك وهو غير جائز عندهم الا ان علتهم في ذلك ان الدين لا يعود أمانة حتى يقبض ثم يعاد وكذلك الأمانة لا تعود في الذمة ولا تكون مضمونة الا بان يقبضها ربها ثم يسلفها فتنتقل إلى الذمة حينئذ
وكره بن القاسم ان يقول رب الوديعة للمودع عنده اعمل بما تراها ولم يجبره
29
وكره اشهب ان يوقع
وقال بن المواز لا بأس به
ولم يختلفوا في أنه لا يجوز ان يعمل بالدين قراضا باذن صاحبه قبل قبضه
واختلفوا إذا اذن له رب الدين فعمل به قراضا
فروى سحنون عن بن القاسم قال الربح والخسارة جميعا للمديان وعليه
وقال اشهب ان عمل فالخسارة والربح على رب الدين
((14 - باب المحاسبة في القراض))
1370 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فربح فأراد ان يأخذ حصته من الربح وصاحب المال غائب قال لا ينبغي له ان يأخذ منه شيئا الا بحضرة صاحب المال وان اخذ شيئا فهو له ضامن حتى يحسب مع المال إذا اقتسماه
قال مالك لا يجوز للمتقارضين ان يتحاسبا ويتفاصلا والمال غائب عنهما حتى يحضر المال فيستوفي صاحب المال راس ماله ثم يقتسمان الربح على شرطهما
قال أبو عمر الأصل في القراض انه لا يجوز للعامل فيه ان يأخذ شيئا من ربحه الا بعد [حضور] راس المال عند صاحبه أو بحضرته
ولا يجوز عند الجميع ان يكون [أحد] مقاسما لنفسه عن نفسه ولا احرى عنها ومعطيا لها
ولو كان الشريك [وصيا ما جاز له ان يقاسم [نفسه] عن ايتامه وانما يقاسمه عنهم وكيل الحاكم ولا بد من وكيل رب المال على المقاسمة أو حضوره لنفسه وحضور مال القراض عند قسمة الربح لما وصفنا وللعلة التي ذكرنا في الباب قبل هذا
فان اخذ المقارض حصته من الربح قبل القسمة ثم ضاع المال فقد اختلف الفقهاء
فقال مالك إذا اذن له رب المال وقال رجوت السلامة والعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع
30
وقال الشافعي والثوري وأبو حنيفة إذا اقتسما الربح ومال المضاربة بيد المضارب على حاله فضاع بعد ذلك فان قسمتها باطل وما اخذه رب المال محسوب من راس ماله وما اخذه المضارب يرده
قال مالك (1) في رجل اخذ مالا قراضا فاشتري به سلعة وقد كان عليه دين فطلبه غرماؤه فأدركوه ببلد غائب عن صاحب المال وفي يديه عرض ربح بين فضله فأرادوا ان يباع لهم العرض فيأخذوا حصته من الربح قال لا يؤخذ من ربح القراض شيء حتى يحضر صاحب المال فيأخذ ماله ثم يقتسمان الربح على شرطهما
قال أبو عمر ما تقدم من الكلام في هذا الباب يغني عن اعادته هنا
قال مالك (2) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فتجر فيه فربح ثم عزل راس المال وقسم الربح فاخذ حصته وطرح حصة صاحب المال في المال بحضرة شهداء اشهدهم على ذلك قال لا تجوز قسمة الربح الا بحضرة صاحب المال وان كان اخذ شيئا رده حتى يستوفي صاحب المال راس ماله ثم يقتسمان ما بقي بينهما على شرطهما
قال أبو عمر الكلام فيما تقدم انه لا يكون مقاسما [لنفسه] ولا حاكما في اخذ حصته بمحضر شهود وبغير شهود يغني عن اعادته ها هنا
قال مالك (3) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فعمل فيه فجاءه فقال له هذه حصتك من الربح وقد اخذت لنفسي مثله ورأس مالك وافر عندي قال مالك لا أحب ذلك حتى يحضر المال كله فيحاسبه حتى يحصل راس المال ويعلم انه وافر ويصل إليه ثم يقتسمان الربح بينهما ثم يرد إليه المال ان شاء أو يحبسه وانما يجب حضور المال مخافة ان يكون العامل قد نقص فيه فهو يحب ان لا ينزع منه وان يقره في يده
وقد بين مالك - رحمه الله - وجه قوله واعتلاله في هذه المسألة وما قدمناه مما اعتل به غيره وجه أيضا وهو امر لا اختلاف فيه إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
31
((15 - باب ما جاء في القراض))
1371 - قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فابتاع به سلعة فقال له صاحب المال بعها وقال الذي اخذ المال لا أرى وجه بيع فاختلفا في ذلك قال لا ينظر إلى قول واحد منهما ويسأل عن ذلك أهل المعرفة والبصر (1) بتلك السلعة فان رأوا وجه بيع بيعت عليهما وان رأوا وجه انتظار انتظر بها
قال أبو عمر خالفه الشافعي والكوفيون فقالوا تباع [في الوقت] لان حصة رب المال في الربح كحصة العامل فلكل واحد منهما ان ينقض القراض قبل العمل وبعده لأنه ليس بعقد لازم لواحد منهما
وقد خالف سحنون بن القاسم في العامل بالقراض يبيع [السلع] بدين ثم يأبى من تقاضي الثمن ويسلم ذلك إلى ربه ويرضى بذلك رب المال
فقال بن القاسم لا باس بذلك وهو بمنزلة العامل يموت ويسلم ورثته المال إلى ربه يتقاضاه على أنه لا شيء لهم من الربح
وانكر ذلك سحنون ولم يبين الوجه الذي كرهه
قال مالك (2) في رجل اخذ من رجل مالا قراضا فعمل فيه ثم سأله صاحب المال عن ماله فقال هو عندي وافر فلما اخذه به قال قد هلك عندي منه كذا وكذا لمال يسميه وانما قلت لك ذلك لكي تتركه عندي قال لا ينتفع بانكاره بعد اقراره انه عنده ويؤخذ باقراره على نفسه الا ان يأتي في هلاك ذلك المال بأمر يعرف به قوله فإن لم يأت بأمر معروف اخذ باقراره ولم ينفعه انكاره
قال أبو عمر هذا كما قال مالك لا خلاف في ذلك
واما لو قال هلك بعد ذلك كان مصدقا عند الجميع الا ان يتبين كذبه
قال مالك (3) وكذلك أيضا لو قال ربحت في المال كذا وكذا فسأله رب المال ان يدفع إليه ماله وربحه فقال ما ربحت فيه شيئا وما قلت ذلك الا لان تقره في يدي فذلك لا ينفعه ويؤخذ بإقراره الا ان يأتي بأمر يعرف به قوله وصدقه فلا يلزمه ذلك
32
وهذا أيضا لا خلاف فيه وقد اجمعوا ان الرجوع في حقوق الآدميين بعد الاقرار لا ينفع الراجع عما أقر به وانه يلزمه اقراره في أموال الآدميين كلها
قال مالك (1) في رجل دفع إلى رجل مالا قراضا فربح فيه ربحا فقال العامل قارضتك على أن لي الثلثين وقال صاحب المال قارضتك على أن لك الثلث قال مالك القول قول العامل وعليه في ذلك اليمين إذا كان ما قال يشبه قراض مثله
قال أبو عمر لم يختلف أصحاب مالك في أن القول قول العامل في ذلك
وذكر بن حبيب ان الليث خالفه في ذلك فقال يحملان على قراض مثلهما
واختار بن حبيب قول مالك
وذكره بن وهب في (موطئه) قال قال الليث يحملان على قراض المسلمين [للنصف]
قال أبو عمر قد قال مالك ان العامل إذا جاء بما يستنكر [لم يصدق ورد إلى قراض مثله]
وهو قول الليث
وانما الاختلاف بينهما ان العامل لا يرد إلى قراض مثله إذا جاء بما يشبه ان يتقارض الناس عليه وانما يرد إلى قراض مثله إذا جاء بما يستنكر] وبما لا يستنكر
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري إذا ربح فقال رب المال شرطت لك النصف وقال العامل شرطت لك الثلثين فالقول قول رب المال
وقال الشافعي يتحالفان ويكون للعامل اجر مثله على رب المال
قال مالك (2) في رجل اعطى رجلا مائة دينار قراضا فاشترى بها سلعة ثم ذهب ليدفع إلى رب السلعة المائة دينار فوجدها قد سرقت فقال رب المال بع السلعة فإن كان فيها فضل كان لي وان كان فيها نقصان كان عليك لأنك أنت ضيعت وقال المقارض بل عليك وفاء حق هذا انما اشتريتها بمالك الذي أعطيتني قال مالك يلزم العامل المشتري أداء ثمنها إلى البائع ويقال لصاحب المال القراض ان شئت فاد المائة الدينار إلى المقارض والسلعة بينكما وتكون
33
قراضا على ما كانت عليه المائة الأولى وان شئت فابرأ من السلعة فان دفع المائة دينار إلى العامل كانت قراضا على سنة القراض الأول وان أبى كانت السلعة للعامل وكان عليه ثمنها
قال أبو عمر قول الليث [بن سعد] في هذه المسالة كقول مالك سواء فإن لم يكن للمقارض مال بيعت عليه السلعة وكان الربح له وعليه النقصان فإن كان [له] مال وادى ثمنها كانت السلعة له إذا أبى رب المال من أدائه وان أدى رب المال الثمن كان القراض مستأنفا على شرط القراض الأول
هذا كله عندي معنى قول الشافعي لأنه قال إذا اشترى العامل وجاء ليدفع الثمن فوجد المال قد ضاع فليس على رب المال شيء والسلعة للمقارض
واما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا إذا اشترى وهلك المال في يده قبل ان ينتقد كان له الرجوع على رب المال ويكون [راس] المال ما دفع أولا واخرا مثال ذلك ان يكون المال الذي اخذه قراضا ألف درهم فيشتري سلعة بألف درهم ويهلك المال في يده قبل ان ينتقده فإنه يرجع على رب المال بألف درهم ويكون راس ماله في تلك [المضاربة] العين لا يستحق شيئا من الربح حتى تتم الألفان ثم الربح
قال مالك (1) في المتقارضين إذا تفاصلا فبقي بيد العامل من المتاع الذي يعمل فيه خلق القربة أو خلق الثوب أو ما أشبه ذلك قال مالك كل شيء من ذلك كان تافها لا خطب له فهو للعامل ولم اسمع أحدا أفتى برد ذلك وانما يرد من ذلك الشيء الذي له ثمن وان كان شيئا له اسم مثل الدابة أو الجمل أو الشاذكونه أو أشباه ذلك مما له ثمن فاني أرى ان يرد ما بقي عنده من هذا الا ان يتحلل صاحبه من ذلك
قال أبو عمر روى بن القاسم عن مالك انه سئل عن الجبة تفضل للعامل في القراض أو نحو ذلك من ثيابه ثم يعامله رد المال هل ينزع ذلك منه فقال ما علمت أنه يؤخذ مثل هذا منه
وقال سحنون ما كان له بال اخذ منه وحسب في المال وما لم يكن له بال مثل الحبل والقربة والشيء الخفيف فإنه يترك له
قال أبو عمر قول الليث في هذه المسالة كقول مالك لأنه قال لا يرد خلقا
34
تافها من الثياب ولا من الأسقية ولا الحبل وشبهه
واما أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما فقالوا يرد قليل ذلك وكثيره
واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فان لها من الله طالبا
35
((33 كتاب المساقاة (1)))
((1 - باب ما جاء في المساقاة))
1372 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر يوم افتتح خيبر (أقركم فيها ما أقركم الله عز وجل على أن الثمر بيننا وبينكم) قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص (2) بينه وبينهم ثم يقول إن شئتم فلكم وان شئتم فلي فكانوا يأخذونه
1373 - مالك عن بن شهاب عن سليمان بن يسار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر قال فجمعوا له حليا من حلي نسائهم فقالوا له هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقال عبد الله بن رواحة يا معشر اليهود والله انكم لمن ابغض خلق الله إلي وما ذاك بحاملي على أن احيف عليكم فاما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وانا لا ناكلها فقالوا بهذا قامت السماوات 4 والأرض
قال أبو عمر هكذا روى مالك في حديثه (عن سعيد بن المسيب) مرسلا وتابعه معمر وأكثر أصحاب بن شهاب على ارساله وقد وصلته منهم طائفة منهم صالح بن أبي الأخضر عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر دعا اليهود فقال (نعطيكم الثمر على أن تعملوها أقركم ما أقركم الله) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة
36
فيخرصها عليهم ثم يخبرهم أياخذون بخرصه أم يتركون
واختلف العلماء في افتتاح خيبر هل كان عنوة أو صلحا أو خلا أهلها عنها بغير قتال فحدثني عبد الله [بن محمد] قال حدثني محمد [بن بكر] قال حدثني [أبو] داود قال حدثني يعقوب بن إبراهيم وزياد بن أيوب قالا حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن عبد العزيز بن صهيب عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فاصبناها عنوة (1)
فاحتج بهذا من جعل فتح خيبر عنوة واحتجوا أيضا برواية معمر عن بن شهاب في هذا الحديث فقال خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ولم يكن له ولا لأصحابه عمال يعملونها ويزرعونها [فدعا يهود خيبر وكانوا قد اخرجوا منها] فدفع إليهم خيبر على أن يعملوها على النصف يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال
[لهم] (أقركم على [ذلك] ما أقركم الله) وذكر تمام الخبر
قالوا ولا يخمس الا ما كان اخذ عنوة واوجف المسلمون عليه بالخيل والرجل
وقال آخرون كانت خيبر حصونا كثيرة فمنها ما اخذ عنوة بالقتال والغلبة ومنها ما صالح عليه أهلها ومنها ما أسلمه أهله للرعب والخوف بغير قتال طلبا لحقن دمائهم
وروى بن وهب عن مالك عن بن شهاب ان خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحا
قال و (الكتيبة) أكثرها عنوة ومنها صلح
قال بن وهب قلت لمالك وما الكتيبة قال من ارض خيبر وهي أربعون الف عذق (2)
قال مالك وكتب المهدي أمير المؤمنين ان تقسم (الكتيبة) مع صدقات النبي صلى الله عليه وسلم فهم يقسمونها في الأغنياء والفقراء
وقيل لمالك افترى ذلك للأغنياء قال لا ولكن [أرى] ان تفرق على الفقراء
37
وقال موسى بن عقبة كان مما أفاء الله على المسلمين من خيبر نصفها فكان النصف لله ولرسوله والنصف الآخر للمسلمين فكان الذي لله ولرسوله النصف وهي الكتيبة والوطيحة وسلالم ووحدة وكان النصف الثاني للمسلمين نطاة والشق
قال أبو عمر قد ذكرنا في (التمهيد) في باب بن شهاب عن سعيد بن المسيب من الآثار المرفوعة وغيرها في فتح خيبر وكيف كانت قسمتها ما فيه كفاية
ولم يختلف أهل العلم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصفها وانما اختلفوا في قسمه جميعها وذكرنا هناك اختلاف العلماء في قسمة الأرضين وفي توقيفها
واختصار ذلك ان مالكا وأصحابه كانوا يرون ان كل بلدة تفتح عنوة فان ارضها موقوفة حكمها حكم التي لكل من حضرها ومن لم يحضرها ومن يأتي من المسلمين بعد إلى يوم القيامة على ما صنع عمر - رضي الله عنه - بأرض سواد العراق وارض مصر والشام جعلها موقوفة مادة للمسلمين أهل ذلك المصر ومن يجيء بعدهم
واحتج عمر - رضي الله عنه - في ذلك بالآية في سورة الحشر * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) * الآية إلى قوله " والذين جاءو من بعدهم " [الحشر 7 - 10]
وقال ما أحد الا وله في هذا المال حق حتى الراعي وكان [يفرض] للمنفوس والعبد
وروى مالك عن زيد بن اسلم [عن أبيه] عن عمر قال لولا اخر الناس ما افتتحت قرية الا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر (1)
رواه بن مهدين وغيره عن مالك]
وكان فعل عمر في توقيف الأرض بمحضر من الصحابة من غير نكير فدل ذلك على أن معنى قول الله عز وجل " واعلموا انما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول " [الأنفال 41] فيما عدا الأرضين وان الأرض لا تدخل في عموم هذا اللفظ
واستدل من ذهب إلى هذا بان الغنائم التي أحلت للمسلمين ولم تحل لاحد قبلهم انما كانت ما تأكله النار
38
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني يحيى بن عبد الحميد قال حدثني أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتاكلها) (1) وذكر تمام الخبر
وروى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (غزا نبي من الأنبياء فقال لا ينبغي أحد ملك بضع امرأة وهو يريد ان يبني بها) وذكر الحديث وفيه انه غزا قرية فدنا منها بعد العقد فقال للشمس انك مأمورة وانا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم فجاءت النار لتاكلها فلم تطعمها فقال ان فيكم غلولا [فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده فقال فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول أنتم غللتم] فجاؤوا برأس بقرة من ذهب فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى من عجزنا وضعفنا أحلها لنا
رواه عبد الرزاق (2) وهشام بن يوسف وبن المبارك ومحمد بن ثور عن معمر بمعنى واحد
ومما روي أن هارون - عليه السلام - امر بني إسرائيل ان يحرقوا ما كان بأيديهم من متاع فرعون فجمعوه وأحرقوه فالقى السامري فيه القبضة التي كانت في يده من اثر الرسول يقال من اثر جبريل - عليه السلام - فصارت عجلا له خوار (3)
ومعلوم ان الأرض لم تجر هذا المجرى إلى أشياء أخرى احتجوا بها ليس [فيها] بيان قاطع أحسنها حديث أبي هريرة [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال] (منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مديها ودينارها) (4)
ومنعت ها هنا بمعنى ستمنع
قالوا وهو ما ضربه عمر على كل جديب من الأرضين المفتتحة وعلى ما ذهب إليه مالك في توقيف الأرضين جماعة الكوفيين الا انهم قالوا إن الامام مخير
39
في الأرض ان شاء قسمها [وأهلها] بين الغانمين كسائر الغنيمة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر وان شاء أقر أهلها عليها وجعل عليهم الخراج وتكون ملكا لهم يجوز بيعهم لها كسائر [ما يملكون]
واما مالك فلا يرى الامام مخيرا في ذلك وارض العنوة عنده غير مملوكة وانما المملوكة عنده ارض الصلح التي صالح عليها أهلها
وقد شرحنا هذه المعاني في (التمهيد)
وكان الشافعي وأصحابه يذهبون إلى أن الامام يقسم الأرض في كل ما افتتح عنوة كما يقسم سائر الغنائم وان أربعة أخماسها مملوكة للموجفين عليها بالخيل والركاب ومن حضر القتال والفتح من مقاتل ومكتر بالغ حر
وانما الخمس عنده المقسوم على ما نص الله تعالى في [كتابه] في سورة الأنفال
وقد ذكرنا معاني الخمس واختلاف أهل العلم في كتاب الجهاد وانما ذكرنا ها هنا طرفا من احكام الأرضين المفتتحات عنوة لما جرى من فتح خيبر واختلف العلماء في ذلك
وحجة الشافعي فيما ذهب إليه من هذا الباب عموم قول الله عز وجل " واعلموا انما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " الآية [الأنفال 41] يعني والأربعة الأخماس للغانمين فملكهم كل ما غنموا من ارض وغيرها [مع] ما روي في خيبر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمها بين أهل الحديبية الذين وعدهم الله تعالى بها وهم الذين افتتحوها
واما قوله في حديث مالك في هذا الباب (أقركم ما أقركم الله) فالمعنى في ذلك - والله أعلم - انه صلى الله عليه وسلم كان يكره ان يكون بأرض العرب غير المسلمين وكان يحب الا يكون فيها دينان كنحو محبته في استقبال الكعبة حتى نزلت " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضها " الآية [البقرة 144]
وكان لا يتقدم في شيء الا بوحي وكان يرجو ان يحقق الله رغبته في ابعاد اليهود عن جواره فذكر ليهود خيبر ما ذكر منتظرا للقضاء [فيهم] فلم يوح إليه في ذلك شيء حتى حضرته الوفاة فاتاه الوحي في ذلك فقال (لا يبقين دينان بأرض العرب) (1) وأوصى بذلك
والشواهد بما ذكرنا كثيرة جدا منها ما ذكره معمر عن بن شهاب عن بن
40
المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خيبر إلى اليهود على أن يعملوا فيها ولهم شطرها قال فمضى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وصدرا من خلافة عمر ثم اخبر عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي مات فيه (لا يجتمع دينان بأرض الحجاز أو قال (بأرض العرب) ففحص عنه حتى وجد الثبت عليه فقال من كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليات به والا فاني مجليكم فأجلاهم عمر)
وقد ذكرنا كثيرا من الآثار بهذا المعنى في (التمهيد) والحمد لله
وليس في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود (أقركم الله) دليل على أن المساقاة تجوز إلى مجهول أو إلى غير اجل لان في قوله أقركم ما أقركم الله دليلا واضحا على أن ذلك خصوص لأنه كان ينتظر في ذلك القضاء من ربه وليس كذلك غيره
وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات
وجمهور العلماء بالمدينة وغيرها المجيزون للمساقاة لا تجوز عندهم الا إلى سنين معلومة أو أعوام معدودة الا انهم يكرهونها فيما طال من السنين
وقد قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم (أقركم ما أقركم الله) وكان يخرص عليهم لان الله عز وجل - كان قد أفاء عليه وعلى من معه خيبر بمن فيها فكانوا له عبيدا كما قال بن شهاب افاءها الله وأهلها عليهم فاقرهم فيها صلى الله عليه وسلم ليعملوها على الشطر
ومعلوم انه جائز بين السيد وعبده في البيع وغيره ما لا يجوز بين الأجنبيين لان العبد لسيده اخذ ما بيده من المال عند الجميع لا يختلف في ذلك من يراه يملك ومن يقول إنه لا يجوز ان يملك
واما الخرص في المساقاة فان ذلك غير جائز عند جمهور العلماء لان المتساقيين شريكان فلا يقتسمان الثمرة الا بما يجوز من بيع الثمار [بعضها ببعض وبما لم يدخله المزابنة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها
ومن قال هذا قال انما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى يهود خيبر من يخرص الثمار عليهم] عند طيبها لاحصاء الزكاة لان المساكين ليسوا شركاء متعينين والشركاء اليهود ولو تركوا واكل الثمر رطبا والتصرف فيه بالعطية أضر ذلك بالمسلمين وبسهم المساكين فخرصت عليهم لذلك
وأهل الأموال [امناء في ذلك مع ما] وصفنا من قولهم ان اليهود كانوا عبيدا للمسلمين والله أعلم
41
وسنذكر اختلاف قول مالك وأصحابه في قسمة الثمار بين الشركاء في رؤوس الشجر عند اختلاف اغراضهم في ذلك في موضعه ونذكر من خالفهم في ذلك ومن تابعه عليه إن شاء الله عز وجل
وقد اختلف العلماء قديما في جواز المزارعة والمساقاة
فقال مالك المساقاة جائزة والمزارعة لا تجوز
وهو قول الليث بن سعد في رواية
وقول الشافعي في المزارعة عندهم اعطاء الأرض بالثلث أو الربع أو جزء مما تخرج الأرض
[الا ان مالكا أجاز من المزارعة في الأرض البيضاء ما كان من النخل والشجر إذا كان تبعا لثمن الشجر وذلك أن تكون الأرض بين النخل الثلث والنخل الثلثين ويكون ما تخرج الأرض] للعامل أو بينهما
وقال أبو حنيفة وزفر لا تجوز المزارعة ولا المساقاة بوجه من الوجوه وادعوا ان المساقاة منسوخة بالنهي عن المزابنة وان المزارعة منسوخة بالنهي عن الإجارة المجهولة وكراء الأرض ببعض ما تخرج ونحو هذا
وقال بن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف ومحمد تجوز المساقاة والمزارعة جميعا
وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي واحمد وإسحاق
وحجتهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقى يهود خيبر على شرط ما تخرج الأرض والثمرة
وسيأتي القول فيما يجوز به كراء الأرض في باب كراء الأرض إن شاء الله عز وجل
واختلفوا فيما تجوز فيه المساقاة
فقال مالك تجوز المساقاة في كل أصل ثابت يبقى نحو النخل والرمان والتين والفرسك والعنب والورد والياسمين [والزيتون] وما كان مثل ذلك مما له أصل يبقى
وهو قول أبي ثور
قال مالك ولا تجوز المساقاة في كل ما يجنى ثم يخلف نحو القصب والموز والبقول لان بيع ذلك جائز وبيع ما يجنى بعده
قال مالك وتجوز المساقاة في الزرع إذا [استقل على وجه الأرض] وعجز صاحبه عن سقيه ولا تجوز مساقاته الا في هذه الحال بعد عجز صاحبه عن سقيه
42
قال مالك لا باس بمساقاة القثاء والبطيخ إذا عجز عنه صاحبه ولا تجوز مساقاة الموز والقصب بحال
حكى ذلك كله عن مالك بن القاسم وبن وهب وبن عبد الحكم
وقال الشافعي لا تجوز المساقاة الا في النخل والكرم لان ثمرهما بائن من شجره ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر به
قال وثمر غيرهما متفرق بين اضعاف ورق شجره لا يحاط بالنظر إليه
قال وإذا ساقى على نخل فيها بياض فإن كان لا يوصل إلى عمل البياض الا بالدخول على النخل وكان لا يوصل إلى سقية الا بشرك النخل في الماء وكان غير مثمر جاز ان يساقي عليه في النخل لا منفردا وحده
قال ولولا الخبر في قصة خيبر لم يجز ذلك لأنه كراء الأرض ببعض ما يخرج منها وهي المزارعة المنهي عنها
قال وليس للعمل في النخل ان يزرع البياض الا باذن ربه فان فعل كان كمن زرع ارض غيره
قال أبو عمر ما اعتل به الشافعي في جواز المساقاة في النخل والعنب دون غيرها من الأصول فان ثمرتها ظاهرة لا حائل دونهما يمنع منها لإحاطة النظر إليها ليس بشيء لان الكمثري والتين وحب الملوك وعيون البقر والرمان والأترج والسفرجل وما كان مثل ذلك كله يحاط بالنظر إليه كما يحاط بالنظر إلى النخل والعنب والعلة له ان المساقاة لا تجوز الا فيما يجوز فيه الخرص والخرص لا يجوز الا فيما وردت به السنة فأخرجته عن المزابنة كما أخرجت العرايا منهما وذلك النخل والعنب خاصة بحديث عتاب بن أسيد في ذلك
حدثناه خلف بن قاسم حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا خالد بن النفر بالبصرة قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثني يزيد بن زريع وبشر بن المفضل قالا حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد وأمره ان يخرص العنب وتؤدى زكاته كما تؤدى زكاة النخل تمرا
43
ورواه بشر بن منصور عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد فوصله في الظاهر وليس بمتصل عند أهل العلم لان عتاب بن أسيد مات بمكة في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أو في اليوم الذي ورد النعي بموته بمكة وسعيد بن المسيب انما ولد لسنتين مضتا لخلافة عمر - رضي الله عنه فالحديث مرسل على كل حال
وأجاز المساقاة في الأصول كلها أبو يوسف ومحمد
واما الخرص في المساقاة وغيرها للزكاة
فأجازه مالك والشافعي والأوزاعي والليث ومحمد بن الحسن
وذكر محمد بن الحسن في (الاملاء) ان أبا حنيفة أجاز الخرص للزكاة خاصة في غير المساقاة
وكره الثوري الخرص ولم يجزه بحال [من الأحوال] وقال الخرص غير مستعمل قال واما على رب الحائط ان يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق
وروى الثوري وغيره عن الشيباني [عن الشعبي] قال الخرص اليوم بدعه
وقال داود [بن علي] الخرص للزكاة جائزة في النخل خاصة دون العنب ودون غيرهما من الثمار ودفع حديث عتاب [بن أسيد] من وجهين
(أحدهما) انه مرسل
(والثاني) انه انفرد به عبد الرحمن [بن إسحاق] عن الزهري وليس بالقوي
قال أبو عمر أكثر العلماء لا يجيزون القسمة في الثمار الا كيلا بعد تناهيها ويبسها وقد أجازها منهم قوم واختلف فيها أصحابنا
فذكر بن حبيب ان بن القاسم كان يقول به
ورواه عن مالك انه لا تجوز قسمة الثمار في رؤوس النخل والأشجار إذا اختلف حاجة الشريكين الا التمر والعنب فقط
واما الخوخ والرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ وما أشبه ذلك من
44
الفواكه التي يجوز فيها التفاضل يدا بيد فان مالكا لم يجز قسمتها على التحري وكان يقول المخاطرة تدخله حتى يتبين فضل [أحد] النصيبين على صاحبه
قال وقال مطرف وبن الماجشون واشهب لا بأس باقتسامه على التحري والتعديل أو على التجاوز والرضا بالتفاضل
وهو قول اصبغ
قال وبه أقول لان ما جاز فيه التفاضل جاز فيه التحري
وذكر سحنون عن بن القاسم عن مالك انه سأله غير مرة عن قسمة الفواكه بالخرص فأبى ان يرخص في ذلك
قال وذلك أن بعض أصحابنا ذكر انه سأل مالكا عن قسمة الفواكه بالخرص فأرخص فيه فسألته عن ذلك فأبى ان يرخص لي فيه
وقال اشهب سألت مالكا مرات عن تمر النخل والأعناب وغيرها من الثمار تقسم بالخرص فكل ذلك يقول [لي] إذا طابت الثمرة من النخل وغيرها أقسمت بالخرص
واختار هذه الرواية يحيى بن عمر قياسا على جواز العرايا [وغيرها بالخرص] في غير النخل [والعنب] كما تجوز في النخل والعنب
قال ويجوز بيع ذلك كله بعضه ببعض بخرصه إلى الجذاذ
قال أبو عمر اما قوله ويجوز بيع ذلك كله بخرصه إلى الجذاذ] فلا اعلم أحدا قاله قبل يحيى بن عمر في بيع الثمار بعضها ببعض الا [في] العرايا خاصة
واما في غير العرايا فلا وكيف يجوز ذلك وهو تدخله المزابنه المنهي عنها ويدخله بيع الرطب باليابس وبيع الطعام بالطعام نسيئة
وانما أجاز مالك ذلك في العرايا خاصة لما ورد فيها من تخصيص مقدارها من المزابنة
قال يحيى بن عمر اشهب لا يشترط في الثمار الا طيبها ثم يقسمها بين أربابها بالخرص ولا يلتفت إلى اختلاف حاجاتهم
ورواه عن مالك
قال وبن القاسم يقول لا يجوز ان يقتسم بينهم بالخرص الا ان يختلف غرض كل واحد منهم فيريد أحدهما ان يبيع ويريد الاخر ان ييبس ويدخر ويريد الاخر ان يأكل فحينئذ يجوز لهم قسمتها بالخرص إذا وجد من أهل المعرفة من
45
يعرف الخرص فإن لم تختلف حاجتهم لم يجز ذلك وان اتفقوا على أن يبيعوا أو على أن يأكلوا رطبا أو على أن يجدوها تمرا لم يقتسموها بالخرص
واما الشافعي فتحصيل مذهبه ان الشركاء في النخل المثمر إذا اقتسمت الأصول بما فيها من الثمرة جاز لان الثمرة تبع الأصول بالقسمة والقسمة عنده مخالفة للبيوع قال لأنها تجوز بالقرعة والبيع لو وقع بالقرعة لم يجز (وأيضا) فان الشريك يجبر على القسمة ولا يجبر على البيع وأيضا فان التحابي في [قسمة الصدقة وغيرها] جائز وذلك معروف وتطوع ولا يجوز ذلك في البيع
ولا يجوز عند الشافعي قسمة الثمرة دون الأصول قبل طيبها بالخرص على حال وتجوز عنده قسمتها مع الأصول على ما وصفنا
وقد قال في كتاب الصرف تجوز قسمتها بالخرص إذا طابت وحل بيعها والأول اشهر في مذهبه عند أصحابه
قال مالك (1) إذا ساقى الرجل النخل وفيها البياض فما ازدرع الرجل الداخل في البياض فهو له
قال وان اشترط صاحب الأرض انه يزرع في البياض لنفسه فذلك لا يصلح لان الرجل الداخل في المال يسقي لرضب الأرض فذلك زيادة ازدادها عليه
قال وان اشترط الزرع بينهما فلا بأس بذلك إذا كانت المؤونة كلها على الداخل في المال البذر والسقي والعلاج كله فان اشترط الداخل في المال على رب المال ان البذر عليك كان ذلك غير جائز لأنه قد اشترط على رب المال زيادة ازدادها عليه وانما تكون المساقاة على أن على الداخل في المال المؤونة كلها والنفقة ولا يكون على رب المال منها شيء فهذا وجه المساقاة المعروف
قال أبو عمر لم يجز مالك في المساقاة الا ما وردت به السنة فيها والعمل لأنها خارجة عن [أصول البياعات والإجارات فلم يتعد بها موضعها كسائر المخصوصات الخارجة عن] أصولها الاستثناء بها منها وغيره يجيز ان يكون البذر في البياض منهما معا ويقول ذلك ما جوز وابعد من المزارعة [عندهما بالثلث] وهي كراء الأرض ببعض ما تخرجه
هذا قول الشافعي وأصحابه
واما أبو يوسف ومحمد فالمزارعة عندهما بالثلث والربع جائزة
46
وهو قول الليث [بن سعد] فيما رواه يحيى بن يحيى عنه
وهو قول أحمد بن حنبل وغيرهم
وجائز عندهم المساقاة على النخل والأرض نحو مما يخرج هذه وهذه على ما روى في مساقاة خيبر على النصف مما تخرج الأرض والنخل
وقد تقدم عن أبي حنيفة وزفر انه لا يجوز عندهما المزارعة ولا المساقاة
وقد تقدم القول في معنى هذه المسألة كلها والحمد لله
قال مالك (1) في العين تكون بين الرجلين فينقطع ماؤها فيريد أحدهما ان يعمل في العين ويقول الاخر لا أجد ما اعمل به انه يقال للذي يريد ان يعمل في العين اعمل
وانفق ويكون لك الماء كله تسقي به حتى يأتي صاحبك بنصف ما أنفقت فإذا جاء بنصف ما أنفقت اخذ حصته من الماء وانما أعطي الأول الماء كله لأنه اتفق ولو لم يدرك شيئا بعمله لم يعلق الاخر من النفقة شيء
قال أبو عمر قول مالك هذا قول حسن وحجته له بذلك
وقول الكوفيين نحوه الا انهم قالوا لا يكون ذلك الا بقضاء قاض وحكومة حاكم فان انفق دون قضاء الحاكم رغبة في أن يتميز له ما يريده [من عمل حصته] كان متطوعا بنفقته ولا شيء له على شريكه ويأخذ حصته كاملة يعتلها معه
وقال الشافعي لا يجبر الشريك على الانفاق ويقال لشريكه ان شئت تطوع بالانفاق وان شئت فدع وقضاء القاضي وغيره في ذلك سواء لان ليس لأحد ان يلزم غيره دينا لم يجب عليه بغير رضا منه
قال مالك (2) وإذا كانت النفقة كلها والمؤونة على رب الحائط ولم يكن على الداخل في المال شيء الا انه يعمل بيده انما هو أجير ببعض الثمر فان ذلك لا يصلح لأنه لا يدري كم اجارته إذا لم يسم له شيئا يعرفه يعمل عليه لا يدري ايقل ذلك أم يكثر
قال أبو عمر هذا قول كل من يجيز المساقاة انه لا يجوز الا على سنتها وان العمل على الداخل لا رب الحائط والقائم كل ما يحتاج إليه بالمزارعة عند من يجيزها
قال مالك (3) وكل مقارض أو مساق فلا ينبغي له ان يستثني من المال ولا من
47
النخل شيئا دون صاحبه وذلك أنه يصير له أجيرا بذلك يقول أساقيك على أن تعمل لي في كذا وكذا نخلة تسقيها وتأبرها واقارضك في كذا وكذا من المال على أن تعمل لي بعشرة دنانير ليست مما اقارضك عليه فان ذلك لا ينبغي ولا يصلح وذلك الامر عندنا
قال أبو عمر تشبيه مالك صحيح لان القول في المساقاة كالمعنى الواحد لا تجوز في واحد منهما الزيادة على الخبر الذي يقع عليه الشرط والعقد فيهما لأنه إذا كان ذلك كان الاجر ان يكون ذلك الجزء مجهولا
وقد أوضحنا هذا المعنى في القراض والحمد لله كثيرا
قال مالك (1) والسنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط ان يشترطها على المساقي شد الحظار وخم العين وسرو الشرب وابار النخل وقطع الجريد وجذ الثمر هذا وأشباهه على أن للمساقي شطر الثمر أو أقل من ذلك أو أكثر إذا تراضيا عليه غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عمل جديد يحدثه العامل فيها من بئر يحتفرها أو عين يرفع رأسها أو غراس يغرسه فيها يأتي بأصل ذلك من عنده أو ضفيرة يبنيها تعظم فيها نفقته وانما ذلك بمنزلة ان يقول رب الحائط لرجل من الناس بن لي ها هنا بيتا أو احفر لي بئرا أو اجر لي عينا أو اعمل لي عملا بنصف ثمر حائطي هذا قبل ان يطيب ثمر الحائط ويحل بيعه فهذا بيع الثمر قبل ان يبدو صلاحه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها
قال مالك (2) فأما إذا طاب الثمر وبدا صلاحه وحل بيعه ثم قال رجل لرجل اعمل لي بعض هذه الاعمال لعمل يسميه له بنصف ثمر حائطي هذا فلا بأس بذلك انما استأجره بشيء معروف معلوم قد راه ورضية فأما المساقاة فإنه ان لم يكن للحائط ثمر أو قل ثمره أو فسد فليس له الا ذلك وان الأجير لا يستأجر الا بشيء مسمى لا تجوز الإجارة الا بذلك وانما الإجارة بيع من البيوع انما يشتري منه عمله ولا يصلح ذلك إذا دخله الغرر لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر
قال أبو عمر أراد مالك - رحمه الله - بكلامه هذا بيان الفرق بين المساقاة والإجارة وان المساقاة ليست من الإجارة في شيء فإنها أصل في نفسها كالقراض لا يقاس عنده عليها شيء من الإجارات
48
ان الإجارات عنده بيع من البيوع لا يجوز فيها الغرر وقوله في ذلك كله هو قول جمهور العلماء
ومنهم من يأبى ان يجعل الإجارة من باب البيوع
وهو قول أهل الظاهر لأنها منافع لم تخلق
وقد نهى رسول الله عن بيع ما لم يخلق لأنها ليست عينا وليست البيوع الا في الأعيان وقالوا الإجازة باب منفرد بسنته كالمساقاة وكالقراض
واما قوله في هذه المسألة (شد الحظار) فروي بالشين المنقوطة وهو الأكثر عن مالك في الرواية ويروى عنه بالسين على معنى سد الثلمة واما بالشين معناه تحصين الزروب التي حول النخل والشجر وكل ذلك متقارب المعنى
واما (خم العين) فتنقيتها والمخموم النقي ومنه يقال رجل مخموم القلب إذا كان نقي القلب من الغل والحسد
واما (سرو الشرب) فالسرو الكنس للحوض وللشرب جمع شربة وهي الحياض التي حول النخل والشجر وجمعها شرب وهي حياض يستنقع فيها الماء حول الشجر ويقال في القليل منها شربات كما قال زهير
(يخرجن من شربات ماؤها طحل) (1)
وابار النخل تذكيرها بطلع الفحل
وقطع الجريد) قطع جرائد النخل إذا كسرت وقد يصنع مثل ذلك بالشجر وهو ضرب من قطع قضبان الكرم
و (جذ الثمر) جمعه وهو مثل حصاد الزرع وقطع العنب
واختلف الفقهاء في الذي عليه جذاذ الثمر منهما فقال مالك ما وصفنا عليه جماعة أصحابه الا انهم قالوا إن اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر وعصر الزيتون جاز وان لم يشترطه فهو على العامل ومن اشترط عليه منهما جاز
وقال محمد بن الحسن الشيباني والتلقيح والخبط حتى يصير تمرا على
49
العامل فإذا بلغ الجذاذ كان عليهما بنصفين ان كان الشرط نصفين
قال ولو أن صاحب النخل اشترط في أصل المساقاة الجذاذ والخبط حتى يصير ثمرا على العامل فإذا بلغ الجذاذ والخبط بعد ما بلغ على العامل كانت المساقاة فاسدة
وقال الشافعي ان اشترط المساقي على رب المال جذاذ الثمر أو قطف العنب لم يجز فكانت المساقاة فاسدة وانما (شد الحظار) عند مالك على العامل كما عليه كما وصفنا من ابار النخل وقطع الجريدة ونوى النطيح والخبط حتى يصير تمرا
وقال الشافعي كل ما كان داعيته إلى الاستزادة في العدة من اصلاح الماء بطريقه وقطع الحشيش المضر بالنخل ونحوه فشرطه على العامل واما (شد الحظار) فليس عنه مشترى في الثمن ولا صلاح لها ولا يجوز اشتراطه على العامل
وقال محمد بن الحسن لا يجوز اشتراط تنقية المسقاة والأنهار على العامل وان اشترط ذلك عليه كانت المعاملة فاسدة
قال أبو عمر قول مالك في هذا الباب أولى بالصواب لان ذلك كله عمل في الحائط يصلحه وينعقد وعلى ذلك يستحق المساقي نصيبه من عدمه فأما الذي لا يجوز اشتراطه على العامل مما لا يعود منه فائدة على العامل في حصته ما ينفرد به رب الحائط دونه لأنه حينئذ - يصير زيادة استأجره عليها المجهول من الثمن
قال مالك (1) السنة في المساقاة عندنا انها تكون في أصل كل نخل أو كرم أو زيتون أو رمان أو فرسك (2) أو ما أشبه ذلك من الأصول جائز لا باس به على أن لرب المال نصف التمر من ذلك أو ثلثه أو ربعه أو أكثر من ذلك أو أقل
قال مالك والمساقاة أيضا تجوز في الزرع إذا خرج واستقل فعجز صاحبه عن سقيه وعمله وعلاجه فالمساقاة في ذلك أيضا جائزة
قال أبو عمر قد مضى القول فيما تجوز فيه المساقاة من الشجر المثمر كله على اختلاف أنواعه وما في ذلك بين العلماء من المذاهب
وقول أبي يوسف ومحمد في ذلك نحو قول مالك
50
واما المساقاة في الزرع فتجوز عند مالك على ما شرط وذكر في (موطئه) ولا تجوز عنده إذا لم يعجز صاحبه عن سقيه
وقال الليث بن سعد لا يساقي الزرع بعد ان يستقل قال فاما القصب فيجوز فيه المساقاة فان القصب أصل
وقال محمد بن الحسن جائز ان يساقي الزرع قبل ان يستحقه
ولا تجوز المساقاة عند الشافعي في غير النخل والعنب
ولا يجوز عند داود الا في النخل خاصة وقد تقدم ذكر ذلك
واختلف أصحابنا في استثناء العامل زرعا يكون بين النخل
فروى بن وهب عن مالك ان ذلك جائزن وهو بمنزلة البياض يشترطه العامل لنفسه
ذكره بن عبدوس قال وانكر ذلك عليه سحنون الا هاء ولا يجوز له ان يستثني البذر فكيف يستثني الزرع
واختلفوا أيضا في مساقاة الموز
وقد ذكر بن المواز عن بن القاسم واشهب انهما قالا يجوز فيه المساقاة
قال وقد كان بن القاسم اجازه في مجلس أبي زيد وليس بشيء
قال أبو عمر قد تقدم عن مالك انه لا تجوز المساقاة في القصب وهو تحصيل مذهبه عند أصحابه الا ما يجوز في الزرع والمقتات ونحوها
واختلف الفقهاء في مساقاة البصل فأجازها مالك والشافعي وأصحابهما ومحمد بن الحسن والحسن بن حي
وذلك عندهم على التلقيح والزبر والحضر والحفظ وما يحتاج إليه من العمل
وقال الليث لا تجوز المساقاة في البصل ولا يجاز الا فيما يسقى
قال مالك (1) لا تصلح المساقاة في شيء من الأصول مما تحل فيه المساقاة إذا كان فيه ثمر قد طاب وبدا صلاحه وحل بيعه وانما ينبغي ان يساقي من العام المقبل وانما مساقاة ما حل بيعه من الثمار إجارة لأنه انما ساقى صاحب الأصل ثمرا قد بدا صلاحه على أن يكفيه إياه ويجذه له بمنزل الدنانير والدراهم يعطيه
51
إياها وليس ذلك بالمساقاة انما المساقاة ما بين ان يجذ النخل إلى أن يطيب الثمر ويحل بيعه
قال مالك ومن ساقى ثمرا في أصل قبل ان يبدو صلاحه ويحل بيعه فتلك السماقاة بعينها جائزة
قال أبو عمر قد كرر هذا المعنى وهو مفهوم جدا وكل من أجاز المساقاة لم يجزها الا فيما لم يخلق وفيما لم يبد صلاحه من الثمار ويعمل العامل في الشجر من الحفر والزبر وسائر العمل ما يحتاج إليه وتصلح ثمرتها به على حد ما يخرجه الله فيها من الثمر كالقراض يعمل العامل في المال حد ما يرزقه الله فيه من الربح وهذان أصلان مخالفان للبيوع وللاجارات وكل عندنا أصل في نفسه يجب التسليم له والعمل به
وذكر بن عبدوس أيضا عن سحنون أنه قال لا باس بمساقاة التي يعلم أن يبدو صلاحها لأنها إجارة شيء معلوم والعامل في ذلك أجير باجره معلومة
قال أبو عمر إذا كان هذا فليست مساقاة وانما الذي يعطيه في عمله من الثمر الذي حل بيعه بمنزلة الدنانير والدراهم كما قال مالك - رحمه الله
واما الشافعي فاختلف قوله فمرة قال [مثل] مالك تجوز المساقاة في الحائط وان بدا صلاحه ومرة قال لا تجوز
قال مالك (1) ولا ينبغي ان تساقى الأرض البيضاء وذلك أنه يحل لصاحبها كراؤها بالدنانير والدراهم وما أشبه ذلك من الأثمان المعلومة
قال أبو عمر ظاهر هذا الكلام يدل على أنه يخبر ان [تكرى] الأرض بكل ثمن معلوم وليس ذلك بمذهب مالك وانما هو قول الشافعي جائز عنده ان تكرى الأرض بكل ما تكرى به الدور والحوانيت من العين المعلوم وزنها والعروض كلها الجائز بيعها في ملكها على سنتها طعاما كانت أو غير طعام أن تكون بجزء ما تخرجه يقل مرة ويكثر أخرى وربما لم يخرج شيئا فلا هذا عنده المزارعة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها
وقال بن نافع جائز كراء الأرض بشيء من الطعام والإدام وغير ذلك ما عدا الحنطة وأخواتها يعني البر والشعير والسلت فإنها محاقلة
52
وقال بن كنانه لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت ولا باس ان تكرى بما سوى ذلك من الطعام وغيره من جميع الأشياء كلها ما يؤكل وما لا يؤكل
ذكر ذلك عنه بن حبيب وقال واما مالك وأصحابه بن القاسم واشهب وبن حبيب ومطرف وعبد الله وبن عبد الحكم وأصبغ فإنهم قالوا لا تكرى الأرض بشيء يخرج منها اكلا ولم يؤكل فلا شيء ما يؤكل أو يشرب خرج منها أو لم يخرج منها
وفي (المدونة) لابن القاسم عن مالك مثل ذلك ان الأرض لا تكرى بشيء من الطعام كان ما يخرج منها أو لم يخرج منها كان ما تزرع فيها أو لا تزرع ولا من الادام كله قال العسل والسمن واللبن وسائر الادام والطعام كله
وذكر بن سحنون عن المغيرة انه كان يقول لا بد من أن تكرى الأرض بطعام لا يخرج منها
وذكر يحيى بن عمر عن المغيرة انه لا يجوز ذلك
قال فاما الرجل الذي يعطي ارضه البيضاء بالثلث أو الربع مما يخرج منها فذلك مما يدخله الغرر لان الزرع يقل مرة ويكثر مرة وربما هلك رأسا فيكون صاحب الأرض قد ترك كراء معلوما يصلح له ان يكري ارضه به واخذ امرا غررا لا يدري أيتم أم لا فهذا مكروه وانما ذلك مثل رجل استأجر أجيرا لسفر بشيء معلوم ثم قال الذي استأجر الأجير هل لك ان أعطيك عشر ما اربح في سفري هذا إجارة لك فهذا لا يحل ولا ينبغي (1)
قال مالك ولا ينبغي لرجل ان يؤاجر نفسه ولا ارضه ولا سفينته الا بشيء معلوم لا يزول إلى غيره
قال مالك (2) وانما فرق بين المساقاة في النخل والأرض البيضاء ان صاحب النخل لا يقدر على أن يبيع ثمرها حتى يبدو صلاحه وصاحب الأرض يكريها وهي ارض بيضاء لا شيء فيها
قال أبو عمر الفرق بين المساقاة وكراء الأرض البيضاء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وهي اعطاء الأرض بالثلث والربع وساقى أهل خيبر على نصف ما تخرج الثمرة
53
فروى ثابت بن الضحاك ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة (1)
وروى يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له ارض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث ولا بربع (2)
وروى عطاء عن جابر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (من كانت له ارض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها) (3)
وقد ذكرنا الأسانيد في (التمهيد)
وفي حديث جابر ورافع ما يدل على أن النهي عن ذلك كان بعد خيبر لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما تخرج الأرض والثمرة على حسب ما كانوا عليه قبل ان ينهى ثم نهى عن ذلك ونهى عن المخابرة
وقيل انما فعله بخيبر والله أعلم
وقد قيل غير ذلك على ما ذكرناه في (التمهيد)
وما ذهب إليه مالك في كراهية كراء الأرض بجزء مما تخرجه هو مذهب الشافعي
وقد تقدم ذكر ذلك ولكنا كررناه كما كرره مالك
واختلف عن الليثي في المزارعة بالثلث والربع ونحو ذلك فروي عنه كراهتها وروى عنه اجازتها
وروي عن يحيي عن الليث بن سعد أنه قال انما تكرى الأرض بشيء مما يخرج منها إذا كان ذلك ضامنا على المشتري دفع أو لم يدفع فاما ان يلزمها ببعض ما يخرج منها ويزرع فيها نصفا أو ثلثا أو ربعا فذلك حلال
قال أبو عمر يقول الليث هذا في اجازته المزارعة بجزء ما تخرج الأرض ما يزرع فيها
54
قال بن أبي ليلى والحسن بن حي والثوري والأوزاعي وأبو يونس ومحمد وأحمد بن حنبل
وحجتهم في ذلك حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر على نصف ما تخرج الأرض والثمرة (1)
قال احمد هذا حديث صحيح وأحاديث رافع مضطربة الالفاظ
واحتج غيره على مالك في اجازته المزارعة في الأرض بين الشجر إذا كانت الثلث فأقل فان ذلك لو لم يجز منفردا ما جاز بين النخل وإذ لم يجز منفردا لم يجز بين النخل
قالوا وتوقيت الثلث فما دونه حكم بغير حجة لان التوقيت يحتاج إلى توقيت
قالوا وليس في أصول الشريعة ما يبيح العقد الفاسد للضرورة لمن ادعى في ذلك ضرورة
فاما قول مالك لا ينبغي لاحد ان يؤاجر نفسه ولا ارضه ولا سفينته الا بشيء معلوم
فهذا قول الشافعي والكوفي
وقد أجازت طائفة من التابعين ومن بعدهم ان يعطي الرجل سفينته ودابته كما يعطي ارضه بجزء مما يرزقه الله تعالى في الصلاح بها وجعلوا أصلهم في ذلك بالقراض المجتمع عليه
قال مالك (2) والامر عندنا في النخل أيضا انها تساقي السنين الثلاث والأربع وأقل من ذلك وأكثر
قال وذلك الذي سمعت وكل شيء مثل ذلك من الأصول بمنزلة النخل يجوز فيه لمن ساقى من السنين مثل ما يجوز في النخل
قال أبو عمر قد اختلف في اجل المساقاة وقد ذكرنا ذلك عند قول النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر (أقركم ما أقركم الله
55
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم (أقركم ما شئنا)
والمعنى واحد ونعيد هنا منها ذكرا كما اعاده مالك - رحمه الله فنقول ان مالكا والشافعي ومحمد بن الحسن متفقون على إجازة المساقاة سنينا معلومة والمساقاة انما هي عندهم إلى الجذاذ
وقد ذكرنا اختلافهم عن العلماء ورب الأصل فيما مضى من هذا الباب
وإذا كان الأصل في المساقاة إلى الجذاذ قبل ان يبدو في الشجر شيء من الثمر فحكم السنين المعلومات في ذلك حكم السنة الواحدة لأنه كله شيء لم يخلق أو لم يظهر
وقد أجازت طائفة المساقاة إلى غير توقيت من السنين من أهل الظاهر
واحتجوا بان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على شطر النخل والزرع ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير توقيت
وقد مضى القول عليهم فيما تقدم من هذا الباب والحمد لله
فان دفع رجل إلى رجل نخلا أو شجرا معاملة على جزء معلوم ولم يذكروا وقتا معلوما
فقالت طائفة منهم أبو ثور ذلك سنة واحدة
وهو يشبه مذهب بن الماجشون
فمن اكترى دارا مشاهرة انه يلزمه شهر واحد
وقول أبي ثور فيمن ساقى حائضا ولم يذكر في وقت المساقاة مرة معلومة قول حسن
قال مالك (1) في المساقي انه لا يأخذ من صاحبه الذي ساقاه شيئا من ذهب ولا ورق يزداده ولا طعام ولا شيئا من الأشياء لا يصلح ذلك ولا ينبغي ان يأخذ المساقي من رب الحائط شيئا يزيده إياه من ذهب ولا ورق ولا طعام ولا شيء من الأشياء والزيادة فيما بينهما لا تصلح
قال مالك والمقارض أيضا بهذه المنزلة لا يصلح إذا دخلت الزيادة في المساقاة أو المقارضة صارت إجارة وما دخلته الإجارة فإنه لا يصلح ولا ينبغي ان تقع الإجارة بأمر غرر لا يدري أيكون أم لا يكون أو يقل أو يكثر
56
قال أبو عمر لا خلاف بين مجيزي المساقاة انه لا يجوز أن تكون من واحد منهما زيادة يزدادها على جزئه المعلوم لأنه - حينئذ - يعود الجزء مجهولا ولا يجوز أن تكون المعاملة على جزء مجهول وانما تجوز على جزء معلوم ثلث أو نصف أو ربع أو نحو ذلك من الاجزاء المعلومات فيما يخرجه إليه في الثمرة
وقد ذكرنا ما في هذا المعنى في القراض أيضا
قال مالك (1) في الرجل يساقي الرجل الأرض فيها النخل والكرم أو ما أشبه ذلك من الأصول يكون فيها الأرض البيضاء
قال مالك (2) إذا كان البياض تبعا للأصل وكان الأصل أعظم ذلك أو أكثره فلا باس بمساقاته وذلك أن يكون النخل الثلثين أو أكثر ويكون البياض الثلث أو أقل من ذلك وذلك أن البياض حينئذ تبع للأصل
ثم ذكر إلى اخر الباب هذا المعنى مكررا وشبهه بالسيف والمصحف يكون في أحدهما الحلية من الورق فيباع بالورق إذا كان الورق بيعا للنصل والمصحف وكذلك القلادة والخاتم وذلك أن يكون الثلث فادنى على ما ذكر في الأرض البيضاء مع الأصول
وقد مضى القول في ذلك في البيوع وذكرنا هنالك اختلاف العلماء في ذلك المعنى بين السلف وما جرى مجراه
فاما مساقاة الأرض البيضاء فقد ذكرنا في هذا الباب أصول أقوال العلماء من أجاز المزارعة جملة ومن أجازها في النخل والشجر لأنه يجيز المساقاة ما اغنى عن اعادته وقد ذكرنا الأقاويل بذلك
ومن لا يجيز المزارعة مالك والشافعي قد اختلفا على ما ذكرناه عنهما فيما تقدم في هذا الباب بقول مالك ما قد أوضحه في (موطئه)
واما الشافعي فقد أبطل المزارعة في قليل [الأرض] البيضاء لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة الا أنه قال وإذا ساقاه على نخل فكان فيه بياض لا يوصل إلى عمله الا بالدخول على النخل وكان لا يوصل إلى سقيه الا بترك النخل في الماء وكان غير متميز جاز ان يساقي عليه من النخل الا منفردا وحده
ولولا الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه دفع إلى [أهل] خيبر النخل على أن لهم
57
النصف من النخل والزرع وله النصف فكان الزرع كما وصفت بين ظهراني النخل لم يجز ذلك
قال وليس للمساقي في النخل ان يزرع الأرض الا باذن ربها فان فعل كان كمن زرع ارض غيره
قال ولا تجوز المساقاة الا بجزء معلوم قل أو كثر وان ساقاه على أن له نخلات بعينها من الحائط لم يجز ولو اشترط أحدهما على صاحبه صاعا من تمر زيادة لم يجز وكان له اجر مثله فيما عمل
((2 - باب الشرط في الرقيق في المساقاة))
1374 - قال مالك ان أحسن ما سمع في عمال الرقيق في المساقاة يشترطهم المساقي على صاحب الأصل انه لا باس بذلك لأنهم عمال المال فهم بمنزلة المال لا منفعة فيهم للداخل الا انه تخف عنه بهم المؤونة وان لم يكونوا في المال اشتدت مؤونته وانما ذلك بمنزلة المساقاة في ا لعين والنضح (1) ولن تجد أحدا يساقي في أرضين سواء في الأصل والمنفعة إحداهما بعين واثنة غزيرة والأخرى بنضح على شيء واحد لخفة مؤنة العين وشدة مؤنة النضح قال وعلى ذلك الامر عندنا
قال والواثنة الثابت ماءها التي لا تغور ولا تنقطع
إلى اخر كلامه في الباب
ومعنى كلامه انه لا يجوز للعامل ان يشترط ان يعمل برقيق الحائط في غيره ولا ان يشترط في الرقيق ما ليس فيه ولا لرب المال ان يخرج من رقيق المال من كان فيه في عقد في المساقاة وله ذلك قيل وانما يساقيه على حاله ومن مات من الرقيق أو لحقته آفة فعلى رب المال ان يخلفه
هذا كله معنى قوله إلى اخر الباب
وانما لم يجز له ان يشترط في العقد على العامل ان يأخذ من رقيق الحائط أحدا كان فيخرجه عنه بشرط العقد لأنه إذا فعل ذلك فقد ازداد عليه زيادة كما لو اشترط عليه نخله بعينها أو عملا يعمله له خاصة في الحائط واما إذا خرج الرقيق
58
من الحائط قبل عقد المساقاة فقد فعل ما كان له فعله في ماله وساقى الحائط على ماله
قال أبو عمر كلامه - رحمه الله - انما هو في اشتراط العامل على رب الحائط ما كان في الحائط من الرقيق فهذا لم يختلف قوله ولا قول أصحابه فيه فان اشترط العامل رقيقا لم يكونوا عنده في الحائط فقد اختلفوا في ذلك
فقال بن القاسم في (المدونة) بلغني ان مالكا سهل في الدابة الواحدة يشترطها العامل على رب الحائط إذا لم تكن فيه قال وذلك عندي إذا كان الحائط كثيرا له قدر فاما الحائط الصغير فلا يجوز
وفي (العتبية) روى [عيسى عن] بن القاسم عن مالك مثل ذلك
وقاله بن القاسم
وروى يحيى بن يحيى عن نافع أنه قال لست اخذ بقول مالك في ذلك ولا أرى باسا ان يشترط العامل عدا من الرقيق وان لم يكونوا في الحائط يومئذ
واما الشافعي [فقال] لا باس ان يشترط المساقي على رب النخل غلمانا يعملون معه لا يستعملهم في غيره ونفقة الرقيق على ما يتشارطان عليه وليس نفقة الرقيق بأكثر من اجرتهم
فإذا جاز ان يعملوا للمساقي بغير اجر جاز ان يعملوا [له] بغير نفقة
وقال محمد بن الحسن لا باس ان يشترط رب المال في المساقاة والمزارعة [على] المساقي دولابا وآلات يستقي عليها الزرع ولو اشترطه العامل على رب الأرض لم يجز
59
((34 كتاب كراء الأرض))
((1 - باب ما جاء في كراء الأرض))
1375 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمنن عن حنظلة بن قيس الزرقي عن رافع بن خديج ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع
قال حنظلة فسالت رافع بن خديج بالذهب والورق فقال اما بالذهب والورق فلا باس به
1376 - مالك عن بن شهاب أنه قال سالت سعيد بن المسيب عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا باس به
1377 - مالك عن بن شهاب انه سال سالم بن عبد الله بن عمر عن كراء المزارع فقال لا باس بها بالذهب والورق
قال بن شهاب فقلت له أرأيت الحديث الذي يذكر عن رافع بن خديج فقال أكثر رافع ولو كان لي مزرعة اكريتها
1378 - مالك انه بلغه ان عبد الرحمن بن عوف تكارى أرضا فلم تزل في يديه بكراء حتى مات قال ابنه فما كنت أراها الا لنا من طول ما مكثت في يدي ه حتى ذكرها لنا عند موته فامرنا بقضاء شيء كان عليه من كرائها ذهب أو ورق
60
1379 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه انه كان يكري ارضه بالذهب والورق
وسئل مالك عن رجل اكرى مزرعته بمائة صاع من تمر أو مما يخرج منها من الحنطة أو من غير ما يخرج منها فكره ذلك
قال أبو عمر قد مضى والحمد لله في المساقاة مذهب مالك في كراء الأرض وما يجوز ان تكرى به وما اختلف فيه أصحابه من ذلك
واما هذا الباب فإنما يقتضي إشارة كلها إجازة كراء الأرض بالذهب والورق ويقتضي أيضا الرد على من كره كراء الأرض بكل حال ونحن بحول الله تعالى نبين ذلك - إن شاء الله عز وجل
فاما حديث مالك في هذا الباب عن ربيعة عن حنظلة عن رافع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فظاهره يقتضي النهي عن كرائها بكل حال الا ان رافعا استثنى من ذلك كراءها بالذهب والورق
وقد روى عنه بن عمر هذا الخبر وحمله على العموم فترك كراء المزارع
وروى معمر ويونس وعقيل عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر كان يكري ارضه حتى بلغه ان رافع [بن خديج] كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن كراء المزارع فترك بن عمر كراءها
ورواه جويرية عن مالك عن بن شهاب كذلك
وروى الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي بجير ان رافع بن خديج كان يقول منعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نكري المحاقل (1)
وروى عبد الكريم عن مجاهد عن بن رافع بن خديج عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إجارة الأرض (2)
فهذه الرواية في حديث رافع بن خديج وظاهرها انه لا يجوز كراء المزارع بحال لا بذهب ولا بفضة ولا بغير ذلك
61
والى هذا ذهب طاوس [اليماني فقال إنه] لا يجوز كراء الأرض [بالذهب ولا بالورق ولا بالعروض
وبه قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم قال لا يجوز كراء الأرض] بشيء من الأشياء لأنها إذا استؤجرت وحضرها المستأجر واصلحها لعله ان يحرق زرعه فيردها وقد زادت وانتفع رب الأرض ولم ينتفع المستأجر فمن هنا لم يجز لاحد ان يستاجرها والله أعلم
قال أبو عمر هذا ليس بشيء وانما كره كراءه من كرهه للحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
قال أبو عمر ومن حجة من لم يجز كراء الأرض بشيء من الأشياء وأبى من ذلك حديث ضمرة بن ربيعة عن بن شوذب عن مطر عن عطاء عن جابر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من كانت له ارض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها) (1)
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في (التمهيد)
وقال آخرون جائز كراء الأرض لمن شاء ولكنه لا يجوز بشيء غير الذهب والورق
واحتجوا بحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (انما يزرع ثلاثة رجل له ارض فهو يزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ورجل اكترى بذهب أو فضة) (2)
قالوا فلا يجوز ان يتعدى ما في هذا الحديث لما فيه من البيان والتوفيق
وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب
وروى بن عيينة عن [يحيى بن سعيد عن سعيد] بن المسيب انه كان لا يرى باسا بكراء الأرض البيضاء بالذهب والورق
وبن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن بن عباس
وبن جريج عن عطاء عن بن عباس انه لم يكن يرى بكراء الأرض البيضاء باسا بالذهب والورق
62
وقال آخرون جائز ان تكرى الأرض البيضاء بكل شيء من الأشياء ما خلا الطعام فإنه لا يجوز كراؤها بشيء من الطعام كله
واحتجوا بحديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت له ارض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى) (1)
والى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه قالوا فقد حاجز في هذا الحديث ومنع من كراء الأرض بالطعام المعلوم وغير المعلوم
وتأولوا في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة انه كراء الأرض بالطعام
وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا وفيه المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة
قالوا وسائر طعامه كله في معناها وجعلوه من باب الطعام بالطعام نسيئة
وقال آخرون جائز كراء الأرض بالذهب [والورق] والطعام كله وسائر العروض كلها إذا كان معلوما
قالوا وكل ما جاز ان يكون ثمنا لشيء فجائز ان يكون اجرة في كراء الأرض ما لم يكن مجهولا [أو غررا]
وهو قول سالم وغيره
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار انه حدثه قال سمعت سالم بن عبد الله يقول أكثر رافع على نفسه في كراء الأرض والله لنكرينها كراء الإبل
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني بن أخي جويرية قال حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري ان سالم بن عبد الله اخبره وساله عن كراء المزارع فقال اخبر رافع بن خديج عبد الله بن عمر عن عميه وكانا قد شهدا بدرا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع
قال فترك عبد الله كراءها وقد كان يكريها قبل ذلك
قال الزهري فقلت لسالم افتكريها أنت قال نعم قد كان عبد الله يكريها قلت فأين حديث رافع بن خديج فقال ان رافعا أكثر على نفسه
والى هذا ذهب الشافعي وأصحابه
63
ومن حجتهم حديث الأوزاعي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال سالت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا باس بذلك انما كان [الناس] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاجرون الأرض بما على [الماذيانات (1) في] اقبال الجداول فيهلك هذا ويسلم هذا [ويهلك هذا] فكذلك زجر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاما شيء مضمون معلوم فلا
قالوا فقد أخبرنا رافع بالعلة التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع
وكذلك جهل البدل واخبر ان كراءها بكل شيء معلوم جائز
وروى الثوري وبن عيينة ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني حنظلة بن قيس انه سمع رافع بن خديج قال كنا أكثر الأنصار حقلا [فكنا نخابر] فنقول لهذا هذا الجانب ولهذا هذا الجانب يزرعها لنا فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فاما بذهب أو ورق فلم ينه عنه وهذا لفظ بن عيينة
[قال أبو عمر يعني وما كان في معنى الذهب والورق من الأثمار المعلومات
وقيل لابن عيينة ان مالكا يروي هذا الحديث عن ربيعة فقال وما يريد منه وما يرجو منه يحيى بن سعيد احفظ منه وقد حفظناه عنه]
قال أبو عمر رواية مالك لهذا الحديث عن ربيعة مختصرة فقد ذكرنا اثار هذا الباب كلها بأسانيدها من طرق في (التمهيد)
وقال آخرون جائز كراء الأرض بجزء مما يزرع فيها مكتريها بثلث أو ربع أو نصف
واحتجوا بحديث بن المبارك وغيره عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطى يهود خيبر النخل والأرض على أن يعملوها ويزرعوها وله شطر ما يخرج فيها (2)
قالوا هذا الحديث أصح من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون جدا
وقد ذكرنا القائلين بجواز المزارعة وهي اعطاء الأرض على النصف والثلث والربع فيما مضى من المساقاة والحمد لله كثيرا
64
وروى سفيان عن بن عيينة عن عمرو بن دينار وبن طاوس قالا كان طاوس يخابر
قال عمرو فقلت [له] يا أبا عبد الرحمن لو تركت هذه المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها
قال [حدثنا عمر واخبرني بذلك اعلمهم - يعني بن عباس - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها] يمنح أحدكم أخاه خير له ممن يأخذ عليها اجرا معلوما وقدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يخابرون وأقرهم وانا أعطيهم فاكون شريكهم فان نقصوا كنت قد نقصت معهم
قال سفيان [يقول] لي نصيبي مما ربحوا وعلي ما نقصوا
وذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني بن أخي جويرية [قال حدثني جويرية] عن مالك قال سالت الزهري عن كراء الأرض بالثلث والربع فقال ذلك حسن
65
((35 كتاب الشفعة (1)))
((1 - باب ما تقع فيه الشفعة))
1380 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم (2) بين الشركاء فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه
قال مالك وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا
هكذا روى هذا الحديث مرسلا جمهور رواة (الموطأ)
ورواه أبو عاصم النبيل و [عبد الملك بن عبد العزيز] بن الماجشون ويحيى بن إبراهيم بن داود بن أبي قتيلة وأبو يوسف وسيد بن داود الزنبري هؤلاء الخمسة رووه
كلهم عن مالك عن بن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [بمعناه فاسندوه وجعلوه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم]
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بما ذكرنا في (التمهيد) وذكرنا الاختلاف علي بن شهاب في ارساله واسناده أيضا
وقد رواه بن إسحاق عن بن شهاب باسناده فجعله عن أبي هريرة كما قال كل من رواه كذلك عن مالك
66
وحديث بن شهاب هذا قد اتفق جماعة العلماء على القول به لأنهم يوجبون الشفعة للشريك في المبتاع من الدور والأرضين وكل ما تأخذه الحدود ويحتمل القسمة من ذلك كله وما كان مثله وانما اختلف العلماء فيما بعد ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى
1381 - قال مالك انه بلغه ان سعيد بن المسيب سئل عن الشفعة هل فيها من سنة فقال نعم الشفعة في الدور والأرضين ولا تكون الا بين الشركاء
1382 - مالك انه بلغه عن سليمان بن يسار مثل ذلك
وهذا قول مالك والشافعي وأصحابه وجمهور فقهاء أهل الحجاز انه لا شفعة الا في المشاع مما تصلح فيه الحدود عند القسمة بين الشركاء
قال أبو عمر اجمع العلماء على أن الشفعة في الدور والأرضين والحوانيت والرباع كلها بين الشركاء في المشاع من ذلك كله وانها سنة مجتمع عليها يجب التسليم لها ولم يجمعوا أنها لا تكون الا بين الشركاء لان منهم من أوجبها للجار الملاصق وهم أكثر أهل العراق ومنهم من أوجبها إذا كانت الطريق واحدة ومنهم من أوجبها في كل شيء مشاع بين الشركاء من جميع الأشياء من الحيوان والعروض والأصول كلها وغيرها وهو قول شاذ قاله بعض أهل مكة وروى فيه حديثا منقطعا عن النبي صلى الله عليه وسلم واما السنة المجتمع عليها فعلى ما قال سعيد بن المسيب وعلى ما حكاه مالك انه الامر الذي لا اختلاف فيه عندهم - يعني في المدينة وفيه من الاخبار المنقولة بنقل العدول الآحاد حديث بن شهاب المذكور في هذا الباب وقد أسند ه معمر وجوده
ذكر عبد الرزاق وغيره عن معمر انه أخبرهم عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله [انه] قال (انما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود (1) وصرفت الطرق فلا شفعة
67
وكان أحمد بن حنبل يقول حديث معمر عن بن شهاب في الشفعة عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم [أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم]
وقال يحيى بن معين مرسل مالك أحب إلي
ذكره أبو زرعة الدمشقي عنهما
وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول أهل المدينة لا يرون الشفعة الا للشريك على حديث الزهري عن أبي سلمة [عن جابر إذا وقعت الحدود فلا شفعة قال ورواه مالك عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة] مرسلا وبه أقول لا أرى الشفعة لغير الشريك لا أراها للجار
قال أبو عمر في حديث بن شهاب ما ينفي الشفعة بالجوار فإذا لم تجب الشفعة للشريك إذا قسم وضرب الحدود كان الجار الملاصق لم يقسم ولا ضرب الحدود ابعد من أن يجب ذلك له
وفي حديث بن شهاب أيضا ما ينفي الشفعة في كل ما لا يقسم ولا يحتمل قسمة ولا يصلح ان يصرف فيه الحدود وذلك ينفي الشفعة في الحيوان والعروض كلها لأنها ليست لموضع الحدود
واما قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري في هذا الباب فقالوا لا شفعة فيما سوى الدور والأرضين والشفعة في ذلك مقسوما كان أو مشاعا وأوجبوا الشفعة للجار بحديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الجار أحق بسقبه) (1)
وهو حديث يرويه جماعة من أئمة [أهل الحديث] عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم
وحديث بن شهاب يعارضه وهو أصح اسنادا
والشفعة عند الكوفين مرتبة وأولى الناس بالشفعة عندهم الذي لم يقاسم ثم الشريك المقاسم إذا بقيت له في الطريق شركة ثم الجار الملاصق
وانما تجب عندهم الشفعة في الطريق إذا لم يكن الشريك في المشاع
وكذلك لا يجب للجار الذي لا شركة له في الطريق الا عند عدم من ذكرنا أو عدم ارادته الاخذ بها
68
وحجتهم في اعتبار الشركة في الطريق حديث عبد الملك بن أبي سليمان [العرزمي] عن عطاء عن جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الجار أحق بسقبه ينتظر بها إذا كان غائبا إذا كانت طريقهما واحدة) (1)
وهذا حديث انفرد به عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي وهو ثقة وانكره عليه شعبة وقال لو جاء عبد الملك بحديث اخر مثل هذا لاسقطت حديثه وما حدثت عنه بشيء
وقال [سفيان] الثوري عبد الملك بن أبي سليمان اعدل من الميزان
قال أبو عمر قد روي مثل قول الكوفيين عن طائفة من التابعين وروي مثل قول الحجازيين عن عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز [وغيرهم] وهو أصح ما قيل في ذلك من جهة الأثر ومن جهة النظر أيضا لان المشتري لا يجب ان يخرج ماله عن يده بغير طيب نفس منه الا بيقين يجب التسليم له
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص ان عمر كتب إلى شريح ان اقض بالشفعة للجار فكان يقضي بها
وسفيان عن إبراهيم بن ميسرة قال كتب الينا عمر بن عبد العزيز إذا حدت الحدود فلا شفعة قال إبراهيم فذكرت ذلك لطاووس فقال لا الجار أحق
قال مالك (2) في رجل اشترى شقصا مع قوم في ارض بحيوان عبد أو وليدة أو ما أشبه ذلك من العروض فجاء الشريك يأخذ بشفعته بعد ذلك فوجد العبد أو الوليدة قد هلكا ولم يعلم أحد قدر قيمتهما فيقول المشتري قيمة العبد أو الوليدة مائة دينار ويقول صاحب الشفعة الشريك بل قيمته خمسون دينارا
قال مالك يحلف المشتري ان قيمة ما اشترى به مائة دينار ثم إن شاء ان يأخذ صاحب الشفعة اخذ أو يترك الا ان يأتي الشفيع ببينة ان قيمة العبد أو الوليدة دون ما قال المشتري
قال أبو عمر الشفيع طالب اخذ والمشتري مطلوب مأخوذ منه فوجب ان يكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه مدعى عليه والشفيع مدع ولا بينة له ولو كانت له بينة اخذ بها وعلى هذا القول جمهور الفقهاء
69
وهو قول الشافعي والكوفيين
وقد خالف [في ذلك] بعض التابعين وجعل القول قول الشفيع لوجوب الشفعة له وجعل المشتري مدعيا في الثمن أو قيمته ان كان عرضا لأنه اخذ له والقول الأول أولى بالصواب لما ذكرنا وبالله توفيقنا
وكذلك لو اختلف المشتري والشفيع في مبلغ الثمن ولم يكن لواحد منهما [بينة كان القول قول المشتري لأنه المطلوب بالشفعة والمأخوذ منه] الشقص ولو أقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى [ففيها قولان للفقهاء
(أحدهما) البينة بينة الشفيع
(والأخرى) البينة بينة المشتري
وكذلك لو أقام كل واحد منهما البينة على ما حكاه] من ثمن العرض الذي هو للشفعة
[واما اختلاف أصحاب مالك في هذه المسألة وفي سائر مسائل الشفعة] فكثيرة لا يحصى كثرة
وفي (المدونة) قال بن القاسم القول قول المشتري مع يمينه إذا اختلفا في ثمن الشقص وكان قد اتى بما يشبه فان اتي بما لا يشبه واتى الشفيع بما يشبه فالقول قوله مع يمينه ومن اتى منهما ببينة قضي له فان اتيا جميعا بالبينة فان تكافئا في العدالة سقطتا وكان القول قول المشتري فإن لم يتكافئا قضي باعدلهما
وقال سحنون البينة بينة المشتري لأنها زادت علما
وروى اشهب عن مالك قال إذا كان المشتري ذا سلطان فالقول قوله في الثمن فلا يمين لان مثله يرغب في الثمن عنده وان لم يكن فارى عليه اليمين
وقال اشهب القول قول المشتري مع يمينه إذا ادعى ما لا يشبه [فان ادعى ما يشبه فالقول قوله بلا يمين
وذكر بن حبيب عن مطرف أنه قال القول قول المشتري مع يمينه إذا ادعى ما لا يشبه] واتى بالسرف لأنه مدعى عليه
قال بن حبيب انما يكون القول قول المشتري ما لم يأت بالسرف فان اتى بالسرف رد إلى القيمة وخير الشفيع ان شاء اخذ وان شاء ترك
قال مالك (1) من وهب شقصا في دار أو ارض مشتركة فاثابه الموهوب له
70
بها نقدا أو عرضا فان الشركاء يأخذونها بالشفعة ان شاؤوا ويدفعون إلى الموهوب له قيمة مثوبته دنانير أو دراهم
قال مالك من وهب هبة في دار أو ارض مشتركة فلم يثب منها ولم يطلبها فأراد شريكه ان يأخذها بقيمتها فليس ذلك له ما لم يثب عليها فان أثيب فهو للشفيع بقيمة الثواب
[قال أبو عمر قد كان مالك في صدر من عمره يرى في الهبة الشفعة وان كانت لغير ثواب لأنه انتقال ملك ثم رجع عن ذلك ولم ير الهبة لغير ثواب شفعة
ذكر ذلك عنه بن عبد الحكم
واما الهبة للثواب فهي عنده كالبيع وفيها الشفعة لم يختلف قوله في ذلك ولا قول أصحابه الا انهم اختلفوا فيه لو أن الموهوب له أثاب الواهب بأكثر من قيمة الشقص الموهوب
فقال بن القاسم لا يأخذه الا بقيمة الثواب كله قال ولهذا يهب الناس من الهبات ولم يذكر قوتا بل قال ذلك مجملا
وقال اشهب إذا اتى به أكثر من قيمته قبل ان يدخل الهبة قولان
فليس للشفيع ان يأخذه الا بجميع الثواب أو شركه
وان كان بعد الفوت فله ان يستشفع بقيمة الشقص فقط
واما الشافعي فالهبة للثواب عنده باطل مردودة لأنها عنده من باب البيع بثمن مجهول وسيأتي ذلك في باب الهبات إن شاء الله
قال ولا شفعة للشافعي في الهبة للثواب لأنه مردود من فعل من فعله
واما الكوفيون فيجيزون الهبة للثواب ويضمنونها اتباعا لعمر بن الخطاب وسنذكر ذلك في موضعه - إن شاء الله عز وجل
ولكنهم لا يرون الهبة للثواب شفعة لأنها عندهم هبة ليست ببيع
وكذلك لا شفعة عندهم في صداق ولا اجرة ولا جعل ولا خلع ولا في شيء صولح عليه من دم عمد
قال مالك (1) في رجل اشترى شقصا في ارض مشتركة بثمن إلى اجل فأراد الشريك ان يأخذها بالشفعة
71
قال مالك ان كان مليا فله الشفعة بذلك الثمن إلى ذلك الاجل وان كان مخوفا ان لا يؤدي الثمن إلى ذلك الاجل فإذا جاءهم بجميل ملي ثقة مثل الذي اشترى منه الشقص في الأرض المشتركة فذلك له]
قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه [في هذه المسالة] على ما ذكره في (موطئه) الا انهم اختلفوا في الذي يشتري شقصا من ربع بثمن إلى اجل فلا يقوم الشفيع حتى يحل الاجل على المشتري
فذكر بن حبيب عن بن الماجشون أنه قال يأخذها الشفيع ويكون الثمن عليه مؤجلا إلى مثل ذلك الاجل الذي كان على المشتري
وقال اصبغ لا يأخذه الشفيع بالشفعة الا بثمن حال
واما الشافعي فقال فيما ذكر عنه المزني ان اشترى النصيب من الدار وسائر الرباع والأرض بثمن إلى اجل قيل للشفيع ان شئت [فعجل الثمن وتعجل الشفعة وان شئت] فدع حتى يحل الاجل
وقول الكوفيين في ذلك نحو قول الشافعي
وذكر عبد الرزاق عن الثوري انه سئل عن رجل باع من رجل أرضا فيها شفعة لرجل إلى اجل فجاء الشفيع فقال انا اخذها إلى اجلها قال [لا يأخذها الا بالنقد لأنها قد دخلت في ضمان الأول
قال سفيان ومنا من يقول يقر في يد الذي ابتاعها فإذا بلغ الاجل اخذها الشفيع
قال مالك (1) لا تقطع شفعة الغائب غيبته وان طالت غيبته وليس لذلك عندنا حد تقطع إليه الشفعة
قال يحيى قلت لابن القاسم هل ترى الإسكندرية - يعني من مصر - غيبة وهو يبلغه ان صاحبه قد باع فيقيم على ذلك المشتري سنين العشرة ونحوها ثم يأتي بعد ذلك يطلب الشفعة
فقال بن القاسم هذه غيبة لا تقطع على المشتري شفعته وان بلغه ذلك فنرى السلطان ان يكتب إلى قاضي البلد الذي هو به ان يوقف ويعلمه شريكه قد باع فاما اخذ واما ترك
72
قال بن القاسم لا أرى ذلك على القاضي الا ان يطلب [ذلك] المبتاع فيكتب له القاضي الذي بمكانه إلى قاضي البلد بما ثبت عنده من اشترائه وما يطلب من قطع الشفعة [عنه] فيوقفه فاما اخذ واما ترك فان ترك فلا شفعة له
قال قلت لابن القاسم فما ترى القرب الذي يقطع الشفعة قال ما وقت لنا مالك فيه شيئا قد تكون المرأة الضعيفة والرجل الضعيف على البريد فلا يستطع ان ينهض ولا يسافر فلم يحد لنا حدا وانما فيه اجتهاد للسلطان على أفضل ما يرى
قال أبو عمر اما شفعة الغائب فان أهل العلم مجمعون على أنه إذا لم يعلم ببيع الحصة التي هو فيها شريك من الدور والأرضين ثم قدم فعلم فله الشفعة مع طول [مدة] غيبته
واختلفوا إذا علم في حال الغيبة
فقال منهم قائلون لم يشهد حين علم أنه اخذ بالشفعة متى قدم فلا شفعة له لأنه تارك لها
وقال آخرون هو على شفعته ابدا حتى يقدم ولم يذكروا اشهادا
واما القول في أمد شفعة الحاضر العاجل فيأتي في [اخر] كتاب الشفعة حيث رسمه مالك إن شاء الله عز وجل
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وقد ذكرنا فيما تقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الجار أحق بسقبه) (1) أو قال (بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا) (2)
روى عبد الرزاق [وغيره] عن الثوري عن سليمان الشيباني عن حميد الأزرق قال مضى عمر بن عبد العزيز بالشفعة بعد أربع عشرة سنة يعني للغائب
قال مالك في الرجل يورث الأرض نفرا من ولده ثم يولد لأحد النفر ثم يهلك الأب فيبيع أحد ولد الميت حقه في تلك الأرض فان أخا البائع أحق بشفعته من عمومته شركاء أبيه
قال مالك وهذا الامر عندنا
قال أبو عمر اختلف أصحاب مالك وسائر الفقهاء في ميراث الشفعة وهل تورث أو لا تورث وفي كيفية الشفعة بين الورثة هل هي للكبير كالولاء وهل تدخل العصبة فيها على ذوي الفروض أو يدخل بعض أهل السهام فيها على بعض
73
فاما ميراث الشفعة فذهب الثوري وسائر الكوفيين إلى انها لا توهب ولا تورث لأنها لا ملكه ولا ماله
واما مالك والشافعي وسائر أهل الحجاز فإنهم يرون الشفعة موروثة لأنها حق من حقوق الميت يرثه عنه ورثته
واما الشفعة بين ذوي السهام في الميراث فالمشهور من مذهب مالك عند أصحابه معنى ما ذكره في (الموطأ) ان أهل السهم الواحد أحق بالشفعة فيه من غيرهم من الشركاء في سائر الميراث وانه لا يدخل العصبات على ذوي السهام [في الشفعة وان ذوي السهام] يدخلون على العصبات فيها
واختلف أصحابه
فقال بن القاسم بما وصفت لك
وقال اشهب لا يدخل ذوو السهام على العصبات ولا يدخل العصبات على ذوي السهام لا يدخل هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء ولا يتشافع أهل السهم فيما بينهم خاصة
وقال المغيرة المخزومي يدخل العصبات على ذوي السهام وذوو السهام على العصبات لأنهم كلهم شركاء
وقول الشافعي في ذلك كقول المغيرة
وقول الكوفيين كقول اشهب مثال ذلك رجل توفي على ابنتين وأختين ورثن عنه أرضا أو دارا فباعت بعضهن حصتها منها
فقال بن القاسم تدخل البنات على الأخوات ولا تدخل الأخوات على البنات لأنهن ها هنا عصبة البنات
وقال اشهب لا تدخل الابنة على الأخت كما لا تدخل الأخت عليها
وذكر المزني عن الشافعي في هذه المسالة قولين
قال ولو ورثه رجلان فمات أحدهما [وله ابنان فباع أحدهما نصيبه] وأراد اخذ الشفعة دون عمه فكلاهما في الشفعة سواء لأنهما فيه شريكان
قال المزني هذا أصح من قوله الاخر ان أخاه أحق بنصيبه
قال ولم يختلف قوله في المعنيين لنصفين من عبد لأحدهما أكثر من الاخر في أن عليهما قيمة الباقي على السواء ان كانا موسرين
قال أبو عمر ليس هذا القياس يصح في مسألته هذه لان الشركاء [في سهم
74
قد حصلوا شركاء في الشقص وشركاء في (السهم) فكانوا أولى ممن هو شريك في الشقص خاصة [لأنهم كانوا] أدلوا بسببين وكانوا أولى ممن [هو] أولى بسبب واحد وليس الشريكان يكون نصيب أحدهما من العبد أكثر من نصيب صاحبه في مسالة الشفعة في شيء
والحجة عندي لما اختاره المزني من قول الشافعي ان الشفعة أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الشركاء ولم يخص شريكا من شريك فكل شريك في الشقص يستحق الشفعة بعموم السنة وظاهر المعنى - والله أعلم
قال مالك (1) الشفعة بين الشركاء على قدر حصصهم يأخذ كل انسان منهم بقدر نصيبه ان كان قليلا فقليلا وان كان كثيرا فبقدره وذلك أن تشاحوا فيها
قال أبو عمر قد اختلف السلف والخلف في هذه المسالة على قولين
(أحدهما) ان الشفعة بالحصص مثال ذلك دار بين ثلاثة رجال لأحدهم نصفها وللاخر ثلثها وللاخر سدسها فباع صاحب النصف نصفه ووجب لشريكه الشفعة فيأخذ صاحب الثلث الثلثين وصاحب السدس الثلث
وهذا قول مالك وأصحابه وجماعة من السلف منهم شريح [القاضي] وعطاء وبن سيرين ثلاثة أئمة من ثلاثة أمصار وهو قول جمهور أهل المدينة
(القول الثاني) ان الشفعة على الرؤوس وان صاحب النصف الصغير والكبير فيها سواء وبه قال الكوفيون
وهو قول الشعبي وإبراهيم والحكم
وسيأتي اختلافهم في اجرة القسام هل هي على الرؤوس أو على السهام في موضعه من الأقضية إن شاء الله تعالى
قال مالك (2) فاما ان يشتري رجل من رجل من شركائه حقه فيقول أحد الشركاء انا اخذ من الشفعة بقدر حصتي ويقول المشتري ان شئت ان تأخذ الشفعة كلها اسلمتها إليك وإن شئت ان تدع فدع فان المشتري إذا خيره في هذا واسلمه إليه فليس للشفيع الا ان يأخذ الشفعة كلها أو يسلمها إليه فان اخذها فهو أحق بها والا فلا شيء له
قال أبو عمر على نحو هذا مذهب الشافعي أيضا ذكره المزني عنه قال فان
75
حضر أحد الشفعاء اخذ الكل بجميع الثمن فان حضر الثاني اخذ منه النصف بنصف الثمن فان حضر الثالث اخذ منه الثلث بثمن الثلث حتى يكونوا سواء فان كانوا اثنين اقتسما كان للثالث نقص قسمتها وان اسلم بعضهم لم يكن لبعض الا اخذ الكل أو الترك
قال وكذلك لو أصابها هدم من السماء اما اخذ الكل بالثمن كله واما ترك
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لو اشترى رجل دارا من رجلين فقبضها أو لم يقبضها صفقة واحدة وأراد الشفيع ان يأخذ ما باع أحدهما دون ما باع الاخر فليس ذلك [للاخر] وانما له ان يأخذها كلها [أو يدعها كلها] وان كان الذي ابتاع الدار رجلين كان للشفيع ان يأخذ ما باع ويدع ما ابتاع الاخر
قالوا ومن اشترى دارين صفقة واحدة [من رجلين] ولهما شفيع واحد فأراد الشفيع ان يأخذ إحداهما دون الأخرى فليس له ذلك
واختلف أصحاب مالك في هذه المسائل أيضا
فقال بن القاسم في ثلاثة شركاء في ارض أو دار باع الاثنان منهما نصيبهما صفقة واحدة من رجلين انه ليس للثالث الشفيع الا [ان] يأخذ الجميع أو يدع
[وقال اشهب يأخذ من أيهما شاء
وقال بن القاسم إذا وجبت الشفعة لرجلين فسلم أحدهما فليس للاخر الا ان يأخذ الجميع أو يدع]
وروي ذلك عن مالك وعليه أكثر أصحابه وذكر بن حبيب عن اصبغ أنه قال إن كان تركه وتسليمه رفقا بالمشتري وتجافيا [له] كأنه وهبه شفعته فلا يأخذ الاخر حصته فلو كان المشتري رجلين فأراد الشفيع ان يأخذ حصة أحدهما
[فابن القاسم قال ليس له ان يأخذ الا حصتهما جميعا أو يتركهما جميعا إذا طلبت صفقة واحدة
وقال اشهب له ان يأخذ من أحدهما] ويدع الاخر
وقال المزني فيما أجاز فيه من المسائل على معنى قول الشافعي ولو أن رجلين باعا من رجل شقصا فقال الشفيع انا اخذ ما باع فلان وادع حصة فلان فذلك جائز في قياس قوله
قال وكذلك لو اشترى رجلان من رجل شقصا كان للشفيع ان يأخذ حصته أيهما شاء
76
قال المزني ولو اشترى شقصا وهو شفيع فجاء شفيع اخر فقال له المشتري خذها كلها بالثمن أو دع فقال هو بل اخذ نصفها فان ذلك له لأنه مثله وليس عليه ان يلزم شفعة غيره
قال مالك (1) في الرجل يشتري الأرض فيعمرها بالأصل يضعه فيها أو البئر يحفرها ثم يأتي رجل فيدرك فيها حقا فيريد ان يأخذها بالشفعة انه لا شفعة له فيها الا ان يعطيه قيمة ما عمر فان أعطاه قيمة ما عمر كان أحق بالشفعة والا فلا حق له فيها
قال أبو عمر القيمة عند مالك وأصحابه في البنيان قائما لأنه بنى في ملكه وحقه لان المشتري يملك ما اشترى وان كان فيه شفعة اخبره فان الاخذ بالشفعة ليس بلازم للشفيع وهو بالخيار - ان شاء شفع وان شاء لم يشفع فكأنه إذا شفع بيع حادث وعهدته على المشتري
واما الشافعي فمذهبه ان الباني متعد ببنيانه فيما فيه للشفيع الشفعة فليس له الا قيمة بنيانه معلوما - ان شاء الشفيع أو يأخذه بنصفه
وكذلك لو قسم بغير حكم حاكم وبنى في نصيبه فهو متعد فان قضى الحاكم بالقسمة وحكم بها لما ثبت ما يوجب ذ لك واقام للغائب وكيلا في القسمة فقسم وقبض المشتري حصته وبنى فيها فهو - حينئذ - غير متعد
فان استحق الشفيع الحصة مشاعة لم يمنعه قضاء القاضي [شفعته] لان الغائب على شفعته ابدا الا ان يعلم فيترك فان علم فلا شفعة له ان ترك الطلب بعد العلم [قادرا على الطلب] وان لم يعلم شفع إذا قدم [ان شاء] وأعطى المشتري [قيمة] الشقص وقيمة البنيان تاما لأنه بنى في غير اعتداء
واما الكوفيون فذكر الطحاوي عنهم قال ومن اشترى دارا [وقبضها] فبنى فيها بناء ثم حضر شفيعها فطلب اخذها بالشفعة فقضى له بذلك فيها فإنه يقال للمشتري انقض بناءك لأنك بنيته فما كان الشفيع أولى [بها] منك الا ان يشاء الشفيع ان يمنعه من ذلك ويعطيه قيمة بنيانه [منقوضا] فيكون ذلك له
فهذا قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وهو الصحيح عن أبي يوسف
قال وبه قال احمد
77
وقد روي عن أبي يوسف أنه قال إن شاء الشفيع اخذها بالثمن [الذي باعها به] وبقيمة البناء قائما وان شاء ترك ليس له غير ذلك
قال مالك (1) من باع حصته من أرض أو دار مشتركه فلما علم أن صاحب الشفعة يأخذ بالشفعة استقال المشتري فأقاله قال ليس ذلك له والشفيع أحق بها بالثمن الذي كان باعها به
قال أبو عمر والشفعة تجب بالبيع لمن أرادها وطلبها
واجمعوا انه ليس للمشتري ان يمتنع من ذلك [ولا] البائع فالاقالة لا نقطعها عمن جعلها بيعا مستأنفا وعمن يجعلها فسخ بيع لان في فسخ البيع فسخا للشفعة
والشفعة واجبة [بالسنة]
وقياس قول الشافعي والكوفيين وجوب الشفعة لا تنقضها الإقالة
وقد اختلف [قول] بن القاسم واشهب في عهده الشفيع في الإقالة
فقال بن القاسم عهدة الشفيع على المشتري
وقال اشهب الشفيع مخير فان شاء اخذ الشفعة بعهده البيع الأول وان شاء بعهده الإقالة
قال مالك (2) من اشترى شقصا في دار أو ارض وحيوانا وعروضا في صفقة واحدة فطلب الشفيع شفعته في الدار أو الأرض فقال المشتري خذ ما اشتريت جميعا فاني انما اشتريته جميعا
قال مالك (3) بل يأخذ الشفيع شفعته في الدار أو الأرض بحصتها من ذلك الثمن يقام كل شيء اشتراه من ذلك على حدته على الثمن الذي اشتراه به ثم يأخذ الشفيع شفعته بالذي يصيبها من القيمة من راس الثمن ولا يأخذ من الحيوان والعروض شيئا الا ان يشاء ذلك
قال أبو عمر على ما قاله مالك في هذه المسألة أكثر الفقهاء
قال الشافعي ولو كان مع الشقص الذي فيه الشفعة عرض في صفقة واحدة بثمن واحد فإنه يشفع في الشقص بحصته من الثمن
وهو قول الكوفيين
78
وذكر عبد الرزاق قال سألت معمرا عن رجلين بينهما خربة لم تقسم فباع أحدهما نصيبه منها مع خربه له أخرى بثمن واحد فجاء الشفيع فقال انا اخذ نصيبه من الخربة التي بيني وبينه
فقال [قال] عثمان البتي يأخذ البيع جميعا [يتركه جميعا]
وقال بن شبرمة وغيره من أهل الكوفة يأخذ نصف الخربة التي بينه وبين صاحبه بالقيمة ويترك الأخرى ان شاء
قال عبد الرزاق وسمعت الثوري وسفيان يقولان مثل قول بن شبرمه
قال مالك (1) ومن باع شقصا من ارض مشتركة فسلم بعض من له فيها الشفعة للبائع وأبى بعضهم الا ان يأخذ بشفعته ان من أبى أن يسلم يأخذ بالشفعة كلها وليس له ان يأخذ بقدر حقه ويترك ما بقي
قال مالك في نفر شركاء في دار واحدة فباع أحدهم حصته وشركاؤه غيب كلهم الا رجلا فعرض على الحاضر ان يأخذ بالشفعة أو يترك فقال انا اخذ بحصتي واترك حصص شركائي حتى يقدموا فان اخذوا فذلك وان تركوا اخذت جميع الشفعة
قال مالك ليس له الا ان يأخذ ذلك كله أو يترك فان جاء شركاؤه اخذوا منه أو تركوا ان شاؤوا فإذا عرض هذا عليه فلم يقبله فلا أرى له شفعة
قال أبو عمر قد مضى هذا المعنى وما فيه لسائر العلماء وانما هم في هاتين المسألتين على قولين
أحدهما ما ذكر مالك - رحمه الله
والاخر ان له أن يأخذ بحصته ويدع حصه شركائه فان جاؤوا كانوا على شفعتهم ان شاؤوا وقد تقدم ذكر ذلك فلا وجه لإعادته
((2 - باب مالا تقع فيه الشفعة))
1383 - مالك عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن حزم ان عثمان بن عفان قال إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها ولا شفعة في بئر ولا في فحل النخل
79
قال مالك وعلى هذا الامر عندنا
قال مالك ولا شفعة في طريق صلح القسم فيها أو لم يصلح
[قال مالك والامر عندنا انه لا شفعة في عرصه (1) دار صلح القسم فيها أو لم يصلح]
قال أبو عمر اما قول عثمان إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها فإنه ينفي الشفعة في ذلك للجار
وقد تقدم القول في ذلك عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم (الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة ولا وجه لتكرار ما تقدم
وأما قوله ولا شفعة في بئر ولا في فحل نخل فذكر بن عبد الحكم عن مالك قال الحديث الذي جاء لا شفعة في بئر انما ذلك [في] بئر الاعراب
فأما بئر الزرع والنخل ففي ذلك الشفعة إذا كان النخل لم يقسم فان قسم الحائط [وترك البئر فلا شفعة فيها
وكذلك إذا قسمت بيوت الدار وكذلك إذا قسم الحائط] وترك [الفحل] والفحلان للابار واكل الطلع انه لا شفعة فيها
وكذلك إذا قسمت بيوت الدار وتركت العرصه للارتفاق فباع أحد الشركاء نصيبه فيها فلا شفعة في ذلك
قال أبو عمر يريد بقوله بئر الاعراب البئر التي في موات الأرض لسقي الماشية
والمسقاة ليست بئرا يسقى بها [شيء] من الأرض والشجر
وذكار الشجر حكمه عند مالك وأصحابه كحكم النخل
وحكم العين عندهم كحكم البئر عندهم سواء ان كان لها بياض وزرع ونخل وبيع ذلك [كله] بيعا فيه شفعة دخلت العين في ذلك والبئر فإذا انفردت العين أو البئر بين الشركاء فلا شفعة فيها [إذا باع أحدهم نصيبة منها
وكذلك حكم الطرق والمرافق المتروكة للارتفاق لا شفعة فيها] الا أن تكون بيعا لما فيه شفعة من الأرض وتجمعها صفقة
واما الشافعي فإنه قال لا شفعة في بئر لا بياض لها وكذلك إذا كان لها بياض ولا تحتمل القسمة
80
ولا شفعة عنده إلا فيما تحتمله القسمة وتضرب فيه الحدود
ولا شفعة عنده في طريق وانما العرصة إذا احتملت القسمة وبيع منها شيء ففيه الشفعة عنده خلاف قول مالك
وسواء تركت للارتفاق أو لم تترك وانما أصله ان [كل] ما كان من الأرضين يحتمل القسمة وضرب الحدود وكان مشاعا ففيه الشفعة
واما الكوفيون فالقياس على أصولهم الا شفعة في بئر ولا فحل نخل
واما العرصة فقياسهم ان فيها الشفعة لأنها من الأرض المحتملة للقسمة
واختلف أصحاب مالك في النخلة المطعمة تكون بين الشريكين يبيع أحدهما حصته منها
فذكر بن القاسم عن مالك في (المدونة) انه لا شفعة فيها [قال أبو عمر] قاسها على فحل النخل والله أعلم
وقال اشهب وعبد الملك بن الماجشون واصبغ [بن الفرج ومحمد] بن عبد الحكم فيها الشفعة ذكرا كان أو أنثى
قال أبو عمر حجتهم في ايجاب الشفعة ان النخلة عندهم من جنس ما فيه الشفعة
ولم يختلفوا في الحائط المثمر من الشجر وان لم يكن فيه موضع لزراعة [وكان مشاعا] ان الشفعة فيما بيع منه [وحكم النخلة الواحدة عندهم كحكم الحائط كله]
واختلفوا في هذا الباب في أشياء منها الرحا
[ففي (المدونة)] قال بن القاسم الشفعة في الأرض ولا شفعة في الرحا كما أن بيعت منفردة دون شيء من الأرض لم تكن فيها شفعة
وروى أبو زيد عن بن القاسم مثل ذلك وقال يقضي الثمن على الأرض والرحى وذكر انه كالشقص يباع مع عبد
وقال اشهب للشريك الشفعة في جميع ذلك وقال الا ترى ان الشفعة تكون [في رقيق الحائط فكيف بالرحى مع الأرض
وبقول اشهب قال سحنون
واختلفوا من ذلك] في الاندر أحد الشركاء نصيبه منه
81
فذكر العتبي عن عبد الملك بن الحسن عن اشهب وبن وهب أن فيه الشفعة وهو كغيره من الأرضين
وقال اشهب لا شفعة في الاندر وكذلك الأقبية لا شفعة فيها إذا بيعت قال والاندر عندي مثل الأقبية
واختلفوا من ذلك أيضا في الحمام
فقال مالك فيه الشفعة
وقال بن القاسم لا شفعة فيه
وقال إسماعيل بن إسحاق روى بن القاسم وبن أبي أويس [عن مالك ان فيه الشفعة
قال وذكر أحمد بن المعذل عن عبد الملك عن مالك] انه لا شفعة فيه
قال عبد الملك وانا أرى فيه الشفعة
قال إسماعيل وروى بن القاسم ان الحمام يقسم
قال أبو عمر كان أحمد بن خالد ومحمد بن عمرو بن لبانة يفتيان في الحمام
واختلفوا في الثمرة تباع منفردة دون الأصل
فقال مالك وبن القاسم واشهب فيها الشفعة لأنها تقسم بالحدود
قال أبو عمر على ما ذكرنا من مذاهبهم في قسمة الثمار في رؤوس الأشجار
وروى أبو جعفر الدمياطي وعبد الملك انهما كانا لا يريان فيها الشفعة
واختلفوا أيضا في الشفعة في الكراء أو الدور والرباع والأرضين [وفي المساقاة] وفي الدين هل يكون المديان أحق بها
وقد ذكرنا ذلك كله في كتاب اختلافهم
وحديث بن شهاب ينفي الشفعة ويسقطها الا في المشاع من الأرضين والرباع حيث يمكن ضرب الحدود وتصريف الطرق وهذا هو الصحيح وبالله التوفيق
قال مالك (1) في رجل اشترى شقصا (2) من ارض مشتركة على أنه فيها
82
بالخيار فأراد شركاء البائع ان يأخذوا ما باع شريكهم بالشفعة قبل ان يختار المشتري ان ذلك لا يكون لهم حتى يأخذ المشتري ويثبت له البيع فإذا وجب له البيع فلهم الشفعة
قال أبو عمر لا فرق عند مالك في هذه المسألة كان البائع بالخيار أو كان المشتري
ولا اعلم خلافا بين الفقهاء انه إذا كان الخيار للبائع ان الشفعة لا تجب للشفيع حتى تنقضي أيام الخيار ويصير الشقص إلى المشتري فحينئذ يشفع الشفيع ان أراد لا قبل ذلك
واختلفوا فيما إذا كان الخيار للمشتري خاصة
فقال الشافعي ومن اشترى شقصا على أنها جميعا بالخيار أو البائع بالخيار فلا شفعة حتى يسلم البائع
وان كان الخيار للمشتري دون البائع فقد خرج الشقص المبيع من ملك البائع ففيه الشفعة
وعلى هذا أيضا مذهب الكوفيين
ذكر الطحاوي عنهم قال من باع دارا من رجل على أنه بالخيار في بيعها أياما ثلاثة لم يكن للشفيع اخذها بالشفعة حتى ينقطع الخيار فيجوز البيع فيها وان لم يكن البائع بالخيار فيها ثلاثة أيام كان للشفيع اخذها بالشفعة وكان اخذه إياها قطعا بخيار المشتري وامضى البيع فيها
واختلف أصحاب مالك في الشريك يبيع نصيبه من دار له فيها شركاء بالخيار ثم بيع بعض اشراكه نصيبه بيعا بتلا
ففي (المدونة) ان قبل المشتري فالسلعة للبائع بالخيار
وقال سحنون الشفعة في المبيع بالخيار للمشتري بعد ذلك بثلاث
وقال أبو إسحاق البرقي وعبد الله بن الحكم حكم الشفعة في الشقص المبيع بتلا للبائع بالخيار لان الشقص كان له ومنه ضمانة فان سلم فللمشتري ولا تبالي لمن كان الخيار منهما
وبهذا القول يقول بن الماجشون واشهب
وقال مالك (1) في الرجل يشتري أرضا فتمكث في يديه حينا ثم يأتي رجل
83
فيدرك فيها حقا بميراث ان له الشفعة ان ثبت حقه وان ما اغلت الأرض من غلة فهي للمشتري الأول إلى يوم يثبت حق الاخر لأنه قد كان ضمنها لو هلك ما كان فيها من غراس أو ذهب به سيل
قال فان طال الزمان أو هلك الشهود أو مات البائع أو المشتري أو هما حيان فنسي أصل البيع والاشتراء لطول الزمان فان الشفعة تنقطع ويأخذ حقه الذي ثبت له وان كان امره على غير هذا الوجه في حداثة العهد وقربه وانه يرى أن البائع غيب الثمن وأخفاه ليقطع بذلك حق صاحب الشفعة قومت الأرض على قدر ما يرى أنه ثمنها فيصير ثمنها إلى ذلك ثم ينظر إلى ما زاد في الأرض من بناء أو غراس أو عمارة فيكون على ما يكون عليه من ابتاع الأرض بثمن معلوم ثم بنى فيها وغرس ثم اخذها صاحب الشفعة بعد ذلك
قال أبو عمر اما قوله في المستحق بميراث نصيبا في ارض ان له الشفعة فان الخلاف في ذلك قديم
فمن أوجب الشفعة له زعم أنه كان حقا له ما أظهره [شهوده] فصار بمنزلة شريك ظاهر الملك [في ذلك
وكذلك المستحق] باع شريكه نصيبه في ارض مشاعة بينهما فلا خلاف ان له الشفعة في ذلك
وكذلك المستحق لأنه بتقدم ملكه استحق [ما استحق]
ومن قال لا شفعة له زعم أن المستحق انما يثبت له الملك يوم استحق فلا شفعة له [فيما] كان [له] قبل ذلك
الا ترى انه لا يأخذ الغلة من المشتري ولا من البائع الجاحد له
وكذلك لو استحق العبد حرية على مولاه والمولى جاحد لها فلما قامت للعبد بينة بالحرية قضي له بها ولم يلزم المولى خراجه وقيمة خدمته لأنه جاحد لما شهد به الشهود وانما تجب شهادتهم حكما ظاهرا من يوم شهدوا وحكم الحاكم بشهادتهم
والقائلون بالقول الأول يوجبون للمستحق الخراج أو الغلة فيما يستحقه ويأتي القول في ذلك في موضعه إن شاء الله
واما قوله فان طال الزمان أو هلك الشهود أو مات البائع أو المشتري إلى اخر كلامه في الفصل فان طول الزمان لمن كان غائبا وقامت بينته بما يوجب له الشفعة
84
وقد مضى القول في شفعة الغائب وما قاله مالك وغيره في ذلك والخلاف فيه كلا خلاف
واما هلاك الشهود فلا يخلو من أن يكونوا شهودا على البيع فهلكوا أو المشتري والبائع يتجاحدان ولا بينة هناك فلا شفعة في ذلك ان يكون الشهود على مبلغ الثمن هلكوا فالقول قول المشتري وان خالفه الشفيع
وقد مضت هذه المسالة أيضا بخلافها
وكذلك موت البائع والمشتري لمن كان له القيام بالشفعة لا يضر
قال مالك في هذا الموضع من (الموطأ)
والشفعة ثابتة في مال الميت كما هي في مال الحي
وقد تقدم القول في هل تورث الشفعة وذكرنا الاختلاف في ذلك
وقال أحمد بن حنبل وغيره الشفعة لا تورث الا ان يكون الميت طالبا لها
قال أبو عمر الشفعة تورث عند كل من يورث عنده الخيار [في البيع ومن لا يورث عنده الخيار فقد تورث عنده] الشفعة
وقد مضى [ذلك] في كتاب البيوع
واما قوله في المشتري والبائع أو هما حيان فليبتني أصل البيع والاشتراء لطول الزمان فان الشفعة تنقطع ويأخذ [يعني] المستحق - حقه الذي ثبت له فقط فقد ذكرنا ان أهل العلم منهم من لا يرى للمستحق شفعة ومنهم من رآها على ما وصفنا وهم في هذه المسالة على قولين
أحدهما انه يشفع بقيمة الشقص كما لو جهلا الثمن بحداثة الوقت سواء
وكان مالك ومن تابعه لا يرون الشفعة عند جهل الثمن إذا طال الزمان ونسي البيع ويرونها واجبة في حداثة العهد
وقوله أو لما يرى أن البائع غيب [ذكر] الثمن واخفاء ليقطع بذلك حق صاحب الشفعة فحينئذ يرون الشفعة في الشقص بقيمته على ما في (الموطأ)
وقال به جماعة من أصحابه
وذكر بن عبدوس عن بن الماجشون قال إذا مات المشتري واتى الشفيع يطلب من ورثته الشفعة مع طول الزمان وقد جهل الثمن حلف الورثة ما عندهم علم ولم تكن شفعة
85
قال ولو أن المشتري قال [لا أدري] بكم اشتريت حلف وشفع بالقيمة
قال فان أبى ان يحلف فقد مضت من أصحابنا فيه قضية انه يأخذها الشفيع ثم يقول للمشتري اطلب حقك ممن شئت أو تحلف فتأخذ [منه] قيمة الشقص فان قال الشفيع لا اقبضه لعل ثمنه يكون كثيرا ولا يقدر على ثمنه فلا بد - حينئذ - ان يحلف أو يسجن
واما قوله والشفعة ثابتة في مال الميت فهي في مال الحي فان خشي أهل الميت ان ينكسر مال الميت قسموه ثم باعوه فليس عليهم فيه شفعة [فقد تقدم القول في وراثة الشفعة وفي ان كل مقسوم لا شفعة فيه عند من لا يقول بالشفعة للجار أو من اجل الاشتراك في الطريق]
قال مالك (1) ولا شفعة عندنا في عبد ولا وليدة ولا بعير ولا بقرة ولا شاة ولا في شيء من الحيوان ولا في ثوب ولا في بئر ليس لها بياض انما الشفعة فيما يصلح انه ينقسم وتقع فيه الحدود من الأرض فاما ما لا يصلح فيه القسم فلا شفعة فيه
قال أبو عمر على هذا مذهب الشافعي والكوفيين وقد تقدم ذلك كله [والحجة له] والحمد لله كثيرا
وقد شذت طائفة فأوجبت الشفعة في كل شيء وروت روايات في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
منها ما ذكره عبد الرزاق (2) قال أخبرنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن بن أبي مليكة قال] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الشريك شفيع في كل شيء
أخبرنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن يونس قال حدثني بقي بن مخلد قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو بكر بن عياش قال حدثني عبد العزيز بن رفيع عن بن أبي مليكة قال] قضى [رسول الله صلى الله عليه وسلم] بالشفعة في كل شيء في الأرض والدار والدابة
فقال عطاء انما الشفعة في الأرض والدار
وقال بن أبي مليكة سمعتني - لا أم لك - أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول هذا
86
قال أبو عمر هذا الحديث مرسل وليس له اسناد غير هذا فيما علمت ومن قال بمراسيل الثقات لزمه القول به
واما من جهة النظر فالمشتري مالك لما اشترى فلا يخرج ملكه عن يده الا بكتاب أو سنة ثابتة أو اجماع ولا اجماع في هذا بل الأكثر على خلافه في هذا الحديث
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرنا معمر قال قلت لأيوب أتعلم أحدا [كان] يجعل في الحيوان شفعة [قال لا
قال معمر ولا اعلم أحدا جعل في الحيوان شفعة]
قال وأخبرنا بن سمعان عن بن شهاب [عن بن المسيب] قال ليس في الحيوان شفعة
[قال وأخبرنا أبو حنيفة عن حماد قال لا شفعة الا في ذلك دار أو ارض
قال وأخبرنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح قال لا شفعة الا في الأرض
قال وأخبرنا معمر عن بن شبرمة قال في الماء الشفعة]
قال معمر ولم يعجبني ما قال
قال أبو عمر قد رأى قوم من العلماء الشفعة في الدين وفي المكاتب يباع ما عليه فقالوا المديان والمكاتب أولى بذلك إذا اعطى المشتري ما أرى
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري [قال لم ار القضاة الا يقضون فيمن اشترى دينا على رجل فصاحب الدين أولى به
قال وأخبرنا معمر عن رجل من قريش] ان عمر بن عبد العزيز قضى في مكاتب اشترى ما عليه بعرض فجعل المكاتب أولى بنفسه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع دينا على رجل فصاحب الدين أولى إذا أدى مثل الذي أدى صاحبه
قال وحدثني الأسلمي قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر عن عمر بن عبد العزيز ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في الدين وهو الرجل يبيع دينا له على رجل فيكون صاحب الدين أحق به
87
واختلف أصحاب مالك في ذلك
فقال بن القاسم لا شفعة في الدين ولا يكون المديان أحق به
وقال اشهب هو أحق به بالضرر الداخل عليه ويأخذه بقيمة العرض ان كان الثمن عرضا أو بمثل العين ان كان عينا كالمكاتب وانما ذلك في المكاتب لحرمة العتق الا ترى ان التقويم والاستهام يجب على الشريك إذا اعتق نصيبه وان العتق بيد أعلى سائر الوصايا
قال فان قال قائل ان البائع ممن دخل مدخله كالشريكين في العبد [باع شريك ودخل شريك] قيل له ان العبد المشترك فيه ان رأى الشريك ما يضره دعا شريكه إلى البيع معه وليس كذلك [الدين]
قال أبو عمر قد ذكرنا ان الأصل المجتمع عليه انه لا يحل [مال] امرئ مسلم الا عن طيب نفس وان التجارة لا تجوز الا عن تراض فلا يخص [منها في الأصل] شيء الا بمثله من الأصول التي يجب التسليم لها
وحديث الشفعة للشريك في الدور والأرضين حديث متفق على القول والعمل به وسائر ما اختلف فيه
وليس في الاختلاف حجة فالواجب الوقوف عند اليقين ولا يخرج عنه الا بيقين مثله وبالله التوفيق
قال مالك (1) ومن اشترى أرضا فيها شفعة لناس حضور فليرفعهم إلى السلطان فاما ان يستحقوا واما ان يسلم له السلطان فان تركهم فلم يرفع امرهم إلى السلطان وقد
علموا باشترائه فتركوا ذلك حتى طال زمانه ثم جاؤوا يطلبون شفعتهم فلا أرى ذلك لهم
قال أبو عمر هذا قول مجمل الا ان ظاهره يدل على أن ما قرب من الأمد لطالب الشفعة لم يضره قعوده عن الطلب إذا قام فيما لم يطل من الزمان فان طال فلا قيام له ولم يحد في الطول حدا ولا وقت [في (موطئه)] وقتا
وقد اختلفت الرواية عنه في ذلك وأصحابه
فروى بن القاسم عنه السنة ليست بالكثير وهو على حقه
وقال مرة أخرى السنة ونحوها
88
وروى اشهب [عن الثقات] عن مالك أنه قال للحاضر تنقطع بمرور السنة
وروى بن الماجشون [عن مالك] ان الخمسة الأعوام ليست بكثير ولا يقطع الشفعة الا الطول
وذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون انهما استنكرا ان يحد مالك في الشفعة سنة
وقالوا ربما سمعنا مالكا يسال عن الحاضر يقوم على شفعته بعد الخمس سنين وربما قيل له أكثر من ذلك فيقول في ذلك كله لا أرى في ذلك طولا ما لم يحدث [المبتاع] بنيانا أو هدما أو تغييرا ببناء والشفيع حاضر فإن كان ذلك ولم يقم في شفعته في الحين أو يحدثان ذلك فلا قيام له لان هذا مما يقطع شفعته
وقد تقصيت اختلافهم في [اختلاف] قول مالك وأصحابه
وهذا الاختلاف انما هو ما لم يوقف المشتري الشفيع عند الحاكم فان وقفه ليأخذ أو ليترك فان ترك لم يكن له قيام بعد وان اخذ اجل بالمال ثلاثة أيام
وقال بن الماجشون عشرة [أيام] ونحوها
[وقال اصبغ يؤخذ بالمال على قدر قلة المال وكثرته وعلى قدر عسره ويسره ويقضي ذلك شهر ثم لا يدري ما وراء ذلك
وقال الشافعي للشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع به البيع فان فضلت مكانه فهو له وان أمكنه الطلب فلم يطلب بطلت شفعته وان علا فاخذ الطلب فإن كان له عذر من حبس أو غيره فهو على شفعته يعني وان لم يكن له عذر نافع فلا قيام له
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا وقع البيع فيما تجب فيه الشفعة فعلم بذلك الشفيع فان اشهد مكانه انه على شفعته والا بطلت شفعته وسواء احضر عند ذلك مالا أو ثمن البيع أو لم يحضر]
وقد روي عن محمد بن الحسن أنه قال ينبغي ان يكون الاشهاد بمحضر مطلوب بالشفعة أو بحضرة المبيع المشفوع فيه
قال أبو عمر لا معنى لاشهاد الحاضر على الطلب الا ان يشهد طلابه وطلبه بذلك واما إذا تراخى بذلك وطال فلا شفعة له لان تركه للطلب به اختيار منه لاسقاط الشفعة وذلك ضرب من ركوب الدابة وتسخيرها ووطء الجارية بعد [الاطلاع على العيب وانما الاشهاد عندي معتبر في الغائب الذي يبلغه خبر شفعته
89
فيشهد على أنه مختار للطلب إذا قدم وبلغ موضع الطلب ينفعه اشهاده ولا يضره علمه بماله من الشفعة لموضع غيبته
ومن أهل العلم من أصحابنا وغيرهم من لا يرى على الغائب اشهادا ولا يمينا فإنه لم [يترك] إذا علم
وقال محمد بن الحسن إذا قضى القاضي بالشفعة كان للمقضى عليه بها احتباس المشفوع فيه حتى يدفع إليه ثمنه
[وقد روي عن محمد بن الحسن أنه قال لا يقضي القاضي بالشفعة للشفيع حتى يحضره مثل الجزء الذي وجبت له به الشفعة
وهو اختيار الطحاوي]
واختلف أصحاب مالك وغيرهم فيمن وجبت له شفعة فباع الشقص الذي من اجله بدفع قبل ان يأخذ بالشفعة
فذكر اشهب عن مالك ان قوله اختلف في ذلك فمرة قال تجب له الشفعة ومرة قال لا تجب
واختار اشهب انه لا شفعة له
قال انما لو اخذ بالشفعة ثم باع حصته [لم يضر ذلك شفعته]
وروى عيسى عن بن القاسم انه لا يقطع بيعه بحصته في الدار ما وجب له من الشفعة إذا كان قيامه في امدها
وروى يحيى بن يحيى عن بن القاسم مثل ذلك [وزاد فان سلم الشفعة] ولم يأخذ وجبت الشفعة [للمشتري] في البيع الثاني
قال أبو عمر قياس قول الشافعي والكوفيين وانه لا شفعة له الا ان يقضي له بها القاضي قبل بيعه بحصته عند الكوفيين وعند الشافعي لا تجب له شفعة لأنه لا يستحق الشفعة الا بالشركة وليس للشريك بعد بيع حصته [شفعة] [فأي شفعة تجب له] والشفعة انما تستحق بالشركة في المبتاع بالطلب وأداء الثمن وان كان أصل وجوبها البيع وبالله التوفيق
90
((36 كتاب الأقضية))
((1 - باب الترغيب في القضاء بالحق))
1384 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (انما انا بشر وانكم تختصمون إلي
فلعل بعضكم ان يكون الحن (1) بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا فإنما اقطع له قطعة من النار)
قال أبو عمر لم يختلف في اسناد هذا الحديث ولا على هشام وقد رواه (عن) هشام الثوري وبن عيينة ويحيى القطان وغيرهم ورواه أيضا معمر عن الزهري عن عروة عن زينب عن أمها - أم سلمة - عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وقد روي (من حديث) أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك كله في (التمهيد)
وفي هذا الحديث من الفقه
ان البشر لا يعلمون الغيب وإذا كان الأنبياء يعرفون بهذا فكيف يصح لاحد دعوى ذلك وهل يحصل من علم الغيب عند مدعيه الا التخرص والتظنن بالنجامة أو بالتكهن الذي هو (كله) الا يسير منه ظن كذب لان الظن اكذب الحديث
91
واما علم صحيح متيقن متبين فلا سبيل إليه والله أعلم
وأما قوله (فلعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض) يعني افطن لها واجدل بها
قال أبو عبيدة اللحن بفتح الحاء الفطنة واللحن بجزم الحاء الخطا في القول
وفيه ان القاضي انما يقضي على الخصم بما يسمع منه من اقرار أو انكار أو بينات على حسب ما أمكنته السنة في ذلك
وفيه ان القاضي يقضي بكل ما يقر به عنده (المقر) لمن ادعى عليه لقوله صلى الله عليه وسلم (فاقضي (له بمعنى اقضي) عليه بما اسمع منه يريد أو من بينة المدعي لان هذا هو الذي يسمع مما يحتاج ان يقضي به
ولو أقر المقر عنده في مجلس حكمه بما قد استوعب سماعه منه ثم جحد المقر اقراره ذلك ولم يحضر مجلسه ذلك (شهيدان وجب على (القاضي) الحاكم (القضاء) بما سمع حضرة أحد أو لم يحضره
هذا قول جمهور الفقهاء وهو قول الكوفيين والشافعيين وغيرهم
واستحب مالك - رحمه الله - ان يحضره شاهدان وأجاز في ذلك شهادة العدل وغيره ولو علم أن ما شهد به الشهود على ما شهدوا به ان ينفد علمه في ذلك دون شهادتهم وذلك دليل على أن ذلك استحباب عنده والله الموفق للصواب
وفي ذلك أيضا رد وابطال (للحكم بالهوى وبالظنون أيضا)
قال الله عز وجل * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * الآية [ص 26]
وقد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في رد حكم القاضي (بعلمه) لقوله (فاقضي له على نحو ما اسمع منه ولم يقل على نحو ما علمت منه أو من قصته
قال وانما تعبدنا بالحكم بالبينة والاقرار وهو المسموع الذي قال فيه (صلى الله عليه وسلم) (انما اقضي على نحو ما اسمع) وذلك المسموع من المقر في مجلس الحكم
92
وقد قيل في تأويل قول الله عز وجل * (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * [ص 2] ان فصل الخطاب البينات أو اقرار من يلزمه اقراره
والعلة في القضاء بالبينة أو الاقرار دون العلم التهمة لان الحاكم إذا قضى بعلمه كان مدعيا علم ما لم يعلم الا من جهته
وقد اجمعوا ان القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل لم يجب له القود منه فإنه قاتل عمدا (والقاتل عمدا) لا يرث (منه) شيئا لموضع التهمة في وراثته
ومن أحسن ما يحتج به في أن القاضي لا يقضي بعلمه حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابا جهم على صدقه فلاجه رجل في فريضة فوقع بينهم شجاج فاتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال (اني خاطب الناس ومخبرهم انكم قد رضيتم أرضيتم قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب وذكر القصة وقال أرضيتم قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد (المنبر) فخطب ثم قال أرضيتم قالوا نعم (1)
وهذا بين لأنه لم يأخذ (منهم) بما علم منهم ولا قضى بذلك عليهم وقد علم رضاهم
وهذا معظم ما يحتج به من لم ير للقاضي ان يقضي بعلمه
واما من رأى للقاضي ان يقضي بعلمه منهم الشافعي والكوفي (وسنذكرهم بعد - إن شاء الله عز وجل)
فمن حجتهم انه مستيقن قاطع لصحة ما يقضي به إذا علمه علم يقين وليست الشهادة عنده كذلك لأنها قد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء اوكد لأنه ينتفي عنه في علمه الشك والارتياب
وقد اجمعوا ان له ان يعدل ويسقط العدول بعلمه فكذلك ما علم صحته
واجمعوا أيضا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به انه ينفذ علمه في رد شهادتهم ولا يقضي بشهادتهم ويردها بعلمه
ومما احتج به الشافعي وغيره بقضاء القاضي بعلمه حديث عبادة بن الصامت
93
عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (وان نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) (1)
وقول الله عز وجل * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) * [النساء 135]
وحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة مع زوجها أبي سفيان بن حرب في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (2) ولم يكلفها بينة لأنه علم صدق قولها من قبل زوجها وحاله التي عرف منه
وقالوا انما يقضي (بما يسمع) فيما طريقه السمع من الاقرار والبينة واما ما كان طريقه علمه فإنه يقضي فيه بعلمه
ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب
والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار من ذلك
ومما احتج به من قال إن القاضي يقضي بعلمه فيما قضى به علمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طريق (غير واحد) عن عروة وعن مجاهد جميعا بمعنى واحد ان رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب انه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا فقال عمر اني لاعلم الناس بذلك وربما لعبت انا وأنت فيه ونحن غلمان فإذا قدمت مكة فاتني بابي سفيان فلما قدم مكة اتاه المخزومي بابي سفيان فقال له عمر يا أبا سفيان (انهض بنا إلى موضع كذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان) خذ هذا الحجر من هنا فضعه ها هنا فقال والله لا افعل ذلك (فقال عمر والله لتفعلن فقال لا والله لا افعل فقال) والله لتفعلن فقال لا افعل فعلاه عمر بالدرة (3) وقال خذه - لا أم لك - وضعه ها هنا فإنك قديم الظلم فاخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال
94
عمر ثم إن عمر استقبل القبلة وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت علي أبا سفيان على رايه فاذللته لي بالاسلام قال فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد الذي لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الاسلام ما ذللت به لعمر
ففي هذا الخبر قضاء عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته
والى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي وأبو ثور سواء عندهم علم القاضي قبل ان يلي القضاء أو بعد ذلك في مصره كان أو غير مصره له ان يقضي في ذلك كله عندهم بعلمه
وقال أبو حنيفة ما علمه قبل ان يلي القضاء أو راه في غير مصره لم يقض فيه بعلمه لأنه شاهد واحد في ذلك وما علمه بعد ان استقضي أو راه بمصره قضى في ذلك بعلمه لأنه في ذلك قاض لا يحتاج ان يضم إليه فيما يقضي به غيره
وهذا القول مأخوذ من اجتماع السلف وجمهورهم على أن ما أقر به المقر عند القاضي وهو قاض يومئذ انه يقضي به
واتفق أبو حنيفة وأصحابه ان القاضي لا يقضي بعلمه في شيء من الحدود لا فيما علمه قبل ولايته ولا فيما (علمه) بعد ذلك ولا فيما راه بمصره ولا بغير مصره
وقال (الشافعي) وأبو ثور حقوق الناس وحقوق الله سواء (في ذلك) والحدود وغيرها في ذلك (سواء) جائز ان يقضي القاضي في ذلك كله بعلمه
وقال مالك وأكثر أصحابه لا يقضي القاضي في شيء من الأشياء بما علمه لا قبل ولايته ولا بعدها ولا يقضي القاضي الا بالبينات أو الاقرار
وبه قال احمد (بن حنبل)
و (هو قول) شريح والشعبي
وفي هذا الحديث أيضا ايجاب الحكم بالظاهر دون اعمال الظن والاستحسان الا ترى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه صاحبه واحلفهما بايمان اللعان ولم يلتفت إلى (غير) ذلك وكانت المراة حاملا فقال صلى الله عليه وسلم ان جاءت بالولد على صفة كذا وكذا فهو للزوج وان جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فلم يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك لان الشبه قد ينتزع (عنه) وقد لا ينتزع بل امضى حكم الله فيما بعد ان سمع منها ولم يعرج على الظن ولا أوجب بالشبهة
95
حكما ولا رد به قضاء سلف منه مجتهدا فيه على ما أوجبه (الظاهر)
واما قوله صلى الله عليه وسلم (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار) ففيه بيان واضح بان قضاء القاضي بالظاهر الذي يعتد (به) لا يحل حراما في الباطن على من علمه
واجمع العلماء (على) ان ذلك في الأموال صحيح كما وصفنا لقول الله عز وجل * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) * [البقرة 188]
واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقدها بظاهر ما يقضي به الحكم (وهو خلاف الباطن) فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي واحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وجمهور العلماء الأموال والفروج في ذلك سواء وهي حقوق كلها لا يحل منها القضاء الظاهر ما هو حرام في الباطن لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار) ولم يخص حقا من حق
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وكثير من أصحابنا انما ذلك في الأموال
وقالوا في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل انه طلق امرأته فقبل القاضي بشهادتهما بظاهر عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب ففرق القاضي بشهادتهما بين الرجل وامرأته ثم اعتدت المراة انه جائز لاحد الشاهدين ان يتزوجها فإنه عالم بأنه كان من شهادته كاذبا
(وهو قول الشعبي) لأنها لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء لان قضاء القاضي (وحكمه) فرق بينها وبين زوجها وانقطعت عصمتها منه ولولا ذلك ما حلت لزوج غيره
(واحتجوا بحكم اللعان) وقالوا معلوم ان الزوجة انما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه ما فرق بينها وبين زوجها ولا حكم فيها بغير ذلك من وجوب الحد عليها (الجلد) أو الرجم
قالوا فلم يدخل هذا في معنى (قول) النبي صلى الله عليه وسلم (من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه)
قالوا الا ترى ان من شهد عليه بالنكاح أو بالطلاق وقضى القاضي (عليه) بذلك لم يكن له الامتناع منه وجاز الحكم بشهادة الشهود عليه ولزمه التسليم له
96
وكانت فرقته بالظاهر فرقة عامة فلما كان ذلك كذلك دخل عليه الشاهد وغيره ولهم في ذلك كلام يطول (ذكره في ذلك) أكثره لا يصح وليس هذا موضعه
والصحيح في ذلك ما ذهب إليه مالك والشافعي (وجمهور) فقهاء المسلمين انه لا يحل للشاهد بالزور ان يتزوجها وهو عالم بان زوجها لم يطلقها وكذلك غيره إذا علم لم يحل له وبالله التوفيق
1385 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي فرأى عمر ان الحق لليهودي فقضى له فقال له اليهودي والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ثم قال وما يدريك فقال له اليهودي انا نجد انه ليس قاض يقضي بالحق الا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه
قال أبو عمر انما ضرب عمر اليهودي - والله أعلم - لأنه كره مدحه وتزكيته لحكمه (في وجهه)
واما جواب اليهودي له بعد ضربه إياه فقوله له وما يدريك فليس عندي بجواب لقوله وما يدريك والله أعلم
ولكن اليهودي لما علم أن عمر كره مدحه له اخبره أنه يجد في كتبه ان الله تعالى ذكره يعين القاضي على الحق ويسدد له ويوفقه لاصابته إذا اراده وقصده ومن عونه له ان يأمر الملكين عن يمينه وعن شماله لتسديده وهذا كله ترغيب وندب للحاكم ان القضاء بالحق على ما ترجم به مالك (الباب) والله الموفق للصواب
وروى بن عيينة هذا الخبر عن يحيى عن سعيد بن المسيب ان عمر اختصم إليه مسلم ويهودي فرأى ان الحق لليهودي فقضى له فقال اليهودي (والله) ان الملكين جبريل ومكائيل ليتكلمان بلسانك وانهما عن يمينك وشمالك فضربه عمر بالدرة وقال (له) لا أم لك ما يدريك قال إنهما مع كل قاض يقضي بالحق ما دام مع الحق فإذا ترك الحق عرجا وتركاه
فقال عمر والله ما أراك أبعدت
97
وفي هذا الحديث من الفقه ان المسلم والكافر والذمي في الحكم بينهما والقضاء كالمسلمين سواء
وفيه كراهية المدح في الوجه (الا من أدب فافعله فلا حرج عليك وان الذي يرضى بان يمدح في وجهه) ضعيف الرأي
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سمع رجلا يمدح رجلا فقال له (اما انك لو صنعته لقطعت ظهره) (1)
وروي عنه أنه قال (المدح في الوجه هو الذبح) (2)
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (احثوا في وجوه المداحين التراب) (3)
وهو حديث صحيح من حديث المقداد بن الأسود
وهذا عندهم في المواجهة وفيه ترك الرد على أهل الكتاب فيما يخبرون به عن كتابهم (فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) لئلا يصدق بباطل أو يكذب بحق
قال صلى الله عليه وسلم (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) (4)
وقد فسر الشافعي معنى هذا الحديث بما قد (ذكرته) في غير هذا الموضع
حدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم (بن اصبغ) قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر (بن أبي شيبة) قال حدثني وكيع قال حدثني إسرائيل عن عبد الأعلى التغلبي عن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سال القضاء وكل إلى نفسه ومن يجبر عليه نزل عليه ملك يسدده
98
قال أبو عمر روى بن عيينة عن مسعر عن محارب بن دثار قال قال عمر بن الخطاب ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان قضاء القاضي يورث الضغائن بين الناس
وعن أيوب عن بن سيرين قال لم ار شريحا اصلح بين خصمين قط الا امرأة استودعها رجل شيئا ف نقلت متاعها فضاع فاصلح بينهما
وسفيان عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال لان اقضي يوما بالحق أحب إلي من عمل سنة
سفيان عن أبي إسحاق عن الشعبي عن مسروق قال لان اقضي يوما بحق أحب إلي من عمل سنة
سفيان عن أبي إسحاق عن الشعبي عن شريح قال كتب إلي عمر (بن الخطاب - رضي الله عنه) إذا جاءك امر في كتاب الله فاقضي به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن لم تجده في كتاب الله ففيما مضى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تجده فيما مضى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيما قضى به الصالحون وأئمة العدل فإن لم تجد فان شئت ان تجتهد رأيك وان شئت ان تؤامرني ولا أرى مؤامرتك فاني لا اسلم لك والسلام (عليك)
وروى عيسى بن دينار 4 عن بن القاسم (قال) سئل مالك ايجبر الرجل على ولاية القضاء فقال لا الا ان (لا) يوجد منه عوض قيل له ايجبر بالحبس والضرب قال نعم قيل له فالفتيا قال لا يجوز الفتيا الا لمن علم ما اختلف الناس فيه
قيل له اختلاف (أهل) الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (ويعلم) الناسخ والمنسوخ من القران والحديث
وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب العلم والحمد لله كثيرا
((2 - باب ما جاء في الشهادات))
1386 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
99
أبيه عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أبي عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد الجهني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل ان يسألها أو يخبر بشهادته قبل ان يسألها)
قال أبو عمر اختلف على مالك في أبي عمرة هذا في اسناد هذا الحديث فقال فيه يحيى بن يحيى وبن القاسم وأبو مصعب الزهري ومصعب الزبيري (عن أبي عمرة الأنصاري) وقال القعنبي ومعن بن عيسى ويحيى بن بكير (عن بن أبي عمرة)
(وكذلك قال بن وهب وعبد الرزاق عن مالك وسمياه فقالا عن عبد الرحمن بن أبي عمرة) فرفعا الاشكال جودا في ذلك وأصابا
وبعيد ان يروي أبو عمرة الأنصاري (مع كبر سنه) عن زيد بن خالد الجهني واما رواية ابنه عبد الرحمن بن أبي عمرة عنه فغير بعيدة ولا مرفوعة
وعبد الرحمن بن أبي عمرة من خيار التابعين بالمدينة
وقال بن وهب سمعت مالكا يقول في تفسير هذا الحديث انه الرجل تكون عنده الشهادة في الحق يكون للرجل ولا يعلم بذلك قبل فيخبر بشهادته ويرفعها إلى السلطان
قال بن وهب وبلغني عن يحيى بن سعيد أنه قال من دعي لشهادة عنده فعليه ان يجيب إذا علم أنه ينتفع بها الذي يشهد له بها وعليه ان يؤديها (لا يعلم بها صاحبها فليؤدها قبل ان يسال عنها) ومن كانت عنده شهادة فإنه كان يقال من أفضل الشهداء شهادة رجل أداها قبل ان يسألها
قال أبو عمر تفسير مالك لهذا الحديث حسن وتفسير يحيى بن سعيد نحوه وأداء الشهادة بر وخير وقيام بحق فمن بدر إلى ذلك فله الفضل على غيره ممن لم يبدر بها
قال الله عز وجل * (فاستبقوا الخيرات) * [المائدة 48]
ومعلوم انه ربما نسي صاحب الشهادة شهادة فضل معلوما لا يدري اين هو ولا من هو ويخاف ذهاب حقه فإذا اخبره الشاهد العدل بان له شهادة عنده فرج كربه وادخل السرور عليه
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس
100
الله عنه كربة من كرب الآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) (1)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن الحصين وغيره على ما ذكرناه في التمهيد أنه قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يتسمنون ويحبون السمن يعطون الشهادة قبل ان يسألوها) (2)
وهذا ليس بمعارض لحديث مالك في هذا الباب
وقد فسر (إبراهيم) النخعي هذا الحديث فقال فيه كلاما معناه ان الشهادة ها هنا اليمين أي يحلف أحدهما قبل ان يستحلف ويحلف حيث لا تراد منه يمين
واليمين قد تسمى شهادة قال الله تعالى (ذكره) * (أربع شهادات بالله) * [النور 6 و 8] أي اربع ايمان
1387 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق فقال لقد جئتك لامر ما له راس ولا ذنب (3) فقال عمر ما هو قال شهادات الزور ظهرت بأرضنا فقال عمر أو قد كان ذلك قال نعم فقال عمر والله لا يؤسر (4) رجل في الاسلام بغير العدول (5)
قال أبو عمر اما شاهد الزور فقد جاء فيه ما يطول ذكره
من ذلك ما ذكره البزار عن عباد بن يعقوب عن محمد بن فرات عن محارب بن دثار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (شاهد الزور لا (تزول) قدماه عن موضعه الذي شهد فيه حتى يتبوا مقعده من النار
101
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث خريم بن فاتك وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عدلت شهادة الزور بالشرك بالله وقرا * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) * [الحج 30] (1)
واجمع العلماء ان شهادة الزور من الكبائر
1388 - مالك انه بلغه ان عمر بن الخطاب قال لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين (2)
قال أبو عمر حديث ربيعة هذا عن عمر وان كان منقطعا فقد قلنا إن أكثر العلماء من السلف قبلوا المرسل من أحاديث العدول
وقد وجدنا خبر ربيعة هذا من حديث (المسعودي) عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال عمر بن الخطاب لا يؤسر رجل في الاسلام يشهد الزور
ومعنى يؤسر أي يحبس لنفوذ القضاء عليه
فهذا الحديث عن عمر عند المدنيين والكوفيين (والبصريين)
والمسعودي هذا هو من ثقات محدثي الكوفة وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود يقولون إنه كان اعلم الناس بعلم بن مسعود واختلط في اخر عمره وروى عن جماعة من جلة أهل الكوفة منهم الحكم بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن مدرك وروى عنه جماعة منهم شعبة والثوري ووكيع وأبو نعيم واخوه أبو العميس واسمه عتبة بن عبد الله بن مسعود (ثقة) أيضا
وحديث ربيعة هذا يدل على أن عمر رجع عن قوله ومذهبه الذي كتب به إلى أبي موسى وغيره من عماله (وهو خبر لا يأتي الا عن أهل البصرة نخرجه عنهم وهو قوله) (المسلمون عدول بينهم) أو قال (عدول بعضهم على بعض الا خصما أو ظنينا)
وقد كان الحسن البصري وغيره يذهب إلى هذا من قول عمر فيقبل شهادة كل مسلم على ظاهر دينه ويقول للمشهود عليه دونك فتخرج ان وجدت من يشهد لك فاني قد قبلتهم فيما شهدوا به عليك
102
وهذا المذهب عن عمر مشهور
قرأت على أبي عبد الله - محمد بن إبراهيم - حدثكم محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب قال حدثنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار قال سمعت أبي يقول حدثني فضيل بن عبد الوهاب قال حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه - أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري اعلموا ان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فالفهم الفهم إذا اختصم إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له اس بين الناس في وجهك حتى لا ييأس ضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في جورك والمسلمون عدول بعضهم على بعض الا خصما أو ظنينا متهما ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم راجعت فيه نفسك غدا ان تعود إلى الحق فان الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل واعلم أنه من تزين للناس بغير ما يعلم الله شانه الله ولا يضيع عامل الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وجزاء رحمته (1)
وأخبرنا عبد الوارث قال حدثني القاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن أبي عمر العدني قال حدثني سفيان عن إدريس بن يزيد الأودي عن سعيد بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن أبيه (قال كتب عمر بن الخطاب (إلى أبي موسى الأشعري) اما بعد فان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا اولي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له اس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ليس في كتاب ولا سنة ثم قس الأمور بعضها ببعض ثم انظر أشبهها بالحق وأحبها إلى الله تعالى فاعمل به ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك ان تراجع الحق فان الحق قديم لا يبطله شيء وان مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فان احضر بينته إلى ذلك اخذت له حقه والا أوجبت عليه القضاء فإنه أبلغ للعذر واجلى للعمى
الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما والناس عدول بعضهم على بعض الا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة فان الله قد تولى منكم السرائر ودفع عليكم بالبينات ثم إياك
103
والقلق والضجر والتاذي بالناس والتنكر للخصوم التي يرى الله فيها الاجر ويحسن فيها الذكر فمن خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غيره شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام عليك ورحمة الله
وهذا الخبر روي عن عمر (بن الخطاب - رضي الله عنه) من وجوه (كثيرة) من رواية أهل الحجاز وأهل العراق وأهل الشام ومصر والحمد لله
قال أبو عمر قد كان الليث بن سعد يذهب نحو مذهب الحسن
قال الليث أدركت الناس لا يلتمس من (الشاهد) تزكية انما كان الوالي يقول للخصم إذا كان عندك من تجرح شهادتهم (فات بهم والا أجزنا شهادتهم) عليك
قال أبو عمر في قول الله عز وجل * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * [الطلاق 2] وقوله * (ممن ترضون من الشهداء) * [البقرة 282] دليل على أنه لا يجوز ان يقبل الا العدل الرضي وان من جهلت عدالته لم تجز شهادته حتى تعلم الصفة (المشترطة)
وقد اتفقوا في الحدود والقصاص وكذلك كل شهادة وبالله التوفيق
واختلف الفقهاء في (المسالة عن) الشهود الذين لا يعرفهم القاضي
فقال مالك لا يقضي (القاضي) بشهادتهم حتى يسال عنهم في السر
وقال الشافعي يسال عنهم في السر فإذا عدلوا سال عن تعديلهم علانية ليعلم المعدل سرا أحق ذاك أم لا لأنه وافق اسم اسما ونسب نسبا
وقال أبو حنيفة لا يسال عن الشهود (في السر) الا ان يطعن فيهم الخصم الا في الحدود والقصاص
وقال أبو يوسف يسال عنهم في السر والعلانية ويزكيهم في العلانية وان لم يطعن عليهم الخصم
وروي عن علي بن عاصم عن بن شبرمة قال أول من سال في السر إذا كان الرجل يأتي بالقوم إذا قيل له هات من يزكيك فيستحي القوم منه فيزكونه فلما رايت ذلك في السر فإذا صحت شهادته قلت هات من يزكيك في العلانية
104
((3 - باب القضاء في شهادة المحدود))
1389 - مالك انه بلغه عن سليمان بن يسار وغيره انهم سئلوا عن رجل جلد الحد أتجوز شهادته فقالوا نعم إذا ظهرت منه التوبة
مالك انه سمع بن شهاب يسال عن ذلك فقال مثل ما قال سليمان بن يسار
قال مالك وذلك الامر عندنا وذلك لقول الله تبارك وتعالى * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) * [النور 4 5]
قال مالك فالامر الذي لا اختلاف فيه عندنا ان الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر هذا يدل على أنه قد سمع الاختلاف في هذه المسالة
قال أبو عمر ذهب بن وهب في (موطئه) إلى ما ذكره مالك على حسب ما ذكرته هنا ثم قال أخبرني مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه عن سليمان بن يسار وبن قسيط مثله في شهادة المفتري فدل ما ذكره بن وهب على أن مالكا اخذه بذلك والله أعلم - عن مخرمة بن بكير انه من كتب أبيه بكير وقد كان مالك يستعيرها منه كثيرا ويقول كان بكير من علماء الناس
قال بن وهب واخبرني مالك والليث ويونس عن بن شهاب بمثله - يعني ما ذكره مالك عنه
قال واخبرني الليث انه سال يحيى بن سعيد وربيعة عن المحدود إذا تاب أتجوز شهاداته فقالا إذا تاب جازت شهادته
قال واخبرني الليث عن توبه بن نمر الحضرمي القاضي بمصر كان يرد شهادة القذف وان تاب
قال الليث فذكرت ذلك ليحيى بن سعيد وبن شهاب وربيعة فكلهم رأى ان من تاب من الحدود كلها جازت شهادته
قال الليث وهو أحب إلي
قال بن وهب وحدثني خالد بن يزيد عن بن قسيط أنه قال شهادة الزاني
105
والسارق جائزة وان أقيم عليهما الحد إذا رأي منهما اقبال على الخير وتوبة حسنة
قال أبو عمر قال مالك ان أحسن ما سمع في شهادة المحدود والمحدود في القذف وسائر الحدود عنده سواء - تقبل شهادته إذا تاب وحسنت توبته
وقد تقدم من قوله انه لا اختلاف فيه عندهم
وقال الشافعي لا اعلم خلافا بين أهل الحرمين في أن القاذف إذا تاب قبلت شهاته
قال أبو عمر قول مالك ها هنا في شهادة المحدود انها تقبل إذا تاب - معناه عنده في المشهور من مذهبه انه لا تقبل فيما حد فيه - قذفا كان أو غيره - وتقبل فيما سوى ذلك إذا كان عدلا وحسنت حالته
هذه رواية بن القاسم وغيره عنه
وهو قول بن الماجشون ومطرف وسحنون لأنه يتهم في ذلك
وروى عنه بن نافع انه إذا حسنت حالته قبلت شهادته في كل شيء
وبه قال بن نافع وبن كنانة
وذكره بن عبد الحكم عن مالك
وبه يقول سائر أئمة الفتيا ان الحدود إذا تاب قبلت شهادته في كل ما شهد به
وممن قال إن القاذف إذا تاب وأصلح قبلت شهادته بن عباس وعطاء
ورواية عن بن جبير ذكرها بن المبارك عن يعقوب عن محمد بن زيد عنه قال تجوز شهادة القاذف إذا تاب
ورواية عن مجاهد ذكر الشافعي قال حدثني إسماعيل بن علية عن بن أبي نجيح في القاذف إذا تاب قبلت شهادته
وقال كلنا نقوله قلت من قال عطاء وطاوس ومجاهد
ورواية عن عكرمة رواها يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد عن عكرمة انه كان يقول في القاذف إذا تاب قبلت شهادته
وهو قول عمر بن عبد العزيز وبه يقضي ويكتب إلى البلدان
وقال به من أهل العراق مسروق وعبد الله بن عتبة والشعبي ومحارب بن دثار
واليه ذهب مالك والشافعي وأصحابهما واحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور
106
واختلف القائلون بهذه المقالة في توبة القاذف إذا حد ما هي فقال مالك إذا تاب وأصلح وحسنت حالة قبلت شهادته اكذب نفسه أو لم يكذب
وقال الشافعي توبته ان يكذب نفسه بلسانه كما كان القذف بلسانه
وكذلك المرتد كان كفره بلسانه فلا تقبل توبته الا بالايمان حتى ينطق بها بلسانه
وقال إسماعيل بن إسحاق انما تفترق توبة المحدود في القذف وتوبة غيره من المحدودين ان توبة القاذف لا تكون حتى يكذب نفسه واكذابه كلام يتكلم به وإذا تكلم به
وأصلح في حاله قبلت شهادته وليس سائر المحدودين كذلك
قال أبو عمر قول إسماعيل هذا كقول الشافعي (سواء)
وهو قول عمر (بن الخطاب) في جماعة الصحابة من غير نكير
وروى (سفيان) بن عيينة عن الزهري عن (سعيد) بن المسيب عن عمر (بن الخطاب - رضي الله عنه) - أنه قال لأبي بكرة ان تبت قبلت شهادتك فأبى أبو بكرة ان يكذب نفسه
وروى (محمد) بن إسحاق عن الزهري عن (سعيد) بن المسيب ان عمر (بن الخطاب) جلد ابا بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد
فاما هذان فتابا وقبل عمر شهادتهما واستتاب ابا بكرة فأبى واقام على قوله فلم يقبل شهادته وكان أفضل القوم
وروى الزهري وإبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب قال شهد على المغيرة ثلاثة رجال ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته حتى مات
قال إبراهيم بن ميسرة في حديثه وكان قد عاد مثل النصل من العبادة
وفي حديث الزهري قال وكان أبو بكرة أخا زياد لامه فلما كان من امره ما كان حلف أبو بكرة الا يكلمه ابدا فلم يكلمه حتى مات
قال الزهري توبته ان يكذب نفسه
ذكر الخبر عبد الرزاق (1) عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب (وعن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب
107
وروى بن وهب عن يونس بن يزيد عن بن شهاب قال وقد أجاز عمر شهادة من تاب من الذين شهدوا على المغيرة وأبطل شهادة من لم يتب
وممن قال إن توبة القاذف إذا جلد ان يكذب نفسه طاوس وعطاء و (سعيد) بن المسيب والشعبي و (بن شهاب) الزهري
قال معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال توبته ان يكذب نفسه
وقاله الزهري
(وبه قال) احمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد
وقال (سفيان) الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العراق لا تقبل شهادة القاذف ابدا تاب أو لم يتب لقول الله تعالى * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) * [النور 4]
وقالوا توبته فيما بينه وبين ربه
والاستثناء عندهم في قوله * (إلا الذين تابوا) * [آل عمران 89] راجع إلى قوله * (فإن الله غفور رحيم) * [آل عمران 89] لا إلى قبول الشهادة
وممن قال لا تقبل شهادة القاذف المجلود ابدا شريح القاضي
روي ذلك عنه من وجوه وبه قال (إبراهيم) النخعي وحماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة ومعاوية بن قرة ومكحول
ورواية عن سعيد (بن المسيب والحسن رواها حماد بن سلمة عن قتادة عنهما
وما تقدم) عن سعيد من رواية الزهري وإبراهيم بن ميسرة أثبت والله أعلم
وقد روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة [عن الحسن قال لا تقبل شهادة القاذف ابدا وتوبته فيما بينه وبين ربه
ورواية] عن عكرمة خلاف ما تقدم عنه رواها يعلى بن حكيم (عنه)
ورواية عن (بن شهاب) الزهري رواها بن وهب عن يونس (عن بن شهاب) قال إذا جلد قاذف الحر أو الحرة لم تقبل (له شهادة حتى يموت
وقد يحتمل قول بن شهاب ان يكون أراد لم تقبل شهادته ابدا) حتى يكذب نفسه لا ينفعه غير ذلك من حاله وبهذا تتفق الروايات عنه لان الثقات قد نصوا عنه انه لا تقبل له شهادة حتى يكذب نفسه وقد
108
روي في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (لا تجوز شهادة محدود ولا محدودة في الاسلام) (1)
وقد روي هذا الحديث مرفوعا لكنه لم يرفعه من روايته حجة
وذكر أبو يحيى الساجي قال حدثني محمد بن المثنى قال حدثني الوليد عن الأوزاعي وبن جابر وسعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال الحر إذا جلد الحد في الفرية لم تقبل شهادته ابدا والعبد إذا جلد حدا في فرية على حر أو حرة لم تقبل شهادته ابدا [لقول الله تعالى * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * [النور 4]
قال فاما اليهودي والنصراني إذا جلدا حد الفرية [على الحر المسلم] ثم اسلما قبلت شهادتهما
واختلفوا في شهادة القذف إذا شهد قبل ان يجلد
فروى بن وهب وغيره عن مالك انه تقبل شهادته ما لم يجلد
وبه قال بن القاسم واشهب
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
قال أبو عمر لأنه على أصل عدالته وربما أقام البينة بما قال أو اعترف له مقذوفه وهو حق لا يجب الا حين يطلبه صاحبه فلا وجه لاسقاط شهادته والله أعلم
وقال الليث والشافعي وأصحابه وهو قول عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون لا تقبل شهادة القذف قبل الجلد ولا بعده إذا قذف حرا مسلما الا ان يتوب
قال بن وهب سمعت الليث بن سعد يسال عن القاذف يشهد قبل ان يضرب الحد هل تجوز شهادته فقال إذا قذف لم تقبل له شهادة حتى يتوب (ضرب) الحد أو عفي عنه ذلك سواء
قال بن وهب وخالفه مالك فقال شهادته جائزة ما لم يضرب الحد فان ضرب سقطت شهادته حتى يتوب توبة ظاهرة
قال الشافعي هو قبل ان يحد شر منه بعد لان الحدود كفارات فكيف تقبل شهادته في شر حالتيه وترد في (أحسن حالتيه
109
قال أبو عمر انما جعل الله الذين يرمون المحصنات فاسقين برميهم لهن لا بجلدهم والمحصنون في حكم المحصنات باجماع (وكذلك) وكل مؤمن محمول على العفاف حتى يصح غيره وقذف المؤمن من الكبائر فمن قذفه سقطت شهادته حتى تصح براءته والله أعلم وبالله التوفيق
((4 - باب القضاء باليمين مع الشاهد))
1389 م - مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد
قال أبو عمر هكذا هذا الحديث في الموطأ مرسل عند جميع (الرواة)
وقد رواه عن جعفر بن محمد مسندا جماعة ثقات منهم (عبيد الله) بن عمر وعبد الوهاب (بن عبد المجيد) الثقفي ومحمد بن عبد الرحمن بن رداد المدني ويحيى بن سليم الطائفي وإبراهيم بن أبي حية كل هؤلاء رووه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد
[ورواه (سفيان بن عيينة) عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا كما رواه مالك]
ورواه بن عيينة أيضا عن خالد بن أبي كريمة سمع أبا جعفر - محمد بن علي بن حسين - يقول قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة الشاهد ويمين المدعي
[وكذلك رواه الحكم بن عتيبة وعمر بن دينار جميعا عن محمد بن علي مرسلا
وفي اليمين مع الشاهد (اثار) مرفوعة حسان أصحها حديث بن عباس رواة كلها ثقات اثبات رواه سيف بن سليمان المكي عن قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى] باليمين مع الشاهد
وقد ذكرناه من طرق عن سيف بن سليمان في (التمهيد)
وقال يحيى القطان سيف بن سليمان ثبت ما رايت احفظ منه
110
وقال [أحمد بن شعيب] النسائي اسناد حديث بن عباس في اليمين مع الشاهد اسناد جيد وقيس ثقة
وخرجة مسلم ولم يذكره البخاري
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد من حديث أبي هريرة وحديث زيد بن ثابت الا ان حديث أبي هريرة أكثر طرقا وأصح نقلا وحديث زيد بن ثابت وهم من زهير بن محمد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد أيضا من حديث سعد بن عبادة [ومن حديث عمرو بن حزم وحديث سعد بن عبادة] أكثر تواترا
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
وروي أيضا من حديث رجل من الصحابة يقال له سرق عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد
وكلها لها طرق متواترة وقد ذكرناها بأسانيدها في (التمهيد) والحمد لله كثيرا
وروي عن جماعة من الصحابة انهم قضوا باليمين مع الشاهد [ولم يرو عن أحد منهم انه كره ذلك
وروي عن جماعة من التابعين القضاء باليمين مع الشاهد] منهم الفقهاء السبعة المدنيون وأبو سلمة وسالم [بن عبد الله بن عبد الرحمن] وعلي بن حسين وأبو جعفر - محمد بن علي وعمر بن عبد العزيز
وهو قول جمهور العلماء بالمدينة
والى ذلك ذهب مالك والشافعي وأصحابهما
وبه قال احمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وداود بن علي
لم يختلف عن مالك ولا عن أحد من أصحابه في ذلك وله احتج مالك في موطئه ولم يحتج فيه بمسالة غيرها كاحتجاجه لها ولا يعرف من مذهب المالكيين غير ذلك الا عندنا بالأندلس فان يحيى بن يحيى تركه وزعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يذهب إليه
وكان مالك - رحمه الله - يقول يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان ويحملون عليه
111
قال ولا يقضى بالعهدة في الرقيق الا بالمدينة أو بين قوم يشترطونها بينهم في سائر الآفاق
وروى أبو ثابت عن بن نافع قال سئل مالك عن شهادة الرجل مع يمين صاحب الحق أترى ان يحمل الناس عليه بكل البلاد قال نعم
وقال بن القاسم من أقام شاهدين على الغريم واقام اخر عليه شاهدا ويمينا فهما سواء في أسوة الغرماء
قال أبو عمر قد كان جماعة من جلة العلماء يفتون ويقضون باليمين مع الشاهد اتباعا للسنة في ذلك
روى حماد بن زيد عن أيوب عن [محمد] بن سيرين ان شريحا أجاز شهادة رجل واحد مع يمين الطالب
قال حماد وحدثني عبد المجيد بن وهب قال شهدت يحيى بن يعمر قضى بذلك
وروى هشيم قال أخبرنا حصين عن عبد الله بن عتبة مثله
[وروى محمد بن عبد الله الأنصاري عن الأشعث عن الحسن مثله]
وروى حماد بن زيد عن خالد ان اياس بن معاوية أجاز شهادة عاصم الجحدري وحده - يعني - مع يمين الطالب
وروى هشيم قال أخبرنا المغيرة عن الشعبي قال أهل المدينة يقولون شهادة الشاهدة ويمين الطالب ونحن لا نقول ذلك
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي لا يقضى باليمين مع الشاهد الواحد [في شيء من الأشياء]
وهو قول إبراهيم والحكم [بن عتيبة] وعطاء
واختلف فيه عن الزهري فروي عنه انه إذا ولي القضاء قضى به والأشهر (عنه) رده
قال معمر سالت الزهري (عن اليمين مع الشاهد) فقال هذا شيء أحدثه الناس لا بد من شاهدين
هذه رواية عبد الرزاق عن معمر
وقد حدثني خلف (بن قاسم
112
قال حدثني (بن) المفسر - أبو احمد - بمصر قال حدثني أحمد بن علي بن سعيد قال حدثني يحيى بن معين قال حدثني هشام بن (يوسف) عن معمر عن الزهري قال أدركت العلماء وهم (لا) يجيزون (الا) شهادة عدلين ثم اخذت الناس شهادة رجل واحد (ويمين صاحب الحق
قال معمر وسمعته يقول لا تجوز شهادة رجل واحد مع يمين)
وقال عطاء أول من قضى به عبد الملك بن مروان
وقال محمد بن الحسن يفسخ القاضي القضاء به لأنه خلاف القران
قال أبو عمر هذا جهل وعناد وكيف يكون خلاف القرآن وهو زيادة بيان
كنحو نكاح المراة على عمتها وعلى خالتها مع قوله عز وجل * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * [النساء 24]
مثل ذلك المسح على الخفين مع ما ورد به القران من مسح الرجلين أو غسلهما
وكتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع مع قوله تعالى " قل لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه " الآية [الانعام 145]
وكذلك ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمين مع الشاهد مع قوله تعالى * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * [البقرة 282]
بل هذا بين واضح لان قوله عز وجل * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * [البقرة 282]
ليس فيه دليل على أنه لا يجوز القضاء بغير ذلك لان القضاء باليمين مع الشاهد لا يمنع القضاء بالشهيدين وبالرجل والمرأتين بل كل ذلك من حكم (الله عز وجل) وشريعة دينه (في كتابه) وعلى سنة نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم
وقد اجمع العلماء على القضاء باقرار المدعى عليه وليس ذلك في الآية
والذين يرفعون اليمين مع الشاهد يقضون بنكول المدعى عليه مع اليمين وليس ذلك في الآية ويقضون معاقد القمط وانصاف اللبن والجزوع الموضوعة في الحيطان وليس ذلك ولا شيء منه في محكم القران
فاليمين مع الشاهد أولى بذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به وسنة لامته
ومن حجة أبي حنيفة وأصحابه ان قالوا (اليمين) انما جعلت للنفي لا للاثبات وانما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم على المدعى عليه لا على المدعي
113
فالجواب عن ذلك ان الوجه الذي منه علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه من مثله (علمنا) انه قضى باليمين مع الشاهد وفيه الأسوة الحسنة
1390 - مالك عن أبي الزناد ان عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة ان اقض باليمين مع الشاهد
1391 - مالك انه بلغه ان أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد فقالا نعم
واما قول مالك في هذا الباب ومن الناس من يقول لا يكون اليمين مع الشاهد ويحتج بقول الله تعالى * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * [البقرة 282] فلا يحلف أحد مع شاهده
قال مالك فمن الحجة على من قال ذلك ان يقال (له) أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه فان حلف بطل ذلك عنه وان نكل عن اليمين حلف صاحب الحق ان حقه لحق وثبت حقه على صاحبه)
فهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من (الناس) ولا ببلد من البلدان إلى اخر الباب
قال أبو عمر ليس في قول الله عز وجل * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * ما يقضي على الا يحكم الا بهذا بل المعنى فيه ان يحكم بهذا وبكل ما يجب الحكم به من الكتاب والسنة
وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء باليمين مع الشاهد فكان زيادة بيان على ما وصفنا
واما قوله (وهذا ما لا خلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان) فقد ظهر من علم مالك باختلاف من قضى قبله ما يوجب ان لا يظن أحد به جهل مذهب الكوفيين في الحكم بالنكول دون رد يمين وانما أراد - والله أعلم - ان من قال إذا نكل المدعى عليه عن اليمين حكم عليه بالحق للمدعي وكان أحرى ان
114
يحكم عليه بالنكول ويمين الطالب لأنها زيادة على مذهبه كما لو قال قائل ان العلماء قد اجمعوا على أن مدين تجزئ في كفارة اليمين كان قولا صحيحا لان من قال يجزئ المد كان احرى ان يجزئ عنه المدان
هذا ما أراد والله أعلم
[اما اختلافهم في الحكم بالنكول]
فقال مالك وأصحابه إذا نكل المدعي عليه عن اليمين حلف المدعي وان لم يدع المطلوب إلى يمين ولا يقضى له بشيء حتى يحلف
وهو قول الشافعي لأنه لا يقضي على الناكل عن اليمين بحق الطالب الا ان يحلف الطالب
وقال الشافعي ولو رد المدعى عليه اليمين على الطالب فقلت له احلف ثم بدا للمدعى عليه فقال انا احلف لم اجعل ذلك له لأني قد أبطلت ان يحلف وجعلت اليمين قبله
قال أبو عمر من رأى رد اليمين في الأموال حديث القسامة لان رسول الله رد فيها اليمين على اليهود إذ أبى الأنصار منها وليس بالأموال أعظم حرمة من الدماء
وهو قول الحجازيين وطائفة من العراقيين وهو الاحتياط لان من لا يوجب رد اليمين لا يبطل الحكم بها مع النكول
وقال بن أبي ليلى إذا (نكل) المدعى عليه انا أرد اليمين عليه رددتها عليه إذا كان يتهم فإن لم يتهم لم أردها عليه
وروي عنه انه يردها بغير تهمة
واما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا إذا نكل المطلوب عن اليمين حكم عليه بالحق للمدعي ولا ترد اليمين على المدعى
ومن حجة من ذهب إلى هذا ان عبد الله بن عمر إذا نكل عن اليمين في عيب الغلام للذي باعة قضى عليه عثمان بالنكول وقضى هو على نفسه بذلك
وهذا لا حجة فيه لان بن عمر يحتمل فعله انه لما أوجب عليه عثمان اليمين لقد باع الغلام وما به اذى يعلمه كره اليمين فاسترجع العبد فكأنه اقاله فيه كراهية لليمين وليس في الحديث تصريح بالحكم بالنكول
واحتج من ذهب مذهب الكوفيين في ذلك بحديث بن أبي مليكة عن بن
115
عباس انه جاوبه في المراتين ادعت إحداهما على الأخرى انها أصابت يدها باشفى (1) وأنكرت فكتب إليه بن عباس ان ادعها واقرأ عليها * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية [آل عمران 77] فان حلفت فخل عنها وان لم تحلف فضمنها
قال أبو عمر الاستدلال من الحديث المسند أولى وبالله التوفيق لا شريك له
ومن حجتهم أيضا ان النبي جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (2) لا سبيل إلى نقل البينة إلى المدعى عليه ولا إلى نقل اليمين إلى المدعي
قال أبو عمر هذا لا يلزم لان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سن رد اليمين على المدعي في القسامة
واستعمال النصوص أولى من تأويل لم يتابع صاحبه عليه وهذا قياس صحيح وهو أصلهم جميعا في القول بالقياس
قال مالك (3) مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه فان نكل وأبى يحلف احلف المطلوب فان حلف سقط عنه ذلك الحق وان أبى ان يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه
قال مالك وانما يكون ذلك في الأموال خاصة ولا يقع ذلك في شيء من الحدود ولا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاقة ولا في سرقة ولا في فرية
قال أبو عمر هكذا قال عمرو بن دينار وهي رواية حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد قال عمرو وذلك في الأموال
واجمع القائلون باليمين مع الشاهد من الحجازيين وغيرهم بأنه لا يقضي فيه بشهادة النساء مع الرجال دون ما عداها على ما ذكره مالك رحمه الله
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قراءة مني عليه قال حدثني الميمون بن حمزة قال حدثني الطحاوي قال حدثني المزني قال حدثني الشافعي وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني عبد الرحمن بن يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد
116
قالا حدثني عبد الله بن الحارث قال حدثني سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن بن عباس ان رسول الله قضى باليمين مع الشاهد
قال عمرو في الأموال خاصة
وحدثني إبراهيم بن شاكر ومحمد بن إبراهيم قالا أخبرنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب قال حدثني أحمد بن عمرو بن الخالق البزار قال حدثني عبدة بن عبد الله ورزق الله بن موسى قالا حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد
قال عمرو بن دينار في الأموال خاصة
قال البزاز سيف بن سليمان وقيس بن سعد ثقتان ومن بعدهما يستغنى عن ذكرهما لشهرتهما في الثقة والعدالة كثيرا
قال أبو عمر روى هذا الحديث عن سيف بن سليمان جماعة
وعن زيد بن الحباب جماعة منهم أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء والحسن بن شاذان
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في (التمهيد)
وذكره عبد الرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد
قال أبو عمر رأى مالك رحمه الله - ان يحلف الرجل مع شهادة امرأتين في الأموال ويستحق حقه كما يحلف مع الشاهد الواحد فكأنه جعل اليمين مقام الشاهد والمرأتين معه فكأنه قضى برجل وامرأتين
قال الشافعي لا يحلف مع شهادة امرأتين لان شهادة النساء دون الرجال لا تجوز في الأموال وانما يحلف الرجل مع الشاهد الواحد (كما) جاء في الحديث
قال (وفي معنى السنة ان تحلف المراة مع شاهدها كما يحلف الرجل فلو أخذنا شهادة المراتين مع يمينهما كما قد قضينا بخلاف السنة المجتمع عليها في شهادة النساء دون الرجال في الأموال ويلزم من قال هذا ان يجيز أربعا من النساء في الأموال) فاتى في هذا بكلام كثير حسن كله ذكره المزني والربيع عنه
وقال الشافعي (وكل ما كان من الأموال المتنقلة من ملك مالك إلى ملك مالك
117
قضى فيه باليمين مع الشاهد عندهم في طلاق ولا عتق ولا فيما عدا الأموال على ما وصفنا
واما من لا يقول باليمين مع الشاهد فهو أحرى بذلك ولكن الشافعي ومن قال بقوله موجبون اليمين وردها في كل دعوى مال وغير مال طلاقا كان أو عتقا أو نكاحا أو دما الا ان يكون مع مدعي الدم دلالة كدلالة الجاريتين على يهود خيبر فيدعى حينئذ المدعون بالايمان وتكون قسامة وان لم تكن دلالة حلف المدعى عليه كما يحلف فيما سوى الدم
وقول أبي حنيفة في دعوى المراة الطلاق وقول العبد العتق كقول الشافعي يستحلف السيد والزوج لهما الا انه يقضي عليهما بالنكول دون يمين على مذهبهم في ذلك
وقال الشافعي ولو ادعى انه نكح امرأة لم اقبل دعواه حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها فان حلفت برئت وان نكلت حلف وقضى لها بأنها زوجته
واختلف الفقهاء في تحليف زوج المراة المدعية للطلاق وتحليف سيد العبد المدعي للعتق عليه سيده هل تجب اليمين على السيد أو الزوج بمجرد الدعوى من المراة أو العبد أم لا
فقال مالك لا يمين على الزوج ولا على السيد حتى تقيم المراة شاهدا واحدا عدلا بأنه طلقها أو يقيم العبد شاهدا عدلا بأن سيده اعتقه فإذا كان كذلك وجبت اليمين على سيد العبد في دعوى العتق وعلى الرجل لامرأته في دعوى الطلاق
وهذا نحو قوله رحمه الله في الخلطة لأنه لم يوجب يمينا للمدعي على المدعى عليه بمجرد الدعوى حتى تثبت الخلطة بينهما
وقال أبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء (ان اليمين) واجبة على زوج المراة المدعية بالطلاق وعلى سيد العبد المدعي للعتق بمجرد الدعوى ولا تجب عند الشافعي يمين مع شاهد في غير الأموال
واما الكوفيون فلا يقولون باليمين مع الشاهد في الأموال ولا في غيرها على ما تقدم عنهم
واختلف أصحاب مالك في معنى هذه المسألة في الذي شهد عليه شاهد واحد لزوجته انه طلقها أو لعبد انه اعتقه فأبى من اليمين
118
فقال بن القاسم عن مالك يحبس حتى يحلف
قال وقد كان مالك يقول يعتق عليه العبد وتطلق عليه الزوجة إذا أبى ونكل عن اليمين ثم رجع إلى ما قلت لك
وقال بن القاسم ويقول الاخر أقول
وقال اشهب إذا أبى من اليمين طلق عليه واعتق عليه
وعن بن القاسم أيضا قال إذا طال سجنه اطلق ورد إلى زوجته
قال وارى ان الطول في سجنه عام
وقال بن نافع يسجن ويضرب له اجل الايلاء
ولمالك في هذا الباب تنظير مسائل على ما ذهب إليه فيه احتجاجا لمذهبه يرد الاختلاف عليها ومذاهب العلماء فيها في موضعها
إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق
((5 - باب القضاء فيمن هلك وله دين وعليه دين له فيه شاهد واحد))
1392 - مالك في الرجل يهلك وله دين عليه شاهد واحد وعليه دين للناس لهم فيه شاهد واحد فيأبى ورثته ان يحلفوا على حقوقهم مع شاهدهم قال فان الغرماء (1) يحلفون ويأخذون حقوقهم فان فضل فضل لم يكن للورثة منه شيء وذلك أن الايمان عرضت عليهم قبل فتركوها الا ان يقولوا لم نعلم لصاحبنا فضلا ويعلم انهم انما تركوا الايمان من اجل ذلك فاني أرى ان يحلفوا ويأخذوا ما بقي بعد دينه
قال أبو عمر خالفه في هذه المسألة طائفتان
إحداهما من يقول باليمين مع الشاهد
والأخرى الدافعة باليمين مع الشاهد
وهي بذلك أحرى فأما الشافعي فيحلف عنده الوارث مع الشاهد الذي لموروثه على دينه ولا
119
يجوز عنده ان يحلف الغريم ولكن إذا حلف الورثة كان الغرماء أحق بالمال لأنه لا ميراث الا بعد أداء الدين
ذكرالمزني عن الشافعي قال ولو أتى قوم بشاهد واحد أن لأبيهم على فلان حقا أو أن فلانا أوصى لهم فمن حلف منهم مع شاهده استحق موروثه ووصيته دون من لم يحلف وان كان بعضهم غائبا أو صغيرا حلف (الحاضر) البالغ واخذ حقه وإن كان معتوها فهو على حقه حتى يعقل فيحلف أو يموت فيقوم وارثه مقامه يحلف (ويستحق) ولا يستحق أحد بيمين لأخيه لان كلا انما يقوم الميت فيما ورث عنه كما لو كان لرجلين على رجل ألفا درهم وأقاما عليه شاهدا فحلف أحدهما لم يستحق إلا الألف وهي التي يملك ولا يحلف أحد على ملك غيره لان رسول الله صلى الله عليه وسلم انما قضى باليمين لصاحب الحق
قال الشافعي وان كان الورثة بالغين وأبوا ان يحلفوا فان (صاحبنا قال) يحلف غرماء الميت ويأخذون حقوقهم ولا يأخذ من أبى اليمين من الورثة شيئا [الا ان يقولوا فذكر كلام مالك إلى اخره في (الموطأ)
قال الشافعي وهذا مذهب] واحسبه ذهب إلى أن الغريم أحق بالمال من (الورثة) فيحلف ويأخذ حقه
قال الشافعي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لمن أقام شاهدا الحق له على اخر بيمينه واخذ حقه فإنما اعطى باليمين من شهد له بأصل الحق وانما جعلت للوارث اليمين لان الله تعالى نقل ملك الميت إلى الوارث فجعل يقوم فيه مقامه بقدر ما فرض له
قال وليس الموصى له ولا الغريم من الوارث بسبيل الا ترى ان الغريم لا يلزمه من نفقة العبيد الذين تركهم المتوفى شيء وان الغريم لو حلف وطرا للميت مال كان للوارث ان يقضي دين الغريم من غير المال الذي حلف عليه
قال أبو عمر أكثر الشافعي في هذا الباب فنقلت منه ما بالناظر في هذا الكتاب حاجة إليه
وهو قول احمد وإسحاق وأبي ثور
قال مالك وإذا هلك رجل وعليه دين يغترف ماله فأبى الوارث ان يحلف مع الشاهد لم يكن للغريم ان يحلف مع شاهد الميت ويستحق وان حلف الوارث مع الشاهد حكم بالدين ودفع إلى الغريم
120
((6 - باب القضاء في الدعوى))
1393 - مالك عن جميل بن عبد الرحمن المؤذن انه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس فإذا جاءه الرجل يدعي على الرجل حقا نظر فان كانت بينهما مخالطة أو ملابسة احلف الذي ادعي عليه وان لم يكن شيء من ذلك لم يحلفه
قال مالك وعلى ذلك الامر عندنا انه من ادعى على رجل بدعوى نظر فان كانت بينهما مخالطة أو ملابسة أحلف المدعى عليه فان حلف بطل ذلك الحق عنه وان أبى ان يحلف ورد اليمين على المدعي فحلف طالب الحق اخذ حقه
قال أبو عمر قد مضى القول في رد اليمين واختلف الفقهاء في اليمين على المدعي عليه هل تجب بمجرد الدعوى دون خلطة أو ملابسة تكون بين المتداعيين أم لا
فالذي ذهب إليه مالك وأصحابه ما ذكره عمر بن عبد العزيز في (الموطأ) ان اليمين لا تجب (الا) بالخلطة
وهو قول جماعة من علماء المدينة
ذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن اياس بن معاوية عن القاسم بن محمد قال إذا ادعى الرجل الفاجر على الرجل الصالح شيئا يعلم الناس انه فيه كاذب ولا يعلم أنه كان بينهما اخذ ولا اعطاء لم يستحلف
قال وحدثنا بن أبي أويس عن أبي الزناد قال كان عمر بن عبد العزيز يقول انا - والله لا نعطي اليمين كل من طلبها ولا نوجبها الا بشبيه بما يوجب به المال
قال أبو الزناد (يريد بذلك) المخالطة واللطخ والشبه
قال وذلك الامر عندنا
قال أبو عمر المعمول به عندنا ان من عرف بمعاملة الناس مثل التجار بعضهم لبعض ومن نصب نفسه للشراء والبيع من غريب وغيره وعرف به فاليمين عليه بمن ادعى معاملته ومداينته فيما يمكن وما كان بخلاف هذه الحال مثل المراة
121
المشهورة المحتجبة والرجل المستور المنقبض عن مداخلة المدعى عليه وملابسته فلا تجب اليمين عليه الا بخلطة وفي الأصول ان من جاء بما لا يشبه ولا يمكن في الأغلب لم تقبل دعواه
أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثني مضر بن محمد قال حدثني قبيصة بن عقبة قال حدثني (سفيان) الثوري عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال لما أوتي يعقوب بقميص يوسف - عليهما السلام - ولم ير فيه خرقا قال كذبتم لو اكله الذئب لخرق قميصه
وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني مضر بن محمد قال حدثني الفضل بن دكين قال أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي قال كان في قميص يوسف - عليه السلام - ثلاث آيات حين قد قميصه من دبر وحين القي على وجه أبيه فارتد بصيرا وحين جاؤوا بالدم عليه وليس فيه شق علم أنه كذب لأنه لو اكله الذئب لخرق قميصه
ومما يشهد بهذا قوله تعالى * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) * [يوسف 26 27]
وهذا أصل فيما ذكرنا في كل ما يشبهه والله أعلم وبالله التوفيق
وقال بن القاسم لا يستحلف المدعى عليه القصاص ولا الضرب بالسوط وما أشبهه الا ان يأتي بشاهد واحد عدل فيستحلف له كالطلاق والعتق إذا جاءت المراة أو العبد بشاهد (واحد) عدل استحلف الزوج أو السيد ما طلق ولا اعتق
قال أبو عمر قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري واحمد وإسحاق وأبو ثور كل من ادعى حقا على غيره ولم يكن له بينة استحلف المدعى عليه في كل ما يستحق من الحقوق كلها
وحجتهم حديث بن أبي مليكة عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لو أعطي قوم بدعواهم لادعى أقوام دم أقوام وأموالهم ولكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه
122
[ومن رواة هذا الحديث من لا يذكر فيه البينة على المدعي وانما يقول اليمين على المدعى عليه)]
حدثني أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني الحارث بن أبي اسامة ومحمد بن إسماعيل الصائغ قالا حدثني يحيى بن أبي بكير قال حدثني نافع بن عمر - يعني الجمحي - عن بن أبي مليكة قال كتبت إلى بن عباس في امرأتين كانتا تجوزان في البينة وأخرجت إحداهما يدها تشخب دما فقالت أصابتني هذه وأنكرت الأخرى فكتب إلي بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ان اليمين على المدعى عليه وقال (لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى قوم دم قوم وأموالهم) وذكر تمام الخبر
وحدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر
وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم عن سفيان قال حدثني بكير بن حماد قال حدثني مسدد قال حدثني أبو الأخوص عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبني على ارض لي كانت لأبي فقال الكندي هي ارضي في يدي ازرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي (الك بينة) فقال لا قال (فلك يمينه) (1) وذكر تمام الحديث
وليس في شيء من الآثار المسندة ما يدل على اعتبار الخلطة
وقال إسماعيل انما معنى قوله عليه السلام (اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعي) انه لا يقبل قول المدعي فيما يدعيه مع يمينه وان المدعى عليه يقبل قوله [مع يمينه] ان لم يقم عليه بينة لأنه أراد بذلك العموم في كل من ادعي عليه دعوى ان عليه اليمين فجاء - رحمه الله - بعين المحال والى الله ارغب في السلامة على كل حال
واما قوله في حديث وائل بن حجر (الك بينة) ففيه ان الحاكم يبدأ بالمدعي فيساله هل لك بما تدعيه بينه ولا يسال المدعى عليه حتى يسمع ما يقول المدعي وهذا ما لا يختلفون فيه
123
((7 - باب القضاء في شهادة الصبيان))
1394 - مالك عن هشام بن عروة ان عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح
قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا ان شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح ولا تجوز على غيرهم وانما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها لا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل ان يتفرقوا أو يخببوا (1) أو يعلموا فان افترقوا فلا شهادة لهم الا ان يكونوا قد اشهدوا العدول على شهادتهم قبل ان يفترقوا
وذكر أحمد بن المعدل عن عبد الملك قال لم يزل من امر الناس قديما وهو مجتمع عليه من رأي أصحابنا في شهادة الصبيان ان يؤخذ بها ما لم يتفرقوا أو يخببوا
قال عبد الملك ولا تجوز منهم (الا) شهادة اثنين فصاعدا من الذكور أو غلام وجاريتين
قال ولا تكون اليمين مع شهادة الصبيان وانما اليمين مع الشاهد الواحد ولا يجوز من الصبيان واحد
وهذا كله قول بن القاسم أيضا
قال أبو عمر قد ذكرنا اختلاف أصحاب مالك في شهادة الجواري في الجراح وشهادة الصبيان العبيد في ذلك في كتاب اختلافهم واختلاف قول مالك
ولم يختلفوا ان شهادة الصبيان الأحرار جائزة في الجراح إذا لم يحضرهم كبير فان حضر معهم كبير لم تجز شهادتهم عندهم لأنه لا تجوز عندهم شهادة الصبيان حيث يكون الرجال
وقال بن حبيب لا نعلم خلافا ان شهادة الصبيان لا تجوز حيث (يكون الرجال) الكبار العدول
وقاله سحنون وقد روي أنه أجازها
وقال بن القاسم تجوز شهادة الصبيان في القتل والجراح إذا كانوا ذكورا قبل ان يتفرقوا
124
قال سحنون وقال غير واحد من كبار أصحاب مالك لا تجوز شهادتهم في القتل وانما تجوز في الجراح
قال أبو عمر اختلف عن بن الزبير في اجازه شهادة الصبيان والأصح عنه انه كان يجيزها إذا جيء بهم من حال حلول المصيبة ونزول النازلة
واما بن عباس فلم يختلف عنه انه لم يجزها وكان لا يراها شيئا
وروي عن علي - رضي الله عنه - انه كان (يجيز شهادة الصبيان بعضهم على بعض) إذا اتوا في الحال قبل ان يعلمهم أهلوهم ولا يجيزها على الرجال
والطرق عنه بذلك ضعيفة
وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي جعفر محمد بن علي بن حسين وعامر الشعبي وبن أبي ليلى وبن شهاب الزهري وإبراهيم النخعي على اختلاف عنه [الا] انه ليست الروايات عنهم لم تذكر جراحا ولا غيرها الا اجازتها فيما بينهم مطلقة
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وبن شبرمة والثوري لا تجوز شهادة الصبيان في شيء من الأشياء لا في جراح ولا غيرها بحال وان لم يتفرقوا
قالوا وانما امر الله - عز وجل - بشهادة من يرضى وكيف تقبل شهادة من إذا فارق مكانه لم يؤمن عليه ان يعلم ويخبب [ومن لا يرضى الله عليه في الشهادة]
فان قيل إن بن الزبير أجازها قيل له بن عباس ردها والقران يدل على ابطالها
قال أبو عمر من حجة من لم يجزها ولم يرها شيئا ظاهر قول الله - عز وجل * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * [الطلاق 2] وقوله تعالى * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * [البقرة 282] ثم قال تعالى * (ممن ترضون من الشهداء) * [البقرة 282] والصبي ليس بعدل ولا رضي
وقال عز وجل في الشهادة * (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * [البقرة 283] وليس الصبي كذلك لأنه غير مكلف فدل على أنه ليس من أهل الشهادة بنص القران والله المستعان
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني عبد الله بن أبي مليكة انه ارسل إلى بن عباس وهو قاض لابن الزبير يسأله عن شهادة الصبيان فقال لا أرى ان تجوز شهادتهم انما امر الله تعالى ممن يرضى والصبي ليس برضي
125
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن بن أبي مليكة انه كان قاضيا لابن الزبير فأرسل إلى بن عباس يسأله عن شهادة الصبيان فلم يجزها ولم يرها شيئا
قال معمر وسمعت من يقول تكتب شهادتهم ثم تقر حتى يكبر الصبي ثم يوقف عليها فان حفظها جازت
قالت وأخبرنا بن جريج قال زعم إسماعيل بن محمد ويعقوب بن عتبة وصالح ان ليس لمن لم يبلغ الحلم شهادة
وهو قول شريح القاضي والشعبي وبن أبي ليلى على اختلاف عنهم في ذلك
وقول القاسم وسالم ومكحول وعطاء والحسن
وبه قال احمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور والله الموفق
((8 - باب ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى الله عليه وسلم))
1395 - مالك عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عبد الله بن نسطاس عن جابر بن عبد الله الأنصاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حلف على منبري اثما تبوا (1) مقعده من النار)
وهكذا قال مالك هاشم بن هاشم وهو هاشم بن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري روى عنه (مالك) أبو ضمرة - انس بن عياض - ومكي بن إبراهيم وشجاع بن الوليد أبو بدر السكوني
وقد قيل إن هاشم بن هاشم الذي روى عنه مالك هو أبو هاشم بن هاشم
وقد جعلهما أبو حاتم الرازي واحدا فقال (هاشم بن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري روى عن سعيد بن المسيب وعامر بن سعد وعبد الله بن نسطاس روى عنه مالك والدراوردي وأنس بن عياض ومروان الفزاري ومكي بن إبراهيم)
واما عبد الله بن نسطاس فهذلي تابعي ثقة
126
قال مصعب كان أبوه - نسطاس - مولى أبي بن خلف أدرك الجاهلية
وقال بن بكير والقعنبي وبن القاسم وطائفة في هذا الحديث (من حلف على منبري هذا فاليمين أئمة)
والمعنى في ذلك سواء وهو اشتراط الاثم في الوعيد دون (البر)
ومذهبنا في الوعيد كله * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * [النساء 48]
ومثل هذا في الوعيد حديث مالك في هذا الباب أيضا
1396 - عن العلاء بن عبد الرحمن عن معبد بن كعب السلمي عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبي امامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار) قالوا وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال (وان كان قضيبا من أراك وان كان قضيبا من أراك وان كان قضيبا من أراك) (1) قالها ثلاث مرات
وهذا أيضا وعيد شديد عام يدخل فيه اقتطاع الحقوق عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وغير منبره
قال مالك - رحمه الله (على منبري) يريد عند منبري
قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم [(من حلف على منبري)] تخصيص منه لمنبره صلى الله عليه وسلم بذلك الوعيد الشديد وفصل له ثم عمم صلى الله عليه وسلم ما في اقتطاع المرء المسلم بالوعيد أيضا - عصمنا الله ووفقنا لما يرضاه
وقد روى عبد الله بن مسعود والأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا المعنى في اقتطاع مال المسلم ولم يذكر منبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره
وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني وكيع قال حدثني الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقتطع
127
بها مال امرئ مسلم وهو فيها كاذب لقي الله تعالى وهو عليه غضبان) (1)
قال فدخل الأشعث بن قيس فقال ما يحدثكم أبو عبد الرحمن قلنا كذا وكذا قال (صدق) في نزلت كان بيني وبين رجل خصومة في ارض فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (بينتك) فلم تكن لي بينة فقال له (احلف) قلت اذن يحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فنزلت * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك) * الآية [آل عمران 77] (2) ورواه منصور عن أبي وائل [مثله] بمعناه
((9 - باب جامع ما جاء في اليمين على المنبر))
1397 - مالك عن داود بن الحصين انه سمع ابا غطفان بن طريف المري يقول اختصم زيد بن ثابت الأنصاري وبن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين على المنبر فقال زيد بن ثابت احلف له مكاني قال فقال مروان لا والله الا عند مقاطع الحقوق قال فجعل زيد بن ثابت يحلف ان حقه لحق ويأبى ان يحلف على المنبر قال فجعل مروان بن الحكم يعجب من ذلك
قال مالك لا أرى ان يحلف أحد على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة دراهم
قال أبو عمر جملة مذهب مالك في هذا الباب ان اليمين لا تكون عند المنبر من كل جامع ولا في الجامع حيث كان الا في ربع دينار - ثلاثة دراهم فصاعدا أو في عرض يساوي ثلاثة دراهم وما كان دون ذلك حلف فيه في مجلس الحاكم أو حيث شاء من المواضع في السوق وغيرها
128
قال مالك يحلف المسلم في القسامة واللعان وفيما له بال من الحقوق على ربع دينار فصاعدا في جامع بلده في أعظم مواضعه وليس عليه التوجه إلى القبلة
هذه رواية بن القاسم
وروى بن الماجشون عن مالك انه يحلف قائما مستقبل القبلة
قال ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر الا منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط يحلف عنده في ربع دينار فأكثر
قال مالك ومن أبى ان يحلف على المنبر فهو كالناكل عن اليمين ويحلف في ايمان القسامة عند مالك إلى مكة كل من كان من عملها فيحلف بين الركن والمقام [ويحلف في ذلك إلى المدينة من كان من عملها فيحلف عند المنبر]
ومذهب الشافعي في اليمين بين الركن والمقام بمكة وعند منبر النبي - عليه السلام - بالمدينة نحو مذهب مالك الا ان الشافعي لا يرى اليمين عند المنبر بالمدينة ولا بين الركن والمقام بمكة الا في عشرين دينارا فصاعدا
وذكر عن سعيد بن سالم القداح [عن بن جريج] عن عكرمة قال ابصر عبد الرحمن بن عوف قوما يحلفون بين المقام والبيت فقال أعلى دم قيل لا فقال على عظيم من الأموال قالوا لا قال لقد خشيت ان يتهاون الناس بهذا المقام
هكذا رواه الحسن بن محمد الزعفراني عن الشافعي (يتهاون الناس)
ورواه المزني والربيع في كتاب اليمين مع الشاهد فقالا فيه لقد خشيت ان يبها الناس بهذا المقام وهو الصحيح عندهم
ومعنى يبها يأنس الناس به يقال بهات به أي انست به
قال ومنبر النبي - عليه السلام - في التعظيم مثل ذلك لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة تعظيما له
قال الشافعي وبلغني ان عمر بن الخطاب حلف عند المنبر في خصومة كانت بينه وبين رجل وان عثمان ردت عليه اليمين على المنبر فافتدى منها وقال أخاف ان يوافق قدر بلاء فيقال بيمينه
قال الشافعي واليمين على المنبر ما لا خلاف فيه عندنا بالمدينة ومكة في قديم ولا حديث
قال أبو عمر اليمين عند المنبر مذهب الشافعي وأصحابه في كل البلدان - قياسا على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم
129
قال الشافعي وقد عاب قولنا هذا عائب ترك فيه [موضع حجتنا] لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار بعده عن أصحابه وزعم أن زيد بن ثابت كان لا يرى اليمين على المنبر وانا روينا ذلك عنه وخالفناه إلى قول مروان [بن الحكم] بغير حجة
قال وهذا مروان يقول لزيد - وهو عنده احظى أهل زمانه وارفعهم لديه منزلة - (لا والله الا عند مقاطع الحقوق)
قال فما منع زيد بن ثابت لو يعلم أن اليمين على المنبر حق ان يقول لمروان ما هو أعظم من هذا وقد قال له أتحل الربا يا مروان فقال مروان أعوذ بالله وما هذا [فقال] فالناس يتبايعون الصكوك قبل ان يقبضوها فبعث مروان الحرس ينتزعونها من أيدي الناس فإذا كان مروان لا ينكر على زيد هذا فكيف ينكر على نفسه ان يلزمه اليمين على المنبر لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة في عين مروان واثرهم عنده ولكن زيدا علم أن ما قضى به مروان حق وكره ان تصبر يمينه عند المنبر
قال الشافعي وهذا الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي نقل الحديث فيه كأنه تكلف لاجتماعنا على اليمين عند المنبر [لقد كان زيد من أعظم أهل المدينة ثم ذكر أحاديث عن السلف من الصحابة في اليمين عند المنبر] منها الحديث عن المهاجر بنابي أمية قال كتب إلي أبو بكر رضي الله عنه ان ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق فبعثت إليه به فجعل قيس يحلف ما قتل داذويه فاحلفه أبو بكر خمسين يمينا عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما قتله ولا علم له قاتلا ثم عفا عنه
قال أبو عمر واما اختلاف الفقهاء في اليمين عند المنبر بالمدينة وغيرها من البلدان وبمكة بين الركن والمقام فقد ذكرنا عن مالك والشافعي في ذلك ما بان به ما ذهبا إليه هما وأصحابهما
وقال بن أبي أويس قال مالك في الايمان التي تكون بين الناس في الدماء واللعان والحقوق لا يحلف [فيها عند منبر] الا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة في الدماء واللعان [والحقوق] فيما بلغ ثلاثة دراهم من الحقوق واما سائر المساجد فإنهم يحلفون فيها ولا يحلفون عند منابرها
واما أبو حنيفة فذكر الجوزجاني وغيره عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد قالوا لا يجب الاستحلاف عند منبر صلى الله عليه وسلم على أحد ولا بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا كثيرها ولا في الدماء ولا في غيرها ولكن الحكام يحلفون من وجبت عليه اليمين في مجالسهم
130
((10 - باب ما لا يجوز من غلق الرهن))
1398 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يغلق الرهن)
قال مالك وتفسير ذلك فيما نرى والله أعلم ان يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء وفي الرهن فضل عما رهن به فيقول الراهن للمرتهن ان جئتك بحقك إلى اجل يسميه له والا فالرهن لك بما رهن فيه
قال فهذا لا يصلح ولا يحل وهذا الذي نهي عنه وان جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الاجل فهو له وارى هذا الشرط منفسخا
قال أبو عمر قد ذكرنا في (التمهيد) من وصل الحديث فجعله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة [من رواة مالك ومن رواة بن شهاب أيضا ومنهم من يرويه عن] بن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم من يزيد فيه مرسلا ومسندا (الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه)
وجعله بعضهم من قول سعيد بن المسيب
وقد حدثنا خلف بن قاسم قال حدثني علي بن الحسن وأحمد بن محمد بن يزيد الحلبي قالا حدثني علي بن عبد الحميد الغضائري قال حدثني مجاهد بن موسى قال حدثني معن بن عيسى عن مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يغلق الرهن وهو من صاحبه) (1)
هكذا جاء هذا الاسناد عن معن بن عيسى وليس كذلك في الموطأ
ورواه معمر وبن أبي ذئب ويحيى بن أبي أنيسة كلهم عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه)
وقد ذكرنا الأسانيد بكل ذلك من طرق متواترة في (التمهيد) والحمد لله كثيرا
واصل هذا الحديث عند أكثر أهل العلم به مرسل وان كان قد وصل من
131
جهات كثيرة الا انهم يعللونها على ما ذكرنا عنهم في (التمهيد) وهم مع ذلك لا يدفعه بل الجميع يقبله وان اختلفوا في تأويله
والرواية فيه (لا يغلق الرهن) بضم القاف على الخبر بمعنى الرهن ليس يغلق أي لا يذهب ولا يتلف باطلا والله أعلم
والنحويون يقولون غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص
قال زهير
(وفارقتك برهن لا فكاك له
* يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (1))
وقال قعنب بن أم صاحب
(بانت سعاد وامسى دونها عدن
* وغلقت عندها من قلبك الرهن (2))
وقال اخر
(كان القلب ليلة قيل يغدي
* بليلى العامرية أو يراح)
(قطاة عرها شرك فباتت
* تجاذبه وقد غلق الجناح (3))
وقد أكثرنا في (التمهيد) من الشواهد [بالشعر] في هذا المعنى
وقال أبو عبيد لا يجوز في كلام العرب ان يقال في الرهن إذا ضاع قد غلق انما [يقال قد غلق إذا] استحقة المرتهن فذهب به ثم ذكر نحو تفسير مالك له في الموطأ
وعلى نحو تفسير مالك لذلك فسره سفيان الثوري
وبمثل ذلك جاء تفسيره عن شريح القاضي وطاوس وإبراهيم النخعي
وقد كان الزهري يقوله ثم رجع عنه
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن يحيى بن عمر [قال حدثني] علي بن حرب قال حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس قال إذا رهن الرجل الرهن فقال صاحبه ان لم اتك إلى كذا وكذا فالرهن لك قال ليس بشيء [ولكن يباع فيأخذ حقه ويرد ما فضل
132
روى هشيم عن منصور عن إبراهيم قال إذا اقرض الرجل الرجل قرضا ورهنه رهنا وقال له ان اتيتك بحقك إلى اجل كذا والا فهو لك بما فيه
قال ليس هذا بشيء هو رهن على حاله لا يغلق
وهذا كله كما فسره مالك - رحمه الله
وهذا يدل على أن قوله (لا يغلق الرهن) انما هو في الرهن القائم الموجود لا فيما هلك من الرهون وانه ليأخذه المرتهن إذا حل الاجل بماله عليه من الشرط الذي أبطلته السنة وجعلت صاحبه أولى به إذا أراد افتكاكه فادى دينه
وذكر عبد الرزاق عن معمر قال قلت للزهري أرأيت قوله (لا يغلق الرهن) أهو الرجل يقول إن لم اتك بمالك فهذا الرهن لك قال نعم
قال معمر ثم بلغني انه ان هلك لم يذهب حق هذا انما هلك من رب المال له غنمه وعليه غرمه
قال أبو عمر اختلف العلماء - قديما وحديثا - من الصحابة [والتابعين] ومن بعدهم في الرهن يهلك عند المرتهن ويتلف من غير جناية [منه] ولا تضييع فقال مالك بن انس والأوزاعي وعثمان البتي إذا كان الرهن مما يخفي هلاكه نحو الذهب والفضة والثياب والحلي والسيف واللجام وسائر ما يغاب عليه من المتاع ويخفى هلاكه فهو مضمون على المرتهن ان هلك وخفي هلاكه ويترادان الفضل فيما بينهما
[وان كانت قيمة الرهن أكثر من الدين ذهب الدين كله ويرجع الراهن على المرتهن بفضل قيمة الرهن]
وان كانت قيمة الرهن مثل الدين ذهب بما فيه
وان كانت أقل أتم الراهن للمرتهن دينه
وان اختلفا فسياتي القول فيه في باب بعد هذا حيث ذكره مالك - رحمه الله
وكان مالك وبن القاسم يذهبان فيما يغاب عليه من الرهن انه ان قامت البينة على هلاكه فليس بمضمون الا ان يتعدى فيه المرتهن أو يضيعه فيضمن
وقال اشهب كل ما يغاب عليه مضمون على المرتهن خفي هلاكه أو ظهر
وهو قول الأوزاعي والبتي
واتفق مالك وأصحابه والأوزاعي وعثمان البتي في الرهن إذا كان مما يظهر
133
هلاكه نحو الدور والأرضين والحيوان وما كان مثل ذلك كله فهلك انه من مال الراهن ومصيبته منه والمرتهن فيه امين
وروى هذا القول الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه
وقال بن أبي ليلى وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبو عبيد في هلاك الرهن عند المرتهن انهما يترادان الفضل بينهما على مثل قول مالك والأوزاعي والبتي الا انه لا فرق عندهم بين ما يظهر هلاكه وبين ما لا يظهر وبين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه
والرهن عندهم مضمون على كل حال حيوانا كان أو غيره
وروي هذا القول ومعناه عن علي بن أبي طالب من حديث قتادة عن خلاس عن علي - رضي الله عنه
وروي أيضا عن بن عمر من حديث إدريس الأودي عن إبراهيم بن عميرة عن بن عمر الا ان إبراهيم بن عميرة مجهول لا يعرف
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ان كان الرهن مثل الدين أو أكثر فهو بما فيه وان كان أقل من الدين ذهب من الدين بقدره ورجع المرتهن على الراهن بما نقص من قيمة الرهن عن الدين
والرهن عندهم مضمون بقيمة الدين فما دون وما زاد على الدين فهو أمانة
وروي مثل هذا القول عن علي مثله من حديث عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي وهو أحسن الأسانيد في هذا الباب عن علي - رضي الله عنه
وقال شريح القاضي وعامر الشعبي وشريك وغير واحد من الكوفيين [يذهب] الرهن بما فيه من الدين إذا هلك سواء كانت قيمته مثل الدين أو أقل أو أكثر ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء
وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين الا انهم انما يجعلونه بما فيه إذا هلك وعميت قيمته ولم تقم بينه على ما فيه فان قامت بينة على ما فيه ترادا الفضل
وبه قال الليث بن سعد ومالك بن انس إذا عميت قيمة الرهن وأقر الراهن والمرتهن جميعا انهما لا يعرفان قيمته فهو بما فيه
قال الليث وبلغني ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه
والحيوان عند الليث لا يضمن الا ان يتهم المرتهن في دعوى الموت والإباق
134
قال الليث بالموت يكون ظاهرا معلوما لا يخفى
وان اعلم المرتهن الراهن بموته أو إباقه أو اعلم السلطان - ان كان صاحبه غائبا - حلف وبرىء
وقالت طائفة من أهل الحجاز منهم سعيد بن المسيب وبن شهاب الزهري وعمرو بن دينار ومسلم بن خالد الزنجي والشافعي وأصحابه الرهن كله أمانة قليلة وكثيرة ما يغاب عليه منه وما لا يغاب عليه ولا يضمن الا بما يضمن به الودائع من التعدي والتضييع كسائر الأمانات ولا يضير المرتهن هلاك الرهن ودينه ثابت على حاله وسواء عندهم الحيوان في ذلك والدور والرباع والثياب والحلي وغير ذلك
وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود بن علي وجمهور أهل الحديث
وحجتهم في ذلك حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم من يرسله عن سعيد ومنهم من يجعله من قوله (الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه)
وقد أوضحنا ذلك كله في (التمهيد)
وقال هؤلاء يعني قوله صلى الله عليه وسلم له عنه أي له غلته وخراجه وفائدته كما له رقبته ومعنى عليه غرمه أي فكاكه ومصيبته
قالوا والمرتهن ليس بمعتد حينئذ فيضمن وانما يضمن من تعدى
وقال المزني قد قال مالك ومن تابعه ان الحيوان ما ظهر هلاكه أمانة
وقال أبو حنيفة ومن قال بقوله ما زاد على قيمة الرهن فهو أمانة فالواجب بحق النظر ان يكون كله أمانة
ومعنى قوله له غنمة وعليه غرمه عند مالك وأصحابه أي له غلته وخراجه واجرة عمله كما قال من تقدم ذكره
قالوا ومعنى قوله وعليه غرمه أي نفقته ليس الفكاك والمصيبة
قالوا لان الغنم إذا كان الخراج والغلة كان الغرم ما قابل ذلك من النفقة
قالوا والأصل ان المرتهن إذا لم يتعمد لم يضمن ما ظهر هلاكه ويضمن ما غاب هلاكه من حيث ضمنه المستعير سواء لان لكل واحد منهما اخذ الشيء لمنفعة نفسه والمرتهن اخذه وتبعه بحقه والمستعير اخذ العارية للمنفعة بها دون صاحبها ما دامت عنده
135
وليس كذلك الأمانة لان الأمين يأخذها لمنفعة ربها وذلك حفظها عليه وحراستها له
قالوا وفي معنى قوله له غنمه وعليه غرمه قوله صلى الله عليه وسلم (الرهن مركوب ومحلوب) (1) أي اجر ظهره لربه ونفقته عليه ولا يجوز ان يكون ذلك للمرتهن لأنه ربا من اجل الدين الذي له ولا يجوز ان يكون الراهن يلي الركوب والحلاب لأنه كان يصير - حينئذ - الرهن عنده غير مقبوض والرهن لا بد ان يكون مقبوضا ولو ركبه لخرج من الرهن
واما أبو حنيفة وأصحابه فتأويل قوله - عليه السلام - عندهم (له غنمه وعليه غرمه) أي لا يكون غنمه للمرتهن ولكن يكون للراهن وغنمه عندهم ما فضل من الدين وغرمه ما نقص من الدين
وهذا كله أيضا عندهم في سلامة الرهن لا في عطبه
والرهن عندهم مضمون بالدين لا بنفسه ولا قيمته
ومن حجتهم ان المرتهن لما كان أحق بالرهن من سائر الغرماء في الفلس علم أنه ليس كالوديعة فإنه مضمون ولأنه لو كان أمانة لم يكن المرتهن أحق به
وقال الشافعي معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يغلق الرهن) قول عام لم يخص فيه ما يظهر هلاكه مما لا يظهر وما يعاب عليه مما لا يعاب عليه ومن فرق بين شيء من ذلك فقد قال بما لا يعضده نص ولا قياس
[ولو عكس هذا القول على قائله] فقيل ما ظهر هلاكه لا يكون أمانة لأنهما قد رضيا ان يكون الرهن بما فيه أو مضمونا بقيمته واما ما يخفى هلاكه فقد رضي صاحبه بدفعه إلى المرتهن وهو يعلم أن هلاكه يخفى فقد رضي فيه أمانته فهو لأمانته فان هلك لم يهلك من مال المرتهن وذلك لا يصح لأنه لا دليل لقائله من نص كتاب ولا سنة [ولا قياس]
قال ولا خلاف علمته بين العلماء ان ما ظهر هلاكه من الأمانة وما خفي سواء انه مضمون وما ظهر أو خفي هلاكه من المضمون سواء في أنه مضمون
136
قال وكذلك قول أهل الكوفة لا يستقيم في قياس ولا نظر ولا فيه اثر يلزم انهم جعلوا الرهن مرة مضمونا بما فيه الدين ومرة مضمونا بالقيمة بما فيه والمضمونات انما تضمن بالقيمة إذا فاتت كأنما فيها من الحق فان ذكروا رواية عن علي [فالخلاف عن علي] موجود والسنة تدل على أنه أمانة وبالله التوفيق
اختصرت كلامه هذا ولكل هذه الطوائف حجج يطول ذكرها قد تقصاها أصحابهم كل لمذهبه وبالله التوفيق لا شريك له
((11 - باب القضاء في رهن الثمر والحيوان))
1399 - قال مالك فيمن رهن حائطا له إلى اجل مسمى فيكون ثمر ذلك الحائط قبل ذلك الاجل ان الثمر ليس برهن مع الأصل الا ان يكون اشترط ذلك المرتهن في رهنه وان الرجل إذا ارتهن جارية وهي حامل أو حملت بعد ارتهانه إياها ان ولدها معها
قال مالك وفرق بين الثمر وبين ولد الجارية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع الا ان يشترطه المبتاع)
قال والامر الذي لا اختلاف فيه عندنا ان من باع وليدة أو شيئا من الحيوان وفي بطنها جنين ان ذلك الجنين للمشتري اشترطه المشتري أو لم يشترطه فليست النخل مثل الحيوان وليس الثمر مثل الجنين في بطن أمه
[قال مالك ومما يبين ذلك أيضا ان من امر الناس ان يرهن الرجل ثمر النخل ولا يرهن النخل وليس يرهن أحد من الناس جنينا في بطن أمه] من الرقيق ولا من الدواب
قال أبو عمر لم يختلف قول مالك وأصحابه ان ما تلده المرهونة فهو رهن معها وان الثمرة الحادثة ليست برهن [معها وان الثمرة] مع الأصل لا مع الاشتراط
وقال الليث بن سعد إذا كان الدين حالا دخلت الثمرة في الرهن وإذا كان إلى اجل فالثمرة إلى صاحب الأصل
وروي عنه انه لا تدخل فيه الا أن تكون موجودة يوم الرهن في الشجر
137
وقال الشافعي لا يدخل الولد الحادث ولا الثمرة الحادثة في الرهن كما لا يدخل مال العبد عند الجميع إذا رهن العبد
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا ولدت المرهونة بعد الرهن دخل ولدها في الرهن وكذلك اللبن والصوف وثمر النخل والشجر
وهو قول الثوري والحسن بن حي
وبه قال أبو جعفر الطبري قال وكذلك الغلة والخراج كل ذلك داخل في الرهن بغير شرط
قال أبو عمر قد أوضح مالك وجه الصواب فيما ذهب إليه في هذه المسالة
واما الشافعي فحجته ان [الثمرة] لما لم تدخل في بيع الأصل الا بالشرط دل على أنها شيء اخر غير الأصل ولا تدخل في الرهن الا بالشرط بعد ظهورها والأمة لا يصح رهن جنينها في بطنها فإذا ولدت فهو مباين لها لم يقع عليه الرهن فهو للراهن
واما أبو حنيفة فقاسه على المكاتبة التي ولدها مثلها إذا ولدته بعد الكتابة ولا فرق عنده بين الثمرة والولد لان ذلك كله نمى من الأصل
والاحتجاج بمذاهبهم فيه تشعيب والأصل ما ذكرته لك
((12 - باب القضاء في الرهن من الحيوان))
1400 - قال مالك الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا في الرهن ان ما كان من امر يعرف هلاكه من ارض أو دار أو حيوان فهلك في يد المرتهن وعلم هلاكه فهو من الراهن وان ذلك لا ينقص من حق المرتهن شيئا وما كان من رهن يهلك في يد المرتهن فلا يعلم هلاكه الا بقوله فهو من المرتهن وهو لقيمته ضامن يقال له صفه فإذا وصفه احلف على صفته وتسمية ماله فيه ثم يقومه أهل البصر بذلك فإن كان فيه فضل عما سمى فيه المرتهن اخذه الراهن وان كان أقل مما سمى احلف الراهن على ما سمى المرتهن وبطل عنه الفضل الذي سمى المرتهن فوق قيمة الرهن وان أبى الراهن ان يحلف أعطي المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن فان قال المرتهن لا علم لي بقيمة الرهن حلف الراهن
138
على صفة الرهن وكان ذلك له إذا جاء بالامر الذي لا يستنكر
قال مالك وذلك إذا قبض المرتهن الرهن ولم يضعه على يدي غيره
قال أبو عمر قد تقدم القول فيما يغاب عليه من الرهون وما لا يغاب عليه منها في الباب الذي قبل هذا باب غلق الرهن فلا معنى لإعادته ها هنا
واما اختلاف الرهن والراهن والمرتهن فيما على الراهن من الدين فقول مالك ما ذكره في (الموطأ) مما قد ذكرناه عنه في هذا الباب
ولم يختلف أصحابه عنه ان القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن
ولا نعلم أحدا راعى قيمة الرهن في هذه المسالة غير مالك ومن قال بقوله الا انهم لا يكون القول عندهم قول المرتهن الا إلى قيمة الرهن لان الرهن وثيقة بالدين فاشبه إليه وصار القول قول من الرهن في يده إلى مقدار قيمته ولا يصدق على أكثر من ذلك والقول قول الراهن فيما زاد على ذلك فإن كان الرهن قائما واختلفا في الدين فإن كان الرهن قدر حق المرتهن اخذه بحقه وكان أولى به من الراهن الا ان يشاء رب الرهن ان يعطيه حقه الذي حلف عليه ويأخذ رهنه
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي إذا هلك الرهن واختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين فالقول قول الراهن في الدين مع يمينه ولا قول للمرتهن ها هنا إلى قيمة الرهن ولا ما دون ولا ما فوق لأنه مدع عندهم
قال أبو عمر المرتهن مدع فإذا لم تكن بينة حلف الراهن على ظاهر السنة المجتمع عليها ولا يلزم الراهن من الدين الا ما أقر به أو قامت عليه بينة فان اختلفا في قيمة الرهن الهالك أو صفته فالقول قول المرتهن عند مالك وأصحابه لأنه الضامن لقيمته وهو مدعى عليه والراهن مدع بأكثر مما يقر به المرتهن والشافعي والكوفيون على أصولهم المتقدمة وهذا باب مطرد لو وقف على المدعي من المدعى عليه فيه وبالله التوفيق
((13 - باب القضاء في الرهن يكون بين الرجلين))
1401 - قال مالك في الرجلين يكون لهما رهن بينهما فيقوم أحدهما ببيع
139
رهنه وقد كان الاخر انظره بحقه سنة قال إن كان يقدر على أن يقسم الرهن ولا ينقص حق الذي انظره بحقه بيع له نصف الرهن الذي كان بينهما فاوفي حقه وان خيف ان ينقص حقه بيع الرهن كله فاعطي الذي قام ببيع رهنه حقه من ذلك فان طابت نفس الذي انظره بحقه ان يدفع نصف الثمن إلى الراهن والا حلف المرتهن انه ما انظره الا ليوقف لي رهني على هيئته ثم أعطي حقه عاجلا
قال وسمعت مالكا يقول في العبد يرهنه سيده وللعبد مال ان مال العبد ليس برهن الا ان يشترطه المرتهن
قال أبو عمر قد مضى الكلام في باب القضاء في رهن الثمر والحيوان ما يغني عن الكلام في مال العبد
ولا خلاف عن مالك فيه الا انهم اختلفوا فيما يستفيده العبد المرهون هل يدخل في الرهن أم لا
واختلف في ذلك أيضا أصحاب مالك - رحمه الله
واتفق بن القاسم واشهب انه لا يكون ما يوهب العبد ولا خراجه رهنا وخالفهما يحيى بن عمر فقال ذلك كله رهن معه
قال أبو عمر الصواب ان لا يكون الخراج ولا غيره مما يستفيده رهنا لأنه ملك للراهن لم يتعاقد عليه الرهن
وقد اتفق [العلماء] ان مال العبد لا يدخل في البيع الا بالشرط وهي السنة فالرهن احرى بذلك وأولى
واما القضاء في ارتهان الرجلين فقال مالك ما تقدم ذكره
وقال أيضا إذا ارتهن رجلان بدين لهما على رجل دينا وهما فيه شريكان لم يصح قضاء أحدهما دون الاخر ولا يقبض الرهن حتى يستوفي المرتهن ماله عليه ما فيه فإن لم يكونا فيه شريكين فإنه إذا قبض أحدهما قبض حصته
وقال أبو حنيفة سواء كانا شريكين أو غير شريكين لا يأخذان الرهن حتى يستوفيا جميع الدين
وقال الشافعي يصح الرهن من رجل لرجلين ومن رجلين لرجل ولكل واحد منهما نصف الرهن فإذا قضى أحدهما نصيبه اخذ نصيبه من الرهن فإن كان المرتهن واحدا والراهنان اثنين [فاجر أحدهما أو قبض منه حصته من اثنين خرجت حصته من الرهن وكذلك لو كانا رجلين] فاجر أحدهما أو قبض [حصته] فنصفه خارج من الرهن ويقاسمه ان كان مما يكال أو يوزن
140
((14 - باب القضاء في جامع الرهون))
1402 - قال مالك فيمن ارتهن متاعا فهلك المتاع عند المرتهن وأقر الذي عليه الحق بتسمية الحق واجتمعا على التسمية وتداعيا (1) في الرهن فقال الراهن قيمته عشرون دينارا وقال المرتهن قيمته عشرة دنانير والحق الذي للرجل فيه عشرون دينارا قال مالك يقال للذي بيده الرهن صفه فإذا وصفه احلف عليه ثم أ قام تلك الصفة أهل المعرفة بها فان كانت القيمة أكثر مما رهن به قيل للمرتهن أردد إلى الراهن بقية حقه وان كانت القيمة أقل مما رهن به اخذ المرتهن بقية حقه من الراهن وان كانت القيمة بقدر حقه فالرهن بما فيه
قال أبو عمر هذا كله من قوله على أصله فيما يغاب عليه من الرهون انه على المرتهن مضمون فلما كان مضمونا عليه وكان له دينه الذي اتفقا على تسميته ثم اختلفا في قيمة الرهن [وهو تالف قد ضاع واصله ان القول في صفة الرهن قول المرتهن] لأنه كان بيده وثيقة بدينه فصار مدعى عليه فيما لا يقر به من قيمته فوجبت اليمين عليه في صفته ثم ضمن تلك الصفة وترادا الفضل في ذلك لأنهما قد اتفقا على تسمية الدين ولو اختلفا في مبلغ الدين كان القول فيما زاد على الرهن قول الراهن لأنه مدعى عليه
واما الشافعي [فالرهن عنده أمانه] على ما قدمنا ذكره عنهم ومن قال كقوله فلا يضر المرتهن إلى هلاكه ودينه فان على الراهن بماله فان اتفقا على مبلغ الدين لزم الراهن الخروج عنه والأداء إلى المرتهن وان اختلفا فالمرتهن مدع فإن لم تقم له بينة فالقول قول الراهن مع يمينه حينئذ لأنه مدعى عليه وهذا كله [بين] لا اشكال فيه
واما أبو حنيفة فالرهن عنده بما فيه إذا هلك وكانت قيمته كالدين أو أكثر وان كانت قيمته أقل رجع المرتهن على الراهن بتمام دينه
وبكل قول من هذه الأقوال قال جماعة من السلف قد ذكرناهم فيما مضى والحمد لله كثيرا
قال مالك (2) الامر عندنا في الرجلين يختلفان في الرهن يرهنه أحدهما
141
صاحبه فيقول الراهن ارهنتكه بعشرة دنانير ويقول المرتهن ارتهنته منك بعشرين دينارا والرهن ظاهر بيد المرتهن قال يحلف المرتهن حتى يحيط بقيمة الرهن
فإن كان ذلك لا زيادة فيه ولا نقصان عما حلف ان له فيه اخذه المرتهن بحقه وكان أولى بالتبدئة باليمين لقبضه الرهن وحيازته إياه الا ان يشاء رب الرهن ان يعطيه حقه الذي حلف عليه ويأخذ رهنه
قال وان كان الرهن أقل من العشرين التي سمى احلف المرتهن على العشرين التي سمى ثم يقال للراهن اما ان تعطيه الذي حلف عليه وتأخذ رهنك واما ان تحلف على الذي قلت انك رهنته به ويبطل عنك ما زاد المرتهن على قيمة الرهن فان حلف الراهن بطل ذلك عنه وان لم يحلف لزمه غرم ما حلف عليه المرتهن
قال أبو عمر هذا بين كله على ما تقدم من أصل قوله لا خلاف عند أصحابه ومنتحلي مذهبه فيه الا في قوله احلف المرتهن على العشرين التي سمى ثم قيل للراهن اما ان تحلف على ما قلت ولا يلزمك أكثر من قيمة رهنك أو مبلغ أقررت به من الدين واما ان يغرم ما حلف عليه المرتهن وهذا موضع اختلف فيه بعضهم
فذهب بعضهم إلى قول مالك هذا
وبعضهم قال قول الراهن مع يمينه فيما زاد على قيمة الرهن مما ادعاه المرتهن ان لم يقم المرتهن بينة بما ادعاه ولا يمين عليه الا ان يردها عليه الراهن
واما الشافعي فقد تقدم وصفنا لمذهبه في أن الرهن أمانة عنده وما ادعاه المرتهن من الدين عليه فيه البينة فإن لم تكن له بينة حلف الراهن على ما أقر به وان لم يكن عليه غير ذلك وله أيضا عنده رد اليمين ان شاء على ما قدمنا من أصله في ذلك أيضا
واما الكوفيون فحكى الطحاوي عنهم قال القول قول الراهن في مقدار الدين الذي وقع به الرهن إذا اختلف هو والمرتهن فيه مع يمينه بالله عز وجل على ذلك ان طلب المرتهن يمينه عليه والقول قول المرتهن في قيمة الرهن إذا ضاع في يده واختلف هو والراهن في قيمته مع يمينه بالله عز وجل على ذلك ان طلب الراهن يمينه عليه فان حلف بريء وان نكل عن اليمين لزمه ما ادعاه عليه الراهن فيه
قال أبو عمر اتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري ان القول قول الراهن إذا خالفه المرتهن في مبلغ ما [رهن] به الرهن ولم يراعوا مبلغ قيمة الرهن لان الرهن قد يساوي ما رهن به وقد لا يساوي والمرتهن يدعي فيه ما لا يقر له به الراهن فالقول قول الراهن لأنه مدعى عليه والبينة في ذلك على المرتهن فإن لم
142
تكن له بينة حلف الراهن واخذ رهنه وادعى ما أقر به
وهذا القول قول إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح واياس بن معاوية وطائفة
وحجة من قال بهذا القول اجماعهم على أن من أقر بشيء وليس عليه فيه بينة فالقول قوله واجماعهم أيضا على أن المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة انه لا يكون القول قول من ادعى من الثمن ما يكون قيمة السلعة
والحجة لمالك ومن قال بقوله ما قاله إسماعيل بن إسحاق في قوله عز وجل " ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة " [البقرة 283] قال فجعل الرهن بدلا من الشهادة لان المرتهن اخذ بحقه وثيقة له فكأنه شاهد له لأنه يبني على مبلغ الحق فقام مقام الشاهد إلى أن يبلغ قيمته وما جاوز قيمته فلا وثيقة له فيه وكان القول في ذلك قول الراهن
وهذا كله قول طاوس والحسن وقتادة ويحيى بن سعيد وأكثر أهل المدينة
قال مالك (1) فان هلك الرهن وتناكرا الحق فقال الذي له الحق كانت لي فيه عشرون دينارا وقال الذي عليه الحق لم يكن لك فيه الا عشرة دنانير وقال الذي له الحق قيمة الرهن عشرة دنانير وقال الذي عليه الحق قيمته عشرون دينارا قيل للذي له الحق صفه فإذا وصفه احلف على صفته ثم أقام تلك الصفة أهل المعرفة بها فان كانت قيمة الرهن أكثر مما ادعى فيه المرتهن احلف على ما ادعى ثم يعطى الراهن ما فضل من قيمة الرهن وان كانت قيمته أقل مما يدعي فيه المرتهن احلف على الذي زعم أنه له فيه ثم قاصه بما بلغ الرهن ثم احلف الذي عليه الحق على الفضل الذي بقي للمدعى عليه بعد مبلغ ثمن الرهن وذلك أن الذي بيده الرهن صار مدعيا على الراهن فان حلف بطل عنه بقية ما حلف عليه المرتهن مما ادعى فوق قيمة الرهن وان نكل لزمه ما بقي من حق المرتهن بعد قيمة الرهن
قال أبو عمر هذا كله من قوله مكررا والمعنى لا خفاء فيه على من له أدنى فهم ولا مدخل فيه للكلام عليه الا مكررا معادا لأنه قد مضى معنى ما ذهب إليه مالك وغيره من العلماء في ذلك واضحا غير مشكل على كل متأمل والحمد لله كثيرا
143
((15 - باب القضاء في كراء الدابة والتعدي بها))
1403 - قال مالك الامر عندنا في الرجل يستكري الدابة إلى المكان المسمى ثم يتعدى ذلك المكان ويتقدم ان رب الدابة يخير فان أحب ان يأخذ كراء دابته إلى المكان الذي تعدي بها إليه أعطي ذلك ويقبض دابته وله الكراء الأول وان أحب رب الدابة فله قيمة دابته من المكان الذي تعدى منه المستكري وله الكراء الأول ان كان استكرى الدابة البداة (1) فإن كان استكراها ذاهبا وراجعا ثم تعدى حين بلغ البلد الذي استكرى إليه فإنما لرب الدابة نصف الكراء الأول وذلك أن الكراء نصفه في البداءة ونصفه في الرجعة فتعدى المتعدي بالدابة ولم يجب عليه الا نصف الكراء الأول ولو أن الدابة هلكت حين بلغ بها البلد الذي استكرى إليه لم يكن على المستكري ضمان ولم يكن للمكري الا نصف الكراء
قال وعلى ذلك امر أهل التعدي والخلاف لما اخذوا الدابة عليه
ثم ذكر مسالة في المقارض يخالف فيشتري غير ما امره به صاحب المال ليكون له الربح كله ويضمن راس المال
والمبضع معه يخالف رب البضاعة فيما امره به ويتعدى ليضمن البضاعة ويأخذ ربحها فان رب المال في الوجهين جميعا يخير بين ان يضمنه وبين ان يجيز فعله ويكون على شرطه
وقد تقدم ذكر ذلك كله في كتاب القراض
واما تعدي المكتري بالدابة فان أكثر أهل العلم خالفوا مالكا في ذلك ولم يجعلوه من باب العامل في القراض ولا المبضع معه يخالفان [ما امرا به في ذلك
واما الشافعي فقال عنه المزني ولو اكتري دابة من مكة إلى مر فتعدى بها] إلى عسفان فعليه كراؤها إلى مر وكراء مثلها إلى عسفان وعليه الضمان يعني - ان عطبت
وقال أحمد بن حنبل من اكترى دابة إلى موضع فجاوز فعليه الأجرة المذكورة وأجرة المثل لما جاوز وان تلفت فعليه أيضا قيمتها
144
ذكره المزني في مختصره على مذهب احمد وهذا كقول الشافعي سواء
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيما ذكر الطحاوي عنهم من اكترى دابة إلى مكان فجاوز بها إلى مكان اخر كان ضامنا لها ساعة جاوز بها وكان عليه الأجرة ولا شيء عليه في مجاوزته [بها بعد سلامتها وان عطبت في مجاوزته بها كان عليه ضمان قيمتها ساعة تجاوز بها]
قال أبو عمر مذهبهم انه إذا جاوز بها كانت في ضمانه ان سلمت أو عطبت فليس عليه اجرة لما هو ضامن له
وهذا خلاف ظاهر القران وظاهر السنة
قال الله عز وجل * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * [البقرة 188]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفس منه) (1)
والمتعدي بالدابة إذا تجاوز بها الموضع الذي اكتراها إليه فقد وجب لصاحبها عليه اجرة مثلها في ذلك فإن لم يردها إليه كان قد اكل ماله باطلا بغير طيب نفسه ومن لم يوجب على المكتري كراء ما تعدى فيه بها فقد أعطاه مال غيره بغير طيب نفس منه وليس اعتلاله برايه انها صارت في ضمانه بشيء لان الله تعالى لم يجعل الدابة إذا سلمت في ضمان المتعدي بها ولا رسوله ولا اتفق الجميع عليه بل الجمهور يقولون إذا أسلمت فلا ضمان على المكتري فيها وانما عليه كراء المسافة التي تعدى عليها
وقد تناقض أبو حنيفة فقال فيمن تعدى في بضاعة ابضعت معه فتجر فيها انه ليس له الربح وعليه ان يتصدق به وكذلك الغاصب
وسنذكر هذه المسالة في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله
((16 - باب القضاء في المستكرهة من النساء))
1404 - مالك عن بن شهاب ان عبد الملك بن مروان قضى في امرأة أصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها
قال يحيى سمعت مالكا يقول الامر عندنا في الرجل يغتصب المراة بكرا كانت أو ثيبا انها ان كانت حرة فعليه صداق مثلها وان كانت أمة فعليه ما نقص من
145
ثمنها والعقوبة في ذلك على المغتصب ولا عقوبة على المغتصبة في ذلك كله وان كان المغتصب عبدا فذلك على سيده الا ان يشاء ان يسلمه
قال أبو عمر قوله والعقوبة في ذلك على المغتصب قد رواه القعنبي كما رواه يحيى ولم يروه بن بكير ولا بن القاسم ولا مطرف
ورووا كلهم ولا عقوبة في ذلك على المغتصبة الا القعنبي فلم يروه
وقد اجمع العلماء على أن [على] المستكره المغتصب الحد ان شهدت البينة عليه بما يوجب الحد أو أقر بذلك فإن لم يكن فعليه العقوبة ولا عقوبة عليها إذا صح انه استكرهها وغلبها على نفسها وذلك يعلم بصراخها واستغاثتها وصياحها وأن كانت بكرا فيما يظهر من دمها ونحوها مما يفصح به امرها فإن لم يكن شيء من ذلك وظهر بها حمل وقالت استكرهت فقد اختلف العلماء في ذلك ونذكره عند قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أو كان الحمل والاعتراف في كتاب الرجم - إن شاء الله تعالى
ولا نعلم خلافا بين العلماء ان المستكرهة لا حد عليها إذا صح استكراهها بما ذكرنا وشبهه
حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني معمر بن سليمان الزيني عن حجاج عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال استكرهت امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرا عنها الحد (1)
وعن أبي بكر وعمر والخلفاء وفقهاء الحجاز والعراق مثل ذلك
واختلف الفقهاء في وجوب الصداق على المغتصب فقال مالك والليث والشافعي عليه الصداق والحد جميعا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وسفيان الثوري عليه الحد ولا مهر عليه
وهو قول بن شبرمة لا يجتمع عندهم صداق وحد
قال أبو عمر هذا على مذاهبهم في السارق انه إذا قطع لم يجب عليه غرم
ومسالة السارق مختلف فيها أيضا
146
والصحيح في المسألتين وجوب الصداق ووجوب الغرم لان حد الله تعالى لا يسقط به حق الادمي وهما حقان واجبان أوجبهما الله تعالى ورسوله فلا يضر اجتماعهما
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني بن شهاب في بكر افتضت بصداق مثلها من النساء قال قضى بذلك عبد الملك بن مروان
قال وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء البكر تستكره قال لها مثل صداق نسائها
قال واية ذلك ان تصيح أو ان يوجد بها اثر
قال أخبرنا معمر عن الزهري قال من استكره امرأة بكرا فلها صداقها وعليه الحد ولا حد عليها
قال معمر وقال قتادة مثل ذلك
قال واية البكر تستكره ان تصيح
قال والثيب في ذلك مثل البكر
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني هشيم عن أبي حرة عن الحسن قال استكره عبد امرأة فوطئها فاختصما إلى الحسن وهو قاض يومئذ فضربه الحد وقضى بالعبد للمراة
قال أبو عمر أسلمه سيده بجنايته والله أعلم
وقد تقدم القول بما قاله أبو حنيفة وطائفة من علماء الكوفة
ذكر أبو بكر قال حدثني شبابة بن سوار عن شعبة قال سالت الحكم وحمادا عن مملوك انتزع جارية فقالا عليه الحد وليس عليه صداق
((17 - باب القضاء في استهلاك الحيوان والطعام وغيره))
1404 - قال مالك الامر عندنا فيمن استهلك شيئا من الحيوان بغير اذن صاحبه ان عليه قيمته يوم استهلكه ليس عليه ان يؤخذ بمثله من الحيوان ولا يكون له ان يعطي صاحبه فيما استهلك شيئا من الحيوان ولكن عليه قيمته يوم استهلكه القيمة اعدل ذلك فيما بينهما في الحيوان والعروض
147
قال وسمعت مالكا يقول فيمن استهلك شيئا من الطعام بغير اذن صاحبه فإنما يرد على صاحبه مثل طعامه بمكيلته من صنفه وانما الطعام بمنزلة الذهب والفضة انما يرد من الذهب الذهب ومن الفضة الفضة وليس الحيوان بمنزلة الذهب في ذلك فرق بين السنة والعمل المعمول به
قال أبو عمر اجمع العلماء لا خلاف بينهم فيما علمت أن من استهلك ذهبا أو ورقا أو طعاما مكيلا أو موزونا انه عليه مثل ما استهلك من صنفه بوزنه وكيله على ظاهر قول الله عز وجل * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * [النحل 126]
واختلفوا فيمن استهلك شيئا من الحيوان
فقال منهم قائلون لا يقضى بالقيمة في شيء من الأشياء الا عند عدم المثل
وممن قال ذلك الشافعي وأبو حنيفة وداود وأصحابهم
وحجتهم قول الله عز وجل * (وإن عاقبتم) * الآية
ومن الأثر ما حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني محمد بن المثنى قال حدثني خالد قال أبو داود وحدثني مسدد قال حدثني يحيى جميعا عن حميد عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت احدى أمهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام قال فضربت بيدها فكسرت القصعة
قال بن المثنى في حديثه فاخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها الطعام ويقول غارت أمكم كلوا فاكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها زاد بن المثنى (كلوا) فاكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها - ثم رجع إلى لفظ حديث مسدد وقال (كلوا) وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته (1)
قال أبو داود وحدثني مسدد [قال حدثني يحيى عن سفيان الثوري قال حدثني فليت العامري قال أبو داود] وهو أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة ما رايت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما
148
فبعث به فاخذني افكل فكسرت الاناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال (اناء مثل اناء وطعام مثل طعام) (1)
واحتج بهذا كل من قال بالمثل في العروض وغيرها لأنه ضمن القصعة بقصعة مثلها كما ضمن الطعام بطعام مثله
وقال مالك ومن تابعه لا يقضى في الحيوان من العروض وغيره الا بالقيمة
وحجتهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى فيمن اعتق شركا له في عبد بقيمة حصة شريكه دون حصته من عبد مثله (2)
قال أبو عمر المثل لا يوصل إليه الا بالاجتهاد وكما أن القيمة تدرك بالاجتهاد وقيمة العدل في الحقيقة مثل
وقد قال العراقيون في قول الله عز وجل * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95] ان القيمة مثل في هذا الموضع فتناقضوا
والحديث في القضاء بالقيمة في الشقص من العبد أصح من حديث القصعة فهو أولى ان يمتثل ويعمل والله أعلم
قال يحيى وسمعت مالكا يقول إذا استودع الرجل مالا فابتاع به لنفسه وربح فيه فان ذلك الربح له لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه
قال أبو عمر اختلف العلماء في هذه المسالة
فكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن انس والليث بن سعد وأبو يوسف القاضي يقولون إذا رد المال طاب له الربح غاصبا كان المال أو مستودعا عنده مستعديا فيه
وكان أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن يقولون يؤدي المال ويتصدق بالربح كله ولا يطيب له بشيء منه
149
وقال الأوزاعي الذي هو اسلم له ان يتصدق بالربح
وقال بن خواز بنداد من اشترى بدراهم مغصوبة فربح كان الربح له ويستحب له فيما بينه وبين الله تعالى ان يتنزه عنه ويتصدق به
وقال الشافعي ان كان اشترى بالمال بعينه فالسلعة والربح لرب المال
وحكى الربيع عن الشافعي قال إذا اشترى الغاصب السلعة بمال بغير عينه ثم نفد المال المغصوب أو مال الوديعة بغير اذن ربها فالربح له وهو ضامن لما استهلك خاصة من مال غيره وان اشتراه بالمال بعينه فرب المال بالخيار بين اخذ المال والسلعة
قال الربيع وله فيها قول اخر ان البيع فاسد إذا اشترى بالمال المغصوب بعينه
وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعطاء بن أبي رباح مثل قول مالك
وروي عن مجاهد انه يتصدق بالربح مثل قول أبي حنيفة
وقالت طائفة الربح على كل حال لرب المال
[وروي ذلك عن أبي حنيفة وقالت طائفة الربح على كل حال لرب المال]
وروي ذلك عن عبد الله بن عمر
حدثني خلف بن قاسم قال حدثني يعقوب المارودي قال حدثني يوسف بن يعقوب القاضي قال حدثني أبو الربيع الزهراني قال حدثني هشيم عن داود بن أبي هند عن رباح بن عبيدة عن بن عمر انه سئل عن رجل استبضع بضاعة فخالف فيها فقال بن عمر هو ضامن فان ربح فالربح لرب المال
قال أبو عمر لم يجعل بن عمر - رضي الله عنه - العمل معنى يوجب به استحقاق ربح ولا غيره
وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - ما يدل على أن الربح له بالضمان
رواه مالك عن زيد بن اسلم عن أبيه ان عبد الله وعبيد الله ابني عمر قفلا من غزوة فمرا بابي موسى فاسلفهما من بيت المال فاشتريا به متاعا فحملاه إلى المدينة فربحا فيه قال عمر أديا المال وربحه فقال عبيد الله ما ينبغي لك هذا لو هلك المال ونقص ضمناه وسكت عبد الله فأعاد القول عمر عليهما فراجعه عبيد الله فقال له رجل لو جعلته قراضا يا أمير المؤمنين قال فاخذ عمر راس المال ونصف الربح
150
فلم ينكر عمر على ابنه عبيد الله قوله لو هلك المال أو نقص ضمناه يعني فلذلك طاب لنا ربحه ودل على ما ذهب إليه مالك ومن قال بقوله
ويحتمل بان يكون فعل ذلك عقوبة لهما لانفرادهما دون سائر المسلمين لمال من بيت المال فشاطرهما في ذلك كما فعل بعماله إذ شاطرهم أموالهم والله المستعان
((18 - باب القضاء فيمن ارتد عن الاسلام))
1407 (1) - مالك عن زيد بن اسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من غير دينه فاضربوا عنقه)
هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة (الموطأ) [عن مالك] مرسلا
وقد روي فيه عن مالك اسناد منكر عن نافع عن بن عمر لا يصح به
والصحيح فيه حديث بن عباس رواه حماد بن زيد وبن علية عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من بدل دينه فاقتلوه) (2)
وظاهر هذا الحديث يوجب على كل حال من غير دين الاسلام أو بدله فليقتل ويضرب عنقه الا ان الصحابة قالوا إنه يستتاب فان تاب والا قتل فكان الحديث عندهم خرج على من بدل دينه وتمادى على ذلك ولم يصرف عنه كما خرج أيضا على دين الاسلام دون غيره
قال مالك (3) ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله أعلم من غير دينه فاضربوا عنقه انه من خرج من الاسلام إلى غيره مثل الزنادقة وأشباههم فان أولئك إذا ظهر عليهم قتلوا ولم يستتابوا لأنه لا تعرف توبتهم وانهم كانوا يسرون الكفر ويعلنون الاسلام فلا أرى ان يستتاب هؤلاء ولا يقبل منهم قولهم واما من خرج من الاسلام إلى غيره واظهر ذلك فإنه يستتاب فان تاب والا قتل وذلك
151
لو أن قوما كانوا على ذلك رايت ان يدعوا إلى الاسلام ويستتابوا فان تابوا قبل ذلك منهم وان لم يتوبوا قتلوا ولم يعن بذلك فيما نرى والله أعلم من خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها الا الاسلام فمن خرج من الاسلام إلى غيره واظهر ذلك فذلك الذي عني به والله أعلم
قال أبو عمر على هذا جماعة العلماء فيمن خرج من دين اليهودية إلى النصرانية أو من النصرانية إلى اليهودية أو المجوسية [انه لا يقتل ان كان ذميا وله ذمته لان النصرانية واليهودية والمجوسية أديان] قد جاء القران والسنة بان يقر أهلها ذمة إذا بذلوا الجزية وأعطوها للمسلمين على ذلك لا خلاف بين العلماء فيما وصفنا
الا ان الشافعي قال إذا كان المبدل لدينه من أهل الذمة كان للامام ان يخرجه من بلده ويلحقه بأرض الحرب وجاز له استحلال ماله مع أموال الحربيين ان غلب على الدار لأنه انما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد له
هكذا حكاه المزني وغيره من أصحابه عنه وهو المعروف من مذهبه
وحكى عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ان الذمي إذا خرج من دين إلى دين كان للامام قتله بظاهر الحديث (من بدل دينه فاقتلوه)
والمشهور عن الشافعي ما قدمنا ذكره من رواية المزني والربيع عنه
قال أبو عمر ووجه رواية محمد عنه ان الذمي قبل ان تعقد له الذمة حلال الدم ثم صارت له الذمة بما عقد له الامام من العهد على أن يقره على ذلك الدين إذا بذل الجزية فلما خرج عن الدين الذي عقدت له الذمة عليه عاد حكمه إلى حكم الحربي فجاز قتله وهذا وجه محتمل والله أعلم
واختلف الصحابة ومن بعدهم - رضي الله عنهم - في استتابة المرتد
فقال بعضهم يستتاب مرة واحدة في وقت واحد ساعة واحدة فان تاب وانصرف إلى الاسلام والا قتل
[وقال آخرون يستتاب شهرا]
وقال آخرون يستتاب ثلاثة أيام على ما روي عن عمر وعثمان وعلي وبن مسعود - رحمه الله عليهم
ولم يستتب بن مسعود بن النواحة وحده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه من عند
152
مسيلمة (لولا انك رسول لقتلتك) فقال له بن مسعود إذ أظهرت الردة أنت اليوم لست برسول فقتله واستتاب غيره
1408 - وروى مالك في هذا الباب من (الموطأ) عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل كان فيكم من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد اسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال عمر أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع امر الله ثم قال عمر اللهم إني لم احضر ولم ارض إذ بلغني
وحدثني خلف بن قاسم قال حدثني بن أبي العقيب قال حدثني أبو زرعة قال حدثني أحمد بن خالد قال حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه قال قدم وفد أهل البصرة على عمر فأخبروه بفتح تستر فحمد الله ثم قال هل حدث فيكم حدث فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين الا رجل ارتد عن دينه فقتلناه قال ويلكم اعجزتم ان تطينوا عليه بيتا ثلاثا ثم تلقوا إليه كل يوم رغيفا فان تاب قبلتم منه وان أقام كنتم قد اعذرتم إليه اللهم إني لم اشهد ولم امر ولم ارض إذ بلغني
ورواه بن عيينة فقال فيه عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه
وقول مالك وبن إسحاق الصواب إن شاء الله تعالى
وروى [داود] بن أبي هند عن الشعبي عن انس بن مالك ان نفرا من بكر بن وائل ارتدوا عن الاسلام يوم تستر فلحقوا بالمشركين فلما فتحت قتلوا في القتال قال فاتيت عمر بفتحها فقال ما فعل النفر من بكر بن وائل فعرضت عن حديثه لاشغله عن ذكرهم فقال لا ما فعل النفر من بكر بن وائل فقلت قتلوا قال لان أكون [كنت] اخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء قلت وهل كان سبيلهم الا القتل ارتدوا عن الاسلام ولحقوا بالمشركين قال كنت اعرض عليهم ان يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه فان قبلوا قبلت منهم والا استودعتهم السجن
153
قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا فإن لم يتوبوا قتلوا هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاضربوا عنقه)
وروى عبادة عن العلاء أبي محمد ان عليا - رضي الله عنه - اخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الاسلام فعرض عليه الاسلام شهرا فأبى فامر بقتله
وذكر أبو بكر قال حدثني حفص بن غياث عن أشعث عن الشعبي قال قال علي يستتاب المرتد ثلاثا فان عاد قتل
وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني ان عليا اتى بالمستورد العجلي وقد ارتد عن الاسلام فاستتابه فأبى ان يتوب فقتله
وقد ذكرنا في (التمهيد) من هذه الآثار كثيرا
ولا اعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد فكأنهم فهموا من قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) أي بعد ان يستتاب والله أعلم
الا حديث معاذ مع أبي موسى فان ظاهره القتل دون استتابة وقد قيل إن ذلك المرتد قد كان استتيب
رواه يحيى القطان وغيره عن قرة بن خالد عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على اليمن ثم اتبعه معاذ بن جبل فوجد عنده رجلا مقيدا بالحديد فقال ما شأن هذا فقال كان يهوديا فاسلم وارتد وراجع دينه دين السوء فقال معاذ لا انزل حتى يقتل قضاء الله ورسوله (1)
وروي هذا الحديث من وجوه عن أبي موسى الا ان بعضهم قال فيه قد كان استتيب قبل ذلك أياما
ذكر أبو بكر قال حدثني عباد بن العوام عن سعيد عن قتادة عن حميد بن هلال ان معاذا لما اتى ابا موسى وعنده رجل يهودي فقال ما هذا قال يهودي اسلم ثم ارتد وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ لا اجلس حتى اضرب عنقه
154
واحتج من لم ير الاستتابة بحديث معاذ هذا
واحتجوا أيضا بان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر يوم فتح مكة بقتل قوم ارتدوا عن الاسلام منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري مع ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه)
وذكر سحنون ان عبد العزيز بن أبي سلمة كان يقول يقتل المرتد ولا يستتاب
ويحتج بحديث معاذ مع أبي موسى
وقال الليث بن سعد وطائفة معه لا يستتاب من ولد في الاسلام ثم ارتد إذا شهد عليه ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة
واختلفوا عن الحسن البصري فروي عنه أنه قال يقتل دون استتابه
وروي عنه أنه قال يستتاب مئة مرة
قال أبو عمر من رأى قتله بالاستتابة جعله حدا من الحدود ولم يقبل فيه توبته
وقال توبته بينه وبين الله في اخرته ورأى ان حده إذا بدل دينه القتل
وروى بن القاسم وغيره عن مالك قال يعرض على المرتد الاسلام ثلاثا [فان اسلم] والا قتل
قال وان ارتد سواء قتل ولم يستتب كما تقتل الزنادقة
قال وانما يستتاب من اظهر دينه الذي ارتد إليه
قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون
قال والقدرية يستتابون يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فان تابوا والا قتلوا
وقال بن وهب عن مالك ليس في استتابة المرتد امر من جماعة الناس
وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق جميعا فمن لم يتب منهما قتل
وفي الاستتابة [ثلاثا] قولان أحدهما حديث عمر
والاخر انه لا يؤخر لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه باناة وهذا ظاهر الخبر
قال الشافعي ولو شهد عليه شاهدان بالردة قتل فان أقر بان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ويبرا من كل دين خالف الاسلام لم يكشف عن غيره
والمشهور من مذهب أبي حنيفة وأصحابه ان المرتد لا يقتل حتى يستتاب
وهو قول بن علية
قالوا ومن قتله قبل ان يستتاب فقد أساء ولا ضمان عليه
155
وروى محمد بن الحسن في (السير) عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ان المرتد يعرض عليه الاسلام فان اسلم والا قتل مكانه الا ان يطلب ان يؤجل فان طلب ذلك اجل ثلاثة أيام
والزنديق عندهم مثل المرتد سواء الا ان ابا يوسف لما رأى ما يصنع الزنادقة وانهم يرجعون بعد الاستتابة قال أرى ان اتيت بزنديق ان اضرب عنقه ولا استتيبه فان تاب [قبل ان اقتله] لم اقتله وخليته
قال أبو عمر روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال المرتد يستتاب فان تاب قبل منه ثم إن ارتد يستتاب فان تاب قبل منه ثم إن ارتد يستتاب فان تاب قبل منه فان ارتد بعد الثلاث قتل ولم يستتب
وقالت به طائفة من العلماء ونزع بعضهم بقول الله عز وجل * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا) * الآية [النساء 137]
قال أبو عمر رأى مالك وحده من بين سائر الفقهاء استتابة أهل القدر وسائر أهل الأهواء
وسنذكر ذلك في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله (عز وجل) وقد مضى في كتاب الفرائض ميراث المرتد واختلاف العلماء فيه
واما حكم فراقة لنسائه وسراريه وإمائه وسائر ماله وحكم أولاده الصغار وهل يجب عليه قضاء صلاة وحج وزكاة إذا تاب فليس هذا الباب بموضع ذكر ذلك
((19 - باب القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلا))
1409 - مالك عن سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة ان سعد بن عبادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا اامهله حتى اتي بأربعة شهداء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم)
زعم أبو بكر البزار ان مالكا - رحمه الله - انفرد بهذا الحديث وليس كما زعم لأنه قد رواه سليمان بن بلال والدراوردي كما رواه مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وفيه ألفاظ زائدة قد ذكرتها في (التمهيد
156
وأظن البزار لما رأى حماد بن سلمة قد ارسله ظن أن مالكا وحده ارسله فغلط في ظنه
وفي هذا الحديث من الفقه النهي عن إقامة حد بغير سلطان وبغير شهود وقطع الذريعة إلى سفك دم مسلم بدعوى يدعيها عليه من يريد ان يبيح دمه ولا يعلم ذلك الا بقوله والله عز وجل قد عظم دم المسلم وعظم الاثم فيه فلا يحل الا بما اباحه الله وذلك إلى السلطان دون غيره ليمتثل فيه ما امره الله به في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد اردف مالك هذا الحديث بقول علي - رضي الله عنه - فإنه قد أوضح الحكم فيه
1410 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان رجلا من أهل الشام يقال له بن خيبرين وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما معا فاشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك فسال أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب فقال له علي ان هذا الشيء ما هو بارضي عزمت عليك لتخبرني فقال له أبو موسى كتب إلي معاوية بن أبي سفيان ان أسالك عن ذلك فقال علي أنا أبو حسن ان لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته (1)
رواه بن جريج ومعمر والثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب مثله
قال أبو عمر معناه عنده (فليسلمه برمته إلى أولياء القتيل يقتلونه وقيل يسلم إليهم بحبل في عنقه للقصاص ان لم يقم أربعة شهدوا عليه بالزنى الموجب للرجم
وقد روي عن عمر في ذلك شيء لا يصح عنه قد ذكرته في (التمهيد) واوضحته
وعلى قول علي - رضي الله عنه - جماعة فقهاء الأمصار وأهل الرأي والآثار والحمد لله كثيرا
157
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال سال رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا الا بالبينة)
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عبدة بن عاصم عن الحسن قال (الحدود إلى السلطان)
وذكر عن بن محيريز وعطاء الخرساني وعمر بن عبد العزيز مثله وهو ما لا خلاف فيه
واما خبر الشعبي في الذي اشرف على زوجة أخيه وهو غائب ومعها على فراشها رجل يتغنى
(وأشعث غره الاسلام منا
* خلوت بعرسه ليل التمام)
(يبيت على حسائها ويمسي على
* وهماء لاحقة الحزام)
(كان مواضع الربلات منها
* نعام قد جمعن إلى نعام)
هكذا ذكره وكيع عن أبي عاصم عن الشعبي وذكره عبد الرزاق عن بن جريج فذكر فيه لهوت بعرسه
وقال في البيت الثاني
(أبيت على ترائبها ويطوي
* على حمراء مائلة الحزام)
(كان مجامع الربلات منها
* قيام يرجعون إلى قيام)
وهذان الخبران منقطعان وليس في شيء منهما شهادة قاطعة بمعاينة قتل ولا اقرار به ولا حجة فيه الا في ايجاب العقوبة الموجعة على من أقر بمثل ذلك وجحد الجماع وبالله التوفيق لا شريك له
((20 - باب القضاء في المنبوذ))
1411 - مالك عن بن شهاب عن سنين أبي جميلة رجل من بني سليم انه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب قال فجئت به إلى عمر بن الخطاب فقال ما حملك على اخذ هذه النسمة فقال وجدتها ضائعة فاخذتها فقال له عريفه يا أمير المؤمنين انه رجل صالح فقال له عمر أكذلك قال نعم فقال عمر بن الخطاب اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته
158
قال يحيى سمعت مالكا يقول الامر عندنا في المنبوذ انه حر وان ولاءه للمسلمين هم يرنونه ويعقلون عنه
قال أبو عمر انما انكر [عمر] على سنين أبي جميلة اخذ المنبوذ لأنه ظن والله أعلم انه يريد ان يفرض له
وكان عمر يفرض للمنبوذ فظن أنه اخذه ليلي امره ويأخذ ما يفرض له فيصلح فيه ما شاء فلما قال له عريفة انه رجل صالح ترك ظنه واخبره بالحكم عنده فيه بأنه حر ولا ولاء لاحد عليه لان الأحرار لا ولاء عليهم
وقوله وعلينا نفقته يعني ان رضاعه ونفقته في بيت المال وانما جعله حرا والله أعلم لان لا يقول أحد في عبد له يولد عنده فيطرحه [ثم يأخذه] ويقول وجدته منبوذا ليفرض له [ما اختلف الفقهاء]
واختلف الفقهاء في المنبوذ تشهد البينة انه عبد
فقالت طائفة من أهل المدينة لا يقبل قولها في ذلك والى هذا ذهب اشهب لقول عمر (هو حر) ومن قضى بحديثه لم يقبل البينة في أنه عبد
وقال بن القاسم تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفيين واختلفوا في اقراره إذا بلغ فاقر بأنه عبد
وقال مالك لا يقبل اقراره انه عبد لأنه ليس له ان يرق نفسه
ولم يختلف في ذلك أصحاب مالك
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهم يقبل اقراره بأنه عبد إذا كان بالغا
قالوا واقراره بالرق أقوى من شهادة الشهود
قالوا وما يقبل فيه البينة يقبل فيه اقراره
واختلفوا في اللقيط في قرية فيها يهود ونصارى ومسلمون
وقال بن القاسم يجعل على دين أكثرهم عددا وان وجد عليه زي اليهود فهو يهودي وان وجد عليه زي النصارى فهو نصراني والا فهو مسلم الا ان يكون أكثر أهل القرية على غير الاسلام
وقال اشهب هو مسلم ابدا لأني اجعله مسلما على كل حال كما اجعله حرا على كل حال
واختلفوا في قبول دعوى من ادعاه ابنا له
159
فقال اشهب تقبل دعواه [الا ان يبين كذبه
وقال بن القاسم لا تقبل دعواه] الا ان يبين صدقه
واما اختلاف أهل العلم في ولاء اللقيط
فذهب مالك والشافعي وجماعة من أهل الحجاز ان اللقيط حر لا ولاء لاحد عليه
وتأولوا في قول عمر (لك ولاؤه) أي لك ان تليه وتقبض عطاءه وتكون أولى الناس بأمره حتى يبلغ رشده ويحسن النظر لنفسه فان مات كان ميراثه لجماعة المسلمين وعقله عليهم
واحتج الشافعي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما الولاء لمن اعتق) (1) قال جمع بينهما الولاء عن غير المعتق
واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ولا يرثه أحد بالولاء
وهو قول الحسن البصري
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عبد الأعلى عن هشام عن الحسن قال جريرته في بيت المال وعقله لهم وميراثه عليهم وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين اللقيط يوالي من شاء فمن والاه فهو يرثه ويعقل عنه
وعند أبي حنيفة له ان ينتقل [بولائه حيث شاء ما لم يعقل عنه الذي والاه فان عقل عنه جناية لم يكن له ان ينتقل عنه بولائه] ابدا
160
قال أبو عمر ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال علي - رضي الله عنه - المنبوذ حر فان أحب ان يوالي الذي التقطه والاه وان أحب ان يوالي غيره والاه
وذكر أبو بكر قال حدثني عمر بن هارون عن بن جريج عن عطاء قال الساقط يوالي من شاء وهو قول بن شهاب وطائفة من أهل المدينة
وقال حدثني حماد بن خالد عن بن أبي ذئب عن الزهري ان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اعطى ميراث المنبوذ للذي كفله
قال أبو بكر وحدثني عبد السلام بن حرب عن مغيرة عن إبراهيم قال ميراث اللقيط بمنزلة اللقطة
قال واخبرني عبد الأعلى عن معمر عن الزهري قال إذا والى رجل رجلا فله ميراثه وعليه عقله
قال أبو عمر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث واثلة بن الأسقع أنه قال (ترث المراة عتيقها ولقيطها وابنها الذي لاعنت عليه) (1)
وهو حديث ليس بالقوي انفرد به عمر بن روبة وهو شامي ضعيف
وقد روى سفيان بن عيينة حديث مالك هذا المذكور في هذا الباب عن الزهري عن سنين أبي جميلة بألفاظ أتم من ألفاظ حد يث مالك
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن [وضاح قال حدثني محمد بن] عبد السلام قال حدثني محمد بن عمر قال حدثني سفيان عن الزهري قال سمعت سنينا ابا جميلة يحدث سعيد بن المسيب قال وجدت منبوذا على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فذكره عريفي لعمر فأرسل إلي فجئت والعريف عنده فلما رآني مقبلا قال (عسى الغوير ابوسا) كأنه اتهمه فقال له عريفي يا أمير المؤمنين انه غير متهم به فقال عمر علام أخذت هذه التسمية قلت وجدت نفسا بمضيعة فأحببت ان ياخذني الله عليها فقال عمر هو حر ولك ولاؤه وعلينا رضاعة
161
قال أبو عمر ذكر أبو [عبيد] القاسم بن سلام هذا الخبر في كتاب (غريب الحديث) لقول عمر - رضي الله عنه - فيه (عسى الغوير ابوسا) وذكر انه مثل تتمثل به العرب إذا خافت شرا أو توقعته وظنته هذا معنى كلامه
وذكر في أصل المثل عن الأصمعي وعن [بن] الكلبي خبرين مختلفين (أحدهما) عن بن الكلبي ان أول من تكلم بهذا المثل الزباء إذ بعثت قصيرا اللخمي وكان يطلبها بدم جذيمة الأبرش فكادها وخبا لها الرجال في صناديق أو غرائر فلما أحست بذلك قالت (عسى الغوير ابوسا)
قال والغوير ماء لكلب [موضع] معروف في جهة السماوة
وذكر عن الأصمعي انه غار أصيب فيه قوم قد انهار عليهم وقتلوا فيه
والغوير تصغير غار والابؤس جمع الباس فصار هذا الكلام مثلا لكل شيء يخاف بان يأتي منه شر
قال أبو عبيد وقول بن الكلبي عندي أشبه بالصواب
قال أبو عمر تلخيص ما نزع به عمر - رضي الله عنه - في قوله (عسى الغوير) انه لما رأى ابا جميلة مقبلا بالمولود المنبوذ قال ذلك المثل السائر يريد الا يأتي ملتقط المنبوذ بخير خوفا منه معنى ما تقدم ذكري له حتى اخبره عريفه انه رجل صالح لا يأتي الا بالحق فقضى فيه بما قضى
وقد أوردنا في ذلك ما جاء فيه عن العلماء والحمد لله كثيرا
((21 - باب القضاء بالحاق الولد بابيه))
1412 - مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم انها قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص ان بن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك قالت فلما كان عام الفتح اخذه سعد وقال بن أخي قد كان عهد إلي فيه
فقام إليه عبد بن زمعة فقال أخي وبن وليدة أبي ولد على فراشه
162
فتساوقا (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله بن أخي قد كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وبن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبد بن زمعة) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ثم قال لسودة بنت زمعة (احتجبي منه) لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت فما رآها حتى لقي الله عز وجل
قال أبو عمر [لم يختلف على مالك] ولا علي بن شهاب في هذا الحديث الا ان بعض أصحاب بن شهاب يرويه مختصرا لا يذكر فيه الا قوله عليه السلام (الولد للفراش وللعاهر الحجر) بهذا الاسناد عن عروة عن عائشة
وعند بن شهاب أيضا عن سعيد بن المسيب [وأبي سلمة بن عبد الرحمن] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (الولد للفراش وللعاهر الحجر) دون قصة عبد بن زمعة وسعد
وكذلك رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي ذلك أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم
[وقد ذكرنا ذلك كله في (التمهيد)
وهو أثبت ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم] من اخبار الآحاد العدول وأصحها قوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهو ما تلقته الأمة بالقبول ولم يختلفوا الا في شيء من معناه نذكره في اخر هذا الباب إن شاء الله عز وجل
واما قصة عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاس فقد أشكل معناها على أكثر الفقهاء وتأولوا فيها تأويلات فخرج جوابها عن الأصول المجتمع عليها
فمن ذلك ان الأمة مجتمعة على أن أحدا لا يدعي عن أحد دعوى الا بتوكيل من المدعي ولم يذكر في هذا الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه [بأكثر من دعوى سعد لذلك وهو غير مقبول عند الجميع
واما دعوى عتبة] للولد من الزنى فإنما ذكره سعد لأنه كان في علمهم في الجاهلية وحكمهم دعوى الولد من الزنى فتكلم سعد بذلك لأنهم كانوا على جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ويبين لهم حكم الله فيما تنازعوا فيه وفيما يراد منه التعبد به فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل - على لسان رسوله
163
صلى الله عليه وسلم في أن العاهر لا يلحق به في الاسلام ولد يدعيه من الزنى وان الولد للفراش على كل حال
والفراش النكاح أو ملك اليمين لا غير فإن لم يكن فراش وادعى أحد ولدا من زنا فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم ويلحقهم بمن استلحقهم إذا لم يكن هناك فراش لان أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك
واما اليوم في الاسلام بعد ان احكم الله شريعته وأكمل دينه فلا يلحق ولد من زنا بمدعيه ابدا عند أحد من العلماء كان هناك فراش أولم يكن
حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتحت مكة [على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم] رسول الله صلى الله عليه وسلم] قام رجل فقال ان فلانا ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا دعوة في الاسلام ذهب امر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الأثلب) قالوا وما الأثلب قال (الحجر) (1)
قال أبو عمر اجمع العلماء - لا خلاف بينهم فيما علمته - انه لا يلحق بأحد ولد يستلحقه الا من نكاح أو ملك يمين [فإذا كان نكاح أو ملك] فالولد لاحق بصاحب الفراش على كل حال
والفراش في الحرة عقد النكاح عليها مع امكان الوطء عند الأكثر
والفراش في الأمة عند الحجازيين اقرار سيدها بأنه كان يلم بها وعند الكوفيين اقراره بالولد وسنبين ذلك في موضعه - إن شاء الله - عز وجل فلا ينتفى ولد الحرة إذا جاءت به لستة اشهر من يوم عقد النكاح الا بلعان وحكم اللعان في ذلك ما قد ذكرناه والحمد لله كثيرا
وهذه الجملة كلها من حكم الله ورسوله مما نقلته الكافة ولم يختلفوا فيه الا فيما وصفت
ومن ذلك أيضا مما هو خلاف الأصول المجتمع عليها ادعاء عبد بن زمعة على أبيه ولدا بقوله (أخي وبن وليدة أبي ولد على فراشه) ولم يأت ببينة تشهد على أبيه باقراره بذلك وفي الأصول المجتمع عليها انه لا تقبل دعواه على
164
أبيه ولا دعوى أحد على غيره قال الله (عز وجل) * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * [الانعام 164]
واما قوله صلى الله عليه وسلم (يا عبد بن زمعة) فقد اختلف العلماء في معناه على ما نورده بعون الله تعالى
فقالت طائفة منهم انما قال له (هو لك) أي هو أخوك كما ادعيت قضى في ذلك بعلمه لان زمعة بن قيس كان صهره وسودة بنت زمعة كانت زوجته صلى الله عليه وسلم فيمكن ان يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة سيدها فصارت فراشا له بذلك فالحق ولدها به لما قد علمه من فراش زمعة الا انه قضى به لاستلحاق عبد بن زمعة له
وقد مضى ما للعلماء في قضاء القاضي بعلمه في صدر هذا الكتاب
ومن قال بهذا لم يجز عنده ان يستلحق [الأخ] بحال من الأحوال
[وكان مالك يقول لا يستلحق أحد غير الأب ولا يقضي القاضي بعلمه
والكوفيون يقولون يقضي القاضي بعلمه على اختلافهم فيما علمه قبل ولاية القضاء وبعد ذلك
وكلهم يقول لا يستلحق الأخ بحال]
وهو أحد قولي الشافعي واليه ذهب المزني والبويطي وهو قول جمهور الفقهاء ان الأخ لا يستلحق وحده كان أو مع أخ يخالفه
وللشافعي قول اخر انه يقبل اقرار الوارث على الموروث بالنسب كما يقبل اقراره عليه بالدين إذا لم يكن له وارث غير المقر وهو قول إبراهيم النخعي
وروى الربيع عنه في كتاب البويطي قال لا يجوز اقرار الأخ بأخيه إذا كان ثم من يدفعه من الورثة ولا يلحق نسبه وان لم يكن ثم من يدفعه لحق نسبه واحتج بحديث عبد بن زمعة
قال الربيع قال أبو يعقوب البويطي لا يجوز ذلك عندي كان من يدفعه ثم أو لم يكن لأنه انما يجوز اقرار الانسان على نفسه وهذا يقر على غيره وانما الحق النبي - عليه السلام - [بن] وليدة زمعة بابيه لمعرفته بفراشه والله أعلم
قال أبو عمر المشهور من مذهب الشافعي ان الأخ لا يستلحق ولا يثبت بقوله نسب ولا يلزم المقر باخ ان يعطيه شيئا من الميراث من جهة القضاء لأنه أقر له بما لم يثبت له أصله
165
وسنذكر أصل هذه المسالة في الباب بعد هذا - إن شاء الله عز وجل
وقد قال الشافعي في غير موضع من كتابه لو قبل استلحاق غير الأب كان فيه حقوق على الأب بغير اقراره ولا ببينة تشهد عليه
وقال محمد بن جرير الطبري معنى قوله صلى الله عليه وسلم (هو لك يا عبد بن زمعة) أي هو عبد ملكا لأنه بن وليدة أبيك وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد يريد انه لما [لم] ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ولا شهد بذلك عليه وكانت الأصول تدفع قبول ابنه عليه لم يبق الا القضاء بأنه عبد تبع لامه وامر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم تملك منه الا شقصا
وهذا أيضا من الطبري خلاف ظاهر الحديث لان فيه أخي وبن وليدة أبي ولد على فراشه فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ذلك من قوله] ولكنه قول خارج محتمل على الأصول
وقال الطحاوي واما قوله (هو لك [يا عبد بن زمعة) فمعناه] هو لك بيدك عليه لا انك تملكه ولكن تمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما قال في اللقطة هي لك بيدك عليها تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنها ملك له قال ولا يجوز ان يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنا لزمعة ثم يأمر أخته [ان] تحتجب منه هذا محال لا يجوز ان يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم
قال وليس قول من قال إن ادعاء سعد في هذا الحديث كلا دعوى بشيء لان سعدا انما ادعى شيئا كان معروفا في الجاهلية من لحوق ولد الزنى بمن ادعاه
قال وقد كان عمر يقضي بذلك في الاسلام - إذا لم يكن فراش - فادعى سعد وصية أخيه بما كان يحكم في الجاهلية به فكانت دعواه لأخيه كدعوى أخيه لنفسه غير أن عبد بن زمعة قابلة بدعوى توجب عتقا للمدعي على المدع [عليه] لان مدعيه كان يملك بعضه حين ادعى فيه ما ادعى ويعتق عليه ما كان يملك منه فكان ذلك هو الذي أبطل [دعوى] سعد ولما كان لعبد بن زمعة شريك فيما ادعاه وهي أخته سودة ولم يعلم منها في ذلك التصديق لمقالته الزم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد بن زمعة ما أقر به في نفسه ولم يجعل ذلك حجة على أخته إذ لم تصدقه ولم تجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه
قال أبو عمر قول الطحاوي حسن كله الا قوله (فكانت دعوى سعد لأخيه كدعوى أخيه لنفسه) هذا ليس بشيء لأنه لم يظهر في ذلك ما يصدق دعواه على أخيه ولم ينقل في الحديث ما يدل عليه
166
وقال المزني فيحتمل تأويل هذا الحديث عندي - والله أعلم - ان يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب فيه على المسالة فأعلمهم بالحكم انه هكذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا الا انه قبل على عتبة قول أخيه سعد ولا على قول زمعة قول ابنه عبد بن زمعة ان أباه أولدها الولد لان كل واحد منهما اخبر عن غيره
[وقد اجمع المسلمون انه لا يقبل اقرار أحد على غيره] وفي ذلك عندي دليل على أنه حكم خرج على المسالة ليعرفهم كيف الحكم في مثلها إذا نزل ولذلك قال لسودة (احتجبي منه) لأنه حكم على المسالة
وقد حكى الله - عز وجل - في كتابه العزيز مثل ذلك في قصة داود * (إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) * [ص 22] ولم يكونا خصمين ولا كان لكل واحد منهما تسع وتسعون نعجة ولكنهم كلموه على المسالة ليعرف بها ما أرادوا فيحتمل ان يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسالة [وان لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل وكان عندي فهو صحيح] والله أعلم
قال المزني لم تصح دعوى سعد على أخيه ولا دعوى عبد بن زمعة على أبيه ولا أقرت سودة انه بن أبيها فيكون أخاها منعه من رؤيتها وأمرها بالاحتجاب منه ولو ثبت انه أخوها ما امرها [ان تحتجب منه] لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بصلة الارحام وقد قال لعائشة في عمها من الرضاعة (انه عمك فليلج عليك) (1)
ويستحيل ان يأمر زوجته ان لا تحتجب من عمها من الرضاعة ويأمر زوجة له أخرى ان تحتجب من أخيها لأبيها
قال ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علمه أخوها عبد بن زمعة فسكتت
قال المزني فلما لم يصح انه أخ لعدم البينة بذلك أو الاقرار ممن يلزمه اقراره زاده بعدا في القلوب شبهه بعتبة امرها بالاحتجاب منه فكان جوابه صلى الله عليه وسلم على السؤال لا على تحقيق زنا عتبة بقول أخيه ولا بالولد انه لزمعة بقول أبيه بل قال الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة لا على ما قال سعد ثم أخبرنا بالذي يكون إذا ثبت مثل هذا
167
قال أبو عمر قول المزني هذا أصح في النظر وأثبت في حكم الأصول من قول سائر أصحاب الشافعي القائلين انه يجوز للرجل ان يمنع امرأته من رؤية أخيها
وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش والحق بن أمة زمعة بفراش زمعة قالوا وما حكم به فهو الحق لا شك فيه
وكذلك قوله (احتجبي منه) حكم اخر يجوز به ان يمنع الرجل زوجته من رؤية أخيها
وقال الكوفيون في قوله (احتجبي منه يا سودة) دليل على أنه جعل للزنا حكما فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة وقال لها احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فمنعها من أخيها في الحكم لأنه ليس [باخيها] في غير الحكم لأنه من زنا في الباطن إذ كان شبيها بعتبة فجعلوه كأنه أجنبي لا يراها بحكم الزنى وجعلوه أخاها بالفراش وزعموا أن ما حرمه [الحلال] فالزنى أشد تحريما له
قال أبو عمر قول من قال جعله أخاها في الحكم ولم يجعله أخاها في غير الحكم قول فاسد لا يعقل وتخليط [لا يصح ولا يعقل] ولا يفهم ولا يصح عنده أدنى تأمل لان المراد المبتغى هو حكم الله (عز وجل) على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيما حكم به فهو الحق وخلافه باطل ولا يجوز ان يضاف إليه انه حكم بشيء وضده في امر واحد فيجعله أخاها من وجه وغير أخيها من وجه
هذا لا يعقل ولا تحل اضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يحكم لشبهه عتبة [بحكم] باطل وسنته في الملاعنة انها جاءت بالولد على النعت الذي رميت به ولم يلتفت إلى ذلك وامضى حكم الله فيه
وقد حكى المزني عن الشافعي ان روية بن زمعة لسودة مباح [في الحكم] ولكنه كرهه للشبهة وأمرها بالتنزه عنه اختيارا
وهذا أيضا وجه محتمل وما قدمناه أصح لان سودة لم تعرفه [ولم تقل انه أخوها] ولم يلزمها اقرار أخيها
وقد مضى في ذلك ما فيه كفاية وبيان والحمد لله كثيرا
حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن يعقوب بن عطاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من زنا بامرأة حرة أو بأمة قوم فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث الولد للفراش وللعاهر الحجر
168
قال سفيان قال بن أبي نجيح قال أول حكم بدل في الاسلام استلحاق معاوية زيادا
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال أول قضاء علمته من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رد دعوة زياد
قال أبو عمر يعني - والله أعلم - قوله (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وفي قوله صلى الله عليه وسلم ايجاب الرجم على الزاني إذا كان محصنا دون البكر
وهذا اجماع من المسلمين ان البكر لا رجم عليه في ذلك
وقد قيل إن قوله عليه السلام (الولد للفراش وللعاهر الحجر) أي ان الزاني لا شيء له في الولد إذا ادعاه على حال من الأحوال كقولهم (بفيك الحجر) أي لا شيء لك مما قلت والله أعلم
1413 - مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن أبي أمية ان امرأة هلك عنها زوجها فاعتدت أربعة اشهر وعشرا ثم تزوجت حين حلت فمكثت عند زوجها أربعة اشهر ونصف شهر ثم ولدت ولدا تاما فجاء زوجها إلى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فدعا عمر نسوة من نساء الجاهلية قدماء (1) فسالهن عن ذلك فقالت امرأة منهن انا أخبرك عن هذه المراة هلك عنها زوجها حين حملت منه فاهريقت عليه الدماء فحش ولدها (2) في بطنها فلما أصابها زوجها الذي نكحها وأصاب الولد الماء تحرك الولد في بطنها وكبر فصدقها عمر بن الخطاب وفرق بينهما وقال عمر اما انه لم يبلغني عنكما الا خير والحق الولد بالأول (3)
قال أبو عمر اختلف العلماء في الأربعة الأشهر والعشر ليال التي جعلها الله تعالى ميقاتا لعدة المتوفى عنها زوجها هل تحتاج فيها إلى حيضة أم لا
169
فقال بعضهم لا تبرا إذا كانت ممن توطا الا بحيضة تأتي بها في الأربعة الأشهر والعشر والا فهي مسترابة
وقال آخرون ليس عليها أكثر من أربعة اشهر وعشر الا ان تستريب نفسها ريبة بينة لأن هذه المدة لا بد فيها من الحيض في الأغلب من امر النساء الا أن تكون المراة ممن لا تحيض أو ممن عرفت من نفسها أو عرف منها ان حيضتها لا تاتيها الا في أكثر من هذه المدة
وقد ذكرنا حكم المسترابة وما للعلماء فيها من المذاهب في كتاب الطلاق والحمد لله كثيرا
وقد اجمع علماء المسلمين بان الولد لا يلحق الا في تمام ستة اشهر من يوم النكاح فما زاد إلى أقصى مدة الحمل على اختلافهم فيها
فمالك يجعله خمس سنين
ومن أصحابه من يجعله إلى سبع سنين
والشافعي مدته عنده الغاية فيها أربعة سنين
والكوفيون يقولون سنتان لا غير
ومحمد بن عبد الحكم يقول [سنة لا أكثر]
وداود يقول تسعة اشهر لا يكون عنده حمل أكثر منها
وهذه مسالة لا أصل لها الا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من امر النساء وبالله التوفيق
وإذا اتت المراة بولد لأقل من ستة اشهر كاملة لم يلحق باجماع من العلماء
واختلفوا في المراة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم أو الشهود فتاتي بولد لستة اشهر فصاعدا من ذلك الوقت عقيب العقد
فقال [مالك] والشافعي لا يلحق به لأنها ليست بفراش له إذ لم يمكنه الوطء ولا تكون المراة فراشا بالعقد المجرد حتى ينضم إليه امكان الوطء في العصمة وهو كالصغير أو الصغيرة الذي لا يمكن للواحد منهما الوطء
وقال أبو حنيفة هي فراش له ويلحقه ولدها ان جاءت به لستة اشهر من يوم العقد كأنه جعل الفراش ولحوق الولد به تعبدا كما لو رأى رجل رجلا يطا امرأته أو سريته أو قامت بذلك البينة وجاءت بولد لحقه دون الزاني بها إذا كان يطأها قبل أو بعد
170
قال أبو عمر ذكر الطحاوي هذا القول عن أبي حنيفة واحتج له بقوله كما لو رأى رجل رجلا يطا امرأته وجاءت بولد الحق به دون الزاني إذا كان يطأها قبل أو بعد
وانما احتج له بذلك لأنه اجماع عنده لم يعلم فيه خلافا لأنه إذا اشترك الزنى والفراش في وقت واحد فالولد للفراش عند جمهور العلماء من السلف والخلف الا ان بن القاسم قال إذا قال رايتها اليوم تزني ووطاتها قبل الرؤية في اليوم أو قبله ولم استبرأ ولم ار بعد الرؤية لاعن ولم يلحق به ولده ان اتت به لستة اشهر أو أكثر وانما يلحق به الولد إذا اتت به لأقل من ستة اشهر
وهذا القول قد غلب فيه الزنى على الفراش ولم يقله أحد علمته قبله وهو قول لا أصل له وقد ذكر ان مالكا قاله مرة ثم رجع عنه
وقد روي عن المغيرة نحو قول بن القاسم
وقال اشهب وبن عبد الحكم وبن الماجشون الولد لاحق بالزوج على كل حال إذا أقر بوطئها ولم يستبرئ وراها تزني وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فنفى الولد عنه الاشتراك والامكان عن العاهر والزمه بالفراش على كل حال إذا أمكن ان يكون للفراش
وقد اجمعوا انه لو رآها تزني ثم وطئها [في يوم الزنى] أو بعده ان الولد لاحق به لا ينفيه بلعان ابدا وحسبك بهذا وبالله التوفيق
1414 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار ان عمر بن الخطاب كان يليط (1) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الاسلام فاتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة فدعا عمر بن الخطاب قائفا فنظر اليهما فقال القائف لقد اشتركا فيه فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ثم دعا المراة فقال أخبريني خبرك فقالت كان هذا لاحد الرجلين يأتيني وهي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن وتظن انه قد استمر بها حبل ثم انصرف عنها فاهريقت عليه دماء ثم خلف عليها هذا تعني الاخر فلا أدري من أيهما هو قال فكبر القائف فقال عمر للغلام وال أيهما شئت
171
قال أبو عمر روى هذا الحديث بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار بمعنى حديث مالك سواء فقال سفيان جعله عمر بينهما يرثانه ويرثهما حين اشتركا فيه وقال غيره هو للذي اتاها احرى قال سفيان وقوله (وال أيهما شئت) أي انتسب إلى أيهما شئت
قال أبو عمر اما قوله ان عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الاسلام فقد مضى القول إن هذا منه كان خاصا في ولادة الجاهلية حيث لم يكن فراش
واما في ولادة الاسلام فلا يجوز عند أحد من العلماء ان يلحق ولد من زنا
حدثني أحمد بن عبد الله قال حدثني الميمون بن حمزة قال حدثني الطحاوي قال حدثني المزني قال حدثني الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال ارسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة - من أهل [دارنا فذهبت مع الشيخ إلى عمر وهو في الحجر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية قال وكانت المراة في] الجاهلية إذا طلقها زوجها أو مات عنها نكحت بغير عدة فقال الرجل اما النطفة فمن فلان واما الولد فهو على فراش فلان فقال عمر صدقت ولكن قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش
حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن أبي عمر قال حدثني سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال دخل عمر بن الخطاب الحجر فأرسل إلى رجل من بني زهرة يسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فخرج إلي فذهبت معه فاتاه وهو في الحجر فسأله وكان أهل الجاهلية] إذا مات الرجل أو طلق لم تعتد امرأته فقال اما النطفة فمن فلان واما الفراش فلفلان فقال له عمر صدقت ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ان الولد للفراش
قال أبو عمر لم يلتفت عمر إلى قول القائف مع الفراش وعلى هذا جماعة الناس
واما القول بالقافة فاباه الكوفيون وأكثر أهل العراق ورووا عن عمر من حديث الشعبي وإبراهيم ان عمر قال لرجلين تداعيا ولد امرأة هو ابنكما وهو للباقي منكما
وذكره عبد الرزاق عن الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - انه اتاه رجلان وقعا على امرأة في طهر واحد فقال الولد بينكما وهو للباقي منكما
172
وعن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال هو ابنهما يرثانه ويرثهما
وعن سفيان الثوري في رجلين تنازعا ولدا يقول كل واحد منهما انه ولد على فراشه الا انه في يد أحدهما قال هو للذي هو في يده إذا وضعته في ستة اشهر فإن كان دون ستة اشهر فهو للأول الا ان يكون دون ستة اشهر بيوم أو يومين قال هذا في الرجل يبيع الجارية من الرجل ثم يدعي ولدها ويدعي المشتري
وقال سفيان الثوري في الولد يدعيه الرجلان انه يرث كل واحد منهما نصيب ذكر تام وهما جميعا يرثانه [الثلث] فإذا مات أحدهما فهو للباقي منهما ومن نفاه أحدهما لم يضرب الحد حتى ينفيه منهما جميعا فإذا صار للباقي منهما فإنه يرث اخوته من الميت ولا يرثونه لأنه يحجبهم أبوه الحي ويرثهم هو لأنه أخوهم ويكون ميراثه الباقي وعقله عليه فإذا مات الاخر من الأبوين صار عقله وميراثه للاخوة من الأبوين جميعا
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يقضى ببقول القافة في شيء لا في نسب ولا في غيره
قالوا وان ادعى رجلان مسلمان ولدا جعل بينهما وجعلت الأمة أم ولد لهما
فان كانوا ثلاثة وادعوا ولدا لم يكن بينهم في قول أبي يوسف
وقال محمد يكون بن الثلاثة إذا ادعوه معا كما يكون بين الاثنين
ولو كانت الأمة بين مسلم وذمي فجاءت بولد فادعياه جميعا فإنه يجعل بن المسلم منهما عندهم ويضمن قيمة الأمة لشريكه ونصف العقد
وقال زفر يكون ابنهما جميعا ويكون مسلما وقد روي ذلك عن أبي حنيفة واختاره الطحاوي
واما قول أهل الحجاز [في القضاء] بالقافة
فروي عن عمر وبن عباس وأنس بن مالك ولا مخالف لهم من الصحابة
وهو قول عطاء بن أبي رباح
وبه قال [مالك واحمد] [والليث] والأوزاعي والشافعي وأبو ثور
وهو قول عمر وبه قضى في محضر من الصحابة
وقد زعم بعض من لا يرى القول بالقافة ان عمر انما ضرب القائف بالدرة لأنه لم ير قوله شيئا يعمل به وهذا تعسف يشبه التجاهل لان قضاء عمر بالقافة اشهر واعرف من أن يحتاج إليه إلى شاهد بل انما ضربه بقولهف (اشتركا فيه) وكان
173
يظن أن ماءين لا يجتمعان في ولد واحد استدلالا بقوله تعالى * (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * [الحجرات 13] ولم يقل من ذكرين وأنثى
الا ترى انه قضى بقول القائف وقال (وال أيهما شئت)
قال احمد إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر أرى القافة فبأيهم الحقوه لحق به
ولم يختلف قول مالك وأصحاب إذا قالت القافة قد اشتركا فيه ان يوقف الصبي حتى يبلغ فيه فيقال له (وال أيهما شئت) وانه ان مات قبل البلوغ والموالاة كان ميراثه بين الأبوين
[وان مات أحد الأبوين] وقف ميراث الولد منه فان والاه اخذ ميراثه وان والى الحي لم يكن له من ميراث الميت شيء
وان مات الصبي بعد موت أحدهما قبل البلوغ فها هنا اختلفوا وقد ذكرنا اختلافهم في كتاب (اختلاف أقوال مالك وأصحابه)
واختلفوا هل يقبل قول القائف الواحد أم لا
فعند مالك فيه روايتان
(أحدهما) لا يقبل الا قائفان
(والأخرى) يقبل قول القائف الواحد
وهو قول الشافعي لأنه عنده كالحاكم لا كالشهود
وهو الأشهر عن مالك وعليه أكثر اصحابهف
وهو المروي عن عمر ومن لم يقبل من أصحاب مالك فيه الا قائفين جعلهما كالشاهدين وهو عندي أحوط والله أعلم
وقول الشافعي في أن الولد إذا كان صغيرا انتظر به البلوغ كقول مالك سواء فلا يكون ابنا لهما ولكن يوالي من شاء منهما على ما روى أهل المدينة عن عمر - رضي الله عنه -
وفي دعاء عمر له القافة حين ادعاه اثنان دليل على أنه لا يكون ابنا لاثنين ابدا وانما دعا له القائف ليلحقه بأحدهما فلما قال اشتركا فيه قال له وال أيهما شئت
وقد روي عن بعض المفسرين أنه قال في قول الله عز وجل * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * [الأحزاب
174
قال لم أجد الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم نسبا أحدا الا إلى أب واحد
وقال أبو ثور يكون ابنهما إذا قال القائف قد اشترك فيه يرثهما ويرثانه
وروي عن عمر انه جعله ابنهما
واختلف الشافعي ومالك في القضاء بالقافة في أولاد الحرائر
فقال مالك وأكثر أصحابه ليس للقافة في أولاد الحرائر قول وانما يقبل قولهم في الإماء
وقال الشافعي الحرائر والإماء في ذلك سواء إذا أمكنت الدعوى به
وقال اشهب ما كانت القافة الا في الحرائر وبه نقول
وقال الشافعي إذا ادعى الحر والعبد أو المسلم والذمي مولودا - قد وجد لقيطا فلا فرق بين واحد منهم كما لا يكون بينهم فرق فيما يملكون - فرآه القافة فان الحقوه بواحد منهما فهو ابنه ابدا وان الحقوه بأكثر لم يكن بن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء ويكون ابنه وتنقطع عنه دعوى الاخر وهو حر في كل حالاته بأيهم ألحقته القافة لان أصل الناس الحرية حتى يعلم العبودية
ومن الحجة في القضاء [بالقافة] مع ما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال (ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد وأسامة - ورأى اقدامهما فقال - ان هذه الاقدام بعضها من بعض)
رواه جماعة من [ثقات] أصحاب بن شهاب عنه
وروى معمر عن أيوب عن بن سيرين ان عمر دعا القافة فرأوا شبه الولد في الرجلين ورأى عمر مثل ما رأت القافة قال قد كنت اعلم أن الكلبة تلقح الاكلب فيكون كل جرو لأبيه وما كنت أرى ان ماءين يجتمعان في ولد واحد
ومعمر عن أيوب عن أبي قلابة في هذه القصة ان عمر قال في هذا امر لا اقضي فيه شيئا ثم قال للغلام اجعل نفسك حيث شئت
ومعمر عن الزهري عن عروة بن الزبير ان رجلين ادعيا ولدا فدعا عمر بالقافة واقتدى في ذلك بنظر القافة والحقه بأحد الرجلين
ومعمر عن الزهري في رجل وقع على أمة في عدتها من زوجها فقال يدعى لولدها القافة فان عمر بن الخطاب ومن بعده قد اخذوا بنظر القافة في مثل هذا
قال أبو عمر قد روي في هذا الحديث حديث مسند حسن اخذ جماعة من أهل الحديث به ومن أهل الظاهر
175
ورواه الثوري عن صالح بن يحيى عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال كان علي - رضي الله عنه - باليمن فأتي بامرأة وطئها ثلاثة في طهر واحد فسأل كل واحد منهم ان يقر لصاحبه فأبى فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي اصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه
ورواه بن عيينة عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن الشعبي عن عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال اتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن في ثلاثة نفر وقعوا على جارية في طهر واحد فجاءت بولد فجاؤوا يختصمون في ولدها فقال علي لأحدهم تطيب نفسا وتدعه لهذين فقال لا وقال للاخر مثل ذلك فقال لا وقال للاخر مثل ذلك فقال لا فقال أنتم شركاء متشاكسون واني اقرع بينكم فأيكم اصابته القزعة ألزمته الولد وغرمته ثلثي القيمة أو قال ثلثي قيمة الجارية فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه وقال (ما اعلم فيها غير ما قال علي)
1415 - مالك انه بلغه ان عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان قضى أحدهما في امرأة غرت رجلا بنفسها وذكرت انها حرة فتزوجها فولدت له أولادا فقضى ان يفدي ولده بمثلهم
قال يحيى سمعت مالكا يقول والقيمة اعدل في هذا إن شاء الله
قال أبو عمر قد روي ذلك عن عمر وعثمان جميعا
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال سمعت سليمان بن موسى يذكر ان عمر بن الخطاب قضي في الأمة تأتي قوما فتخبرهم انها حرة فينكحها أحدهم فتلد له فقضى عمر ان على أبيه مثل كل والد ولد له من الرقيق في الشبر والذرع
قال بن جريج قلت لسليمان فإن كان أولاده حسانا قال لا يكلف مثلهم في الحسن انما يكلف مثلهم في الزرع
[وقال بن جريج] وقال عطاء أرى ان يفادي فيهم اباؤهم
وعن معمر عن بن طاوس عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال في ولد الأمة تفر من نفسها عبدان
قال معمر واخبرني من سمع الحسن يقول مكان كل عبد عبد ومكان كل
176
جارته [جارية
ومعمر عن قتادة في الأمة ينكحها الرجل وهو يرى أنها حرة فتلد أولادا فقضى فيها عثمان مكان كل ولد عبد أو مكان كل جارية] جاريتان
قال عبد الرزاق وأخبرنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال نكح رجل أمة فولدت له فكتبت [بذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب] ان تفادي أولاده بوصيفين احمرين كل واحد باثنين أحب أهل الجارية أو كرهوا
وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم في الرجل يتزوج الأمة يقال له انها حرة قال صداقها على الذي غره
قال شعبة وقال حماد مثل ذلك
وقال الحكم إذا ولدت ففداء الولد على الأب
وذكر عبد الرزاق عن الثوري في الأمة تغر من نفسها الحر فقال على الأب قيمة الولد
قال ولو غرة غيرها كانت القيمة أيضا على الأب ويتبع الذي غره
قال الثوري وقال إبراهيم يغرم القيمة
قال وقال بن أبي ليلى يقومون حين ولدوا لأنهم أحرار
وقال الثوري يقومون حين يقضي فيهم القاضي
قال أبو عمر قال مالك إذا غرت الأمة من نفسها وتزوجت على أنها حرة ودخل بها فلا يؤخذ منها المهر
وقال بن القاسم أرى ان يؤخذ منها ما فضل عن مهر المثل
وقال الشافعي على الغار قيمة الأولاد للأب وعلى الأب المستحق ولا يرجع عليه بعقره
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا زوج رجل رجلا امرأة على أنها حرة فولدت له أولادا ثم استحقها رجل فعلى الأب قيمة الأولاد والعقر ويرجع بالقيمة على الغار ولا يرجع بالعقر
وقال بن القاسم إذا اخبره انها حرة وزوجها منه وهو يعلم أنها أمة لم يرجع بقيمة الأولاد على الذي غره لأنه لم يغره من الولد ويرجع عليه بالمهر في رأي ولا أقوم على حفظه عن مالك انه لا يرجع بقيمة الولد قال وإذا اعلمه انه ليس بولي لها ثم زوجة منها لم يرجع عليه بالمهر
177
قال أبو عمر يرجع عند الشافعي بقيمة الولد على الغار لان النكاح كان سبب الولد ولا يرجع بالمهر لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل للتي نكحت بغير اذن وليها صداقها بما استحل منها فنكاحها باطل وقال إن دخل بها فلها مهرها بما استحل منها
واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابهما على أن القيمة انما تجب [على الأب] يوم يختصمون ويوم يحكم الحاكم بها
قالوا ومن مات منهم قبل ذلك فلا شيء فيه
وقال أبو حنيفة فان تخلف الابن الميت قبل الخصوم فيهم مالا لم يجب على الأب فيه شيء الا ان يكون قتل فأخذ الأب ديته
وقال عبد الله بن الحسن استحبوا القيمة يوم يسقط الولد قال والقياس يوم يستحق
وقال الشافعي على الأب القيمة يوم ولدوا
وقال أبو ثور وداود الأولاد رقيق ولا قيمة فيهم على أحد
وقال الطحاوي القياس ان يكون الولد مملوكين الا انهم تركوا القياس باتفاق الصحابة على أنهم أحرار على الأب قيمتهم
قال أبو عمر باجماعهم ان كل أمة تلد من غير سيدها فولدها بمنزلتها فالقياس على ذلك ان يكون الولد مملوكا الا انه لا مدخل للقياس فيما يخالف فيه السلف فاتباعهم خير من الابتداع وبالله التوفيق
((22 - باب القضاء في ميراث الولد المستلحق))
1416 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون فيقول أحدهم قد أقر أبي ان فلانا ابنه ان ذلك النسب لا يثبت بشهادة انسان واحد ولا يجوز اقرار الذي أقر الا على نفسه في حصته من مال أبيه يعطى الذي شهد له قدر ما يصيبه من المال الذي بيده
قال مالك وتفسير ذلك ان يهلك الرجل ويترك ابنين له ويترك ستمائة دينار فيأخذ كل واحد منهما ثلاثمائة دينارظ ثم يشهد أحدهما ان أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه فيكون على الذي شهد للذي استلحق مائة دينار وذلك نصف ميراث
178
المستلحق لو لحق ولو أقر له الاخر اخذ المئة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه
وهو أيضا بمنزلة المراة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة فعليها ان تدفع إلى الذي أقرت له بالدين قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على
الورثة كلهم ان كانت امرأة ورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه وان كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء
قال مالك وان شهد رجل على مثل ما شهدت به المراة ان لفلان على أبيه دينا احلف صاحب الدين مع شهادة شاهده وأعطي الغريم حقه كله وليس هذا بمنزلة المراة لان الرجل تجوز شهادته ويكون على صاحب الدين مع شهادة شاهده ان يحلف ويأخذ حقه كله فإن لم يحلف اخذ من ميراث الذي أقر له قدر ما يصيبه من ذلك الدين لأنه أقر بحقه وانكر الورثة وجاز عليه اقراره
قال أبو عمر اما المقر بأخ مجهول وله أخ معروف يجحد ذلك فقد اختلف الفقهاء بما يلزمه أخيه الذي أقر به
فالذي ذهب إليه مالك وأصحابه ما ذكره في موطئه أنه يعطيه ثلث ما بيده لا يلزمه أكثر من ذلك لأنه لو ثبت انه أخ لم يلزمه أكثر من ذلك فلا يلزمه باقراره أكثر مما كان يلزمه بالبينة انه بن أبيه
وبه قال أحمد بن حنبل
والكوفيون يلزمه ان يعطيه نصف ما بيده لأنه قد أقر انه شريك له فيما ترك أبوه فلا يستأثر عليه بشيء [قالوا يدخل عليه من ظلم أخيه له كما يدخل على المجحود الذي أقره به]
وقال الشافعي لا يلزمه من جهة القضاء ان يعطيه شيئا لأنه أقر له بشيء لا يستحقه الا من جهة النسب ولا يستحقه الا بإقرار أخيه وحده إذا كان ثم من الورثة من يدفعه فإذا لم يثبت نسبة [باقرار أخيه وحده] لم يستحق شيئا من الميراث وهذا أصح ما فيه عندنا وان شاء المقر ان يعطيه شيئا أعطاه
وقول الليث بن سعد كقول الشافعي
واتفقوا ان نسب الأخ المقر به يثبت لو أقر له الابنان جميعا وكذلك إذا أقر به جميع الورثة
179
واختلفوا إذا جحده بعض الورثة وأقر بعضهم
فالجمهور على أنه لا يثبت نسبة الا ان يقر به اثنان فصاعدا
وقد روي عن الشافعي خلاف ما تقدم ذكره في الابن الواحد يقر به الأخ إذا لم يكن هناك وارث غيره انه يلحق نسبه والمشهور عنه ما تقدم ذكره
واما اقرار الوارث بدين إذا انكر سائر الورثة فالذي عليه مالك وأصحابه والمعروف من مذهبهم في الحجاز والعراق ومصر انه لا يلزم المقر من الدين إلا مقدار ما يصيبه في حصته إذا كانت ابنة لا وارث له غيرها فالنصف وان كانت اما فالثلث وان كانت زوجا فالربع أو الثمن وان كان أخا لام فالسدس
على هذا جماعتهم ان الاقرار بالدين كالاقرار بالولد وكالاقرار بالوصية
الا ما ذكره بن حبيب فإنه قال أصحاب مالك كلهم يرون هذا القول من مالك وهما لأنه لا ميراث لوارث الا بعد قضاء الدين
قال أبو عمر بل أصحاب مالك كلهم على ما رواه مالك والمتأخرون منهم ينكرون علي بن حبيب قوله هذا
وكان أبو عمر أحمد بن عبد الملك بن هاشم شيخنا - رحمه الله - ينكر علي بن حبيب كل الانكار ينكر ويقول لا اعرف ما حكاه بن حبيب عن أحد من أصحاب مالك
وقال أحمد بن حنبل كما قال مالك لا يلزم المقر بالدين من الورثة الا بمقدار ميراثه
وقالت طائفة من الكوفيين وغيرهم يلزم المقر بالدين أداء الدين كله من حصته لأنه لا يحل له ان يرث وعلى أبيه دين وجعلوا الجاحد كالغاصب ببعض مال الميت
وقد اجمعوا انه يؤدي الدين مما بقي بعد الغصب إذا لم يقدر على الغاصب والسارق
وكذلك اجمعوا انه لو كان وارثا واحدا وأقر لزمه الدين كله الذي أقر به ولم يرث الا ما فضل عن الدين
وروي ذلك عن عبد الملك بن الماجشون
قال أبو عمر وجه قول مالك ومن تابعه على ذلك ان اقرار المقرين على أنفسهم بمنزلة البينة ثبتت عليهم بما أقروا به ولو شهدت البينة بالدين لم يلزم المشهود عليه الا مقدار حصته من الميراث
180
وكذلك لو أقر بوصية أو شهدت بذلك البينة
ويدل على صحة قول مالك أيضا انهم قد اجمعوا انه لو شهد رجلان من الورثة على الميت بالدين قبلت شهادتهما وكان على كل وارث بمقدار ميراثه
وقال الكوفيون لو كانا غير عدلين لزمهما الدين كله في حصتيهما ولم يلزم سائر الورثة شيء فكيف يقبلون شهادة من إذا ثبتت شهادته كان بها جارا إلى نفسه أو دافعا عنها
((23 - باب القضاء في أمهات الأولاد))
1417 - قال مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ان عمر بن الخطاب قال ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلوهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها ان قد ألم بها الا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد أو اتركوا
1418 - مالك عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد انها أخبرته ان عمر بن الخطاب قال ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يدعوهن يخرجن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها ان قد ألم بها الا قد ألحقت به ولدها فأرسلوهن بعد أو امسكوهن
قال أبو عمر اتفق مالك والشافعي وأصحابهما على القول بما روي عن عمر في هذا الباب والعزل عندهم وغير العزل سواء إذا أقر بالوطء الا ان يدعي بعده استبراء
واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال بما وصفنا ومنهم من قال لا ينفعه الاستبراء لان الحامل قد تحيض ومتى جاءت الأمة التي أقر سيدها بوطئها بولد لستة اشهر فصاعدا الحق بها لأنها فراش له
قال أبو عمر فان انكر أن تكون ولدته لم يلحق به الا ان تشهد امرأتان عدلان على أنها ولدته بعد اقراره بالوطء عند مالك وأصحابه
واما الشافعي فلا بد من اربع نسوة يشهدن عنده على ذلك فلا يجوز عنده شهادة امرأتين الا مع رجل في الديون وما كان مثلها
181
واما الشهادة على الولادة وعلى عيوب النساء فلا تجوز عندهم بالقول من أربعة نسوة
وتجوز عند مالك شهادة امرأتين في ذلك
واما الكوفيون فلا يلحق عندهم ولد الأمة الا بدعوى السيد له وسواء أقر بوطئها أو لم [تقر متى نفاه لم يلحق به عندهم كانت ممن يخرج ويتصرف أو لم] تكن
وسلف الكوفيين في هذه المسالة [بن عباس] وزيد بن ثابت كما أن سلف أهل الحجاز عمر بن الخطاب
روى شعبة عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن بن عباس انه كان يأتي جارية له فحملت فقال ليس مني اني اتيتها اتيانا لا أريد به الولد
قال أبو عمر يعني العزل
وروى سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت ان أباه كان يعزل عن جارية فارسية فجاءت بحمل فأنكره وقال إني لم أكن أريد ولدك
وروى شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال ولدت جارية لزيد بن ثابت فقال إنه ليس مني واني كنت اعزل عنها
قال أبو عمر احتج الطحاوي للكوفيين من جهة النظر بما قد نقضه الشافعيون فلم ار لذكره وجها
ويجوز عند الكوفيين في الولادة وفي عيوب النساء التي لا يطلع عليها الرجال امرأة واحدة ولكل واحد من هؤلاء الفقهاء الثلاثة سلف قالوا بقولهم وعدد الشهود في الشهادات أصول في أنفسها لا مدخل للنظر والقياس فيها
قال مالك الامر عندنا في أم الولد إذا جنت جناية ضمن سيدها ما بينها وبين قيمتها وليس له ان يسلمها وليس عليه ان يحمل من جنايتها أكثر من قيمتها
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في جناية أم الولد
فمذهب مالك وأصحابه ما ذكره في الموطأ قالوا لا سبيل إلى [إسلام] أم الولد بجنايتها وعلى السيد الأقل من أرش الجناية أو قيمة رقبتها ان جنت بعد ذلك كان عليه اخراج قيمتها مرة ثانية وكذلك ثالثة ورابعة وأكثر
وهو قول زفر
وقول الشافعي المشهور في أم الولد انها لا تسلم بجنايتها وعلى سيدها ان
182
يفديها بالأقل من قيمتها أو أرش الجناية فان عادت فجنت فله فيها قولان (أحدهما) كقول مالك (والاخر) ان يكون المجني عليه شريكا للأول فيما اخذ من قيمتها إذا كان الأول قد استوفى قيمتها كلها وان لم يكن استوفاها غرم السيد بقيمة قيمتها ورجع المجني عليه الثاني على الأول فشاركه بباقي أرش جنايته وكذلك كل ما جنت أيضا
وقول أبي حنيفة في أم الولد انه لا يسلمها سيدها ابدا لجنايتها وعليه ان يفتديها بالأقل من أرش الجناية أو قيمة رقبتها فان جنت بعد ذلك فالمجني عليه شريك الأول
وقال الليث بن سعد في جناية أم الولد يخير مولاها بين ان يؤدي عنها جنايتها [وبين رقبتها] فان شاء ان يخليها سعى في قيمتها ليس على المولى
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال سالت ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أم ولد قتلت رجلا فقال لمولاه اد دية قتيلها فان فعل ذلك والا اعتقها عليه وجعل دية قتيلها على عاقلتها
قال أبو عمر وهذا كله على قول من لا يرى بيع أمهات الأولاد ولا يقول بعتقهن
((24 - باب القضاء في عمارة الموات))
1419 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق)
1420 - قال مالك والعرق الظالم كل ما احتفر أو اخذ أو غرس بغير حق
مالك عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه ان عمر بن الخطاب قال من أحيا أرضا ميتة فهي له
قال مالك وعلى ذلك الامر عندنا
183
قال أبو عمر لم يختلف على مالك في ارسال هذا الحديث عن هشام [عن أبيه] وقد اختلف فيه على هشام فروته طائفة كما رواه مالك مرسلا وهو أصح ما فيه إن شاء الله عز وجل وروته طائفة عن هشام عن وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه آخرون عن هشام عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع عن جابر ومنهم من يقول فيه عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع اضطربوا فيه على هشام كثيرا وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في (التمهيد) واتينا باختلاف ألفاظ الناقلين له ذلك والحمد لله كثيرا
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة قال خاصم رجل إلى عمر بن عبد العزيز في ارض حازها فقال عمر من أحيا من ميت الأرض شيئا فهو له فقال له
عروة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحيا شيئا من ميت الأرض فهو له وليس لعرق ظالم حق)
قال عروة والعرق الظالم ان ينطلق الرجل إلى ارض غيره فيغرسها
أخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني هناد بن السري قال حدثني عبده عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق)
قال عروة ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في ارض الاخر فقضى لصاحب الأرض بأرضه وامر صاحب النخل ان يخرج نخلة منها
قال فلقد رايتها وانها لتضرب أصولها بالفؤوس وانها لنخل عم حتى أخرجت منها
وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن عبدة الآملي قال حدثني عبد الله بن عثمان قال حدثني بن المبارك أخبرنا نافع بن عمر الجمحي عن بن أبي مليكة عن عروة قال (اشهد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ان الأرض ارض الله والعباد عباد الله ومن أحيا مواتا فهو أحق به) جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم - الذين جاؤوا بالصلوات عنه (1)
قال أبو عمر رواية يحيى [بن عروة عن عروة] ورواية بن أبي مليكة عن
184
عروة يقضيان على أن من روى هذا الحديث مرسلا كما رواه مالك أصح من رواية من اسنده والله أعلم ويشهد ذلك اختلاف الذين اسندوه في اسناده
وقد رواه عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم الا من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وكثير متروك الحديث
[والحديث] صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه العلماء بالقبول
ولم يختلفوا ان معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) انه الغرس في ارض غيرك
على هذا خرج اللفظ المقصود به إلى هذا المعنى وكل ما كان مثله فله حكمه وكذلك فسره عروة وهشام ومالك
وقال بن وهب أخبرني مالك قال هشام (العرق الظالم ان يغرس الرجل في ارض غيره ليستحقها بذلك)
قال مالك والعرق الظالم كل ما اخذ واحتكر واغترس في غير حق
واما قوله (من أحيا أرضا ميتة) فالميتة البور الشامخ من الشعواء وما كان مثلها
واحياؤها ان يعمل حتى تعود أرضا بيضاء تصلح أن تكون مزروعة بعد حالها الأول فان غرسها بعد ذلك أو زرعها فهو أبلغ في احيائها
وهو ما لا خلاف فيه فاختلف في التحجير عليها بالحيطان هل يكون ذلك احياء لها أم لا
قال بن القاسم لا يعرف مالك التحجير احياء ولا ما روي (من حجر أرضا وتركها ثلاث سنين فان أحياها والا فهي لمن أحياها) لا يعرف مالك ذلك وانما الاحياء عنده في ميت الأرض شق الأنهار وحفر الابار والعيون وغرس الشجر والحرث
وقال اشهب لو نزل قوم من ارض البرية فجعلوا ويزرعون ما حولها فذلك احياء لها وهم أحق بها من غيرهم ما أقاموا عليها
قال أبو عمر هذا كله انما هو في الموات الذي لا يعرف له مالك باكتساب أو ميراث واما ما عرف له مالك باكتساب أو ميراث فليس من الموات الذي يعرف يكون لمن أحياه
وقد قال من أحيا أرضا ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت
185
الأشجار وتهدمت الابار وعادت كأول مرة ثم أحياها غيره فهي لمحييها الثاني بخلاف ما يملكه بخطه أو شراء
وقال الشافعي بلاد المسلمين شيئان عامر وموات فالعامر لأهله وكذلك كل ما يصلح به العامر من قناء وطريق وسبل ماء وغيره فهو كالعامر في أن لا يملك على أهله الا باذنهم
قال والموات شيئان
موات قد كان عامرا لأهله معروفا في الاسلام ثم ذهبت عنه عمارته فصار مواتا فذلك كالعامر هو لأهله ابدا لا يملك عليهم الا باذنهم
والموات الثاني ما لم يملكه [أحد] في الاسلام ولا عمر في الجاهلية [عمارة ورثته في الاسلام] فذلك الموات الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا ميتة فهي له ومن أحيا مواتا فهو له)
قال الشافعي والاحياء ما عرفه الناس احياء لمثل المحيا ان كان مسكنا فإنه يبني بناء مثله أو ما يقرب منه
قال وأقل عمارة الأرض الزرع فيها وحفر البئر ونحو ذلك
قال ومن اقتطع أرضا وجحدها ولم يعمرها رايت للسلطان ان يقول له ان أحييتها والا خلينا بينها وبين من يحييها فان تاجله رايت ان يفعل
قال فإذا أحيا الأرض بما تحيى به ملكها ملكا صحيحا لم تخرج عنه ابدا ولا عن ورثته بعده الا بما تخرج به الاملاك عن أربابها
واما أبو حنيفة فمذهبه ان كل الأرض يملكها مسلم أو ذمي لا يزول ملكها عنها بخرابها وكل ما قرب من العمران فليس بموات وما بعد منه فلم يملك قبل ذلك فهو موات
وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
وذكر أصحاب (الاملاء) عن أبي يوسف ان الموات هو الذي إذا وقف رجل على أدناه من العامر فنادى بأعلى صوته لم يسمعه من في أقرب العامر إليه
واختلفوا هل يحتاج في احياء الموات إلى اذن الامام أم لا يصح الاحياء للموات الا باقطاع من الامام
فقال مالك اما ما كان قريبا من العمران فلا يحاز ولا يعمر الا باذن الامام واما ما كان في الأرض فلك ان تحييه بغير اذن الامام
186
وقال أبو حنيفة ليس لأحد ان يحيي مواتا من الأرض الا باذن الامام ولا يملك منه شيئا الا بتمليك الامام له إياه
قال أبو عمر التمليك من الامام هو اقطاعه لمن اقطعه إياه
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي من أحيا مواتا من الأرض فقد ملكه اذن الامام في ذلك أم لم يأذن
قال الشافعي وعطية رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لكل من أحيا مواتا أثبت من [عطية] من بعده من سلطان أو غيره
وهو قول احمد وإسحاق وأبي ثور [وداود] وقولهم في هذا الباب كله نحو قول الشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه من ملكه الامام مواتا فأحياه واخرجه من الموات إلى العمران فيما بينه وبين ثلاث سنين ثم ملكه فيه وان تركه ولم يعمره حتى مضت ثلاث سنين بطل اقطاع الامام إياه ذلك وعاد إلى ما كان عليه قبل اقطاع الامام ذلك
قال أبو عمر ليس [عند] مالك والشافعي وأصحابهما ومن ذكرنا معهما في ذلك حد وانما هو اجتهاد الامام يؤجله على حسب ما يراه فان عمره والا يقطعه غيره ممن يعمره
قال أبو عمر ذهبت طائفة من التابعين ومن بعدهم إلى أن من حجر على موات فقد ملكه
واحتجوا بما رواه شعبة وغيره عن قتادة عن الحسن عن سمرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أحاط حائطا على ارض فهو له) (1)
وروى عبد الرزاق عن معمر عن بن عيينة عن بن شهاب عن سالم عن بن عمر قال كان الناس يتحجرون على عهد عمر في الأرض التي ليست لاحد فقال عمر من أحيا أرضا فهي له
وهذا - والله أعلم - على أن التحجير غير الاحياء على ما قاله أكثر العلماء
وروى بن عيينة عن بن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب [عن أبيه عن جده] ان النبي صلى الله عليه وسلم اقطع ناسا من جهينة [أو مزينة] أرضا فعطلوها فجاء قوم فعمروها
187
فخاصمهم أصحاب الأرض إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال عمر لو كانت قطيعة من أبي بكر أو مني لم أردها إليكم ولكنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نستطيع الا ان أردها فردها إليهم ثم قال عمر من اقطع أرضا فعطلها صاحبها ثلاث سنين ثم أحياها غيره فهو أحق بها
((25 - باب القضاء في المياه))
1421 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم انه بلغه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب (1) (يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الاعلى على الأسفل)
لم يختلف في ارسال هذا الحديث في (الموطأ) وقد روي مسندا من رواية أهل المدينة
أخبرنا عبد الله بن محمد [قال حدثني محمد بن بكر] قال حدثني أبو داود قال حدثني محمد بن العلاء قال حدثني أبو اسامة عن الوليد بن كثير عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه ثعلبة بن أبي مالك انه سمع كبراءهم يذكرون ان رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مهزور [يعني السيل] الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى عن الأسفل (2)
وحدثني خلف بن القاسم قال حدثني بكر بن عبد الرحمن العطار بمصر قال حدثني أحمد بن سليمان بن صالح بن صفوان قال حدثني أبو صالح الحراني عبد الغفار بن داود قال حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم اتاه أهل مهزور فقضى ان الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الاعلى (3)
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن عبدة قال حدثني المغيرة بن عبد الرحمن قال
188
أخبرني أبي - عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور ان يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الأسفل (1)
قال أبو عمر ليس في شيء من هذه الأحاديث المسندة ذكر مذينب ومهزور واديان بالمدينة معروفان يستويان يسيلان بالمطر ويتنافس أهل المدينة في سيلهما فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيلهما انه للأعلى فاعلى والأقرب إلى السيل فالأقرب يمسك الاعلى جميع الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله إلى من تحته ممن يليه
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (احبس الماء حتى يبلغ الجدر) فكان إلى الكعبين
قال أبو عمر قوله حتى يبلغ الجدر كلام ورد في حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير في خصومة مع الأنصار في شراج الحرة (2) وقد ذكرناه
باسناده في (التمهيد) من رواية بن وهب عن الليث ويونس عن بن شهاب الزهري
واختلف أصحاب مالك فيما يرسل الاعلى من الماء على الأسفل بعد بلوغ الماء إلى الكعبين
فذكر بن حبيب عن مطرف وبن الماجشون انه يصرف الاعلى من الماء ما زاد على مقدار الكعبين إلى من يليه والذي يليه كذلك أيضا هكذا ابدا ما بقي شيء من الماء
قال وقاله بن وهب قال وقال بن القاسم بل يرسل الماء كله إذا بلغ الكعبين إلى جاره الذي تحته ولا يحبس منه شيئا وكذلك يصنع الذي تحته بالذي يليه أيضا إذا بلغ الماء في ارضه إلى الكعبين ارسل الماء كله إلى من تحته
189
وروى زياد عن مالك قال تفسير ذلك ان يجد في الأول الذي حائطه أقرب إلى الماء يجري الماء في ساقيته إلى حائطه بقدر ما يكون الماء في الساقية إلى حد كعبيه فيجزئه كذلك [في حائطه حتى يرويه ثم يفعل الذي يليه كذلك ثم الذي يليه كذلك] ما بقي من الماء شيء
قال وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما ليس لأحد فيها حق معين الأول أحق بالتبدئة ثم الذي يليه إلى اخرهم رجلا ())
1 (26 - باب القضاء في المرفق (1)))
1424 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا ضرر ولا ضرار)
هكذا هذا الحديث في (الموطأ) عند جميع الرواة مرسلا وقد رواه الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مسندا
حدثني عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الفرج قال حدثني أبو علي الحسن بن سليمان - قبيطة - قال حدثني عبد الملك بن معاذ النصيبي قال حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار من أضر أضر الله به ومن شاق شاق الله عليه
190
قال أبو عمر قوله (لا ضرر ولا ضرار) قيل فيه أقوال أحدها انهما لفظتان بمعنى واحد فتكلم بهما جميعا على معنى التأكيد وقيل بل هما بمعنى القتل والقتال كأنه قال لا يضر أحد أحدا ابتداء ولا يضره ان ضره وليصبر وهي مفاعلة وان انتصر فلا يعتدي ونحو هذا كما قال (ولا تخن من خانك) (1) يريد بأكثر من انتصارك منه بالسوار أو لمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الأمور
وقال بن حبيب الضرر عند أهل العربية الاسم والضرار الفعل قال والمعنى لا يدخل على أحد ضررا [لم يدخله على نفسه ومعنى لا ضرار لا يضار أحد بأحد هذا ما حكى بن حبيب]
وقال الخشني الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة [والضرار ما ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة]
وهذا وجه حسن في الحديث والله أعلم
وهو لفظ عام متصرف في أكثر أمور الدنيا ولا يكاد ان يحاط بوصفه الا ان الفقهاء ينزعون به في أشياء مختلفة يأتي ذكرها في أبوابها - إن شاء الله عز وجل وقد ذكرنا منها طرفا دالا على ما سواه في (التمهيد)
حدثني خلف بن قاسم قال حدثني أحمد بن صالح المقرئ - وحدثني أحمد بن فتح قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حامد بن ثرثال - قالا حدثنا أبو علي الحسن بن الطيب الكوفي - وقال أحمد بن فتح الشجاعي البلخي - قال حدثني سعيد بن أبي الربيع السمان قال حدثني عنبسة بن سعيد قال حدثني فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ملعون من ضار أخاه المسلم أو ما كره) (2)
أخبرنا خلف بن سعيد قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني أحمد بن خالد قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني عبد الرزاق عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار وللرجل ان يغرز خشبة في حائط جاره
191
1425 - مالك عن بن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره) ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم يحيى
هكذا هذا الحديث بهذا الاسناد في (الموطأ) وقد روي فيه عن مالك اسناد اخر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والاسناد الأول هو المحفوظ على أنه قد اختلف فيه عن بن شهاب وقد ذكرنا ذلك في (التمهيد)
وقال جماعة من أصحاب بن شهاب فيه إذا استأذن أحدكم جاره ان يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه وبعضهم يقول فيه من سأله جاره وإذا سال أحدكم جاره والمعنى كله سواء
قال يونس بن عبد الأعلى سالت بن وهب عن خشبة أو خشبة فقال سمعته من جماعة خشبة يعني على لفظ الواحد
واختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث
فقال منهم قائلون معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والاحسان إليه وليس ذلك على الوجوب
وممن قال ذلك مالك وأبو حنيفة وأصحابهما
ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) (1)
وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال ليس يقضى على رجل ان يغرز خشبة في جداره لجاره وانما نرى ان ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوصاية بالجار
قال ومن أعار صاحبه خشبة يغرزها في جداره ثم أغضبه فأراد ان ينزعها فليس له ذلك واما ان احتاج إلى ذلك بأمر نزل به فذلك له
قال وان أراد ان يبيع داره فقال انزع خشبك فليس ذلك له
قال أبو حنيفة وأصحابه معنى الحديث المذكور الاختيار والندب في اسعاف
192
الجار وبره - إذا سأله ذلك - وهو مثل معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) (1) وهذا معناه عند الجميع الندب على حسب ما يراه الزوج من الصلاح والخير في ذلك
وقال بن القاسم سئل مالك عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن أحدكم جاره ان يغرز خشبة في جداره)
قال مالك ما أرى ان يقضي به وما أراه الا من وجه المعروف من النبي صلى الله عليه وسلم
قال بن القاسم وسئل مالك عن رجل كان له حائط فأراد جاره ان يبني عليه سترة يستتر بها منه
قال لا أرى ذلك له إلا بإذن صاحبه
وقال آخرون ذلك على الوجوب إذا لم تكن في ذلك مضرة بينة على صاحب الجدار
وممن قال بهذا الشافعي وأصحابه واحمد وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يمنع الجار جاره من ذلك الا ترى ان هريرة رأى الحجة فيما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أرى من ذلك وقال والله لارمين بها بين أكتافكم وهذا بين في حمله ذلك على الوجوب عليهم ولو كرهوا ولولا أنه فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب
وهو مذهب عمر بن الخطاب قضى به على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة
وقضى بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف على جد يحيى بن عمارة الأنصاري
والقضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) لان هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق في الحكم بينهما فغير واجب ان يجمع ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحكى مالك انه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى (المطلب)
وروى بن نافع انه سئل عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يمنع أحدكم جاره
193
ان يغرز خشبة في جداره) هل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الوصاية بالجار أم يقضي به القضاة
فقال أرى ذلك امرا دل الناس عليه وأمروا به في حق الجار
قيل افترى ان يقضي به القضاة
قال قد كان المطلب يقضي به عندنا وما أراه الا دليلا على المعروف واني منه لفي شك
حدثني عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا الخشني قال حدثنا بن أبي عمر قال حدثنا سفيان بن عيينة قال سمعت الزهري يقول أخبرنا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا استأذن أحدكم جاره ان يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه) فلما حدثهم أبو هريرة نكسوا رؤوسهم وطأطأوها فقال مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم
وقال الربيع في البويطي عن الشافعي ليس للجار ان يمنع جاره ان يغرز خشبة في جداره لحديث أبي هريرة في ذلك
وروى الشافعي وغيره عن بن عيينة عن عمرو بن دينار قال كنت بالمدينة فأراد رجل ان يغرز خشبة في جدار جاره فمنعه فخاصمه وجاء بالبينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى له عليه
1426 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ان الضحاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض فأراد ان يمر به في ارض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولا واخرا ولا يضرك فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فامره ان يخلي سبيله فقال محمد لا فقال عمر لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولا واخرا وهو لا يضرك فقال محمد لا والله فقال عمر والله ليمرن به ولو على بطنك فامره عمر ان يمر به ففعل الضحاك
وروى بن عيينة هذا الخبر عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان ان رجلا أراد ان يجري ماء إلى حائطه على حائط محمد بن مسلمة فأبى محمد بن مسلمة فكلم الرجل عمر بن الخطاب فقال عمر لمحمد بن مسلمة لم تنعه
194
أعليك فيه ضرر قال لا ولا أريد ان يجريه في حائطي قال أليس لك فيه منفعة أو لم يكن الا على بطنك لاجراه
1427 - مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال كان في حائط جده ربيع (1) لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن بن عوف ان يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى ارضه فمنعه صاحب الحائط فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله
قال أبو عمر أكثر أهل الأثر يقولون في هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه ويقولون ليس للجار ان يمنع جاره مما لا يضره
وزعم الشافعي في كتاب الرد ان مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب وانكر على مالك انه رواه وادخله في كتابه ولم يأخذ به ولا بشيء مما [في هذا الباب] باب القضاء في المرفق في الموطأ بل رد ذلك كله برايه
قال أبو عمر ليس كما زعم الشافعي لان محمد بن مسلمة رد ذلك كله برايه في ذلك خلاف رأي عمر [ورأي الأنصاري أيضا كان خلافا لرأي عمر] وكذا عبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويل الربيع الساقية
وإذا اختلف الصحابة وجب الرجوع إلى النظر والنظر يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم من بعضهم على بعض حرام الا ما تطيب به النفس من المال خاصة فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
ويدل على الخلاف أيضا في ذلك قول أبي هريرة (مالي أراكم عنها معرضين والله لارمين بها ونحو هذا)
وروى أسد بن موسى قال حدثني قيس بن الربيع عن منصور بن دينار عن أبي عكرمة المخزومي عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرىء مسلم ان يمنع جاره خشبات يضعها على جداره) ثم يقول أبو هريرة والله لأضربن بها بين أعينكم وان كرهتم
وبهذا الحديث وما كان مثله احتج من رأى القضاء بالمرفق وان لا يمنع الجار جاره وضع خشب في جداره ولا كل شيء يضره
195
وقد ذكرنا في (التمهيد) في ذلك اثارا مسندة وذكرنا حديث الأعمش عن انس قال استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول ابشر هنيئا لك الجنة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره (1)
والأعمش لا يصح له سماع من انس والله أعلم
ولم يختلفوا في أنه لا يحتج من حديثه بما لم يذكره عن الثقات وبسنده لان كان يدلس عن الضعفاء
واما أبو حنيفة وأصحابه فلا يرون ان يقضى بشيء مما ذكرنا في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم في نهي الجار ان يمنع جاره من غرز الخشبة في جداره
وعن عمر في قصة الخليج في ارض محمد بن مسلمة ولا ما كان مثل ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) (2) أي من بعضكم على بعض لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه)
وهذا هو المشهور من مذهب مالك المعمول به
فروى اصبغ عن بن القاسم قال لا يؤخذ بما قضى به عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة في الخليج ولا ينبغي ان يكون أحق بمال أخيه منه الا برضاه
قال واما ما حكم به لعبد الرحمن بن عوف من تحويل الربيع من موضعه إلى ناحية أخرى من الحائط فإنه يؤخذ به ويعمل بمثله لان مجرى ذلك الربيع كان لعبد الرحمن ثابتا في الحائط وانما أراد تحويله إلى ناحية أخرى [من الحائط وانما] هي أقرب عليه وانفع وارفق لصاحب الحائط وكذلك حكم عليه عمر بتحويله
واما عبد الملك بن حبيب فإنه اضطرب في هذا الباب ولم يثبت فيه على مذهب مالك ولا مذهب العراقيين ولا مذهب الشافعي وتناقض في ذلك فقال
196
في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن أحدكم جاره ان يضع خشبة في جداره) أرى انه لازم للحاكم ان يحكم به على من أباه وان يجبره عليه بالقضاء لأنه حق قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه من الضرر ان يدفع جاره ان يغرز خشبة على جداره فيمنعه بذلك المنفعة وصاحب الجدار لا ضرر عليه فيه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وقال عمر لم تمنع أخاك ما لا يضرك
وقد قال مالك للجار إذا تهورت بئره ان يسقي نخيله وزرعه من بئره وهذا ابعد من غرز الخشبة في جدار الجار إذا لم يكن يضر بالجدار فان خيف عليه ان يوهن الجدار ويضر به لم يجبر صاحب الجدار على ذلك وقيل لصاحب الخشب احتل لخشبك
قال ومثله حديث ربيع عبد الرحمن [بن عوف] في حائط المازني
قال فهذا أيضا يجبر عليه بالقضاء من اجل ان مجرى ذلك الربيع كان ثابتا في الحائط لعبد الرحمن قد استحقه فأراد تحويله إلى ناحية أخرى هي أقرب عليه وارفق لصاحب الحائط
قال واما الحديث الثالث في قصة الضحاك بن خليفة مع محمد بن مسلمة فلم أجد أحدا من أصحاب مالك وغيره يرى أن يكون ذلك لازما في الحكم لاحد على أحد وانما كان ذلك تشديدا على محمد بن مسلمة ولا ينبغي لاحد ان يكون غيره أحق بماله منه الا برضاه
قال أبو عمر مثل هذا يلزم في قصة [ربيع] عبد الرحمن بن عوف في حائط [الأنصاري] المازني لان الذي استحق منه مجرى ربيع في ذلك الموضع بعينه وما عدا ذلك الموضع فملك الأنصاري لا يحل الا عن طيب نفس منه كما لو اكترى رجل من رجل دارا أو حانوتا بعينه ثم أراد ان ينقله عنه إلى غيره لم يجز له عندهم ذلك الا برضا المكتري ولا يجوز الا ان يكون الباب في ذلك بابا واحدا ويكون القضاء بالمرفق خارجا عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) بدليل حديث أبي هريرة في غرز الخشب على الجدار وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه لا يجوز للجار ان يمنع جاره ما لا يضره فيكون حينئذ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه) خرج على الأعيان والرقاب واستهلاكها إذا اخذت بغير اذن صاحبها لا على المرافق والآثار التي لا تستحق بها رقبة ولا عين شيء وانما تستحق بها منفعة وبالله التوفيق
197
((27 - باب القضاء في قسم الأموال))
1428 - مالك عن ثور بن زيد الديلي أنه قال (بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيما دار أو ارض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أو ارض أدركها الاسلام ولم تقسم فهي على قسم الاسلام)
قال أبو عمر هكذا هذا الحديث في (الموطأ) عند جميع الرواة لم يختلفوا في أنه بلاغ عن ثور بن زيد
ورواه إبراهيم بن طهمان عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن بن عباس
وإبراهيم بن طهمان ثقة
والحديث معروف لابن عباس قد ذكرناه من طرق في (التمهيد)
منها ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحيم قال حدثني موسى بن داود قال حدثني محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم ادركه الاسلام ولم يقسم فهو على قسمة الاسلام)
واختلفت الرواية عن مالك من معنى هذا الحديث في الفرق بين من لا كتاب له من الكفار وبين أهل الكتاب
فروى سحنون وأبو ثابت عن بن القاسم قال سالت مالكا عن الحديث الذي جاء (أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسمة الجاهلية وأيما دار أدركها الاسلام ولم تقسم فهي على قسم الاسلام
فقال مالك الحديث لغير أهل الكتاب فاما اليهود والنصارى فهم على مواريثهم [لا ينقل الاسلام مواريثهم] التي كانوا عليها
قال إسماعيل بن إسحاق قول مالك هذا على أن النصارى واليهود لهم مواريث قد تراضوا عليها وان كانت ظلما فإذا اسلموا على ميراث قد مضى فهم كما لو اصطلحوا عليه ثم يكون ما يحدث من مواريثهم بعد الاسلام
198
قال أبو عمر روى بن نافع واشهب وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ومطرف عن مالك ان ذلك في الكفر كلهم المجوس ومشركي العرب وأهل الكتاب وجميع أهل الملل ذكره بن حبيب عنهم
وكذلك روى اصبغ عن بن القاسم انه اجابه في معنى هذا الحديث بذلك على ما ذكرناه عنه في (التمهيد)
وهذا أولى لما فيه من استعمال الحديث على عمومه وظاهره ولان الكفر لا تفترق احكامه فيمن اسلم منهم انه يقر على نكاحه ويلحقه ولده
وعند مالك وأصحابه ان أهل الكفر كلهم في الجزية سواء كما هم عند الجميع في مقاتلتهم وسبي ذراريهم في الدنيا وفي الخلود في النار فلا وجه لفرق بين شيء من احكامهم الا ما خصته السنة فيسلم لها كما خصت الكتابيين في اكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ومحال ان يكون جماعة مؤمنون يقتسمون ميراثهم على شريعة الكفر
وهو قول [بن شهاب و] جمهور أهل العلم بالحجاز والعراق وهو قول الليث والشافعي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه
فان اسلم بعض ورثة الميت بعد موته وبعد قسم الميراث أو اعتق فلا شيء له من الميراث لأنه وجب يوم مات الموروث
هذا قول جماعة فقهاء الأمصار وجمهور التابعين الا قوما من أهل البصرة
ورواية جاءت عن عمر وعثمان من روايتهم اسنادها ليس بالقائم رواها حماد بن زيد [عن أيوب] عن أبي قلابة عن حسان بن بلال المزني عن يزيد بن قتادة ان انسانا من أهله مات وهو على غير دين الاسلام قال فورثته ابنته دوني وكانت على دينه ثم إن جدي اسلم وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فتوفي وترك نخلا فأسلمت وخاصمتني في الميراث إلى عثمان بن عفان فحدث عبد الله بن الأرقم أن عمر قضى انه من اسلم على ميراث قبل ان يقسم فإنه نصيبه فقضى له عثمان فذهبت بالأولى وشاركتني في الآخرة
وروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن حسان بن بلال عن يزيد بن قتادة العنزي عن عبد الله بن الأرقم - كاتب عمر - ان عمر بن الخطاب قال من اسلم على ميراث قبل ان يقسم صار الميراث له باسلامه واجبا
وروى يزيد بن زريع عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن يزيد بن قتادة
199
قال توفيت أمنا مسلمة ولي أخوة نصارى فأسلموا قبل ان يقسم الميراث فدخلوا على عثمان فسأل كيف قضى في ذلك عمر فأخبرفأشرك بيننا وبهذا قال الحسن البصري وأبو الشعثاء - جابر بن زيد - وقتادة وحميد الطويل واياس بن معاوية وروى وهيب عن يونس عن الحسن قال من أسلم على ميراث قبل ان يقسم فهو أحق به وقال الحسن فان قسم بعض الميراث ثم أسلم ورث ما لم يقسم ولم يرث بما قسم وحجة من قال بهذا أو ذهب إليه حديث هذا الباب المسند والمرسل على ما ذكرناه في أوله
وقد روى عبد الوارث عن كثير بن شنظير عن عطاء ان رجلا اسلم على ميراث على عهد رسول الله قبل ان يقسم فأعطاه رسول الله نصيبه منه
قال أبو عمر حكم من اعتق قبل القسم عند هؤلاء كحكم من اسلم الا انه اختلف فيه عن الحسن
فمرة هو قال بمنزلة من اسلم
ومرة قال من اسلم ورث ومن اعتق لم يرث لان الحديث انما جاء ممن أدرك الاسلام
وبه قال اياس بن معاوية
وروى حماد بن سلمة عن حميد قال كان اياس بن معاوية يقول اما النصراني يسلم فنعم واما العبد يعتق فلا
وبه قال حميد
وروى أبو زرعة الرازي قال حدثني موسى بن إسماعيل قال حدثني حماد عن حميد عن الحسن قال العبد إذا اعتق على ميراث قبل ان يقسم فهو أحق به
وهو قول مكحول وبه قال أبو زرعة فيمن اسلم على ميراث قبل ان يقسم انه له وخالفه أبو حاتم الرازي فقال ليس له من الميراث شيء
قال أبو عمر قد ذكرنا [ان جمهور العلماء] على أن الوارث لا يستحق الميراث الا في حين موت المورث وانه - حينئذ - يجب لمن أوجبه الله تعالى بالدين والنسب والحرية والحياة وان كان حملا في البطن
200
وهو قول جماعة فقهاء الأنصار
روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن سعيد [بن المسيب قال إذا مات الميت يرد الميراث لأهله
ويزيد بن زريع عن سعيد] عن أبي معشر عن إبراهيم قال من اسلم على ميراث قبل ان يقسم أو اعتق على مراث قبل ان يقسم فليس لواحد منهما شيء وجبت الحقوق لأهلها حيث مات
وقال شعبة سألت الحكم وحمادا عن رجل اسلم على ميراث فقالا ليس له شيء
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء وبن أبي ليلى ان مات مسلم وله ولد نصارى ثم اسلموا ولم يقسم ميراثه حتى اسلموا فلا حق لهم وقعت المواريث قبل ان يسلموا
قال وأخبرنا معمر عن الزهري سمعة يقول إذا وقعت المواريث فمن اسلم على ميراث نفذ فلا شيء له
وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والليث والأوزاعي والثوري وعليه العمل وبالله التوفيق
1429 - قال مالك فيمن هلك وترك أموالا بالعالية والسافلة (1) ان البعل (2) لا يقسم مع النضح (3) الا ان يرضى أهله بذلك وان البعل يقسم مع العين إذا كان يشبهها وان الأموال إذا كانت بأرض واحدة الذي بينهما متقارب انه يقام كل مال منها ثم يقسم بينهم والمساكن والدور بهذه المنزلة
قال أبو عمر اختلف فقهاء الأمصار في قسمة الأرضين والدور على ما أصف لك
فمذهب مالك ما ذكره بن القاسم وغيره عنه أنه قال إذا كانت الدور متقاربة والغرض فيها متقاربا قسمت قسما واحدا وان افترقت البقاع واختلفت الاغراض قسمت كل دار على حدة وكذلك الأرضون والقرى
201
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما تقسم كل دار وكل ضيعة على حدة ولا يقسم بعضها على بعض
وحجتهم ان كل بقعة ودار تعتبر بها على نفسها لا تتعلق الشفعة دون غيرها
واختلفوا فيما لا ينقسم من الدور الا على ضرر بأحد الشريكين أو بهما معا
فقال مالك ما لا ينتفع بما يقسم منه اجبرا جميعا على البيع إذا احبا القسمة واقتسما الثمن وكذلك الثياب والحيوان
وقال أبو حنيفة والشافعي ان اتفقا على قسمة ما لا ينتفعان به من كل شيء يملكانه قسم بينهما فان أبيا من قسمة ما فيه عليهما جميعا ضرر في القسمة لم يجبر على البيع ولا على القسمة ان شاء حبسا وان شاءا باعا وان شاءا قسما ولا يجبران على البيع ولا القسمة [ولا في الحيوان] ولا في الثياب ولا في شيء لان الله - عز وجل - يقول * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * [النساء 29]
واختلفوا ان انتفع أحد منهم بنصيبه من الدار والحانوت وسائر العقار ولم ينتفع الاخر وطلبوا جميعا القسمة
فاتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي انه يقسم بينهم
وقال بن القاسم لا يقسم حتى يكون لكل واحد منهما ما ينتفع به
وقال [مالك و] أبو حنيفة إذا طلب من ينتفع بنصيبه القسمة قسم وان لم ينتفع الاخر وتقسم العرصة عند مالك وان لم ينتفع بنصيبه واحد منهما إذا طلب واحد منهما القسمة خلاف المنزل
قال ولا يقسم الطريق بالاجماع من الشركاء على ذلك
وقال مالك في الحمام بين الشركاء انه يقسم
قال بن القاسم وارى الحائط يقسم
قال وقال مالك لا يقسم الحائط والطريق الا ان يتراضى الورثة على قسمته
اما الحمام فهو عرصة كالبيت الصغير
وقال الليث ما كان ينقسم فإنه يقسم ولا يباع وما كان من دار لا تنقسم
والحمام والحانوت فإنه يباع ويقسم الثمن الا ان يشتريه بعض الشركاء باغلى ما يوجد من الثمن فيكون أولى
قال أبو عمر روى بن الماجشون عن مالك ان الحمام لا يقسم لأنه يصير غير حمام
202
وروى بن القاسم واشهب عنه انه يقسم
وهو قول اشهب
وقال بن القاسم لا يقسم
وقال الشافعي إذا كان واحد منهم ينتفع بنصيبه قسمته وان لم ينتفع الباقون بما يصير إليهم - يعني إذا تراضوا على ذلك - فإذا لم يتراضوا بالقسمة لما عليهم فيها من الضرر وطلبها أحدهم ممن له في القسمة نفع بنصيبه أو لا نفع له لم يجبروا الا ان يكونوا إذا اجتمع الذين لا يريدون القسمة فينتفعوا بنصيبهم فيجمعهم فيبرز للطالب نصيبه
قال أبو عمر احتج من رأى قسمة العقار كله وان غيرته القسمة عن اسمه وحاله إذا دعا أحد الشركاء إلى ذلك بظاهر قول الله عز وجل * (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * [النساء 7]
واحتج من خالفه في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) وهو لفظ محتمل للتأويل لا حجة فيه
وأحسن منه وأوضح ما رواه بن جريج عن صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن أبي بكر [بن محمد] بن عمرو بن حزم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تعضيه على أهل المواريث الا ما حمل القسم) والتعضية التفرقة في اللغة يقول لا قسمة بينهم الا فيما احتمل القسم والله أعلم
واما اختلاف أصحاب مالك في قسمة الأرض البعل منها والسقي
فذكر بن عبدوس عن سحنون في قول مالك في موطئه لا يقسم النضح مع البعل الا ان يرضى أهله بذلك
قال سحنون فحمل هذه اللفظة على أن الشركاء تراضوا بذلك واما بالسهم فلا ينبغي
قال بن عبدوس وأصحاب مالك على ذلك الا اشهب فإنه يقول يجمع لمن أراد الجمع ويفرق لمن أراد التفرقة
وهو خلاف لقول مالك حيث يقول لا يجمع بين رجلين في القسم
قال بن عبدوس ومعنى قول اشهب انه يجعل سهم الذين أرادوا الجمع بينهما واحدا وسهم الذين أرادوا التفرقة بينهما خلاف
وهو خلاف جميع أصحاب مالك
203
وذكر سحنون عن بن القاسم قال إذا كانت المواضع مختلفة وكانت قريبة قسمت كل ارض على حدتها وان كانت المواضع قريبا بعضها من بعض وكانت في الكرم سواء جمع في القسم
قال سحنون لا نعرف هذا والذي نعرفه من قول مالك [ان الأرض] إذا تقاربت مواضعها وكانت في نمط واحد قسمت قسما واحدا وان اختلفت [في القيمة
وقال اشهب إذا تقاربت المواضع قسمت قسما واحدا وان اختلفت] في الكرم
قال أبو عمر اختلافهم في قسمة الأموال على اختلاف أصنافها كثير جدا
وقد ذكرنا ذلك في كتاب القسمة من ديوان اختلافهم والحمد لله كثيرا
((28 - باب القضاء في الضواري والحريسة))
قال أبو عمر الضواري ما ضر في الأذى والحريسة المحروسة من المواشي في المرعى
1430 - مالك عن بن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة ان ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان على أهل الحوائط حفظها بالنهار وان ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها
قال أبو عمر ضامن هنا بمعنى مضمون
هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة (الموطأ) فيما رووا مرسلا
واختلف أصحاب بن شهاب عن بن شهاب فيه فرواه الأوزاعي وصالح بن كيسان ومحمد بن إسحاق كما رواه مالك
وكذلك رواه بن عيينة الا انه جعل مع حرام بن سعد بن محيصة سعيد بن المسيب جميعا في هذا الحديث
ورواه معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه ولم يقل فيه عن أبيه غير معمر
قال محمد بن يحيى لم يتابع عليه معمر
204
وقال أبو داود لم يتابع عليه عبد الرزاق عن معمر
قال أبو عمر وقال فيه بن أبي ذئب عن بن شهاب انه بلغه ان ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه وذكر مثل حديث مالك سواء الا انه لم يذكر حرام بن سعد بن محيصة ولا غيره
ورواه بن جريج عن بن شهاب قال حدثني أبو امامة بن سهل [بن حنيف ان ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدت فيه فذهب أهل الحائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (على أهل الأموال حفظ أموالهم نهارا) فجعل الحديث لابن شهاب عن أبي امامة بن سهل] ولم يذكر ان الناقة كانت للبراء
وجائز ان يكون الحديث عند بن شهاب عن بن محيصة وعن سعيد بن المسيب وعن أبي امامة والله أعلم [فحدث به من شاء منهم على ما حضره وكلهم ثقات اثبات]
وعلى أي حال كان فالحديث من مراسيل الثقات لان جميعهم ثقة وهو حديث تلقاه أهل الحجاز وطائفة من أهل العراق بالقبول والعمل
وهو موافق لما نصه الله - عز وجل - في كتابه عن * (داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) * [الأنبياء 78] وامر نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقتدي بهما فيمن امره بالاقتداء بهم من أنبيائه بقوله تبارك اسمه * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * [الانعام 90]
وقال تبارك وتعالى " ودود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما " [الأنبياء 78 79]
ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القران ولغة أهل العرب ان النفش لا يكون الا بالليل
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال النفش بالليل والهمل بالنهار
قال وأخبرنا معمر عن قتادة عن الشعبي ان شاة وقعت في غزل حائك واختصموا إلى شريح فقال الشعبي انظروا فإنه سيسالهم اليلا وقعت فيه أم نهارا ففعل ثم قال إن كان بالليل ضمن وان كان بالنهار لم يضمن ثم قرا شريح * (إذ نفشت فيه غنم القوم) * [الأنبياء 78]
وقال النفش بالليل والهمل بالنهار
قال وقال معمر وبن جريج بلغنا ان حرثهم كان عنبا
205
واختلف الفقهاء في هذا المعنى على أربعة أقوال
أحدها كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن
والثاني لا ضمان فيما أصاب المنفلتة من الدواب والمواشي
والثالث ما أصابت بالليل فهو مضمون وما أصابت بالنهار فغير مضمون
والرابع الفرق بين الأموال والدماء
فاما أقوال الفقهاء في هذا الباب فذكر بن عبد الحكم قال قال مالك ما أفسدت المواشي والدواب من الزرع والحوائط بالليل فضمان ذلك على أهلها وما كان بالنهار فلا شيء على أصحاب الدواب ويقوم الزرع على الذي أفسدت بالليل على الرجاء والخوف
قال والحوائط التي [تحرث والتي] لا تحرث سواء والمخطر عليه وغير المخطر سواء يغرم أهلها ما أصابت بالليل بالغا ما بلغت وان كان أكثر من قيمتها
قال مالك وإذا انفلتت دابة بالليل فوطئت على رجل قائم لم يغرم صاحبها شيئا وانما هذا في الحوائط والزرع والحرث
قال مالك وإذا تقدم إلى صاحب الكلب الضاري أو البعير أو الدابة بما أفسدت ليلا [أو نهارا] فعليهم غرمه
قال أبو عمر لا خلاف عن مالك وأصحابه [في ذلك على ما ذكره بن عبد الحكم في كتابه
وهو قول الشافعي وأصحابه] الا فيما ذكر من التقدم إلى صاحب الدابة الضارية أو الكلب الضاري والبعير الصؤول فإن التقدم في ذلك سواء عنده وانما يضمن عندهم في الدواب والمواشي ما أفسدت في الحائط والزرع والاعتاب [والثمار] بالليل دون النهار
وستأتي مسألة الجمل الصؤول والكلب العقور في موضعها إن شاء الله عز وجل
وانما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع وشبهه بالليل دون النهار لان الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ورحالهم ليحفظوها ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم لأنها لا يمكن أربابها حفظها بالليل لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم ان المواشي قد اواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها واما النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها وتعاهدها ودفع المواشي عنها
206
ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيها لترعى [فهو عيشها] فألزم أهل الحوائط حفظها نهارا لذلك والله أعلم وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلا لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل
ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضا وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم
وهذا عندي - والله أعلم - إذا أطلقت الدواب والمواشي دون راع يرعاها
وأما إذا كانت ترعى ومعها صاحبها فلم يمنعها [من زرع غيره وهو قادر على منعها] فهو المسلط لها وهو - حينئذ - كالسائق والراكب والقائد
وسيأتي ذكر اختلاف الناس في ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) (1) - إن شاء الله عز وجل
وقال الليث بن سعد يضمن رب الماشية ما أفسدت بالليل والنهار ولا يضمن أكثر من قيمة الماشية
قال أبو عمر لم يفرق الليث بين الليل والنهار في هذا المعنى ولم يتجاوز بالضمان قيمة الماشية وأظنه قاسة على العبد الجاني الا يفتكه سيده بأكثر من قيمته وان جنايته في الليل والنهار سواء فخالف الحديث في (العجماء جرحها جبار) وخالف حديث ناقة البراء وقد تقدمه إلى ذلك طائفة من العلماء منهم عطاء
قال بن جريج قلت لعطاء الحرث تصيبه الماشية ليلا أو نهارا قال يضمن صاحبها ويغرم
قلت كان عليه حظر أو لم يكن قال نعم قلت ما يغرم قال يغرم قيمة ما اكل حماره ودابته وماشيته
وقال معمر عن بن شبرمة يقوم الزرع على حاله التي أصيب عليها دراهم
وذكر أبو بكر قال حدثني حفص عن حجاج عن القاسم بن نافع قال قال عمر ما أصاب المنفلت فلا ضمان على صاحبه ومن أصاب المنفلت ضمن
207
وقال حدثني عبد السلام عن عمرو بن الحسن عن بن سيرين - في الدابة المرسلة تصيب مالا ليس عليه ضمان - قال وحدثني أبو خالد عن أشعث عن الشعبي قال كل مرسلة فصاحبها ضامن
وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز تضمين رب الماشية ليلا ونهارا من طرق لا تصح
وروي عنهما في البعير الضاري الجمل والحمار والبقرة الضارية انه يعهد إلى ربها ثلاثا ثم يعقرن وكانا يأمران كل من له حائط ان يحظره حظارا من النصارى يكون إلى نحر البعير فان تسور رد إلى أهله ثلاث مرات ثم عقر
قال أبو عمر الصواب في هذا الباب - والله أعلم - ان يضمن رب الماشية ما أفسدت ليلا بالغا ما بلغت الجناية لأن الظاهر من حديث ناقة البراء الضمان مطلقا غير مقيد بقيمة الناقة وغيرها وان حكم الليل في ذلك بخلاف حكم النهار
وكان يحيى بن يحيى يفتي بقول الليث في ذلك يحمل الناس عليه وقضى به أكثر القضاة عندنا بعده واعتل عندهم بأن مالكا يذهب إلى ذلك في الدابة الضارية المعتادة الانطلاق عى زرع الناس
واختلف قول الثوري في هذه المسألة
فروى بن المبارك عنه انه لا ضمان على أصحاب الماشية بالليل ولا بالنهار
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه قالوا لا ضمان على أرباب البهائم فيما تفسده أو تجني عليه لا في الليل ولا في النهار الا ان يكون راكبا أو سائقا أو قائدا
وحجتهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (العجماء جرحها جبار) (1) وقالوا هذا حكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما شرع لداود وسليمان
قال الله عز وجل * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * [المائدة 48]
وروى الواقدي عن الثوري في شاة وقعت في غزل حائك بالنهار انه يضمن
فقال الطحاوي تصحيح الروايتين عنه انه إذا ارسلها محفوظة لم يضمن بالليل ولا بالنهار وإذا ارسلها سائبة ضمن
قال أبو عمر إذا كان على أهل الحوائط حفظها بالنهار فقد فعل أرباب المواشي
208
إذا سيبوها ما أبيح لهم فلا ضمان عليهم على ظاهر حديث ناقة البراء والله أعلم
1431 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ان رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها (1) فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأمر عمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم ثم قال عمر أراك تجيعهم ثم قال عمر والله لأغرمنك غرما يشق عليك ثم قال للمزني كم ثمن ناقتك فقال المزني قد كنت والله امنعها من أربعمائة درهم فقال عمر اعطه ثمانمائة درهم
قال يحيى سمعت مالكا يقول وليس على هذا العمل عندنا في تضعيف القيمة ولكن مضى امر الناس عندنا على أنه انما يغرم الرجل قيمة البعير أو الدابة يوم يأخذها
قال أبو عمر ادخل مالك هذا الحديث في كتابه (الموطأ) وهو حديث لم يتوطأ عليه ولا قال به أحد من الفقهاء ولا أرى والعمل به انما تركوه - والله أعلم - لظاهر القران والسنة المجتمع عليها
فأما القران فقول الله تعالى * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * [البقرة 194] ولم يقل بمثلي ما اعتدى عليكم
وكذلك قوله تعالى * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * [النحل 126]
واما السنة فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على الذي اعتق شقصا له في عبد بقيمة حصة شريكه بالعدل لما ادخل عليه من النقص وضمن الصحفة التي كسرها بعض أهله بصحفة مثلها وقال (صحفة مثل صحفة)
واجمع العلماء على أنه لا يغرم من استهلك شيئا الا مثله أو قيمته [واجمعوا انه لا يعطى أحد بدعواه] وان البينة عليه فيما يدعيه إذا لم يقر له به المدعي عليه
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أعطي قوم بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على المدعي
209
وفي هذا الحديث تصديق المزني فيما ذكره من ثمن ناقته
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لو صح كان أصلا لفظ عمر في تضعيف القيمة في ناقة المزني وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حريسة الجبل (غرامة مثليها وجلدات نكال ولا قطع) (1)
وهذا عند العلماء الذين يصححون هذا الحديث منسوخ بما يتلون من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع عليها
وقد كان عثمان يزيد في الشهر الحرام ثلث الجناية في المال وتابعة بن شهاب وغيره
ذكره عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن الزهري عن أبان بن عثمان ان عثمان أغرم في ناقة محر م اهلكها رجل فأغرمه الثلث زيادة على ثمنها
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال ما أصيبت من مواشي الناس وأموالهم في الشهر الحرام فإنه يزاد فيه الثلث
وروى بن وهب هذا الحديث عن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه وساقة بنحو سياقة مالك في معنى الغرم وتصديق المزني في ثمن ناقته وتضعيف القيمة له
وقد جوده من قال فيه عن أبيه فان يحيى بن عبد الرحمن لم يلق عمر ولا سمع منه وأبوه عبد الرحمن سمع من عمر وروى عنه الا أنه قال فيه ان هذه القصة كانت [بعد موت حاطب
وهذا غلط عند أهل السير لان حاطبا مات في سنة ثلاثين في خلافة عثمان
والحديث ذكره بن وهب في موطئه قال واخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال توفي حاطب وترك عبيدا يعملون [في ماله] فأرسل عمر إليه ذات يوم ظهرا وهم عنده فقال هؤلاء أعبدك سرقوا ووجب عليهم ما وجب على السارق انتحروا ناقة لرجل من مزينة واعترفوا بها ومعهم المزني فأمر كثير بن الصلت ان يقطع أيديهم ثم ارسل ورأى ما يأتي به بعد ما ذهب به كثير بن الصلت فجاء بهم فقال لعبد الرحمن بن حاطب اما والله لولا أظن انكم تستعملونهم وتبيعونهم حتى
210
لو أن أحدكم وجد ما حرم الله عليه فأكله حل له لقطعت أيديهم ولكن - والله - إذ تركتهم لأغرمنك غرما يوجعك كم ثمنها للمزني قال المزني كنت - والله امنعها من أربع مئة درهم قال فأعطه ثماني مائة درهم
قال بن وهب قال مالك ليس الامر عندنا على هذا ولكن له قيمتها
قال بن وهب وحدثني مالك بن انس والليث بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه مثله بمعناه
قال أبو عمر هكذا قال بن وهب في هذا الحديث أيضا عن مالك ومن ذكر معه عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه
وليس في (الموطأ) (عن أبيه) عند جمهور الرواة له عن مالك وأظن بن وهب وهم فيه عن مالك لرواية الليث وغيره له كذلك إذ جمعهم في حديث واحد وكان عنده أيضا فيه عن بن أبي الزناد باسناده كذلك عن أبيه فأجرى مالكا مجراهم في ذلك فوهم والله أعلم
ولعله ان يكون مالكا ذاكرا بما رواه غيره فمال إلى ذكره لأنه كذلك رواه عنه في موطئه دون سائر الرواة
قال أبو عمر اجمع العلماء على أن اقرار العبد على سيده في ماله لا يلزمه
وفي هذا الحديث ان عمر أغرم عبد الرحمن بن حاطب ما اعترف به عبيده
وهذا خبر تدفعه الأصول من كل وجه وبالله التوفيق
((29 - باب القضاء فيمن أصاب شيئا من البهائم))
قال مالك الامر عندنا فيمن أصاب شيئا من البهائم ان على الذي أصابها قدر ما نقص من ثمنها
قال أبو عمر اختلف العلماء في حكم ما يصاب من البهائم
وروي عن عمر بن الخطاب انه قضى في عين الدابة بربع ثمنها وانه كتب إلى شريح يأمره ان يقضي بذلك
وهو قول شريح والشعبي
وبه قال الحسن بن حي والكوفيون وقضى به عمر بن عبد العزيز
وروى الحسن بن زياد عن زفر ان في جميع ذلك ما نقص من البهيمة
211
وهو قول مالك والليث والشافعي
الا ان الليث قد روي عنه ان الدابة ان فقئت عينها أو كسرت رجلها أو قطع ذنبها فعلى فاعل ذلك ضمان الدابة حتى يؤدي ثمنها أو شراؤها
وقال الطحاوي القياس عند أصحابنا ايجاب النقصان الا من تركوا القياس بما روي عن عمر بن الخطاب انه قضى في عين الدابة بربع قيمتها بمحضر من الصحابة من غير خلاف منهم ولان غيره لا يكون رأيا وانما هو توقيف
1434 () - قال مالك في الجمل يصول (1) على الرجل فيخافه على نفسه فيقتله أو يعقره (2) فإنه ان كانت له بينة على أنه اراده وصال عليه فلا غرم عليه وان لم تقم له بينة الا مقالته فهو ضامن للجمل
قال أبو عمر قول الشافعي في هذا كقول مالك
قال الشافعي إذا صال الجمل عليه واراده فلا ضمان عليه كما لو قصده رجل ليقتله فدفعه عن نفسه ولم يقدر على دفعه الا بضربه فضربه فقتله كان هدرا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله أو دون نفسه فهو شهيد) (3)
وإذا سقط عنه الأكثر كان الأقل اسقط
وقال أبو حنيفة وأصحابه في بعير صال على رجل فقتله فهو ضامن
وهو قول عطاء
وروى علي بن معبد عن أبي يوسف أنه قال استقبح ان] اضمنه
وقال الثوري يضمن
قال أبو عمر روى وكيع عن الثوري عن مغيره عن إبراهيم ان بعيرا افترس
212
رجلا فقتله فجاء رجل فقتل البعير فأبطل شريح دية الرجل وضمن الرجل دية البعير
وروى معمر عن الزهري قال يغرم قاتل البهيمة ولا يغرم أهلها ما قتلت
روى بن مهدي عن زمعة بن صالح عن بن طاوس عن أبيه قال اقتلو الفحل إذا عدا عليكم ولا غرم عليكم
وبن عيينة عن الأسود بن قيس ان غلاما من قومه ادخل بختيه لزيد بن صوحان في داره فتخبطته فقتلته فجاء أبوه بالسيف فعقرها فرفع ذلك إلى عمر فأهدر دم الغلام وضمن أباه ثمن البختية
قال أبو بكر وحدثني معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن في الرجل يلقى البهيمة فيخافها عن نفسه قال يقتلها وثمنها عليه
واحتج الطحاوي للضمان بأن قال الضرورة إلى مال الغير لا تسقط الضمان قال والفرق بين الرجل والجمل ان القاتل يستحق القتل لقتله ولو قتل الجمل الرجل كان هدرا بحرمته بعد قتله كهي قبله
((30 - باب القضاء فيما يعطى العمال))
1435 - قال مالك فيمن دفع إلى الغسال ثوبا يصبغه فصبغه فقال صاحب الثوب لم امرك بهذا الصبغ وقال الغسال بل أنت امرتني بذلك فان الغسال مصدق في ذلك والخياط مثل ذلك والصائغ مثل ذلك ويحلفون على ذلك الا ان يأتوا بأمر لا يستعملون في مثله فلا يجوز قولهم في ذلك وليحلف صاحب الثوب فان ردها وأبى ان يحلف حلف الصباغ
قال أبو عمر اختلف العلماء في هذه المسألة ومثلها
فمنهم من قال كقول مالك (القول قول العمال)
ومنهم من قال قول رب الثوب
والأصل في هذا معرفة المدعي على المدعى عليه والقول ابدا عند جميعهم قول المدعى عليه ان لم تكن للمدعي بينة
فمن جعل رب الثوب مدعيا فلانه قد أقر انه اذن للصباغ في صبغ الثوب ثم
213
ادعى أنه لم يعمل له ما أمره به وكذلك الخياط قد أقر له رب الثوب [انه اذن له] في قطعه ثم ادعى بعد انه لم يقطعه القطع الذي امره به ليمضي عمله باطلا
ومن جعل القول قول رب الثوب فحجته ان الصباغ احدث في ثوب غيره ما لم يوافقه عليه ربه ولا بينة له وصار مدعيا ورب الثوب منكر لدعواه انه اذن له في ذلك العمل فالقول قوله لاجماعهم انهما لو اتفقا على أنه [استأجره] على عمل ثم ادعى انه عمله فقال رب المال لم يعلمه فالقول قول رب العمل
وقال الشافعي في كتاب (اختلاف بن أبي ليلى وأبي حنيفة) لو اختلفا في ثوب فقال له ربه أمرتك ان تقطعه قميصا وقال الآخر بل قباء
[قال بن أبي ليلى] القول قول الخياط لاجتماعهما على القطع
وقال أبو حنيفة القول قول رب الثوب قال لأنهما قد اجتمعا لأنه قد امره بالقطع [فلم يعمل] له عمله كما لو استأجره على حمل شيء بإجارة فقال لقد حملته لم يكن ذلك الا باقرار صاحبه
[قال الشافعي] وهذا أشبه القولين وكلاهما مدخول
قال المزني هو كما قال الشافعي لأنه لا خلاف اعلمه بينهم انه (من احدث حدثا فيما لا يملك فإنه مأخوذ بحدثه وان الدعوى لا تنفعه) والخياط مقر بان الثوب لربه وانه احدث حدثا وادعى واجازته عليه فان أقام بينة على دعواه والا حلف صاحبه وضمن ما أحدثه في ثوبه
قال أبو عمر المدعي متى أشكل امره من المدعى عليه فواجب الاعتبار فيه هل هو اخذ أو دافع وهل يطلب استحقاق شيء على غيره أو ينفيه فالطالب ابدا مدع والدافع المنكر مدعى عليه فقف على هذا الأصل تصب إن شاء الله
وقد اختلف أصحاب مالك إذا قال رب الثوب للصانع [أودعتك الثوب وقال الصانع] بل اعطيتنيه للعمل فالقول قول الصانع مع يمينه عند بن القاسم
قال سحنون وقال غيره الصانع مدع والقول قول رب الثوب كما لو قال لم ادفعه إليك ولكن سرق مني كان القول قوله
قال أبو عمر الامر في هذا واضح بان القول قول رب الثوب في اجماعهم على أنه لو قال رهنتني ثوبك هذا وقال ربه بل اودعتكه ان القول قول رب الثوب
214
1436 - قال مالك في الصباغ يدفع إليه الثوب فيخطئ به فيدفعه إلى رجل اخر حتى يلبسه الذي أعطاه إياه انه لا غرم على الذي لبسه ويغرم الغسال لصاحب الثوب وذلك إذا لبس الثوب الذي دفع إليه على غير معرفة بأنه ليس له فان لبسه وهو يعرف انه ليس ثوبه فهو ضامن له
قال أبو عمر خالفه أكثر الفقهاء في هذا منهم الشافعي والكوفي وقالوا رب الثوب مخير - ان شاء ضمن لابسه قيمة ما لبسه الا ان يكون اخلفه جدا فيضمن وان شاء ذلك للغسال الذي أخطأ بالثوب فدفعه إلى غير صاحبه فان غرم الغسال رجع على لابس الثوب بقيمة ما نقصه اللباس أو بقيمته ان اخلقه وان غرم اللابس لم يرجع بشيء على أحد لأنه انما أغرم قيمة ما استهلك كما لو اخذ خبزا أو شيئا من المأكول لغيره فأعطاه لمن اكله ان صاحبه مخير ان شاء ضمن الاكل وان شاء ضمن الذي اخذ خبزه
الا انهم اختلفوا ها هنا فقال بعضهم ان ضمن الاكل ورجع على المعطي لأنه غره وكأنه تطوع له بما أعطاه
هذا إذا لم يعلم الاكل انه مال غيره فان علم ضمن ولم يرجع على أحد
ومنهم من قال يغرمه الذي اكله على كل حال لان الأموال تضمن بالخطا كما تضمن بالعمد وبالله التوفيق
((31 - باب القضاء في الحمالة (1) والحول (2)))
1437 - قال مالك الامر عندنا في الرجل يحيل الرجل على الرجل بدين له عليه انه ان أفلس الذي أحيل عليه أو مات فلم يدع وفاء فليس للمحتال على الذي احاله شيء وانه لا يرجع على صاحبه الأول
215
قال مالك وهذا الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا
قال مالك فاما الرجل يتحمل له الرجل بدين له على رجل اخر ثم يهلك المتحمل أو يفلس فان الذي تحمل له يرجع على غريمه الأول
قال أبو عمر عند مالك في باب الحوالة حديث مسند رواه عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع) (1)
وهذا الحديث في رواية يحيى عن مالك في (الموطأ) في باب جامع الدين والحول من كتاب البيوع وهو عند جماعة من رواة (الموطأ) ها هنا
والحوالة عند مالك وأكثر العلماء خلاف الحمالة
والذي عليه مالك وأصحابه في الحوالة ما ذكره في (الموطأ) الا انه لم يذكر (إذا غره من فلس علمه فإنه يرجع عليه كالحمالة) وكذلك لو احاله على من لا دين له عليه فهي حمالة يرجع بها ان لحقه توا
وقد ذكر هذا من الوجهين بن القاسم وغيره عن مالك قالوا عن مالك إذا حال غريمه عن غريم له فقد بريء المحيل ولا يرجع عليه المحال بافلاس ولا موت الا ان يغره من فلس علمه من غريمه الذي أحال عليه فإن كان ذلك رجع عليه وان لم يغره من فلس علمه إذا كان له دين وان غره أو لم يكن عليه شيء فإنه يرجع عليه إذا احاله قال وهذه حمالة
وقال الشافعي يرجع المحيل بالحوالة ولا يرجع عليه بموت ولا افلاس
وهو قول احمد وأبي عبيد وأبي ثور انه لا يرجع على المحيل بموت ولا افلاس وسواء غره أو لم يغره من فلس عند الشافعي وغيره
وقال أبو حنيفة وأصحابه يبدأ المحيل بالحوالة ولا يرجع عليه الا بعد التوي (2)
والتوي عند أبي حنيفة ان يموت المحال عليه مفلسا أو يحلف ماله شيء ولم تكن للمحيل بينة
216
وقال أبو يوسف ومحمد هذا توي وافلاس المحال عليه توي أيضا
وقال شريح والشعبي والنخعي إذا أفلس أو مات رجع على المحيل
وقال عثمان البتي الحوالة لا تبرئ المحيل الا ان يشترط براءته فان شرط البراءة بيد المحيل إذا احاله على مليء وان احاله على مفلس ولم يقل انه مفلس فإنه يرجع عليه وان ابراه وان اعلمه انه مفلس وابراه لم يرجع على المحيل
وروى بن المبارك عن الثوري إذا احاله على رجل فافلس فليس له ان يرجع على الاخر الا بمحضرهما وان مات وله ورثة ولم يترك شيئا رجع حضروا أو لم يحضروا
وروى المعافى عن الثوري إذا كفل لمدين رجل بمال وابراه بريء ولا يرجع الا ان يفلس الكبير أو يموت فيرجع على صاحبه حينئذ
وقال الليث في الحوالة لا يرجع إذا أفلس المحال عليه
وقال زفر والقاسم بن معن في الحوالة له ان يأخذ كل واحد منهما بمنزلة الكفالة
وقال بن أبي ليلى يبرا صاحب الأصل بالحوالة
قال أبو عمر هذا اختلافهم في الحوالة واما الكفالة والحمالة وهما لفظتان معناهما الضمان فاختلاف العلماء في الضمان على ما أورده بحول الله لا شريك له
قال مالك وإذا كان المطلوب مليا بالحق لم يأخذ الكفيل الذي كفل به عنه ولكنه يأخذ حقه من المطلوب فان نقص شيء من حقه اخذه من مال الحميل الا ان يكون الذي عليه الحق عليه ديون لغيره فيخاف صاحب الحق ان يخاصمه الغرماء أو كان غائبا فله ان يأخذ الحميل ويدعه
قال بن القاسم لقد كان يقول له ان يأخذ أيهما شاء ثم رجع إلى هذا القول
وقال الليث إذا كفل المال وعرف مبلغه جاز عليه واخذ به وقال إن كفلت لك بحقك ولم اعرف الحق لم يجبر لأنه مجهول
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي واحمد [وإسحاق] إذا كفل عن رجل بمال فللطالب ان يأخذ من أيهما شاء من المطلوب ومن الكفيل
وقال أبو ثور الكفالة والحوالة سواء ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ @ 218 @ المضمون عنه قال ولا يجوز ان يكون مالا واحدا عن اثنين
وهو قول بن أبي ليلى قال أبو يوسف قال بن أبي ليلى ليس [له ان يأخذ الذي عليه الأصل قال وان كان رجلان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه كان] له ان يأخذ أيهما شاء
قال أبو يوسف وقال بن شبرمة في الكفالة ان اشترط ان كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فأيهما اختار اخذه وبرئ الاخر الا ان يشترط اخذها ان شاء جميعا
وروى شعيب بن صفوان عن بن شبرمة فيمن ضمن عن رجل مالا انه يبرأ المضمون عنه والمال على الكفيل
وقال في رجلين اقرضا رجلا ألف درهم على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فليس له ان يأخذ أحدهما بأصل المال وانما له ان يأخذ بما كفل له عن صاحبه وهذه خلاف رواية أبي يوسف
قال أبو عمر هذه أقوالهم ومذاهبهم في الكفالة بالمال واما الكفالة بالنفس فهي جائزة عند مالك وأصحابه الا في القصاص والحدود
وهو قول الأوزاعي والليث وأبي حنيفة وأصحابه
واما الشافعي فمرة ضعف الكفالة بالنفس على كل حال ومرة أجازها على المال
وقال مالك إذا كفل بنفسه إلى اجل وعليه مال غرم المال ان لم يأت به عند الاجل ويرجع به على المطلوب فان اشترط الضامن بالنفس انه لا يضمن المال كان ذلك له ولم يلزمه شيء من المال
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا كفل بالنفس ومات المطلوب بريء الكفيل ولم يلزمه شيء
وقال عثمان البتي إذا كفل بنفس في قصاص أو جراح فإنه ان لم يجئ به لزمته الدية أو أرش الجناية وهي له في مال الجاني ولا قصاص - علمت - على الكفيل
قال أبو عمر اما الحوالة فالأصل فيها قوله صلى الله عليه وسلم (إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع
217
وهذا هو الحالة بعينها بدليل رواية يونس [بن عبيد] عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم وإذا أحلت على مليء فاتبعه)
[وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحلت على مليء فاتبعه] وقوله (إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع) دليل على أنه إذا أحيل على غير مليء لم تصح الإحالة
وفي ذلك ما يوضح لك ما ذهب إليه مالك - رحمه الله - ان المحيل إذا غر المحال من فلس المحال عليه فإنه لا تلزمه الحوالة وله رجوعه بماله على المحال لأنه لما شرط الملئ في الحوالة دل ذلك على أن عدم ذلك يوجب غرم المال
ولا حجة عندي للكوفيين فيما نزعوا به من هذا الحديث انه إذا أفلس المحال عليه أو مات كان له الرجوع لان زوال الملك يوجب الرجوع على المحال
ولهم في ذلك حجج من جهة المقايسات لم ار لذكرها وجها
وكذلك قالوا إن ظاهر الحديث يوجب جواز الحوالة على من لا دين عليه للمحيل لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من عليه دين للمحيل وبين من لا دين عليه
وهذا عندي ليس كما قالوا لان الحوالة معناها ابتياع ذمة بذمة ومن لا دين عليه ليس للمحيل عليه شيء الا انهم جعلوا التطوع بما في الذمة كالذمة التي تكون عن بدل
والكلام في هذا تشغيب وفيه تعسف وشغب وبالله التوفيق
وقال أهل الظاهر الحوالة على الملئ لازمة رضي بها أو لم يرض [وليس بشيء] لان ابتياع الذمم كابتياع الأعيان في سائر التجارات والتجارة لا تكون الا عن تراض
واما الأصل في الضمان فقول الله عز وجل * (وأنا به زعيم) * [يوسف 72] أي كفيل وحميل وضامن
ومن السنة حديث قبيصة بن المخارق قال تحملت حمالة فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عنها فقال (نخرجها عنك من إبل الصدقة يا قبيصة ان المسالة لا تحل الا في ثلاث رجل تحمل حمالة فحلت له المسالة حتى يردها ثم يمسك) (1) وذكر تمام الحديث
219
وفي احلاله المسالة لمن تحمل حمالة عن قوم دليل على لزوم الحمالة للمتحمل ووجوبها عليه
وقد استدل بهذا الحديث من قال إن المكفول له تجوز له مطالبة الكفيل كان المكفول عليه مليئا أو معدما وزعم أن ذلك قول من قال إن المكفول ليس له مطالبة [الكفيل إذا قدر على مطالبة] المكفول عنه لان النبي صلى الله عليه وسلم أباح المسالة المحرمة بنفس الكفالة ولم يعتبر حال المحتمل عنه
وفي هذا الحديث أيضا دليل على جواز الحمالة بالمال المجهول لان فيه (تحملت حمالة) ولم يذكر لها قدرا [ولا مبلغا]
وممن أجاز الكفالة بالمجهول من المال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما
وقال بن أبي ليلى والشافعي لا تصح الكفالة بالمجهول لأنها مخاطرة
وفي هذا الباب أيضا حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر ان رجلا مات وعليه دين فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو اليسر هو علي فصلى عليه النبي عليه السلام فجاءه من الغد يتقاضاه فقال انما كان ذلك أمس ثم اتاه من [بعد] الغد فأعطاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الان بردت عليه جلدته)
هكذا رواه شريك عن بن عقيل عن جابر
وقد قال رواه زائدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر فقال فيه وقال أبو قتادة دينه علي يا رسول الله وجعل مكان أبي اليسر أبا قتادة
وهذا الحديث يدل على أن المطلوب لا يبرا بكفالة الكفيل حتى يقع الأداء ويدل على أن للطالب ان يأخذ بماله أيهما شاء ويدل على أن من كفل عن انسان بغير امره لم يكن له ان يرجع عليه لأنه لو كان له الرجوع لقام فيه مقام الطالب صاحب أصل الدين ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ولا كانت جلدته لتبرد والله أعلم
واما حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه ان رجلا توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك عليه دينارين وأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يصلي عليه حتى يؤدى عنه فتحمل بها أبو قتادة فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقد روي في حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال اتصلي عليه يا رسول الله ان قضيت عنه قال (نعم) فقضى عنه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
220
وقد رواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبي قتادة قال سمعت من أهلي من لا اتهم ان رجلا توفي فذكر الحديث
وأحاديث هذا الباب معلومة عند أهل العلم بالنقل كلها للاختلاف في أسانيدها [وألفاظها] وتضعيفهم لبعض ناقليها وأحسنها حديث الزهري
وقد اختلف عليه فيه أيضا فرواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين فاتي بميت فقال (اعليه دين) قالوا نعم ديناران فقال (صلوا على صاحبكم)
قال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قال (انا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته) (1)
هكذا رواه [عبد الرزاق عن معمر ورواه غيره] عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيه ضمان أبي قتادة وذكر سائر الحديث
ورواه عقيل عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا لم يذكر فيه الا (انا أولى بالمسلمين من أنفسهم) إلى اخره لا غير
((32 - باب القضاء فيمن ابتاع ثوبا وبه عيب))
1438 - قال مالك إذا ابتاع الرجل ثوبا وبه عيب من خرق أو غيره قد علمه البائع فشهد عليه بذلك أو أقر به فأحدث فيه الذي ابتاعه حدثا من تقطيع ينقص ثمن الثوب ثم علم المبتاع بالعيب فهو رد على البائع وليس على الذي ابتاعه غرم في تقطيعه إياه
قال وان ابتاع رجل ثوبا وبه عيب من حرق أو عوار فزعم الذي باعه انه لم يعلم بذلك وقد قطع الثوب الذي ابتاعه أو صبغه فالمبتاع بالخيار ان شاء ان يوضع عنه قدر ما نقص الحرق أو العوار من ثمن الثوب ويمسك الثوب فعل وان
221
شاء ان يغرم ما نقص التقطيع أو الصبغ من ثمن الثوب ويرده فعل وهو في ذلك بالخيار فإن كان المبتاع قد صبغ الثوب صبغا يزيد فيه ثمنه فالمبتاع بالخيار ان شاء ان يوضع عنه قدر ما نقص العيب من الثوب وان شاء ان يكون شريكا للذي باعه الثوب فعل وينظر كم ثمن الثوب وفيه الحرق أو العوار فإن كان ثمنه عشرة دراهم وثمن ما زاد فيه الصبغ خمسة دراهم كانا شريكين في الثوب لكل واحد منهما بقدر حصته فعلى حساب هذا يكون ما زاد الصبغ في ثمن الثوب
هكذا [هو في (الموطأ)] عند جميعهم
وقوله قد علمه البائع هو الذي ذكره بن القاسم عنه إذا دلس البائع بالعيب
[قال بن القاسم عن مالك (إذا دلس بالعيب] وهو يعلم ثم احدث المشتري في الثوب صبغا ينقص الثوب أو قطعه قميصا أو ما أشبهه فان المشتري بالخيار ان شاء حبس الثوب ورجع على البائع بما بين الصحة والداء وان شاء رده ولا شيء عليه
وان كان الصباغ يزيد فيه) فذكر ما في (الموطأ) على حسب ما أوردناه
وقول احمد في ذلك كقول مالك
وقال بن القاسم قال مالك ولو لبسه المشتري فانقصه لبسه فعليه ما نقصه لبسه ان أراد رده
قال مالك والتدليس بالحيوان وغير التدليس سواء لان الحيوان لم يبعه إياه على أن يقطعه والثياب اشتراها لتقطع
وإذا اشترى حيوانا فاعور عنده ثم اطلع على عيب لم يكن له ان يرده الا ان يرد معه ما نقص إذا كان عورا أو غيره من عيب مفسد دلس أو لم يدلس وما كان من عيب ليس بمفسد فله ان يرده ولا يرد معه ما نقصه في الحيوان كله
وقال الليث في الرجل يبتاع الثوب فيقطعه ثم يجد فيه العيب فإن كان مثل الخرق والرفو حلف البائع بالله ما علم ذلك فيه
واما ما كان من السقط فإنه ان علم أن كان عند البائع فهو رد عليه ويغرم له البائع اجر الخياطة
وقال الثوري إذا حدث به عيب عند المشتري واطلع على عيب لم يرده ورجع بقيمة العيب ليس له غير ذلك ورجع على البائع بفضل ما بين الصحة والداء
وقول الشافعي في ذلك كقول الثوري
222
قال الشافعي إذا حدث به عيب عند المشتري ثم اطلع على عيب رجع بقيمة العيب ليس له غير ذلك الا ان يشاء البائع ان يقبله ولا يأخذ شيئا
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا خاط الثوب قميصا أو صبغه ثم اطلع على عيب رجع بقيمة العيب وليس للبائع ان يقبله وان قطعه قميصا ولم يخطه ثم اطلع على عيب رجع بالعيب الا ان يشاء البائع ان يقبله ويرد عليه ثمنه وكذلك إذا حدث به عيب عند المشتري
وقال الحكم بن عتيبة يرده في حدوث العيب ويرد ما نقص العيب الحادث عنده
وقال عثمان البتي في الثوب والخشب إذا قطعهما ثم وجد عيبا ردهما مقطوعين ولا شيء عليه في القطع
قال أبو عمر القطع من المشتري في الثوب والصبغ الذي ينقصه بمنزلة العيب الحادث به ولا ينبغي له ان يرده ويأخذ ثمنه الذي أعطاه فيه الا ان يكون الثوب بحاله كما اخذه واما إذا زاد الصبغ في الثوب فهو عين ما للمشتري ولذلك كان الجواب فيه كما قال مالك ومن اتبعه في ذلك
واما من لم ير للمشتري إذا حدث عنده عيب ثم اطلع على عيب كان للبائع ان يرد ما وجد به العيب ولأنه شيء الا ان يرجع بقيمة الذي كان عند البائع فلما وصفنا لان الثوب قد دخله ما غيره عن حاله التي باعها عليه البائع فليس للمشتري الا الرجوع بما دلس له به البائع وسواء علم أو لم يعلم عندهم لان الخطا في ذهاب الأموال كالعمد
وقول من قال يرد المبيع بالعيب فيرد معه قيمة ما حدث عنده من العيب فهو اعتبار ذلك المعنى لأنه إذا رد قيمة ما حدث عنده من العيب فكأنه رده بحاله لأنه قد اخذ النقصان بالعيب الحادث عند المشتري حقه
واما قول عثمان البتي فقول ضعيف وكأنه لما قال لم يبن له العيب فقد سلطه على القطع فلا شيء له فيه
وقد بين مالك الفرق عنده بين الثياب والحيوان فيما حكاه بن القاسم عنه والمخالف له يقول لا فرق بين الحيوان والثياب لان البائع كما اذن له في القطع واللبس كذلك اذن له في الوطء والتأديب
وقد اجمع القائلون برد الثوب الموجود فيه العيب انه إذا لبسه لبسا يبليه به انه لا
223
يرده الا ويرد معه ما نقصه اللبس والأكثر يقولون إنه لا يرده وان له قيمة العيب
((33 - باب ما لا يجوز من النحل (1)))
1439 - مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف وعن محمد بن النعمان بن بشير انهما حدثاه عن النعمان بن بشير أنه قال إن أباه بشيرا اتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اكل ولدك نحلته مثل هذا) فقال لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فارتجعه)
قال أبو عمر قال صاحب كتاب (العين) النحل والنحلة العطايا [بلا استعاضة]
وقيل في قوله عز وجل * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * [النساء 4] أي هبة من مال اله تعالى لمن وفريضة عليكم
وبهذا المعنى روى جماعة أصحاب بن شهاب هذا الحديث الا ان بعضهما قال فيه (فارتجعه)
وبعضهم قال (فاردده)
والمعنى عندهم فيه واحد
وقد تابعه على هذا المعنى هشام بن عروة [عن أبيه عن النعمان بن بشير] [على اختلاف في ذلك وقد روى هذا الحديث عن النعمان بن بشير] جماعة منهم الشعبي بألفاظ مختلفة قد ذكرتها في (التمهيد) وأثبتها هناك بالأسانيد
قرأت على عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني أبو قلابة قال حدثني عبد الصمد قال حدثني شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير عن النعمان بن بشير ان أباه نحله نحلا فاتى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده
224
فقال (اكل بنيك أعطيت مثل هذا) قال لا فأبى ان يشهد
وكذلك رواه أبو معاوية عن هشام [بن عروة عن النعمان
ورواه جرير عن هشام] عن أبيه عن النعمان وقال فيه (فاردده)
وقال فيه حصين عن الشعبي سمعت النعمان بن بشير على المنبر يقول أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا ارضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت اني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فامرتني ان أشهدك يا رسول الله فقال (أعطيت أولادك مثل سائر ولدك مثل هذا) [قال لا] فقال (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) قال فرجع فرد عطيته (1) فلم يذكر في هذا الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امره برد العطية وانما فيه انه رجع فرد العطية إذ امره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدل بين أولاده
ورواه هشيم قال أخبرنا سيار ومغيرة وداود بن أبي هند ومجالد وإسماعيل بن سالم عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال انحلني أبي نحلا - قال إسماعيل بن سالم من بين القوم نحله غلاما له - وذكر الحديث نحو رواية حصين عن الشعبي
وفيه قال له (الك ولد سواه) قال قلت نعم قال (اكلهم أعطيتهم مثل ما أعطيت النعمان) قلت لا
قال هشيم فقال بعض هؤلاء المحدثين هذا جور وقال بعضهم هذه تلحية فاشهد على هذا غيري
وقال مغيرة في حديثه (أليس يسرك ان يكونوا في البر واللطف سواء قال نعم قال فاشهد على هذا غيري)
وذكر مجالد في حديثه (ان لهم عليك من الحق ان تعدل بينهم كما أن لك من الحق ان يبروك
225
فهذه الالفاظ كلها تدل على جواز العطية على كراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من اجل ما خاف عليه من دخول العقوق عليه من بنيه
وليس في هذه الالفاظ انه امره برد العطية
واختلف أهل العلم في الرجل يعطي بعض ولده دون بعض
فقال طاوس لا يجوز لاحد ان يفضل بعضه على بعض فان فعل لم ينفذ وفسخ
وبه قال أهل الظاهر
وروي مثله عن أحمد
وحجتهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (فارتجعه) وقوله (فاردده) من حديث مالك وغيره
وقال مالك والليث والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم لا باس ان يفضل بعض ولده بالنحلة دون بعض ويؤثره بالعطية دون سائر ولده وهم مع ذلك يكرهون ذلك على ما نذكره إن شاء الله عنهم والتسوية في العطايا إلى البنين أحب إلى جميعهم
وكان مالك - رحمه الله - يقول انما معنى هذا الحديث الذي جاء فيه فيمن نحل بعض ولده ماله كله
قال وقد نحل أبو بكر عائشة دون ولده
قال أبو عمر ذكره في (الموطأ) عن هشام عن بن شهاب عن عروة بن الزبير
1440 - عن عائشة انها قالت إن أبا بكر الصديق نحلها جاد عشرين وسقا (1) من ماله بالغابة (2) فلما حضرته الوفاة قال والله يا ابنتي ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك واني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه واحتزتيه (3) كان لك وانما هو اليوم مال وارث وانما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله (عز وجل
226
قالت عائشة فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته انما هي أسماء فمن الأخرى قال أبو بكر ذو بطن بنت خارجة أراها جارية
قال أبو عمر في حديث عائشة هذا ان من شرط صحة الهبة قبض الموهوب لها قبل موت الواهب قبل المرض الذي يكون منه موته وسنذكر ما للفقهاء في معنى قبض الهبة وحيازتها بعد في هذا الباب عند قول عمر ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها الحديث
وفي هذا حديث عائشة هذا جواز الهبة المجهول عينها إذا علم مبلغها وجواز هبة المشاع أيضا
وفيه ان الغنى أحب إلى الفضلاء من الفقر
واما اعطاء الرجل بعض ولده [دون بعض وتفضيل بعضهم على بعض] فقد ذكرنا ذلك
قال الشافعي ترك التفضيل في عطية الأبناء فيه حسن الأدب ويجوز له ذلك في الحكم
قال وله ان يرجع فيما وهب لابنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فارجعه)
قال أبو عمر روي عن جابر بن زيد أبي الشعثاء انه كان يقول في التفضيل بين الأبناء في النحل [يجوزه في الحكم] ويقضي به
وقال طاوس لا يجوز وان كان رغيفا محترقا
وبه قال بعض أهل الظاهر
واستدل الشافعي بان هذا الحديث على الندب بنحو ما ستدل به مالك من عطية أبي بكر عائشة دون سائر ولده
وبما ذكرناه من رواية داود وغيره عن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم (أيسرك ان يكونوا لك في البر كلهم سواء قال نعم قال (فاشهد على هذا غيري)
قال وهذا يدل على صحة الهبة لأنه لم يأمره بردها وأمره بتاكيدها باشهاد غيره عليها ولم يشهد هو عليها لتقصيره عن أولى الأشياء به وترك الأفضل له
وقال الثوري لا باس ان يخص الرجل بعض ولده بما شاء
[وقد روي عن الثوري انه كره ان القضاء ان يفضل الرجل بعض ولده على بعض في العطية
227
وقال أبو حنيفة وأصحابه من اعطى بعض ولده دون بعض كرهنا ذلك له وامضيناه عليه
وقد كره عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل ان يفضل بعض ولده على بعض
وكان إسحاق يقول مثل هذا ثم رجع إلى قول الشافعي
وكل هؤلاء يقولون إن فعل هذا أحد نفذ ولم يرد
ولم يختلف في ذلك عن أحمد
وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الخرقي في مختصره عنه قال فإذا فاضل بين ولده في العطية امر برده كما امر النبي صلى الله عليه وسلم فان مات ولم يردده فقد ثبت لمن وهب له إذا كان ذلك في صحته
واما قوله في حديث مالك (أكل ولدك نحلته مثل ذلك)
فان العلماء مجمعون على استحباب التسوية في العطية بين الأبناء الا ما ذكرنا عن أهل الظاهر من ايجاب ذلك
الا ان الفقهاء في استحبابهم للتسوية بين الأبناء في العطية اختلفوا في كيفية التسوية بينهم في العطية
فقال منهم قائلون التسوية بينهم ان يعطي الذكر مثل ما يعطي الأنثى وممن قال ذلك سفيان الثوري وبن المبارك
قال بن المبارك الا ترى ان الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سووا بين أولادكم فلو كنت مؤثرا أحدا اثرت النساء على الرجال)
وبه قال داود وأهل الظاهر
وقال آخرون التسوية ان يعطى الرجل مثل حظ الأنثيين قياسا على قسم الله تعالى الميراث بينهم وممن قال ذلك عطاء بن أبي رباح
وهو قول محمد بن الحسن واليه ذهب احمد وإسحاق
ولا احفظ لمالك في هذه المسالة قولا
واما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مالك في هذا الباب (فارجعه) ففيه دليل على أن للأب ان يرجع فيما وهب لابنه [فقد اختلف العلماء أيضا في هذا المعنى
فذهب مالك وأكثر أهل المدينة إلى أن للأب ان يعتصر ما وهب لابنه]
ومعنى الاعتصار عندهم الرجوع في الهبة
228
وليس ذلك عندهم لغير الأب الا ان الام عندهم إذا وهبت لابنها شيئا وهم أيتام لم ترجع في هبتها لأنها في معنى الصدقة حينئذ وان لم يكونوا أيتاما وكان أبوهم حيا كان لها ان ترجع فيما وهبته لولدها
هذا هو الأشهر عن مالك وقد روي عنه انها لا ترجع أصلا
ولم يختلف عن مالك ان الجد لا يرجع فيما وهب لابن ابنه
وكذلك لم يختلف قول مالك وأصحابه ان الولد إذا وهب له أبوه هبة ثم استحدث الولد دينا داينه الناس عليه من اجل الهبة أو نكح لم يكن للأب - حينئذ - الرجوع في شيء من هبته لولده
وهذا كله في الهبة
فاما الصدقة فإنه لا رجوع فيها للأب ولا لغير أب بحال من الأحوال لان الصدقة انما يراد بها وجه الله تعالى وما أريد به وجه الله لم يجز الاعتصار والرجوع فيه وسنذكر ما لسائر العلماء من المذاهب في الرجوع في الهبة في باب الاعتصار في الهبة - إن شاء الله تعالى أولى المواضع بذلك
وانما ذكرنا هنا قول مالك لما ارتبط به من معنى الحديث المسند
واما قول أبي بكر في حديث عائشة هذا انما هما أخواك وأختاك فقالت له عائشة انما هي أسماء فمن الأخرى فأجابها أبو بكر وقال (ان ذا بطن بنت خارجة أراها جارية فهذا منه - رضي الله عنه - ظن لم نخطئه فكانت ذو بطن بنت خارجة جارية اتت بعده فسميت أم كلثوم
واما بنت خارجة فهي زوجته واسمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الذي اخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر إذ قدم المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم واخى بين المهاجرين والأنصار وكان قول أبي بكر ظنا كاليقين
والعرب تقول [ظن الحليم مهابة
وتقول] أيضا (من لم ينتفع بظنه لم ينتفع بيقينه)
وتقول أيضا (الظن مفتاح اليقين)
وقال أوس بن حجر
(الألمعي الذي يظن لك الظنن
* كان قد رأى وقد سمعا
229
وروي ذلك عن عثمان وعلي - رضي الله عنهما -
ومما يمدح به الظن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يموتن أحدكم الا وهو حسن الظن بالله عز وجل) (1)
وقال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله تعالى (انا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) (2)
وقال الحسن البصري في أن المؤمن أحسن الظن فأحسن العمل
[قال أبو عمر] واما ظن الفاسق [والكافر] والمنافق فمذموم غير ممدوح
قال الله تعالى فيهم * (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) * [الفتح 12]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن فان الظن اكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا) (3)
قال الله تبارك وتعالى * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * [النجم 28]
فقد ذكرنا في كتاب النساء من كتاب الصحابة بنت خارجة المذكورة وابنتها بما يجب من ذكرهما هناك والحمد لله كثيرا
1441 - مالك عن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ ان عمر بن الخطاب قال ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فان مات بن أحدهم قال مالي بيدي لم اعطه أحدا وان مات هو
230
قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه من نحل نحلة فلم يجزها الذي نحلها حتى يكون ان مات لورثته فهي باطل
قال أبو عمر صح القضاء من الخليفتين أبي بكر وعمر وروي [ذلك] عن عثمان وعلي ان الهبة لا تصح الا بان يحوزها الموهوب له في حياة الواهب وينفرد بها دونه وقد تقدمت رواية مالك عن أبي بكر في ذلك
ورواه بن عيينة قال حدثنا الزهري عن عروة عن عائشة ان أباها نحلها جادا عشرين وسقا من ماله فلما حضرته الوفاة جلس فتشهد وحمد الله واثنى عليه ثم قال اما بعد يا بنية فاني - والله - ان أحب الناس إلي غنى بعدي لانت وان أعز الناس علي فقرا بعدي لانت واني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من مالي وددت انك حزتيه وحددتيه وانما هو اليوم من مال الوارث وانما هما أخواك وأختاك قالت هذا أخواي فمن اختاي قال ذو بطن بنت خارجة فاني أظنها جارية قالت لو كان ما بين كذا وكذا لرددته
قال أبو عمر اتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي [وأصحابهم] ان الهبة لا تصح الا بالحيازة لها
ومعنى الحيازة القبض بما يقبض به مثل تلك الهبة
الا انهم اختلفوا في هبة المشاع وسنذكر ذلك بعد إن شاء الله تعالى
والهبة عند مالك على ما أصفه لك تصح بالقول من الواهب والقبول من الموهوب له تتم بالقبض والحيازة وما دام الواهب حيا فللموهوب له المطالبة بها الواهب حتى يقبضها فان قبضها تمت له وصارت ملكا من ملكه وان لم يقبضها حتى يموت الواهب بطلت الهبة عنده لأنهم انزلوها حين وهبها ولم يسلمها إلى أن مات منزلة من أراد اخراج تلك العطية بعد موته من راس ماله لوارث أو غير وارث وكانت في يده طول حياته فلم يرض بها بعد مماته فلم يجز له شيء من ذلك
هذا حكمه عند مالك وأصحابه إذا مات الواهب فان مات الموهوب له قبله كان لورثته عنده ان يقوموا مقامه بالمطالبة لها حتى يسلم إليهم الواهب
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم الهبة لا تصح الا بالقبض من الموهوب له وتسليم من الواهب فإن لم يكن ذلك فهي باطل وليس الموهوب به ان يطالب الواهب بتسليمها لأنها ما لم تقبض عده وعده بها فان وفي حمد وان لم يوف بما وعد ولم يوهب بما سلم لم يقض عليه بشيء
231
وقال أبو ثور وأحمد بن حنبل تصح الهبة والصدقة غير مقبوضة
ورووا ذلك عن علي - رضي الله عنه - من وجه لا يحتج به
قال أبو عبد الله المروزي - رحمه الله اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ان الهبة لا تصح الا مقبوضة
وقد روي عن أحمد وهو الصحيح عنه ان الهبة إذا كانت مما يؤكل أو يوزن لم يصح شيء منها الا بالقبض وما عدا المكيل والموزون فالهبة صحيحة [جائزة] بالقول وان لم تقبض وذلك كله إذا قبضها الموهوب له
واختلفوا في هبة المشاع وكيف القبض فيها
فقال مالك هبة المشاع جائزة ولا تصح الا بقبض الجميع وتصح للشريك في المشاع إذا تخل الواهب عنها واخذها من يده وانفرد الشريك الموهوب له بها
وقال الشافعي وأبو ثور واحمد وإسحاق تصح الهبة في المشاع والقبض فيها كالقبض في البيع سواء
وقال أبو حنيفة وأصحابه الهبة للمشاع باطل ولا تصح الا مقبوضة معلومة مفردة كما يصح الرهن عندهم فيفرد المرتهن وكذلك الموهوب له ويقبضه ولا شركة فيه لغيره وقد بينا ذلك في كتاب الرهن
((34 - باب ما يجوز من العطية))
قال أبو عمر في هذا الباب عند جمهور رواة (الموطأ) حديث مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عثمان في نحلة الرجل ابنه الصغير وهبته له وحيازته
وهو عند يحيى في باب مفرد في اخر الأقضية وهناك نذكره كما رواه يحيى - إن شاء الله تعالى
1442 - قال مالك الامر عندنا فيمن اعطى أحدا عطية لا يريد ثوابها فاشهد عليها فإنها ثابتة للذي اعطيها الا ان يموت المعطي قبل ان يقبضها الذي اعطيها
قال وان أراد المعطي امساكها بعد ان اشهد عليها فليس ذلك له وإذا قام عليه بها صاحبها اخذها
232
قال مالك ومن اعطى عطية ثم نكل الذي أعطاها فجاء الذي اعطيها بشاهد يشهد له انه أعطاه ذلك عرضا كان أو ذهبا أو ورقا أو حيوانا احلف الذي اعطى مع شهادة شاهده فان أبى الذي أعطي ان يحلف حلف المعطي وان أبى ان يحلف أيضا أدى إلى المعطى ما ادعى عليه إذ كان شاهد واحد فإن لم يكن له شاهد فلا شيء له
قال مالك ومن اعطى عطية لا يريد ثوابها ثم مات المعطى فورثته بمنزلته وان مات المعطي قبل ان يقبض المعطى عطيته فلا شيء له وذلك أنه أعطي عطاء لم يقبضه فان أراد المعطي ان يمسكها وقد اشهد عليها حين أعطاها فليس ذلك له إذا قام صاحبها اخذها
قال أبو عمر قد تقدم القول في هذا كله وأوضحنا فيه مذهب مالك ومذهب غيره من الفقهاء في الباب قبل هذا والذي دعانا إلى ما ذكره هناك قول أبي بكر الصديق لعائشة
فيه (لو كنت حزتيه وجددتيه لكان لك وانما هو اليوم مال الوارث)
وقول عمر فيه أيضا (ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فان مات بن أحدهم قال مالي بيدي الحديث)
وهذان الحديثان أصل حيازة الهبة في الموطأ وكذلك ذكرنا اختلاف العلماء في قبض الهبة وحيازتها في الباب قبل هذا
وذكرنا عن الشافعي والكوفيين ان الهبة إذا لم يقبضها الموهوب له فليس له مطالبة الواهب بها ان منعه إياها
وذكرنا ان أكثر العلماء على ذلك وبالله توفيقنا
((35 - باب القضاء في الهبة))
1443 - مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف المري ان عمر بن الخطاب قال من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها ومن وهب هبة يرى أنه انما أراد بها الثواب فهو على هبته يرجع فيها إذا لم يرض منها
233
قال أبو عمر روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ان عمر بن الخطاب قال من وهب هبة فلم يثب منها فهو أحق بها
[وعن الأعمش عن إبراهيم ان عمر بن الخطاب قال من وهب هبة لم يثب منها فهو أحق بها] الا لذي رحم
وعن أيوب عن بن سيرين عن شريح قال من اعطى في صلة رحم أو قرابة أو حق أو معروف فعطيته جائزة والطالب المستعزز يثاب من هبته أو ترد إليه
1444 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا ان الهبة إذا تغيرت عند الموهوب له للثواب بزيادة أو نقصان فان على الموهوب له ان يعطي صاحبها قيمتها يوم قبضها
[قال أبو عمر نذكر في هذا الباب أقاويل الفقهاء في الهبة للثواب وقد ارجات القول في الرجوع في الهبة لذي رحم وغيره إلى باب الاعتصار في الصدقة - إن شاء الله تعالى]
قال أبو عمر مذهب مالك في الهبة للثواب انها جائزة غير مردودة إذا قبضها الموهوب له كان للموهوب مطالبته بالثواب منها ذا رحم منه كان أو غير رحم الا ان يكون فقيرا يرى أنه أراد بها الصدقة عليه فلا ثواب عليه حينئذ والموهوب له مخير في ردها أو اعطاء العوض منها هذا ما لم تتغير عنده بزيادة أو نقصان فان تغيرت عنده بزيادة أو نقصان كان للواهب قيمتها يوم قبضها الموهوب له
وكان إسحاق بن راهويه يذهب في ذلك إلى قول مالك
وروي عن عمر وعلي وفضالة بن عبيد جواز الهبة للثواب
واما الشافعي فالهبة للثواب عنده باطل مردودة ليست بشيء
وهو قول أبي ثور وداود لأنها معاوضة على مجهول غير مذكور وذلك بيع لا يجوز
واما أبو حنيفة وأصحابه فالهبة للثواب عندهم جائزة على نحو ما ذهب إليه مالك في ذلك وان زادت عند الموهوب له أو نقصت أو هلكت لم يكن
234
للواهب فيها رجوع ان كانت لذي رحم لأنه - حينئذ - صلة خالصة له
وهو قول الثوري
وجملة قول الكوفيين في الهبة للثواب ان كل هبة وقعت على شرط عوض فهي والعوض منها على حكم الهبة لا تصح ما لم تقبض ويمنع كل واحد [منها صاحبه ان شاء فان مضت وقبض العوض منها فهي كالبيع ويرد كل واحد] منهما ما وجد فيه العيب من ذلك ان شاء
وقال أحمد بن حنبل ليس لأحد رجوع ولا ثواب في هبة ولا هدية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) (1)
وهو قول داود وأهل الظاهر
حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بن عمر قال حدثني سفيان عن أيوب عن عكرمة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس منا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) (1))
1 (36 - باب الاعتصار (3) في الصدقة))
1445 - قال مالك الامر عندنا الذي لا اختلاف فيه ان كل من تصدق على ابنه بصدقة قبضها الابن أو كان في حجر أبيه فاشهد له على صدقته فليس له ان يعتصر (4) شيئا من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة
قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا فيمن نحل ولده نحلا أو أعطاه عطاء ليس بصدقة ان له ان يعتصر ذلك ما لم يستحدث الولد دينا يداينه الناس به ويامنونه عليه من اجل ذلك العطاء الذي أعطاه أبوه فليس لأبيه ان يعتصر من ذلك شيئا بعد أن تكون عليه الديون أو يعطي الرجل ابنه أو ابنته فتنكح المراة الرجل
235
وانما تنكحه لغناه وللمال الذي أعطاه أبوه فيريد ان يعتصر ذلك الأب أو يتزوج الرجل المراة قد نحلها أبوها النحل انما يتزوجها ويرفع في صداقها (1) لغناها ومالها وما أعطاها أبوها ثم يقول الأب انا اعتصر ذلك فليس له ان يعتصر من ابنه ولا من ابنته شيئا من ذلك إذا كان على ما وصفت لك
قال أبو عمر قد قلنا إن الاعتصار عند أهل المدينة هو الرجوع في الهبة والعطية ولا اعلم خلافا بين العلماء ان الصدقة لا رجوع فيها للمتصدق بها
وكل ما أريد به - من الهبات - وجه الله تعالى بأنها تجري مجرى الصدقة في تحريم الرجوع فيها
واما الهبات إذا لم يقل الواهب فيها لله ولا أراد بهبته الصدقة المخرجة لله (عز وجل) فان العلماء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا
فمذهب مالك فيما ذكره في كتابه (الموطأ) على ما أوردناه من تخصيص ترك رجوع الأب في هبته لولده إذا نكحت الابنة أو استدان الابن ونحو ذلك على ما تقدم وصفه
واما الشافعي فليس لأحد عنده ان يرجع في هبته الا الوالد ثم وقف عن ذلك فقال لو اتصل حديث طاوس (لا يحل لواهب ان يرجع في هبته الا الوالد) لقلت به ولم أزد واهبا غيره وهب لمن يستثيب منه أو لمن لا يستثيب منه
قال أبو عمر قد وصل حديث طاوس حسين المعلم وهو ثقة ليس به باس
أخبرنا عبد الله بن محمد [قال حدثني محمد بن بكر] قال حدثني أبو داود قال حدثني مسدد قال حدثني يزيد بن زريع قال حدثني حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن بن عمر وبن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لاحد ان يعطي عطية أو يهب هبة ثم يرجع فيها الا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاءه ثم عاد في قيئه) (2)
قال أبو عمر اما قوله صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)
ولا خلاف بين أهل العلم في صحة اسناده
ومن أحسن أسانيده حديث شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن بن عباس
236
واما قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لواهب ان يرجع في هبته الا الوالد) فليس يتصل اسناده الا من حديث حسين المعلم كما وصفت لك
وبه قال أبو ثور
وقال أبو حنيفة وأصحابه كل من وهب هبة لذي رحم محرمة كالأخ والأخت وبن الاخوة والأخوات
وكذلك الأعمام والعمات والأخوال والخالات والاباء وان علوا والبنين وان سفلوا وكل من لا يحل له نكاحها أو كانت امرأة من جهة النسب والصهر
وكذلك الزوجان ان وهب أحدهما لصاحبه لم يكن للواهب منهم ان يرجع في هبته كما ليس للمتصدق ان يرجع في شيء من صدقته فان وهب لغير هؤلاء فله الرجوع في هبته ما لم تزد في بدنها أو يزيد فيها الموهوب له وما لم يمت واحد منهما وما لم تخرج الهبة من ملك الموهوب له إلى ملك غيره وما لم يعوض الموهوب له الواهب عوضا يقبله ويقبض منه فأي هذه الأشياء كانت فلا رجوع في الهبة معه كما لا يرجع في الصدقة ولا فيما وهب لذي رحم محرمة منه ولا فيما وهب أحد الزوجين لصاحبه
وإذا لم تكن هذه الأشياء والشروط التي ذكرنا والأوصاف التي وصفنا كان للواهب الرجوع في الهبة ولا يرجع عليه الا بحكم الحاكم له فيها أو بتسليم من الموهوب له
هذا كله قول أبي حنيفة وأصحابه فيما ذكر الطحاوي عنهم في (مختصره)
وحجتهم في ذلك الحديث عن عمر - رضي الله عنه - من رواية مالك وغيره عن داود بن الحصين عن أبي غطفان عن مروان عن عمر أنه قال (من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه الصدقة) فسوى بين الهبة لذي الرحم وبين الصدقة
وروى الأسود عن عمر مثله فيمن وهب لصلة رحم أو قرابة
وليس في حديث عمر ذكر الزوجين
ولا فرق بين الرحم المحرمة ولا غير المحرمة كما فعل الكوفيون
والأصل عندي الذي تلزم الحجة به انه لا يجوز لاحد الرجعة فيه لقوله صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) الا ان تثبت سنة تخص هذه الجملة أو يتفق على معنى من ذلك علماء الأمة وبالله التوفيق
237
((37 - باب القضاء في العمرى))
1446 - مالك عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن جابر بن عبد الله الأنصاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيما رجل اعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها ابدا) لأنه اعطى عطاء وقعت فيه المواريث
1447 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم انه سمع مكحولا الدمشقي يسال القاسم بن محمد عن العمري ما يقول الناس فيها فقال القاسم بن محمد ما أدركت الناس الا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا
قال مالك وعلى ذلك الامر عندنا ان العمرى ترجع إلى الذي اعمرها إذا لم يقل هي لك ولعقبك
قال أبو عمر هذه اللفظة لم يروها عن مالك أحد في (الموطأ) قوله (ان العمرى ترجع إلى الذي اعمرها إذا لم يقل لك ولعقبك) غير يحيى بن يحيى في (الموطأ) وقد رمى بها بن وضاح من كتابه
والمعروف عن مالك وأصحابه في العمرى انها ترجع إلى المعطي إذا مات المعطى
وكذلك إذا قال المعطي للمعطى هي لك ولعقبك ترجع أيضا إلى المعطي عند انقراض عقب المعطى إذا كان المعطي حيا والا قال من كان حيا من ورثته وأولى الناس بميراثه ولا يملك المعمر بلفظ العمرى عند مالك وأصحابه رقبة شيء من الأشياء وانما يملك بلفظ العمرى والسكنى والاعتمار والاعلال
238
والاعمار عندهم والاسكان سواء لا يملك بذلك رقبة شيء من الأشياء وكذلك الافقار والاخبال والاطراق وما كان مثل ذلك من ألفاظ العطايا لا يملك بشيء من ذلك كله رقبة الشيء المعطى وانما تملك به منفعته على حسب حاله
هذا كله قول مالك وأصحابه وهو تحصيل مذهبه
1448 - وكذلك ذكر في (الموطأ) باثر الحديث المذكور في أول الباب عن نافع ان عبد الله بن عمر ورث من حفصة بنت عمر دارها قال وكانت حفصة قد أسكنت بنت زيد بن الخطاب ما عاشت فلما توفيت بنت زيد قبض عبد الله بن عمر المسكن ورأى انه له
قال أبو عمر لأنه كان شقيق حفصة والمنفرد بميراثها فرجعت إليه الدار بعد موتها لان الاسكان لا يملك به الا المنفعة دون الرقبة
وكذلك الاعمار عند مالك وحجته في ذلك قول القاسم بن محمد ما أدركت الناس الا على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا يريد ان لفظ العمرى ينفي ان يكون للمعمر من الشيء الذي اعمر الا منفعته وعمره لا غير
ولم يأخذ مالك بحديثه المسند في هذا الباب عن [بن شهاب] عن أبي سلمة عن جابر وقال ليس عليه العمل [الا ما ذكره عنه يحيى بن يحيى في (الموطأ) وكان من اخر من روى عنه (الموطأ)]
وروى عنه بعض أصحابه أنه قال رايت محمدا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وسمعت عبد الله يعاتب محمدا ومحمد يومئذ قاض يقول له ما لك لا تقضي بالحديث الذي جاء عن رسول صلى الله عليه وسلم في العمرى - [يعني حديث بن شهاب] عن أبي سلمة [عن جابر] فيقول له محمد يا أخي لم أجد الناس على هذا فجعل عبد الله يكلمه ومحمد يأباه
قال أبو عمر لم يأخذ مالك بحديث العمرى ورده بالعمل عنده وقد اخذ به بن شهاب وغيره
وروى معمر عن بن شهاب عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال انما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم انما ان يقول هي لك ولعقبك فاما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها
239
[قال معمر وكان الزهري يفتي بذلك]
قال أبو عمر هذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن ويزيد بن قسيط وبه قال بن أبي ذئب والأوزاعي واليه ذهب أبو ثور وداود بن علي
وقال الأوزاعي قلت للزهري الرجل يقول [للرجل] جاريتي هذه لك حياتك أيحل له ان يطأها قال لا قلت فقال هي لك عمري أو عمرك فيحل له فرجها قال لا حتى يبينها له انما العمرى التي لا يكون فيها للمعمر شيء ان يقول هي لك ولعقبك يعطيها له ولعقبه لا يكون للمعطي فيها مثوبة
[وقال محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري حديث معمر هذا انما منتهاه إلى قوله هي لك ولعقبك وما بعده عندنا من كلام الزهري] قال وما رواه أبو الزبير عن جابر يرد حديث معمر هذا
قال أبو عمر حديث أبي الزبير رواه بن جريج [والحجاج بن أبي عثمان وحماد بن سلمة وإبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير] عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الأنصار امسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن اعمر شيئا حياته فهو له حياته وموته) (1)
وقد رواه بن جريج أيضا عن عطاء عن جابر
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن عثمان بن ثابت أبو بكر الصيدلاني ببغداد قال حدثني إسماعيل القاضي قال حدثني علي بن المديني قال حدثني سفيان قال حدثني بن جريج انه سمع عطاء يقول سمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تعمروا ولا ترقبوا فمن اعمر شيئا أو ارقبه فهو لورثته) (2)
قال سفيان وأخبرنا عمرو بن دينار عن سليمان بن يسار قال قضى طارق بالمدينة بالعمرى للوارث عن قول جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها
وقد ذكرنا الآثار بهذا المعنى في (التمهيد
240
قال أبو عمر من قال في العمرى بحديث أبي الزبير عن جابر وما كان مثله في العمرى جعل العمرى هبة مبتولة ملكا للذي اعمرها وأبطل شرط ذكر العمر فيها
وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما
وهو قول عبد الله بن شبرمة وسفيان الثوري والحسن بن صالح وبن عيينة وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كل هؤلاء يقولون بالعمري هبة مبتولة يملك المعمر رقبتها ومنافعها واشترطوا فيها القبض كسائر الهبات فإذا قبضها المعمر ورثها عنه ورثته بعده كسائر ماله لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل شرط المعمر فيها وجعلها ملكا للمعمر موروثا عنه
قالوا وسواء ذكر العقب في ذلك والسكوت عنه لأنه لو اعمرها من اعقبها أو من لا يكون له عقب كالمجبوب والعقيم فقال لك ولعقبك أو قال ذلك لمن له عقب فماتوا قبله لم يكن لذكر العقب معنى يصح الا انها حينئذ تورث عندهم عنه وقد يرثه غير عقبه
قالوا فذكر العقب لا معنى له في ذلك وانما المعنى الصحيح ما جاء به الأثر واضحا ان العمرى تورث عن المعطي لملكه لها بما جعلها رسول الله من ذلك له حياته وموته
وهو قول جابر بن عبد الله وبن عمر وبن عباس
ذكر معمر عن أيوب عن حبيبه بن أبي ثابت قال سمعت بن عمر وساله اعرابي اعطى ابنه ناقة له حياته فانتجت إبلا فقال بن عمر هي له حياته وموته
قال أفرأيت ان تصدق بها عليه قال فذلك ابعد له
قال أبو عمر هذا الحديث عن بن عمر يدل على أن مذهبه في العمرى بخلاف مذهبه في الاسكان والسكنى بدليل انه ورث من حفصة أخته دارا كانت أسكنتها بنت زيد بن الخطاب ما عاشت فلما ماتت بنت زيد بن الخطاب بعد موت حفصة ورث بن عمر الدار عن أخته حفصة لأنها كانت على ملكها وكان عبد الله بن عمر وارثها لأنه كان شقيقها
وعلى هذا أكثر أهل العلم في الاعمار والعمرى إذا ذلك مخالف للاسكان والسكنى
وقد كان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين العمرى والسكنى وقالوا من اسكن أحدا داره لم ينصرف إليه ابدا
241
وكان الشعبي يقول إذا قال هي لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته وإذا قال داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها
قال أبو عمر جعل هؤلاء السكنى كالعمرى هبة تملك بها الرقبة وجعل ملك العمرى كالسكنى لا تملك بها الا المنفعة دون الرقبة
وذلك الذي عليه جمهور أهل العلم في السكنى والاسكان انه لا تملك به رقبة الشيء
والخبر عن بن عباس في العمرى رواه الثوري وغيره عن أبي الزبير عن طاوس عن بن عباس قال لا تحل العمرى ولا الرقبى فمن اعمر شيئا فهو له [ومن أرقب شيئا فهو له]
والخبر عن جابر رواه بن جريج عن أبي الزبير عن جابر وقد ذكرناه في (التمهيد)
وهو قول طاوس ومجاهد وسليمان بن يسار وبه كان يقضي شريح وقد ذكرنا اخبار هذا الباب وطرقها وألفاظها واختلافها في (التمهيد) والحمد لله كثيرا
وروى بن عيينة عن أيوب السختياني عن بن سيرين قال خاصم رجل إلى شريح في العمرى فقضى له وقال لست انا قضيت لك ولكن محمدا قضى بذلك منذ أربعين سنة العمرى ميراث عن أهلها من ملك شيئا حياته فهو لورثته إذا مات
فاما حديث بن شهاب في صدر هذا الباب فقد أوردنا فيه رواية مالك له بألفاظه ثم رواية معمر له بألفاظه
ورواه بن أبي ذئب والأوزاعي ومحمد بن أخي الزهري والليث بن سعد على خلاف ذلك
فاما رواية بن أبي ذئب فذكرها في موطئه [عن بن شهاب] عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قضى فيمن اعمر عمرى له ولعقبه فهي له قبله لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا مثوبة
قال أبو سلمة لأنه اعطى عطاء وقعت به المواريث فقطعت المواريث شرطه
قال أبو عمر بين بن أبي ذئب موضع المسند المرفوع من هذا الحديث فجعل سائره من قول أبي سلمة فجوده
242
وذلك بخلاف ما قال محمد بن يحيى إذ جعله من قول الزهري
ورواه الليث عن بن شهاب باسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن اعمرها ولعقبه) (1)
ورواه الأوزاعي قال حدثني الزهري قالا حدثني أبو سلمة قال حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العمرى لمن اعمرها هي له ولعقبه)
ورواية بن أخي الزهري نحو ذلك
ومعاني رواة بن شهاب كلها متقاربة
واما قوله في حديث مالك عن نافع عن بن عمر انه ورث حفصة بنت عمر دارها فاسقط حرف الجر وهي لغة للعرب
قال أبو الحجناء
(أضحت جياد بن قعقاع مقسمة
* في الأقربين بلا من ولا ثمن)
(ورثتيهم فتسلوا عنك إذ ورثوا
* وما ورثتك غير الهم والحزن)
أراد وما ورثت منك غير الهم والحزن
وقالت زينب الطثرية
(مضى وورثناه دريس مفاضة
* وابيض هنديا طويلا حمائله))
1 (38 - باب القضاء في اللقطة (2)))
1449 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة
فقال (اعرف عفاصها (3) ووكاءها (4) ثم عرفها سنة (5) فان جاء صاحبها والا
243
فشانك بها) قال فضالة الغنم يا رسول الله قال (هي لك أو لأخيك أو للذئب) قال فضالة الإبل قال (ما لك ولها معها سقاؤها (1) وحذاؤها (2) ترد الماء وتاكل الشجر حتى يلقاها ربها)
1450 - مالك عن أيوب بن موسى عن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني ان أباه اخبره انه نزل منزل قوم بطريق الشام فوجد صرة فيها ثمانون دينارا فذكرها لعمر بن الخطاب فقال له عمر عرفها على أبواب المساجد واذكرها لكل من يأتي من الشام سنة فإذا مضت السنة فشانك بها
قال أبو عمر روى هذا الحديث المسند في هذا الباب جماعة عن ربيعة كما رواه مالك
ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن يزيد مولى المنبعث
كما رواه ربيعة بمعنى واحد الا في شيء نذكره بعد إن شاء الله تعالى
وهو حديث مسند صحيح فيه معان اجمع الفقهاء على القول بها ومعان اختلفوا فيها فما أجمعوا عليه ان عفاص اللقطة وهي الخرقة المربوط فيها الشيء الملتقط
واصل العفاص في اللغة ما سد به فم القارورة وكل ما سد به فم اناء فهو عفاص
الوكاء هو الخيط التي تربط به وهما جميعا من علامات اللقطة إذا جاء بوصفها صاحبها كان له عند أكثر أهل العلم بذلك اخذها وجاز للملتقط لها دفعها إليه
واجمعوا ان اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء له فإنها تعرف حولا كاملاف
واجمعوا ان صاحبها ان جاء وثبت انه صاحبها انه أحق بها من ملتقطها وانه يضمن الملتقط قيمتها ان كان اكلها أو استهلكها قبل الحول أو بعده فإن كان استهلاك الملتقط لها بعد الحول كان صاحبها مخيرا بين ان يضمن الملتقط قيمتها وبين ان يسلم له فعله فينزل على اجرها
244
هذا كله لا خلاف بين أهل العلم فيه
واجمعوا ان يد الملتقط لها لا تنطلق على التصرف فيها بوجه من الوجوه قبل الحول ان كانت مما يبقى مثلها حولا دون فساد يدخلها
واجمعوا ان لاخذ ضاله الغنم في الموضع المخوف عليها اكلها
واختلفوا في سائر ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى
فمنها اختلافهم في الأفضل من اخذ اللقطة أو تركها
فروى بن وهب عن مالك انه سئل عن اللقطة يجدها الرجل اياخذها [فقال] اما الشيء الذي له بال فاني أرى ذلك
قال وان كان لا يقوى على تعريفه فإنه يجد من هو أقوى على ذلك منه ممن يثق به يعطيه فيعرفه فإن كان شيء له بال فارى ان يأخذه
وروى يحيى بن يحيى عن بن القاسم عن مالك انه كره اخذ اللقطة والابق جميعا قال فان اخذ أحد شيئا من ذلك فابق أو ضاعت اللقطة من غير فعله ولم يضيع لم يضمن
وقول الليث في ذلك كله نحو قول مالك
قال بن وهب سمعت مالكا والليث يقولان في ضالة الإبل من وجدها في القرى اخذها وعرفها ومن وجدها في الصحاري فلا يقربها
قال وقال الليث ولا أحب لضالة الغنم ان يقربها أحد الا ان يجوزها لصاحبها
قال أبو عمر ليست اللقطة كالابق ولا كالضالة لان اللقطة لا مؤنة فيها وفي حفظها على صاحبها اجر لا مؤنة فيه ولا مؤذية وليست ضوال الحيوان كذلك لما فيه من المؤنة ولم يكلف الله عباده ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم
واختلف بن القاسم واشهب في الذي يأخذ الضالة ثم يبدو له فيردها إلى مكانها
فقال بن القاسم ان تباعد ثم ردها ضمن
وقال اشهب لا يضمن وان تباعد
وقال الشافعي يضمن على كل حال إذا ردها بعد اخذه لها
وهو قول طاوس
245
قال أبو عمر قد كره قوم اخذ اللقطة وراوا تركها في موضعها
روي ذلك عن بن عمر وبن عباس وبه قال جابر بن زيد وعطاء واليه ذهب أحمد بن حنبل
فاما حديث بن عمر ففي هذا الباب في (الموطأ) رواه
1451 - مالك عن نافع ان رجلا وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن عمر فقال له اني وجدت لقطة فماذا ترى فيها فقال له عبد الله بن عمر عرفها قال قد فعلت قال زد قال قد فعلت فقال عبد الله لا امرك ان تأكلها ولو شئت لم تأخذها
وقد روي عن بن عمر انه كره اخذها
ورأى آخرون اخذها وتعريفها وكرهوا تركها منهم سعيد بن المسيب
وبه قال الحسن بن حي والشافعي فقال لا أحب لاحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها
قال وسواء قليل اللقطة وكثيرها
وقال أبو حنيفة وأصحابه من وجد لقطة أو ضالة كان الأفضل له اخذها وتعريفها والا يكون ذلك سببا لضياعها
قال أبو عمر قد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الغنم فقال (هي لك أو لأخيك أو للذئب فرد على أخيك ضالته)
وقد روى سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد وربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال وساله عن الشاة فقال (خذها انما هي لك أو لأخيك أو للذئب)
وقد ذكرنا الاسناد بهذين الحديثين في (التمهيد)
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر باخذ الشاة ويقول (خذها ورد على أخيك ضالته)
ومعلوم ان اللقطة مثلها لان الشان فيهما انه لا يمتنع شيء منهما على من اراده بهلاك أو فساد
246
وفي امر النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف الضالة الذي سأله عنها ولم يقل له لم اخذتها وأمره أيضا صلى الله عليه وسلم باخذ الشاة ولم يقل في شيء من ذلك كما قال في الإبل دعها حتى يأتي بها دليل على أن الأفضل اخذها وتعريفها لان تركها عون على ضياعها
ومن الحق ان يحفظ المسلم على المسلم ماله ويحوطه بما أمكنه
ومن قاس اللقطة على الإبل فقال لا تؤخذ لم يصب القياس
وقد اختلف العلماء في اللقطة والضالة
فكان أبو عبيد القاسم بن سلام يفرق بين اللقطة والضالة وقال الضالة لا تكون الا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان
قال أبو عبيد انما الضوال ما ضل بنفسه وكان يقول لا ينبغي لاحد ان يدع اللقطة ولا يجوز له اخذ الضالة
ويحتج بحديث الجارود عن النبي صلى الله عليه وسلم (ضالة المؤمن حرق النار) (1)
وبحديث جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يأوي الضالة الا ضال) (2)
وقال غيره من أهل العلم اللقطة والضالة سواء في المعنى والحكم فيهما سواء
وممن ذهب إلى هذا أبو جعفر الحطاوي وانكر قول أبي عبيد الضالة ما ضل بنفسه وقال هذا غلط لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافك قوله للمسلمين (ان أمكم ضلت قلادتها) فاطلق ذلك على القلادة
وقال في قوله صلى الله عليه وسلم (ضالة المؤمن حرق النار) انما قال ذلك لأنهم أرادوها للركوب والانتفاع لا للحفظ على صاحبها
وذلك بين في رواية مطرف بن الشخير عن أبيه فذكره وذكر حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)
وقد ذكرنا اسناد كل حديث منها في (التمهيد)
قال أبو عمر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضالة الغنم (هي لك أو لأخيك أو للذئب) وفي ضالة الإبل مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها
247
الحديث دليل واضح على أن العلة في ذلك خوف التلف والذهاب لا جنس الواهب فلا فرق بين ما ضل بنفسه وما لم يضل بنفسه ولا بين الحيوان وغيره لان المراد من ذلك كله حفظه على صاحبه وخوف ذهابه عنه وانما خص الإبل لأنها إذا تركها واحدها ولم يعرض لها وجدها صاحبها سالمة عند طلبه لها وبحثه عنها لان الذئب لا يخاف عليها في الأغلب من امرها وصبرها عن الماء فوق صبر غيرها من الحيوان والله أعلم بما أراد صلى الله عليه وسلم
واختلف الفقهاء في التافه اليسير الملتقط هل يعرف حولا كاملا أم لا
فقال مالك ان كان تافها يسيرا تصدق به قبل الحول
وقال في مثل المخلاة والحبل والدلو وأشباه ذلك ان كان في طريق وضعه في أقرب الأماكن إليه ليعرف وان كان في مدينة انتفع به وعرفه ولو تصدق به كان أحب إلي فان جاء صاحبه كان علي حقه
وقد روى مالك وبن القاسم ان اللقطة تعرف سنة ولم يفرق بين قليلها وكثيرها
وروى عيسى عن بن وهب أنه قال ما قل عن ذلك عرفه أياما فإن لم يجد صاحبه تصدق به وان كان غنيا وان كان محتاجا اكله
وقال الشافعي يعرف القليل والكثير من ماله بقاء حولا كاملا ولا تنطلق يده على شيء منه قبل الحول بصدقة ولا غيرها
فإذا عرفها حولا اكله أو تصدق به فإذا جاءه صاحبه كان غريما في الموت والحياة
قال وان كان طعاما لا يبقى فله ان يأكله ويغرمه لربه
وقال المزني ومما وجد بخطه أحب إلي ان يبعه ويقيم على تعريفه حولا ثم يأكله
قال المزني هذا أولى به لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل للملتقط فشانك بها الا بعد السنة ولم يفرق بين القليل والكثير
وقال أبو حنيفة وأصحابه ما كان عشرة دراهم فصاعدا عرفه حولا كاملا وما كان دون ذلك عرفه على قدر ما يرى
وقال الحسن بن حي كقولهم سواء الا أنه قال ما كان دون عشرة دراهم عرفة ثلاثة أيام
248
وقال الثوري [في الذي يجد الدرهم يعرفه أربعة أيام
رواه عنه أبو نعيم
واتفق الفقهاء في الأمصار مالك] والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والليث والشافعي واحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وداود ان يعرف اللقطة سنة كاملة له بعد تمام السنة ان يأكلها ان كان فقيرا أو يتصدق بها فان جاء صاحبها وشاء ان يضمنه كان ذلك له
وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم عمر وبن عمر وبن عباس - رضي الله عنهم كلهم - قال إن تصدق بها وجاء صاحبها كان مخيرا بين الاجر ينزل عليهم أو الضمان يضمن المتصدق بها ان شاء
واختلفوا هل للغني ان يأكلها ويستنفقها بعد الحول أم لا
فاستحب مالك للغني ان يتصدق بها أو يحبسها وان اكلها ثم جاء صاحبها ضمنها
قال بن وهب قلت لمالك ما قول عمر (فان جاء صاحبها والا فشانك بها)
قال شانه يصنع بها ما شاء - ان شاء أمسكها وان شاء تصدق بها وان شاء استنفقها
قال فان جاء صاحبها أداها إليه
وقال أبو حنيفة لا يأكلها الغني البتة بعد الحول ويتصدق بها على كل حال الا ان يكون ذا حاجة إليها وانما يأكلها الفقير فان جاء صاحبها كان مخيرا على الفقير الاكل وعلى الغني التصدق
وممن روي عنه ان الملتقط يتصدق بها ولا يأكلها علي وبن عباس - رضي الله عنهما - [وسعيد بن المسيب] والحسن والشعبي وعكرمة وطاوس والثوري والحسن بن حي
وقال الأوزاعي ان كان مالا كثيرا جعلها في بيت المال
وقال الشافعي يأكل اللقطة الغني والفقير بعد الحول
وهو تحصيل مذهب مالك وأصحابه وعليه يناط أصحابه لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لواجدها شانك بها بعد السنة ولم يفرق بين الغني والفقير ولا سأله أغني أنت أم فقير
249
وفي حديث عياض بن حمار (فإن جاء صاحبها فهو أحق بها والا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) (1)
وهذا معناه عند الجميع انطلاق يد الملتقط عليها بعد الحول بما شاء من الاكل لها واستنفاقها أو الصدقة بها ولكنه يضمنها ان جاء صاحبها باجماع المسلمين
وممن روي عنه مثل قول مالك والشافعي ان الملتقط مخير بعد الحول في اكلها أو الصدقة بها عمر وبن عمر وبن مسعود وعائشة - رضي الله عنهم
وهو قول عطاء واحمد وإسحاق ولم يفرقوا بين غني وفقير
واختلفوا في دفع اللقطة إلى من جاء بالعلامة دون بينة
فقال مالك يستحق بالعلامة
قال بن القاسم ويجبر على دفعها إليه فان جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا من ذلك
قال مالك وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة ان السلطان يتلوم لهم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم وكذلك الآبق
وهو قول الليث بن سعد والحسن بن حي في اللقطة انها تدفع لمن جاء بالعلامة
وحجة من قال قوله صلى الله عليه وسلم (وعرف عفاصها ووكاءها وعدتها فان جاء صاحبها يعرفها فادفعها إليه)
وهذا نص في موضع الخلاف يوجب طرح ما خالفه
وبه قال أحمد بن حنبل أبو عبيد
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لا يستحق الا ببينة ولا يجبر الملتقط لها ان يدفعها إلى من جاء بالعلامة ويسعه ان يدفعها إليه فيما بينه وبينه دون قضاء
وذكر المزني عن الشافعي قال فإذا عرف صاحب اللقطة العفاص والوكاء والعدة والوزن وحلاها بحليتها ووقع في نفس الملتقط انه صادق كان له ان يعطيه إياها ولا اجبره لأنه قد يصيب الصفة بان يسمع الملتقط يصفها
250
قال ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (اعرف عفاصها ووكاءها معها - [والله أعلم - لان يؤدي عفاصها ووكاءها معها] وليعلم إذا وضعها في ماله انها لقطة
وقد يكون استدل بذلك على صدق المعرف أرأيت لو وصفها عشرة ايعطونها كلهم ونحن نعلم أن كلهم كاذب الا واحد بغير عينه يمكن ان يكون صادقا
وقد قال أبو حنيفة ان كانت اللقطة دنانير أو دراهم فسمى طالبها وزنها وعددها وعفاصها ووكاءها دفعها إليه ان شاء واخذه بها كفيلا
قال أبو عمر ظاهر الحديث أولى مما قال هؤلاء لان النبي صلى الله عليه وسلم قال للملتقط (اعرف عفاصها ووكاءها فان عرفها صاحبها فادفعها إليه)
هكذا قال حماد بن سلمة [وغيره] في الحديث وقد ذكرناه في (التمهيد)
واختلفوا فيمن اخذ لقطة ولم يشهد على نفسه انه التقطها وانها عنده ليعرفها ثم هلكت عنده وهو لم يشهد
فقال مالك والشافعي وأبو يوسف [ومحمد] لا ضمان عليه إذا هلكت من غير تضييع منه وان كان لم يشهد
وهو قول عبد الله بن شبرمة
وقال أبو حنيفة وزفر ان اشهد حين اخذها انه يأخذها ليعرفها لم يضمنها ان هلكت وان لم يشهد ضمنها
وحجتهما حديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من التقط لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل وليعرف ولا يكتم ولا يغيب فان جاء صاحبها فهو أحق بها والا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)
رواه شعبة عن خالد الحذاء قال سمعت يزيد بن عبد الله بن الشخير يحدث عن أخيه مطرف عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر من حجة مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد اجماع العلماء بان المغصوبات لو اشهد الغاصب على نفسه انه غصبها لم يدخلها اشهاده ذلك في حكم الأمانات فكذلك ترك الاشهاد على الأمانات لا يدخلها في حكم المضمونات
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللقطة (ان جاء صاحبها والا فلتكن وديعة عندك) في حديث سليمان بن بلال وغيره على ما ذكرناه في (التمهيد)
ولا خلاف ان الملتقط امين لا ضمان عليه الا بما تضمن به الأمانات من التعدي والتضييع والاستهلاك
251
ومعنى حديث عياض بن حمار عندي - والله أعلم - ان ملتقط اللقطة إذا لم يعرفها ولم يسلك بها سنتها من الإشادة والاعلان بها وغيب وكتم ثم قامت عليه البينة انه وجد لقطة وانه اخذها وضمها إلى بينه ثم ادعى تلفها فإنه لا يصدق ويضمن لأنه بفعله ذلك فيها خارج عن الأمانة فيضمن الا ان يقيم البينة بتلفها
واما إذا عرفها واعلن امرها وسلك فيها سنتها من الإشادة في الأسواق وأبواب الجوامع وشبهها وان لم يشهد فلا ضمان عليه وبالله التوفيق
فهذا ما في معنى الحديث في اللقطة
واما حكم الضوال من الحيوان فان الفقهاء اختلفوا في ذلك من وجوه
فقال مالك في ضالة الغنم ما قرب من القرى فلا يأكلها وضمنها إلى أقرب القرى لتعرف فيها
قال ولا يأكلها واجدها ولا من تركت عنده حتى تمر بها سنة كاملة أو أكثر
كذا قال بن وهب عنه
قال وان كان للشاة صوف أو لبن ووجد من يشتري ذلك منه باعه ودفع ثمنه لصاحب الشاة ان جاء
قال مالك ولا أرى باسا ان يصيب من نسلها ولبنها بنحو قيامه عليها
قال وان كان تيسا فلا باس ان يتركه ينزو على غنمه ما لم يفسده ذلك
هذا كله إذا وجد بقرب القرى من الغنم
واما ما كان منها في الفلوات والمهامة فإنه يأخذها وياكلها ولا يعرفها فان جاء صاحبها فليس له شيء لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (هي لك أو لأخيك أو للذئب)
قال والبقر بمنزلة الغنم إذا خيف عليها فإن لم يخف عليها السباع فهي بمنزلة الإبل
وقال الأوزاعي في الشاة ان اكلها واجدها ضمنها لصاحبها
وقال الشافعي يأخذ الشاة بالفلاة ويعرفها فإن لم يجئ صاحبها اكلها ثم ضمنها ان جاء
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسائر العلماء
قال أبو عمر اتفق أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما وأبو ثور واحمد وإسحاق على أن الملتقط للشاة عليه ضمان ما اكل من لبنها وثمن صوفها وقيمة نزواته على ضانه لأنه متطوع بقيامه عليها لا يستحق عليه شيء
252
وقال الكوفيون الا ان يرفعها إلى السلطان فيعرض ذلك له
وقال أبو جعفر الطحاوي لم يوافق مالك أحدا من العلماء على قوله في الشاة ان اكلها واجدها لم يضمنها واجدها في الموضع المخوف
واحتجاجه بقوله صلى الله عليه وسلم (هي لك أو لأخيك أو للذئب) لا معنى له لان قوله فهي لك ليس على معنى التمليك كما أنه إذا قال (أو للذئب) لم يرد به التمليك لان الذئب لا يملك وانما يأكلها على ملك صاحبها فينزل على اجر مصيبتها فكذلك الواجد ان اكلها على ملك صاحبها فان جاء ضمنها له
قال أبو عمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو [بن العاص في الشاة] (هي لك أو لأخيك أو للذئب فرد على أخيك ضالته) دليل على أن الشاة على ملك صاحبها فان اكلها أحد ضمنها
وقد قال مالك من اضطر إلى طعام غيره [فاكله] فإنه يضمنه والشاة الملتقطة أولى بذلك
وقد اجمع العلماء ان صاحبها ان جاء قبل ان يأكلها الواجد لها اخذها منه وكذلك لو ذبحها اخذها منه مذبوحة وكذلك لو اكل بعضها اخذ ما وجد منها
وفي اجماعهم على هذا أوضح الدلائل على ملك صاحبها لها بالفلوات وغيرها
ولا فرق بين قوله صلى الله عليه وسلم في الشاة (هي لك أو لأخيك أو للذئب) وبين قوله في اللقطة لواجدها (إذا عرفتها سنة ولم يأت صاحبها فشانك بها) بل هذا أشبه [بالتمليك] لأنه لم يذكر معه في لفظ التمليك دينا ولا غيره
وقد اجمع علماء المسلمين في اللقطة ان واجدها يغرمها إذا استهلكها بعد الحول ان جاء صاحبها طالبا لها فالشاة أولى بذلك قياسا ونظرا
وقد شبه بعض المتأخرين من أصحابنا الشاة الموجودة بالفلاة بالركاز وهذه غفلة شديدة لان الركاز لم يصح عليه ملك لاحد قبل واجده
والشاة ملك ربها لها صحيح مجتمع عليه فلا يزول ملكه عنها الا باجماع مثله أو سنة لا اشكال فيها وهذا معدوم في هذه المسالة فوجب الضمان فيها
وقد قال سحنون [في المستخرجة] ان اكل الشاة واجدها [بالفلاة] أو تصدق بها ثم جاء صاحبها ضمنها له
وهذا هو الصحيح وبالله التوفيق
253
((39 - باب القضاء في استهلاك [العبد] اللقطة))
هذا الباب - اغنى الترجمة - ليس عند أحد في (الموطأ) فيما علمت عن يحيى بن يحيى واما الخبر فيه فهو في اخر باب القضاء في اللقطة لا في باب مفرد وكان صوابه ان يكون لو كان باب القضاء في استهلاك العبد اللقطة
1452 - قال مالك الامر عندنا في العبد يجد اللقطة فيستهلكها قبل ان تبلغ الاجل الذي اجل في اللقطة وذلك سنة انها في رقبته اما ان يعطي سيده ثمن ما استهلك غلامه واما ان يسلم إليهم غلامه وان أمسكها حتى يأتي الاجل الذي اجل في اللقطة ثم استهلكها كانت دينا عليه يتبع به ولم تكن في رقبته ولم يكن على سيده فيها شيء
قال أبو عمر كان الشافعي وغيره يخالف قال الشافعي في كتاب اللقطة وإذا التقط العبد اللقطة فعلم السيد بها فاقرها في يده فالسيد ضامن لها في ماله من رقبته وغيرها ان استهلك العبد
قال المزني ومما وجد بخطه لا اعلمه سمع منه لا يكون على العبد غرم حتى يعتق من قبل ان له اخذها
قال المزني الأول أقيس إذا كانت في الذمة والعبد عندي ليس له ذمة
قال الشافعي فإن لم يعلم بها السيد فهي في رقبته ان استهلكها قبل السنة وبعدها دون مال السيد لان اخذه اللقطة عدوان انما يأخذ اللقطة من له ذمة
قال المزني هذا أشبه قال ولا يخلو السيد إذا علم بها واقرها في يده ان يكون ذلك تعديا فكيف لا يضمن ما يتعدى فيه في جميع ماله أو لا يكون تعديا فلا يعدو رقبة عبده
واما أبو حنيفة وأصحابه فمذهبهم ان كل مال استهلكه العبد بيع فيه الا ان يفديه مولاه
((40 - باب القضاء في الضوال))
1453 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار ان ثابت بن
254
الضحاك الأنصاري اخبره انه وجد بعيرا بالحرة فعقله (1) ثم ذكره لعمر بن الخطاب فامره عمر ان يعرفه ثلاث مرات فقال له ثابت انه قد شغلني عن ضيعتي فقال له عمر ارسله حيث وجدته
1454 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب قال وهو مسند ظهره إلى الكعبة من اخذ ضالة فهو ضال
1455 - مالك انه سمع بن شهاب يقول كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلا مؤبلة (2) تناتج (3) لا يمسها أحد حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان امر بتعريفها ثم تباع فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها
قال أبو عمر روى هذا الخبر سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب تناتج هملا لا يعرف لها أحد فلما كان عثمان وضع عليها ميسم الصدقة
وهو في (الموطأ) لمالك عن بن شهاب لم يتجاوز به بن شهاب ولم يذكر سعيد بن المسيب وسياقة مالك له عن بن شهاب أتم معنى وأحسن لفظا
قال أبو عمر في (المدونة) عن مالك وبن القاسم واشهب إذا كان الامام عدلا اخذت الإبل ودفعت إليه ليعرفها فان جاء صاحبها والا ردها إلى المكان الذي وجدها فيه
قال بن القاسم هذا رأي على ما روي عن عمر في ذلك
وقال اشهب ان لم يأت ربها باعها وامسك ثمنها على ما جاء عن عثمان
قالوا وان كان الامام غير عدل لم تؤخذ ضالة الإبل وتركت في مكانها
واما ضالة البقر فقال بن القاسم ان كانت بموضع يخاف عليها فهي بمنزلة الشاة وان كان لا يخاف عليها فهي بمنزلة البعير
255
وروى بن وهب عن مالك مثل ذلك
وقال اشهب ان كان لها من أنفسها منعة في المرعى كالإبل فهي كالإبل وان لم تكن فهي كالغنم
وقال الشافعي ليس البقر والإبل كالغنم لان الغنم لا تدفع عن نفسها والإبل والبقر تدفع عن أنفسها وتردان المياه وان تباعدت وتعيشان في المرعى والمشرب بلا راع فليس لأحد ان يعرض لواحدة منها
قال والخيل والبغال والحمير كالبعير لان كلها قوي ممتنع من صغار السباع بعيد الأثر في الأرض كالظبي والأرنب والطير المنعتة بالاحتيال والسرعة
وقال في موضع اخر جاء النص في الإبل والبقر قياسا عليها
قال أبو عمر ذهب مالك والشافعي في ضوال الإبل إلى قول عمر بن الخطاب ان البعير لا يؤخذ ويترك حيث وجد
وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد
واما الكوفيون فلم يقولوا بما روي [عن عمر] في الضوال
وقال أبو حنيفة [وأصحابه] سواء كانت اللقطة بعيرا أو شاة أو بقرة أو حمارا أو بغلا أو فرسا يأخذ ذلك الواجد له ويعرفه وينفق عليه فان جاء صاحبه فاستحقه كان متبرعا بما انفق الا ان يكون انفق بأمر القاضي فيكون ما انفق على الضالة دينا في رقبتها فان جاء صاحبها دفع ذلك إليه [والا بيعت له] واخذ نفقته من ثمنها فان رأى القاضي قبل مجيء صاحبها الامر ببيعها لما راه في ذلك من الصلاح لصاحبها امر ببيعها ويحفظ ثمنها على صاحبها وان كان غلاما اجره القاضي وانفق عليه من اجرته وان ذلك في الدابة أيضا فعله
قالوا ومن وجد بعيرا ضالا فالأفضل له اخذه وتعريفه والا يتركه فيكون سببا لضياعه وقد ذكرنا حجتهم في ذلك فيما تقدم والحمد لله كثيرا
((41 - باب صدقة الحي عن الميت))
1456 - مالك عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه عن جده أنه قال خرج سعد بن عبادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
256
مغازيه فحضرت أمه الوفاة بالمدينة فقيل لها أوصي فقالت فيم أوصي انما المال مال سعد فتوفيت قبل ان يقدم سعد فلما قدم سعد بن عبادة ذكر ذلك له فقال سعد يا رسول الله هل ينفعها ان أتصدق عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم) فقال سعد حائط (1) كذا وكذا صدقة عنها لحائط سماه
هكذا قال يحيى عن مالك عن سعيد بن عمرو وتابعه أكثر الرواة منهم بن القاسم وبن وهب وبن بكير وأبو المصعب وقال فيه القعنبي سعد بن عمرو وكذلك قال بن البرقي سعد بن عمرو بن شرحبيل كما قال القعنبي لان سعيد بن سعد بن عبادة له صحبة قد روى عنه أبو امامة بن سهل بن حنيف وغيره
1457 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان أمي افتلتت نفسها (2) واراها لو تكلمت تصدقت افاتصدق عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم)
[قال أبو عمر أظن هذا الرجل سعد بن عبادة
وروى بن عيينة عن [عمرو] عن عكرمة ان سعد بن عبادة اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أمي ماتت ولم توص افاتصدق عنها قال نعم
[قال سفيان قال عمرو واخبرني بن المنكدر ان سعد بن عبادة قال يا رسول الله ان أم سعد ماتت ولم توص أفينفعها ان أتصدق عنها قال (نعم)]
قال فإنها تركت مخرفا أشهدك اني قد تصدقت به عنها]
قال سفيان ثم اتيت بن المنكدر فحدثني به
والأحاديث في قصة أم سعد بن عبادة هذه متواترة مسندة ومرسلة وقد ذكرنا كثيرا منها في (التمهيد)
والعلماء كلهم مجمعون على أن صدقة الحي عن الميت جائزة مستحبة وهذا الحديث وما كان مثله متلقى عندهم بالقبول والعمل
257
واما حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فمسند صحيح معمول به وهو في معنى الحديث الأول
وذلك كله يدلك على أن الصدقة على الموتى بالمال خلاف اعمال الأبدان عندهم لأنهم لا يجوز ان تقضى صلاة عن أحد عند الجميع وكذلك الصيام عند الجمهور والأكثر
واما قوله في حديث هشام (افتلتت نفسها) فمعناه اختلست منها نفسها وماتت فجاة
قال الشاعر
(من يامن الأيام بعد صبيرة القرشي ماتا
* سبقت منيته المشيب وكانت منيته افتلاتا)
قال أبو بكر بن شاذان سألت أبا زيد النحوي عن قول عمر (كانت بيعة أبي بكر فلتة) وقى الله شرها فقال أراد كانت فجاة وانشد قول الشاعر
(وكانت ميتته افتلاتا
*)
قال وتقول العرب إذا رأت الهلال بغير قصد إلى ذلك رايت الهلال فلته
قال خالد بن يزيد أبو مصعب فان تفتلتها فالخلافة تنفلت بأكرم علقي منبر وسرير
1458 - مالك انه بلغه ان رجلا من الأنصار من بني الحارث بن الخزرج تصدق على أبويه بصدفة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل فسال عن ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال (قد اجرت في صدقتك وخذها بميراثك)
قال أبو عمر روي هذا الحديث من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد أحسنها حديث بريدة الأسلمي
أخبرنا عبد الله بن محمد [أخبرنا محمد] بن بكر حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثني زهير قال حدثني عبد الله [بن عطاء عن عبد الله] بن بريدة عن أبيه ان امرأة اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة وانها ماتت وتركت تلك الوليدة قال (وجب اجرك ورجعت إليك بالميراث) (1)
258
وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الحارثي الخزرجي - وهو الذي اري الاذان في المنام - عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه فيه لين ولكنه يحتمل
وجمهور العلماء على القول بهذا الحديث ولم يختلف أئمة الفتوى بالحجاز والعراق منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم في العمل به
وكان الحسن بن حي يستحب لمن تصدق بصدقة ثم رجعت إليه بالميراث ان يتصدق بها
وشذت فرقة من أهل الظاهر لم تعرف الحديث فكرهت له اخذها بالميراث وراته من باب الرجوع في الصدقة
وقد مضى قولنا في الرجوع في الصدقة في مواضع من هذا الكتاب
منها حديث عمر في الفرس ومنها حديث عائشة في قصة لحم بريرة فأغنى ذلك عن اعادته هنا
وروينا عن مسروق انه سئل عن الرجل يتصدق بالصدقة ثم يردها إليه الميراث فقال ما رد عليك القران فكل
قال أبو عمر لا معنى لقول من كره رجوع الصدقة إلى المتصدق بها بالميراث لأنه مخالف لظاهر القران في عموم آيات المواريث ومخالف الأثر وجمهور العلماء وبالله التوفيق
259
((37 كتاب الوصية))
((1 - باب الأمر بالوصية))
1459 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين الا ووصيته عنده مكتوبة)
قال أبو عمر هكذا قال مالك في هذا الحديث له شيء يوصى فيه وقال بعضهم فيه عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لاحد عنده مال يوصى فيه تأتي عليه ليلتان الا ووصيته عنده)
وقال فيه الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لاحد يبيت ثلاثا الا ووصيته مكتوبة عنده)
وقد ذكرنا اختلاف ألفاظ الناقلين لهذا الحديث في (التمهيد)
وفي هذا الحديث الحض على الوصية والتأكيد في ذلك
واجمع الجمهور على أن الوصية غير واجبة على أحد الا ان يكون عليه دين أو يكون عنده وديعة أو أمانة فيوصي بذلك
وشذ أهل الظاهر فأوجبوا الوصية فرضا إذا ترك الرجل مالا كثيرا ولم يوقتوا في وجوبها شيئا والفرائض لا تكون الا مؤقتة معلومة والله أعلم
وقد استدل بعض العلماء على أن الوصية غير واجبة بقوله عز وجل في اية
260
الوصية * (بالمعروف حقا على المتقين) * [البقرة 180] والمعروف التطوع بالاحسان قالوا والواجب يستوي فيه المتقون وغيرهم من أهل الدين
واستدل غيره بان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص وهذا لا يحتج له لان ما تخلفه صلى الله عليه وسلم من شيء تصدق به ولم يترك شيئا
- قالت عائشة - رضي الله عنها - (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء) (1)
وقال صلى الله عليه وسلم (انا لا نورث ما تركنا فهو صدقة) (2)
فأي وصية أعظم من هذه أن تكون تركته كلها صدقة لا ميراث فيها وانما ندب إلى الوصية من أمته من ترك مالا يورث عنه
قال الله عز وجل * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) * [البقرة 180]
واجمعوا ان الخير المال في قوله عز وجل في اية الوصية (ان ترك خيرا)
وكذلك قوله في الانسان (وانه لحب الخير لشديد) [العاديات 8] [الخير عندهم هنا المال]
[كذلك قوله عز وجل حاكيا عن سليمان عليه السلام * (إني أحببت حب الخير) * [ص 32]
وكذلك قوله حاكيا عن شعيب عليه السلام (اني أراكم بخير) [هود 84] قالوا الغنى
وقد جاء في مواضع من القران ذكر الخير بمعنى المال والغنى ومن لم يترك دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا [فلم يترك خيرا] ولا مالا يوصى فيه
261
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن عبد السلام قال حدثني محمد بن المثنى قال حدثني أبو معاوية قال حدثني الأعمش عن شقيق أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء) (1)
وقال بن المبارك عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال قلت لابن أبى أوفى أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء قال لا قال قلت فكيف امر الناس بالوصية قال أوصي بكتاب الله عز وجل (2)
وقد ذكرنا في (التمهيد)
واختلف السلف في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية أو تجب عند من أوجبها
فروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليست بمال فيه وصية (3)
وروي عنه أنه قال ألف درهم مال فيه وصية وهذا يحتمل لمن شاء
وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال من ترك مالا يسيرا فليدعه لورثته فهو أفضل
وهذا - والله أعلم - اخذه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) (4)
وقال بن عباس لا وصية في ثمانمائة درهم
262
وقالت عائشة في امرأة لها اربع من الولد ولها ثلاثة آلاف درهم لا وصية في مالها (1)
وقال إبراهيم النخعي الخير - يعني في اية الوصية - ألف درهم إلى خمسمائة
وعن عائشة انها قالت من ترك ثمانمائة درهم لم يترك خيرا فلا يوص وقال قتادة في قوله عز وجل (ان ترك خيرا الوصية) [البقرة 180] وقال الخير الف فما فوقها
واتفق فقهاء الأمصار على أن الوصية مندوب إليها مرغوب فيها وانها جائزة لمن أوصى في كل مال قل أو كثر ما لم يتجاوز الثلث
وممن قال بهذا مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والحسن بن حي والشافعي واحمد وإسحاق
وروي ذلك عن جماعة من السلف
وقد قيل إن اية الوصية نسختها اية المواريث
قال ذلك مالك وجماعة من العلماء قبله وبعده
حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن محمد المروزي قال حدثني علي بن حسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس (ان ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) كانت الوصية كذلك حتى نسختها اية المواريث (2)
وقد بين ذلك علي بن أبي طلحة في روايته عن بن عباس وان كانت مرسلة فمعناها صحيح في البيان لا اختلاف فيه [إذ كان لا يرث مع الوالدين غيرهم الا وصية ان كان للاقربين] ثم انزل الله عز وجل " ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه فلأمه الثلث " [النساء 11] قال فبين الله عز وجل ميراث الأبوين وامر بوصية الأقربين في ثلث مال الميت
قال أبو عمر هكذا قال (والأقربون الذين تجوز لهم الوصية ليسوا بوارثين) وهذا اجماع من علماء المسلمين انه لا وصية لوارث وان المنسوخ من اية الوصية الوالدان على كل حال إذا كانا على دين ولدهما لأنهما حينئذ - وارثان لا يحجبان
263
وكذلك كل وارث من الأقربين لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث) (1)
ولو كان الوارث تجب له الوصية لانتقضت قسمة الله لهم فيما ورثهم وصار لهم أكثر مما أعطاهم
فمن هنا قال العلماء ان اية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا قول كل من لا يجيز نسخ القران بالسنة وقد قال لا ينسخ القران الا بالقران
وهو قول الشافعي وأصحابه وأكثر المالكيين وداود وسموا السنة بيانا لا نسخا
واما الكوفيون الذين يجيزون نسخ القران بالسنة وقالوا كل من عند الله فإنهم قالوا نسخ الوالدين والأقربين الوارثين من الوصية قوله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث)
حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا أخبرنا قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم سمعه يقول سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته (ان الله قد اعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) (2)
وقد ذكرنا الحديث من طرق عن إسماعيل بن عياش في (التمهيد)
وحدثني محمد بن عبد الملك قال حدثني بن الاعرابي قال حدثني الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال حدثني يزيد بن هارون قال أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة ان النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته فقال (ان الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث فلا تجوز وصية لوارث
264
قال أبو عمر اجمع العلماء على القول بان لا وصية لوارث وعلى العمل بذلك قطعا منهم على صحة هذا الحديث وتلقيا منهم له بالقبول فسقط الكلام في اسناده
واختلفوا في الوصية للاقربين غير الوارثين هل هي واجبة لهم أم لا
فقال الأكثر من العلماء ليست بواجبة لهم لان أصلها الندب كما وصفنا
وقالوا الوصية للاقربين إذا كانوا محتاجين أفضل
وقال داود وأهل الظاهر الوصية للاقربين غير الوارثين واجبة لأنها لم تنسخ وانما انتسخ الوارثون والآية عندهم على الايجاب كما قدمنا عنهم
واختلفوا فيمن أوصى لغير قرابته وترك قرابته الذين لا يرثون
فقال طاوس ترد وصيته على قرابته
وروي عن الحسن مثله
وقال الضحاك من أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية
وقال سعيد بن المسيب وجابر بن زيد - أبو الشعثاء - من أوصى لغير قرابته بثلثه رد إلى قرابته من ذلك ثلثا الثلث ويمضي لمن أوصى له ثلث الثلث
وروي مثل هذا عن الحسن أيضا
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم في (التمهيد)
وبه قال إسحاق بن راهويه
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئس ما صنع وفعله مع ذلك ماض جائز لكل من أوصى له من غني وفقير قريب وبعيد مسلم وكافر
وهو معنى ما روي عن عمر وعائشة
وهو قول بن عمر وبن عباس
وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
وروي عن عمر بن الخطاب انه أوصى لأمهات أولاده
وعن عائشة انها أوصت لمولاتها
وقد روي عن جابر بن زيد انه سئل عمن أوصى لغير قرابته بثلثه فقال يمضي ولو أوصى ان يلقي ثلثه في البحر
[قال بن سيرين اما في البحر] فلا ولكن يمضي كما قال
وقد روي عن الشعبي أنه قال للرجل ثلثه يطرحه في البحر ان شاء
265
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في اعمالكم (1)
وقد ذكرنا الاسناد في هذا وعن كل من ذكرنا في (التمهيد)
واحتج الشافعي - رحمه الله - على من لم يجز الوصية لغير القرابة بحديث عمران بن حصين في الذي اعتق ستة اعبد له في مرضه عند موته لا مال له غيرهم فاقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فاعتق اثنين وارق أربعة (2)
فهذه وصية لهم في ثلثه لان افعال المريض كلها وصية في ثلثه فقد أجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بعتقهم وهم - لا محالة - من غير قرابته
قال أبو عمر هذا كله فيمن أوصى لغير وارث واما من أوصى لوارث فلا تجوز وصيته باجماع وان أوصى لغير وارث وهو يريد به الوارث فقد حاف وجار واتى الجنف والجنف في اللغة الميل وهو في الشريعة الاثم والميل عن الحق
روى الثوري ومعمر عن بن طاوس عن أبيه قال الجنف ان يوصي لابن ابنته وهو يريد ابنته
حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني عبدة بن عبد الله قال حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثني نصر بن علي الحداني قال حدثني الأشعث بن جابر الحداني قال حدثني شهر بن حوشب ان أبا هريرة حدثه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان الرجل ليعمل والمراة بطاعة الله ستين أو سبعين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) وقرا أبو هريرة * (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار) * [النساء 12] (3)
وأخبرنا محمد بن خليفة قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني إبراهيم بن موسى قال حدثني يوسف بن موسى قال حدثني أبو معاوية عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس قال الاضرار في الوصية من الكبائر
266
ثم قرا * (غير مضار) * [النساء 12] إلى قوله * (تلك حدود الله) * [النساء 13] وإلى قوله * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) * [النساء 14]
واتفق الجمهور من فقهاء الأمصار على أن الوصية للوارث موقوفة على إجازة الورثة فان أجازها الورثة بعد الموت جازت وان ردوها فهي مردودة
ولهم في اجازتها إذا أجازها الورثة قولان
أحدهما ان اجازتهم لها تنفيذ منهم لما أوصى به الميت وحكمها حكم وصية الميت
والأخرى انها لا تكون وصية ابدا وانما هي من قبل الورثة عطية وهبة للموصى له على حكم العطايا والهبات عندهم
وقد اختلف أصحاب مالك على هذين القولين أيضا
وحجة من قال الوصية للوارث جائزة إذا أجازها الورثة ما حدثنا محمد بن خليفة قال حدثني محمد بن الحسن قال حدثني إبراهيم بن الهيثم الناقد قال حدثني أبو معمر القطيعي قال حدثني حجاج عن بن جريج عن عطاء عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا وصية لوارث الا ان يجيزها الورثة) (1)
وهذا الحديث لا يصح عندهم مسندا وانما هو من قول بن عباس كذلك رواية الثقات له عن بن جريج وانما رفعه أبو معمر القطيعي ولا يصح رفعه
وقال المزني وداود بن علي وجماعة أهل الظاهر لا تجوز الوصية للوارث [أجازها الورثة أو لا لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا وصية لوارث)] ولم يقل الا ان يجيزها الورثة وحسبهم ان يعطوه من أموالهم ما شاؤوا
وقال المزني انما منع الوارث من الوصية لئلا يأخذ مال الميت من وجهين مختلفين
قال أبو عمر من حجة من أجاز تجويز الورثة الوصية للوارث اتفاقهم على أنه ان أوصى بأكثر من الثلث واجازه الورثة جاز فالوصية للوارث مثل ذلك والله أعلم
قال مالك (2) الامر المجتمع عليه عندنا ان الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له
267
ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت وان أحب ان يطرح تلك الوصية ويبدلها فعل الا ان يدبر مملوكا فان دبر فلا سبيل إلى تغيير ما دبر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين الا ووصيته عنده مكتوبة)
قال مالك فلو كان الموصي لا يقدر على تغيير وصيته ولا ما ذكر فيها من العتاقة كان كل موص قد حبس ماله الذي أوصى فيه من العتاقة وغيرها وقد يوصي الرجل في صحته وعند سفره
قال مالك فالامر عندنا الذي لا اختلاف فيه انه يغير من ذلك ما شاء غير التدبير
[قال أبو عمر ما ذكره مالك في أن للموصي ان يتصرف فيما أوصى به غير التدبير]
هو امر مجتمع عليه لا خلاف بين العلماء فيه الا التدبير فإنهم اختلفوا في الرجوع في المدبر وفي بيعه فكل من رأى بيعه رأى الرجوع فيه لمن شاء
وممن رأى ذلك مجاهد وعطاء وطاوس
وبه قال الشافعي واحمد وإسحاق
ولا يجوز بيع المدبر ولا الرجوع فيه عند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي
وقد أجاز الليث بيعه للعتق من نفسه ومن غيره
وقال بن سيرين لا يباع الا من نفسه
وهو قول مالك
وكره بيع المدبر بن عمر وبن المسيب والشعبي والنخعي والزهري
وقد تقدم القول في ذلك في كتاب المدبر والحمد لله
((2 - باب جواز وصية الصغير والضعيف والمصاب والسفيه))
1460 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه ان عمرو بن سليم الزرقي اخبره انه قيل لعمر بن الخطاب ان ها هنا غلاما يفاعا (1) لم
268
يحتلم عن غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له ها هنا الا ابنة عم له قال عمر بن الخطاب فليوص لها قال فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم قال عمرو بن سليم فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم وابنه عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم الزرقي
1461 - مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن حزم ان غلاما من غسان حضرته الوفاة بالمدينة ووارثه بالشام فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقيل له ان فلانا يموت افيوصي قال فليوص
قال يحيى بن سعيد قال أبو بكر وكان الغلام بن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة [قال فأوصى ببئر جشم فباعها أهلها بثلاثين ألف درهم
قال أبو عمر روى بن عيينة هذين الحديثين الأول عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرو بن سليم الزرقي ان غلاما من غسان حضرته الوفاة بالمدينة فقيل لعمر بن الخطاب ان فلانا يموت قال مروه فليوص فأوصى ببئر جشم قال فبيعت بثلاثين ألفا
قال وكان الغلام بن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة
هكذا] قال بن عيينة في حديثه عن عبد الله بن أبي بكر
ورواه عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد عن عمرو بن سليم عن عمر بن الخطاب مثله
وسفيان عن أيوب [عن محمد] عن شريح قال من أوصى من صغير أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع
قال بن سيرين وقاله عبد الله بن عتبة
قال سفيان وقال بن شبرمة وبن أبي ليلى لا تجوز وصية من لم يبلغ
قال وقال بن شبرمة انا لا أجيز صدقته فكيف أجيز وصيته
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا ان الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون
269
ما يوصون به فاما من ليس معه من عقله ما يعرف بذلك ما يوصي به وكان مغلوبا على عقله فلا وصية له
قال أبو عمر اما وصية الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول والفعل فوصيته جائزة ماضية عند مالك والليث وأصحابهما ولا حد عندهم في صغره عشر سنين ولا غيرها إذا كان ممن يفهم ما يأتي به في ذلك وأصاب وجه الوصية
وقال عبيد الله بن الحسن إذا أوصى في وسط ما يحتلم له الغلمان جازت وصيته
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تجوز وصية الصبي
وقال المزني هو قياس قول الشافعي ولم أجد للشافعي في ذلك شيئا ذكره ونص عليه
واختلف أصحابه على قولين
أحدهما كقول مالك
والثاني كقول أبي حنيفة
وحجتهم انه لا يجوز طلاقه ولا عتقه ولا يقبض منه في جناية ولا يحد به في قذف فليس كالبالغ المحجور عليه فكذلك وصيته
قال أبو عمر قد اجمع هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة ومعلوم ان من يعقل من الصبيان ما يوصي به فحاله حال المحجور عليه في ماله
وعلة الحجر تبديد المال وتلافه وتلك علة مرتفعة عنه بالموت وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل فوجب أن تكون وصيته مع الأثر الذي جاء فيه عن عمر - رضي الله عنه -
وقال مالك انه الامر المجتمع عليه عندهم بالمدينة وبالله التوفيق
واما قوله في البالغ المحجور عليه فقد مضى قول مالك في هذا الباب في موطئه
وقال بن القاسم عن مالك ان حضرته الوفاة فأوصى بوصايا فذلك جائز
وقال محمد بن الحسن [في كتاب الحجر] - ولم يحك خلافا عن أحد من أصحابه - والقياس في وصايا الغلام الذي قد بلغ وهو مفسد غير مصلح انها باطل ولكنا نستحسن في وصاياه إذا وافق الحق فيها ولم يأت سرفا انها تجوز من ثلثه كما تجوز من ثلث غيره
270
وقال الربيع عن الشافعي تجوز وصية كل من عقل الوصية من بالغ محجور عليه وغير محجور
قال أبو عمر انما منع المحجور عليه لما يخاف من افساد ماله احتياطا عليه فإذا صار في حال الموت استغنى عن ذلك فكان بمنزلة من ليس بمحجور عليه وبالله التوفيق
((3 - باب الوصية في الثلث لا تتعدى))
1462 - مالك عن بن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى وانا ذو مال ولا يرثني الا ابنة لي افاتصدق بثلثي مالي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا) فقلت فالشطر قال (لا) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير انك ان تذر (1) ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة (2) يتكففون (3) الناس وانك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا اجرت حتى ما تجعل في في امرأتك) قال فقلت يا رسول الله ااخلف بعد أصحابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انك لن تخلف فتعمل عملا صالحا الا ازددت به درجة ورفعة ولعلك ان تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان مات بمكة)
قال أبو عمر هكذا قال جماعة أصحاب بن شهاب في هذا الحديث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع كما قال مالك الا بن عيينة فإنه قال فيه عام الفتح فأخطأ في ذلك
وهذا حديث لا يختلف في صحة اسناده
271
واتفق أهل العلم على القول به في أنه لا يجوز لاحد ان يوصي بأكثر من ثلثه
وانما اختلفوا فيما للمريض ان يفعله في ماله من العطايا المقبلة غير الوصية
فقال الجمهور ان افعال المريض فيما يتصدق به ويعتق ويهب في مرضه الذي يموت منه كلها [في ثلثه] كالوصايا
وحجتهم ان هذا الحديث مع صحته لم يقل فيه بن شهاب [عن عامر بن سعد] أفأوصي وانما قال افاتصدق ولم يجز له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة الا الثلث كالوصية المجتمع عليها
وبن شهاب [حافظ] غير مدافع في حفظه
وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في (التمهيد)
وقد قال فيه سعد بن إبراهيم [عن عامر بن سعد] أفأوصي
وكذلك قال مصعب بن سعد عن أبيه أفأوصي وساقوا الحديث بمعنى حديث بن شهاب سواء
ولم يختلف في ذلك عن مصعب بن سعد وقد قال بان هبة المريض إذا قبضت من راس ماله ان مات من مرضه طائفة من السلف
واليه ذهب أهل الظاهر وداود
واما جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالامصار فقالوا هبة المريض قبضت أو لم تقبض إذا مات من مرضه لا تكون الا في الثلث كالوصايا
وممن قال بذلك مالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما
وحجتهم حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي اعتق ستة [اعبد] له عند موته لا مال له غيرهم فاقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فاعتق اثنين وارق أربعة فامضى له من ماله ثلثه ورد سائر ماله ميراثا (1)
وهذا حكم الوصية عند الجميع
واجمع علماء المسلمين ان الميت إذا مات عن بنين أو عن كلالة ترثه انه لا يجوز له ان يوصي في ماله بأكثر من ثلثه
واختلفوا إذا لم يترك بنين ولا عصبة
272
فقال بن مسعود إذا كان كذلك جاز له ان يوصي بماله كله
وعن أبي موسى الأشعري مثله
وهو قول [عبيدة] ومسروق
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه
واليه ذهب إسحاق بن راهويه
وقد ذكرنا الآثار عن بن مسعود وأبي موسى وعبيدة ومسروق في (التمهيد)
وذكر الطحاوي قال أبو حنيفة وأصحابه وشريك القاضي إذا لم يكن له وارث أوصى بجميع ماله
ومن حجتهم ان الاقتصار عن الثلث في الوصية انما كان من اجل ان يدع ورثته أغنياء ومن كان ممن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث وجائز له ان يوصي بماله كله
وقال زيد بن ثابت لا يجوز لاحد ان يوصي بماله كله كان له بنون [أو ورث كلالة] أو ورثه جماعة المسلمين
وبهذا القول قال مالك والأوزاعي والحسن بن حي
واختلف فيه قول أحمد بن حنبل
قال أبو عمر ما يصرف إلى بيت مال المسلمين فليس على سبيل الميراث ولو كان كذلك ما استحقه الرجل وابنه ولا من يحجب مع من يحجبه وانما هو من مال لا مالك له مصروف إلى نظر السلطان يصرفه حيث يراه من المسلمين في مصالحهم
واجمع جمهور أهل العلم ان الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث الا ان يجيزها الورثة
وعلى هذا جماعة جمهور الفقهاء بالعراق والحجاز والمغرب والشام
وشذت طائفة منهم عبد الرحمن بن كيسان فلم يجيزوا الوصية بأكثر من الثلث وان أجازها الورثة وقالوا ليس لهم ان يجيزوا للموصي ذلك ولهم ان يعطوا الموصى له من فرائضهم وسائر أموالهم ما شاؤوا
وكره الجماعة من أهل العلم الوصية في الثلث لمن يرثه ذريته واستحبت منهم [جماعة] الوصية بالخمس
273
وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال رضيت في وصيتي بما رضى الله به لنفسه يعني من الغنيمة (1)
وذكر عبد الرزاق قال أخبرني من سمع الحسن وأبا قلابة يقولان أوصى أبو بكر بالخمس
واستحبت طائفة الوصية بالربع روي ذلك عن بن عباس
وقال إسحاق بن راهويه السنة في الوصية الربع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (الثلث كثير) الا ان يكون رجل يعرف في ماله شبهات فيجوز له ان يوصي بثلثه لا يتجاوزه
واستحبت طائفة الوصية بالثلث لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ان الله تعالى جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في اعمالكم) (2)
روي من وجوه فيها لين قد ذكرناها في (التمهيد)
منها ما رواه وكيع وبن وهب عن طلحة بن عمرو [عن عطاء عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الحديث لم يروه عن عطاء غير طلحة بن عمرو] هذا وهو ضعيف مجتمع على ضعفه
والصحيح عن بن عباس ما رواه سفيان بن عيينة وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه قال قال بن عباس لو غض الناس من الثلث إلى الربع في الوصية لكان أحب إلي لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الثلث والثلث كثير)
قال سفيان وحدثنا جعفر بن برقان ان أبا بكر الصديق قال ارضى في وصيتي بما رضي الله عز وجل بالخمس
قال سفيان يعني خمس الفيء لقوله * (فأن لله خمسه) * الآية [الأنفال 41]
وقال قتادة الثلث كثير والقضاة يجيزونه والربع قصد وأوصى أبو بكر بالخمس
وقال بن سيرين الثلث جهد وهو جائز]
وقال قتادة أوصى عمر بالربع وأوصى أبو بكر بالخمس وهو أحب إلي
274
وقال إبراهيم كان الخمس أحب إليهم من الربع والربع أحب إليهم من الثلث
وقد ذكرنا الأسانيد عن هؤلاء كلهم في (التمهيد)
وفي هذا الحديث أيضا عيادة العالم والخليفة وسائر الجلة للمريض
وفيه دليل على أن الاعمال لا يزكو منها الا ما أريد به وجه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم (انك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا اجرت بها)
وفيه ان النفقة على البنين والزوجات من الاعمال الزاكيات الصالحات وان ترك المال للورثة إذا كان فضلا أفضل من الصدقة به لقوله صلى الله عليه وسلم (ان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)
واما قول سعد (أأخلف بعد أصحابي) فمعناه عندي - والله أعلم - ااخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين المتصدقين معك إلى المدينة دار الهجرة
قال ذلك تحزنا واشفاقا من بقائه في موضع قد هجره لله ولرسوله
واما جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بقوله (انك لن تخلف فتعمل عملا صالحا الا ازددت به درجة ورفعة) فلم يخرج على كلامه وانما خرج مخرج الاقرار لان الغيب لا علم له به ولكن من خلف وعمل صالحا وقعت به درجته
واما قوله (ولعلك ان تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) فهذا من ظنونه الصادقة التي كان كثيرا منها يقينا فقد خلف سعد - رضي الله عنه - حتى انتفع به أقوام وهلك به آخرون
روى بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج قال سالت عامر بن سعد بن أبي وقاص عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لسعد (ولعلك ان تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون) فقال امر سعد على العراق فقتل قوما على ردة فاضر بهم واستتاب قوما سجعوا سجع مسيلمة فتابوا فانتفعوا
قال أبو عمر امره عمر - رحمه الله - على الكوفة على حرب القادسية وعمر سعد بعد حجة الوداع خمس وأربعون سنة وتوفي سنة خمس وخمسين
واما قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) فمعناه الدعاء لهم في أن يتم لهم هجرتهم سالمة من افات الرجوع إلى الوطن المتقرب بهجرته إلى الله عز وجل وان يثبتهم على هجرتهم تلك وكانوا يستعيذون بالله تعالى ان يعودوا كالاعراب بعد هجرتهم لان الاعراب لم يتعبدوا بالهجرة التي كان يحرم بها على المهاجر الرجوع إلى وطنه
275
ولم تكن الهجرة (مقتصرة) في ترك الوطن وتحريم الرجوع إليه على الأبد الا على أهل مكة خاصة الذين امنوا به من أهلها واتبعوه ليتم لهم بالهجرة الغاية من الفضل الذي سبق لهم فعليهم خاصة افترضت الهجرة المفترض فيها البقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث استقر والتحول معه حيث تحول لنصرته ومؤازرته وصحبته والحفظ لما يشرعه والتبليغ عنه
ولم يرخص لواحد منهم في الرجوع إلى الوطن وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندهم كذلك لان هجرة دار الكفر حيث كانت وان كانت واجبة على كل من امن ان يهجر دار الكفر لئلا تجري عليه فيها احكام الشيطان وحرم عليه المقام حيث لا يجري عليه حكم الاسلام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انا بريء من كل مسلم مقيم مع المشركين) (1) فلم يحرم في هجرته هذه حالة الرجوع إلى الوطن الذي خرج منه إذا عادت تلك الدار دار ايمان واسلام
وليس أهل مكة كذلك لان الهجرة كانت عليهم باقية إلى الممات وهم الذين اطلق عليهم المهاجرون ومدحوا بذلك دون غيرهم
الا ترى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انما ارخص للمهاجر ان يقيم بمكة ثلاثة أيام بعد تمام نسكه وحجه
رواه العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا هذا الحديث باسناده في كتاب الصلاة
وحدثنا محمد بن إبراهيم أخبرنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد بن عثمان الاعناقي قال حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عبد الرحمن الأعرج قال خلف النبي صلى الله عليه وسلم على سعد رجلا وقال له (ان مات بمكة فلا تدفنه بها)
قال سفيان لأنه كان مهاجرا
وعن بن عيينة عن محمد بن قيس عن أبي بردة عن سعد بن أبي وقاص قال سالت النبي صلى الله عليه وسلم أتكره للرجل ان يموت في الأرض التي هاجر منها قال (نعم
276
وروى عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم مكة قال (اللهم لا تجعل منايانا بها) (1) لأنه كان مهاجرا
وقال فضيل بن مرزوق سالت إبراهيم النخعي عن المقام والجوار بمكة فقال اما المهاجر فلا يقيم بها واما غيره فإنما كره له المقام بمكة خشية ان يكثر الناس بها فتغلوا اسعار أهلها
وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه في الحديث المذكور في أول هذا الباب أنه قال يا رسول الله اني أخاف أو قال إني ارهب ان أموت في الأرض التي هاجرت منها فادع الله لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم اشف سعدا اللهم اشف سعدا) (2) وذكر الحديث
وهذا كله يدل على أن قوله صلى الله عليه وسلم (لا هجرة بعد الفتح) ان معناه لا هجرة تبتدا بعد الفتح مفترضة لا على أهل مكة ولا على غيرهم
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا هجرة بعد الفتح) من وجوه كثيرة صحاح كلها وفي بعضها (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) (3) ثم قال لهم (المهاجر من هجر ما حرم الله عليه) (4)
وقال لبعضهم إذ سأله عن الهجرة (أقم الصلاة وات الزكاة وما افترض الله عليك واجتنب ما نهاك عنه واسكن من ارض قومك حيث شئت)
قال أبو عمر فهذه الهجرة المفترضة الباقية إلى يوم القيامة الا ان المهاجرين الأولين الذين مدحهم الله بهجرتهم حرام عليهم ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدينة والرجوع إلى مكة ابدا
277
الا ترى ان عثمان وغيره كانوا إذا حجوا لا يطوفون طواف الوداع الا ورواحلهم قد رحلت
وهذا انما كان عليهم ما كان صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع ذلك عنهم بموته فافترقوا في البلدان - رضي الله عنهم -
وروى جرير بن حازم قال حدثني عمي جرير بن يزيد عن عامر بن سعد عن أبيه فذكر معنى حديث بن شهاب
وفيه (لكن سعد بن خولة البائس قد مات في الأرض التي قد هاجر منها)
قال أبو عمر ما قاله شيوخنا في حديث بن شهاب (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان مات بمكة) من كلام بن شهاب صحيح
ومعلوم بما ذكرنا من الآثار ان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة (البائس) انما كان رثى بذلك لموته بمكة وقد يمكن ان يكون أحب واختار التودد بها حتى أدركته فيها منيته والله أعلم
وكان موته بمكة في حجة الوداع
حدثني خلف بن قاسم قال حدثني عبد الله بن جعفر بن الورد قال حدثني الحسن بن غليب وإسحاق بن إبراهيم بن جابر قالا حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب قال توفي سعد بن خولة في حجة الوداع
قال أبو عمر سعد بن خولة بدري وقد ذكرناه بما ينبغي من ذكره في كتاب الصحابة والحمد لله
قال مالك (1) في الرجل يوصي بثلث ماله لرجل ويقول غلامي يخدم فلانا ما عاش ثم هو حر فينظر في ذلك فيوجد العبد ثلث مال الميت قال فان خدمة العبد تقوم ثم يتحاصان (2) يحاص الذي أوصي له بالثلث بثلثه ويحاص الذي أوصي له بخدمة العبد بما قوم له من خدمة العبد فيأخذ كل واحد منهما من خدمة العبد أو من اجارته ان كانت له إجارة بقدر حصته فإذا مات الذي جعلت له خدمة العبد ما عاش عتق العبد
قال أبو عمر قد تقدم القول فيما زاد من الوصايا على الثلث ان ذلك موقوف
278
عند جمهور العلماء على إجازة الورثة وقد ذكرنا الخلاف في ذلك
واما الوصية بخدمة العبد وغلة البساتين وسكنى المساكين فقد اختلف الفقهاء في ذلك
فقال مالك والثوري والليث وعثمان البتي وأبو حنيفة والشافعي وسوار وعبد الله وعبيد الله ابنا الحسن قاضيا البصرة الوصية بسكنى الدار وغلة البساتين فيما يستأذن وخدمة العبد جائزة إذا كانت الثلث أو أقل وكذلك ما زاد على الثلث من ذلك إذا اجازه الورثة
وقال بن أبي ليلى وبن شبرمة الوصية بكل ذلك باطل غير جائزة
وبه قال داود وأهل الظاهر لان ذلك منافع طارئة على ملك الوارث لم يملكها الميت قبل موته
وقد اجمعوا انه لو أوصى بشيء ومات وهو في غير ملكه ان الوصية باطل
والوصية بالمنافع كذلك لأنه قد مات وهي في غير ملكه فان شبه على أحد ان الإجارة يملك المؤاجر بها البدل من منافعها وان لم تكن في ملكه فليس كذلك لان المؤاجر على ملكه كل ما يطرا من المنافع ما دام الأصل في ملكه وكان حيا وليس الميت بمالك لشيء من ذلك لان المنافع طارئة على ملك الورثة
واما الأوقاف فان السنة اجازتها بخروج ملك أصلها عن الموقف إلى الله عز وجل ليتحرى عليها فيما يقرب منه وليست المنافع فيها طارئة على ملك الموقف [لأنه مستحيل ان يملك الميت شيئا
وقد قال بعضهم ان أصول الأوقاف على ملك الموقف] لقول رسول الله " صلى الله عليه وسلم (ينقطع عمل المرء بعده الا من ثلاث) فذكر منها صدقة يجري عليه نفعها
وهذا ليس بشيء لان الثواب والاجر الذي يناله الميت فيما يوقفه من أصول ماله انما كان لان أصله خرج عن ملكه إلى الله تعالى فبذلك استحق الاجر كمن سن سنة حسنة فعمل بها غيره
أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثني محمد بن عبد السلام قال حدثنا محمد بن أبي عمرو قال حدثنا سفيان بن عيينة قال قال بن شبرمة وبن أبي ليلى من أوصى بفرع شيء ولم يوص بأصله فليس بشيء
قال أبو عمر قول بن أبي ليلى وبن شبرمة ومن تابعهما قول صحيح في النظر والقياس وان كان على خلافه أكثر الناس
279
قال مالك (1) في الذي يوصي في ثلثه فيقول لفلان كذا وكذا ولفلان كذا وكذا يسمي مالا من ماله فيقول ورثته قد زاد على ثلثه فان الورثة يخيرون بين ان يعطوا أهل الوصايا وصاياهم ويأخذوا جميع مال الميت وبين ان يقسموا لأهل الوصايا ثلث مال الميت فيسلموا إليهم ثلثه فتكون حقوقهم فيه ان أرادوا بالغا ما بلغ
قال أبو عمر هذه مسألة معروفة لمالك وأصحابها يدعونها مسألة خلع الثلث
وخالفهم فيها أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود وأصحابهم وانكروها على مالك - رحمه الله
وقد اجمعوا ان الوصية تصح بموت الموصي وقبول الموصى له إياها بعد موت الموصى وإذا صح ملك الموصى له للشيء الموصى به فكيف تجوز فيه المعاوضة بثلث لا يبلغ الا معرفته ولا يوقف على حقيقته
وقد اجمعوا انه لا تجوز البياعات والمعاوضات في المجهولات
واجمعوا انه لا يحل ملك مالك الا عن طيب نفسه فكيف يؤخذ من الموصى له ما قد ملكه بموت الموصي وقبوله له بغير طيب نفس منه
ومن حجة مالك ان الثلث موضع للوصايا فإذا امتنع الورثة ان يخرجوا ما أوصى به الميت [وزعموا أنه تعدى فيه بأكثر من الثلث خيروا بين ان يسلموا للموصى له ما أوصى به الميت لهم] أو يسلموا إليه ثلث الميت كما لو جنى العبد جناية قيمتها مائة درهم والعبد قيمته الف كان سيده مخيرا بين ان يؤدي أرش الجناية فلا يكون للمجني عليه إلى العبد سبيل وبين ان يسلم العبد إليه وان كان يساوي اضعاف قيمة الجناية
قال أبو عمر الذي أقول به ان الورثة إذا ادعوا ان الشيء الموصى به أكثر من الثلث كلفوا بيان ذلك فإذا ظهر ذلك وكان كما ذكروا أكثر من الثلث يأخذ من الموصى له قدر ثلث مال الميت وكان شريكا للورثة بذلك فيه وان كان الثلث فأقل اجبروا على الخروج عنه إلى الموصى له وبالله التوفيق لا شريك له
280
((4 - باب امر الحامل والمريض والذي يحضر القتال في أموالهم))
1463 - قال مالك أحسن ما سمعت في وصية الحامل وفي قضاياها في مالها وما يجوز لها ان الحامل كالمريض فإذا كان المرض الخفيف غير المخوف على صاحبه فان صاحبه يصنع في ماله ما يشاء وإذا كان المرض المخوف عليه لم يجز لصاحبه شيء الا في ثلثه
قال وكذلك المراة الحامل أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف لان الله تبارك وتعالى قال في كتابه * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) * [هود 71] وقال * (حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) * [الأعراف 189]
فالمراة الحامل إذا أثقلت لم يجز لها قضاء الا في ثلثها فأول الاتمام ستة اشهر قال الله تبارك وتعالى في كتابه * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * [البقرة 233] وقال * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] فإذا مضت للحامل ستة اشهر من يوم حملت لم يجز لها قضاء في مالها الا في الثلث
قال مالك في الرجل يحضر القتال انه إذا زحف في الصف للقتال لم يجز له ان يقضي في ماله شيئا الا في الثلث وانه بمنزلة الحامل والمريض المخوف عليه ما كان بتلك الحال
قال أبو عمر أصل علامات المرض الذي يلزم به صاحبه الفراش ولا يعذر معه على شيء من التصرف ويغلب على القلوب انه يتخوف عليه منه الموت إذا كانت هذه حال المريض
فالعلماء مجمعون قديما وحديثا على أنه لا يجوز له ان يقضي في ماله بأكثر من الثلث
واما الحامل فأجمعوا على أن ما دون ستة اشهر من حملها هي فيه كالصحيح في افعاله وتصرفه في ماله
واجمعوا أيضا انها إذا ضربها المخاض والطلق انها كالمريض المخوف عليه لا ينفذ لها في مالها أكثر من ثلثها
281
واختلفوا في حالها إذا بلغت ستة اشهر من حملها إلى حين يحضرها الطلق فقال مالك ما وصفه في موطئه على ما ذكرناه
وهو قول الليث بن سعد واحمد وإسحاق وطائفة من السلف
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري وعبيد الله بن الحسن والأوزاعي وأبو ثور وداود الحامل كالصحيح ما لم يكن المخاض والطلق أو يحدث بها من الحمل ما تصير به صاحبة فراش
واجمع العلماء على أن من بلغت منه الجراح ان أنفذت مقاتله أو قدم للقتل في قصاص أو لرجم في زنا انه لا يجوز له من القضاء في ماله الا ما يجوز للمريض صاحب الفراش المخوف عليه
وكذلك الذي يبرز في التحام الحرب [للقتال]
واجمع العلماء على أن عتق المريض صاحب الفراش الثقيل المرض لعبيده في مرضه إذا مات من مرضه ذلك لا ينفذ منه الا ما يحمل ثلث ماله
وثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن حصين [وغيره في الذي اعتق ستة اعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم ثم مات فأقرع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينهم وعتق - ثلثهم - اثنين وارق ثلثيهم أربعة] (1)
واجمع الجمهور من العلماء الذين هم حجة على من خالفهم ان هبات المريض وصدقاته وسائر عطاياه إذا كانت حاله ما وصفنا لا ينفذ منها الا ما حمل ثلثه
وقال داود وأهل الظاهر اما عتق المريض فعلى ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي اعتق ستة اعبد له في مرضه لا مال له غيرهم ينفذ من ذلك الثلث
واما هباته وصدقاته وما يهديه ويعطيه وهو حي فنافذ ذلك كله جائز عليه ماض في ذلك كله لأنه ليس بوصية وانما الوصية ما يستحق بموت الموصي
وقال الجمهور من العلماء وجماعة أهل الفتوى بالامصار ان هبات المريض كلها وعتقه وصدقاته لو صح من مرضه نفذ ذلك كله من راس ماله ويراعون فيها ما عدا العتق القبض على ما ذكرنا في أصولهم من قبض الهبات والصدقات فيما تقدم من هذا الكتاب
282
وقال داود وأهل الظاهر اما العتق خاصة في المرض فلا ينفذ منه الا الثلث مات المعتق من مرضه أو صح لان المرض لا يعلم ما منه الموت وما منه الصحة الا الله تعالى
وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم عتق ثلث العبيد الذين اعتقهم سيدهم بالمرض ولا مال له غيرهم
قال أبو عمر الحجة على داود قائمة بنص الحديث لان فيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انما اقرع بين العبيد بعد موت سيدهم وتغيظ عليه وقال (لقد هممت الا أصلي عليه ما اعتق جميعهم) ولم يكن له مال غيرهم
وهذه الالفاظ محفوظة في حديث عمران بن حصين
وقد ذكرنا كثيرا منه في (التمهيد) وفي كتاب العتق من هذا الكتاب والله الموفق للصواب
((5 - باب الوصية للوارث والحيازة))
1464 - قال مالك في هذه الآية انها منسوخة قول الله تبارك وتعالى * (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) * [البقرة 180] نسخها ما نزل من قسمة الفرائض في كتاب الله عز وجل
قال أبو عمر قد تقدم القول في هذه الآية وذكرنا ما للعلماء فيها من التنازع وهل هي منسوخة أو محكمة وما الناسخ لها من القران والسنة في باب الأمر بالوصية من هذا الكتاب فلا معنى لإعادة ذلك هنا
قال مالك السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها انه لا تجوز وصية لوارث الا ان يجيز له ذلك ورثة الميت وانه ان أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم ومن أبى اخذ حقه من ذلك
وهذه المسألة قد مضت أيضا مجودة فيما للعلماء فيها من الأقوال والاعتلال في باب الأمر بالوصية من كتابنا هذا فلا وجه لتكرارها
قال وسمعت مالكا يقول في المريض الذي يوصي فيستأذن ورثته في وصيته وهو مريض ليس له من ماله الا ثلثه فيأذنون له ان يوصي لبعض ورثته بأكثر من ثلثه انه ليس لهم أ ن يرجعوا في ذلك ولو جاز ذلك لهم صنع كل وارث ذلك فإذا
283
هلك الموصي اخذوا ذلك لأنفسهم ومنعوه الوصية في ثلثه وما اذن له به في ماله (1)
قال فأما ان يستأذن ورثته في وصية يوصي بها لوارث في صحته فيأذنون له فان ذلك لا يلزمهم ولورثته ان يردوا ذلك ان شاؤوا وذلك أن الرجل إذا كان صحيحا كان أحق بجميع ماله يصنع فيه ما شاء ان شاء ان يخرج من جميعه خرج فيتصدق به أو يعطيه من شاء وانما يكون استئذانه ورثته جائزا على الورثة إذا أذنوا له حين يحجب عنه ماله ولا يجوز له شيء الا في ثلثه وحين هم أحق بثلثي ماله منه فذلك حين يجوز عليهم امرهم وما اذنوا له به فان سأل بعض ورثته ان يهب له ميراثه حين تحضره الوفاة فيفعل ثم لا يقضي فيه الهالك شيئا فإنه رد على من وهبه الا ان يقول له الميت فلان لبعض ورثته ضعيف وقد أحببت ان تهب له ميراثك فأعطاه إياه فان ذلك جائز إذا سماه الميت له
قال وان وهب له ميراثه ثم انفذ الهالك بعضه وبقي بعض فهو رد على الذي وهب يرجع إليه ما بقي بعد وفاة الذي اعطيه (2)
قال أبو عمر اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال
أحدها قول مالك ان اذن الورثة للمريض في حال مرضه ان يوصي لوارثه أو بأكثر من ثلثه فهو لازم لهم إلا أن يكونوا ممن يخاف دخول الضرر عليهم من منع رفد واحسان وقطع نفقة ومعروف ونحو هذا ان امتنعوا فإن كان ذلك لم يضرهم اذنهم وكان لهم الرجوع فيما اذنوا فيه بعد موته روى ذلك بن القاسم وغيره عنه وان استأذنهم في صحته فأذنوا له لم يلزمهم بحال من الأحوال
والقول الثاني ان اذن لهم في الصحة والمرض سواء ويلزمهم اذنهم بعد موته ولا رجوع لهم روي ذلك عن الزهري وربيعة والحسن وعطاء وروي ذلك عن مالك والصحيح عنه ما في موطئه وهو المشهور عنه من مذهبه
والقول الثالث ان اذنهم واجازتهم لوصيته في صحته ومرضه سواء ولا يلزمهم شيء منه الا ان يجيزوا ذلك بعد موته حين يجب لهم الميراث ويجب للموصى له الوصية لأنه قد يموت من مرضه وقد لا يموت وقد يموت ذلك الوارث المستأذن قبله فلا يكون وارثا ويرثه غيره ومن أجاز ما لا حق له فيه ولم يجب له فليس فعله ذلك بلازم له
284
وممن قال ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وسفيان الثوري
وروي ذلك عن بن مسعود وشريح وطاوس
وبه قال احمد وإسحاق
قال مالك (1) فيمن أوصى بوصية فذكر انه قد كان اعطى بعض ورثته شيئا لم يقبضة فأبى الورثة ان يجيزوا ذلك فان ذلك يرجع إلى الورثة ميراثا على كتاب الله تعالى لأن الميت لم يرد ان يقع شيء من ذلك في ثلثه ولا يحاص أهل الوصايا في ثلثه بشيء من ذلك
قال أبو عمر هذه وصية الوارث لم يعلم بها الا في المرض أو عطية من صحيح ذكرها في وصيته ليخرج من ثلثه فحكمها حكم العطية في المرض فإذا لم يجزها الورثة لم يجز ولا سبيل ان يكون من اقراره في مرضه شيء ينقل إلى حكم الصحة عند جماعة أئمة الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا كما لو أقر في صحته لم يحكم له بحكم الاقرار في المرض
وهذا رجل أراد ان يصنع وهو مريض صنيع صحيح فيعطي الوارث وهو مريض عطيته من راس ماله فلم يجز له ذلك أهل العلم الا انه لو قال في مرضه وهو مريض كنت أعطيته شيئا في صحتي لم يقبضه وانا أوصي به له الان فهذا موقوف على إجازة الورثة
ولو كان لأجنبي وقد قال انفذوا له ما أعطيته في الصحة فقد أوصيت له به وانفذته له كان ذلك جائزا له من ثلثه رضي الورثة بذلك أو لم يرضوا الا ان يكون أكثر من الثلث فيكون ذلك من اجازتهم على ما قدمنا
وهذا كله قول جماعة الفقهاء والحمد لله كثيرا
((6 - باب ما جاء في المؤنث من الرجال ومن أحق بالولد))
1465 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ان مخنثا كان عند أم سلمة
285
زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعبد الله بن أبي أمية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع يا عبد الله ان فتح الله عليكم الطائف غدا فأنا ادلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع (1) وتدبر بثمان (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يدخلن هؤلاء عليكم)
قال أبو عمر هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة (الموطأ) عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا الا سعد بن أبي مريم فإنه رواه عن مالك عن هشام عن أبيه عن أم سلمة
ولم يسمعه عروة من أم سلمة لان بن عيينة وغيره رووه عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة
وهذا أصح أسانيده عندي وقد ذكرته في (التمهيد)
ورواه معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت يدخل على بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير اولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن هذا عليكن) فحجبوه (3)
قال أبو عمر انما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخلن عليكم هذا ولم يقل عليكن لأنه خاطب الرجال الا يدخل بيوتهم على نسائهم فحجبوه
فهكذا رواية مالك وغيره (عليكم) وقد روي (لا يدخلن هذا عليكن) مخاطبة منه لنسائه والله أعلم
حدثني عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن أحمد قال حدثني يحيى بن محمد بن زياد قال حدثني أحمد بن عبد الجبار قال حدثني يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت كان عندي مخنث فقال لعبد الله أخي ان فتح الله عليكم الطائف غدا فاني ادلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فقال (لا يدخلن هؤلاء عليكم
286
وبه عن يونس بن بكير عن بن إسحاق قال وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته فاختة ابنة عمرو بن عائذ مخنث يقال له ماتع يدخل على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون في بيته ولا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه يفطن بشيء من امر النساء مما يفطن إليه الرجال ولا يرى أن له في ذلك اربا فسمعه يقول لخالد بن الوليد يا خالد ان فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلا ينفلتن منكم بادية ابنة غيلان بن سلمة فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعها منه (لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع) ثم قال لنسائه (لا يدخلن عليكن) فحجب عن بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا قال بن إسحاق في هذا المؤنث ان اسمه ماتع ولم يقله غيره فيما علمت والأكثر على أن اسمه (هيت)
كذلك ذكر (حبيب) عن مالك وكذلك رواه بن عيينة عن بن جريج ان اسم ذلك المحنث هيث وهو قول الواقدي وبن الكلبي
وقال بن إسحاق وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى خالته فاختة بنت عمرو بن عائذ بن عمران [بن مخزوم المخزومي
وقال بن الكلبي كان هيت المخنث] مولى لعبد الله بن أمية أخي أم سلمة قال وكان طويس مولى عبد الله بن أبي أمية أيضا
وقال بن إسحاق فقال لخالد بن الوليد وقالوا كلهم فقال لعبد الله بن أبي أمية
كذلك في الحديث المسند وهو الصواب وهو قول بن إسحاق وغيره استشهد يوم الطائف عبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة
وفي رواية بن الكلبي والواقدي ان هيتا هذا المخنث قال لعبد الله بن أبي أمية وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمة عاتكة يا عبد الله - وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة - ان افتتحتم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كالاقحوان ان قعدت تثنت وان تكلمت تغنت بين رجليها مثل الاناء المكفو ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله) ثم اجلاه عن المدينة إلى الحمى
قال فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة
هذا قول بن الكلبي قال ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
287
فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى ان يرده فلما ولي عمر كلم فيه وقيل إنه قد كبر وضعف واحتاج فاذن له ان يدخل كل جمعة فيسال الناس ثم يرجع إلى مكانه
واما قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان فقد فسره حبيب عن مالك وذكر غيره بأكثر من ذلك من معناه ما نذكره ها هنا ان المراة وصفها المخنث بأنها امرأة لها في بطنها اربع عكن تبلغ خصرتها فتصير لها أربعة أطراف في كل خصر فتصير ثمانيا أربعا من هنا وأربعا من هنا فإذا أقبلت إليك واستقبلتها رايت في بطنها اربع عكن فإذا أدبرت رايت ثمانيا من جهة الأطراف في خصريها
هكذا فسره كل من تكلم في هذا الحديث واستشهد بعضهم عليه بقول النابغة في قوائم ناقته
(على هضبات بينما هن اربع
* انخن لتعريس فعدن ثمانيا)
وقد روي خبر هذا المخنث من حديث سعد بن أبي وقاص بتمامه وقد ذكرناه في (التمهيد)
وفي الحديث من الفقه انه لا يجوز دخول أحد من المخنثين وهم الذين يدعون عندنا المؤنثين على النساء وانهم ليسوا من الذين قال الله فيهم * (غير أولي الإربة من الرجال) * [النور 31]
وهذه الصفة هو الأبله الأحمق العنين الذي لا ارب له في النساء ولا يفطن بشيء من معايبهن ومحاسنهن فمن كان بهذه الصفة لم يكن بدخوله على الناس باس لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن بهيت المخنث انه ممن هذه صفته فلما سمع منه ما سمع امر بان لا يدخل على النساء ثم اخرجه من المدينة ونفاه عنها
وهذا أصل في كل من يتأذى به ولا يقدر على الاحتراس منه ان ينفى إلى مكان يؤمن فيه منه الأذى
قال أبو عمر قد صحف قوم من الرواة اسم ابنة غيلان هذه والصواب فيه (بادية) بالباء والياء وهو مأخوذ من بدا يبدو أي ظهر فكأنها سميت ظاهرة
هذا معنى ما ذكره الزبير وغيره وبالله التوفيق
1466 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت القاسم بن محمد يقول كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر
288
ثم إنه فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصما يلعب بفناء المسجد فاخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه (1) حتى اتيا أبا بكر الصديق فقال عمر ابني وقالت المراة ابني فقال أبو بكر خل بينها وبينه قال فما راجعه عمر الكلام قال وسمعت مالكا يقول وهذا الامر الذي اخذ به في ذلك
قال أبو عمر هذا خبر منقطع في هذه الرواية ولكنه مشهور مروي من وجوه منقطعة ومتصلة تلقاه أهل العلم بالقبول والعمل
وزوج عمر بن الخطاب أم ابنه عاصم بن عمر هي جميلة ابنة عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري وقد ذكرناه بما ينبغي من ذكره في الصحابة وفيه دليل على أن عمر كان مذهبه في ذلك خلاف مذهب أبي بكر ولكنه سلم للقضاء ممن له الحكم والقضاء ثم كان بعد في خلافته يقضي به ويفتي ولم يخالف أبا بكر في شيء منه ما دام الصبي صغيرا لا يميز ولا مخالف لهما من الصحابة
ذكر حماد بن سلمة عن قتادة وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد قال إن عمر طلق جميلة ابنة عاصم فجاءت جدته الشموس فذهبت بالصبي فجاء عمر على فرس فقال اين ابني فقيل ذهبت به الشموس فدفع فلحقها فخاصمها إلى أبي بكر فقضى لها أبو بكر به وقال هي أحق بحضانته
وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال ابصر عمر عاصما ابنه مع جدته أم أمه فكأنه جاذبها إياه فلما راه أبو بكر مقبلا قال له مه مه هي أحق به فما راجعه الكلام
وعن بن جريج انه اخبره عن عطاء الخرساني عن بن عباس قال طلق عمر بن الخطاب امرأته الأنصارية أم ابنة عاصم فلقيها تحمله بمحسر وقد فطم ومشى فاخذ بيده لينتزعه منها ونازعها إياه حتى أوجع الغلام وبكى وقال انا أحق بابني منك فاختصما إلى أبي بكر فقضى لها به وقال ريحها وحجرها وفراشها خير له منك حتى يشب ويختار لنفسه
ومحسر سوق بين قباء والمدينة
وعن الثوري عن عاصم عن عكرمة قال خاصمت امرأة عمر إلى أبي
289
بكر وكان طلقها فقال أبو بكر الام اعطف والطف وارحم واحق واراف هي أحق بولدها ما لم تتزوج
وعن معمر قال سمعت الزهري يحدث ان أبا بكر قضى على عمر في ابنه مع أمه وقال أمه أحق به ما لم تتزوج
قال أبو عمر من الحديث في ذلك عن عمر بموافقته أبا بكر رضي الله عنهما ما رواه معمر عن أيوب عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال اختصم إلى
عمر في صبي فقال عمر هو مع أمه حتى يعرب عنه لسانه فيختار
وروي هذا عن عمر من وجوه كثيرة ذكرها عبد الرزاق وغيره
وفي ذلك تخيير الصبي إذا ميز كما تقدم ذكره عن أبي بكر
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه يحيى بن أبي كثير وزياد بن سعد عن هلال بن اسامة ان ابا ميمونة - سليمان - مولى من أهل المدينة اخبره انه سمع أبا هريرة يقول جاءت أم وأب يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بن لهما فقالت المراة للنبي صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي يا رسول الله ان زوجي يريد ان يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة ونفعني فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فاخذ بيد أمه فانطلقت به) (1)
قال أبو عمر لا اعلم خلافا بين السلف من العلماء والخلف في المراة المطلقة إذا لم تتزوج انها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت منها فسق ولم تتزوج
ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أمه وبين أبيه وفيمن هو أولى به ذلك على ما نذكره عن أئمة الفقهاء الذين تدور عليهم بامصار المسلمين الفتيا إن شاء الله عز وجل
وممن خير الصبي المميز بين أبويه من السلف عمر بن الخطاب وغيره
روي عن بن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن أبي عبد الله بن أبي المهاجر عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري انه حضر عمر بن الخطاب خير صبيا بين أمه وأبيه
290
وعن يونس بن عبد الله الجرمي عن عمارة الجرمي قال قدم عمي من البصرة يريد ان ياخذني من أمي فارسلتني أمي إلى علي بن أبي طالب ادعوه إليها فدعوته فخيرني بين أمي وعمي
قال وأبصر علي أخا لي أصغر مني مع أمي فقال وهذا إذا بلغ مبلغ هذا خير
وعن سفيان عن أيوب عن بن سيرين عن شريح انه خير غلاما بين أبيه وأمه
قال سفيان الام أحق به ما دام صغيرا فإذا بلغ ستا وعقل خير بين أبويه
وقد روي عن شريح شيء ظاهره خلاف ما وصفنا وليس كذلك لأنه قد روي عنه ما ذكرنا وبالله توفقنا
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن بن سيرين عن شريح قال الأب أحق والام ارفق
[رواه هشيم قال أخبرنا يونس وبن عون وهشام وأشعث كلهم عن بن سيرين عن شريح قال الأب أحق والام ارفق]
وهذا كلام مجمل يحتمل ان يكون الأب أحق به إذا تزوجت الام على ما عليه جماعة العلماء بحسب ما نورده بحول الله تعالى
ويدل على صحة ما تاولناه على شريح انه قد روى عنه بهذا الاسناد معمر عن أيوب عن بن سيرين ان شريحا قضى ان الصبي مع أمه إذا كانت الدار واحدة ويكون معهم من النفقة ما يصلحهم
وبن عيينة عن أيوب عن بن سيرين ان امرأة كانت بالكوفة فأرادت ان تخرج بولدها إلى البادية فخاصمها العصبة إلى شريح فقال هم مع أمهم ما كانت الدار واحدة فإذا أرادت ان تخرج بهم اخذوا منها وقال الأب أحق والأم ارفق
سفيان عن زكريا بن أبي زائدة ان امرأة أرادت ان تخرج بولدها إلى الرستاق فاختصموا إلى الشعبي فقال العصبة أحق
قال أبو عمر على هذا جمهور الفقهاء عند انتقال الام عن حضرة الأب وبالله التوفيق
واما مذاهب الفقهاء في الحضانة
فذكر بن وهب عن مالك قال الام أحق بالولد ما لم تتزوج ثم لا حضانة
291
لها بذلك قضى أبو بكر على عمر فإذا اثغروا فوق ذلك فلا حضانة لها
قال بن وهب وسئل مالك عن المطلقة ولها بن في الكتاب أو بنت قد بلغت الحيض للأب ان يأخذهما
فقال مالك لا أرى ذلك له ان يؤدب الغلام ويعلمه ويقلبه إلى أمه ولا يفرق بينه وبين أمه ولكن يتعاهده في كتابه ويقر عند أمه ويتعاهد الجارية وهي عند أمها ما لم تنكح
قال مالك وللجدة من الام الحضانة بعد الام ثم الجدة من الأب
قال وليس للام ولا للجدة ان يخرجا بالولد إلى بلد بعيد عن أبيه وأهل بيته
وذكر بن القاسم عن مالك ان ولد المراة إذا كان ذكرا فهي أولى بحضانته ما لم تتزوج ويدخل بها حتى يبلغ فإذا بلغ ذهب حيث شاء
خالف بن القاسم رواية بن وهب في اعتبار البلوغ
وقد ذكر بن عبد الحكم الروايتين
قال بن القاسم عن مالك والام أحق بحضانة ابنتها وان بلغت الجارية ما لم تتزوج وعلى الأب نفقة ابنته إذا كان يجد
قال مالك وأولياء الولد أولى بهم - وان كانوا صغارا - من أمهم إذا نكحت
قال مالك فإذا تزوجت الام فالجدة من الام أولى فان طلقها زوجها بعد الدخول بها لم يرد إليها الولد وكذلك ان سلمته الام استثقالا للولد ثم طلبته لم يرد إليها
قال بن القاسم عنه فان ماتت جدته لأمه فخالته أولى بحضانته ثم بعدها جدته لأبيه ثم الأخت ثم العمة وبنت الأخ أولى بالولد من العصبة ولم يذكر مالك تخيير الولد في شيء من ذلك قال وينظر للولد بالذي هو اكفا وأحوط
وقال الثوري ان تزوجت الام فالخالة أحق به ولم يذكر تخييرا
وقال الأوزاعي الام إذا تزوجت فالعم أحق من الجدة أم الام وان طلقها زوجها ثم أرادت اخذ الولد لم يكن لها ذلك ولم يذكر تخيير الصبي
وذكر عن الأوزاعي أيضا الام أحق بالولد وعلى الأب النفقة فان تزوجت فهو أحق به فان سلمته إلى جدته فمتى ارتجعته منه رد عليها نفقتها والجدة أم الأب أولى من العمة إذا قويت على النفقة ولا تعود حضانة الام بطلاقها
292
والليث الام أحق بالابن حتى يبلغ ثماني سنين أو تسع سنين أو عشرا ثم الأب أولى بالجارية حتى تبلغ فان كانت الام غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها اخذ منها إذا بلغ
وقال الحسن بن حي إذا كانت الابنة كاعبا والغلام قد ايفع واستغنى عن أمه خيرا بين أبويهما فأيهما اختارا فهو أولى فان اختارا بعد ذلك الاخر حول ومتى طلقت بعد التزويج رجع حقها فإن كان أحد الأبوين غير مأمون كانت عند المأمون حتى يبلغ
والبكر إذا بلغت فاختار لها أن تكون مع أحدهما فان أبت وهي مأمونة فلها ذلك
والابن إذا بلغ واونس رشده ولي نفسه
وقال الشافعي إذا بلغ الولد سبع سنين أو ثماني سنين خير إذا كانت دارهما واحدة وكانا مامونين على الولد يعقل عقل مثله فإذا كان أحدهما غير مأمون فهو عند المأمون منهما كان الولد ذكرا أو أنثى فان منعت المراة من الولد بالزوج فطلقها طلاقا رجعيا أو غيره رجعت على حقها في ولدها لأنها منعت لوجه فإذا ذهب فهي كما كانت
وهو قول المغيرة وبن أبي حازم
وعلى الأب نفقته ويؤدبه بالكتاب والصناعة ان كان من أهلها وياوي إلى أمه [ولا يمنع] ان اختار الام من اتيان الأب [ولا الام من اتيان ابنتها وتمريضها عند الأب]
قال والام أحق بالولد الصغير ما لم تتزوج ثم الجدة للام وان علت ثم الجدة للأب وان علت ثم الأخت للأب والام ثم الأخت للأب ثم الأخت للام ثم الخالة ثم العمة
ولا ولاية لام أب الام لان قرابتها باب لا بأم
وقرابة الصبي من النساء أولى وان كان الولد مخبولا فهو كالصغير
قال ولا حق لاحد مع الأب غير الام وأمهاتها فاما أخواتها وغيرهن فإنما حقوقهن بالأب فلا يكون لهن حق معه وهن يدلين به
والجد أبو الأب يقوم مقام الأب إذا لم يكن أب وأقرب العصبة يقوم مقام الأب إذا لم يكن أب أو كان غائبا أو غير رشيد
293
واما قول الكوفيين فروى أبو يوسف وأبو حنيفة قال الام أولي بالغلام والجارية الصغيرين ثم الجدة من الام ثم الجدة من الأب ثم الأخت للام والأب ثم الأخت للام ثم الخالة في أحد الروايتين هي أحق من الأخت لأب وفي الأخرى الأخت أولى ثم العمة والام والجدتان أولى بالجارية حتى تبلغ المحيض وبالغلام حتى يستغني فياكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ومن سواهما أحق بهما حتى يستغنيا ولا يراعى البلوغ
وقال زفر في رواية عمرو بن خالد عنه الخالة أولى من الأخت للأب
وقال أبو يوسف الأخت أولى
وروي عن عمرو بن خالد أيضا عن زفر الخالة للأب أولى من الجدة للأب
وروى الحسن بن زياد عنه ان الجدة أم الام أولى بحضانة الولد بعد الام ثم أم الأب ثم الأخت من قبل الأب والام والأخت من قبل الام يتساويان في الحضانة ولا تتقدم إحداهما فيه الأخرى ثم الأخت من قبل الام ثم الخالة ثم العمة فإذا تزوجت واحدة منهن لغير ذي رحم كان غيرها أولى إذا كان زوجها ذا رحم من الولد ومتى عادت الام أو غيرها غير ذات زوج عادت إليها حضانتها
قال أبو عمر في الخالة حديث علي وبن عباس ان عليا وجعفر وزيد بن حارثة ترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة في حين دخوله مكة فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر من اجل ان خالتها عنده وقال (الخالة أم أو بمنزلة الام) (1)
حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني أحمد بن جريج قال حدثني خلف بن الوليد قال حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ وهبيرة بن يريم عن علي فذكر حديثا بمعنى ما ذكرت الا اني اختصرته
وروى حفص بن غياث عن حجاج عن الحكم عن مقسم عن بن عباس مثله بمعناه
294
((7 - باب العيب في السلعة وضمانها))
1467 - قال مالك في الرجل يبتاع السلعة من الحيوان أو الثياب أو العروض فيوجد ذلك البيع غير جائز فيرد ويؤمر الذي قبض السلعة ان يرد إلى صاحبه سلعته
قال مالك فليس لصاحب السلعة الا قيمتها يوم قبضت منه وليس يوم يرد ذلك إليه وذلك أنه ضمنها من يوم قبضها فما كان فيها من نقصان بعد ذلك كان عليه فبذلك كان
نماؤها وزيادتها له وان الرجل يقبض السلعة في زمان هي فيه نافقة (1) مرغوب فيها ثم يردها في زمان هي فيه ساقطة (2) لا يريدها أحد فيقبض الرجل السلعة من الرجل فيبيعها بعشرة دنانير ويمسكها وثمنها ذلك ثم يردها وانما ثمنها دينار فليس له ان يذهب من مال الرجل بتسعة دنانير أو يقبضها منه الرجل فيبيعها بدينار أو يمسكها وانما ثمنها دينار ثم يردها وقيمتها يوم يردها عشرة دنانير فليس على الذي قبضها ان يغرم لصاحبها من ماله تسعة دنانير انما عليه قيمة ما قبض يوم قبضه
قال ومما يبين ذلك ان السارق إذا سرق السلعة فإنما ينظر إلى ثمنها يوم يسرقها فإن كان يجب فيه القطع كان ذلك عليه وان استاخر قطعه اما في سجن يحبس فيه حتى ينظر في شانه واما ان يهرب السارق ثم يؤخذ بعد ذلك فليس استئخار قطعه بالذي يضع عنه حدا (3) قد وجب عليه يوم سرق وان رخصت تلك السلعة بعد ذلك ولا بالذي يوجب عليه قطعا لم يكن وجب عليه يوم اخذها ان غلت تلك السلعة بعد ذلك
قال أبو عمر بنى مالك - رحمه الله - هذا الباب على مذهبه فيمن ضمن شيئا انه يطيب له النماء والربح فيه والنقصان
واما اشتراطه في أول هذا الباب الحيوان والعروض والثياب دون العقار فان مذهبه المشهور المعمول به عند أصحابه ان حوالة الأسواق بالنماء والنقصان في الأثمان فوت في البيع الفاسد كله إذا كان في شيء من العروض أو الثياب أو
295
الحيوان وكان المشتري قد قبضه وتغير أو حالت اسواقه فإذا كان ذلك لزمته فيه القيمة ولم يرده
واما العقار فليس حوالة الأسواق فيه فوتا عندهم ولا يفوت العقار في البيع الفاسد الا بخروجه عن يد المشتري أو ببنيان أو هدم أو غرس
ولم يختلفوا في العروض كلها من الحيوان أو الثياب أو غيرها ان خروجها من يد المشتري فوت أيضا وان عليه قيمتها يوم قبضها الا أن تكون فاتت من يده ببيع ثم ردت إليه ورجعت إلى ملكه قبل ان تتغير وتحول أسواقها فان هذا موضع اختلف فيه قول مالك فقال مرة على أي وجه رجعت إليه ولم تتغير سوقها فإنه يردها
وقال مرة لا يردها إذ قد لزمته القيمة يعني بفوتها بالبيع ولو كانت السلعة عبدا أو أمة اشتراها شراء فاسدا ثم اعتقها أو دبر أو كاتب أو تصدق أو وهب كان ذلك كله فوتا إذا كان مليا بالثمن وتلزمه القيمة يوم فوت ذلك الا أن تكون السلعة مما يكال أو يوزن فإنه يرد مثل ما قبض في صفته وكيله ووزنه
هذا كله تحصيل مذهب مالك وأصحابه ولم يتابع مالكا في قوله على أن حوالة الأسواق بالزيادة في الثمن أو النقصان فوت في البيع الفاسد أحد من أئمة الفتوى بالامصار فيما علمت الا أصحابه
واما الشافعي فتصرف المشتري في المبيع بيعا فاسدا باطلا لا ينفذ ولا يصح فيه هبته ولا تدبيره ولا عتقه ولا بيعه ولا شيء من تصرفه وهو مفسوخ ابدا عنده ويرده بحاله وهو على ملك البائع والمصيبة منه وعتق المشتري له باطل فإذا فات عند المشتري بذهاب عينه وفقده واستهلاكه لزمه فيه القيمة في حين فوته وذهاب عينه لا تعتبر سوقه والبيع فاسد عنده حكمه كالمغصوب سواء
وهو قول احمد وإسحاق وأبي ثور وداود
قال أبو حنيفة وأصحابه في الرجل يشتري الجارية شراء فاسدا ويقبضها ثم يبيعها أو يهبها أو يمهرها فتصير عند المشتري لها منه أو عند الموهوب له أو عند المراة الممهورة فعليه ضمان القيمة وفعله كله في ذلك جائز وكذلك لو كاتبها أو وهبها الا ان الجارية الموهوبة لو افتكها قبل ان يضمنه القاضي قيمتها ردها على البائع وكذلك المكاتبة ان عجزت عن أداء الكتابة
قالوا ولو ردها المشتري بعيب بعد القبض بغير قضاء فعليه ضمان القيمة ولا يردها على البائع والله الموفق للصواب
296
((8 - باب جامع القضاء وكراهيته))
1468 - مالك عن يحيى بن سعيد ان أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي ان هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان ان الأرض لا تقدس أحدا (1) وانما يقدس الانسان عمله وقد بلغني انك جعلت طبيبا تداوي فان كنت تبرئ فنعما لك وان كنت متطببا فاحذر ان تقتل انسانا فتدخل النار فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم ادبرا عنه نظر اليهما وقال ارجعا إلي أعيدا علي قصتكما متطبب والله
قال أبو عمر اما كراهة القضاء بين الناس فقد كرهه وفر منه جماعة من فضلاء العلماء وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين) (2)
حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني نصر بن علي قال حدثني بشر بن عمر عن عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي عن المقبري والأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين) (3)
وقال حدثني نصر بن علي قال حدثني فضيل بن سليمان قال حدثني عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) (4)
وقال [حدثناه محمد بن حسان السمتي] حدثني خلف بن خليفة عن أبي هشام عن بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فاما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار
297
قال أبو عمر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله اجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) (1)
رواه عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا طرقه في كتاب العلم وذكرنا هناك ما للعلماء في تأويله
وروي من حديث انس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه انزل الله إليه ملكا يسدده (2)
وقد ذكرنا اسناده في صدر هذا الكتاب
ومعلوم ان الاثم إذا كان معظما في معنى كان الاجر معظما في ضده
قال الله عز وجل * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) * [الجن 15] أي الجائرون
والجور الميل عن الحق إلى الباطل وعن الايمان إلى الكفر
قال الله عز وجل * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * [ص 26]
ومن جار عن الحق واسرف في الظلم فقد نسي يوم الحساب
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القاضي العادل الحاكم بالقسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره أنه قال (المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) قيل ومن القاسطون يا رسول الله قال (الذين يعدلون في أهليهم وفيما ولوا) (3)
وقال صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله امام عادل) (4) وذكر سائر السبعة
298
وسيأتي هذا الحديث في موضعه من كتاب الجامع إن شاء الله
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الإمام العادل لا ترد دعوته) (1)
أخبرنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا بن وضاح قال حدثنا محمد بن قدامة قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن إسماعيل بن أبي خالد عن مصعب بن سعد قال قال علي - رضي الله عنه - حق على الامام ان يحكم بما انزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس ان يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا
قال ومن ولي القضاء فليعدل في المجلس والكلام واللحظ
وذكر أبو زيد - عمر بن شبة - قال حدثنا هارون بن عمر قال حدثنا ضمرة قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الكناني قال قال علي - رضي الله عنه - لا ينبغي للقاضي ان يكون قاضيا حتى تجتمع فيه خمس خصال عفيف حليم عالم بما كان قبله مستشر لذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم
وروى الشعبي عن مسروق قال لان اقضي يوما واحدا بحق [وعدل] أحب إلي من أن اغزو سنة في سبيل الله
وقال مالك قال عمر بن عبد العزيز لا ينبغي لاحد ان [يقضي الا ان] يكون عالما بما مضى من السنة مستشيرا لذوي العلم
والآثار في هذا الباب عن السلف كثيرة في معنى ما أوردناه وفيما ذكرنا تنبيه على ما إليه قصدنا ومن طلب العلم لله فالقليل يكفيه إذا عمل به
وكان أبو الدرداء من الفقهاء العلماء الحكماء روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه (حكيم أمتي)
وقال فيه معاذ بن جبل كان أبو الدرداء من الذين أوتوا العلم
وقال أبو ذر ما حملت غبراء ولا أظلت زرقاء اعلم منك يا أبا الدرداء
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخى بينه وبين سلمان الفارسي فكانا متواخين متحابين اجتمعا أو تفرقا
299
وكان سلمان عالما فاضلا زاهدا في الدنيا
ومات أبو الدرداء بدمشق قاضيا عليها لعثمان بعد عمر قبل موت عثمان بسنتين أو نحوهما
ومات سلمان بالمدائن من ارض العراق
وحدثنا أبو القاسم - خلف بن قاسم - قراءة مني عليه قال حدثني أبو الميمون - عبد الرحمن بن عمر بن راشد بدمشق قال حدثني أبو زرعة - عبد الرحمن بن عمرو بن صفوان الدمشقي قال حدثني أبو مسهر - عبد الأعلى بن مسهر قال حدثني سعيد بن عبد العزيز قال عمر امر أبو الدرداء بالقضاء يعني بدمشق وكان القاضي يكون خليفة الأمير إذا غاب
وقد ذكرنا اخبار أبي الدرداء وسلمان وفضائلهما في باب كل واحد منهما من كتاب الصحابة والحمد لله
قال مالك (1) من استعان عبدا بغير اذن سيده في شيء له بال ولمثله إجارة فهو ضامن لما أصاب العبد ان أصيب العبد بشيء وان سلم العبد فطلب سيده اجارته لما عمل فذلك لسيده وهو الامر عندنا
قال أبو عمر الامر المجتمع عليه عندنا في ذلك ان الأموال تضمن بالعمد والخطا والعبد مال لم يأذن له صاحبه للذي استعانه فكان بذلك متعديا على مال غيره جانيا عليه بغير اذن سيده فيلزمه الضمان ان عطب أو تلف فيما استعمله فيه وان سلم كان له اجره في الذي عمله لان العبد ليس له ان يهب خراجه ولا شيئا من كسبه لأنه لسيده
وهذا كله اتفق فيه مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال من استعان مملوكا بغير اذن [سيده] [أو صبيا بغير اذن أهله] ضمن
[ومعمر عن حماد مثله
وبن جريج عن عطاء مثله]
وروى الحكم والشعبي كلاهما عن علي - رضي الله عنه - قال من استعان عبدا صغيرا أو كبيرا أو صبيا حرا فهلك ضمن ومن استعان حرا كبيرا لم يضمن
300
وعن الحسن مثله في الصبي الحر وفي العبد قال فان اذن له أهل الصبي أو سيد العبد فلا ضمان عليه
قال مالك في العبد يكون بعضه حرا وبعضه مسترقا انه يوقف ماله بيده وليس له ان يحدث فيه شيئا ولكنه يأكل فيه ويكتسي بالمعروف فإذا هلك فماله للذي بقي له فيه الرق
قال أبو عمر يكون العبد نصفه حرا ونصفه مملوكا من وجوه منها ان يكون بين شريكين وارثين أو مبتاعين أو بوجه يصح ملكهما له أحدهما معسرا والاخر موسرا فيعتق المعسر حصته منه فإذا كان كذلك كان على وجه الحجازيين ما اعتق منه المعسر حرا وسائره عبدا
ويكون عند أبي حنيفة عبدا اعتق سيده نصفه أو يكون عبدا أوصى بعتق نصفه عند من لا يرى أن يتم عليه العتق في ثلثه ووجوه غير هذه
واما قوله انه يوقف ماله بيده فإنه يريد نصف ما كان بيده من المال قبل وقوع عتقه وما يكسبه في الأيام التي يعمل فيها لنفسه
قال مالك يصطلح هو ومالك نصفه على الأيام
وقال غيره يخدم لنفسه ويكسب لها يوما ويكون لسيده خدمته يوما مما كسب في يوم الحرية فله وعليه في ذلك اليوم مؤنته كلها وفي يوم خدمته لسيده مؤنته على سيده
فهذه حاله عند جمهور العلماء
فإذا مات فقد اختلفوا في ميراثه فقال بعض أهل العلم كما قال مالك ميراثه لمن فيه الرق لأنه في شهادته وحدوده وطلاقه عندهم كالعبد
هذا قول مالك والزهري واحد قولي الشافعي
وقال آخرون ميراثه بين سيد نصفه وبين من كان يرثه لو كان حرا كله نصفين
روي هذا عن عطاء وعمرو بن دينار [وطاوس واياس بن معاوية]
وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل غلبوا الحرية هنا لانقطاع الرق بالموت
وقالت طائفة منهم الشافعي يورث المعتق نصفه ويرث
وقد روي عنه انه لا يرث ولا يورث
301
وهو قول مالك والكوفيين
وقال بعض التابعين ان مات المعتق بعضه ورثه كله الذي اعتق بعضه
وروي عن الشعبي في حرة رواية شاذة انه يحد خمسة وسبعين سوطا
قال مالك الامر عندنا ان الوالد يحاسب ولده بما انفق عليه من يوم يكون للولد مال ناضا كان أو عرضا ان أراد الوالد ذلك
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء ان الولد الغني ذا المال لا يجب له على أبيه نفقة ولا كسوة ولا مؤنة وان ذلك في ماله
واختلفوا عليه وهو موسر هل له ان يرجع عليه بما انفق في ماله ويحاسبه بذلك
فقال مالك ذلك له
وقال الشافعي إذا انفق عليه وهو قادر على الوصول إليه فهو متطوع متبرع ولا يحاسبه بشيء من ذلك
وقياس قول أبي حنيفة ان انفق عليه بأمر القاضي ليتصرف في ماله كان لك له والا فهو متطوع متبرع
وإذا فرض له القاضي في مال الصبي نفقة لم يضره ان ينفق ويتصرف بما انفق عليه
هذا عندي قياس قوله وبالله التوفيق
1469 - مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني عن أبيه ان رجلا من جهينة كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل (1) فيغلي (2) بها ثم يسرع السير فيسبق الحاج فافلس فرفع امره إلى عمر بن الخطاب فقال اما بعد أيها الناس فان الاسيفع اسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بان يقال سبق الحاج الا وانه قد دان معرضا فأصبح قدرين به فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم وإياكم والدين فان أوله هم واخره حرب
302
[قال أبو عمر ويروى قد دان وقد ادان ويروى بلا قد
وأكثر الرواة يروونه قد دان معرضا كما رواه يحيى بن القاسم وبن بكير وغيرهم]
قال أبو عمر اما قوله في هذا الخبر فافلس فإنه أراد صار مفلسا وطلب الغرماء ماله فحال بينه وبين ماله ثم دعا غرماءه ليقسموها عليهم
وهذا شأن من أحاط دين غرمائه بماله وقاموا عليه عند الحاكم يطلبونه واثبتوا ديونهم عليه بما لا مدفع فيه
واختلف الفقهاء في وجوه من هذا المعنى
فقال مالك إذا حبسه الحاكم في الدين لم يجز بعد ذلك اقراره لان حبسه له تفليس
وانما قيل من شاء من غرمائه ما لم يكن من الحاكم فيه ما وصفنا التفليس فإنه جائز اقراره وان كان عليه دين
قال وإذا قام غرماؤه عليه على وجه التفليس فهو حجر أيضا
وقال الثوري والحسن بن حي إذا حبسه القاضي في الدين لم يكن محجورا عليه حتى يفلسه فيقول لا أجير له امرا
وقال الأوزاعي إذا كان عليه دين لم يجز عليه صدقته
وهو قول الليث
قال أبو عمر قولهما هذا قد قال بنحوه بعض أصحاب مالك ورووه عن مالك فيمن أحاط الدين بماله انه لا يجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق وان لم يقف السلطان ماله ولم يضرب على يده ولم يمنعه التصرف في ماله من اجل قيام غرمائه عليه
واما قول سائر الفقهاء ففعل من عليه دين جائز في هبته وصدقته وقضاء من شاء من غرمائه ما لم يكن من الحاكم فيه ما وصفنا
واتفق مالك وأصحابه كلهم حاشا بن القاسم ان السفيه الذي لم يحجر عليه أب [ولا وصي] ولا قاض ان افعاله كلها نافذة حتى يضرب الحاكم على يديه
وذكر المزني عن الشافعي قال إذا رفع الذي يستحق التفليس إلى القاضي اشهد القاضي انه قد أوقف ماله فإذا فعل لم يجز بيعه ولا هبته وما فعل من ذلك ففيه قولان
303
أحدهما انه موقوف فان فعل جاز
والأخرى انه باطل
وقال بن أبي ليلى إذا افلسه الحاكم لم يجز بيعه ولا هبته ولا صدقته ويبيع القاضي ماله ويقضيه الغرماء
وقال محمد في (نوادر بن سماعة) قال أهل المدينة إذا كان عليه دين لم يجز اقراره [لاحد ان يقضي ما عليه] ولا عتقه ولا شيء يتلف به ماله حتى يقضي ما عليه
قال محمد وقال القاسم بن معن إذا أقر بدين فحبس له فحبسه حجر عليه ولا يجوز اقراره حتى يقضي الدين الأول
وقال شريك مثل قوله
وقال محمد بن الحسن يجوز اقراره وبيعه وجميع ما صنع في ماله حتى يحجر القاضي عليه ويبطل اقراره بعد حبسه بالدين
وكان أبو حنيفة لا يرى الحجر بالدين ومذهبه ان الحر لا يحجر عليه لدين ولا لسفه وخالفه في ذلك أصحابه
وقال في البيع في الدين لا يباع على المدين شيء من ماله ويحبس حتى يبيع هو الا الدنانير والدراهم فإنها تباع عليه بعضها ببعض
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك والليث وسائر الفقهاء يباع عليه كل شيء من ماله ويقضي غرماؤه فان قام ماله بديونهم والا قسم بينهم على الحصص بقدر دين كل واحد منهم
واما قوله في حديث عمر (الاسيفع) فهو تصغير اسفع والاسفع الأسمر الشديد السمرة وقيل الأسفع الذي تعلو وجهه حمزة تنحو إلى السواد
وقوله (ادان معرضا) أي استدان متهاونا بذلك فأصبح قدرين به أي أحيط به يريد أحاط به غرماؤه وأحاط الدين به
وذلك من معنى قول الله تعالى * (كلا بل ران على قلوبهم) * [المطففين 14] الآية أي غلب الدين على قلوبهم فاسود جميعها فلم تعرف معروفا ولا أنكرت منكرا
واما قوله في الدين اخره حرب والحرب بتحريك الراء السلب ومنه قول العرب رجل حريب أي سليب مسلوب
قال الشاعر وهو القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي
304
(قوم إذا نزل الحريب بدارهم
* ردوه رد صواهل ونياق))
1 (9 - باب ما جاء فيما افسد العبيد أو جرحوا))
1470 - قال مالك السنة عندنا في جناية العبيد ان كل ما أصاب العبد من جرح جرح به انسانا أو شيء اختلسه (1) أو حريسة (2) احترسها (3) أو ثمر معلق جذه (4) أو أفسده أو سرقة سرقها لا قطع عليه فيها ان ذلك في رقبة العبد لا يعدو ذلك الرقبة قل ذلك أو كثر فان شاء سيده ان يعطي قيمة ما اخذ غلامه أو افسد أو عقل ما جرح أعطاه وامسك غلامه وان شاء ان يسلمه أسلمه وليس عليه شيء غير ذلك فسيده في ذلك بالخيار
قال أبو عمر اختلاف الفقهاء في هذا الباب متقارب المعنى كلهم يرى جناية العبد في رقبته ويخير سيده في فدائه بجنايته أو اسلامه في ذمته
روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه وقال به جماعة علماء التابعين وأئمة الفتوى بامصار المسلمين
وحسبك بقول مالك السنة عندنا يعني ما وصفنا
ولم يختلف مالك وأصحابه فيما يستهلكه العبد مما لم يؤمن عليه انه في رقبته وهو قول جمهور الفقهاء
وذكر بن حبيب عن اصبغ ان ما استهلكه العبد مما اؤتمن عليه ان عليه ان يكون في ذمته
وقال بن الماجشون هو في رقبته
وروى سحنون عن بن القاسم في العبد يستأجره الرجل ليبلغ بعيرا له إلى موضع فيذبحه ويزعم أنه خاف عليه الموت فقال قال مالك ومن يعلم ذلك أراه في رقبة العبد
305
وكذلك قال بن القاسم واشهب في العبد يتوسل على لسان سيده وينكر سيده ذلك ان ذلك في رقبته
قال أبو عمر ان قتل العبد عبدا أو حرا فاستحياه ولي الدم كان سيده بالخيار بين ان يفتكه بجميع دية الحر أو قيمة العبد أو يسلمه إلى ولي الدم ويسترقه ويضرب مائة ويسجن عاما
هذا كله قول مالك وأصحابه وجمهور أهل العلم
وقال الشافعي سيد العبد المقتول بالخيار في العبد الذي قتل عبده اما ان يقتل واما أن تكون قيمة العبد المقتول في عنق القاتل فان عفا عن القصاص بيع العبد القاتل فإن كان فيه فضل رد على سيد العبد القاتل وان كان فيه نقصان فليس عليه غير ذلك
واما أبو حنيفة وأصحابه فذكر الطحاوي عنهم قال وإذا قتل العبد رجلا خطا قيل لمولاه ادفعه إلى ولي الجناية أو افده منه بالدية فان اختار فداءه بالدية كان مأخوذا بها حالة لولي المقتول وان ثبت بعد ذلك اعساره بها فان أبا حنيفة كان يقول قد زالت الجناية عن عتق العبد باختيار مولاه إياه وصارت دينا على مولاه في رقبة العبد الجاني
وقال أبو يوسف إذا لم يكن للمولى من المال مما هو واصل إليه في وقت اختياره إياه مقدار الدية كان اختيار إياه باطلا وكان حق الجناية حق ولي الجناية في رقبة العبد إذا كان قبل الاختيار فقال له ادفع العبد إلى ولي الجناية أو افده منه بالدية
وقال محمد بن الحسن الاختيار جائز معسرا كان المولى أو موسرا وتكون الدية في عنق العبد دينا لولي الجناية يتبعه فيها مولاه لولي الجناية
قالوا ولو جنى العبد على رجل فقتله خطا أو استهلك الاخر مالا وحضرا جميعا يطلبان الواجب لهما فإنه يدفع إلى ولي الجناية ثم يتبعه الاخر فيما استهلك من غير ماله ولو حضر صاحب المال أولا ولم يحضر صاحب الجناية باعه له القاضي في ماله الذي استهلكه له فان حضر بعد ذلك ولي الجناية لم يكن له شيء
هذا اخر كتاب الأقضية عند جماعة رواة (الموطأ) الا يحيى بن يحيى
((10 - باب ما يجوز من النحل))
قال أبو عمر ليس هذا الباب عند غير يحيى في (الموطأ) ولا له في هذا
306
الموضع حديث عند جميع رواة (الموطأ) في باب ما يجوز من العطية واخر كتاب الأقضية عندهم باب ما أفسده العبيد أو جرحوا ووقع ليحيى كما ترى وأظنه سقط له من موضعه فالحق في اخر الكتاب كما صنع في باب الصلاة قبل طلوع الشمس وغروبها سقط له من أبواب المواقيت في أول كتاب الصلاة فالحقه في اخر كتاب الصلاة
1471 - مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب ان عثمان بن عفان قال من نحل ولدا له صغيرا لم يبلغ ان يجوز نحله فاعلن ذلك له واشهد عليها فهي جائزة وان وليها أبوه
قال أبو عمر روى بن عيينة هذا الخبر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال شكي إلى عثمان بن عفان قول عمر لا نحلة الا نحلة يحوزها الولد دون الوالد فرأى عثمان ان الوالد يجوز لولده ما كانوا صغارا
يقول إذا وهب له الأب واشهد له عليه انها حيازة
وبن عيينة عن أيوب السختياني عن بن سيرين قال سالت شريحا ما يبين للصبي من نحل أبيه قال إن يهب له ويشهد له عليه قلت إنه يليه قال هو أحق من وليه
قال أبو عمر على قضاء عثمان في هبة الأب لابنه الصغير جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق الا ان أصحابنا يخالفون سائر الفقهاء في المسكون والملبوس والموقوف فلا يرون اشهاد الأب في ذلك حيازة حتى يخرج منها مدة أقلها سنة من المسكون ليظهر فعله ذلك وإذا ركب ما يركب أو لبس ما يلبس فقد رجع في هبته
وقد مضى ما للعلماء في رجوع الأب وغيره في الهبة والحمد لله كثيرا
قال مالك (1) الامر عندنا ان من نحل ابنا له صغيرا ذهبا أو ورقا ثم هلك وهو يليه انه لا شيء للابن من ذلك الا ان يكون الأب عزلها بعينها أو دفعها إلى رجل وضعها لابنه عند ذلك الرجل فان فعل ذلك فهو جائز للابن
إلى هنا انتهت رواية يحيى
307
وفي رواية أبي مصعب وغيره قال مالك وان كانت النحلة عبدا أو وليدة أو شيئا معلوما معروفا ثم اشهد عليه واعلن ثم مات الأب وهو يلي ابنه فان ذلك جائز لابنه
قال أبو عمر لا اعلم خلافا بين الفقهاء - أهل الفتوى بالامصار وسائر من تقدمهم من العلماء ان الأب يجوز لابنه الصغير ما كان في حجره صغيرا [أو كبيرا] بالغا كل ما يهب له ويعطيه ويتصدق به عليه من العروض كلها والعقار وكل ما عدا العين كما يجوز له ما يعطيه غيره وانه يجزئه في ذلك الاشهاد والاعلان وإذا اشهد فقد اعلن إذا فشا الاشهاد وظهر
وقال مالك وأصحابه ان ما يسكن الأب لا تصح فيه عطية لابنه الصغير الذي في حجره حتى يخرج عن ذلك سنة ونحوها ثم لا يضره رجوعه إليها وسكناه لها ما لم يمت الأب فيها أو يبلغ الصغير رشده فلا يقبضها فان مات الأب ساكنا فيها أو بلغ الابن رشدا فلم يقبضها حتى يموت الأب لم تنفعه حيازته له تلك السنة وجعلوا الهبة للصغير جوازها متعلق بما يكون من العافية فيها فان سلمت في العافية من الرهن فهي صحيحة وان لحقها رهن جميع ما تقدم قبل ذلك
وكذلك الملبوس عندهم إذا لبس الأب شيئا من الثياب التي وهبها للصغير من ولده بطلت فيه هبته وما عدا الملبوس والمسكون فيكفي فيه الاشهاد على ما وصفنا
واما سائر الفقهاء فان الأب إذا اشهد واعلن الشهادة بما يعطيه لابنه في صحته فقد نفذ ذلك للابن ما كان صغيرا
[وحيازة الأب له من نفسه كحيازته له ما يعطيه غيره لابنه الناظر له ولا يرهن عطيته] له في صحته إذا كان صغيرا ولا سكناه ولا لباسه كما لا يضره عند مالك إذا سكن بعد السنة ولا يعد ذلك منه رجوعا فيما اعطى كما لا يكون ذلك [رجوعا بعد السنة وما قاله العلماء من ذلك فهو ظاهر فعل عثمان بمحضر الصحابة] من غير نكير وبالله التوفيق
واما الذهب والورق فقال مالك في موطئه ما قد ذكرناه في صدر هذا الباب
وظاهره انه إذا عزلها بعينها في ظرف وختم عليها بخاتمه [أو خاتم الشهود الذين اشهدهم] انها جائزة للابن كما لو جعلها له عند رجل
وهو قول بن الماجشون [واشهب
308
وبه كان أبو عمر - أحمد بن عبد الله بن هاشم - شيخنا - رحمه الله يفتي
وذكر العتبي لابن القاسم عن مالك انها لا تجوز الا ان يخرجها الأب عن يده إلى يد غيره - يحوزها للابن وانه لا ينفعه خاتمه عليها
وبهذا كان يقضي القاضي أبو بكر محمد بن يبقى بن زرب
وهذه المسالة كانت أحد الأسباب التي أوجبت التباعد بينه وبين أبي عمر رحمهما الله
واختلفوا في هبة المشاع من الغنم وغيرها يهبها الأب لابنه الصغير في حجره
فروي عن مالك انه جائز
وبه قال بن الماجشون
وقال بن القاسم لا يحوز الأب لابنه الصغير الا ما يهبه مبروزا مقسوما
قال واليه رجع مالك وبه قال مطرف واصبغ
قال أبو عمر ظاهر حديث عثمان يشهد لما قاله مالك وبن الماجشون وهو الأصل المجتمع عليه عند جمهور العلماء ولا مخالف له من الصحابة
واختلفوا فيمن يجوز للصغير غير أبيه ومن يقوم له في الحيازة مقام أبيه فيما يعطيه
فروى يحيى عن بن القاسم عن مالك ان الام لا تحوز ما يعطى ابنها الا أن تكون عليه وصية قال ولا يحوز للطفل الا من يجوز له انكاحه والمباراة عليه والبيع والشراء له
قال يحيى وسمعت بن وهب يقول تحوز الام لولدها ما تهب لهم وكذلك الجدة والأجداد وان لم يكونوا أولياء عليه
وقال بن القاسم لا تحوز الام ما يوهب لولدها
وقال اشهب تحوز لهم الوصية بهبة يمضي معهم إلى الكتاب ولا يحوز لهم غير ذلك والوصي عندهم يحوز ما يوهب لليتيم في حجره
واما الشافعي فالجد عنده يقوم مقام الأب فيما يهبه للأطفال من ولد ولده يحوز ذلك عليهم إلى أن يبلغوا مبلغ القبض لأنفسهم
واما الكوفيون فذكر الطحاوي وغيره عن أبي حنيفة وأصحابه ان الام كالأب فيما تهب لابنها اليتيم في حجرها عبدا أو متاعا معلوما إذا أشهدت على ذلك
309
جاز ولم ترجع في شيء منه وكذلك تقبض له من كل من وهب له شيئا يصح قبضه وكذلك الوصي وكذلك من قبض لليتيم من الأجنبيين ما اعطى اليتيم
وذكر الطحاوي أيضا عنهم قال وللأب ان يقبض ما يهب لابنه الصغير مما يتصدق به عليهم وكذلك من فوقه من الاباء إذا كان هو الذي امره وقبضه من ذلك لنفسه اشهاده على ما كان منه واعلانه به وبالله التوفيق وصلى الله على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى أهله الطيبين وسلم تسليما
310
((38 كتاب العتق والولاء))
((1 - باب من اعتق شركا له في مملوك))
1472 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فاعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد والا فقد عتق منه ما عتق)
قال أبو عمر قد ذكرنا في (التمهيد) اختلاف ألفاظ رواة (الموطأ) في هذا الحديث واختلاف ألفاظ أصحاب نافع عليه وأصحاب سالم عليه
وقد جود مالك - رحمه الله - [حديثه هذا عن نافع واتقنه وبان فيه فضل حفظه وفهمه وتابعه على كثير من معانية عبيد الله بن عمر] ومن أحسن رواه سياقه يحيى بن يحيى الليثي صاحبنا وبن القاسم وبن وهب فإنهم ذكروا فيه عن مالك (فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه) ومن لم يقل في هذا الحديث من رواة مالك (فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه) فقد كثر ولم يقم الحديث لأنه لا خلاف بين العلماء انه لا يقوم نصيب الشريك الذي لم يعتق على الذي اعتق الا ان يكون له من المال ما يبلغ ثمن حصة شريكه الذي لم يعتق
وكذلك جود مالك هذا الحديث واتقنه في قوله فيه (وان لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق) وتابعه على هذا اللفظ عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اعتق شركا له في مملوك فقد عتق فان
311
كان له مال يبلغ ثمنه قوم عليه قيمة عدل واعتق كله وان لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق) وهذا كرواية مالك سواء
ورواه أيوب عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمنه فهو عتيق)
قال أيوب قال نافع والا فقد عتق منه ما عتق
قال أيوب لا أدري أهذا في الحديث أم هو من قول نافع قوله (فقد عتق منه ما عتق)
ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اعتق نصيبا له في عبد كلف عتق ما بقي منه ان كان له مال فإن لم يكن له مال فقد جاز ما صنع)
وقد ذكرنا الأسانيد عن عبيد الله وعن أيوب وعن يحيى بما وصفنا من طرق في (التمهيد)
وهذا اللفظ اعني قوله (وان لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق) يعني الاستسعاء ويوجب العتق على المعسر وانما ملك شريكه على ما كان عليه دون ايجاب استسعاء على العبد
وهذا الموضع اختلفت فيه الآثار واختلف في الحكم به علماء الأمصار
فاما اختلاف الآثار في ذلك فان أبا هريرة روى في ذلك خلاف ما روى بن عمر من حديث قتادة عن النضر بن انس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيما عبد كان بين رجلين فاعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسرا قوم عليه والا سعى العبد غير مشقوق عليه) (1)
هكذا رواه سعيد بن أبي عروبة [عن قتادة لم يختلف على سعيد في شيء منه وممن رواه عن سعيد بن أبي عروبة] عن قتادة عن النضر عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
كذلك روح بن عبادة ويزيد بن زريع وعبدة بن سليمان وعلي بن مسهر ومحمد بن بكر ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن أبي عدي
312
وقد تابع سعيد بن أبي عروبة على ذلك ابان العطار وجرير بن حازم وموسى بن خلف رووه عن قتادة باسناد مثله وذكروا فيه السعاية
واما هشام الدستوائي وشعبة بن الحجاج وهمام بن يحيى فرووه عن قتادة باسناده المذكور لم يذكروا فيه السعاية وهم أثبت من الذين ذكروا فيه السعاية
وأصحاب قتادة الذين هم الحجة على [غيرهم عند أهل العلم ثلاثة شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة فإذا اتفق منهم اثنان فهما حجة على] الواحد عندهم وقد اتفق شعبة وهشام الدستوائي على ترك ذكر السعاية [في هذا الحديث فضعف بذلك ذكر السعاية والله أعلم
وقد ذكرنا حديث أبي هريرة من طرق هؤلاء كلهم في (التمهيد) وزدنا القول بيانا في ذلك من جهة الاسناد والنقل هنالك
واما اختلاف الفقهاء في هذا الباب فان مالكا وأصحابه يقولون إذا اعتق الملئ الموسر نصيبا له في عبد بينه وبين غيره فلشريكه ان يعتق بتلا وله ان يقوم إذا أعتق نصيبه كما اعتق شريكه قبل التقويم كان الولاء بينهما كما كان الملك بينهما ما لم يقوم ويحكم بعتقه فهو كالعبد في جميع احكامه
وان كان المعتق لنصيبه من العبد عديما لا مال له لم يعتق من العبد غير حصته وبقي نصيب الاخر رقا له يخدمه العبد يوما ويكتسب لنفسه يوما وهو في حدوده وجميع أحواله كالعبد
وان كان المعتق موسرا ببعض نصيب شريكه قوم عليه بقدر ما يوجد معه من المال ورق بقية النصيب لديه ويقضى بذلك عليه كما يقضى في سائر الديون اللازمة والجنايات الواجبة ويباع عليه شوار بيته وماله بال من كسوته
والتقويم ان يقوم نصيبه يوم العتق قيمة عدل ثم يعتق عليه
وكذلك قال داود وأصحابه فإنه لا يعتق عليه حتى يؤدي القيمة إلى شريكه
وهو قول الشافعي في (القديم) وقال في (الجديد) إذا كان المعتق لحصته من العبد موسرا في حين العتق عتق جميعه حينئذ وكان حرا من يومئذ يرث ويورث وله ولاؤه ولا سبيل للشريك على العبد وانما له قيمة نصيبه على شريكه كما لو قتله وسواء أعطاه القيمة أو منعه إذا كان موسرا يوم العتق وان كان معسرا فالشريك على ملكه يقاسمه كسبه أو يخدمه يوما ويخلي لنفسه يوما ولا سعاية عليه
313
وقد قال الشافعي ان مات العبد وله وارث ورث بقدر ولايته وان مات له موروث لم يرث منه شيئا
وله قول اخر فيمن كان بعضه حرا ذكره المزني عنه في (القديم) واختار قوله في (الجديد) وقال هو الصحيح على أصله لأنه قال لو اعتق الثاني كان عتقه باطلا
وقد قطع بان هذا أصح في أربعة مواضع من كتبه وقاله في اختلاف الحديث واختلاف بن أبي ليلى وأبي حنيفة
وقال في كتاب الوصايا بالقول الأول
واصل ما بنى عليه مذهبه في ذلك حديث بن عمر ولم يقل بحديث أبي هريرة وضعف قول من ذكر فيه السعاية
وقال مالك ان مات المعتق المعسر قبل ان يحكم عليه بعتق الباقي لم يحكم على ورثته بعتق النصف الباقي
وقال الشافعي يحكم بعتقه إذا مات ولو اتى ذلك على جميع تركته الا ان يقع العتق منه في المرض فيقوم في الثلث
وقال سفيان إذا كان للمعتق حصته من العبد مال ضمن نصيب شريكه ولم يرجع به على العبد ولا سعاية على العبد وكان الولاء له وان لم يكن له مال فلا ضمان عليه وسواء نقص من نصيب الاخر أو لم ينقص ويسعى العبد في نصف قيمته حينئذ
وكذلك قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن
وفي قولهم يكون العبد كله حرا ساعة اعتق الشريك نصيبه فإن كان موسرا ضمن لشريكه نصف قيمة عبده وان كان معسرا سعى العبد في ذلك للذي لم يعتق ولا يرجع على أحد بشيء والولاء كله للمعتق وهو بمنزلة الحر في جميع احكامه ما دام في سعايته من يوم اعتق يرث ويورث
وهو قول الأوزاعي وعن بن شبرمة وبن أبي ليلى مثله الا انهما جعلا للعبد ان يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر
ورووا عن بن عباس انه جعل المعتق بعضه حرا في جميع أمواله
وقال أبو حنيفة إذا كان العبد بين اثنين فاعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فان الشريك بالخيار ان شاء اعتقه كما اعتق صاحبه وكان الولاء بينهما وان شاء
314
استسعى العبد في نصف قيمته ويكون الولاء بينهما وان شاء ضمن شريكه نصف قيمته ويرجع الشريك بما ضمن من ذلك على العبد يستسعى فيه ان شاء ويكون الولاء كله للشريك وان كان المعتق معسرا فالشريك بالخيار ان شاء ضمن العبد نصف قيمته يسعى فيها والولاء بينهما وان شاء اعتقه كما اعتق صاحبه والولاء بينهما
[وقال أبو حنيفة العبد المستسعى ما دام في سعايته بمنزلة المكاب في جميع احكامه
وقال زفر يعتق العبد كله على المعتق حصته منه ويتبع بقيمة حصة شريكه موسرا كان أو معسرا
قال أبو عمر لم يقل زفر بحديث بن عمر ولا بحديث أبي هريرة في هذا الباب
وكذلك أبو حنيفة لم يقل بواحد من الحديثين على وجهه وكل قول خالف السنة مردود]
وقال أحمد بن حنبل بحديث بن عمر في هذا الباب وقوله فيه نحو قول الشافعي قال إن كان للمعتق [من الشريكين] مال ضمن وان لم يكن له مال عتق منه ما عتق وكان الاخر على نصيبه ولا يستسعي العبد
قال أبو عمر هذا يدل على أن حديث بن عمر عند احمد أصح من حديث أبي هريرة وانه لم يصح عنده ذكر السعاية واحمد امام أهل الحديث في المعرفة بصحيحه من سقيمه
[قال احمد ولا يباع على الشريك المعسر دار ولا رباع
ولم يحد في العسر واليسار حدا
وقال إسحاق ان كان للشريك المعتق مال فكما] قال احمد يضمن وان لم يكن له الا دار وخادم فإنه لا يجعل ذلك مالا قال وان كان معسرا فإنه يستسعي العبد لصاحبه
واتفق احمد وإسحاق وسفيان بان العتق إذا وقع والمعتق موسر ثم أفلس لم يتحول عليه الغرم كما لو وقع وهو مفلس ثم أيسر لم يلزمه شيء
وقد قيل في هذه المسالة أقوال غير ما ذكرنا شاذة وليس عليها أحد من فقهاء الأمصار منها قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال فمن اعتق حصته من عبد ان
315
العتق باطل موسرا كان المعتق أو معسرا وهذا خلاف الحديث وما أشك انه لم يبلغه ولا علمه
وقد ذكر محمد بن سيرين عن بعضهم انه جعل قيمة حصة الشريك في بيت المال وهذا أيضا خلاف السنة
وعن الشعبي وإبراهيم انهما قالا الولاء للمعتق ضمن أو لم يضمن
[وقال عثمان البتي لا شيء على المعتق الا أن تكون جارية رائعة تراد للوطئ فيضمن ما ادخل على صاحبه من الضرر]
وقد تقدم قول زفر وقول أبي حنيفة أيضا فهذا حكم من اعتق حصة له من عبد بينه وبين غيره
واما من اعتق حصته من عبده الذي لا شركة فيه لاحد معه فان جمهور العلماء بالحجاز والعراق يقولون يعتق عليه كله ولا سعاية عليه
وقال أبو حنيفة وربيعة
وهو قول طاوس وحماد يعتق منه ذلك النصيب ويسعى لمولاه في بقية قيمته موسرا كان أو معسرا
وبه قال أهل الظاهر
وخالفه أصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر فاعتقوا العبد كله دون سعاية
وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وبن أبي ليلى وبن شبرمة والحسن بن صالح والليث بن سعد واحمد وإسحاق كلهم قال يعتق عليه كله إذا كان العتق منه في الصحة
قال أبو عمر الحجة قائمة على ربيعة وأبي حنيفة بمعنى السنة لان الحديث لما ورد بان يعتق عليه نصيب شريكه كان احرى بان يعتق عليه ما هو في ملكه لأنه موسر به مالك له وفي مثل هذا جاء الأثر ليس إليه بشريك
حدثني عبد الله قال حدثني محمد قال حدثني داود السختياني قال حدثني أبو الوليد الطيالسي ومحمد بن كثير قالا أخبرنا همام عن قتادة عن أبي المليح - زاد أبو الوليد عن أبيه - ان رجلا اعتق شقصا له في غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (ليس إليه بشريك
316
زاد بن كثير وأجاز عتقه
وحجة أبي حنيفة وربيعة ما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده انه اعتق نصف عبده فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقه
وهذا يحتمل ان يكون في وصيته بعد موته
قال إسماعيل وانما يعتق العبد كله إذا اعتق الشريك نصفه
وقد جاء عن الحسن مثل قول ربيعة وأبي حنيفة
وهو قول عبيد الله بن الحسن والشعبي كلهم يقول يعتق الرجل من عبده ما شاء
وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - وليس بالثابت عنه والله أعلم
وقد روي عن الشعبي لو اعتق من عبده عضوا أو إصبعا عتق عليه كله
وكذلك قال قتادة
وهو الصحيح في هذه المسالة إن شاء الله تعالى
ذكر عبد الرزاق (1) عن الثوري عن خالد بن سلمة الفافا قال جاء رجل إلى بن عمر فقال له كان لي عبد فأعتقت ثلثه فقال بن عمر عتق كله ليس لله بشريك
قال أبو عمر من ملك شقصا ممن يعتق عليه بأي وجه ملكه سوى الميراث فإنه يعتق عليه جميعه وان كان موسرا عند كل من ذكرنا عنه عتق نصيب الشريك إذا اعتق هو حصته على ما قدمنا منهم ذكره فان ملكه بميراث فقد اختلفوا في عتق نصيب شريكه عليه وفي السعاية على حسب ما قدمنا من أصولهم
وفي تضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعتق لنصيبه من عبد بينه وبين غيره قيمة باقي العبد دون ان يلزمه الاتيان بنصف عبد مثله دليل على أن من استهلك شيئا من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن أو افسد شيئا من ذلك فليس عليه الا قيمة ما استهلك دون المثل فيه
وهذا موضع اختلف فيه العلماء قديما
فذهب مالك وأصحابه إلى أن من افسد شيئا من العروض التي لا تكال ولا توزن أو شيئا من الحيوان فإنما عليه القيمة لا المثل بدليل هذا الحديث قال القيمة اعدل في ذلك
317
وهو قول الكوفيين
وذهب الشافعي وأصحابه وداود إلى أن القيمة لا يقضى بها في شيء من ذلك الا عند عدم المثل
وحجتهم في ذلك ظاهر قول الله تعالى * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * [النحل 126] [ولم يقل بقيمة ما عوقبتم به]
وهذا عندهم على عمومه في الأشياء كلها
واحتجوا أيضا بحديث حميد عن انس (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت احدى أمهات المؤمنين جارية بقصعة فيها طعام قال فضربت بيدها فكسرت القصعة وسقط الطعام فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل يجمع فيها الطعام ويقول (غارت أمكم كلوا) فاكلوا وحبس الرسول والقصعة حتى جاءت قصعة التي هو في بيتها ودفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته (1)
ومثل ذلك حديث فليت بن خليفة العامري ويقال له قليت عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت ما رايت صانعا طعاما مثل صفية بنت حيي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فاخذني افكل وكسرت الاناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت فقال (اناء مثل اناء وطعام مثل طعام) (2)
قال مالك (3) والامر المجتمع عليه عندنا في العبد يعتق سيده منه شقصا ثلثه أو ربعه أو نصفه أو سهما من الأسهم بعد موته انه لا يعتق منه الا ما اعتق سيده وسمى من ذلك الشقص وذلك أن عتاقة ذلك الشقص انما وجبت وكانت بعد وفاة الميت وان سيده كان مخيرا في ذلك ما عاش فلما وقع العتق للعبد على سيده الموصي لم يكن للموصي الا ما اخذ من ماله ولم يعتق ما بقي من العبد لان ماله قد صار لغيره فكيف يعتق ما بقي من العبد على قوم آخرين ليسوا هم ابتدؤوا العتاقة ولا اثبتوها ولا لهم الولاء ولا يثبت لهم وانما صنع ذلك الميت هو
318
الذي اعتق وأثبت له الولاء فلا يحمل ذلك في مال غيره الا ان يوصي بان يعتق ما بقي منه في ماله فان ذلك لازم لشركائه وورثته وليس لشركائه ان يابوا ذلك عليه وهو في ثلث مال الميت لأنه ليس على ورثته في ذلك ضرر
قال مالك ولو اعتق رجل ثلث عبده وهو مريض فبت عتقه عتق عليه كله في ثلثه وذلك أنه ليس بمنزلة الرجل يعتق ثلث عبده بعد موته لان الذي يعتق ثلث عبده بعد موته لو عاش رجع فيه ولم ينفذ عتقه وان العبد الذي يبت سيده عتق ثلثه في مرضه يعتق عليه كله ان عاش وان مات اعتق عليه في ثلثه وذلك أن امر الميت جائز في ثلثه كما أن امر الصحيح جائز في ماله كله
قال أبو عمر قد اتقن مالك ما ذكره في الموصي حصته في عبد بينه وبين غيره وفي الذي بتل عتق حصته في مرضه وعلى ما ذكره في الوصية جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتوى
وخالفه الكوفيون في العتق البتل في المرض على ما نذكره في الباب الثاني بعد هذا إن شاء الله عز وجل
وقول الشافعي واحمد وإسحاق في الوجهين جميعا مثل قول مالك
قال [مالك] رحمه الله إذا اعتق شريكا له في مرضه الذي مات فيه عتق بتات ثم مات كان في ثلثه كالصحيح في كل ماله
قال ولو أوصى بعتق النصيب من عبد بعينه لم يعتق منه الا ما أوصى به
واختلف أصحاب مالك في الذي يوصي بعتق شقص له من اعبد ويوصي ان يقوم عليه نصيب صاحبه
وقال بن سحنون لم يختلف أصحابنا في الموصي بعتق شقص له من عبد انه لا يقوم عليه نصيب شريكه فان أوصى ان يقوم عليه فقد اختلفوا فيه
وكان سحنون وغيره يقول يستهم عليه لأنه في ثلثه كالصحيح في جميع ماله
قال وروى بن وهب عن مالك انه لا يقوم عليه الا ان يشاء الشريك تقديمه لان العتق له مباح
وفي (العتبية) روى اشهب عن مالك ان ذلك للمعتق يقوم عليه وليس للشريك ان يأبى ذلك
واختلفوا أيضا في الذي يعتق حصته من عبد بينه وبين غيره ويموت من وقته
319
وفي (المدونة) قال بن القاسم إذا مات المعتق أو أفلس لم يقوم في ماله ولم يذكر فرقا بين تطاول وقت موته أو قرب ذلك قال وكذلك قال مالك
وذكر بن حبيب ان مطرفا روى عن مالك انه ان مات بحدثان ذلك فإنه يقوم عليه وان كان قد تباعد فلا يقوم عليه
وذكر بن سحنون ذلك فقال إذا مات بحدثان ذلك قوم عليه لان للشريك حقا لا يتطلب المعرفة
وفي العتبية روى اشهب عن مالك انه يقوم على الميت في راس ماله لا في ثلثه والله أعلم
((2 - باب الشرط في العتق))
1473 - قال مالك من اعتق عبدا له فبت عتقه حتى تجوز شهادته وتتم حرمته ويثبت ميراثه فليس لسيده ان يشترط عليه مثل ما يشترط على عبده من مال أو خدمة ولا يحمل عليه شيئا من الرق لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اعتق شركا له) في عبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد)
قال مالك فهو إذا كان له العبد خالصا أحق باستكمال عتاقته ولا يخلطها بشيء من الرق
قال أبو عمر اما قوله في أول الباب انه ليس لمن اعتق عبده وبت عتقه ان يشترط عليه شيئا مما يشترطه السيد على عبده - يعني من مال أو خدمة فإنه يقضي على قوله فيمن قال لعبده أنت حر وعليك الذي عنده وأنت حر على أن تؤدي إلي كذا وكذا
وقد تقدمت هذه المسألة وما فيها لابن القاسم من الخلاف وتقدم القول فيها فلا وجه لإعادته
واما قوله فهو إذا كان العبد له خالصا - أحق باستكمال عتاقته فقد تقدم القول في الباب قبل هذا ان ربيعة وأبا حنيفة وعبيد الله بن الحسن العنبري - قاضي البصرة - كانوا يقولون في الرجل يعتق بعض عبده الا انه لا يعتق منه الا ما عتق وان العبد يسعى لسيده في قيمته ما لم يعتق منه وان ذلك قد روي عن علي رضي الله عنه
320
وبه قال الحسن والشعبي
وذكرنا الحديث الذي نزع به من قال ذلك وان أهل الظاهر قالوا به أيضا ومنهم من لم ير على العبد سعاية
وذكرنا ان مالكا والشافعي وأبا يوسف ومحمدا والثوري ومن سميناه معهم قالوا يعتق عليه كله
وما احتج به مالك صحيح فإنه إذا كان له العبد كله كان أحق باستكمال العتق عليه من الذي اعتق حصة له منه بينه وبين غيره
وقد ذكرنا ذلك كله في (التمهيد) والحمد لله كثيرا
((3 - باب من اعتق رقيقا لا يملك مالا غيرهم))
1474 - مالك عن يحيى بن سعيد وعن غير واحد عن الحسن بن أبي الحسن البصري وعن محمد بن سيرين ان رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتق عبيدا له ستة عند موته فأسهم (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث تلك العبيد
قال مالك وبلغني انه لم يكن لذلك الرجل مال غيرهم
1475 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ان رجلا في امارة أبان بن عثمان اعتق رقيقا له كلهم جميعا ولم يكن له مال غيرهم فأمر أبان بن عثمان بتلك الرقيق فقسمت أثلاثا ثم اسهم على أيهم يخرج سهم الميت فيعتقون فوقع السهم على أحد الاثلاث فعتق الثلث الذي وقع عليه السهم
قال أبو عمر ذكر مالك في هذا الباب سنة وعملا بالمدينة فالسنة في ذلك رواها عمران بن حصين وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وحديث عمران اشهر وأكثر طرقا وهي سنة انفرد بها أهل البصرة واحتاج فيها إليهم أهل المدينة وغيرهم
رواها عن عمران بن حصين الحسن وبن سيرين وأبو المهلب الجرمي ورواها عن الحسن عن عمران بن حصين جماعة منهم قتادة وحميد الطويل
321
وسماك بن حرب ويونس بن عبيد ومبارك بن فضالة وخالد الحذاء
ورواها عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين أيوب السختياني وهشام بن حسان ويحيى بن عتيق ويزيد بن إبراهيم التستري وغيرهم
وروى هذا الحديث يزيد التستري عن الحسن وبن سيرين جميعا عن عمران بن حصين
[ورواه أيوب وغيرة عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين]
واما حديث أبي هريرة فرواه محمد بن زياد عن أبي هريرة
وروى إسماعيل بن أمية وقيس بن سعد وسليمان بن موسى كلهم سمعوا مكحولا يقول سمعت سعيد بن المسيب يقول أعتقت امرأة وفي رواية قيس بن سعد أعتقت امرأته
أو رجل ستة اعبد لها عند الموت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها مال غيرهم فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وارق أربعة (1)
وقد ذكرنا طرق هذا الحديث بالأسانيد في (التمهيد) ونذكر هنا منها طرفا
أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثني أحمد بن الفضل قال حدثني محمد بن جرير قال حدثني أبو كريب قال حدثني وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن وبن سيرين عن عمران بن حصين (ان رجلا اعتق ستة اعبد له في مرضه فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وارق أربعة) (2)
ليس في هذا الحديث ولا في حديث مالك ليس له مال غيرهم وقد ذكر ذلك غير واحد من الثقات في هذا الحديث
حدثني محمد بن خليفة قال حدثني محمد بن الحسن البغدادي قال حدثني عبد الله بن صالح البخاري قال حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي قال حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين وعن قتادة وحميد وسماك عن الحسن عن عمران بن حصين (ان رجلا اعتق ستة مملوكين له عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وترك أربعة في الرق
322
وحدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني حماد بن بكر وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال أبو داود قال حدثني مسدد قال حدثني حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق وأيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين (ان رجلا اعتق ستة اعبد له عند موته ولم يكن له مال غيرهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأقرع بينهم فأعتق اثنين وارق أربعة)
قال أبو عمر اختلف العلماء في الرجل يعتق في مرضه عند موته عبيدا له ولا مال له غيرهم
فقال مالك والشافعي وأصحابهما بهذا الأثر الصحيح وذهبوا إليه
وبه قال احمد وإسحاق وداود والطبري وجماعة من أهل الرأي والحديث
ذكر بن عبد الحكم عن مالك قال من اعتق عبيدا له عند موته ليس له مال غيرهم قسموا أثلاثا ثم يسهم بينهم فيعتق ثلثهم بالسهم ويرق ما بقي وان كان بينهم فضل رد السهم عليهم فأعتق الفضل وسواء ترك مالا غيرهم أو لم يترك
قال ومن اعتق رقيقا له عند الموت وعليه دين يحيط بنصفهم فان استطاع ان يعتق من كل واحد نصفه فعل ذلك بهم
قال ومن قال ثلث رقيقي حر اسهم بينهم وان اعتق كلهم اسهم بينهم إذا لم يكن له مال غيرهم
وان قال ثلث كل راس حر ونصفه لم يسهم بينهم
وقال بن القاسم كل من أوصى بعتق عبيده أو بتل عتقهم في مرضه ولم يدع غيرهم فإنه يعتق بالسهم ثلثهم
وكذلك لو ترك مالا والثلث لا يسعهم لاعتق مبلغ الثلث منهم بالسهم
وكذلك لو اعتق منهم جزءا سماه [أو عددا سماه]
وكذلك لو قال راس منهم حر فالسهم يعتق منهم من يعتق ان كانوا خمسة فخمسهم وان كانوا ستة فسدسهم خرج لذلك أقل من واحد أو أكثر
وقال لو قال عشرهم وهم ستون عتق سدسهم اخرج السهم أكثر من عشرة أو أقل
وهذا كله مذهب مالك
323
ولم يختلف مالك وأصحابه في الذي يوصي بعتق عبيده في مرضه ولا مال له غيرهم انه يقرع بينهم فيعتق ثلثهم بالسهم
وكذلك لم يختلف الأكثر منهم ان هذا حكم الذي اعتق عبيده في مرضه عتقا بتلا ولا مال له غيرهم
وقال اشهب واصبغ انما القرعة في الوصية واما البتل فهم كالمدبرين
قال أبو عمر حكم المدبرين عندهم إذا دبرهم سيدهم في كلمة واحدة انه لا يبدي بعضهم على بعض ولا يقرع بينهم [ويقضي الثلث على جميعهم بالقيمة] فيعتق من كل واحد منهم حصته من الثلث وان لم يدع مالا غيرهم عتق ثلث كل واحد وان دبر في مرضه واحدا بعد واحد بدىء بالأول فالأول كما دبرهم في الصحة أو في مرضه ثم صح
قال أبو عمر قول اشهب واصبغ خلاف السنة المذكورة في صدر هذا الباب وخلاف أهل الحجاز وأهل العراق ولم يرد السنة الا فيمن اعتق في مرضه ستة اعبد له عتقا بتلا ولا مال له غيرهم لا فيمن أوصى بعتقهم فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بحكم الوصايا فأرق ثلثيهم واعتق ثلثهم فكيف يجوز لاحد ان يقول بالحديث في الوصية دون العتق البتل فيخالفهم نصه ويقول بمعناه
وذكر بن حبيب عن بن القاسم وبن كنانة وبن الماجشون ومطرف قالوا إذا عتق الرجل في مرضه عبيدا له عتقا بتلا أو أوصى لهم بالعتاقة كلهم أو بعضهم سماهم أو لم يسمهم الا ان الثلث لا يحملهم ان السهم يجزئ فيهم كان له مال سواهم أو لم يكن
قال بن حبيب وقال بن نافع ان كان له مال سواهم لم يسهم بينهم واعتق من كل واحد ما ينوبه وان لم يكن له مال سواهم أو كان له مال تافه فإنه يقرع بينهم
وقال الشافعي وإذا اعتق الرجل في مرضه عبيدا له عتق بتات انتظر بهم فان صح عتقوا من راس ماله وان مات ولا مال له غيرهم اقرع بينهم واعتق ثلثهم
قال الشافعي والحجة في أن العتق البتات في المرض وصية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرع بين ستة مملوكين اعتقهم الرجل في مرضه وانزل عتقهم وصية فأعتق ثلثهم
قال الشافعي ولو اعتق في مرضه عبدا له عتق بتات وله مدبرون وعبيد
324
أوصى بعتقهم بعد موته بدىء بالذين بت عتقهم في مرضه لأنهم يعتقون عليه ان صح وليس له الرجوع فيهم بحال
وقال الشافعي والقرعة ان تكتب رقاع ثم يكتب أسماء العبيد ثم يبندق بنادق من طين ثم يجعل في كل بندقة رقعة ويجري الرقيق أثلاثا ثم يؤمر رجل منهم لم يحضر الرقاع فيخرج رقعة على كل جزء وان لم يستووا في القيمة عدلوا وضم قليل الثمن إلى كثير الثمن وجعلوه ثلاثة اجزاء قلوا أو كثروا الا ان يكونوا عبدين فان وقع العتق على جزء فيه عدة رقيق أقل من الثلث أعيدت الرقعة بين السهمين الباقيين فأيهم وقع عليه اعتق منه باقي الثلث
قال أحمد بن حنبل في هذا كله كقول الشافعي سواء
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني سليمان بن موسى قال سمعت مكحولا يقول أعتقت امرأة من الأنصار عبيدا لها ستة لم يكن لها مال غيرهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال في ذلك قولا شديدا ثم دعا بستة قداح فأقرع بينهم فأعتق اثنين
قال سليمان بن موسى كنت أراجع مكحولا فأقول ان كان عبد ثمن ألف دينار اصابته القرعة ذهب المال فقال قف عند امر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بن جريج قلت لسليمان الامر يستقيم على ما قال مكحول قال كيف قلت يقيمون قيمة فان زاد اللذان أعتقا على الثلث اخذ منهما الثلث وان نقصا عتق ما بقي أيضا بالقرعة فان فضل عليه اخذ منهم
قال ثم بلغنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامهم
قال أبو عمر قد روي في حديث بن سيرين عن عمران بن حصين ان النبي صلى الله عليه وسلم جزاهم ثلاثة اجزاء وهذا يدل على أنه أقامهم وعدلهم بالقيمة ولا يمكن غير ذلك في اخراج الثلث
قال حدثني محمد بن خليفة قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني عبد الله بن أبي داود قال حدثني علي بن نصر قال حدثني يزيد بن زريع قال حدثني هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين ان رجلا كان له ستة اعبد ولم يكن له مال غيرهم فأعتقهم عند موته فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجزاهم ثلاثة اجزاء فأعتق اثنين وارق أربعة
وهذا كله قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومن ذكرنا معهم
325
وقال أبو حنيفة فيمن اعتق عبيدا له في مرضه ولا مال له غيرهم عتق من كل واحد منهم ثلثه وسعوا في الباقي
وهو قول الحسن بن حي
وقال أبو حنيفة حكم كل واحد منهم ما دام يسعى حكم المكاتب
وقال أبو يوسف ومحمد هم أحرار وثلثا قيمتهم دين عليهم يسعون في ذلك حتى يؤدوه إلى الورثة
قال أبو عمر رد الكوفيون السنة المأثورة في هذا الباب اما بأن لم يبلغهم أو بأن لم تصح عنهم ومن أصل أبي حنيفة وأصحابه عرض اخبار الآحاد على الأصول المجتمع عليها أو المشهورة المنتشرة
والحجة قائمة على من ذهب مذهبهم بالحديث الصحيح الجامع في هذا الباب وليس الجهل بالسنة ولا الجهل بصحتها علة يصح لعاقل الاحتجاج بها وقد أنكرها قبلهم شيخهم حماد بن أبي سليمان
وروى مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن محمد بن ذكوان انه سمع حماد بن أبي سليمان وذكر الحديث الذي جاء في القرعة بين الاعبد الستة الذين اعتقهم سيدهم في مرضه الذي مات فيه
قال هذا قول الشيخ يعني إبليس فقال محمد بن ذكوان له وضع القلم عن المجنون حتى يفيق فقال له حماد ما دعاك إلى هذا فقال له محمد بن ذكوان وأنت ما دعاك إلى هذا قال وكان حماد ربما صرع في بعض الأوقات
قال أبو عمر بنى الكوفيون مذهبهم على أن العبيد المعتقين في كلمة واحدة في مرض الموت قد استحق كل واحد منهم العتق لو كان لسيدهم مال يخرجون من ثلثه فإن لم يكن له مال لم يكن واحد منهم أحق بالعتق من غيره وكذلك عتق من كل واحد ثلثه وسعى في ثلثي قيمته للورثة لقولهم بالسعاية في حديث أبي هريرة في معسر اعتق حصته من عبد بينه وبين اخر على ما قدمنا ذكره في ما مضى من هذا الكتاب
وهذا عندنا لا يجوز ان ترد سنة بمعنى ما في أخرى إذا أمكن استعمال كل واحد منهما بوجه ما وبالله التوفيق والصواب لا شريك له
وفي حديث هذا الباب من الفقه أيضا دليل على أن الوصية جائزة لغير الوالدين والأقربين لان عتقهم في العبيد لمرضهم وصية لهم ومعلوم انهم لم يكونوا بوالدين
326
لمالكهم المعتق لهم ولا بأقربين له وقد قال بأن الوصية لا تجوز الا للاقربين غير الوارثين ولا تجوز لغيرهم ولا عند عدمهم طائفة من التابعين
وسيأتي ذكر ذلك - إن شاء الله تعالى في كتاب الوصايا (1)
وفيه دليل على أن افعال المريض كلها من عتق وهبة وعطية كالوصية لا يجوز فيها أكثر من الثلث
وقد خالف في ذلك قوم زعموا ان افعال المريض في راس ماله كأفعال الصحيح ولم يجعلوا ذلك كالوصايا ويأتي ذكر ذلك كله في الوصايا - إن شاء الله تعالى
وفيه أيضا ابطال السعاية مع دليل حديث بن عمر في ذلك والله الموفق
((4 - باب القضاء في مال العبد إذا عتق))
1476 - مالك عن بن شهاب انه سمعه يقول مضت السنة ان العبد إذا عتق تبعه ماله
قال أبو عمر قالوا إنه لم يكن أحد اعلم بسنة ماضية من بن شهاب الزهري
وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في هذه المسألة
فقال أكثر أهل المدينة إذا اعتق العبد فماله له دون السيد
وهو قول مالك وأصحابه والليث بن سعد والأوزاعي
وبه قال الشافعي بالعراق في (القديم) الذي يرويه الزعفراني عنه
وحجة من ذهب هذا المذهب حديث عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن الأشج عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من اعتق عبدا له فماله له الا ان يشترطه السيد) (2)
رواه الليث بن سعد وغيره عن عبيد الله بن عمر هكذا باسناده هذا ولم يروه أحد من أصحاب نافع كذلك وانما الذي عند أصحاب مالك نافع وعبيد الله وأيوب وغيرهم عن نافع عن بن عمر عن عمر بن الخطاب أنه قال من باع عبدا وله مال فماله للبائع الا ان يشترطه المبتاع
327
هكذا يرويه نافع عن بن عمر عن عمر (1)
ويرويه سالم بن عبد الله [عن أبيه] عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية بن شهاب وغيره عن سالم (2)
وقد روي عن بن عمر في العبد يعتق أنه يتبعه ماله وكان يأذن لعبيده في التسري
وقد روي عن عائشة قالت (العبد إذا اعتق تبعه ماله)
وبه قال الحسن البصري وطاوس ومجاهد وعطاء والزهري والشعبي والنخعي
واما خبر عبيد الله بن أبي جعفر فحدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني أحمد بن صالح قال حدثني بن وهب قال حدثنا بن لهيعة والليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اعتق مملوكا وله مال فمال العبد للسيد الا ان يشترطه السيد)
وكل من قال انما مال العبد تبع له إذا عتق يقول (الا ان يشترطه السيد)
وقال آخرون (إذا عتق العبد فماله لسيده مولاه)
وممن قال ذلك الثوري وبن شبرمة وأبو حنيفة [وأصحابه] والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن
وهو قول الشافعي بمصر في الكتاب الجديد وهو تحصيل مذهبه وروي ذلك عن مسعود وأنس بن مالك
وبه قال بن طاوس والحكم بن عيينة
واليه ذهب احمد وإسحاق
وقد كان احمد يجبر عن القول به لحديث عبيد الله بن أبي جعفر المذكور
وقد روي خبر بن مسعود عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح انه لم يرفعه الا عبد الأعلى بن أبي المساور وهو ضعيف جدا
328
قال أبو عمر سيأتي القول في ملك العبد في كتاب البيوع - إن شاء الله - عند قوله صلى الله عليه وسلم (من باع عبدا وله مال فماله للبائع)
قال مالك (1) ومما يبين ذلك ان العبد إذا عتق تبعه ماله ان المكاتب إذا كوتب تبعه ماله وان لم يشترطه وذلك أن عقد الكتابة هو عقد الولاء إذا تم ذلك وليس مال العبد والمكاتب بمنزلة ما كان لهما من ولد انما أولادهما بمنزلة رقابهما ليسوا بمنزلة أموالهما لان السنة التي لا اختلاف فيها ان العبد إذا عتق تبعه ماله ولم يتبعه ولده وان المكاتب إذا كوتب تبعه ماله ولم يتبعه ولده
قال مالك ومما يبين ذلك أيضا ان العبد والمكاتب إذا افلسا اخذت أموالهما وأمهات أولادهما ولم تؤخذ أولادهما لأنهم ليسوا بأموال لهما
قال مالك ومما يبين ذلك أيضا ان العبد إذا بيع واشترط الذي ابتاعه ماله لم يدخل ولده في ماله
قال مالك ومما يبين ذلك أيضا ان العبد إذا جرح اخذ هو وماله ولم يؤخذ ولده
قال أبو عمر الخلاف في [مال] المكاتب عند عقد كتابته كالخلاف في العبد عند عتقه
وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهما يقولون مال المكاتب لسيده الا ما اكتسبه في كتابته وولده من سريته وقد مضى ذلك كله في كتاب المكاتب من هذا الكتاب
وقولهم في ماله انه لا يؤخذ في جنايته الا برضا سيده وعلى سيده ان يسلم رقبته بالجناية أو يفتكه بأرشها وبالله التوفيق
((5 - باب عتق أمهات الأولاد وجامع القضاء في العتاقة))
1477 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ان عمر بن الخطاب قال أيما وليدة (2) ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يستمتع بها فإذا مات فهي حرة
329
قال أبو عمر اختلف السلف والخلف من العلماء في عتق أم الولد وفي جواز بيعها
فالثابت عن عمر - رضي الله عنه - انها لا تباع عنده ابدا وانها حرة من راس مال سيدها
وروي مثل ذلك عن عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز
وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد وسالم بن عبد الله بن عمر وإبراهيم وبن شهاب
والى هذا ذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي في أكثر كتبه وقد أجاز بيعها في بعض كتبه
قال المزني قد قطع في أربعة عشر موضعا في كتبه بأن لا تباع وهو الصحيح من مذهبه وعليه جمهور أصحابه وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن حي واحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور كلهم لا يجوز عندهم بيع أم الولد
وكان أبو بكر الصديق وعلي وبن عباس وبن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهم [يجيزون بيع أم الولد]
وبه قال داود بن علي
وقال جابر وأبو سعيد كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرنا بن جريج قال أخبرنا أبو الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يقول كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا لا يرى بذلك بأسا (2)
قال وأخبرنا بن جريح قال وأخبرنا عبد الرحمن بن الوليد ان أبا إسحاق الهمداني اخبره ان أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يقول ببيع أمهات الأولاد في امارته وعمر في نصف امارته
وقال بن مسعود تعتق في نصيب ولدها [وذي بطنها]
وقد روي ذلك عن بن عباس وبن الزبير
330
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مارية سريته لما ولدت ابنه إبراهيم (اعتقها ولدها) (1) مع وجه ليس بالقوي ولا يثبته أهل الحديث
وكذلك حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أيما امرأة ولدت من سيدها فهي حرة إذا مات) (2)
ولا يصح أيضا من جهة الاسناد لأنه انفرد به حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن بن عباس عن النبي وحسين هذا ضعيف متروك الحديث
والصحيح عن عكرمة انه سئل عن أم الولد فقال هي حرة إذا مات سيدها فقيل له عمن هذا قال عن القران قال كيف فقال قال الله عز وجل (يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) [النساء 59] وكان عمر من اولي الامر قال يعتقها ولدها ولو كان سقطا
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد قال أخبرني نافع ان رجلين من أهل العراق سألا بن عمر بالابواء وقالا انا كنا تركنا بن الزبير يبيع أمهات الأولاد بمكة فقال عبد الله لكن ابا حفصة عمر - أ تعرفانه - قال أيما رجل ولدت منه جاريته فهي حرة بعد موته
قال وحدثني أبو خالد الأحمر عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبيدة السلماني عن علي - رضي الله عنه - قال استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد فرأيت انا وهو انها إذا ولدت عتقت فقضى به عمر حياته وعثمان بعده فلما وليته رايت ان ارقهن
قال الشعبي وحدثني بن سيرين عن عبيدة أنه قال له فما ترى أنت فقال رأي علي وعمر في الجماعة أحب إلي من قول علي حين ادركه الاختلاف
وروى معمر وغيره عن أيوب عن بن سيرين عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا يقول اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ان لا يبعن
قال ثم رايت بعد ان يبعن
قال عبيدة فقلت له رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة أو قال في الفتنة فضحك علي - رضي الله عنه
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال أخبرنا قاسم بن اصبغ قال حدثنا
331
أحمد بن زهير قال أخبرنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا عبيد الله بن محمد بن عمرو عن خصيف عن عكرمة عن بن عباس عن عمر قال إذا أسقطت فإنها بمعنى الحرة
قال أبو عمر يعني في البيع لان الاجماع قد انعقد انها لا تعتق قبل موت سيدها وانها في شهادتها وديتها وأرش جنايتها كالأمة وقد بان مذهب عمر بما ذكرنا في رواية مالك عن نافع عن بن عمر عنه في أول هذا الباب
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سئل بن شهاب عن أم الولد تزني ايبيعها سيدها قال لا يصلح له ان يبيعها سيدها ولكن يقام عليها حد الأمة
وروى الثوري عن أبي حصين عن مجاهد قال لا يرقها حدث
ومعمر عن أيوب عن اياس بن معاوية انه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في أم الولد تزني قال فأراني اياس جواب عمر ان أقم عليها الحد لا تزدها عليه ولا تسترق
قال أبو عمر ذكرت هذا لأنه قد روى معمر عن أيوب عن بن سيرين عن أبي العجماء عن عمر انها إذا زنت رقت وجمهور العلماء القائلين بأن لا تباع أم الولد على خلاف هذا الحديث يرون عليها إقامة الحد حد الأمة ولا تسترق
قال أبو عمر احتج الذين أجازوا بيع أم الولد من أهل الظاهر بأن قالوا قد اجمعوا على أنها تباع قبل ان يحمل ثم اختلفوا إذا وضعت
[فالواجب بحق النظر الا يزول حكم ما اجمعوا عليه مع جواز بيعها وهي حامل الا باجماع مثله إذا وضعت ولا اجماع ها هنا] فعورضوا بأن الأمة مجمعة على أنه لا يجوز بيعها وهي حامل من سيدها فمن ذلك لا يجوز بيعها وهي معارضة صحيحة على أصول أهل الظاهر دون سائر العلماء القائلين بزوال [ما اعتل بزوال] علته والقائسين على المعاني لا على الأسماء وبالله التوفيق
1478 - مالك انه بلغه ان عمر بن الخطاب اتته وليدة قد ضربها سيدها بنار أو أصابها بها فأعتقها
قال أبو عمر روي هذا المعنى عن عمر من وجوه
332
منها ما ذكره عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن يونس عن الحسن ان رجلا كوى غلاما له بالنار فأعتقه عمر
قال وأخبرنا الثوري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن رجل منهم عن عمر ان رجلا أقعد جارية له على النار فأعتقها عمر
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابه قال وقع سفيان بن الأسود بن عبد الله على أمة له فأقعدها على مقلاة فاحترق عجزها فأعتقها عمر بن الخطاب وأوجعه ضربا
قال أبو عمر اختلف العلماء فيمن مثل بمملوكه عامدا فقال بعضهم يعتق عليه وممن قال بذلك مالك والأوزاعي والليث بن سعد
قال مالك يعتق عليه وولاوه له
وقال الليث يعتق عليه وولاؤه للمسلمين
وروي عن بن عمر انه اعتق أمة على مولاها لما مثل بها
وقال الأوزاعي ان مثل بمملوك غيره ضمن وعتق عليه
قال أبو عمر لا نعلم قاله غير الأوزاعي والله أعلم
والجمهور على أنه يضمن ما نقص العبد لسيده
وقال [أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما] من مثل بمملوكه لم يعتق عليه ومملوكه ومملوك غيره في ذلك سواء
قال أبو عمر استدل من قال لا يعتق عليه مملوكه ولا غير مملوكه إذا مثل به بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بن عمر (من لطم مملوكه أو ضربه)
وفي بعض الرواة لهذا الحديث يقول فيه (أو ضربه حدا [لم يأته] فكفارته عتقه) (1)
قالوا وقد يكون من الضرب ما يكون مثله فلم يعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما قال (كفارته ذلك) فدل على أنه لم يعتق
قال أبو عمر ليس هذا ببين من الحجة والحجة لمالك ومن قال بقوله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان زنباعا ابا روح بن زنباع وجد غلاما
333
له مع جاريته فقطع ذكره وجدع انفه فأتى العبد النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ما حملك على ما فعلت) قال فعل كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اعتقه فاذهب فأنت حر) (1)
ورواه معمر وبن جريج ومحمد بن عبيد الله وغيرهم عن عمرو بن شعيب
قال مالك (2) الامر المجتمع عليه عندنا انه لا تجوز عتاقة رجل وعليه دين يحيط بماله وانه لا تجوز عتاقه الغلام حتى يحتلم أو يبلغ مبلغ المحتلم وانه لا تجوز عتاقة المولى عليه في ماله وان بلغ الحلم حتى يلي ماله
قال أبو عمر اما قوله في الذين عليهم الدين ان يحيطه بماله انه لا يجوز عتقه فعلى ذلك أكثر أهل المدينة
وبه قال الأوزاعي والليث
وخالفهم فقهاء الحجاز وبن شبرمة وبن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه فقالوا عتق ما عليه الدين وهبته واقراره جائز كل ذلك عليه كان الدين محيط بماله أو لم يكن حتى يفلسه الحاكم ويحبسه ويبطل اقراره ويحجر عليه فإذا فعل القاضي ذلك لم يجز اقراره ولا عتقه ولا هبته
وهو معنى ما ذكره المزني عن الشافعي واحتج بالاجماع على أن له ان يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيء انفقه من مال فيما شاء حتى يضرب الحاكم على يده ويحجر عليه
وقال الثوري والحسن بن حيي إذا حبسه القاضي لم يكن محجورا عليه حتى يفلسه القاضي فيقول (لا أجيز لك امرا)
وقال الطحاوي الحبس لا يوجب الحجر واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
334
للدائنين (خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك) فخالف أصحابه ومال إلى قول الثوري وما كان مثله وسنزيد هذه المسألة بيانا في الأقضية إن شاء الله تعالى
واما قوله لا تجوز عتاقه الغلام حتى يحتلم أو يبلغ ما يبلغ المحتلم [فالاحتلام معلوم
وقوله أو يبلغ مبلغ ما يبلغه المحتلم] فان من الرجال من لا يحتلم ولكنه إذا بلغ سنا لا يبلغها الا المحتلم حكم له بحكم المحتلم
وقد اختلف العلماء في حد البلوغ لمن لا يحتلم
فقال مالك البلوغ والانبات أو الاحتلام أو الحيض في الجارية الا انه لا يقيم الحد بالانبات حتى يحتلم أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم فيكون عليه الحد هذه رواية بن القاسم وتحصيل مذهبه
وقال الشافعي يعتبر في المجهول الأولاد الانبات وفي المعلوم بلوغ خمس عشرة سنة
وهو قول بن وهب وبن الماجشون
وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد في الغلام والجارية جميعا
وحجتهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بقتل من انبت من سبي قريظة واستحيى من لم ينبت (1)
وروى نافع عن اسلم ان عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد (الا يضربوا الجزية الا على من جرت عليه المواسي)
وقال عثمان في غلام سرق انظروه فإن كان خضر مبرزه فاقطعوه
وقال أبو حنيفة إذا بلغت الجارية سبع عشرة سنة فهي بالغ وان لم تحض وفي الغلام تسع عشرة سنة وان لم يحتلم قبل ذلك
وقال الثوري في الغلام ثماني عشرة سنة وفي الجارية إذا ولد مثلها
قال أبو عمر لا اعلم خلافا ان الغلام ما لم يحتلم لا يجوز عتقه إذا كان ذلك في صحته ولم تكن وصية منه وكذلك المحجوز المولى عليه لا يجوز عتقه لشيء من ماله ورقيقه عندهم الا ان مالكا وأكثر أصحابه أجازوا عتق أم ولده والله الموفق
335
((6 - باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة))
1479 - مالك عن هلال بن اسامة عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم أنه قال اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ان لي جارية كانت ترعى غنما لي فجئتها وقد فقدت شاه من الغنم فسألتها عنها فقالت اكلها الذئب فأسفت عليها وكنت من بني ادم فلطمت وجهها وعلى رقبة افأعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (اين الله) فقالت في السماء فقال (من انا) فقالت أنت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعتقها)
قال أبو عمر اما الحديث الأول لمالك في هذا الباب عن هلال بن اسامة عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم فهكذا رواه جماعة رواة (الموطأ) عن مالك كلهم قال فيه (عن عمر بن الحكم) وهو غلط ووهم منه وليس في الصحابة رجل يقال له عمر بن الحكم وانما هو معاوية بن الحكم السلمي
وكذلك قال فيه كل من روى هذا الحديث عن هلال هذا وهو هلال بن علي بن أبي ميمونة وأبو ميمونة اسمه اسامة فربما قال هلال بن اسامة وربما قال هلال بن أبي ميمونة ينسبونه كله إلى ذلك وربما قالوا هلال بن علي بن أبي ميمونة وهو مولى عامر بن لؤي
واما معاوية بن الحكم فمعروف في الصحابة والحديث له محفوظ وقد يمكن ان يكون الغلط في اسمه جاء من قبل هلال شيخ مالك لا من مالك
والدليل على ذلك رواية مالك في هذا الحديث عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن معاوية بن الحكم في غير (الموطأ) ولم يقل عمر بن الحكم وقال فيه معاوية بن الحكم الا ان مالكا لم يذكر في روايته لهذا الحديث عن بن شهاب [عن أبي سلمة] عن معاوية بن الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم الا قصة اتيان الكهان والطيرة لا غير وكذلك رواه [أصحاب بن شهاب]
ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم قال قلت يا رسول الله انا كنا حديثي عهد
336
بجاهلية فجاء الله بالاسلام وان رجالا منا يتطيرون وذكر الخبر في الطيرة وفي اتيان الكهان وفي الخط وفي كلامهم في الصلاة (1)
وقوله (بأبي هو وأمي ما ضربني ولا كهرني)
قال ثم اطلعت غنيمة لي ترعاها جارية لي وساق الحديث إلى قوله (انها مؤمنة فأعتقها)
وقد ذكرنا حديث الأوزاعي وغيره بالأسانيد الصحاح في (التمهيد)
واما قوله في هذا الحديث للجارية اين الله فعلى ذلك جماعة أهل السنة وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه * (الرحمن على العرش استوى) * [طه 5] وان الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان وهو ظاهر القران في قوله عز وجل " ءامنتم من في السماء ان يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور " [الملك 16] وبقوله عز وجل * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * [فاطر 10] وقوله * (تعرج الملائكة والروح إليه) * [المعارج 4]
ومثل هذا كثير في القران وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب الصلاة عند ذكر حديث التنزيل بما لا معنى لتكراره ها هنا وزدنا ذلك بيانا في هذا الباب [في (التمهيد) أيضا
وليس في هذا الحديث] معنى يشكل غير ما وصفنا
ولم يزل المسلمون إذا دهمهم امر يقلقهم فزعوا إلى ربهم فرفعوا أيديهم واوجههم نحو السماء يدعونه ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه والله المستعان ومن قال بما
نطق به القران فلا عيب عليه عند ذوي الألباب
روينا ان أبا الدرداء ابطأ عن الغزو عاما فأعطى رجلا صرة فيها دراهم وقال
337
انطلق فإذا رايت رجلا يسير مع القوم في ناحية عنهم في هيئة بذاذة فادفعها إليه
قال ففعل فرفع الذي أعطي الصرة رأسه إلى السماء وقال اللهم انك لم تنس جريرا فاجعل جريرا لا ينساك
قال فرجع الرجل إلى أبي الدرداء [واخبره] فقال أبو الدرداء عرف الحق لأهله وأولى النعمة أهلها
واما حديث مالك في هذا الباب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فجود لفظه يحيى ومن تابعه
1480 - مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ان رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت تراها مؤمنة اعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتشهدين ان لا إله إلا الله) قالت نعم قال (أتشهدين ان محمدا رسول الله) قالت نعم قال (اتوقنين بالبعث بعد الموت) قالت نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعتقها)
ورواه بن القاسم وبن بكير باسناده مثله الا انهما لم يذكرا (فان كنت تراها مؤمنة) قالا (يا رسول الله علي رقبة مؤمنة افاعتق هذه)
وكذلك رواه بن وهب عن يونس
ومالك عن بن شهاب عن عبيد الله ان رجلا من الأنصار اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة وساق الحديث
وكذلك رواه معمر عن بن شهاب
ورواه القعنبي باسناده مثله وحذف منه (ان علي رقبة مؤمنة) وقال إن رجلا من الأنصار اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله اعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتشهدين) وذكر الحديث
وفائدة الحديث قوله ان علي رقبة مؤمنة ولم يقله القعنبي الا ان في الحديث ما يدل على المراد بقوله أتشهدين بكذا
ولم يختلف رواة (الموطأ) في ارسال هذا الحديث
338
ورواه الحسين بن الوليد عن مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ حديث (الموطأ) سواء وجعله متصلا عن أبي هريرة مسندا
ورواه الحسن هذا أيضا عن المسعودي عن عون بن عبد الله بن عتبة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله الا انه زاد فيه عن المسعودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعتقها فإنها مؤمنة)
وليس في (الموطأ) من قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإنها مؤمنة) ولكن فيه ما يدل على ذلك
ورواه معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار انه جاء بأمة له سوداء فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة فان كنت تراها مؤمنة اعتقها وساق الحديث مثل رواية يحيى إلى اخرها
وفي حديث مالك عن بن شهاب في هذا الباب من الفقه ان من شرط الشهادة التي لا يتم الايمان الا بها الاقرار بالبعث بعد الموت بعد شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله
وقد اجمع المسلمون على أن من انكر البعث بعد الموت فليس بمؤمن ولا مسلم ولا ينفعه ما شهد به
وفي ذلك مع ما في القران من تأكيد الاقرار بالبعث بعد الموت ما يغني ويكفي
ولا خلاف علمته فيمن جعل على نفسه رقبة مؤمنة نذرا لله ان يعتقها انه لا يجزئ عنه الا مؤمنة
وكذلك لا يجزئ عند الجميع في كفارة قتل الخطا الا رقبة مؤمنة بشرط الله ذلك في نص كتابه هنالك
[واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة الايمان
وقد ذكرنا ذلك في موضعه والحمد لله كثيرا]
واختلف العلماء فيمن عليه رقبة مؤمنة هل يجزئ فيها الصغير ان كان أبواه مؤمنين وهل يجزئ فيها من لم يصم ولا يصل
فقالت طائفة لا يجوز فيها الا من صام وقالت ذهب إلى هذا بعض من يقول (الايمان قول وعمل)
وروى عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن
339
بن عباس * (وتحرير رقبة مؤمنة) * [النساء 92] قال من عقل الايمان وصام وصلى
وروى وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال ما كان في القران من رقبة مؤمنة فلا يجزئ الا من صام وصلى وما كان في القران رقبة ليست مؤمنة فالصبي يجزئ
وعبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن إبراهيم مثله الا أنه قال قد صلى ولم يذكر الصيام وما لم يذكر مؤمنة فيجزئ وان لم يصل
وعن الشعبي والحسن وقتادة مثل قول بن عباس وإبراهيم
وهو قول الثوري
وروى الأشجعي عن الثوري أنه قال لا يجزئ في كفارة القتل الصبي ولا يجزئ الا من صام وصلى
وقال عطاء بن أبي رباح كل رقبة ولدت في الاسلام فهي تجزئ
وكذلك قال الزهري قال الأوزاعي سالت الزهري أيجزىء عتق الصبي المرضع في كفارة الدم قال نعم لأنه ولد على الفطرة وهو قول الأوزاعي
وقال أبو حنيفة إذا كان أحد أبويه مؤمنا جاز عتقه في كفارة القتل
وهو قول الشافعي الا ان الشافعي يستحب الا يعتق في الكفارات إلا من يتكلم بالايمان
واختلف قول مالك وأصحابه على هذين القولين الا ان مالكا يراعي اسلام الأب ولا يراعي اسلام الام
قال أبو عمر اجمع علماء المسلمين ان من ولد بين أبوين مسلمين ولم يبلغ حد الاختيار والتمييز فحكمه حكم المسلم المؤمن في الوراثة والصلاة عليه ودفنه بين المسلمين وان ديته - ان قتل - مثل دية أحدهم فدل ذلك أنه يجزئ في الرقاب المؤمنة وبالله التوفيق
1481 - مالك انه بلغه عن المقبري أنه قال سئل أبو هريرة عن الرجل تكون عليه رقبة هل يعتق فيها بن زنا فقال أبو هريرة نعم ذلك يجزئ عنه
1482 - مالك انه بلغه عن فضالة بن عبيد الأنصاري وكان من أصحاب
340
رسول الله صلى الله عليه وسلم انه سئل عن الرجل تكون عليه رقبة هل يجوز له ان يعتق ولد زنا قال نعم ذلك يجزئ عنه
قال أبو عمر على هذا جماعة أئمة الفتوى بالامصار وأكثر التابعين وروي ذلك عن بن عباس أيضا
ورواه الثوري عن ثور عن عمر بن عبد الرحمن القرشي عن بن عباس انه سئل عن ولد زنا وولد رشدة في العتاقة فقال انظروا أكثرهما ثمنا فنظروا فوجدوا ولد الزنى أكثرهما ثمنا فامرهم به
والثوري عن يونس عن الشعبي مثله
وهو قول الحسن وقتادة وما خالفه فضرب من الشذوذ
وانما ذكر مالك - رحمه الله - والله أعلم في موطئه عن أبي هريرة انه أجاز عتق ولد الزنى انكارا منه لما يرويه أهل العراق عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولد الزنى شر الثلاثة)
وقال أبو هريرة لان امنع بسوط في سبيل الله أو احمل نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن اعتق ولد زنية
وقد قال القعقاع بن أبي حدرد أنت تقول هذا فقال أبو هريرة اني لم أقل هذا فيمن يحصن أمته وانما قلت هذا في الذي يأمر أمته بالزنى
وقد انكر بن عباس على من روى في ولد الزنى انه شر الثلاثة وقال لو كان شر الثلاثة ما استوفى بأمة ان ترجم حتى تضعه
ورواه بن وهب عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن بن عباس وقد ذكرناه في (التمهيد) باسناده
وروى يزيد بن هارون عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في ولد الزنى قالت ما عليه من ذنب أبويه شيء ثم قرأت * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الانعام 164 الاسراء 15 فاطر 18 الزمر 7]
ومذهب بن عباس جواز عتق ولد الزنى في الرقاب الواجبة وغيرها
وقد قال لا يجزئ في الرقاب الواجبة وغيرها ولد الزنى جماعة منهم الزهري يروي عن عمر أنه قال لان احمل على نعلين في سبيل الله أحب من أن اعتق ولد زنا
ذكره بن عيينة عن الزهري
341
قال الزهري لا يجزئ ولد الغية في الرقاب الواجبة ولا أم الولد ولا المدبر ولا الكافر
وقال عطاء مثله وقد اضطرب عطاء في هذا المعنى
وقال بن جريج قلت لعطاء ولد زنا صغير أيجزىء في رقبة مؤمنة إذا لم يبلغ الحنث قال لا ولكن كبير رجل صدق
وعن بن جريج أيضا قال قلت لعطاء الرقبة المؤمنة الواجبة أيجزىء فيها مرضع قال نعم قلت وكيف ولم يصل وراجعته فقال ما أراه الا مسلما وديته دية أبيه
قال بن جريج وقال عمرو بن دينار ما أرى الا الذي قد بلغ واسلم
قال أبو عمر اختلف قول الزهري في الصبي أيضا فروى الأوزاعي عنه ما تقدم ذكره وروى معمر عن الزهري قال لا يجزئ في الظهار صبي مرضع
قال أبو عمر فإذا لم يجز في الظهار فأحرى الا يجزئ في القتل لان النص في الرقبة المؤمنة انما ورد في القتل والظهار مقيس عليه
وقال الشافعي - رحمه الله وكذلك الشرط في العدالة والرضا في الشهداء وردا في اية الدين واية الرجعة وقد اجمعوا في الشهادة في الزنى وغيره انه لا يجوز في ذلك كله الا العدول وكذلك الايمان في الرقاب الواجبة وبالله التوفيق
((7 - باب ما لا يجوز من العتق في الرقاب الواجبة))
1483 - مالك انه بلغه ان عبد الله بن عمر سئل عن الرقبة الواجبة هل تشترى بشرط فقال لا
قال مالك وذلك أحسن ما سمعت في الرقاب الواجبة انه لا يشتريها الذي يعتقها فيما وجب عليه بشرط على أن يعتقها لأنه إذا فعل ذلك فليست برقبة تامة لأنه يضع (1) من ثمنها للذي يشترط من عتقها
قال مالك ولا باس ان يشتري الرقبة في التطوع ويشترط ان يعتقها
قال أبو عمر قول الشافعي في هذا كقول مالك
342
ذكر المزني عن الشافعي قال لا يجزئ في رقبة واجبة ان اشترط ان يعتق لان ذلك يضع من ثمنها
وأجاز ذلك الكوفيون لأنها رقبة تامة سالمة من العيوب المفسدة
قال مالك (1) ان أحسن ما سمع في الرقاب الواجبة انه لا يجوز ان يعتق فيها نصراني ولا يهودي ولا يعتق فيها مكاتب ولا مدبر ولا أم ولد ولا معتق إلى سنين ولا أعمى ولا باس ان يعتق النصراني واليهودي والمجوسين تطوعا لان الله تبارك وتعالى قال في كتابه * (فإما منا بعد وإما فداء) * [محمد 4] فالمن العتاقة
قال مالك فاما الرقاب الواجبة التي ذكر الله في الكتاب فإنه لا يعتق فيها الا رقبة مؤمنة
قال مالك وكذلك في اطعام المساكين في الكفارات لا ينبغي ان يطعم فيها الا المسلمون ولا يطعم فيها أحد على غير دين الاسلام
قال أبو عمر اما اختلاف العلماء في جملة ما يجزئ في الرقاب الواجبة فقد أوضح مالك مذهبه في موطئه وهي جملة خولف في بعضها وتابعه أكثر العلماء على أكثرها ونحن نذكر أقوالهم جملة على حسب ما ذكره مالك بعد ذكر ما ذكره بن القاسم وغيره عن مالك مما لم يذكره في موطئه
قال مالك يجزئ الأعرج إذا كان خفيف العرج وان كان شديدا لم يجزئ ولا يجزئ اقطع اليدين ولا الرجلين ويجزئ اقطع اليد الواحدة والأعور ولا يجزئ الأجدع ولا المجنون ولا الأصم ولا الأخرس
قال بن القاسم وقياس قول مالك الا يجزئ الأبرص [لان الأصم أيسر شانا منه]
قال بن القاسم ولا يجزئ الذي يجن ويفيق
وقال اشهب في الذي يجن ويفيق انه يجزئ من رايه
وروي عن مالك انه يجزئ الأعرج كما يجزئ الأعور
وقال بن الماجشون لا يجزئ الأعور
وقال اشهب يجزئ الأصم
وقال مالك يجزئ الموسر عتق نصف العبد إذا قوم عليه كله وعتق ولا يجزئ المعسر
343
وهو قول الأوزاعي
واما الشافعي فقال لا يجزئ في الرقاب الواجبة الا رقبة مؤمنة لا في الظهار ولا في غيره قال وقد شرط الله تعالى في رقبة القتل مؤمنة كما شرط العدل في الشهادة في موضع وأطلق الشهود واستدللنا على أن ما أطلق في معنى ما شرط قال ويجوز المدبر ولا يجوز المكاتب أدى من نجومه شيئا أو لم يؤده لأنه ممنوع من بيعه ولا تجزئ أم الولد في قول من قال لا يبيعها قال المزني هو لا يجيز بيعها وله بذلك كتاب وقال الشافعي والعبد المرهون والجاني إذا أعتقه وافتكه من الرهن وأدى ما عليه من الجناية أجزأ قال والغائب إذا كان على يقين من حياته في حين عتقه يجزئ وإلا لم يجز ولو اشترى من يعتق عليه لم يجز ولو أعتق عبدا بينه وبين آخر وهو موسر أجزأه وكذلك لو كان معسرا ثم أيسر فاشترى النصف الآخر فأعتقه أجزأه وقد روي عنه أنه لا يجزئه إلا أن ينويه عن نفسه
قال فلم اعلم أحدا مضى من أهل العلم ولا ذكر لي عنه الا وهم يقولون إن من الرقاب ما يجزئ ومنها ما لا يجزئ فدل ذلك على أن المراد بعتقها بعضها دون بعض فلم أجد في معنى ما ذهبوا إليه إلا ما أقول والله أعلم
وجماعة ان الأغلب فيما يتخذ له الرقيق العمل ولا يكون العمل تاما حتى يكون يد المملوك باطشتين ورجلاه ماشيتين وله بصر وان كانت عينا واحدة [ويكون يعقل] فإن كان أبكم أو أصم أو ضعيف البطش اجزا ويجزئ المجنون الذي يفيق في أكثر الأحيان ويجزئ الأعور والعرج الخفيف [وشلل الحيض] وكل عيب لا يضره في العمل اضرارا بينا ولا يجزئ الأعمى ولا المقعد ولا الأشل الرجل ويجزئ الأصم والخصي والمريض الذي ليس به مرض زمانة
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجزئ في الرقاب الواجبة مدبر ولا أم ولد ويجزئ المكاتب ان لم يكن أدى من كتابته شيئا استحسانا وان كان أدى شيئا لم يجز ولا يجوز الأعمى ولا المقعد ولا المقطوع اليدين ولا المقطوع الرجلين ولا المقطوع اليد والرجل من جانب واحد فأما ان كانت يده الواحدة مقطوعة أو رجله أو مقطوع اليد والرجل من خلاف أو كان أعور العين الواحدة فان ذلك
344
يجزئ ولا يجزئ في ذلك مقطوع الابهامين ولا مقطوع ثلاثة أصابع في كل كف [سوى الابهامين] وان كان أقل من ثلاثة أصابع اجزا والذكر والأنثى والصغير والكبير في ذلك كله سواء
ويجزئ عندهم الكافر في الظهار وكفارة اليمين ولا يجزئ في قتل الخطا
ومن اعتق في رقبة واجبة عليه عبدا بينه وبين اخر لم يجزئه موسرا كان أو معسرا في قول أبي حنيفة
ويجزئه في قول أبي يوسف [ومحمد] إذا كان موسرا ولا يجزئه إذا كان معسرا
والأشل عندهم كالأقطع يجزئ ولا يجزئ المعتوه ولا الأخرس ويجزئ المقطوع الاذنين والخصي
وقال زفر لا يجزئ مقطوع الاذنين
وقال عثمان البتي يجزئ الأعور والأعرج الا ان لا يمشي
وقال الليث بن سعد لا يجزئ في الرقاب الواجبة شيء فيه عيب ولا يجزئ الذي يجن في كل شهر مرة وان كان فيما بين ذلك صحيحا لان ذلك عيب ولا يجزئ الأعرج ولا الأجدع ولا الأعور ولا الأشل لان ذلك مما لا يجزئ في الضحايا فهو في ذلك أشد
قال أبو عمر اجمعوا على أن العيب الخفيف في الرقاب الواجبة يجزئ نحو الحول ونقصان الضرس والظفر واثر كي النار والجرح الذي قد بريء وذلك كله يرد به العيب إذا نقص من الثمن فدل ذلك على أنه ليس المعتبر في الرقاب السلامة من جميع العيوب
والقياس لها أيضا على الضحايا بالا يستقيم من اجل السن لان الصغير يجزئ عندهم في الرقاب الواجبة ولا يجزئ في الضحايا
واما قول مالك في أنه لا يطعم في الكفارات الا مساكين المسلمين فقد مضى القول في ذلك في كتاب الايمان والحمد لله
((8 - باب عتق الحي عن الميت))
1484 - مالك عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ان أمه أرادت ان
345
توصي ثم أخرت ذلك إلى أن تصبح فهلكت وقد كانت همت بان تعتق فقال عبد الرحمن فقلت للقاسم بن محمد اينفعها ان اعتق عنها فقال القاسم ان سعد بن عبادة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان أمي هلكت فهل ينفعها ان اعتق عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم)
1485 - مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نوم نامة فأعتقت عنه عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رقابا كثيرة
قال مالك وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر لا اعلم خلافا ان العتق والصدقة وما جرى مجراهما من الأموال جائز كل ذلك فعله للحي عن الميت
وانما اختلفوا في الولاء إذا اعتق المرء على غيره وقد ذكرنا ذلك في موضعه
وكذلك اختلفوا في الصيام عن الميت ولا يختلفون انه لا يصلي أحد عن أحد
وقد ذكرنا اختلافهم في الصيام عن الميت في كتاب الصيام وذكرنا خبر عبد الرحمن بن أبي بكر وموته في كتاب الصحابة والحمد لله
((9 - باب فضل عتق الرقاب وعتق الزانية وبن الزنى))
1486 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها)
قال أبو عمر اختلف على مالك في اسناد هذا الحديث فروته عنه طائفة كما رواه يحيى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة منهم مطرف وبن أبي أويس وروح بن عبادة ورواه عنه آخرون عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا منهم بن وهب وأبو مصعب ورواه سعيد بن داود الزبيدي وحبيب كاتب مالك
346
عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مرواح عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه جماعة الرواة كذلك عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مرواح عن أبي ذر مسندا
وقد ذكرنا كثيرا من الطرق بذلك في (التمهيد) وهو الصواب عند أهل العلم بالحديث
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر والثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مرواح الغفاري عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أي الرقاب أفضل قال (أنفسها عند أهلها وأغلاها أثمانا)
وكذلك رواه بن عيينة والدراوردي ووكيع ويحيى القطان وسائر أصحاب هشام بن عروة
حدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا الحارث بن أبي اسامة قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مرواح عن أبي ذر قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الرقاب أفضل قال (أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنا)
1487 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر انه اعتق ولد زنا وأمه
واما عتق بن عمر لولد وأمه فقد ذكرنا عن بن عباس مثل ذلك وتقدم من رواية مالك عن أبي هريرة وفضالة بن عبيد مثله أيضا وعليه جمهور العلماء ولا يختلفون ان عتق المذنب ذي الكبيرة جائز وان ذنوبه لا تنقص من اجر معتقيه وكذلك ولد الزنى لان ذنوب أبويه ليس شيء منه معدودا عليه بدليل قول الله عز وجل * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الانعام 164] * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * [الانعام 164]
وقد اجمع العلماء على جواز عتق الكافر تطوعا فالمسلم المذنب أولى بذلك
واما ما يجوز في الرقاب الواجبة فقد مضى القول فيها في الباب قبل هذا والحمد لله كثيرا
وروى بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزبير بن موسى عن أم حكيم بنت طارق عن عائشة أم المؤمنين قالت (أعتقوهم وأحسنوا إليهم واستوصوا بهم خيرا) تعني أولاد الغية
347
قال وحدثنا عمرو بن دينار انه سمع سليمان بن يسار يقول قال عمر (أعتقوهم وأحسنوا إليهم واستوصوا بهم خيرا) يعني اللقيط
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه قال كان الرجل إذا ساح في بني إسرائيل أربعين سنة اري شيئا قال فساح رجل ولد غية أربعين سنة فلم ير ما كان يرى من قبله فقال أي رب أرأيت ان أحسنت وأساء أبواي ماذا علي قال فرأى ما رأى السائحون قبله
((10 - باب مصير الولاء لمن اعتق))
1488 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم انها قالت جاءت بريرة فقالت اني كاتبت أهلي (1) على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عنك عددتها ويكون لي ولاؤك فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك فأبوا عليها فجاءت من عند أهلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت لعائشة اني قد عرضت عليهم ذلك فأبوا علي الا ان يكون الولاء لهم فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فأخبرته عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال (اما بعد) فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وانما الولاء لمن اعتق
348
1489 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ان عائشة أم المؤمنين أرادت ان تشتري جارية تعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن اعتق)
1490 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن ان بريرة جاءت تستعين عائشة أم المؤمنين فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أصب لهم ثمنك صبة واحدة (1) وأعتقك فعلت فذكرت ذلك بريرة لأهلها فقالوا لا الا ان يكون لنا ولاؤك
قال يحيى بن سعيد فزعمت عمرة ان عائشة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن اعتق)
1491 - مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته
قال مالك في العبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء ان ذلك لا يجوز وانما الولاء لمن اعتق ولو أن رجلا اذن لمولاه ان يوالي من شاء ما جاز ذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الولاء لمن اعتق) ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته فإذا جاز لسيده ان يشترط ذلك له وان يأذن له ان يوالي من شاء فتلك الهبة
349
قال أبو عمر قد خرج الناس في معاني حديث بريرة وجوها كثيرة فمنهم من له في ذلك باب ومنهم في ذلك كتاب وربما ذكروا من الاستنباط ما لا يفيد علما ولا يثيره ونحن - إن شاء الله تعالى بعونه وفضله - نذكر من معاني حديث بريرة ها هنا ما فيه كفاية من الاحكام التي عني بذكرها وبالحرص فيها الفقهاء وأولو الأحلام والنهى
فمن ذلك ان في حديث بريرة استعمال عموم الخطاب في السنة والكتاب لان بريرة لما كاتبها أهلها دل على أن الرجال والنساء والعبيد والإماء داخلون في عموم قول الله تعالى * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم) * الآية [النور 33] وان الأمة ذات زوج كانت أو غير ذات زوج داخلة في حديث بريرة في عموم الآية لأنها كانت ذات زوج لا خلاف فيه
وفيه دليل ان كتابة الأمة ذات الزوج جائزة دون زوجها وفي ذلك دليل على أن زوجها ليس له منعها من الكتابة وان كانت تؤول إلى فراقة بغير ارادته إذا أدت وعتقت وخيرت فاختارت نفسها ولا منعها من السعي في كتابتها
ولو استدل مستدل من هذا المعنى بان الزوجة ليس عليها خدمة زوجها كان حسنا
كما أن للسيد عتق الأمة تحت العبد وان أدى ذلك إلى بطلان نكاحه وله ان يبيع أمته من زوجها الحر وان كان في ذلك بطلان زوجيتيهما كان بهذا المعنى جائزا له كتابتها على رغم زوجها
وفيه دليل على أن به يجوز للسيد مكاتبة عبده وأمته وان لم يكن لهما شيء من المال الا ترى ان بريرة جاءت تستعين عائشة في أول كتابتها ولم تكن أدت منها شيئا
كذلك ذكر بن شهاب عن عروة في هذا الحديث ذكره بن وهب عن يونس والليث عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت جاءت بريرة إلي فقالت يا عائشة اني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا وذكر تمام الحديث
[وفيه دليل على إجازة كتابة الأمة وهي غير ذات صنعة وكتابة من لا حرفة له ولا مال معه إذ ظاهر الخبر انها ابتدأت بالسؤال من حين كوتبت ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هل لها مال أو عمل واجب أو مال ولو كان هذا واجبا لسال عنه ليقع علمه عليه لأنه بعث مبينا ومعلما - صلى الله عليه وسلم
350
وفيما وصفنا دليل على أن قول من تأول قول الله عز وجل * (إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] ان الخير ها هنا المال ليس بالتأويل الجيد وان كان قد روي عن جماعة من المسلمين قد ذكرت بعضهم فيما تقدم من باب المكاتب
والدليل على ضعف هذا التأويل اجماع العلماء على أن مال العبد للسيد ان شاء ان ينتزعه من عنده انتزعه من قال منهم ان العبد يملك ومن قال إنه لا يملك فكيف يكاتبه
بماله الا ان يشا ترك ذلك له
وأصح ما في تأويل الآية والله أعلم ان الخير المذكور فيها هو القدرة على الاكتساب مع الأمانة وقد يكتسب بالسؤال كما قيل السؤال اخر كسب الرجل أي أرذل كسب الرجل
وكان بن عمر يكره كتابة العبد إذا لم تكن له حرفة وكان يكره ان يطعمه مكاتبه من سؤال الناس وقال بذلك طائفة من أهل الورع
وفي حديث بريرة] ما يدل على جواز اكتساب المكاتب بالسؤال وان ذلك طيب لمولاه وهو يرد قول من قال لا تجوز كتابة المكاتب إذا عدل على السؤال لأنه يطعمه أوساخ الناس
والدليل على صحة ما قلنا إن ما طاب لبريرة اخذه طاب لسيدها اخذه منها اعتبارا باللحم الذي كان عليها صدقة وللنبي صلى الله عليه وسلم هدية واعتبارا أيضا بجواز معاملة الناس للسائل
وقد روي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سهل بن حنيف وغيره أنه قال (من أعان غارما في عسرته أو غازيا في سبيل الله أو مكاتبا في رقبته اظله الله في ظله يوم لا ظل الا ظله) (1) فندب الناس إلى الصدقة على المكاتب
وقد تأول قوم من العلماء في ذلك قول الله عز وجل * (وفي الرقاب) * [التوبة 60] انهم المكاتبون يعانون في فك رقابهم من اشترط منهم عونهم في اجر الكتابة ومن لم يشترط وأجازوا لهم الزكاة المفروضة فضلا عن التطوع
وكان الحسن البصري يقول في قول الله عز وجل * (إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] قال صدقا وأمانة من أعطاهم كان مأجورا [ومن سئل فرد خيرا كان مأجورا]
وقال إبراهيم النخعي ان علمتم فيهم خيرا صدقا ووفاء
351
وقال عكرمة قوة تعين على الكسب
وقال سفيان الثوري دينا وأمانة
وقال آخرون الخير ها هنا الصلاة والصلاح
وقد ذكرنا هذا المعنى بأتم ذكر في كتاب المكاتب
واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة في جواز كتابة من لا حرفة له ولا مال معه
فقد روي عن مالك أيضا كراهية ذلك
وكره الأوزاعي واحمد وإسحاق كتابة من لا حرفة له
وعن عمر وبن عمر ومسروق مثل ذلك
وقد ذكرنا ما للعلماء من التنازع في وجوب كتابة العبيد إذا ابتغوا ذلك من ساداتهم وعلموا فيهم خيرا في كتاب المكاتب
واما قولها (كاتبت أهلي على تسع أواق) فقد ذكرنا مبلغ الأوقية والأصل فيها في كتاب الزكاة
واما قولها في كل عام أوقية ففيه دليل على أن الكتابة تكون على النجم وهذا جائز عند الجميع وأقل الأنجم ثلاثة
واختلفوا في الكتابة إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد
وقال الشافعي لا تجوز على نجم واحد ولا تجوز حالة البتة لأنها ليست كتابة وانما هو عتق على صفة [كتابة] كأنه قال إذا أديت إلي كذا وكذا فأنت حر وقد احتج بقولها في هذا الحديث في كل عام أوقية
ومن أجاز النجامة في الديون كلها على مثل هذا في كل شهر كذا ولا يقول في أول الشهر أو في وسطه أو في اخره لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل انها كتابة فاسدة ومعلوم ان المكاتب منفرد بكسبه كالأجنبي ليس كالعبد
وأبى ذلك أكثر الفقهاء حتى يقول في أول الشهر أو في وسطه أو عند انقضائه أو يسمي الوقت من الشهر أو العام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع المؤجل إلى اجل معلوم ونهيه عن بيع حبل حبلة [وهي إلى حين تباع الناقة ونتاج نتاجها] وقالوا ليس معاملة السيد لمكاتبه كالبيوع لأنه لا ربا بين العبد وسيده (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء
352
واما قول عائشة (ان أحب أهلك ان أعدها لهم عددتها ففيه دليل على أن العد في الدراهم الصحاح يقوم مقام الوزن وان البيع والشراء بها جائز من غير ذكر الوزن لأنها لم تقل أزنها لهم وهذا على حسب سنة البلد وعلم ذلك فيه وليس ذلك من سنة بلدنا ولا معروف عندنا
والأصل في الذهب والورق الوزن وفي البر وما كان مثله الكيل وانما يجوز العد في بلد يكون الضارب فيه للدنانير والدراهم يعتبر الوزن ولا تدخله فيه داخلة
ومن أجاز عد الدنانير والدراهم انما يجيزها في العروض كلها أو في الذهب بالوزن لا في بعض الجنس ببعضه
واما قولها (ويكون ولاؤك لي فعلت) فظاهر هذا الكلام انها أرادت ان تشتري منهم الولاء بعد عقدهم الكتابة لامتهم وان تودي جميع الكتابة إليهم ليكون الولاء لها فأبوا
ذلك عليها وقالوا لا يكون الولاء الا لنا
ولو كان هذا الكلام كما نقله هشام وغيره عن عروة عن عائشة لكان النكير حينئذ على عائشة لأنها كانت متبوعة بأداء كتابة بريرة ومشترطة للولاء من اجل الأداء وهذا بيع الولاء وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
فلو كان كذلك لكان الانكار على عائشة - رضي الله عنها - دون موالي بريرة ولكن الامر ليس كذلك بدليل ما نقله غير مالك في حديث هشام وما نقله غير هشام في حديث عائشة في هذه القصة
فمن ذلك ان وهيب بن خالد - وكان حافظا - روى هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقال فيه ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة فأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت فقولها وأعتقك دليل على شرائها لها شراء صحيحا لأنه لا يعتقها الا بعد الشراء لها
هذا هو الظاهر في قولها (وأعتقك) والله أعلم
وفي حديث بن شهاب ان رسول الله قال لعائشة (لا يمنعك ذلك ابتاعي واعتقي) فأمرها بابتياع بريرة وعتقها بعد ملكها لها
وهذا هو الصحيح في الأصول
وفي قوله في حديث بن شهاب (ابتاعي واعتقي) تفسير قوله في حديث هشام بن عروة (خذيها) أي خذيها بالابتياع ثم أعتقيها
ويصحح هذا كله حديث مالك عن نافع عن بن عمر ان عائشة أرادت ان
353
تشتري بريرة فتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن الولاء لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (لا يمنعك ذلك فان الولاء لمن اعتق)
وليس في أحاديث بريرة أصح من هذا الاسناد لان الأحاديث عن عائشة مختلفة الالفاظ جدا
وقد بان في حديث بن عمر ان عائشة انما أرادت شراء بريرة وعتقها فأبى أهلها الا ان يكون الولاء لهم
وفي هذا يكون الانكار على موالي بريرة لا على عائشة لان الولاء للمعتق ولا يتحول ببيع ولا بهبة
وفي ذلك ابطال الشرط في البيع إذا كان باطلا وتصحيح البيع وهذه مسألة اختلفت فيها الآثار وعلماء الأمصار
وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ان أهل بريرة أرادوا ان يبيعوها ويشترطوا الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن اعتق)
وهذه الرواية عن عائشة موافقة لحديث بن عمر في ذلك
وكذلك في حديث بن شهاب ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امرها بالشراء ابتداء وتعتقها بعد ذلك ويكون الولاء لها
وفي حديث هشام بن عروة أيضا في قوله (خذيها ولا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن اعتق) دليل على صحة شرائها - إن شاء الله عز وجل
واشتراط أهل بريرة الولاء بعد بيعهم لها للعتق خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرا لذلك وقال (ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في حكم الله أي ليست في حكم الله كما قال الله تعالى * (كتاب الله عليكم) * [النساء 24] أي حكم الله فيكم
وقد ذكرنا ما للعلماء في بيع المكاتب للعتق وغيره في حال تعجيزه وحكم ذلك كله في كتاب المكاتب
وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن عقد الكتابة للمكاتب لا يوجب له عتقا
وفي ذلك رد قول من قال إنه كالغريم من الغرماء إذا عقدت كتابته
واما قوله في حديث هشام بن عروة خذيها واشترطي لهم الولاء فيكون معناه اظهري لهم حكم الولاء فإنما الولاء لمن اعتق أي عرفيهم بحكم الولاء لان الاشتراط الاظهار ومنها اشراط الساعة ظهور علاماتها
354
قال أوس بن حجر
(فأشرط فيها نفسه وهو معصم
* والقى بأسباب له وتوكلا (1))
أي اظهر نفسه فيما حاول ان يفعل
وقيل اشترطي لهم الولاء أي اشترطي عليهم كقوله تعالى * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * [الاسراء 7] أي فعليها
وكقوله " اولائك لهم اللعنة " [الرعد 25] أي عليهم
وقوله تعالى * (فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا) * [النساء 109] قوله عليهم بمعنى لهم
ويجوز ان يكون معناه الوعيد والتهاون لمن خالف ما امر به كقوله تعالى * (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد) * الآية [الاسراء 64]
ثم قال تعالى * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * [الاسراء 65] بيانا بفعل من فعل ما نهى عنه وتحذيرا من موافقة ذلك
ومعلوم انه لم يكن هذا القول منه الا بعد اعلامهم ان الولاء كالنسب لا يباع ولا يوهب لأنه لا يجوز في صفته صلى الله عليه وسلم ان ينهى عن شيء ثم يأتيه وانما معناه اشترطي لهم الولاء فان اشتراطهم إياه بعد علمهم بان اشتراطهم لا يجوز غير نافع لهم ولا جائز في الحكم لأنه صلى الله عليه وسلم امر باشتراط الولاء لهم ليقع البيع بينها وبينهم فبطل الشرط ويصح البيع وهم غير عالمين بأن اشتراطهم ذلك لأنفسهم غير جائز لهم لان هذا مكر وخديعة
والرسول صلى الله عليه وسلم ابعد الناس من هذا ومن أن يفعل ما نهي عن فعله وان يرضى لغيره ما لا يرضى لنفسه ومن ظن ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم فكافر بطعنه على النبي صلى الله عليه وسلم وانما كان هذا القول منه تهديدا ووعيدا لمن رغب عن سنته وحكمه من تحريم بيع الولاء وهبته وخالف في ذلك امره واقدم على فعل ما قد نهى عن فعله
355
وليس في حديث مالك في هذا الباب تخيير بريرة حين عتقت تحت زوجها وهو عنده من حديث ربيعة مذكور في باب الخيار من كتاب الطلاق وقد مضى القول فيه هناك والحمد لله كثيرا
وفي هذا الحديث دليل على أن الشرط الفاسد في البيع لا يفسد البيع ولكنه يسقط ويبطل الشرط ويصح البيع
وهذا عند مالك - رحمه الله - في شيء دون شيء يطول شرح مذهبه في ذلك ويأتي كل في موضعه من البيوع إن شاء الله تعالى
ومن قال من أهل العلم من يرى أن الشرط الفاسد يفسد البيع ومنهم من يرى أنه لا ينعقد بيع ولا شرط أصلا ومنهم من يرى أن الشرط لا يضر البيع كائنا ما كان
وهذه أصول يحتمل ان يفرد لها كتاب
وقد ذكرنا في (التمهيد) خبر عبد الوارث بن سعيد الثوري قال قدمت مكة فوجدت أبا حنيفة وبن أبي ليلى وبن شبرمة فسألت أبا حنيفة فقلت ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا فقال البيع باطل والشرط باطل ثم اتيت بن أبي ليلى فسألته فقال البيع جائز والشرط باطل ثم اتيت بن شبرمة فسألته فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل ثم اتيت بن أبي ليلى فأخبرته فقال لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت (امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اشتري بريرة فأعتقها وان اشترط أهلها الولاء فإنما الولاء لمن اعتق) البيع جائز والشرط باطل ثم اتيت بن شبرمة فأخبرته فقال لا أدري ما قالا لك حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال بعت من النبي صلى الله عليه وسلم ناقة وشرط لي حملانها أو ظهرها إلى المدينة) البيع جائز والشرط جائز
وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثني أبو ثابت عن عبد الله بن وهب قال أخبرني مالك بأنه سأل بن شهاب عن رجل خطب عبده وليدة قوم واشترط على عبده ان ما ولدت الأمة من ولد فله شطره وقد أعطاها العبد مهرها فقال بن شهاب هذا من الشرط الذي لا نرى له جوازا
قال وقال بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير ان عائشة قالت قام رسول الله
356
صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال (ما بال الرجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وان شرطه مائة مرة شرط الله أحق وأوثق)
قال أبو الحسن الدارقطني انفرد إسماعيل بن إسحاق بهذا الحديث عن أبي ثابت عن بن وهب عن مالك
قال أبو عمر واما قوله كل شرط ليس في كتاب الله فمعناه كل شرط ليس في حكم الله وقضائه من كتابه أو سنة نبيه فهو باطل
قال الله عز وجل * (كتاب الله عليكم) * [النساء 24] أي حكم الله وقضائه فيكم
وفيه إجازة السجع الحق من القول لقوله صلى الله عليه وسلم (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق وانما الولاء لمن اعتق)
وهذا تفسير قوله في سجع الاعرابي (اسجعا كسجع الكهان) (1) لان الكهان يسجعون بالباطل ليخرصون ويرجمون الغيب ويحكمون بالظنون
وكذلك عاب سجعهم وسجع من أشبه معنى سجعهم ولذلك عاب قول الاعرابي في معارضة السنة بقوله كيف أغرم ما لا اكل ولا شرب ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال له (اسجعا كسجع الكهان) لأنه كان سجعا في باطل اعتراضا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا يدل على أن السجع كلام كسائر الكلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح
وفي قوله صلى الله عليه وسلم (انما الولاء لمن اعتق) ما ينفي ان يكون الولاء إلى المعتق الا لمن اعتق فينبغي بظاهر هذا القول إن يكون الولاء للذي يسلم على يديه وللملتقط
357
فأما الذي يسلم على يديه رجل أو يواليه فقال مالك لا ميراث للذي اسلم على يديه ولا ولاء له وميراث ذلك المسلم إذا لم يدع وارثا لجماعة المسلمين وهو قول [الشافعي] والثوري وبن شبرمة والأوزاعي
وحجتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم (انما الولاء لمن اعتق) ينفي ذلك ان يكون الولاء إلى المعتق
[وهو قول احمد وداود]
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من اسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له فميراثه له
وقال الليث من اسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه له إذا لم يدع وارثا
وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد الا ان يحيى بن سعيد قال ذلك فيمن جاء من ارض العدو كافرا فأسلم على يدي رجل من المسلمين ان له ولاءه
قال واما من اسلم من أهل الذمة على يدي رجل مسلم فولاؤه لجماعة المسلمين ولم يفرق ربيعة ولا الليث بين الذمي وأهله
وحجة من ذهب مذهب أبي حنيفة وربيعة حديث تميم الداري قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشرك يسلم على يدي المسلم فقال هو أولى الناس واحق الناس وأولاهم بمحياه ومماته) (1)
وقضى به عمر بن عبد العزيز وقد ذكرنا الحديث باسناده في (التمهيد) وحدثناه عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثني بكر قال حدثني مسدد قال حدثني عبد الله بن داود الخريبي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن وهب عن تميم الداري
قال أبو عمر وحديث الولاء لمن اعتق أصح وسنذكر ميراث اللقيط وولاءه في كتاب الأقضية عند ذكر حديث بن شهاب عن سنين بن جميلة - إن شاء الله عز وجل
واما ولاء السائبة وولاء المسلم يعتقه النصراني فسيأتي القول في ذلك في اخر باب في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
358
واما قول مالك في العبد يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء فان ذلك لا يجوز لان الولاء لمن اعتق بقول صحيح يشهد له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (انما الولاء لمن اعتق) ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته واحتجاج مالك بذلك صحيح حسن جدا الا انها مسألة اختلف فيها السلف قديما ومن بعدهم
وقول الشافعي فيها كقول مالك
وهو قول احمد وداود
وروي عن عمر بن الخطاب انه جعل اسلامه على يديه موالاة وجعل لمن لا ولاء عليه ان يوالي من شاء
وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد
قال معمر عن الزهري قضى عمر بن الخطاب في رجل والى قوما ان ميراثه لهم وعقله عليهم
قال الزهري إذا لم يوال أحدا ورثه المسلمون
وقد روى حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اسلم على يدي رجل فله ولاؤه)
وروي عن عمر وعلي وعثمان وبن مسعود انهم أجازوا الموالاة وورثوا بها
وعن عطاء والزهري ومكحول نحوه
وروي عن سعيد بن المسيب (أيما رجل اسلم على يدي رجل فعقل عنه ورثه وان لم يعقل عنه لم يرثه)
وقالت به طائفة
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا والاه على أن يعقل عنه ويرثه عقل عنه وورثه إذا لم يخلف وارثا
قالوا وله ان ينقل ولاءه عنه ما لم يعقل عنه أو عن أحد من صغار ولده
وللمولي ان يبرا من ولائه بحضرته ما لم يعقل عنه وان أسلم على يدي رجل ولم يعقل عنه ولم يواله لم يرثه ولم يعقل عنه
وهو قول الحكم وحماد وإبراهيم
وهذا كله فيمن لا عصبة له ولا ذو رحم
ومن هذا الباب عتق المرء عن غيره باذنه وبغير اذنه وقد اختلف العلماء في ذلك
359
فالذي ذهب إليه مالك في المشهور من مذهبه عند أكثر أصحابه ان الولاء عنه سواء كان بأمره أو بغير امره
وقال اشهب الولاء للمعتق وسواء امره بذلك أو لم يأمره
وهو قول الليث والأوزاعي
وحجة مالك حديث أبن شهاب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ذكره ان نبي الله أيوب عليه السلام قال في بلائه ان الله تعالى يعلم اني كنت امر على الرجلين يتنازعان ويذكران الله تعالى فارجع إلى بيتي فاكفر عنهما كراهة ان يذكر الله تعالى الا في حق
وقد روي هذا الحديث عن بن شهاب عن انس وقد ذكرنا ذلك كله بالأسانيد في (التمهيد)
وفي هذا الحديث دليل على جواز عتق المرء عن غيره لان الكفارة قد تكون بالعتق وغيره ولم يبلغنا ان شريعة أيوب كانت بخلاف شريعتنا وقد قال الله عز وجل * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * [الانعام 90]
وقال الشافعي إذا أعتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير امره فولاءه لك وان أعتقته عنه بأمره بعوض أو بغير عوض فولاؤه له ويجزئه بمال وبغير مال وسواء قبله المعتق عنه أو لم يقبله
وهو قول [احمد وداود
وقال] أبو حنيفة وأصحابه والثوري ان قال اعتق عني عبدك على مال ذكره فالولاء للمعتق عنه لأنه بيع صحيح وإذا قال اعتق عبدك عني بغير مال فالولاء للمعتق لان
الامر لم يملك منه شيئا وهي هبة باطل لأنها لا يصح فيها القبض
قال أبو عمر الأصل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم (الولاء لمن اعتق) يدخل فيه الذكر والأنثى والواحدة والجماعة لأنه من يصلح له كله الا ان السفيه الذي لا يجوز له التصرف في ماله خارج من هذه الجملة واما النساء فلهن ولاء من أعتقن دون ميراث الولاء في غير ذلك وقد تقدم هذا المعنى مجودا والحمد لله كثيرا
((11 - باب جر العبد الولاء إذا اعتق))
1492 - مالك عن ربيعة بن عبد الرحمن ان الزبير بن العوام اشترى عبدا
360
فاعتقه ولذلك العبد بنون من امرأة حرة فلما اعتقه الزبير قال هم موالي وقال موالي أمهم بل هم موالينا فاختصموا إلى عثمان بن عفان فقضى عثمان للزبير بولائهم
1493 - مالك انه بلغه ان سعيد بن المسيب سئل عن عبد له ولد من امرأة حرة لمن ولاؤهم فقال سعيد ان مات أبوهم وهو عبد لم يعتق فولاؤهم لموالي أمهم
قال مالك ومثل ذلك ولد الملاعنة من الموالي ينسب إلى موالي أمه فيكونون هم مواليه ان مات ورثوه وان جر جريرة (1) عقلوا عنه (2) فان اعترف به أبوه الحق به وصار ولاؤه إلى موالي أبيه وكان ميراثه لهم وعقله عليهم ويجلد أبوه الحد
قال مالك وكذلك المراة الملاعنة من العرب إذا اعترف زوجها الذي لاعنها بولدها صار بمثل هذه المنزلة الا ان بقية ميراثه بعد ميراث أمه واخوته لامه لعامة المسلمين ما لم يلحق بابيه وانما ورث ولد الملاعنة المولاة موالي أمه قبل ان يعترف به أبوه لأنه لم يكن له نسب ولا عصبة فلما ثبت نسبة صار إلى عصبته
قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حرة وأبو العبد حر ان الجد ابا العبد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة يرثهم ما دام أبوهم عبدا فان عتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه وان مات وهو عبد كان الميراث والولاء للجد وان العبد كان له ابنان حران فمات أحدهما وأبوه عبد جر الجد أبو الأب الولاء والميراث
قال أبو عمر هكذا رواه يحيى وبن بكير وطائفة
ورواه مطرف وأبو مصعب وغيرهما عن مالك بابين من هذا قالا (جر الجد الولاء وكان الميراث بينهما) وهذا صحيح لأنه ميراث مال لا ميراث ولاء
واما قوله وجر الجد الولاء إلى مواليه فمعلوم انه يجره إليهم إذا لم يكن وارث يحجبه عنهم
361
قال أبو عمر اما حديث مالك عن ربيعة في قصة الزبير رواه الثوري وبن جريج عن حميد الأعرج عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي
ورواه معمر والثوري عن هشام بن عروة عن أبيه بمعنى واحد ان الزبير بن العوام اشترى عبدا مملوكا عند رافع بن خديج زوجه مولاة له منها بنون فلما اشترى الزبير العبد اعتقه فاختصما إلى عثمان فقضى بالولاء للزبير
واختلف أهل العلم في انتقال الولاء الذي قد ثبت لموالي الأمة المعتقة في بنيها من الزوج العبد ان اعتق بعد
فروي عن جماعة من العلماء ان ولاءهم لموالي أمهم لا يجره الأب ان اعتق
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب
وممن قال ذلك عطاء وعكرمة بن خالد ومجاهد وبن شهاب وقبيصة بن ذؤيب
وقضى به عبد الملك بن مروان في اخر خلافته لما حدث به قبيصة عن عمر بن الخطاب وكان قبل ان يقضي فيه بقضاء مروان ان الولاء يعود لموالي أبيهم ان اعتق
وروي عن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مروان مثل ذلك
وروى معمر عن الزهري قال لا يتحول ولاؤهم إلى مال أبيهم
[قال معمر وبلغني عن ميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز أدوا ذلك]
وحدثني بن طاوس عن عكرمة بن خالد مثل ذلك
وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وسفيان الثوري والليث بن سعد والشافعي واحمد وإسحاق كلهم وأصحابهم يقولون إن العبد إذا اعتق جر ولاء ولده إلى مواليه وانتقل ولاؤهم عن أمهم وعن مواليها
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت والزبير بن العوام
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز
وقضى به مروان عن رأي أهل المدينة
وما نظر به مالك من ولد الملاعنة فتنظير صحيح وقياس حسن
362
واما قول مالك ان الجد أب العبد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة يرثه ما دام أبوهم عبدا فان اعتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه على حسب ما ذكره من ذلك في هذا الباب
وقوله ان الامر المجتمع عليه عندهم فهو مذهب الشافعي عند بعض أصحابه
وروي ذلك عن الشعبي
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد [والثوري] لا يجر الجد الولاء قالوا في ولد العبد من امرأة حرة إذا كان العبد حيا لم يجر الولاء
وحجتهم ان ولد العبد لا يكون مسلما باسلام جده وان أباه لو لاعن أمة لم يستخلفه الجر فكذلك لا يلحق به ولاؤه
قال ومعلوم ان نسبه إلى الجد انما هو بابيه فكذلك ينبغي ان يكون ولاؤه لأبيه فإذا لم يثبت ولاؤه من جهة الأب لم يثبت من جهة الجد
قال مالك (1) في الأمة تعتق وهي حامل وزوجها مملوك ثم يعتق زوجها قبل ان تضع حملها أو بعد ما تضع ان ولاء ما كان في بطنها للذي اعتق أمه لان ذلك الولد قد كان اصابه الرق قبل ان تعتق أمه وليس هو بمنزلة الذي تحمل به أمة بعد العتاقة لان الذي تحمل به أمه بعد العتاقة إذا اعتق أبوه جر ولاءه
قال أبو عمر على هذا مذهب الكوفي والشافعي وأكثر أهل العلم ولم يختلفوا انه لو قال لامته الحامل ما ولدت فهو حر انه تلحقه الحرية إذا ولدته ويلزمه فيه قوله وكذلك إذا اعتقها حاملا فولدها كعضو منها فكذلك يلحق العتق ما في بطنها فكيف يجر العبد إذا اعتق ولاء من قد ثبت عليه الولاء لمعتقه
قال مالك (2) في العبد يستأذن سيده ان يعتق عبدا له فيأذن له سيده ان ولاء العبد المعتق لسيد العبد لا يرجع ولاؤه لسيده الذي اعتقه وان عتق
قال أبو عمر يتفق في هذه المسالة من قال إن العبد يملك ومن قال إن العبد لا يملك شيئا وعتق العبد باذن سيده عند من لم يملك عنده العبد شيئا كعتق الوكيل باذن الموكل وهو في معنى من وكل رجلا على انكاحه أو طلاقه
ومن قال إن العبد لا يملك لا يجيز له التصرف في ما بيده الا باذنه فإذا اذن له فيه كان كما وصفنا وبالله توفيقنا
363
((12 - باب ميراث الولاء))
1494 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه انه اخبره ان العاصي بن هشام هلك وترك بنين له ثلاثة اثنان لام ورجل لعله (1) فهلك أحد اللذين لام وترك مالا وموالي فورثه اخوه لأبيه وأمه ماله وولاؤه مواليه ثم هلك الذي ورث المال وولاء الموالي وترك ابنه واخاه لأبيه فقال ابنه قد أحرزت (2) ما كان أبي احرز من المال وولاء الموالي وقال اخوه ليس كذلك انما أحرزت المال واما ولاء الموالي فلا أرأيت لو هلك أخي اليوم الست ارثه انا فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى لأخيه بولاء الموالي
1495 - مالك انه بلغه ان سعيد بن المسيب قال في رجل هلك وترك بنين له ثلاثة وترك موالي اعتقهم هو عتاقة ثم إن الرجلين من بنيه هلكا وتركا أولادا فقال سعيد بن المسيب يرث الموالي الباقي من الثلاثة فإذا هلك هو فولده وولد اخوته في ولاء الموالي شرع سواء
[قال أبو عمر هذا المعنى هو الذي يسميه العلماء الولاء للكبير
وهو مذهب عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وبن مسعود وزيد بن ثابت - رضي الله عنه
قال سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء وبن شهاب وبن سيرين وقتادة وأبو الزناد وربيعة وسائر أهل المدينة
واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث واحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور كل هؤلاء يقول إن الولاء للكبير
ومعنى ان يستحقه الأقرب إلى المعتق ابدا في حين موت المولي على ما تقدم من قضاء عثمان وقول سعيد بن المسيب في هذا الباب
364
قال أحمد بن حنبل على هذا جمهور الناس
وروي عن الزبير انه كان يقول إن الولاء يورث كما يورث المال وان من احرز من المال شيئا احرز مثله من ولاء الموالي الا النساء
وبه قال شريح وطائفة من أهل البصرة قد ذكرنا بعضهم عند ذكر ربيعة في باب الخيار من كتاب الطلاق
واختلفوا في السيد المعتق إذا ترك أباه وابنه ثم مات المولي المعتق
فقال إبراهيم النخعي والأوزاعي وعبيد الله بن الحسن واحمد وإسحاق وأبو يوسف القاضي لأبيه سدس الولاء وما بقي فلابنه فإنهما في القرب من الميت سواء فهما فيه كهما في مال الميت
وقال عطاء والزهري والحسن والشعبي والحكم وحماد الميراث الذي يخلفه المعتق كله للابن دون الأب لان الابن أقرب العصبات
وبه قال مالك والثوري وقتادة والزهري وأبو قتادة والشعبي ومحمد بن الحسن
وهاتان المسالتان أصلان في بابهما
1496 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم انه اخبره أبوه انه كان جالسا عند أبان بن عثمان فاختصم إليه نفر من جهينة ونفر من بني الحارث بن الخزرج وكانت امرأة من جهينة عند رجل من بني الحارث بن الخزرج يقال له إبراهيم بن كليب فماتت المراة وتركت مالا وموالي فورثها ابنها وزوجها ثم مات ابنها فقال ورثته لنا ولاء الموالي قد كان ابنها احرزه فقال الجهنيون ليس كذلك انما هم موالي صاحبتنا فإذا مات ولدها فلنا ولاؤهم ونحن نرثهم فقضى أبان بن عثمان للجهنيين بولاء الموالي]
قال أبو عمر هذا أيضا من باب الولاء لكبير
وقد اختلف أهل العلم في المراة تعتق عبدا لها ثم تموت وتخلف ولدا ذكورا وإناثا وعصبة لها ثم يموت مولاها الذي أعتقته
فقالت طائفة من أهل العلم مال المولي المتوفى لعصبتها دون ولدها لأنهم الذين يعقلون عنها [وعن مواليها فكما يعقلون عنها] فكذلك يرثون مواليها
365
واحتجوا بما روي عن علي - رضي الله عنه - حين خاصم الزبير في موالي صفية أمه
وروى علي انه أحق بولائهم من الزبير لأنه عصبتها والزبير ابنها
وخالف في ذلك عليا عمر فقضى بولاء موالي صفية بنت عبد المطلب لابنها الزبير - رضي الله عنهم أجمعين وقضى بالعقل على عصبتها
ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن حماد عن إبراهيم ان عليا والزبير اختصما في موالي صفية فقضى عمر بالعقل على علي والميراث للزبير
وقال بقول عمر في ذلك الشعبي والزهري وقتادة
واليه ذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد واحمد وإسحاق
ثم اختلفوا في ولد المراة إذا ماتوا وانقرضوا هل يرث ذلك عنهم عصبتهم أو ينصرف الولاء إلى عصبة المراة
كان مالك وسفيان يقولان بمثل ما قضى به أبان بن عثمان في قصة الجهنية لعصبتها الجهنين
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
وبه قال احمد وإسحاق
وقال الآخرون الولاء قد وجب لابن المراة فلا يعود إلى عصبتها ابدا ويرثه عن الابن بنوه دون عصبة المراة لان الولاء قد احرزه الابن ووجب له فلا ينتقل عنه الا إلى من يرثه من ولد وعصبته
روي هذا عن بن مسعود
وقالت به طائفة ورووا فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما احرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان) (1)
وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - مثل ذلك أيضا
وقد روي عن الشعبي قول رابع في المراة تموت وتترك موالي ان الميراث منهم لولدها والعقل عليهم
وبه كان يقضي بن أبي ليلى
366
قال أبو عمر هذا شذوذ في ايجابه العقل عل الابن وولده عصبته والجمهور على أن العقل على عصبتها وبالله التوفيق
((13 - باب ميراث السائبة وولاء من اعتق اليهودي والنصراني))
1497 - مالك انه سال بن شهاب عن السائبة قال يوالي من شاء فان مات ولم يوال أحدا فميراثه للمسلمين وعقله عليهم
[قال مالك ان أحسن ما سمع في السائبة انه لا يوالي أحدا وان ميراثه للمسلمين وعقله عليهم]
قال أبو عمر قوله (أحسن ما سمعت) انه يدلك على ما سمع في ميراث السائبة غير ما استحسنه وذهب إليه
والذي ذهب إليه في السائبة قد روي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز الا ان ما روي عن عمر بن الخطاب ليس بالبين لأنه انما روي عنه السائبة ليومها
فمن ذهب مذهب مالك قال أي لا تعود في شيء منها
واما عمر بن عبد العزيز فقال ميراثه للمسلمين وعقله عليهم
وكان بن شهاب ويحيى بن سعيد وطائفة يرون للسائبة ان يوالي من شاء فان والى من شاء أحدا كان ميراثه له وعقله عليه فإن لم يوال أحدا كان ميراثه وعقله على جماعة المسلمين
وبه قال الأوزاعي والليث
وكان بن مسعود يقول السائبة يضع ماله حيث شاء
رواه الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي عمرو الشيباني عن بن مسعود
وكان الشعبي وإبراهيم يقولان لا باس ببيع ولاء السائبة وهبته
وقد كره بن عمر ان يأخد مال مولى اعتقه سائبة وامر به فاشتري به رقاب وأعتقها
والنظر يشهد له لو لم تر المال له ما فضل ذلك فيه
367
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما واحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ولاء السائبة لمعتقه لا لاحد غيره وليس له ان يوالي أحدا
وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم (انما الولاء لمن اعتق) ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته (1)
وقال صلى الله عليه وسلم (الولاء كالنسب لا يباع ولا يوهب)
وروى أبو قيس - عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إني أعتقت غلاما لي سائبة فمات وترك مالا فقال عبد الله ان أهل الاسلام لا يسيبون انما كانت تسيب الجاهلية أنت وارثة وولي نعمته (2)
وروى يحيى بن يحيى عن عمر بن نافع قال لست اخذ بقول مالك فيمن اعتق سائبة وأقول ولاؤه له ولا سائبة عندنا اليوم في الاسلام
وممن قال بهذا في ميراث السائبة الحسن وبن سيرين والشعبي والنخعي وراشد بن سعد وضمرة بن حبيب
قال مالك (3) في اليهودي والنصراني يسلم عبد أحدهما فيعتقه قبل ان يباع عليه ان ولاء العبد المعتق للمسلمين وان اسلم اليهودي أو النصراني بعد ذلك لم يرجع إليه
الولاء ابدا قال ولكن إذا اعتق اليهودي أو النصراني عبدا على دينهما ثم اسلم المعتق قبل ان يسلم اليهودي أو النصراني الذي اعتقه ثم اسلم الذي اعتقه رجع إليه الولاء لأنه قد كان ثبت له الولاء يوم اعتقه
قال مالك (4) وان كان لليهودي أو النصراني ولد مسلم ورث موالي أبيه اليهودي أو النصراني إذا اسلم المولى المعتق قبل ان يسلم الذي اعتقه وان كان المعتق حين اعتق مسلما لم يكن لولد النصراني أو اليهودي أو المسلمين من ولاء العبد المسلم شيء لأنه ليس لليهودي ولا للنصراني ولاء فولاء العبد المسلم لجماعة المسلمين
قال أبو عمر على ما رواه مالك وذهب إليه في النصراني يعتق عبده إذا اسلم قبل ان يباع عليه جماعة أصحابه
368
واما جمهور العلماء فمذهبهم ان ولاء العبد المسلم إذا اعتقه النصراني لسيده النصراني لان الولاء نسب من الانساب لا يباع ولا يوهب ولكنه ليس يرثه ان مات لاختلاف الدينين كما لا يرث الأب ابنه ولا الابن أباه لو اسلم أحدهما والاخر كافر لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) (1) فان اسلم الاخر بعد اسلام الأول منهما ورثه فكذلك الولاء إذا اعتق كافر مسلما لم يرثه الا ان يسلم فان اسلم ورثه
هذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه والثوري واحمد وإسحاق وأبي ثور وبه أقول
وقد اجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ جائز عليه
واجمعوا انه إذا اسلم عبد الكافر فبيع عليه ان ثمنه يدفع إليه فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له الا ان ملكه غير مستقر لوجوب بيعه عليه فذلك والله أعلم لقول الله عز وجل * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * [النساء 141] يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا لأنه إذا فطن لملكه له بيع عليه
وقد اختلف العلماء في شراء الكافر العبد المسلم على قولين
أحدهما ان البيع مفسوخ
والثاني ان البيع صحيح ويباع على المشتري ويأتي في كتاب البيوع - إن شاء الله تعالى
ولم يختلفوا في الذمي يعتق الذمي ثم يسلم أحدهما قبل صاحبه ثم يسلم الاخر انه يرث منهما السيد مولاه الذي أنعم بالعتق عليه فإن لم يسلم المعتق وكان له ولد مسلم ورثه الابن المسلم وعد أبوه كالميت في الميراث ما دام كافرا كما رسمه مالك - رحمه الله
ولو أن الحربي يعتق عبده على دينه ثم يخرجان الينا مسلمين فان مالكا قال هو مولاه يرثه
369
وهو قياس قول الشافعي واستحسنه أبو يوسف
وقال أبو حنيفة إذا اعتق الحربي عبده في دار الحرب ثم خرجا الينا مسلمين فللعبد ان يوالي من شاء ولا يكون ولاؤه للمعتق
وقد قال بن القاسم إذا خرج العبد المعتق الينا مسلما ثم خرج سيده مسلما عاد إليه الولاء
وقال اشهب لا يعود إليه الولاء ابدا لأنه لما خرج مسلما قبل سيده ثبت ولاؤه للمسلمين
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اعتق عبيدا خرجوا إليه من الطائف مسلمين ثم اسلم سادتهم فلم يرجع إليهم ولاؤهم (1)
وهؤلاء لم يكن واحد منهم اعتق قبل الخروج وانما ملكوا أنفسهم بخروجهم كما كان يملكهم المسلمون لو سبوهم واخذوهم عنوة فليس بخروجهم فليس لهم في هذا الحديث حجة والله أعلم وهو المستعان
370
((39 كتاب المكاتب (1)))
((1 - باب القضاء في المكاتب))
1498 - مالك عن نافع ان عبد الله بن عمر كان يقول المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء
1499 - مالك انه بلغه ان عروة بن الزبير وسليمان بن يسار كانا يقولان المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء
قال مالك وهو رأيي
قال أبو عمر على هذا رأي جماعة فقهاء الأمصار ان المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء الا ان بعضهم يقول لا يكون حرا بأداء كتابته الا ان يكون في عقد كتابته فإذا أديت ذلك فأنت حر يشترط ذلك فيه على نفسه في عقد الكتابة
هذا قول الشافعي
وعند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما لا يضر المكاتب ان لا يقول له مولاه في حين كتابته إياه إذا أديت إلي جميع كتابتك فأنت حر ويعتق إذا أدى ذلك إليه
قال أبو عمر قولهما لكان عبدا ما بقي عليه من كتابته شيء دليل على أنه حر إذا لم يبق عليه شيء
371
فاما السلف قبلهم فقد روي عنهم في ذلك اختلاف كثير منه
ان المكاتب ان اعقدت له الكتابة فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق ابدا لأنه قد ابتاع نفسه من سيده بثمن معلوم إلى اجل معلوم
وهذا قول تردده السنة الثابتة في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها ان بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا (1)
هكذا رواه الليث بن سعد عن بن شهاب عن عروة عن عائشة ان بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا
ورواه مالك عن بن شهاب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة انها قالت (جاءتني بريرة فقالت اني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت)
وفي حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت (ان أحب أهلك ان أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت)
فهذا يدل ويبين ان المكاتب عبد جائز بيعه للعتاقة إذا عقدت كتابته ولم يؤد منها شيئا وانه لو كان يعقد كتابته حرا غريما من الغرماء لم يجز بيعه عند أكثر العلماء
وسنذكر اختلافهم في جواز بيع المكاتب للعتق قبل ان يعجز وبعد ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى
فهذا وجه واحد من وجوه اختلاف السلف في حكم المكاتب وقول من أقوالهم
وقول ثان انه إذا عجز يعتق منه بقدر ما أدى [ويورث ويرث ويؤدي بقدر ما أدى من الكتابة]
روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن علي - رضي الله عنه
وهو حديث يرويه يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد) (2)
هكذا رواه مسندا متصلا عن يحيى بن أبي كثير هشام الدستوائي وعمر بن راشد ومعاوية بن سلام وغيرهم
372
قال أبو عمر حدثناه سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني إسماعيل بن علية عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة ان مكاتبا قتل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدى بعض كتابته فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يؤدي بما أدى من كتابته دية حر وما بقي دية مملوك) (1) لم يذكر فيه بن عباس]
واما الرواية بذلك عن علي - رضي الله عنه - فذكر عبد الرزاق ووكيع عن سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن الشعبي عن علي قال يعتق المكاتب بقدر ما أدى
[ومعمر عن قتادة ان عليا قال في المكاتب يورث بقدر ما أدى ويجلد الحد بقدر ما أدى ويعتق منه بقدر ما أدى وتكون ديته بقدر ما أدى (2)
وأيوب عن عكرمة ان عليا قال المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى
فان قيل إن قتادة عن خلاس عن علي والحجاج بن أرطأة عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي قال إذا عجز المكاتب يستسعى حولين واستوفى به حولين فان دخل في السنة الثانية ولم يؤد نجومه رد في الرق قبل هذا
يحتمل ان يكون المكاتب لم يكن أدى من نجومه شيئا فاستوفى به ما ذكر فلما لم يؤد شيئا من نجومه رد في الرق
ويشهد لهذا حديث بن شهاب عن عروة عن عائشة ان بريرة جاءت تستعين عائشة في كتابتها ولم تكن قضت من مكاتبتها شيئا]
وقول ثالث انه إذا أدى شطر كتابته فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق ابدا
روى معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم بن عبد الرحمن عن جابر بن سمرة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال إذا أدى المكاتب الشطر فلا رق عليه
373
وقال بن جريج سمعت بن أبي مليكة يقول كتب عبد الملك بن مروان إذا قضى المكاتب شطر كتابته فهو غريم من الغرماء
وروى وكيع عن المسعودي عن جابر عن القاسم قال قال عمر [إذا أدى المكاتب النصف فلا رد عليه في الرق
وقول رابع إذا أدى الثلث فهو غريم
ذكر عبد الرزاق ووكيع عن الشعبي عن جابر ان بن مسعود وشريحا كانا يقولان إذا أدى الثلث فهو غريم
والثوري عن طارق عن الشعبي قال قال بن مسعود إذا أدى الثلث فهو غريم
وقول خامس إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم
قال بن جريج قلت لعطاء ما الذي إذا بلغه المكاتب من القضاء في كتابته ثم عجز لم يعد عبدا قال ما اعلمه ولا سمعت فيه شيئا قلت لعطاء فما ترى ان بقي الثلث قال فقلت الربع قال نعم أرى اذن ان لا يعود]
وقول سادس ان المكاتب إذا أدى قيمته فهو غريم
ذكر عبد الرزاق (1) عن بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ان شريحا كان يقول إذا أدى المكاتب قيمته فهو غريم
قال الشعبي وكان يقول فيه بقول بن مسعود
وعن الثوري عن جابر عن الشعبي ان بن مسعود وشريحا كانا يقولان إذا أدى الثلث فهو غريم
قال الثوري واما مغيرة فأخبرني عن إبراهيم ان بن مسعود قال إذا أدى ثمنه فهو غريم
قال أبو عمر اختلف عنه بن مسعود فيه من رواية الشعبي ورواية إبراهيم أيضا
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني حفص عن الأعمش عن إبراهيم وأشعث وعن الشعبي قالا قال عبد الله إذا أدى [المكاتب ثلث كتابته فهو غريم
374
وقد تقدم من رواية المغيرة عن إبراهيم ان بن مسعود قال إذا أدى] ثمنه فهو غريم
وقول سابع ان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وما بقي عليه شيء
روي ذلك عن بن عمر من وجوه وعن زيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة لم يختلف عنهم في ذلك
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرنا الثوري قال أخبرنا طارق بن عبد الرحمن عن الشعبي قال وقال زيد بن ثابت المكاتب عبد بقي عليه درهم
ووكيع عن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي نجيح عن مجاهد جميعا عن زيد بن ثابت مثله
وعن معمر عن عبد الكريم الجزري عن ميمون بن مهران عن عائشة انها قالت لمكاتب من أهل الجزيرة يقال له حمران ادخل علي ولو بقي عليك عشرة دراهم
وعن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن سالم مولى دوس - قال قالت لي عائشة أنت عبد ما بقي عليك من كتابتك شيء (2)
وعن معمر عن قتادة ان عائشة قالت هو عبد ما بقي عليه درهم
[وعن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن مسلم بن جندب عن بن عمر أنه قال عبد ما بقي عليه درهم]
وهو قول سعيد بن المسيب وجمهور فقهاء المدينة وقول الشعبي وإبراهيم وبن شهاب الزهري [والحكم] والحارث العكلي وقتادة وعمر بن عبد العزيز
وبه قال جماعة أهل الفتوى بالامصار مالك وعبد العزيز والليث والثوري والأوزاعي [وأبو حنيفة] والشافعي [وأصحابه] واحمد وإسحاق
قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني هارون بن عبد الله قال حدثني أبو بدر قال حدثني أبو عتبة قال حدثني سليمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم
375
قال أبو عمر أبو عتبة هو عندي هو عندي إسماعيل بن عياش [وسليمان هو] سليمان بن موسى الأشدق والله أعلم
واما أبو بدر هو شجاع بن الوليد السكوني
قال أبو داود وحدثني محمد بن المثنى قال حدثني عبد الصمد قال حدثني همام قال حدثني عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيما عبد كاتب على مائة أوقية فاداها الا عشر أواق فهو عبد) (1)
[(وأيما عبد كاتب على مائة دينار فاداها الا عشرة دنانير فهو عبد)]
وهكذا رواه حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهو عندي [في معنى قوله هو] ما بقي عليه شيء كما قال عز وجل " ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يوده إليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يوده إليك " [آل عمران 75] أراد القليل بذكر الدينار بعد ذكره القنطار وأراد الكثير بذكره القنطار ولم يرد الدينار بعينه خاصة ولا القنطار بعينه خاصة
ومثل هذا ما روي منقطعا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من كاتب مكاتبا على مائة فقضاها كلها الا عشرة دراهم فهو عبد أو على مائة أوقية فقضاها كلها الا أوقية فهو عبد)
رواه بن جريج عن عطاء الخرساني عن عبد الله بن عمرو بن العاص
واما ما رواه عكرمة [بن عمار] عن يحيى بن أبي كثير عن بن عباس قال إذا بقي على المكاتب خمس أواق أو خمس ذود أو خمسة أوسق فهو تحريم فخطا لا يعرج عليه
وانما الحديث ليحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن بن عباس مرفوعا يعتق من المكاتب بقدر ما أدى على ما قد ذكرناه عنه
وعكرمة بن عمار لا يحتج به وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ان المكاتب عبد ما بقي عليه شيء خلاف ما تقدم عنه
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو خالد الأحمر عن بن أبي عروبة عن
376
قتادة عن معبد الجهني عن عمر قال (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم)
وهذا الإسناد خير من الاسناد عنه بان المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه
وروي عن عثمان - رضي الله عنه أيضا
ذكره أبو بكر قال حدثني يزيد بن هارون عن عباد بن منصور عن حماد بن إبراهيم عن عثمان قال هو عبد ما بقي عليه درهم
وهذا أولى ما قيل به في هذا الباب والله الموفق للصواب
قال مالك (1) فان هلك المكاتب وترك مالا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته
قال أبو عمر في هذه المسالة للعلماء ثلاثة أقوال
أحدها ما قاله مالك لأنه ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته حكمهم كحكمه وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يتخلفوا مالا ولا يعتقون [الا بعتقه] ولو أدى عنهم ما رجع عليهم بذلك لأنهم يعتقون عليه فهو أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله
والقول الثاني انه يؤدى عنه من ماله جميع كتابته [وجعل كأنه مات حرا] ويرثه جميع ولده وسواء في ذلك من كان حرا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في
كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنه كتابته
روي هذا القول عن علي وبن مسعود - رضي الله عنهما ومن التابعين عن عطاء والحسن وطاوس وإبراهيم
وبه قال فقهاء الكوفة [الثوري] وأبو حنيفة وأصحابه والحسن [بن صالح] بن حي
واليه ذهب إسحاق
والقول الثالث ان المكاتب إذا مات قبل ان يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وكل ما يخلفه من المال لسيده فلا يرثه أحد من أولاده لا الأحرار ولا الذين ولدوا معه في كتابته لأنه لما مات قبل ان يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده ولا يصح عتقه بعد موته لأنه محال ان يعتق عبد بعد موته وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته ان يسعوا في باقي الكتابة ويسقط عنهم منها
377
مقدار حصته فان أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعا لأبيهم وان لم يؤدوا ذلك رقوا
هذا قول الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل
وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة
قال أبو عمر على قول مالك يموت المكاتب في هذه المسألة مكاتبا على قول الكوفي يموت حرا وعلى قول الشافعي يموت عبدا
1500 - مالك عن حميد بن قيس المكي ان مكاتبا كان لابن المتوكل هلك بمكة وترك عليه بقية من كتابته وديونا للناس وترك ابنته فأشكل على عامل مكة القضاء فيه فكتب إلى عبد الملك بن مروان يسأله عن ذلك فكتب إليه عبد الملك ان ابدأ بديون الناس ثم اقض ما بقي من كتابته ثم اقسم ما بقي من ماله بين ابنته ومولاه
قال أبو عمر قد جهل بعض من الف في الحجة لمالك من أصحابنا أو تجاهل فقال ان مالكا يقول بهذا الخبر الذي ذكره عن عبد الملك بن مروان وان ابنة هذا المكاتب كانت معه في كتابته ولهذا ورثها منه فإن لم يكن هذا جهلا فهو قبيح من التجاهل لان الخبر محفوظ من وجوه ان ابنته كانت حرة
ومالك [لا] يقول بذلك ولا يأخذ بحديث عبد الملك هذا
وقد احتج محمد بن الحسن بحديث مالك هذا عن حميد بن قيس على من قال بقول مالك في أن المكاتب لا يرثه ورثته الأحرار إذا مات قبل العتق وانما يرثه من معه من ورثته في كتابته
قال حدثني مالك عن حميد بن قيس ان مكاتبا كان لابن المتوكل فذكره
وقال [بن وهب] كيف ترك أهل المدينة ما روى مالك فقيه أهل المدينة في زمانه وهو عندنا الصواب
قال أبو عمر ذكر عبد الرزاق عن بن جريج قال سمعت بن أبي مليكة يذكر ان عبادا مولى [بن] المتوكل [مات] مكاتبا وقد قضى النصف من كتابته وترك مالا كثيرا وابنة له حرة كانت أمها حرة فكتب عبد الملك ان يقضي ما بقي من كتابته وما بقي من ماله بين ابنته ومواليه
378
قال بن جريج وقال لي عمرو بن دينار ما أراه كله الا لابنته
قال أبو عمر ذهب عمرو بن دينار في ذلك إلى الرد على الابنة لان المولى لا يرث مع البنين ولا مع البنات ولا مع أحد من العصبات عند أهل الرد من [أهل] الفرائض
وهذا القضاء الذي قضى به عبد الملك وقد تقدمه إليه معاوية
ذكر معمر عن قتادة عن معبد الجهني قال سألني عبد الملك بن مروان عن المكاتب يموت وله ولد أحرار وترك من المال أكثر مما بقي عليه فقلت له فيها قضى عمر [ومعاوية] بقضاءين وعمر خير من معاوية وقضاء معاوية أحب إلي من قضاء عمر قال ولم قال قلت لان داود كان خيرا من سليمان وفهمها سليمان قضى عمر ان ماله كله لسيده
وقضى معاوية ان سيده يعطى بقية كتابته ثم ما بقي فهو لولده الأحرار
ومعمر عن إسماعيل أبي المقدام انه سمع عكرمة يحدث ان معاوية قضى بذلك
وروى الثوري عن طارق عن الشعبي ان زيد بن ثابت قال المال كله لسيده
قال مالك (1) الامر عندنا انه ليس على سيد العبد ان يكاتبه إذا سأله ذلك ولم اسمع ان أحدا من الأئمة اكره رجلا على أن يكاتب عبده وقد سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك فقيل له ان الله تبارك وتعالى يقول * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] يتلو هاتين الآيتين * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [المائدة 2] * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * [الجمعة 10]
قال مالك وانما ذلك امر اذن الله عز وجل فيه للناس وليس بواجب عليهم
قال أبو عمر اختلف العلماء في وجوب الكتابة على السيد لعبد إذا ابتاعها منه وفيه خير
واختلفوا أيضا في قوله عز وجل * (إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33]
فقالت طائفة الخير المال والغنى والأداء
وقال آخرون الصلاح والدين
379
وقال آخرون الخير ها هنا حرفة يقوى بها على الاكتساب
وكرهوا ان يكاتبوا من لا حرفة له فيبعثه [عدم حرفته] على السؤال
[وقال آخرون الدين والأمانة والقوة على الأداء]
وقال آخرون الصدق والقوة على طلب الرزق
قاله مجاهد وعطاء
قال عطاء هو مثل قوله تعالى * (وإنه لحب الخير لشديد) * [العاديات 8] و * (إن ترك خيرا الوصية) * [البقرة 180]
قال بن جريج قلت لعطاء أرأيت ان لم اعلم عنده مالا وهو رجل صدق قال ما احسب خيرا] الا المال
وقاله مجاهد
وقال عمرو بن دينار هو كل ذلك المال والصلاح
وقال طاوس المال والأمانة
وقال الحسن واخوه سعيد والضحاك وأبو رزين وزيد بن اسلم وعبد الكريم الخير المال
وقال سفيان الدين والأمانة
[وقال الشافعي إذا جمع القوة على الاكتساب والأمانة]
وروى معمر عن أيوب عن بن سيرين عن عبيدة في قوله تعالى * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] قال إن علمتم عندهم أمانة
والثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال صدقا ووفاء
قال أبو عمر من لم يقل ان الخير هنا المال انكر ان يقال * (إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] مالا
قال ويقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ولا يقال علمت فيه المال وانما يقال علمت عنده [المال]
ومن قال إن مال المكاتب لسيده إذا عقدت كتابته فلا يكون الخير عنده الا القوة على الكسب والتحرف
ومن كره ان يكاتب من لا حرفة له ولا قوة على الاكتساب احتج بما رواه يحيى القطان عن ثور بن يزيد عن يونس بن سيف عن حكيم بن حزام قال
380
كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد اما بعد فإنه من قبلك من المسلمين ان يكاتبوا ارقاءهم على مسالة الناس
وسفيان عن عبد الكريم الجزري عن نافع عن بن عمر انه كان يكره ان يكاتب غلامه إذا لم يكن له حرفة ويقول تأمروني ان اكل أوساخ الناس
وروى وكيع عن سفيان عن أبي جعفر الفراء عن بن أبي ليلى الكندي ان سلمان أراد ان يكاتب عبده فقال من اين قال اسال الناس قال أتريد ان تطعمني أوساخ الناس وأبى ان يكاتبه
قال أبو عمر هذا تنزه واختيار والله أعلم وقد كوتبت بريرة ولا حرفة لها وبدأت بسؤال الناس من حين كوتبت وتذبذب الناس إلى عون المكاتب لما فيه من عتق الرقاب
وروى الثوري عن أبي جعفر الفراء عن جعفر بن أبي سروان عن أبي التياح مؤذن علي قال قلت لعلي اكاتب وليس لي مال قال نعم ثم حصن الناس علي فأعطيت ما فضل عن كتابتي فأتيت عليا فقال اجعلها في الرقاب
واما اختلاف أهل العلم في معنى قوله تعالى * (فكاتبوهم) * [النور 33] فهل هي على الوجوب أو على الندب والارشاد فان مسروق بن الأجدع وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر كانوا يقولون واجب على كل من سأله مملوكه وعلم عنده [خيرا] ان يعقد له كتابته مما يتراضيان به
واحتجوا بأن عمر بن الخطاب أجبر انس بن مالك على كتابة لعبده سيرين أبي محمد بن سيرين بالدرة
وروى قتادة وموسى بن انس بن مالك ان سيرين والد محمد بن سيرين سأله الكتابة [وكان كثير المال] فأبى فانطلق إلى عمر فقال عمر لانس كاتبه فأبى فضربه بالدرة وتلا * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] فكاتبه انس
وقد قيل إن عمر رفع الدرة على انس لأنه أبى ان يأتيه شيئا [من كتابته] لا على عقد الكتابة أولا
وقال بن جريج قلت لعطاء واجب على إذا علمت له مالا ان اكاتبه فقال ما أراه الا واجبا وقالها عمرو بن دينار
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وهو قول الحسن
381
والشعبي ليس على السيد ان يكاتب عبده إذا سأله ذلك وان كان ذا مال الا ان يريد السيد
قال أبو عمر قد ينعقد الاجماع بأنه لو سأله ان يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك وكذلك مكاتبته لأنه [لا] يبيع له من نفسه وكذلك لو قال له اعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك باجماع فكذلك الكتابة لأنها معاوضة لا تصح الا عن تراض
وقوله عز وجل * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] مثل قوله * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * [النور 32] وذلك كله ندب وارشاد واذن كما قال مالك
وقاله زيد بن اسلم وقاله إسحاق إذا اجتمع في العبد الأمانة والمال وسأل سيده ان يكاتبه لم يسعه الا مكاتبته ولا يجبره الحاكم على ذلك وأخشى ان يأثم ان لم يفعل
وقد انكر جماعة من أهل العلم على من جعل قوله عز وجل * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * [النور 33] مثل قوله * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [المائدة 2] وقوله * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * [الجمعة 10]
وهذان الأمران ورد كل واحد منهما بعد حظر ومنع فكان معناهما الإباحة والخروج من ذلك الحظر لأنه عز وجل قال * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) * [المائدة 95] وقال تعالى * (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) * [المائدة 96] فمنعهم من الصيد ما داموا محرمين ثم قال لهم * (وإذا حللتم فاصطادوا) * [المائدة 2] فعلم أن معنى هذا الامر الإباحة لما حظر عليهم من الصيد ومنعوا منه لا ايجاب الاصطياد وكذلك منعوا من التصرف والاشتغال بكل ما يمنع من السعي إلى الجمعة إذا نودي لها وأمروا بالسعي لها ثم قال لهم * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * [الجمعة 10]
فعلم أهل اللسان ان معنى الامر بالانتشار في الأرض إباحة لمن شاء
واجمع على ذلك أهل العلم وفهموه من معنى كتاب ربهم فقالوا لا بأس بترك الصيد لمن حل من احرامه ولا بأس بالقعود في المسجد الجامع لمن قضى صلاة الجمعة
واما الامر بالكتابة لمن ابتغاها من العبيد فلم يتقدم نهي من الله عز وجل بأن لا يكاتبوا فيكون الامر إباحة بالصيد والانتشار في الأرض
382
وقد زعم بعض أصحابنا ان قول الله تعالى * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * [النساء 29] تقتضي النهي عن الكتابة لان مال العبد لسيده أخذه منه كما له ان يؤاجره يقال فلو لم يؤذنوا لنا في الكتابة لكنا ممتنعين منها بالآية التي ذكرنا
قال ولولا قوله عز وجل * (فكاتبوهم) * [النور 33] ما جازت الكتابة
قال مالك (1) وسمعت بعض أهل العلم يقول في قول الله تبارك وتعالى " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] ان ذلك ان يكاتب الرجل غلامة ثم يضع عنه من اخر كتابته شيئا مسمى
قال مالك فهذا الذي سمعت من أهل العلم وأدركت عمل الناس على ذلك عندنا
قال مالك وقد بلغني ان عبد الله بن عمر كاتب غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم ثم وضع عنه من اخر كتابته خمسة آلاف درهم
قال أبو عمر قد اختلف العلماء أيضا في معنى قوله تعالى " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] فقال بعضهم ذلك على الايجاب على السيد وقال آخرون ذلك على الندب
هذا قول مالك وأصحابه
وقول أبي حنيفة وأصحابه قالوا هذا على الندب والحض على الخير الا انه عند مالك أصل وهو مع ذلك لا يقضي به ولا يجب عليه
وقال آخرون لم يرد بذلك السيد وانما أريد بذلك جماعة الناس ندبوا إلى عون المكاتبين فأما أهل الظاهر فالكتابة عندهم إذا سألها العبد واجبة والايتاء لهم من السيد واجب يضع عنه من كتابته ما شاء
وقال الشافعي واجب عليه ان يضع عنه من كتابته ما شاء ويجبره الحاكم على ذلك [ولم يجد في ذلك شيئا وهو لا يرى الكتابة لغيره إذا سأله إياها واجبة لقيام الدليل عنده على ذلك] ولم يكن الايتاء عند ذلك لأنه امر لا يعترضه أصل ورأى ان عطف الواجب على الندب في القران ولسان العرب كما قال الله تعالى * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) * [النحل 90] وما كان مثل هذا
وقال مالك يندب السيد إلى أن يضع عنه من الكتابة شيئا في اخر كتابته من
383
غير أن يجبر على ذلك ولم يحد أيضا في ذلك حدا واستحب ان يكون ذلك ربع الكتاب وكذلك استحب ذلك الشافعي الا انه يوجب الايتاء ومالك يندب إليه
وقول مالك أصح لان الواجب لا تكون الا معلومة ولأنه قد اجمعوا ان الكتابة لا تكون الا [على] شيء معلوم فلو ان الوضع منها يكون واجبا مجهولا لآل ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة
واما استحبابهم ان يكون الوضع ربع الكتابة فإنه روي ذلك عن علي رضي الله عنه ورواه بعض الرواة مرفوعا إلى النبي - والصحيح انه موقوف على علي من قوله
ومن المرفوع فيه ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قال حدثني محمد بن الربيع قال حدثني إبراهيم بن غالب قال حدثني محمد بن الربيع بن سليمان الأزدي قال حدثني يوسف بن سعيد بن مسلم قال حدثني حجاج عن بن جريج عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه عن النبي - " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] قال (ربع الكتابة) (1) وبه عن بن جريج وعطاء بن السائب عن حبيب بن السائب عن عاصم بن ضمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
وروى عبد الرزاق عن بن جريج الحديثين جميعا هكذا مرفوعين
وقال بن جريج واخبرني غير واحد عن عطاء بن السائب انه كان يحدث بهذا الحديث لا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر عطاء بن السائب تغير في اخر عمره فيما ذكر أهل العلم بالنقل فأتى منه مثل هذا وسماع بن جريج منه احرى
وقد رواه عنهم أهل العلم بالنقل والجماعة مرفوعا
فمن رواه عن عطاء عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه من قوله سفيان وشعبة ومعمر وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والمسعودي وبن علية والمحاربي ومحمد
بن فضل عن عطاء عن أبي عبد الرحمن عن علي موقوفا
وكذلك رواه الثوري أيضا وقيس بن الربيع وليث بن أبي سلمة عن عبد الأعلى بن أبي عبد الرحمن قال شهدت عليا رضي الله عنه كاتب عبدا له على أربعة آلاف فحط عنه ألفا في اخر نجومه قال وسمعت عليا يقول " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] الربع مما تكاتبوهم عليه
384
وروى يزيد بن هارون عن عبد الملك بن سليمان عن عبد الملك بن أعين عن أبي عبد الرحمن السلمي كاتب غلاما له على أربعة آلاف فحط عنه ألفا وقال لولا أن عليا فعل ذلك ما فعلته
وقال مجاهد يترك له طائفة من كتابته
وكان بن عمر يكره ان يضع عنه في أول نجومه مخافة ان يعجز
وروي عن بن عباس يوضع عنه شيء [ما كان]
وقال أحمد بن حنبل يعطى مما كوتب عليه الربع لقول الله تعالى " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33]
وروي عن أبي اليسر كعب بن عمرو انه وضع عن مكاتبه السدس
وعن أبي أسيد الساعدي مثله
وقال قتادة يوضع عنه العشر
قال أبو عمر تأول من ذهب هذا المذهب في أن على السيد ان يحط عن [مكاتبه من] مكاتبته في اخر نجومه أو في سائرها أو يعطيه من عند نفسه مما صار إليه منه من رأى ذلك ندبا ومن راه واجبا قول الله تعالى " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] منهم
واما الذين ذهبوا إلى أن ذلك لم يخاطب به سادات المكاتبين وانما خوطب به سائر الناس في عون المكاتبين فمنهم بريدة الأسلمي
رواه الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه في قوله تعالى " وءاتوهم من مال الله الذي آتاكم " [النور 33] قال حث الناس على أن يعينوا المكاتب
وعن مجاهد مثله
وعن الحسن [قال] حضوا على أن يعطوا المكاتب والمولى منهم
عن إبراهيم مسألة وقال البطي انما أعين به الناس ليتصدقوا على المكاتبين عن زيد بن اسلم امر بذلك الولاة ليعطوهم من الزكاة
قال مالك (1) الامر عندنا ان المكاتب إذا كاتبه سيده تبعه ماله ولم يتبعه ولده الا ان يشترطهم في كتابته
385
قال أبو عمر انما قال ذلك قياسا على العتق لان مذهبه ومذهب جماعة أهل المدينة ان العبد إذا عتق تبعه ماله وفي الكتابة عقد من الحرية
وسنذكر وجوه الأقوال في ذلك في كتاب العتق إن شاء الله عز وجل
وممن قال إن للمكاتب ماله إذا عقدت كتابته عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وعمرو بن دينار وسليمان بن موسى وبن أبي ليلى
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن صالح كل ما بيد العبد إذا كوتب من المال فهو لسيده
وقال الأوزاعي ان لم يشترطه السيد فهو للمكاتب وان استثناه السيد فهو له
واما قوله ولم يتبعه ولده فان المعنى فيه ان ولده ليسوا بمال بيده ولا ملك له وانما هم عبيد سيده فلا يدخلون في الكتابة [الا بالشرط
وهذا لا اعلم فيه خلافا ان أولاده عبيد السيد ليسوا تبعا له عند عقد كتابته انما يكون تبعا له إذا تسرى وهو مكاتب ثم ولد له من سريته وهؤلاء يدخلون معه بلا شرط ولو ولدوا له من سريته قبل الكتابة لم يدخلوا في كتابته الا ان يدخلهم بالشرط مع نفسه في كتابته
فهذا مذهب جمهور العلماء من أهل الحجاز والعراق
ذكر علي بن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم في رجل كاتب غلامه ثم أطلقه بعد الكتابة على سرية أو ولد فقال إبراهيم السرية ما كانت عليه والولد
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء أنه قال له رجل كاتب عبده فكتمه ماله - رقيقا أو عينا أو غير ذلك - وولده - فقال ماله كله للعبد وولده لسيده
وقالها عمرو بن دينار وسليمان بن موسى قلت لعطاء فلم تختلفان قال من اجل الولد ليس مثل ماله
وروى حماد بن سلمة عن حماد الكوفي وداود بن أبي هند وعثمان البتي وحميد قالوا إذا اعتق الرجل عبده وله مال أو ولد فماله له وولده مملوكون
وروى الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول في رجل كاتب عبدا وله أم ولد لم يستثنها قال أم ولده له
386
قال أبو عمر كل من يجيز له التسري فالسرية عنده مال من ماله
وقد روى معمر عن قتادة عن الحسن في رجل كاتب عبدا له وله ولد من أمته ولم يعلم بهم السيد وأم الولد في كتابته قال انما كاتب على أهله وماله وولده من ماله ولا نعلم ماله غيره والله أعلم
قال مالك (1) في المكاتب يكاتبه سيده وله جارية بها حبل منه لم يعلم به هو ولا سيده يوم كتابته فإنه لا يتبعه ذلك الولد لأنه لم يكن دخل في كتابته وهو لسيده فاما
الجارية فإنها للمكاتب لأنها من ماله
قال أبو عمر هذا على ما قدمنا من أصله ان ولد المكاتب لا يدخل في الكتابة الا ان يكاتب عليه ويشترط في كتابته والحمل كالمولود إذا خرج إلى الدنيا واعتبر ذلك بالميراث
قال مالك (2) في رجل ورث مكاتبا من امرأته هو وابنها ان المكاتب ان مات قبل ان يقضي كتابته اقتسما ميراثه على كتاب الله وان أدى كتابته ثم مات فميراثه لابن المراة وليس للزوج من ميراثه شيء
قال أبو عمر هذا لأنه إذا مات قبل ان يؤدي مات عبدا فورثه عنهما ورثتها وهم ابنها وزوجها كسائر مالها واما إذا أدى كتابته وقد لحق بأحرار المسلمين ولاؤه لسيدته إلى عقده كتابته وعنها يورث إلى ولائه فان مات لم يرث ولاءه الا عصبة سيدته دون ذوي الفروض من ورثتها
وعلى هذا جمهور الفقهاء وسيأتي هذا المعنى في باب الولاء إن شاء الله تعالى
قال مالك (1) في المكاتب يكاتب عبده قال ينظر في ذلك فإن كان انما أراد المحاباة لعبده وعرف ذلك منه بالتخفيف عنه فلا يجوز ذلك وان كان انما كاتبه على وجه الرغبة وطلب المال وابتغاء الفضل والعون على كتابته فذلك جائز له
قال أبو عمر كتابة المكاتب لعبده جائزة عند مالك ما لم يرد بها المحاباة لأنه ليس يجوز له في ماله امر يتلف به شيء منه دون عوض وانما يقدم منه على نفسه بالمعروف حتى يؤدي فيعتق
وأجاز كتابه المكاتب لعبده سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه
387
والأوزاعي لأنها عقد معاوضة وطلب فضل وان عجز كان رقيقا بحاله
وللشافعي فيها قولان أحدهما جوازها والثاني ابطالها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم قال (الولاء لمن اعتق) (ولا ولاء للمكاتب)
قال مالك (1) في رجل وطئ مكاتبة له انها إن حملت فهي بالخيار ان شاءت كانت أم ولد وان شاءت قرت على كتابتها فإن لم تحمل فهي على كتابتها
قال أبو عمر عند غير يحيى في هذا الموضع قال مالك لا ينبغي ان يطأ الرجل مكاتبته فان جهل ووطىء ثم ذكر المسألة هذه بعينها
ولا خلاف في ذلك عند مالك وأصحابه
وهو قول جمهور الفقهاء أئمة الفتوى
وقد كان سعيد بن المسيب يجيز للرجل ان يشترط على مكاتبته وطأها وتابعه أحمد بن حنبل وداود لأنها ملكه يشترط فيها ما شاء قبل العتق قياسا على المدبرة
وحجة سائر الفقهاء انه وطء تقع الفرقة فيه إلى اجل ات لا محالة فأشبه نكاح المتعة
وممن قال ذلك الحسن البصري وبن شهاب وقتادة والثوري ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي والليث بن سعد وأبو سعيد وأبو الزناد والحسن بن صالح بن حي
واختلف فيها عن إسحاق فروي عنه مثل قول احمد وروي عنه مثل قول الجماعة واجمعوا انه إذا عجزت حل له وطؤها
فأما الرواية عن سعيد فذكر أحمد بن حنبل قال حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثني أبي قال حدثني يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب انه كان لا يرى بأسا ان يشترط على مكاتبته ان يغشاها حتى تؤدي كتابته
واختلفوا فيما عليها إذا وطئها فقال يحيى بن سعيد وأبو الزناد ان طاوعته فلا شيء لها وان استكرهها جلد وغرم لها صداق مثلها فان حملت كانت أم ولد وبطلت كتابتها
وقال سفيان الثوري ومالك وأبو حنيفة والحسن بن صالح والشافعي لا
388
حد عليه ان وطئها كارهة أو مطاوعة الا ان الشافعي قال إن كان جاهلا عزر وان كان عالما عذر
وقال مالك ان استكرهها عوقب لاستكراهه إياها
وقال الحسن والزهري من وطئ مكاتبته فعليه الحد
وقال الأوزاعي يجلد مائة جلدة بكرا كان أو ثيبا وتجلد الأمة خمسين جلدة
وقال قتادة يجلد مائة الا سوطا
وقال أحمد بن حنبل ان وطئ مكاتبته ولم يشترط أدب وكان لها عليه مهر مثلها
قال أبو عمر الصواب ما قاله مالك ومن تابعة لان كونها مملوكة ما بقي] عليها شيء من كتابتها شبهة تدرا بها الحد عنها واما الصداق فأوجبه لها من اسقط الحد سفيان وأبو حنيفة والشافعي
وأوجبه لها الحسن البصري وقتادة وهو ممن يرى الحد على سيدها في وطئها
وقال أبو حنيفة هذا خطأ لا يجتمع عليه حد وصداق ابدا
واما قول مالك في تخييرها إذا حملت ان شاءت كانت أم ولد وان شاءت مضت على كتابتها فهو قول الليث والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه واحمد وروي ذلك عن الزهري
وقال الحكم بن عتيبة تبطل كتابتها إذا حملت وتعتق بموت السيد ولا خيار لها
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا في العبد يكون بين الرجلين ان أحدهما لا يكاتب نصيبه منه اذن له بذلك صاحبه أو لم يأذن الا ان يكاتباه جميعا لان ذلك يعقد له عتقا ويصير إذا أدى العبد ما كوتب عليه إلى أن يعتق نصفه ولا يكون على الذي كاتب بعضه ان يستتم عتقه فذلك خلاف ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل)
قال مالك (2) فان جهل ذلك حتى يؤدي المكاتب أو قبل ان يؤدي رد إليه
389
الذي كاتبه ما قبض من المكاتب فاقتسمه هو وشريكه على قدر حصصهما وبطلت كتابته وكان عبدا لهما على حاله الأولى
قال أبو عمر احتج مالك رحمه الله لمذهبه في هذه المسألة بما فيه كفاية
واما اختلاف الفقهاء فيها فان الشافعي اختلف قوله في كتابة أحد الشريكين حصته من عبد بينهما باذن شريكه
وذكر المزني عن الشافعي قال لا يجوز ان يكاتب أحد بعض عبد الا ان يكون باقية حرا ولا يجوز ان يعتق بعضا من عبد بينه وبين شريكه وان كان من اذن الشريك لان المكاتب لا يمنع من السعي والاكتساب قال ولا يجوز ان يكاتباه معا حتى يكونا فيه سواء
قال أبو عمر وافق مالكا من هذه الجملة في أنه لا يكاتب عبدا بينه وبين شريكه باذن الشريك ولا بغير اذنه
قال المزني وقال في كتاب (الاملاء) على محمد بن الحسن وإذا اذن أحدهما لصاحبه ان يكاتبه فالكتابة جائزة وللذي يكاتبه ان يحتدمه يوما ويخليه والكسب يوما فان ابراه مما عليه كان نصيبه حرا وقوم عليه الباقي وعتق إن كان موسرا ورق ان كان معسرا
واختار المزني القول الأول لقول الشافعي في موضع اخر لو كانت كتابتها فيه سواء فعجزه أحدهما وانظره الاخر فسخت الكتابة بعد ثبوتها حتى يجتمعا على الإقامة عليها
قال المزني فالابتداء بذلك أولى
قال المزني ولا يخلوا أن تكون كتابه نصيبه كبيعه إياه فلا معنى لاذن شريكه
وذكر الطحاوي ان أبا حنيفة كان يقول إذا كاتب نصيبه من العبد باذن شريكه كانت الكتابة جائزة وكان ما أداه المكاتب إلى الذي كاتبه يرجع فيه الذي لم يكاتب على الذي كاتب فيأخذ منه نصفه ثم يرجع الذي كاتب بذلك على المكاتب فيسأله فيه قال ومن كاتب عبدا له بينه وبين آخرين وكاتب نصفه بغير اذن شريكه كان لشريكه ابطال ذلك ما لم يرد العبد إلى مولاه الذي كاتبه ما كاتبه عليه فإن لم يبطل المولى الذي لم يكاتبه المكاتبة حتى أداها العبد إلى الذي كاتبه عليها فإنه قد عتق نصيبه بذلك
وكان أبو حنيفة يقول إن كاتب المكاتبة وقعت على العبد كله كان للذي لم
390
يكاتبه ان يرجع على الذي كاتبه بنصف ما قبض من العبد فأخذه منه ثم يرجع حكم العبد إلى حكم عبد بين رجلين اعتقه أحدهما ولا يرجع المولى الذي كاتب على المكاتب بشيء من ما اخذه منه شريكه قال وان كانت المكاتبة وقعت على نصيبه من العبد كان الجواب كذلك أيضا غير أنه يكون للمكاتب ان يرجع على العبد بما اخذه منه شريكه فيستسعيه فيه
وقال أبو يوسف ومحمد سواء كانت المكاتبة وقعت من السيد على كل العبد أو على نصيبه من العبد وهو كما قال أبو حنيفة فيها إذا وقعت على العبد
وذكر الخرقي عن أحمد بن حنبل قال وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده الذي لم يكاتبه كان نصفه حرا بالكتابة ان كان الذي كاتبه معسرا وان كان موسرا اعتق كله وكانت نصف قيمته على الذي كاتب لشريكه
هذا يدل على أن مذهبه جواز الكتابة لاحد الشريكين في نصيبه باذن شريكه وتغيير اذنه
وذكر إسحاق بن منصور قال قيل لاحمد بن حنبل ان سفيان سئل عن عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه منه قال اكره ذلك قيل فان فعل قال أرده الا يكون نفذه فان [كان نفذه] ضمن فأخذ شريكه نصف ما في يده يبيع هذا المكاتب بما اخذه منه ويضمن لشريكه نصف القيمة ان كانت له مال وان لم يكن له مال استسعى العبد فقال احمد كتابته جائزة الا ما كسب المكاتب اخذ الاخر نصف ما كسب واستسعى العبد
قال إسحاق هو كما قال احمد لأنا نلزم السعاية العبد إذا كان بين اثنين فكاتبه أحدهما فلم يؤد إليه كل ما كاتبه عليه حتى اعتق الاخر نصيبه وهو موسر وقد صار العبد كله حرا ويرجع الشريك على المعتق بنصف قيمته
قال أبو عمر هذا على أصل احمد في اجازته بيع المكاتب وكان الحكم بن عتيبة يجيز كتابة أحد الشريكين حصته باذن شريكه وبغير اذنه
وهو قول بن أبي ليلى وقال بن أبي ليلى ولو أن الشريك الذي لم يكاتب اعتق العبد كان عتقة باطلا حتى ينظر ما تؤول إليه حال المكاتب فان أدى الكتابة عتق وضمن الذي كاتبه نصف قيمته لشريكه وكان الولاء كله له
قال مالك (1) في مكاتب بين رجلين فأنظره أحدهما بحقه الذي عليه وأبي
391
الاخر ان ينظره فاقتضى الذي أبى ان ينظره بعض حقه ثم مات المكاتب وترك مالا ليس فيه وفاء من كتابته
قال مالك (1) يتحاصان (2) بقدر ما بقي لهما عليه يأخذ كل واحد منهما بقدر حصته فان ترك المكاتب فضلا عن كتابته اخذ كل واحد منهما ما بقي من الكتابة وكان ما بقي بينهما بالسواء فان عجز المكاتب وقد اقتضى الذي لم ينظره أكثر مما اقتضى صاحبه كان العبد بينهما نصفين ولا يرد على صاحبه فضل صاحبه فضل ما اقتضى لأنه
انما اقتضى الذي له باذن صاحبه وان وضع عنه أحدهما الذي له ثم اقتضى صاحبه بعض الذي له عليه ثم عجز فهو بينهما ولا يرد الذي اقتضى على صاحبه شيئا لأنه انما اقتضى الذي له عليه وذلك بمنزلة الدين للرجلين بكتاب واحد على رجل واحد فينظره أحدهما ويشح (3) الاخر فيقتضي بعض حقه ثم يفلس الغريم على الذي اقتضى ان يرد شيئا مما اخذ
قال الشافعي لو اذن أحدهما لشريكه ان يقبض نصيبه فقبضه ثم عجز ففيها قولان
أحدهما يعتق نصيبه ولا يرجع عليه شريكه ويقوم عليه الباقي ان كان موسرا وان كان معسرا فجميع ما في يده للذي يبقى له فيه الرق لأنه يأخذه بما بقي له من الكتابة فإن كان فيه وفاء عتق والا عجز بالباقي وان مات بعد العجز فما في يديه بينهما نصفان يرث أحدهما بقدر الحرية والاخر قدر العبودية
والقول الثاني لا يعتق ويكون لشريكه ان يرجع عليه فيشركه فيما قبض لأنه اذن له وهو لا يملكه
قال المزني هذا أشبه بقوله إذا (المكاتب عبد ما بقي عليه درهم) وما في يديه موقوف ما بقي عليه درهم فليس معناه فيما اذن له بقبضه الا بمعنى استبقي بقبض النصف حتى استوفى مثله فليس يستحق بالسبق ما ليس له
وروى الربيع عن الشافعي في هذه المسألة قال فإذا كان المكاتب بين اثنين فأذن أحدهما لصاحبه بأن يقبض فقبضه منه ثم عجز المكاتب بأولها فسواء ولهما ما في يديه من المال نصفين ان لم يكن استوفى المأذون له جميع حقه من المكاتبة فلو كان المأذون له استوفى جميع حقه من الكتابة ففيها قولان فمن قال يجوز ذلك ما قبض ولا يكون لشريكه ان يرجع فلشريكه قبضين شريكه منه حر
392
يقوم عليه ان كان موسرا وان كان معسرا فنصيبه حر فان عجز فجميع ما في يديه للذي بقي له فيه الرق وانما جعلت ذلك له لأنه تأخذ له بما يبقى له في الكتابة ان كان له فيه وفاء عتق به وان لم يكن له في وفاء أخذه بما بقي له في الكتابة وعجزه بالباقي وان مات فالمال بينهما نصفان يرثه بقدر الحرية التي فيه ويأخذ هذا ماله بقدر العبودية
والقول الثاني لا يعتق ويكون لشريك ان يرجع عليه فيشركه فيما اذن له به لأنه اذن له به وهو لا يملكه واذنه له بالقبض وغير اذنه سواء فان قبضة لم يتركه له فإنما هي هبة وهبها له يجوز إذا قبضها
قال عبد الله بن محمد القزويني انما جعل الشافعي للذي بقي له فيه الرق ان يستأذن منه الكتابة فان عجز كان ما في يديه من المال له يأخذه بما بقي من الكتابة عليه وليس لهذا الذي قد عتق نصفه ان يقول بالعجز لي نصف ما في يدك لان نصفي حر ولكن يأخذه سيده الذي له فيه الرق بحقه من الكتابة فان [كان] فيه وفاء عتق والا كان التعجيز بعد ذلك
وذكر البخاري عن أبي حنيفة وأصحابه قال وان كانت المكاتبة وقعت من الذي كاتب باذن شريكه في ذلك وفي قبض المكاتبة لم يكن لشريك الذي لم يكاتب ان يرجع على الذي كاتب بشيء ما يقبضه من المكاتبة إذا قبض المكاتب جميع الكتابة عتق المكاتب وهو حكمه كحكم عبد بين رجلين اعتقه أحدهما
((2 - باب الحمالة (1) في الكتابة))
1501 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا ان العبيد إذا كوتبوا جميعا كتابة واحدة فان بعضهم حملاء (2) عن بعض وانه لا يوضع عنهم لموت أحدهم شيء وان قال أحدهم قد عجزت والقى بيديه فان لأصحابه ان يستعملوه فيما يطيق من العمل ويتعاونون بذلك في كتابتهم حتى يعتق بعتقهم ان عتقوا ويرق برقه ان رقوا
قال أبو عمر اختلف الفقهاء في هذه المسالة فروى فيها سفيان كقول مالك
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يكون لعبيد إذا كاتبهم سيدهم كتابة واحدة حملا
393
بعضهم عن بعض الا ان يكاتب الرجل عبديه كتابة واحدة معلومة ويشترط عليهما انها ان أديا عتقا وان عجزا ردا في الرق فإن لم يشترط ذلك عليهما لم يكونا حميلين بعضهما عن بعض فان اشترط ذلك في عقد الكتابة كان للسيد ان يأخذ كل واحد منهما بالكتابة كلها فأيهما أداها إليه عتق وعتق صاحبه وكان له ان يرجع على صاحبه (بحصته منها وكذلك ما أداه من الكتابة في شيء كان له ان يرجع على صاحبه] بشيء ولو لم يشترط في الكتابة انهما إذا أديا عتقا وان عجزا ردا وكاتبهما على الكراء وشئ معلوم ولم يذكر شيئا غير ذلك كانت الكتابة جائزة وكان على كل واحد منهما الا بالشرط
وهذا لا اعلم فيه خلافا ان أولاده عبيد لسيده ليسوا تبعا له عند عقد كتابته وانما يكون تبعا له إذا تسرى وهو مكاتب ثم ولد له من سريته وهؤلاء يدخلون معه بلا شرط ولو ولدوا له من سريته قبل الكتابة لم يدخلوا في كتابته الا ان يدخلهم بالشرط مع نفسه في كتابته
فهذا مذهب جمهور العلماء من أهل الحجاز والعراق
وذكر علي بن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم في رجل كاتب غلامه ثم اطلعه بعد الكتابة ان له سرية وولد فسريته فيما كانت عليه وولده رقيق للسيد الذي كاتبه
وقال عطاء وعمرو بن دينار وسليمان بن موسى لا يكون أحد العبيد المكاتب حملا عن غيره سواء قال سيده واشترطه أم لا لأنه ان عجز عاد عبدا فليس دينه بلازم
واما الشافعي فلا يجوز عنده ان يحتمل أحد العبيد عن صاحبه شيئا من الكتابة التي اكرهوا عليها قال فان اشترط ذلك عليهم السيد فالكتابة فاسدة
قال الشافعي ولو كانت ثلاثة اعبد له كتابة واحدة على مائة منجمة في سنين على أنهم إذا أدوا أعتقوا كانت جائزة فالمائة مقسومة على قيمتهم يوم كوتبوا فأيهم أدى حصته
إذا عتق عجز وايهم عجز رق وايهم مات قبل ان يؤدي مات رقيقا كان له ولد أو لم يكن
قال وان أدى أحدهم عن غيره باذنه ويرجع عليه وان تطوع وعتقوا لم يكن له الرجوع
قال أبو عمر على قول مالك من مات من الذين كوتبوا كتابة واحدة لم تسقط حصته من الكتابة وكذلك لو عجز عن السعي وعلى الباقين السعي في جميع
394
الكتابة حتى يؤدوها وان لم يؤدوها عجزوا ورجعوا رقيقا وغير الشافعي يسقط حصة الميت من الكتابة ويسعى الباقون في حصصهم لا غير وعلى كلا القولين جماعة من السلف
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا ان العبد إذا كاتبه سيده لم ينبغ لسيده ان يتحمل له بكتابة عبده أحد ان مات العبد أو عجز وليس هذا من سنة المسلمين وذلك أنه ان تحمل رجل لسيد المكاتب بما عليه من كتابته ثم اتبع ذلك سيد المكاتب قبل الذي تحمل له اخذ ماله باطلا لا هو ابتاع المكاتب فيكون ما اخذ منه من ثمن شيء هو له ولا المكاتب عتق فيكون في ثمن حرمة ثبتت له فان عجز المكاتب رجع إلى سيده وكان عبدا مملوكا له وذلك أن الكتابة ليست بدين ثابت يتحمل لسيد المكاتب بها انما هي شيء ان أداه المكاتب عتق وان مات المكاتب وعليه دين لم يحاص الغرماء سيده بكتابته وكان الغرماء أولى بذلك من سيده وان عجز المكاتب وعليه دين للناس رد عبدا مملوكا لسيده وكانت ديون الناس في ذمة المكاتب لا يدخلون مع سيده في شيء من ثمن رقبته
قال أبو عمر على قول مالك في هذا ان الحمالة لا تصح على غير المكاتب لسيده جمهور أهل العلم وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي واحمد وقد احتج كذلك مالك فأحسن
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء نحو قول مالك واحتجاجه
وكان الزهري وبن أبي ليلى يجيزان الحمالة عن بن المكاتبة
وبه قال إسحاق
قال أبو عمر فان تحمل اخر بالكتابة فالحمالة باطل عند مالك وبن القاسم والكتابة صحيحة
وقال اشهب الحمالة باطل فالسيد يخير في امضاء الكتابة بلا حمالة أو ردها
واما قوله (ان مات المكاتب لم يحاص السيد الغرماء) يعني بما بقي من كتابته أو بما حمل من نجومه فهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما وهو قول أهل المدينة والبصرة
وقال شريح والشعبي وإبراهيم والحكم وحماد وسفيان والحسن بن
395
حي وبن أبي ليلى وشريك يضرب السيد مع الغرماء
قال مالك (1) إذا كاتب القوم جميعا كتابة واحدة ولا رحم بينهم يتوارثون بها فان بعضهم حملاء عن بعض ولا يعتق بعضهم دون بعض حتى يؤدوا الكتابة كلها فان مات أحد منهم وترك مالا هو أكثر من جميع ما عليهم ادي عنهم جميع ما عليهم وكان فضل المال (2) لسيده ولم يكن لمن كاتب معه من فضل المال شيء ويتبعهم السيد بحصصهم التي بقيت عليهم من الكتابة التي قضيت من مال الهالك لان الهالك انما كان تحمل عنهم فعليهم ان يؤدوا ما عتقوا به من ماله وان كان للمكاتب الهالك ولد حر لم يولد في الكتابة ولم يكاتب عليه لم يرثه لان المكاتب لم يعتق حتى مات
قال أبو عمر قد تقدم ان العبيد إذا كاتبهم سيدهم كتابة واحدة فهم عند مالك حملاء بعضهم عن بعض وسواء كانت بينهم رحم يتوارثون بها أو لم تكن الا ان الذين بينهم رحم يتوارثون بها إذا مات أحدهم وترك من المال أكثر مما تؤدى منه الكتابة أديت منه وما فضل ورثوه عنه بارحامهم وبأنهم مساوون في الحال ولا يرثه الولد الحر لأنه مات عبدا وعند الشافعي لا يرثه أحد من ورثته كانوا معه في الكتابة أو كانوا أحرارا قبل ذلك لأنهم حين مات عبيد ومات هو عبدا فماله للسيد
وعند الكوفيين يعتق ماله الذي ترك ويرثه الأحرار من ولده
وقد تقدم ذكر ذلك كله
واما إذا لم تكن بينهم رحم يتوارثون بها فهم رحماء عند مالك
روى الحكم ما وصف وهو على أصله كلام صحيح يعتقون في ذلك الحال ويضمنون به ما يعتقون من السيد من اجل الحمالة لأنه مال مكاتب له كان عبدا قبل ان يؤدي ما عليه وهو مال السيد بعد ان يؤدي منه ما تحمله عن من معه في الكتابة فيعتق به ويغرم ذلك للسيد
واما الشافعي فلا يكون واحد منهم عنده حميلا على صاحبه والمال كله للسيد ويسعون في حصصهم على قدر قيامهم فان أدوا ذلك عتقوا بشرط الكتابة والا فهم عبيد ان عجزوا عن الأداء
وعند الكوفيين لا يكونون حملاء الا ان يشترط ذلك عليهم السيد في
396
الكتابة ولم يختلفوا في مكاتب أو مكاتبة كاتبت على بنيها فادت جميع الكتابة عنها وعنهم أو أدى الكتابة منهم انه لا يرجع من أداها منهم بشيء على غيره لأنه لا يرجع على من يعتق عليه
قال أبو عمر القياس ان لا تصح حمالة المكاتبين بعضهم عن بعض كما لا تصح حمالة الأجنبية عنهم لان الكتابة ليست بثابتة لعوضها بالموت والعجز أيضا ولا يضرب بما
حمل منها السيد مع الغرماء عند جمهور العلماء
وهو قول الثلاثة الفقهاء أئمة الفتوى مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم
ومعلوم انه إذا كان العبد مكاتبا ما بقي عليه شيء من كتابته ومات قبل ان يؤديها فقد مات عبدا إذا لم يؤد كتابته كلها وإذا مات عبدا فماله لسيده فكيف يؤدي من مال السيد عن بني مكاتبة وهم لم يستحقوا ميراثا وقد اجمعوا ان العبد لا يرثه حر ولا عبد وان ماله لسيده واجمعوا ان الميراث انما يستحق بالموت في حينه فكيف يعتق من معه من ورثته بالأداء عنهم من ماله بعد وفاته ويرثونه بعد هذا محال لأنه لا يخلو ان يكونوا أحرارا حين مات أبوهم أو عبيدا [حين مات ثم عتقوا بعد فأحرى ان لا يرثوه]
وهذا قول عمر وابنه عبد الله بن عمر وسالم [والقاسم] وقتادة وجماعة وهو قول [الشافعي] وبن شهاب [والله الموفق للصواب]
وقد اجمع الفقهاء ان المكاتب عبد ما بقي من كتابته شيء وانه ان مات في حياة سيده أو بعد وفاته ولم يترك وفاء الكتابة انه مات عبدا وما يخلفه من مال فلسيده وانما واختلفوا إذا ترك من المال وفاء بالكتابة وفضلا
((3 - باب القطاعة (1) في الكتابة))
1502 - مالك انه بلغه ان أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقاطع مكاتبيها بالذهب والورق
قال أبو عمر انما ذكر مالك عن أم سلمة هذا لان بن عمر كان ينهى ان
397
[يقطع أحد لمكاتبه] الا بالعروض ويراه من باب ضع وتعجل
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا في المكاتب يكون بين الشريكين فإنه لا يجوز لأحدهما ان يقاطعه على حصته الا باذن شريكه وذلك أن العبد وماله بينهما فلا يجوز لأحدهما ان يأخذ شيئا من ماله الا باذن شريكه ولو قاطعه أحدهما دون صاحبه ثم حاز ذلك ثم مات المكاتب وله مال أو عجز لم يكن لمن قاطعه شيء من ماله ولم يكن له ان يرد ما قاطعه عليه ويرجع حقه في رقبته ولكن من قاطع مكاتبا باذن شريكه ثم عجز المكاتب فان أحب الذي قاطعه ان يرد الذي اخذ منه من القطاعة ويكون على نصيبه من رقبة المكاتب كان ذلك له وان مات المكاتب وترك مالا استوفى الذي بقيت له الكتابة حقه الذي بقي له على المكاتب من ماله ثم كان ما بقي من مال المكاتب بين الذي قاطعه وبين شريكه على قدر حصصهما في المكاتب وان كان أحدهما قاطعه وتماسك صاحبه بالكتابة ثم عجزالمكاتب قيل للذي قاطعه ان شئت ان ترد على صاحبك نصف الذي اخذت ويكون العبد بينكما شطرين وان أبيت فجميع العبد للذي تمسك بالرق خالصا
قال أبو عمر [ذكر بن عبد الحكم هذه المسالة عن مالك وقد قيل إنه قاطع بغير اذن شريكه ثم مات فإنه لم يأخذ الذي ما بقي من المال ثم يقتسمان الفضل فان عجز فأراد ان يرد عليه نصف ما فضله ويكون على نصيب من العبد فذلك له والاذن وغير الاذن سواء إذا أراد ان يرد ما يفضله به وانما يفترق إذا أراد المقاطع ان يحبس قاطعه عليه ويسلم حصته في العبد ويأبى ذلك الذي لم يقاطع فذلك للذي أباه ولا يكون ذلك للذي قاطع والقول الأول أحب الينا
قال أبو عمر قد تقدم من أصل مذهب الكوفي والشافعي فهي قبض الشريك من كتابة المكاتب دون اذن شريكه وباذنه والحكم في ذلك عندهم ما اغنى عن تكراره هنا
وما قاله مالك فعلى أصله وعليه أصحابه الا اشهب فإنه خالفه في شيء منه
وروى اشهب عن مالك أنه قال في المقاطع من الشريكين إذا مات المكاتب فهو بالخيار ان شاء تمسك بانقطاعه وكانت تركه المكاتب للمتمسك وان شاء رد على صاحب نصف ما قاطع به المكاتب وكانت التركة بينهما
398
وقال اشهب ولست أرى ما قال وارى ان يستوفي المتمسك ما بقي له من الكتابة والباقي بعد ذلك بينهما ان بقي شيء
وفي (المدونة) لابن القاسم مثل قول اشهب
ولم يختلفوا في المكاتب يقاطعه أحد سيديه ثم يعجز انه على ما ذكره مالك في (موطئه) هذا إذا قاطعه الشريك باذن شريكه فان قاطعه بغير اذنه ثم عجز المكاتب كان الشريك الذي لم يقاطع بالخيار ان شاء رد ذلك وان شاء اجازه
قال اشهب فان اجازه رجع بالخيار إلى المقاطع
وروى بن نافع عن مالك ان المقاطع لا يرجع في مال المكاتب ولا في رقبته الا يأخذ المتمسك نصف ما قاطعه به ويرده من نصيبه إلى رقبة العبد ان عجز أو من ميراثه ان مات لأنه صنع ما لم يكن له جائزا
وقال الشافعي (في المزني) لو كان المكاتب بين اثنين فوضع عنه أحدهما نصيبه من الكتابة فهو كعتقه ويقوم عليه ان كان موسرا وكذلك ان ابراه مما عليه والولاء له
وقول المغيرة في ذلك كقول الشافعي
[وقال بن القاسم] لا يعتق بذلك لأنه وضع مال
قال أبو عمر في هذا الباب في (الموطأ) مسائل فمعناها ومعنى ما تقدم سواء فلم اذكرها
واما قوله في هذا الباب قال مالك في المكاتب يقاطعه سيده ثم يعتق ويكتب [ما بقي] عليه من قطاعته دينا عليه ثم يموت المكاتب وعليه دين للناس قال مالك فان سيده لا يحاص غرماءه باللذي عليه من قطاعته ولغرمائه ان يبدوا عليه
قال أبو عمر قد ذكرنا فيما تقدم من هذا الباب ان أهل المدينة ومكة والبصرة وأبا حنيفة وأصحابه من أهل الكوفة قولهم في هذه المسالة كقول مالك
وهو قول الشافعي والأوزاعي ان غرماء المكاتب إذا مات وترك مالا يبدون في ذلك ولا يحصهم سيد المكاتب بشي من ماله عليه من قطاعة أو نجامة
وان شريحا والشعبي والحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى وسفيان الثوري والحسن بن حي (بن صالح) كانوا
399
يقولون يضرب السيد مع غرماء المكاتب بما له عليه مما ترك من المال
قال مالك ليس للمكاتب ان يقاطع سيده إذا كان عليه دين للناس فيعتق ويصير لا شيء له لان أهل الدين أحق بماله من سيده فليس ذلك بجائز له
قال أبو عمر هذا كما قال وهو قول الجمهور الذين يرون أهل الدين أحق به من السيد لان المكاتب إذا قاطع سيده وهو لا مال عنده الا ما قد اغترقه الدين ولا قوة به على الاكتساب فقد غره وإذا غره فقد بطل ما فعله من المقاطعة وعاد في رقبته
وقد اختلف الفقهاء في افلاس المكاتب فقال مالك يأخذ الغرماء ما وجدوا ولا سبيل لهم إلى رقبته
وهو قول الشافعي والكوفي
وقال سفيان الثوري إذا عجز المكاتب وعليه ديون للناس فعلى السيد ان يبتداه [إذا أسلمه] والا أسلمه إليهم
وبه قال احمد وإسحاق
قال مالك (1) الامر عندنا في الرجل يكاتب عبده ثم يقاطعه بالذهب فيضع عنه مما عليه من الكتابة على أن يعجل له ما قاطعه عليه انه ليس بذلك باس وانما كره ذلك من كرهه لأنه انزله بمنزلة الدين يكون للرجل على الرجل إلى اجل فيضع عنه وينقده وليس هذا مثل الدين انما كانت قطاعة المكاتب سيده على أن يعطيه مالا في أن يتعجل العتق فيجب له الميراث والشهادة والحدود وتثبت له حرمة العتاقة ولم يشتر دراهم بدراهم ولا ذهبا بذهب وانما مثل ذلك مثل رجل قال لغلامه ائتني بكذا وكذا دينارا وأنت حر فوضع عنه من ذلك فقال ان جئتني بأقل من ذلك فأنت حر فليس هذا دينا ثابتا ولو كان دينا ثابتا لحاص به السيد غرماء المكاتب إذا مات أو أفلس فدخل معهم في مال مكاتبه
قال أبو عمر هذه المسالة في معنى حديث أم سلمة المذكور في أول هذا الباب وقد اختلف العلماء فيها فكان بن عمر يكره ذلك ولا يجيزه فخالف في ذلك أم سلمة وبقول بن عمر قال في ذلك الليث بن سعد واحمد وإسحاق
وهو قول الشافعي لان حكم المكاتب في ما يملكه غير حكم العبد ليس للسيد اخذ شيء من ماله غير نجامته فاشبه الحر [والأجنبي] في هذا المعنى
400
ذكر المزني عن الشافعي قال ولو عجل له بعض الكتابة على أن يبراه من الباقي لم يجز ورد عليه ما اخذ ولم يعتق لأنه ابراه مما لم تبرا منه
وروى الربيع عن الشافعي قال وان كانت نجومه غير حالة فسالة ان يعطيه بعضها حالا على أن يبراه من الباقي فيعتق لم يجز ذلك كما لا يجوز في دين [إلى اجل] على حر ان يتعجل بعضه على أن يضع له بعضا
وقال الطحاوي عن الكوفيين في من كاتب عبدا له على مال [إلى اجل] ثم صالحه قبل حلول الأجل على أن يعجل له بعض ذلك المال ويبرأ من بقيته لم يجز فيما روى أصحاب (الاملاء) عن أبي يوسف من قوله
واما محمد فروى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ان ذلك جائز
واختار الطحاوي [ما روى أصحاب (الاملاء) عن أبي يوسف]
وقال بن شهاب وربيعة وأبو الزناد وعبد الله بن يزيد [وجابر وبن هرمز ومالك وأبو حنيفة وأصحابهما ذلك جائز
وهو قول الشعبي وإبراهيم وطاوس والحسن وبن سيرين
وقال الزهري ما علمت أحدا كرهه الا بن عمر
قال أبو عمر اما العبد فليس بينه وبين سيده ربا عند أكثر العلماء
واما المكاتب فليس لسيده إلى ماله سبيل غير ما كاتبه عليه الا ان يعجز
وكره مالك ان يبيع من عبده المأذون له أو مكاتبه درهما بدرهمين يدا بيد نسيئة وأجاز ذلك الشافعي
وقال بن القاسم في المكاتب يحيل سيده بنجم لم يحل على دين له على رجل انه لا يجوز من اجل الدين بالدين
وقال سحنون هو جائز قال وقوله بإجازة القطاعة يرد هذا [وبالله التوفيق]
((4 - باب جراح المكاتب))
1503 - قال مالك أحسن ما سمعت في المكاتب يجرح الرجل جرحا يقع فيه العقل عليه ان المكاتب ان قوي على أن يؤدي عقل ذلك الجرح مع كتابته أداه وكان على كتابته فإن لم يقو على ذلك فقد عجز عن كتابته وذلك أنه ينبغي
401
ان يؤدي عقل ذلك الجرح قبل الكتابة فان هو عجز عن أداء عقل ذلك الجرح خير سيده فان أحب ان يؤدي عقل ذلك الجرح فعل وامسك غلامه وصار عبدا مملوكا وان شاء ان يسلم العبد إلى المجروح أسلمه وليس على السيد أكثر من أن يسلم عبده
قال أبو عمر اختلاف الفقهاء في هذه المسالة متقارب يجمله قول مالك في المكاتب انه ان قوي على أداء أرش الجناية مع الكتابة والا عجز فإذا عجز كان سيده مخيرا بين
اسلامه وأداء أرش الجناية
وقال بن القاسم عن مالك إذا جنى المكاتب قال له القاضي اد والا اعجزتك ولم اسمعه يفرق بين عجزه قبل القضاء وبعده
وقال الشافعي إذا جنى المكاتب فعلى سيده الأقل من قيمته عبدا يوم الجناية وأرش الجناية كما لو جنى وهو عبد فان قوي على أدائها قبل الكتابة فهو مكاتب وان عجز عنها خير الحاكم سيده بين ان يفديه بالأقل من أرش الجناية أو يسلمه فان أبى بيع في الجناية فاعطى أهل الجناية حقوقهم دون من داينه ببيع أو غيره لان ذلك في ذمته ومن اعتق اتبع به والجناية في رقبته وسواء كانت الجنايات مفترقة أو معا أو بعضها قبل التعجيز أو بعده يتحاصون في ثمنه وان ابراه بعضهم كان ثمنه للباقين بينهم
وقول احمد وإسحاق في ذلك كقول الشافعي
وقال أبو حنيفة وأصحابه الا زفر في مكاتب جنى جناية ثم عجز قبل ان يقضى عليه قيل لمولاه ادفعه أو افده وان قضي عليه بقيمة الجناية ثم عجز فإنه يباع فيها
وقال زفر إذا عجز قبل القضاء أو بعده فإنه يباع في الجناية
قال مالك (1) في القوم يكاتبون جميعا فيجرح أحدهم جرحا فيه عقل
قال مالك (2) من جرح منهم جرحا فيه عقل قيل له وللذين معه في الكتابة أدوا جميعا عقل ذلك الجرح فان أدوا ثبتوا على كتابتهم وان لم يؤدوا فقد عجزوا ويخير سيدهم فان شاء أدى عقل ذلك الجرح ورجعوا عبيدا له جميعا وان شاء اسلم الجارح وحده ورجع الآخرون عبيدا له جميعا بعجزهم عن أداء عقل ذلك الجرح الذي جرح صاحبهم
402
قال أبو عمر هذا انما قاله مالك على أصله في المكاتبين كتابة واحدة انهم حملاء بعضهم عن بعض واصله في أن الجناية مقدمة على الكتابة فإذا عجزوا عن أداء الجناية فقد عجزوا [وإذا عجزوا] عادوا عبيدا
واما الشافعي والكوفي وأكثر الفقهاء فإنهم يقولون لا يأخذ بالجناية الا جانيها [وحده] فان عجز عن أدائها بيع فيها على ما تقدم من تلخيص ذلك عنهم
قال مالك (1) الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا ان المكاتب إذا أصيب بجرح يكون له فيه عقل أو أصيب أحد من ولد المكاتب الذين معه في كتابته فان عقلهم عقل العبيد في قيمتهم وان ما اخذ لهم من عقلهم يدفع إلى سيدهم الذي له الكتابة ويحسب ذلك للمكاتب في اخر كتابته
ثم فصل ذلك بما لا يشكل من أنه إذا ضم عقل الجرح إلى ما يقبضه من المكاتب فتأدى من ذلك جميع الكتابة فهو حر وان كان عقل الجرح أكثر من الكتابة قبض المكاتب لنفسه وهو حر
قال مالك (2) ولا ينبغي ان يدفع [إلى] المكاتب شيء من دية جرحه فيأكله ويستهلكه فان عجز رجع إلى سيده أعور أو مقطوع اليد أو معضوب الجسد وانما كاتبه سيده على ماله وكسبه ولم يكاتبه على أن يأخذ ثمن ولده ولا ما أصيب من عقل جسده فيأكله ويستهلكه ولكن عقل جراحات المكاتب وولده الذين ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم يدفع إلى سيده ويحسب ذلك له في اخر كتابته
قال أبو عمر على ما ذكره مالك في هذا الباب مذهب كل من قال (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء) يعنون في جراحاته وحدوده
واما من قال بقول علي - رضي الله عنه - يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية الحر وبقدر ما بقي عليه دية عبد فإنه يقسم دية جراحاته على ذلك فما صار منها للحرية قبضه وما صار منها للعبودية دفع إلى سيده فعد له في كتابته
ذكر عبد الرزاق عن الثوري قال قال أصحابنا جناية المكاتب على نفسه انه ان جرح جراحة فهي عليه في قيمته [لا تجاوز قيمته] وإذا أصيب بشيء كان له [قال الثوري اما نحن فنقول هي في عنق المكاتب]
وأخبرنا الحسن بن عمارة عن الحكم عن إبراهيم قال يضمن مولاه قيمته
403
قال الحكم وقال الشعبي يضمن مولاه قيمتها
وقال الحكم جناياته دين عليه يسعى فيها
[قال وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء المكاتب ان جر جريرة من يؤخذ بها قال سيده
وقالها عمرو بن دينار]
قال أبو عمر يحتمل ان يكون قوله يؤخذ بها ان يسلمه في كتابته فإن لم يسلمه يحتمل ان لا يكون عليه أكثر من قيمته لأنها البدل من اسلامه ويحتمل ان يكون لما أبى من اسلامه فقد رضي بأرش الجريرة ما بلغت والأصح انه لا يلزمه أكثر من قيمته لان جنايته في رقبته
قال بن جريج قلت لعطاء فان أصيب المكاتب بجرح فلمن أرشه قال له
وقالها عمرو بن دينار
قلت من اجل انه احرز ذلك كما احرز ماله قال نعم
((5 - باب بيع المكاتب))
1504 - قال مالك ان أحسن ما سمع في الرجل يشتري مكاتب الرجل انه لا يبيعه إذا كان كاتبه بدنانير أو دراهم الا بعرض من العروض يعجله ولا يؤخره لأنه إذا اخره
كان دينا بدين وقد نهي عن الكالىء بالكالىء
قال وان كاتب المكاتب سيده بعرض من العروض من الإبل أو البقر أو الغنم أو الرقيق فإنه يصلح للمشتري ان يشتريه بذهب أو فضة أو عرض مخالف للعروض التي كاتبه سيده عليها يعجل ذلك ولا يؤخره
قال أبو عمر منع من ذلك لما يدخله من النسيئة في بيع دنانير أو دراهم بعضها ببعض لان ما على المكاتب يؤخذ نجوما فلا يحل بيعه بالنقد ولا بالنسيئة لأنه صرف إلى اجل
وكذلك لا يجوز شراء عرض على المكاتب بعرض غير معجل لان النجوم مؤجلة فلو تأخر العرض كان من الدين بالدين
وكذلك لا يجوز عند مالك بيع عرض بعرض من جنسه لأنه يدخله الربا من اجل انه عرض بعرض مثله وزيادة
404
وكذلك اختلف العلماء في بيع المكاتب
فقال جمهور العلماء لا يباع الا على أن يمضي في كتابته عند مشتريه ولا يبطلها وهذا عندي بيع الكتابة لا بيع الرقبة
وقالت طائفة بيعه جائز ما لم يؤد من كتابته شيئا لان بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا
وقال آخرون إذا رضي المكاتب بالبيع جاز لسيده بيعه
هذا قول أبي الزناد وربيعة وهو قول الشافعي ومالك أيضا الا ان [مالكا] اختلف قوله في كيفية تعجيز المكاتب على ما نذكره بعد ولا يرى بيع رقبة المكاتب الا بعد التعجيز
واما الشافعي فإذا رضي المكاتب بالبيع فهو منه رضى بالتعجيز وتعجيزه إليه لا إلى سيده لان بريرة رضيت ان تباع وهي كانت المساومة لنفسها والمختلفة بين سادتها الذين كاتبوها وبين عائشة التي اشترتها
وقال آخرون لا يجوز ان تباع الا للعتق فكذلك بيعت بريرة
هذا قول الأوزاعي واحمد وإسحاق
وقال آخرون لا يجوز ان تباع حتى تعجز فإذا عجزت نفسها جاز بيعها وذكروا ان بريرة عجزت نفسها وللمكاتب عندهم ان يعجز نفسه كان له مال ظاهر أو لم يكن
وسنذكر الاختلاف في ذلك بعد إن شاء الله تعالى
وقال آخرون لا يجوز بيع المكاتب ويجوز بيع كتابة [المكاتب على أنه ان عجز فللذي اشترى كتابته رقبته وان مات المكاتب ورثه دون البائع وان أدى كتابته] إلى الذي اشترى كان ولاؤه للبائع الذي عقد كتابته
هذا قول مالك وأصحابه
وقال آخرون لا يجوز بيع المكاتب لما في ذلك من نقد العقد له وقد امر الله تعالى بالوفاء بالعقود ولأنه يدخله بيع الولاء وكذلك لا يجوز بيع كتابته ولا بيع شيء مما بقي منها عليه والبيع في ذلك كله فاسد مردود لان ذلك غرر لا يدري العجز المكاتب أم لا ولا يدري المشتري ما يحصل عليه بصفقته رقبة المكاتب أو كتابته وان حصل على رقبته كان في ذلك بيع الولاء
هذا كله قول أبي حنيفة وأصحابه
405
واما اختلافهم في تعجيز المكاتب فكان مالك يقول لا يعجزه سيده الا عند السلطان أو القاضي [أو الحاكم]
وهو قول بن أبي ليلى وبه قال سحنون
وقال بن القاسم إذا رضي المكاتب بالعجز دون السلطان لزمه ذلك
وقال بن القاسم ولا يجوز له ان يعجز نفسه إذا كانت له أموال ظاهرة فان عجز ثم ظهرت له أموال مضى التعجيز ما لم يعلم بالمال
وقال بن كنانة وبن نافع للمكاتب ان يعجز نفسه وان كان له مال ظاهر
وروى بن وهب في (موطئه) عن مالك مثل قول بن نافع وبن كنانة
وهذه المسالة عند أصحابنا على قولين
وقال الشافعي وأبو حنيفة للمكاتب ان يعجز نفسه ويعجزه سيده عند غير السلطان إذا كانا في بلد واحد وحضرة واحدة وذلك بان يقول المكاتب ليس عندي شيء ويقول السيد اشهدوا اني قد عجزته
وفعل ذلك بن عمر
وقضى به شريح والشعبي
وقال الشعبي وأبو حنيفة للسيد ان يعجز المكاتب بحلول نجم من نجومه
قال الشافعي لا يعجز السلطان المكاتب الغائب الا ان يثبت عنده الكتابة وحلول نجم من نجومه ويحلفه ما ابراه ولا قبضه منه ولا انذره به فإذا فعل عجزه له ويجعل
المكاتب على حجته ان كانت له
قال واما إذا أراد المكاتب ابطال كتابته وادعى العجز فذلك إليه علم له مال أو لم يعلم وعلمت له قوة على الكسب أو لم تعلم هذا إليه ليس إلى سيده
وقال أبو يوسف لا يعجزه حتى يجتمع عليه نجمان
وهو قول الحكم وبن أبي ليلى والحسن بن حي
وقال الثوري منهم من يقول نجمان والاستثناء أحب إلي
[وقال احمد وكان أحب إلي]
وقال الحارث العكلي إذا دخل نجم في نجم فقد استبان عجزه
وقال الحسن البصري إذا كانت نجومه مساقاة استسعى بعد النجم سنتين
406
وقال الأوزاعي يستاني به شهرين
وقال [محمد بن] الحسن عنه وعن أصحابه ان كان له مال حاضر أو غائب يرجو قدومه اجله يومين أو ثلاثة لا زيادة على ذلك
وقال الأوزاعي إذا قال قد عجزت عن الأداء وعجز نفسه لم يمكن من ذلك
قال أبو عمر هذا ليس بشيء لان كتابته مضمنه بالأداء فإذا لم يكن الأداء باقراره بالعجز على نفسه انفسخت كتابته وكان هو وماله لسيده والأصل في الكتابة لأنها لا تجب عند من أوجبها الا بابتغاء العبد لها وطلبه إياها وتعجيزه نفسه نقض لذلك
وقد اجمعوا في ذلك ان المكاتب لعبده ان جئتني بكذا وكذا دينار إلى اجل كذا فلم يجبه بها انه لا يلزمه شيء
قال مالك (1) أحسن ما سمعت في المكاتب انه إذا بيع كان أحق باشتراء كتابته ممن اشتراها إذا قوي ان يؤدي إلى سيده الثمن الذي باعه به نقدا وذلك أن اشتراءه نفسه عتاقه والعتاقة تبدأ على ما كان معها من الوصايا وان باع بعض من كاتب المكاتب [نصيبه منه فباع نصف المكاتب أو ثلثه أو ربعه أو سهما من اسهم المكاتب] فليس للمكاتب فيما بيع منه شفعة وذلك أنه يصير بمنزلة القطاعة وليس له ان يقاطع بعض من كاتبه الا باذن شركائه وان ما بيع منه ليست له به حرمة تامة وان ماله محجوز عنه وان اشتراءه بعضه يخاف عليه منه العجز لما يذهب من ماله وليس ذلك بمنزلة اشتراء المكاتب نفسه كاملا الا ان يأذن له من بقي له فيه كتابة فان اذنوا له كان أحق بما بيع منه
قال أبو عمر رأى مالك - رحمه الله - الشفعة واجبة للمكاتب إذا باع سيده ما عليه من كتابته ما عليه لما في ذلك من تعجيل عتقه ولم ير له شفعة إذا بيع بعض ما عليه لأنه لا تتم شفعته في ذلك عتقه ثم رأى ان ذلك باذن من بقي له فيه كتابة لأنه مع الضرر الذي عليه في ذلك قد رضوا به
وكان سحنون يقول هذا حرف سوء الا ان يأذن في ذلك الشريك الاخر
وكذلك رواه بن القاسم عن مالك في المكاتب بين الرجلين يبيع أحدهما نصيبه منه ان المكاتب لا يكون أحق بذلك من المشتري الا ان يأذن في ذلك
407
الشريك الاخر لأنه لا يفضي بذلك إلى عتاقه وانما يكون ذلك له إذا بيعت كتابته كلها لان ذلك يفضي إلى عتق
قال سحنون قوله الا ان يأذن له في ذلك الشريك الاخر حرف سوء
قال أبو عمر قد قال بقول مالك في شفعة المكاتب قوم من التابعين منهم عطاء وأبى ذلك غيرهم من العلماء لان الشفعة انما وردت في الأصول التي تقع فيها الحدود
وسنبين هذا المعنى عند اختلاف أصحاب مالك وقولهم [في الشفعة] في الدين لمن هو عليه إذا بيع من غيره إن شاء الله تعالى
واما الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما وكل من لا يجوز عنده بيع كتابة المكاتب فليس للشفعة ذكر في كتبهم ها هنا
[والمسالة مسالة اتباع]
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن الحسن بن مسلم قال بلغني ان المكاتب يباع هو أحق بنفسه يأخذها بما بيع
قال بن جريج وقال عطاء من بيع عليه دين فهو أحق به يأخذه بالثمن ان شاء
قال وأخبرنا معمر عن رجل من قريش ان عمر بن عبد العزيز قضى في المكاتب اشترى ما عليه بعروض وجعل المكاتب أولى بنفسه ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من ابتاع دينا على رجل [إلى اجل] فصاحب الدين أولى بالذي عليه إذا أدى [ما أدى] صاحبه
قال معمر وقال الزهري رايت القضاة يقضون في من اشترى دينا على رجل ان صاحب الدين أولى به
وكان عمر بن عبد العزيز يقضي به
قال معمر واما أهل الكوفة فلا يرونه شيئا
قال مالك (1) لا يحل بيع نجم من نجوم المكاتب وذلك أنه غرر ان عجز المكاتب بطل ما عليه وان مات أو أفلس وعليه ديون للناس لم يأخذ الذي اشترى نجمه بحصته مع غرمائه شيئا وانما الذي يشتري نجما من نجوم المكاتب بمنزلة سيد
408
المكاتب فسيد المكاتب لا يحاص بكتابه غلامه غرماء المكاتب وكذلك الخراج أيضا يجتمع له على غلامه فلا يحاص بما اجتمع له من الخراج غرماء غلامه
قال أبو عمر هو غرر كما ذكر مالك رحمه الله من اجل ما وصف من عجز المكاتب الا ان من خالفه في بيع كتابة المكاتب يقول إن مالكا لم يجز الغرر في نجم واجازه في نجوم
وكثير الغرر لا يجوز باجماع وقليله متجاوز عنه لأنه لا يسلم بيع من قليل الغرر
وقال المزني عن الشافعي بيع نجوم المكاتب مفسوخ فان أدى إلى المشتري باذن سيده عتق كما يودي إلى وكيله فيعتق
وقد تقدم ذكر من قال بأنه لا يجوز بيع كتابة المكاتب ولا نجم من نجومه الا بما يجوز به سائر البيوع
وقد اختلف أصحاب مالك في المكاتب يكون بين الشريكين يبيع أحدهما حصته من كتابته أو نجما من نجومه
فذكر العتبي في سماع بن القاسم من مالك انه كره ذلك وقال اما ان يباع كله واما ان يمسك كله
[قال سحنون انما يكره بيع نجم من نجومه فاما نصف ما عليه أو ثلثه أو ربعه فلا باس بذلك]
وقال سحنون واصبغ انما يكره بيع النجم بعينه فإذا لم يكن بعينه لم نر بذلك باس لأنه يرجع إلى حد معلوم وكأنه اشترى عشر الكتابة أو نصف عشرها أو ربع عشرها
وروى اصبغ عن بن القاسم
قال مالك (1) لا باس بان يشتري المكاتب كتابته بعين أو عرض مخالف لما كوتب به من العين أو العرض أو غير مخالف معجل أو مؤخر
قال أبو عمر أجاز ذلك للمكاتب بعرض غير مخالف وبعرض مؤخر لما تقدم من مذهبه انه لا ربا بين العبد وسيده وكذلك عنده المكاتب وقد مضى ما لمن خالفه في ذلك من العلماء
409
قال مالك (1) في المكاتب يهلك ويترك أم ولد وولدا له صغارا منها أو من غيرها فلا يقوون على السعي ويخاف عليهم العجز عن كتابتهم قال تباع أم ولد أبيهم إذا كان في ثمنها ما يؤدى به عنهم جميع كتابتهم أمهم كانت أو غير أمهم يؤدى عنهم ويعتقون لان أباهم كان لا يمنع بيعها إذا خاف العجز عن كتابته فهؤلاء إذا خيف عليهم العجز بيعت أم ولد أبيهم فيؤدى عنهم ثمنها فإن لم يكن في ثمنها ما يؤدى عنهم ولم تقو هي ولا هم على السعي رجعوا جميعا رقيقا لسيدهم
قال أبو عمر قد بين مالك - رحمه الله - انه لما كان للمكاتب ان يبيع أم ولده إذا خاف العجز كان ذلك لولده عند خوف العجز هذا إذا كان في بيعها خلاصهم من الرق
ولا اعلم أصحابه اختلفوا [في ذلك وانما اختلفوا] في أم ولد المكاتب إذا مات وترك وفاء بكتابته على حالها بعد موته
فقال بن القاسم إذا كان معها ولد [عتقت] وان لم يكن معها ولد فهي رقيق
وقال اشهب تعتق وان لم يكن معها ولد إذا ترك المكاتب وفاء
قال أبو عمر عند الشافعي - رحمه الله - ومن قال بقوله أم ولد المكاتب مال من ماله وماله كله لسيده إذا مات قبل ان يؤدي جميع كتابته وولده ان لم يقدروا على السعي فهم رقيق وان قدروا على السعي سعوا في ما يلزمهم من الكتابة على قدر قيمتهم
وعند أبي حنيفة إذا مات المكاتب وترك [مالا فيه] وفاء فكأنه مات حرا ويعتق أولاده بعتقه إذا أدى عنهم من ماله جميع كتابته وان لم يترك وفاء فان أولاده يقال لهم ان أديتم الكتابة حالة عتقتم والا فأنتم رقيق
وقال أبو يوسف يسعون في الكتابة على نجومها فان ادوها عتقوا ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد بيع المكاتب لام ولده ويجوز عند أبي حنيفة
وهو مذهب الشافعي وإذا لم يجز ذلك له فأحرى ان لا يجوز لولده
قال مالك (2) الامر عندنا في الذي يبتاع كتابه المكاتب ثم يهلك المكاتب قبل ان يؤدي كتابته انه يرثه الذي اشترى كتابته وان عجز فله رقبته وان أدى المكاتب كتابته إلى الذي اشتراها وعتق فولاؤه للذي عقد كتابته ليس للذي اشترى كتابته من ولائه شيء
410
قال أبو عمر قد تقدم هذا المعنى وقول مالك فيه وقول سائر العلماء في أول هذا الباب وقد تقدم في ضرر ذلك الحجة للمخالف
واما الحجة لمالك فان المشتري قد حل في كتابة المكاتب محل سيده الذي عقد له الكتابة فدخل في عموم قول الله تعالى * (وأحل الله البيع) * [البقرة 275] الا انه لم يحل محله في الولاء ان أدى إليه الكتابة فرارا من بيع الولاء فان عجز المكاتب ولم يؤد كتابته إلى المشتري ملك رقبته كما لو أن سيد المكاتب مات وورث عنه بنوه المكاتب لم يكن لهم عليه الا أداء الكتابة إليهم فإذا أداها عتق وكان ولاؤه لأبيهم الذي عقد له الكتابة ولو [عجز] كان رقيقا لهم يملكون رقبته ولو اعتقوه قبل العجز أو وهبوا له الكتابة كان ولاؤه لأبيهم لأنه عقد كتابته فلما لم يرث منه بنوه الا ما كان له ان ينتقل عنه بالعوض والهبة وذلك مال المكاتب دون الولاء فكذلك المشتري لم يملك من ذلك الا ما يجوز له ان ينتقل عنه وهو المال دون الولاء
((6 - باب سعي المكاتب))
1505 - مالك انه بلغه ان عروة بن الزبير وسليمان بن يسار سئلا عن رجل كاتب على نفسه وعلى بنيه ثم مات هل يسعى بنو المكاتب في كتابة أبيهم أم هم عبيد فقالا بل يسعون في كتابة أبيهم ولا يوضع عنهم لموت أبيهم شيء
قال مالك وان كانوا صغارا لا يطيقون السعي لم ينتظر بهم ان يكبروا وكانوا رقيقا لسيد أبيهم الا ان يكون المكاتب ترك ما يؤدى به عنهم نجومهم إلى أن يتكلفوا السعي فإن كان فيما ترك ما يؤدى عنهم ادي ذلك عنهم وتركوا على حالهم حتى يبلغوا السعي فان أدوا عتقوا وان عجزوا رقوا
قال أبو عمر قد قال بقول عروة وسليمان [الذي عليه بنى مالك مذهبه في هذا الباب إبراهيم] النخعي
ذكر أبو بكر قال حدثني جرير عن منصور عن إبراهيم في النفر يكاتبون جميعا فيموت أحدهم قال يسعى الباقون فيما كوتبوا عليه جميعا
وعبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال إذا كاتب أهل بيت كتابة واحدة فمن مات منهم فالمال على الباقي منهم
411
وهذا كقول مالك في أنهم إذا كوتبوا كتابة واحدة فهم حملاء بعضهم عن بعض لا يعتقون الا بأداء جميع الكتابة
وقد تقدم هذا المعنى في باب الحمالة [في الكتابة]
وسواء عند مالك كانوا أجنبيين أو أقارب أو ابا كاتب على نفسه وبنيه إذا كانت الكتابة واحدة لا يوضع عنهم بموت أحدهم شيء من الكتابة ولا يعتقون الا بأداء جميعها
وحكمهم عند مالك إذا كوتبوا كتابة واحدة كحكم المكاتب يولد له ولد في كتابته من سريته انه لا يوضع عن الام بموت ابنها ولا عن الابن بموت أبيه شيء من الكتابة
واما الشافعي والثوري وسائر الكوفيين كقولهم ان كل من كاتب على نفسه وولده أو على أجنبي معه ثم مات هو أو غيره ممن تضمنته الكتابة فإنه يوضع عن الباقين حصته من الكتابة
واما الذي لا يسقط بموته شيء فهو من كان تبعا لأبيه ممن ولد له في كتابته من سريته
وهو قول جماعة من التابعين منهم الحسن والشعبي وعطاء وعمرو بن دينار
ذكر أبو بكر قال حدثني حفص قال سالت عمرو [بن عبيد] ما كان الحسن يقول في ذلك قال كان يرفع عنهم حصة الميت منهم
قال وحدثني وكيع عن الحسن بن صالح عن أشعث عن الشعبي مثله
قال وحدثني الفضل بن دكين عن بن أبي عتبة عن الحكم مثله
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج عن عطاء قال إن كاتبت عبدا لك وله بنون فكاتب على نفسه وعنهم فمات أبوهم أو مات منهم ميت فقيمته يوم يموت توضع من الكتابة أو ثمنه كما لو اعتقه
قال وقال عمرو بن دينار مثله
قال بن جريج قلت لعمرو أرأيت ان كان الذي مات أو عتق قيمة الكتابة كلها قال يقام هو وبنوه فان بلغ مائة دينار وكاتب مكاتبهم ست مئة دينار فاطرح ثمن الذي اعتق أو مات سدس المائة الدينار
قال أبو عمر اختلف العلماء في اعتبار حصة الذي يموت أو يعتق فقال
412
بعضهم بالقيمة وهو قول الشافعي وهو الثمن عند عطاء ومن قال بقوله وقال آخرون حصته على قدر غناه وكسبه وحاله وقال آخرون حصته على الرؤوس بالسواء
قال بن جريج عن أبي مليكة إذا كاتب على نفسه وعلى بنيه فهم فيه سواء وذو الفضل وغير ذي الفضل والمراة والرجل في ذلك سواء ومن مات منهم فحصته سواء
وقال معمر بلغني في مكاتب كاتب على نفسه وبنيه فمات الأب أو مات منهم ميت فإنه يوضع عنهم بقدر قيمة الميت من قدر الكتابة قال وان كان العتق فكذلك
قال أبو عمر [لا اعلم خلافا ان السيد إذا اعتق أحدهم انه يسقط حصته عن غيره منهم وليس له عند مالك ان يعتق الذي هو أقدر على السعي بهم لأنه غرر بهم وستأتي هذه المسالة في بابها
واما المكاتب يولد له في كتابته أو المكاتبة تنكح فيولد لها فان مات في بيتهما لا يوضع عنهما بذلك شيء من كتابتهما عند جماعة فقهاء الحجاز والعراق لان الكتابة انما انعقدت على الأب أو الام وما حدث من البنين لهما في الكتابة فهم تبع لهما يعتقون بعتق كل واحد منهما ويرقون برقهما
قال وأخبرنا بن جريج قال قال لي عطاء ان كاتبته ولا ولد له ثم ولد له من سرية له فمات أبوهم لم يوضع عنهم لموته شيء وكانوا على كتابة أبيهم ان شاؤوا وان أبوا كانوا رقيقا وان اعتق انسان منهم لم يوضع عنهم به شيء من اجل انه لم يكن في كتابة أبيهم
وبن جريج عن عمرو بن دينار مثله وزاد عمرو قال ولو اعتق أبوه - يعني بنيه الذين ولدوا بعد كتابته
ومعمر عن قتادة قال إن ولد للمكاتب ولد بعد الكتابة فاعتق أو مات لم يحط بذلك شيء
ذكر عبد الرزاق عن الثوري في المكاتبة يولد لها في كتابتها مثل ذلك
قال أبو عمر لا يختلفون في ذلك]
قال أبو حنيفة ان مات المكاتب ولم يترك مالا وترك ابنا ولد له في كتابته خلف ابنه فيسعى في الكتابة على نجومها فإذا أدى عتق ابنه
413
قال مالك (1) في المكاتب يموت ويترك مالا ليس فيه وفاء الكتابة ويترك ولدا معه في كتابته وأم ولد فأرادت أم ولده ان تسعى عليهم انه يدفع إليها المال إذا كانت مأمونة على ذلك قوية على السعي وان لم تكن قوية على السعي ولا مأمونة على المال لم تعط شيئا من ذلك ورجعت هي وولد المكاتب رقيقا لسيد المكاتب
قال أبو عمر خالفه الشافعي والكوفيون فقالوا أم ولد والمكاتب إذا مات مال من مال سيده فإن لم يستطع ولده السعي في جميع كتابته فهم رقيق وقد تقدم هذا المعنى عنهم وحجة كل واحد منهم
قال مالك (2) إذا كاتب القوم جميعا كتابة واحدة ولا رحم بينهم فعجز بعضهم وسعى بعضهم حتى عتقوا جميعا فان الذين سعوا يرجعون على الذين عجزوا بحصة ما
أدوا عنهم لان بعضهم حملاء عن بعض
قال أبو عمر اختلف أصحاب مالك في هذا الباب فقال بن القاسم لا يرجع على من لو ملكه وهو حر عتق عليه ورجع على ما سواه من القرابات
وكذلك قال بن نافع
وقال اشهب إذا كانوا قرابة فلا يرجع عليهم كانوا ممن يعتقون عليه لو ملكهم وهو حرام لا يعتقون عليه وكانوا ممن يرثون [أم ممن لا يرثون] لان أداءه عنهم اما هو على وجه العطف والصلة
وهو كقوله الشافعي لأنه قال لا ينصرف عليهم الا ان يشترطه لأنه تطوع بذلك عنهم
وقال بن كنانة ان كانوا يتوارثون فلا يرجع عليهم
وقال المغيرة يرجع عليهم كائنا ما كانوا لان أداءه عنهم انما هو من باب الحمالة
قال أبو عمر اما الشافعي فمذهبه ان ما عدا الوالد وان علا من الاباء والولد وان سفل من الأبناء فإنهم يعتقون على من ملكهم فإن كان معه في كتابة واحدة من يعتق عليه وادى بعضهم عن بعض لم يرجع على سائرهم بشيء لأنهم يعتقون عليه لو ملكهم
وكذلك الأخ عند مالك من أي وجه كان مع الأب وان علا أو الابن وان سفل
414
وكذلك كل ذي رحم محرم عند أبي يوسف ومحمد والثوري
ولأبي حنيفة في ذلك قولان أحدهما الابن وحده والاخر كقول أبي يوسف
((7 - باب عتق المكاتب إذا أدى ما عليه قبل محله))
1506 - مالك انه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيره يذكرون ان مكاتبا كان للفرافصة بن عمير الحنفي وانه عرض عليه ان يدفع إليه جميع ما عليه من كتابته فأبى الفرافصة فاتى المكاتب مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر ذلك له فدعا مروان الفرافصة فقال له ذلك فأبى فامر مروان بذلك المال ان يقبض من المكاتب فيوضع في بيت المال وقال للمكاتب اذهب فقد عتقت فلما رأى ذلك الفرافصة قبض المال
قال مالك فالامر عندنا ان المكاتب إذا أدى جميع ما عليه من نجومه قبل محلها جاز ذلك له ولم يكن لسيده ان يأبى ذلك عليه وذلك أنه يضع عن المكاتب بذلك كل شرط أو خدمة أو سفر لأنه لا تتم عتاقة رجل وعليه بقية من رق ولا تتم حرمته ولا تجوز شهادته ولا يجب ميراثه ولا أشباه هذا من امره ولا ينبغي لسيده ان يشترط عليه خدمة بعد عتاقته
قال مالك في مكاتب مرض مرضا شديدا فأراد ان يدفع نجومه كلها إلى سيده لان يرثه ورثة له أحرار وليس معه في كتابته ولد له
قال مالك ذلك جائز له لأنه تتم بذلك حرمته وتجوز شهادته ويجوز اعترافه بما عليه من ديون الناس وتجوز وصيته وليس لسيده ان يأبى ذلك عليه بان يقول فر مني بماله
قال أبو عمر اما قضاء مروان على الفرافصة بن عمير فقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - وأظن مروان بلغه ذلك فقضى به وكذلك قضى عمرو بن سعيد في امارته
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرنا إسرائيل بن يونس قال أخبرنا عبد العزيز بن رفيع عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال كاتب رجل غلاما
415
له على أواق سماها ونجمها عليه نجوما فاتاه العبد بماله كله فأبى ان يقبله الا على نجومه رجاء ان يرثه فاتى عمر بن الخطاب فأخبره فأرسل إلى سيده فأبى ان يأخذها فقال عمر خذها فاطرحه في بيت المال واعطه نجومه وقال للعبد اذهب فقد عتقت فلما رأى ذلك سيد العبد قبل المال
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال كاتب عبد على أربعة آلاف أو خمسة آلاف فجاء بها إلى سيده فقال خذها جميعا وصلني فأبى سيده الا ان يأخذها في كل سنة نجما رجاء ان يرثه فاتى عثمان بن عفان فذكر ذلك له فدعاه عثمان فعرض عليه ان يقبلها من العبد فأبى فقال للعبد ائتني بما عليك فاتاه به فجعله في بيت المال وكتب له عتقا وقال للمولى ائتني كل سنة فخذ نجما فلما رأى ذلك اخذ ماله وكتب عتقه (1)
قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرني عطاء ان مكاتبا عرض على سيده بقية كتابته فأبى سيده فقال له عمرو بن سعيد وهو أمير مكة هلم ما بقي عليك فضعه في بيت المال وأنت حر وخذ أنت نجومك في كل عام فلما رأى ذلك سيده اخذ ماله (2)
قال وأخبرنا بن جريج قال أخبرني بن مسافع عن مروان انه قضى بمثل هذه القضية في وردان
قال أبو عمر على هذا مضى القضاء عند جمهور الفقهاء بالحجاز والشام والعراق
وبه قال احمد وإسحاق
وذكر المزني عن الشافعي ويجبر السيد على قبول النجم إذا عجله له المكاتب
واحتج في ذلك بعمر بن الخطاب
قال الشافعي إذا كانت دنانير أو دراهم أو ما [لا] يتغير على طول العهد الحديد والنحاس وما أشبهه واما ما يتغير على المكث أو كانت لحمولته مؤنة فليس عليه قبوله الا في موضعه
قال فإن كان في طريق حرابة أو في بلد فيه نهب لم يلزمه قبوله الا ان يكون في ذلك الموضع كاتبه فيلزمه قبوله
416
قال أبو عمر وجه قول مالك على سيد المكاتب قبول الكتابة منه مريضا كان المكاتب أو صحيحا لان المكاتبة عقد عتق على صفة وهي الأداء فإذا أداها لزم السيد قبولها فان امتنع من ذلك أجبر عليه لأنه حق للمكاتب ومعلوم ان التأخير انما كان رفقا بالمكاتب لا بالسيد فإذا رضي المكاتب بتعجيل الكتابة لم يكن لامتناع السيد من ذلك وجه الا الاضرار فوجب ان يمنع منه ويجبر على القبول للمال لما فيه من الخير لهما جميعا وبالله التوفيق
((8 - باب ميراث المكاتب إذا عتق))
1507 - مالك انه بلغه ان سعيد بن المسيب سئل عن مكاتب كان بين رجلين فاعتق أحدهما نصيبه فمات المكاتب وترك مالا كثيرا فقال يؤدى إلى الذي تماسك بكتابته الذي بقي له ثم يقتسمان ما بقي بالسوية
قال أبو عمر قول مالك في هذه المسالة كقول سعيد بن المسيب على اختلاف عنه وعن أصحابه في بعض معناها وقد ذكرنا ذلك عنهم في باب القطاعة في الكتابة
وقد اختلف السلف في هذه المسالة على أقوال
فذكر عبد الرزاق (1) عن بن جريج قال سالت عطاء عن عبد بين رجلين اعتق أحدهما شطره وامسك الاخر ثم مات قال لهم ميراثه شطرين بينهما
وقاله عمرو بن دينار
قال وأخبرنا معمر [عن أيوب عن اياس بن معاوية انه قضى بمثل قول عطاء
وعن معمر عن بن طاوس عن أبيه مثله
وقول أحمد بن حنبل كقول عطاء وطاوس واياس
قال وأخبرنا معمر] عن الزهري قال ميراثه للذي امسك
قال وأخبرنا بن جريج قال قال لي بن شهاب الرق يغلب النسب فهو للعتق أغلب
قال وأخبرنا معمر عن قتادة قال ميراثه للذي اعتق [ويكون لصاحبه ثمنه
417
قال معمر واما بن شبرمة فقال ولاؤه وميراثه للأول لأنه قد ضمنه حين اعتقه
وللشافعي فيها قولان أحدهما ان ما خلفه المكاتب [إذا مات] فبينهما الشطران يرثه المعتق لنصيبه بقدر الحرية فيه ويرثه الاخر بقدر العبودية فيه
والاخر مثل قول سعيد بن المسيب
وقول الثوري كقول بن شبرمة وهو قول أبي يوسف
وسنزيد هذه المسالة بيانا في باب العتق إن شاء الله تعالى
قال مالك (1) إذا كاتب المكاتب فعتق فإنما يرثه أولى الناس بمن كاتبه من الرجال يوم توفي المكاتب من ولد أو عصبة
[قال وهذا أيضا في كل من اعتق فإنما ميراثه لأقرب الناس ممن اعتقه من ولد أو عصبة] من الرجال يوم يموت المعتق بعد ان يعتق ويصير موروثا بالولاء
قال أبو عمر على هذا قول جمهور الفقهاء ان ميراث الولاء لا يرثه الا العصبات من الرجال دون النساء وان النساء [لا يرثن الا ولاء من أعتقن أو كاتبن] أو يعتق من أعتقن أو كاتبن ولا يستحق ميراث من مات من الموالي الا اقعد الناس بمن اعتقه وأقربه إليه يوم يموت المولي من عصبته
والعصبة البنون ثم بنوهم وان سفلوا ثم الأب بعد ولده وولد ولده ثم الاخوة لأنهم بنو الأب ثم بنو الاخوة وان سفلوا ثم الجد أو الأب ثم العم لأنه بن الجد ثم بنو العم وعلى هذا التنزيل وهذا المجرى يجري ميراث الولاء
وروى بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري انه اخبره عن سالم ان بن عمر كان يرث موالي عمر دون بنات عمر
وهو قول علي وزيد وبن مسعود وعليه جمهور أهل العلم القائلون بان الولاء للكبر
ومعنى الولاء للكبر أي للأقرب فالأقرب من المعتق السيد حين يموت المعتق المولي ولم يجعلوه مشتركا بين ذوي الفروض والعصبات على طريق الفرائض
مثال ذلك اخوان ورثا مولى كان أبوهما قد اعتقه فمات أحد الأخوين وترك ولدا ومات المولى فمن قال (الولاء للكبر) قال الميراث للأخ دون بن الأخ
418
وهو قول أكثر أهل العلم الا شريحا وفرقة لأنهم جعلوا ميراث الولاء كميراث المال
ذكر حماد بن سلمة عن قتادة ان شريحا قال في رجل ترك جده وابنه قال للجد السدس من الولاء وما بقي فللابن
قال قتادة وقال زيد بن ثابت الولاء كله للابن
[قال حماد وسالت عنها اياس بن معاوية فقال كله للابن] وقال كل انسان له فريضة مسماة فليس له من الولاء شيء
قال أبو عمر يعني ان كل من لا يرث الا بفرض مسمى فلا يدخل له في ميراث الولاء واما من يرث في حال بفرض مسمى وفي حال بالتعصيب فإنه لا يكون له شيء من الولاء في الحال التي له فيها فرض مسمى وان كان قد يكون عصبة في موضع اخر فيكون له الولاء
قال مالك (1) الاخوة في الكتابة بمنزلة الولد إذا كوتبوا جميعا كتابة واحدة إذا لم يكن لاحد منهم ولد كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم ثم هلك أحدهم وترك
مالا ادي عنهم جميع ما عليهم من كتابتهم وعتقوا وكان فضل المال بعد ذلك لولده دون اخوته]
قال أبو عمر معنى قوله ان الاخوة إذا كاتب عليهم جروا مجرى البنين الذين ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم يرثونه بعد أداء كتابته مما يخلفه فإذا أدوا الكتابة من المال الذي تركه ورثوا الفضل كما يصنع البنون الذين ولدوا معه في كتابته أو كاتب عليهم سواء إذا لم يكن معهم في الكتابة بنون ورثوه دون الاخوة الذين معهم في الكتابة ولا يرثه الا من معه في كتابته دون بنيه الأحرار وغيرهم إذا كانوا بنين واخوة
هذا كله قول مالك رحمه الله ومذهبه [وقد مضى] ما للعلماء من التنازع والاختلاف في هذا الباب فأغنى ذلك عن تكراره
((9 - باب الشرط في المكاتب))
1508 - قال مالك في رجل كاتب عبده بذهب أو ورق واشترط عليه في
419
كتابته سفرا أو خدمة أو ضحية ان كل شيء من ذلك سمى باسمه ثم قوي المكاتب على أداء نجومه كلها قبل محلها
قال إذا أدى نجومه كلها وعليه هذا الشرط عتق فتمت حرمته ونظر إلى ما شرط عليه من خدمة أو سفر أو ما أشبه ذلك مما يعالجه هو بنفسه فذلك موضوع عنه ليس لسيده فيه شيء وما كان من ضحية أو كسوة أو شيء يؤديه فإنما هو بمنزلة الدنانير والدراهم يقوم ذلك عليه فيدفعه مع نجومه ولا يعتق حتى يدفع ذلك مع نجومه
قال أبو عمر هكذا هو في (الموطأ) عند رواته وذكر بن عبد الحكم في المختصر الصغير عن مالك انه لا باس ان يشترط الرجل على مكاتبه سفرا أو خدمة يؤدي ذلك إليه مع كتابته وزعم بن الجهم ان هذا خلاف لما في (الموطأ)
[وليس ذلك عندي بخلاف لان ما ذكره بن عبد الحكم انما هو جواز ما تنعقد عليه الكتابة والذي ذكره مالك في (الموطأ) حكم ذلك تعجيل المكاتب كتابته
وقد اختلف الفقهاء قديما وحديثا في هذا المعنى فمنهم من لم ير ان يثبت على المكاتب خدمة بعد أداء نجومه ولا بعد عتقه
ومنهم من رأى ان السيد في ذلك على شرطه ولا يعتق المكاتب حتى يخدم ويأتي بجميع ما شرط عليه
وحجة من ذهب إلى هذا حديث موسى بن عقبة وأيوب بن موسى وعبيد الله بن عمر [وغيرهم] عن نافع عن بن عمر ان عمر بن الخطاب اعتق في وصيته كل مصل من سبي العرب في مال الله وشرط عليهم ان يخدموا الخليفة [بعده] ثلاث سنوات
[ومنهم من يروي في هذا الحديث انه نبه (على) عتقهم في مرضه وشرط عليهم ان يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين
[ومعمر عن بن شهاب قال اعتق عمر بن الخطاب رقيق الامارة وشرط عليهم ان يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين] وانه يصحبكم بمثل ما كنت اصحبكم به
وابتاع أحدهم خدمته من عثمان بوصيف له
420
وممن رأى ان الشرط باطل بن المسيب وشريح وعطاء
قال بن جريج قلت لعطاء شرطوا على المكاتب انك تخدمنا شهرا بعد العتق قال لا يجوز
وقال عمرو بن دينار ما أرى كل شرط اشترط عليه في الكتابة الا جائزا بعد العتق
[ومعمر عن بن المسيب عن قتادة قال كل شرط بعد العتق فهو باطل
وقاله بن شهاب]
قال أبو عمر [القياس الا يعتق الا بعد الخروج مما شرط عليه لأنه عتق نصفه فلا يقع بوجودها وليست الكتابة اشتراء منه لنفسه من سيده لأنه لو كان كذلك لم يعد بالعجز عن الأداء رقيقا ولكان ذلك في ذمته كسائر أثمان السلع المبيعة بالنظرة ولم يجب لهذا ان العبد ان يعتقه سيده على أن يخدمه سنين معلومة انه لا يعتق الا بذلك
وقيل قيل إن مالكا انما اسقط عن المكاتب إذا عجل نجومه الخدمة اليسيرة والاسفار القليلة وليس في قول مالك في (الموطأ) ما يدل على ذلك ولا يهمنا القول أيضا معنى الا التحكم في الفرق بين يسير الخدمة وكثيرها]
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه ان المكاتب بمنزلة عبد اعتقه سيده بعد خدمة عشر سنين فإذا هلك سيده الذي اعتقه قبل عشر سنين فان ما بقي عليه من خدمته لورثته وكان ولاؤه للذي عقد عتقه ولولده من الرجال أو العصبة
قال أبو عمر هذا يقضي بصحة ما رواه بن عبد الحكم دون ما رسمه في (موطئه) في المسالة قبل هذه وعلى هذا قول فقهاء الحجاز والعراق والشام ومصر
قال مالك (2) في الرجل يشترط على مكاتبه انك لا تسافر ولا تنكح ولا تخرج من ارضي الا باذني فان فعلت شيئا من ذلك بغير اذني فمحو كتابتك بيدي
قال مالك (3) ليس محو كتابته بيده ان فعل المكاتب شيئا من ذلك وليرفع سيده ذلك إلى السلطان وليس للمكاتب ان ينكح ولا يسافر ولا يخرج من ارض
421
سيده الا باذنه اشترط ذلك أو لم يشترطه وذلك أن الرجل يكاتب عبده بمائة دينار وله ألف دينار أو أكثر من ذلك فينطلق فينكح المراة فيصدقها الصداق الذي يجحف بماله ويكون فيه عجزه فيرجع إلى سيده عبدا لا مال له أو يسافر فتحل نجومه وهو غائب فليس ذلك له ولا على ذلك كاتبه وذلك بيد سيده ان شاء اذن له في ذلك وان شاء منعه
قال أبو عمر اما قوله ليس للمكاتب ان ينكح فهو قول أكثر أهل العلم قال الشافعي وأبو حنيفة ليس للمكاتب ان ينكح الا باذن سيده ولا يتسرى بحال
قال أبو عمر هذا على أصل مذهبهما ان العبد لا يتسرى بحال لأنه لا يملك وستأتي مسالة تسري العبد في موضعها إن شاء الله تعالى
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرني رجل من قيس قال سالت أبا حنيفة هل يكتب في كتابة المكاتب (انك لا تخرج الا باذني) قال لا قلت لم قال لأنه ليس له ان يمنعه
وان يبتغي من فضل الله والخروج من الطلب قال فهل يكتب له ان لا يتزوج الا باذنه قال إن كتبه فحسن وان لم يكتبه فليس له ان يتزوج الا باذنه قلت له فهل يقول غيرك ان له ان يتزوج وان لم يشترط ذلك عليه قال نعم قلت افيكتبه إذا خاف غيركم قال نعم
قال أبو عمر لم يسمع عبد الرزاق ان هذه المسالة من أبي حنيفة كما ترى وقد سمع منه كثيرا
وأما السفر للمكاتب فالأكثر من العلماء يستحبونه للمكاتب ولا يجيزون للسيد ان يشترط عليه الا يسافر كما قال أبو حنيفة
وقد اختلف في ذلك أصحاب [أبي حنيفة و] مالك
ففي (المدونة) قال بن القاسم إذا كان الموضع القريب الذي لا يضر سيده في نجومه فله ان يسافر إليه وهذا خلاف ظاهر ما في (الموطأ)
وقال سحنون لا يجوز ان يشترط عليه ان [لا] يسافر الا باذنه في بعض الأقاويل وله ان يسافر بغير اذنه وان اشترطه عليه وللمكاتب ان يخرج فيسعى وكيف يسعى إذا منع [من السفر]
وقال بن الماجشون [في كتابه] إذا كان البلد ضيق المتاجر لم يجز شرطه عليه الا يسافر الا باذنه لأنه يحول بينه وبين أداء كتابته
422
قال أبو عمر في هذه المسالة ثلاثة أقوال [لسائر العلماء]
أحدها ان للمكاتب ان يسافر باذن سيده وبغير اذنه ولا يجوز ان يشترط عليه سيده ان لا يسافر الا باذنه
وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة والحسن بن صالح واحمد وإسحاق ورواية عن الثوري
وهو قول سعيد بن جبير والشعبي
والقول الثاني قول مالك في (موطئه)
والقول الثالث ان له ان يخرج في أسفاره الا ان يشترط سيده الا يخرج فيلزمه ما الزمه من ذلك
قال أبو ثور وغيره واحمد وإسحاق ورواية عن الثوري
واما أبو حنيفة وأبو يوسف [ومحمد] وزفر فقالوا للمكاتب [والمكاتبة] ان يخرجا حيث احبا وليس لمولاهما ان يمنعهما ذلك وان كان اشترط ذلك عليهما [فالشرط باطل] [اما النكاح فلا]
وقال أحمد وسفيان وإسحاق لا ينكح الا باذن السيد الا ان يشترط عليه في عقد الكتابة ان لا ينكح فيلزمه
((10 - باب ولاء المكاتب إذا اعتق))
1509 - قال مالك ان المكاتب إذا اعتق عبده ان ذلك غير جائز له الا باذن سيده فان أجاز ذلك سيده له ثم عتق المكاتب كان ولاؤه للمكاتب وان مات المكاتب قبل ان يعتق كان ولاء المعتق لسيد المكاتب وان مات المعتق قبل ان يعتق المكاتب ورثه سيد المكاتب
قال مالك وكذلك أيضا لو كاتب المكاتب عبدا فعتق المكاتب الاخر قبل سيده الذي كاتبه فان ولاءه لسيد المكاتب ما لم يعتق المكاتب الأول الذي كاتبه فان عتق الذي كاتبه رجع إليه ولاء مكاتبه الذي كان عتق قبله وان مات المكاتب الأول قبل ان يؤدي أو عجز عن كتابته وله ولد أحرار لم يرثوا ولاء مكاتب أبيهم لأنه لم يثبت لأبيهم الولاء ولا يكون له الولاء حتى يعتق
قال أبو عمر قد خالفه الشافعي وغيره قال الشافعي وان اعتق المكاتب
423
[عبده] أو كاتبه باذن سيده ففيهما قولان أحدهما انه لا يجوز [لان الولاء لمن اعتق]
والثاني انه يجوز
وفي الولاء قولان
أحدهما ان ولاءه موقوف فان عتق الأول المكاتب كان له وان لم يعتق حتى يموت فالولاء للسيد من قبل انه عند عبده عتق
والثاني ان الولاء لسيد المكاتب بكل حال لأنه عتق في حين لا يكون له في عتقه ولاء فان مات عبد المكاتب المعتق بعد ما يكتب وقف ميراثه في قول من أوقف الميراث كما وصفت فان عتق المكاتب الذي اعتقه فهو له وان مات وان عجز فلسيد المكاتب إذا كان حيا يوم يموت وان كان ميتا فلورثته من الرجال ميراثه
وفي القول الثاني هو لسيد المكاتب لان ولاءه له
قال المزني في (الاملاء) على كتاب مالك انه لو كاتب المكاتب عبده فإذا لم يعتق كما لو اعتقه لم يعتق
قال المزني هذا أشبه عندي
وقال أبو حنيفة إذا اعتق المكاتب عبده فعتقه له باطل أجاز ذلك السيد أو لم يجزه
وقال محمد بن الحسن محتجا لأبي حنيفة [ومذهبه في ذلك] محال ان يقع عتقه [في ذلك] غير جائز ثم يجوز إذا اجازه السيد
قال أبو عمر مما يدخل في هذا الباب من أقاويل السلف
قال بن جريج قلت لعطاء كان للمكاتب عبد فكاتبه فعتق ثم مات لمن ميراثه
قال من كان قبلكم يقولون هو للذي كاتبه يستعين به في كتابته
وعن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم انه سئل عن المكاتب يعتق عبدا له
قال أفلا يبدأ بنفسه
[وبه عن إبراهيم في عبد كان لقوم فاذنوا له ان يشتري عبدا فيعتقه ثم باعوه باعه قال الولاء للأولين الذين اذنوا
وقال الثوري في رجل كاتب عبدا له على أربعة آلاف فاشترى العبد نفسه من المكاتبة فعتق قال يكون الولاء لسيد المكاتب
424
قال مالك (1) في المكاتب يكون بين الرجلين فيترك أحدهما للمكاتب الذي له عليه ويشح الاخر ثم يموت المكاتب ويترك مالا
قال مالك يقضي الذي لم يترك له شيئا ما بقي له عليه ثم يقتسمان المال كهيئته لو مات عبدا لان الذي صنع ليس بعتاقة وانما ترك ما كان له عليه
قال مالك (2) ومما يبين ذلك أيضا انهم إذا اعتق أحدهم نصيبه ثم عجز المكاتب لم يقوم على الذي اعتق نصيبه ما بقي من المكاتب ولو كانت عتاقة قوم عليه حتى يعتق في ماله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق)
قال مالك ومما يبين ذلك أيضا ان من سنة المسلمين التي لا اختلاف فيها ان من اعتق شركا له في مكاتب لم يعتق عليه في ماله ولو عتق عليه كان الولاء له دون شركائه ومما يبين ذلك أيضا ان من سنة المسلمين ان الولاء لمن عقد الكتابة وانه ليس لمن ورث سيد المكاتب من النساء من ولاء المكاتب وان أعتقن نصيبهن شيء انما ولاؤه لولد سيد المكاتب الذكور أو عصبته من الرجال
قال أبو عمر قد احتج مالك رحمه الله فأوضح وبين مذهبه وشرح
ومن الخلاف في ذلك ان الشافعي قال ولو كان مكاتبا بين اثنين فوضع أحدهما عنه نصيبه من الكتابة وابراه منه فهو كعتقه ويقوم عليه ان كان موسرا والولاء له
وهو قول الكوفيين واحمد وإسحاق
قال ولو مات المكاتب ولم يقوم عليه لاعساره فالمال بينهما نصفان
قال ولو مات السيد فابراه ورثته أو بعضهم من الكتابة فإنه يبرا من نصيب من ابراه ويعتق نصيبه كما لو ابراه الذي كاتبه من الكتابة عتق
ومعنى الباب قد تقدم [في باب القطاعة في الكتابة] والحمد لله
((11 - باب ما لا يجوز من عتق المكاتب))
1510 - قال مالك إذا كان القوم جميعا في كتابة واحدة لم يعتق سيدهم
425
أحدا منهم دون موامرة أصحابه الذين معه في الكتابة ورضا منهم وان كانوا صغارا فليس مؤامرتهم بشيء ولا يجوز ذلك عليهم
قال وذلك أن الرجل ربما كان يسعى على جميع القوم ويؤدي عنهم كتابتهم لتتم به عتاقتهم فيعمد السيد إلى الذي يؤدي عنهم وبه نجاتهم من الرق فيعتقه فيكون ذلك عجزا لمن بقي منهم وانما أراد بذلك الفضل والزيادة لنفسه فلا يجوز ذلك على من بقي منهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) (1) وهذا أشد الضرر
قال مالك في العبيد يكاتبون جميعا ان لسيدهم ان يعتق منهم الكبير الفاني والصغير الذي لا يؤدي واحد منهما شيئا وليس عند واحد منهما عون ولا قوة في كتابتهم فذلك جائز له
قال أبو عمر قوله هذا صحيح على أصله في العبيد يكاتبون كتابة واحدة انهم حملاء بعضهم عن بعض ولا يصح من مذهب من جعلهم حملاء بعضهم من بعض ما قاله مالك رحمه الله
وقد ذكرنا من خالفه في هذا الأصل ومن وافقه فيه من سائر العلماء في باب الحمالة في الكتابة وذكرنا أقوالهم في السيد يعتق بعض من كاتبه من عبيده كتابة واحدة انه يلزمه فيه العتق ويسقط من الكتابة عن أصحابه بقدر المعتق وان منهم من قال بالقيمة ومنهم من قال بقدر الغنى والحال ومنهم من قال على السواء في عددهم على الرؤوس بما اغنى عن اعادته ها هنا
((12 - باب ما جاء في عتق المكاتب وأم ولده))
1511 - قال مالك في الرجل يكاتب عبده ثم يموت المكاتب ويترك أم ولده وقد بقيت عليه من كتابته بقية ويترك وفاء بما عليه ان أم ولده أمه مملوكة حين لم يعتق المكاتب حتى مات ولم يترك ولدا فيعتقون بأداء ما بقي فتعتق أم ولد أبيهم بعتقهم
قال أبو عمر قد تقدم ذكر ما لمذاهب العلماء في المكاتب يموت ويترك وفاء في كتابته وانه عبد ان لم يترك بنين ولدوا في كتابته أو اخوة كاتب عليهم انه
426
يموت عبدا وماله الذي يخلفه لسيده وانه ان ترك بنين أو اخوة كاتب عليهم أدوا عنه جميع الكتابة وعنهم في ذلك المال وورثوا الفضل في هذه المسالة في هذا الباب لم يترك ولدا ولا اخوة ولم يترك أم ولد وهي مال من ماله فهي لسيده لأنه مات عبدا
وعند الشافعي يموت عبدا على كل حال وماله لسيده ان مات وقد بقي عليه من كتابته درهم وأم ولده كسائر ماله عنده
ومذهب الكوفي قد ذكرناه فيما تقدم
واختلف أصحاب مالك في أم ولد [المكاتب] يموت قبل الأداء ويترك لمكاتبه وفاء ما جاز لها
فقال بن القاسم ان كان معها ولد عتقت وان لم يكن معها ولد فهي رقيق إذا ترك المكاتب وفاء
قال أبو عمر قول بن القاسم صحيح على مذهب مالك في (موطئه) وغير (موطئه)
وقال اشهب ليس بشيء مما وصفنا ولأنهم _ اعني مالكا وأصحابه - لم يختلفوا ان للمكاتب ان يبيع أم ولده في دين لا يجد له قضاء ويبيعها إذا خاف العجز فهي كسائر ماله وإذا مات قبل الأداء مات عبدا وماله لسيده
قال مالك (1) في المكاتب يعتق عبدا له أو يتصدق ببعض ماله ولم يعلم بذلك سيده حتى عتق المكاتب
قال مالك (2) ينفذ ذلك عليه وليس للمكاتب ان يرجع فيه فان علم سيد المكاتب قبل ان يعتق المكاتب فرد ذلك ولم يجزه فإنه ان عتق المكاتب وذلك في يده لم يكن عليه ان يعتق ذلك العبد ولا ان يخرج تلك الصدقة الا ان يفعل ذلك طائعا من عند نفسه
قال أبو عمر لم يختلفوا ان المكاتب ليس له ان يهلك ماله ويتلفه ولا شيئا منه الا بمعروف وان هبته وصدقته بغير التافة اليسير وعتقه كل ذلك باطل مردود إذا كان بغير اذن سيده
[واختلفوا إذا اذن له سيده أو] أجاز له عتقه على ما قدمنا ذكره
427
وكذلك اجمعوا ان له ان ينفق على نفسه من كسبه في كل ما يحتاج إليه من [كسوته] وقوته بالمعروف وانه في تصرفه في البيع والشراء بغير محاباة ولا غبن كالاحرار
وقال الشافعي المكاتب ممنوع من استهلاك [ماله] وان يبيع الا بما يتغابن الناس بمثله ولا يهب الا باذن سيده ولا يكفر في شيء من الكفارات الا بالصوم وهو في بيعه وشرائه وفي الشفعة عليه وله في ما بينه وبين سيده والأجنبي سواء
وقال المكاتب لا يبيع بدين ولا يهب لثواب واقراره في البيع جائز
قال ولو كانت [له] على مواليه دنانير ولمولاه عليها مثلها فجعل ذلك قصاصا جاز
قال ولو كانت إحداهما دراهم والأخرى دنانير فأراد ان يجعلهما قصاصا لم يجز
قال أبو عمر على أصله ان ما اعتقه المكاتب بغير اذن سيده لم ينفذ قبل عتقه ولا بعد عتقه واما ما تصدق ووهبه بغير اذن سيده ولم يعلم الا بعد أداء كتابته وعتقه فإنه ينفذ منه كلما قبضه الموهوب له والمتصدق عليه
وقال بقول مالك ان العتق نافذ ماض والصدقة والهبة إذا لم يعلم السيد بذلك حتى عتق المكاتب جماعة [من العلماء]
قال أبو عمر اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري انه لا ينبغي لسيد المكاتب ان يبيع منه درهما بدرهمين
((13 - باب الوصية في المكاتب))
1512 - قال مالك ان أحسن ما سمعت في المكاتب يعتقه سيده عند الموت ان المكاتب يقام على هيئته تلك التي لو بيع كان ذلك الثمن الذي يبلغ فان كانت القيمة أقل مما بقي عليه من الكتابة وضع ذلك في ثلث الميت ولم ينظر إلى عدد الدراهم التي بقيت عليه وذلك أنه لو قتل لم يغرم قاتله الا قيمته يوم قتله ولو جرح لم يغرم جارحه الا دية جرحه يوم جرحه ولا ينظر في شيء من ذلك إلى ما كوتب عليه من الدنانير والدراهم لأنه عبد ما بقي عليه من كتابته شيء وان كان الذي بقي عليه من كتابته أقل من قيمته لم يحسب في ثلث
428
الميت الا ما بقي عليه من كتابته وذلك أنه انما ترك الميت له ما بقي عليه من كتابته فصارت وصية أوصى بها
قال مالك وتفسير ذلك أنه لو كانت قيمة المكاتب ألف درهم ولم يبق من كتابته الا مائة درهم فأوصى سيده له بالمائة درهم التي بقيت عليه حسبت له في ثلث سيده فصار حرا بها
قال أبو عمر يريد انه إذا أوصى رجل بمكاتبه مما بقي عليه من كتابته حسب في الثلث الأول من ذلك أو من ثمن رقبته ويقوم عبدا فإذا قام ثلث سيده الأول من ثمن رقبته أو مما بقي عليه خرج حرا
وكذلك لو اعتقه في مرضه الذي مات فيه قومت رقبته عبدا [في قيمته فان قومت] ذلك الثلث خرج حرا كما يقوم لو قتله قاتل أو جرحه جارح [قوم عبدا]
وقوله أحسن ما سمعت يدل انه قد سمع فيما رسمه غير ذلك
وقد اختلف بن القاسم وغيره في مسالة هذا الباب فقال بن القاسم إذا أوصى سيد المكاتب بعتقه أو بكتابته لم يدخل في ذلك من ثلثه الا الأقل من قيمة [الرقبة] أو قيمة الكتابة
ذكره سحنون في (المدونة) قاله وقال غيره الأقل من قيمة الرقبة أو الكتابة نفسها لا قيمة المكاتبة
قال أبو عمر اما تقويم الكتابة فواجب لأنها عوض فاما الكتابة فان كانت عينا فلا وجه لتقويمها وان كانت عرضا فيمكن تقويمها وان كان المبتغى في القيمة الأقل منها ليتوفر الثلث ولا يضيق عن سائر الوصايا
واما الشافعي فيجيز الوصية بمكاتبة المكاتب لم يختلف قوله في ذلك أدى الكتابة إلى الموصى له عتق والولاء لمن عقد كتابته
[واختلف قوله] في الوصية لرقبته فمرة قال لا يجوز ذلك لأنه لا يملكها ملكا صحيحا الا بالعجز وليس له بيعه ولا تعجيزه الا باقراره [له] بالعجز وليس للمكاتب عنده ان يعجز نفسه على ما ذكرناه عنه [فيما تقدم] كان له مال أو قوة على الكسب أو لم يكن
وقد قال إن الوصية برقبته جائزة لان ذلك يعود إلى كتابته وذلك كله في ملكه
429
واختاره المزني وقال كيف لا يجوز ما يصنع في ملكه
قال مالك (1) في رجل كاتب عبده عند موته انه يقوم عبدا فإن كان في ثلثه سعة لثمن العبد جاز له ذلك
قال مالك (2) وتفسير ذلك أن تكون قيمة العبد ألف دينار فيكاتبه سيده على مائتي دينار عند موته فيكون ثلث مال سيده ألف دينار فذلك جائز له وانما هي وصية أوصى له بها في ثلثه فإن كان السيد قد أوصى لقوم بوصايا وليس في الثلث فضل عن قيمة المكاتب بدىء بالمكاتب لان الكتابة عتاقة والعتاقة تبدأ على الوصايا ثم تجعل تلك الوصايا في كتابة المكاتب يتبعونه بها ويخير ورثة الموصي فان أحبوا ان يعطوا أهل الوصايا وصاياهم كاملة وتكون كتابة المكاتب لهم فذلك لهم وان أبوا واسلموا المكاتب وما عليه إلى أهل الوصايا فذلك لهم لان الثلث صار في المكاتب ولان كل وصية أوصى بها أحد فقال الورثة الذي أوصى به صاحبنا أكثر من ثلثه وقد اخذ ما ليس له قال فان ورثته يخيرون فيقال لهم قد أوصى صاحبكم بما قد علمتم فان أحببتم ان تنفذوا ذلك لأهله على ما أوصى به الميت والا فاسلموا أهل الوصايا ثلث مال الميت كله
قال فان اسلم الورثة المكاتب إلى أهل الوصايا كان لأهل الوصايا ما عليه من الكتابة فان أدى المكاتب ما عليه من الكتابة اخذوا ذلك في وصاياهم على قدر حصصهم وان عجز المكاتب كان عبدا لأهل الوصايا لا يرجع إلى أهل الميراث لأنهم تركوه حين خيروا ولان أهل الوصايا حين اسلم إليهم ضمنوه فلو مات لم يكن لهم على الورثة شيء وان مات المكاتب قبل ان يؤدي كتابته وترك مالا هو أكثر مما عليه فماله لأهل الوصايا وان أدى المكاتب ما عليه عتق ورجع ولاؤه إلى عصبة الذي عقد كتابته
قال أبو عمر اما قوله في رجل كاتب عبده عند موته انه يقوم عبدا فإن كان في ثلثه سعة لثمن العبد جاز ذلك فعلى هذا جمهور العلماء
وشذ أهل الظاهر فقالوا ذلك في راس ماله وكذلك عندهم كل عطية بتلة في المرض
والحجة عليهم حديث عمران بن حصين في الذي اعتق ستة اعبد له عند موته
430
لا مال له غيرهم فاسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعه (1)
فهذه قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فعل المريض في ماله إذا مات من مرضه ذلك حكمه حكم الوصايا
وسنذكر هذا الحديث وما فيه من المعاني لسائر العلماء في موضعه إن شاء الله عز وجل
واما قوله ان كان في ثلثه سعة لثمن العبد فذلك جائز - يعني للعبد - وانما هو وصية أوصى له بها في ثلثه كأنه يعني أوصى له بثمانمائة دينار لأنه كاتبه [بمائتي دينار] وقيمة العبد ألف دينار وثلث [سيده] ألف دينار فينبغي على هذا ان يكون أربعة أخماس العبد حرا لان من قول مالك في الرجل يوصي لعبده بثلث ماله انه يعتق في الثلث ان حمله ويعطى بعد عتقه ما فضل من الثلث ان فضل منه شيء
وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث والحسن بن صالح في الرجل يوصي لعبده
وخالفهم الأوزاعي فقال من أوصى لعبده فوصيته باطل ويرجع ذلك إلى الورثة
واما قوله في الورثة وإذا قالوا ما أوصى به صاحبنا أكثر من الثلث انهم يخيرون بين ان يسلموا للموصى له ما أوصى له به وبين ان يعطوه جميع ثلث الميت فان هذه المسالة لمالك وأصحابه وطائفة من أهل المدينة تعرف بمسالة خلع الثلث قد خالفهم فيها الشافعي والكوفيون وأكثر الفقهاء وقالوا لا يجوز ذلك لأنه بيع مجهول بمعلوم وتأتي في موضعها إن شاء الله تعالى
قال مالك (2) في المكاتب يكون لسيده عليه عشرة آلاف درهم فيضع عنه عند موته ألف درهم
قال مالك (3) يقوم المكاتب فينظر كم قيمته فان كانت قيمته ألف درهم فالذي وضع عنه عشر الكتابة وذلك في القيمة مائة درهم وهو عشر القيمة فيوضع
431
عنه عشر الكتابة فيصير ذلك إلى عشر القيمة نقدا وانما ذلك كهيئته لو وضع عنه جميع ما عليه ولو فعل ذلك لم يحسب في ثلث مال الميت الا قيمة المكاتب ألف درهم وان كان الذي وضع عنه نصف الكتابة حسب في ثلث مال الميت نصف القيمة وان كان أقل من ذلك أو أكثر فهو على هذا الحساب
قال أبو عمر ذكر بن عبد الحكم هذه المسالة فقال ومن كاتب عبده على عشرة آلاف درهم فوضع عنه ألف درهم فإنه يطرح في ثلث مال الميت الأقل من عشر قيمة رقبته أو من عشر كتابته ولو وضع عنه نصف كتابته أو ثلثها كان كذلك ثم يوضع عن المكاتب من كل نجم عشره ويعتق منه عشره
وهذا خلاف ما لمالك في هذه المسالة لأنه لم يعتبر في قوله في (الموطأ) الا قيمة الرقبة خاصة
وفي رواية بن عبد الحكم يعتبر الأقل من قيمة الرقبة والكتابة
فهذا موضع الخلاف بين الروايتين
ومعنى هذه المسالة في اعتبار الأقل من قيمة العبد أو الكتابة الاحتياط للثلث والتوفير على أهل الوصايا فيه وانما هذا عند ضيق الثلث
قال مالك (1) إذا وضع الرجل عن مكاتبه عند موته ألف درهم من عشرة آلاف درهم ولم يسم انها من أول كتابته أو من اخرها وضع عنه من كل نجم عشره
قال أبو عمر غيره يقول يعتق منه عشره
قال أبو عمر واما مالك فقوله على أصله مطرد لأنه لا يرى وضع أحد الشريكين عتقا ويساوي بين الأنجم ليأخذ حقه من كل نجم لان معجل الأنجم أفضل من مؤخرها وان من جعل وضع الشريك وغير الشريك سواء في أنه عتق فقوله يعتق منه عشرة مطرد على أصله
وقد قيل إنه يوضع عن المكاتب عشر كتابته في اخرها ليخرج به حرا فينتفع المكاتب بذلك ولو وضع في صدر الكتابة ثم عجز ذهب ذلك باطلا
قال مالك (2) وإذا وضع الرجل عن مكاتبه عند موته ألف درهم من أول كتابته أو من اخرها وكان أصل الكتابة على ثلاثة آلاف درهم قوم المكاتب قيمة النقد ثم قسمت تلك القيمة فجعل لتلك الألف التي من أول الكتابة حصتها من تلك القيمة
432
بقدر قربها من الاجل وفضلها ثم الألف التي تلي الألف الأولى بقدر فضلها أيضا ثم الألف التي تليها بقدر فضلها أيضا حتى يؤتى على اخرها تفضل كل الف بقدر موضعها في تعجيل الاجل وتأخيره لان ما استاخر من ذلك كان أقل في القيمة ثم يوضع في ثلث الميت قدر ما أصاب تلك الألف من القيمة على تفاضل ذلك ان قل أو كثر فهو على هذا الحساب
وهذا كله على ما قاله مالك على أصله ومذهبه
ومعلوم ان أول نجم من نجوم المكاتب أكثر قيمة من الاخر لان المتعجل بين الناس اغبط من المتأخر فإذا علم ذلك عتق من المكاتب بقدر الألف المعجل بالغا ما بلغ من كتابته كان ذلك نصفها أو ربعها أو ما كان من اجزائها وكذلك العمل في الألف الذي من اخر الكتاب على حسب قيمته أيضا
قال مالك (1) في رجل أوصى لرجل بربع مكاتب أو اعتق ربعه فهلك الرجل ثم هلك المكاتب وترك مالا كثيرا أكثر مما بقي عليه
قال مالك (2) يعطى ورثة السيد والذي أوصى له بربع المكاتب ما بقي لهم على المكاتب ثم يقتسمون ما فضل فيكون للموصى له بربع المكاتب ثلث ما فضل بعد أداء الكتابة ولورثة سيده الثلثان وذلك أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء فإنما يورث بالرق
[قال أبو عمر] وانما يقتسمون أثلاثا لان حصة الحرية التي للربع لا يؤخذ بها شيء فرجع ذلك إلى النصف والربع فصار النصف الثلثين والربع الثلث بما رجع إليه من حصة الحرية لان المعتق بعضه إذا مات كان ماله لمن له فيه الرق عند مالك وليس لمن اعتق منه شيء
وسنذكر اختلافهم في هذه المسالة في كتاب العتق إن شاء الله تعالى
قال مالك (3) في مكاتب اعتقه سيده عند الموت قال إن لم يحمله ثلث الميت عتق منه قدر ما حمل الثلث ويوضع عنه من الكتابة قدر ذلك ان كان على المكاتب خمسة آلاف درهم وكانت قيمته الفي درهم نقدا ويكون ثلث الميت ألف درهم عتق نصفه ويوضع عنه شطر الكتابة
هكذا هذه المسالة في (الموطأ) وذكرها بن عبد الحكم فقال إذا اعتق المكاتب [سيده] عند الموت فإنه يقوم ما بقي عليه من الكتابة وتقام رقبته فان
433
كانت قيمة الكتابة أقل من قيمة رقبته وضع ذلك في ثلث سيده وان كانت قيمته أقل من قيمة كتابته وضع ذلك في الثلث الأول منهما ثم يخرج حرا بتلك القيمة
قال أبو عمر وهذا خلاف ما رواه [يحيى] في (الموطأ) في هذه المسألة وقد تقدم لمالك في (الموطأ) أصل ما ذكره بن عبد الحكم ومضى القول فيه
قال مالك (1) في رجل قال في وصيته غلامي فلان حر وكاتبوا فلانا تبدأ العتاقة على الكتابة
وذكر بن عبد الحكم هذه المسألة وزاد فان فضل شيء خير الورثة بين ان يمضوه مكاتبا أو يعتقوا ما حمل الثلث منه بتلا
قال أبو عمر انما بدا بالعتاقة لأنه عتق متيقن وحرمته قد ثبتت والكتابة ليست كذلك لأنه قد يعجز صاحبها فيعود رقيقا
وسنذكر مذاهب العلماء في ما يبدأ من الوصايا في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى
((40 كتاب المدبر (1)))
((1 - باب القضاء في ولد المدبرة))
1513 - قال مالك الامر عندنا فيمن دبر جارية له فولدت أولادا بعد تدبيره إياها ثم ماتت الجارية قبل الذي دبرها ان ولدها بمنزلتها قد ثبت لهم من الشرط مثل الذي ثبت لها ولا يضرهم هلاك أمهم فإذا مات الذي كان دبرها فقد عتقوا ان وسعهم الثلث
قال أبو عمر اختلف العلماء في ولد المدبرة الذين تلدهم بعد [تدبير سيدها لها] من نكاح أو زنى
فقال الجمهور من العلماء ولدها بعد تدبيرها بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها
ومعنى قولهم يعتقون بعتقها أي بموت سيدها واما لو اعتقها سيدها في حياته لم يعتقوا بعتقها
وممن قال إن ولد المدبرة بمنزلتها [كقول مالك سواء] سفيان والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن [صالح] وبن أبي ليلى وبن شبرمة والليث بن سعد وأحمد بن إسحاق
وهو أحد قولي الشافعي
وروي ذلك عن عثمان وبن مسعود وبن عمر وجابر ولا اعلم لهم مخالفا من الصحابة
434
وبه قال شريح ومسروق وسعيد بن المسيب وأبو جعفر محمد بن علي والقاسم بن محمد والحسن البصري وبن سيرين ومجاهد والشعبي وإبراهيم والزهري وعطاء على اختلاف عنه وطاوس وسعيد بن جبير ويحيى بن سعيد [والشافعي في هذه المسالة] كل هؤلاء يقولون ولد المدبرة بمنزلتها [يعتقون بعتقها]
وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
وللشافعي في هذه المسالة قول اخر وهو ان أولاد المدبرة مملوكون لا يعتقون بموت السيد
وهو قول جابر بن زيد [أبي الشعثاء] وعطاء بن أبي رباح ومكحول وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
واختاره المزني من قول الشافعي قال وهو أشبههما بقول الشافعي لان التدبير عنده وصية يعتقها كما لو أوصى برقبتها لم يدخل في الوصية ولدها
قال أبو عمر لم [يدخل البويطي عنه هذه القولة] وذكر عنه [القولة] الأولى فقال إذا دبر الرجل أمته فولدها بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها ويقومون في الثلث كما تقوم الام وله ان يرجع [فيمن] دون الام ويرجع في الام دونهم
[وذكر المزني عنه هذا القول] ثم قال قال الشافعي والقول الثاني ان ولدها مملوكون وذلك انها أمة أوصى بعتقها لصاحبها فيها الرجوع ويبيعها ان شاء وليست الوصية بحرمة ثابتة فاولادها مملوكون
قال الشافعي وأخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي الشعثاء قال أولادها مملوكون
وروى الشافعي وغيره عن [سفيان بن عيينة] عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال إذا دبر الرجل جاريته فولدها بمنزلتها
قال حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني أبو قلابة الرقاشي قال حدثني أبو عاصم عن بن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد قال ولد المدبرة عبيد
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عبد الأعلى عن بردة عن مكحول في أولاد المدبرة قال يبيعهم [سيدهم] ان شاء
قال أبو عمر من جعلهم بمنزلة أمهم فإنهم على ما اجمعوا عليه في أولاد
436
الحرة انهم أحرار وفي أولاد الأمة انهم عبيد ومن قال إنهم عبيد قد اجمعوا على أنه لو قال لامته إذا دخلت الدار بعد سنة فأنت حرة [فدخلت الدار] ان ولدها لا يعتقون بدخولها واجمع ان الموصي بعتقها لا يدخل ولدها في الوصية ان لم يوص بهم
واما قول مالك في اخر هذه المسالة ان وسعهم الثلث فعلى هذا القول أيضا جمهور العلماء ان المدبر في الثلث
وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والحسن [بن صالح واحمد] وإسحاق وأبي ثور
وروي ذلك عن علي رضي الله عنه
وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن وبن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومكحول وبن شهاب الزهري وحماد بن أبي سليمان
وروى فيه حديثا مسندا انفرد به علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدبر من الثلث) (1)
وهذا خطا من علي بن ظبيان لم يتابع عليه وانما يرويه غيره عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر وقوله علي بن ظبيان كان قاضيا ببغداد تركوه لهذا الحديث وشبهه فهو عندهم متروك الحديث
وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني وكيع عن سفيان عن خالد عن أبي قلابة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (المدبر من الثلث)
قال وحدثني بن إدريس عن الأشعث عن الشعبي ان عليا رضي الله عنه كان يجعل المدبر من الثلث وان عامرا كان يفعله
وقالت طائفة المدبر من راس المال روي ذلك عن عبد الله بن مسعود الا انه لم يروه الا جابر الجعفي عن القاسم بن عبد الرحمن عن مسروق عن بن مسعود وانما هو عن مسروق صحيح لا عن بن مسعود
رواه جماعة من أهل الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ان شريحا كان يقول (المدبر من الثلث
437
وكان مسروق يقول من راس المال فقلت للشعبي أيهما كان أعجب إليك فقال مسروق كان افقههما وشريح كان اقضاهما
وروى بن عيينة عن عبد الملك بن سعيد بن أبجر عن الشعبي عن شريح انه جعل المدبر من الثلث
وجعله مسروق من راس المال
قال أبو عمر الجمهور على قول شريح وقد قال بقول مسروق في ذلك إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والليث بن سعد وزفر [بن الهذيل] كل هؤلاء يقولون المدبر من راس المال
وروي عن إبراهيم وحماد روايتان
إحداهما من الثلث
والأخرى من راس المال
وقال بن عيينة كان بن أبي ليلى أول ما قضى جعل المدبر منة راس المال ثم رجع فجعله من الثلث
قال أبو عمر قد اجمعوا ان سائر ما يقع بعد الموت في الثلث فكذلك المدبر
وقال مالك (1) كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ان كانت حرة فولدت بعد عتقها فولدها أحرار وان كانت مدبرة أو مكاتبة أو معتقة إلى سنين أو مخدمة أو بعضها حرا أو
مرهونة أو أم ولد فولد كل واحدة منهن على مثال حال أمه يعتقون بعتقها ويرقون برقها
قال أبو عمر اما المرهونة والمخدمة فالخلاف بينهما من جماعة منهم الشافعي يرى أولادهما عبيدا قياسا على المستأجرة والموصى بها
واما ولد أم الولد من زوج أو من زنى فالخلاف [بينهما من جماعة] في ولدها عن عمر بن عبد العزيز ومكحول كانا يقولان ان أولادها عبيد يبتاعون
وبه قال أهل الظاهر
قال أبو عمر روى القعنبي وبن وهب عن العمري عن نافع عن بن عمر قال ولد أم الولد بمنزلتها ولا اعلم له من الصحابة مخالفا
438
واما القياس فولد كل امرأة غيرها فلا يكون حكم حكمها الا باجماع
وقد اجمعوا على أن ولدها تبع لها في الملك والحرية
[قال مالك (1) في مدبرة دبرت وهي حامل ان ولدها بمنزلتها وانما ذلك بمنزلة رجل اعتق جارية له وهي حامل ولم يعلم بحملها]
قال مالك فالسنة فيها ان ولدها يتبعها ويعتق بعتقها
قال مالك (2) وكذلك لو أن رجلا ابتاع جارية وهي حامل فالوليدة وما في بطنها لمن ابتاعها اشترط ذلك المبتاع أو لم يشترطه
قال مالك ولا يحل للبائع ان يستثني ما في بطنها لان ذلك غرر يضع من ثمنها ولا يدري أيصل ذلك إليه أم لا وانما ذلك بمنزلة ما لو باع جنينا في بطن أمه وذلك لا يحل له لأنه غرر
قال أبو عمر اما قوله في المدبرة الحامل فهو قول الجمهور والقائلين بان ولدها بمنزلتها
واما احتجاجه وتمثيله [والجارية] بالجارية تباع وهي حامل فسياتي في كتاب البيوع بيع الجارية واستثناء ما في بطنها [ففي ذلك اختلاف للسلف والخلف]
وقال الشافعي في الحامل تدبر ان جاءت بولد لأقل من ستة اشهر لم يدخل في التدبير وان جاءت به لستة اشهر فصاعدا فهو مدبر مع أمه
وهذا عندي على أحد قوليه
قال مالك في مكاتب أو مدبر ابتاع أحدهما جارية فوطئها فحملت منه وولدت قال ولد كل واحد منهما من جاريته بمنزلته يعتقون بعتقه ويرقون برقه
قال مالك فإذا اعتق هو فانصما أم ولده مال من ماله يسلم إليه [إذا اعتق]
قال أبو عمر اجمع علماء المسلمين بان ولد الحر من سريته تبع له لا لامه وانه حر مثله واجمعوا ان ولد العبد من سريته عند من أجاز له التسري باذن سيده وعند من لم يجزه عبد تبع لأبيه وملك [للسيد] كأبيه وأمه
وقال الجمهور منهم ولد المكاتب من سريته إذا اذن له سيده [في التسري تبع
439
لأبيه مكاتب مثله داخل في كتابته وكذلك المعتق بعضه سيده من سريته] مثله
واختلفوا في المدبر يتسرى
فقال مالك في (موطئه) ما تقدم ذكره وعليه أصحابه
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما ولد المدبر من سريته لا يكونون مدبرين
قال الكوفيون لان لسيد المدبر ان ينتزع ماله وليس له ان ينتزع مال المكاتب فليس كالمكاتب
واما الشافعي فالمدبر عنده وصية لسيده الرجوع فيه وبيعه جائز له ولا خلاف ان ولد الموصى به لا يدخل في الوصية الا ان يدخله السيد ويوصي به كما أوصى بابيه وكذلك العبد المرهون لا يدخل ولده من سريته في الرهن الا بالشرط
واجمعوا على أن ولد المكاتب من سريته بمنزلته وان ولد الحر من سريته حر مثله وان ولد العبد من سريته عبد مثله عند من أجاز له التسري وعند من لم يجزه
واجماعهم على هذا يقضي على أن ولد كل أحد من سريته بمنزلته
((2 - باب جامع ما في التدبير))
1514 - قال مالك في مدبر قال لسيده عجل لي العتق وأعطيك خمسين منها منجمة علي فقال سيده نعم أنت حر وعليك خمسون دينارا تؤدي إلي كل عام عشرة دنانير فرضي بذلك العبد ثم هلك السيد بعد ذلك بيوم أو يومين أو ثلاثة
قال مالك يثبت له العتق وصارت الخمسون دينارا دينا عليه وجازت شهادته وثبتت حرمته وميراثه وحدوده ولا يضع عنه موت سيده شيئا من ذلك الدين
قال أبو عمر لا يجوز في تحصيل قول مالك في بيع المدبر الا من نفسه الا انه قد اختلف قوله إذا وقع البيع فيه وفات بالعتق [وصار حرا] [وسنذكره] في باب بيع المدبر إن شاء الله عز وجل
440
وإذا كان له بيعه من نفسه فتعجيل العتق له على نجوم يأخذها منه مثل ذلك في الجواز لأنه لا يدخله بيع [ولاء] ولا شيء يكره إذا كان المدبر راضيا بذلك
وقد اختلف مالك وأصحابه في العبد يقول له سيده أنت حر وعليك خمسون [دينارا] فلم يرض بذلك العبد
وذكر بن القاسم في (المدونة) عن مالك قال أراه حرا وعليه المال أحب أو كره
وكذلك قال اشهب ومطرف واصبغ لأنه لم يوجب له الجزية الا على أن يؤدي إليه المال ولا يضره تعجيل الحرية له باللفظ
وقال بن القاسم ان رضي العبد بذلك لزمه المال وان لم يرض بذلك فهو حر [الساعة] ولا شيء عليه
قال ولا يعجبني قول مالك في الزامه له المال
وقال أبو حنيفة ان قال لعبده أنت حر وعليك ألف درهم كان حرا بغير شيء
وقال أبو يوسف [ومحمد] ان قبل العبد ذلك كان حرا وكان عليه المال
قال أبو عمر قول بن القاسم معناه صحيح لأنه قوله لعبده أنت حر لا مرجع له فيه جادا كان أو لاعبا وقوله بعد وعليك من المال كذا اثبات مال في ذمة حر بغير رضاه وبغير عوض طلبه واشتراه ولا يجوز ذلك باجماع في ذمة حر
وقال بن الماجشون العبد بالخيار ان شاء التزم المال وكان حرا وان شاء لم يلزمه ولا حرية له قال وهو بمنزلة قوله أنت حر على أن عليك كذا وكذا فهو بالخيار
قال أبو عمر ليس قوله أنت حر على أن عليك كذا مثل قوله أنت حر وعليك كذا وكذا لأن قوله أنت حر على أن عليك كذا في كلام متصل شرط منه عليه ان رضيه لزمه ولا يصح في هذا القول دعوى الندم وإذا اطلق له أنت حر وعليك كذا فظاهره قد أوجب له الحرية ثم ندم فأوجب عليه معها شيئا لم يرضه فلا يلزمه من ذلك ما لم يرض
ولم يختلفوا انه إذا قال لامرأة أنت طالق وعليك كذا انها طالق رضيت بما جعل عليها (بعد) الطلاق أم لم ترض وكذلك قوله أنت حر وعليك كذا والله أعلم
441
وقال الشافعي إذا قال أنت حر على أن عليك ألف درهم أو خدمة سنة فقيل له لزم ذلك وكان دينا عليه فان مات قبل ان يخدمه رجع المولي بقيمة الخدمة في ماله ان كان له مال
قال أبو عمر هذا يدل على أنه ان قبل كان حرا في الوقت وكانت الدراهم عليه دينا والخدمة
وقال مالك إذا قال أنت حر على أن تخدمني سنة فإن كان عجل عتقه على أن يخدمه فهو حر والخدمة ساقطة عنه وان أراد ان يجعل عتقه بعد الخدمة لم يعتق حتى يخدمه سنة والسنة من وقت القول خدم أو ابق أو مرض وسواء قال (هذه السنة) أو (السنة)
قال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا قال أنت حر على أن تخدمني أربع سنين [فقبل فعتق] ثم مات السيد ساعتئذ فعليه قيمة نفسه
وقال محمد عليه قيمة خدمته أربع سنين
وقال مالك (1) في رجل دبر عبدا له فمات السيد وله مال حاضر ومال غائب فلم يكن في ماله الحاضر ما يخرج فيه المدبر
قال يوقف المدبر بماله ويجمع خراجه حتى يتبين من المال الغائب فإن كان فيما ترك سيده مما يحمله الثلث عتق بماله وبما جمع من خراجه فإن لم يكن فيما ترك سيده ما يحمله عتق منه قدر الثلث وترك ماله في يديه
قال أبو عمر على هذا أصله على أن العبد والمدبر تبعه ماله
واما عند الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما فمال العبد والمدبر لسيده ولا يقوم في الثلث الا شخصه ورقبته دون ماله
ولم يختلف مالك وأصحابه ان المدبر لا يقوم في الثلث الا بجميع ماله وقالوا في المدبر يموت سيده ولا تخرج رقبته وماله من الثلث انه يعتق بعضه ويرق بعضه على حسب ما يحمل الثلث منه وما لا يحمله ويبقى [جميع] المدبر بيده
وذكر بن حبيب ان بن وهب يقول ما خرج من الثلث من المال فهو باق بيد المدبر وما لم يخرج فهو مال للميت
442
ورواه عن ربيعة [والله الموفق]
((3 - باب الوصية في التدبير))
1515 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا ان كل عتاقة اعتقها رجل في وصية أوصى بها في صحة أو مرض انه يردها متى شاء ويغيرها متى شاء ما لم يكن تدبيرا فإذا دبر فلا سبيل له إلى رد ما دبر
قال مالك وكل ولد ولدته أمة أوصى بعتقها ولم تدبر فان ولدها لا يعتقون معها إذا عتقت وذلك أن سيدها يغير وصيته ان شاء ويردها متى شاء ولم يثبت لها عتاقة وانها هي بمنزلة رجل قال لجاريته ان بقيت عندي فلانة حتى أموت فهي حرة
قال مالك فان أدركت ذلك كان لها [ذلك وان شاء قبل ذلك باعها وولدها لأنه لم يدخل ولدها في شيء مما جعل لها
قال والوصية في العتاقة مخالفة للتدبير فرق بين ذلك ما مضى من السنة
قال ولو كانت الوصية بمنزلة التدبير كان كل موص لا يقدر على تغيير وصيته وما ذكر فيها من العتاقة وكان قد حبس عليه من ماله ما لا يستطيع ان ينتفع به]
قال أبو عمر لا خلاف بين العلماء - فيما علمت - ان الوصية ليست كالتدبير الا من جعل المدبر وصية [اجرى للمدبر الرجوع فيما دبر كالرجوع في الوصية فمن قال بهذا رأى التدبير كالوصية فمن أهل العلم يقول المدبر وصية]
وليس منهم أحد يقول إن الوصية تدبير وكل من قال ليس المدبر وصية لم يجز بيع المدبر ولا الرجوع فيه
وسنذكر في باب بيع المدبر من رأى بيعه وراه وصية ومن لم ير ذلك إن شاء الله تعالى
وقد اختلفوا في لفظ التدبير
فقال مالك إذا قال وهو صحيح أنت حر بعد موتي فإن كان أراد وجه الوصية فالقول قوله ويجوز بيعه وان أراد التدبير منع من بيعه
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا قال لعبده ان مت فأنت حر فهو مدبر لا يجوز بيعه
443
وهو قول الثوري
قالوا وان قال إن مت من مرضي هذا فأنت حر [جاز بيعه] وان مات من مرضه فهو حر
قال أبو عمر لم يختلفوا انه إذا قال إن قدمت من سفري أو مت من مرضي فأنت حر فليس بمدبر
واختلف بن القاسم واشهب في من قال لعبده أنت حر بعد موتي ولم يتبين هل أراد بقوله ذلك وصية أو تدبيرا حتى مات
فقال بن القاسم هو على الوصية حتى يتبين التدبير
وقال اشهب ان كان ذلك في غير [حين] احداث وصية ولا سفر ولا لما جاء في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا ينبغي لاحد ان يبيت ليلتين الا ووصيته عنده مكتوبة) (1) فهو تدبير
وقال الشافعي إذا قال لعبده أنت مدبر أو أنت عتيق أو حر بعد موتي أو حين مت أو متى دخلت الدار فأنت حر بعد موتي [فهذا كله تدبير يخرج من الثلث ويرجع صاحبه في ما شاء منه ويبيعه متى شاء] فهو وصية والمدبر عنده وصية يرجع فيه كما يرجع في سائر الوصايا
قال مالك (2) في رجل دبر رقيقا له جميعا في صحته وليس له مال غيرهم ان كان دبر بعضهم قبل بعض بدىء بالأول فالأول حتى يبلغ الثلث وان كان دبرهم جميعا في مرضه فقال فلان حر وفلان حر وفلان حر في كلام واحد ان حدث بي في مرضي هذا حدث موت أو دبرهم جميعا في كلمة واحدة تحاصوا في الثلث ولم يبدأ أحد منهم قبل صاحبه وانما هي وصية وانما لهم الثلث يقسم بينهم بالحصص ثم يعتق منهم الثلث بالغا ما بلغ
قال ولا يبدأ أحد منهم إذا كان ذلك كله في مرضه
قال أبو عمر الاختلاف في هذا الباب كثير وكذلك اختلف فيه أصحاب مالك فذكر بن حبيب في تفسيره للموطأ
444
قال بن القاسم وبن كنانه وبن الماجشون ومطرف إذا اعتق الرجل عبيدا له في مرضه عتقا بتلا أو أوصى لهم كلهم بالعتاقة أو بعضهم سماهم أو لم يسمهم الا ان الثلث لا يحملهم ان السهم يجري فيهم كان له مال غيرهم أو لم يكن قال وقال بن نافع ان كان له مال سواهم لم يستهم بينهم واعتق من كل واحد ما ينوبه وان لم يكن له مال سواهم أو كان له مال لا يقوم] فإنه يقرع بينهم
وقال اصبغ واشهب انما القرعة في الوصية واما [العتق البتل] فهم فيه كالمدبرين
وروى سحنون انه إذا سماهم فهم كالمدبرين وان لم يسمهم عتق الثلث بالقرعة
وكلهم يقول في الرجل يوصي بعتق عبيده في مرضه ولا مال له سواهم انه يقرع بينهم بالسهم كما جاء في الحديث في الذي اعتق ستة اعبد له عند موته ولا مال له غيرهم حاشى المغيرة المخزومي فإنه قال لا يعدى بالقرعة موضعها التي جاءت فيه
وسنذكر مسألة الستة الأعبد الذين اعتقهم سيدهم عند الموت ولا مال له غيرهم في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
قال مالك (1) في رجل دبر غلاما له فهلك السيد ولا مال له الا العبد المدبر وللعبد مال قال يعتق ثلث المدبر ويوقف ماله بيديه
قال أبو عمر [انما قال ذلك لان أصله في العبد انما يملك ماله ما لم ينتزعه منه سيده وان ماله تبع له عند العتق والتدبير ومعلوم ان في التدبير شعبة من العتق فكذلك رأى ان يكون المدبر وماله معا في الثلث
واما الشافعي والكوفيون فلا يرون ان يقوم الثلث الا رقبة المدبر دون ماله لأنه لا مال له عندهم وما بيده من المال فهو لسيده في حال التدبير وفي حين العتق وقبله
قال مالك في مدبر كاتبه سيده فمات السيد ولم يترك مالا غيره
قال مالك يعتق منه ثلثه ويوضع عنه ثلث كتابته ويكون عليه ثلثاها
445
قال أبو عمر هذا صحيح في قوله ولا خلاف في ذلك بين العلماء القائلين بأن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته]
قال مالك (1) في رجل اعتق نصف عبد له وهو مريض فبت عتق نصفه أو بت عتقه كله وقد كان دبر عبدا له اخر قبل ذلك
قال يبدأ بالمدبر قبل الذي اعتقه وهو مريض وذلك أنه ليس للرجل ان يرد ما دبر ولا ان يتعقبه بأمر يرده به فإذا عتق المدبر فليكن ما بقي من الثلث في الذي اعتق شطره حتى يستتم عتقه كله في ثلث مال الميت فإن لم يبلغ ذلك فضل الثلث عتق منه ما بلغ فضل الثلث بعد عتق المدبر الأول
قال أبو عمر وجه قول مالك في ذلك ان المدبر عنده لا يجوز الرجوع فيه لمدبره بوجه من الوجوه فإذا قصد إلى عتق بتل قد علم أن ثلثه يضيق عنه أو لم يعلم فضاف الثلث عند موته عنه فان حكمه حكم من قصد إلى ابطال التدبير فلذلك قدم التدبير عليه فإذا كان كذلك لم يبطل التدبير
واما الشافعي وغيره فإنهم يقولون إن العتق البتل أولى من المدبر وهو المبدى عليه لأنه عتق متيقن لا يحل رده
والمدبر عنده يجوز الرجوع فيه لأنه وصية بالثلث فكذلك بدىء الذي بتل عتقه في المرض
وسنذكر قول الكوفيين في باب ما يبدأ من الوصايا إن شاء الله تعالى
((4 - باب مس الرجل وليدته إذا دبرها))
1516 - مالك عن نافع ان عبد الله بن عمر دبر جاريتين له فكان يطؤهما وهما مدبرتان
1517 - مالك عن يحيى بن سعيد ان سعيد بن المسيب كان يقول إذا دبر الرجل جاريته فان له ان يطأها وليس له ان يبيعها ولا يهبها وولدها بمنزلتها
قال أبو عمر قد روي عن بن عباس مثل قول بن عمر وعلى هذا جمهور العلماء من الحجاز والعراق وفقهاء جماعة الأمصار مالك والثوري
446
والحسن بن صالح والليث وأبو حنيفة [والشافعي] واحمد [وإسحاق] وأبو ثور وداود والطبري
[وكان الزهري] يكره وطء المدبرة ولا يجيزه
وقال أحمد بن حنبل لا اعلم أحدا كره ذلك غير الزهري
قال أبو عمر أظن الزهري تأول في ذلك - والله أعلم - قول بن عمر (لا يطأ الرجل وليدة الا وليدته ان شاء باعها وان شاء وهبها وان شاء صنع بها ما شاء) لم يبلغه ان بن عمر كان يطأ مدبرته
قال الأوزاعي ان كان يطأها قبل تدبيره لها فلا بأس ان يطأها بعد ذلك وان كان لا يطأها قبل تدبيره لها فأكره له وطأها
قال أبو عمر من كره وطء المدبرة شبهها بالمعتقة إلى اجل ات لا محالة والمعتقة إلى اجل قاسها الذي كره وطأها على نكاح المتعة لأنه نكاح إلى اجل ومن أجاز وطئ المدبرة شبهها بأم الولد لأنهما لا يقع عتقهما الا بعد الموت
((5 - باب بيع المدبر))
1518 - قال مالك الامر المجتمع عليه عندنا في المدبر ان صاحبه لا يبيعه ولا يحوله عن موضعه الذي وضعه فيه وانه ان رهق سيده دين (1) فان غرماءه لا يقدرون على بيعه ما عاش سيده فان مات سيده ولا دين عليه فهو في ثلثه لأنه استثنى عليه عمله ما عاش فليس له ان يخدمه حياته ثم يعتقه على ورثته إذا مات من راس ماله
قال أبو عمر روي عن بن عمر وزيد بن ثابت ان المدبر لا يباع
وبه قال شريح والشعبي وسعيد بن المسيب والزهري وبن سيرين
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر انه كره بيع المدبر
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثني أبو خالد الأحمر وحفص بن غياث عن الحجاج عن الحسن بن حكيم عن زيد بن ثابت وعن الحجاج عن شريح قالا المدبرة لا تباع
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح وبن أبي ليلى وبن
447
شبرمة وجماعة أهل الكوفة لا يباع المدبر في دين ولا في غير دين في الحياة ولا بعد الممات وان باعه سيده في حياته فالبيع مفسوخ اعتقه المشتري [أو لم يعتقه] فان مات سيده خرج حرا من ثلثه وان لم يحمله الثلث اعتق منه ما حمل الثلث ويسعى في باقي قيمتها للورثة ان لم يجيزوا في قول أبي حنيفة وأصحابه
وقال مالك يجوز بيع المدبر فان باعه سيده وأعتقه المشتري فالعتق جائز وينتقض التدبير
[وقال مالك لا يجوز بيع المدبر فان باعه سيده وأعتقه] فالولاء للمعتق ولا شيء له على البائع ولو كانت أمة فوطئها وحملت منه صارت أم ولد وبطل التدبير
وقال الأوزاعي لا يباع المدبر الا نفسه أو من رجل يعجل عتقه وولاؤه لمن اشتراه ما دام الأول حيا فإذا مات المولى رجع الولاء إلى ورثته
وقال الليث بن سعد اكره بيع المدبر فان باعه فأعتقه المشتري جاز عتقه وولاؤه لمن اعتقه
وقال عثمان البتي والشافعي بيع المدبر جائز
قال الشافعي في كتاب البويطي ويجوز بيع المدبر كان لصاحبه مال غيره أو لم يكن وكان عليه دين أو لم يكن واحتاج أو لم يحتج لان النبي - صلى الله عليه وسلم باع مدبرا
وفي الحديث انه لا مال لصاحبه غيره وقد يكون لا مال له غيره ولا يحتاج لقوته وكسبه ولوجوه غير ذلك ومن حل له بيع شيء في الحاجة حل له في غناه والمدبر وصية
وقال المزني قال الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وعن أبي الزبير سمعا جابر بن عبد الله يقول دبر رجل منا غلاما له ليس له مال غيره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم (من يشتريه) فاشتراه نعيم بن النحام (1)
قال [عمرو] سمعت جابرا يقول عبد قبطي مات عام أول وفي امارة بن الزبير يقال له يعفور
448
قال وباعت عائشة مدبرة لها سحرتها (1)
قال وقال مجاهد وطاوس المدبر وصية يرجع فيه صاحبه ان شاء
وروى الشافعي وغيره عن بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال باعت عائشة جارية لها كانت دبرتها سحرتها وأمرت ان يجعل ثمنها في مثلها (2)
وعن بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد قال المدبر وصية يرجع فيها صاحبها متى شاء
قال أبو عمر يقول الشافعي في بيع المدبر بقول احمد وإسحاق وأبو ثور وداود وهو قول عمرو بن دينار وعطاء
وقد روي عن عطاء انه لا يبيعه الا ان يحتاج
قال مالك (3) وان مات سيد المدبر ولا مال له غيره عتق ثلثه وكان ثلثاه لورثته
قال أبو عمر هو قول الشافعي وقد تقدم من قول الكوفيين ان ثلثه حر ويسعى في قيمة ثلثيه للورثة الا ان يكونوا بالغين لا يجيزوا والصواب ما قال مالك ومن تابعه لان المدبر في الثلث في قولهم وقول الجمهور الا من شذ وإذا لم يكن لسيده مال سواه لم يكن له أكثر من ثلثه وقد ملك الله الورثة ثلثيه بالميراث فكيف يحال بينهم وبين ما ملكهم الله إياه بغير طيب من أنفسهم بذلك ويحالون على سعي لا يريدونه ولا يدرون ما يحصلون عليه منه
قال مالك (4) فان مات سيد المدبر وعليه دين محيط بالمدبر بيع في دينه لأنه انما يعتق في الثلث
قال فإن كان الدين لا يحيط الا بنصف العبد بيع نصفه للدين ثم عتق ثلث ما بقي بعد الدين
قال أبو عمر قد بين مالك رحمه الله وجه قوله ومعناه وذلك أن المدبر في الثلث وكل ما كان في الثلث فهو يجري مجرى الوصايا
وقد اجمع علماء المسلمين على أن الدين قبل الوصية وقبل الميراث وان
449
الوصية لا يتعدى بها الثلث فلهذا قال إن المدبر يباع كله في الدين ان كان الدين يحيط به أو يباع بعضه على قدر الدين وما بقي فهو في الميراث تنفذ الوصية في ثلثه قل أو كثر وثلثاه للورثة
ومن أصله ان من كان عليه دين لم يجز له عتق ولا تدبير ويرد عتقه وتدبيره لان الدين أداؤه فرض والعتق تطوع
واما الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وهو قول الأوزاعي يقولون إذا كان الدين على سيد المدبر مثل قيمته أو أكثر سعى في قيمته ولا يباع شيء منه في الدين
ومن حجتهم ان المدبر لما لم يجز بيعه في الحياة من اجل الحرية التي يستحقها بالموت كان أولى الا يباع في الحال التي يستحق فيها الحرية وهي موت سيده
واما الشافعي فالمدبر عنده وصية يبيعه سيده في حياته ان شاء وبيعه له رجوع فيه كما يرجع في وصيته ويباع في الدين كما يباع في غير المدبر
قال أبو عمر ولو اعتق عبده في مرضه عتقا بتلا ولا مال له غيره وعليه دين يحيط بثمنه بيع في الدين ولم ينفذ عتقه
وهو قول مالك وبن أبي ليلى وجماعة منهم [احمد] وداود
وقال أبو حنيفة وأصحابه ينفذ عتقه ويسعى في قيمته
وهو قول الثوري وبن شبرمة وعثمان البتي وعبيد الله والحسن وسوار وهو قول إبراهيم النخعي
قال أبو عمر قد بينا فساد هذا القول في ما تقدم فلا معنى لإعادته
قال مالك (1) لا يجوز بيع المدبر ولا يجوز لاحد ان يشتريه الا ان يشتري المدبر نفسه من سيده فيكون ذلك جائزا له أو يعطي أحد سيد المدبر مالا ويعتقه سيده الذي دبره فذلك يجوز له أيضا
قال مالك وولاؤه لسيده الذي دبره
قال أبو عمر لا يختلفون فيما علمت أنه يشتري المدبر نفسه من سيده لأنه يعتقه على مال يأخذه منه وعلى غير مال
450
واما قوله أو يعطي أحد سيده مالا فيعتقه فقد كره قوم ان يأخذ من أحد مالا ليعتق مدبره ويكون الولاء له
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم (الولاء لمن اعطى الثمن) (1)
قال مالك (2) لا يجوز بيع خدمة المدبر لأنه غرر إذ لا يدرى كم يعيش سيده فذلك غرر لا يصلح
قال أبو عمر هذا أيضا ما لا خلاف فيه انه لا يجوز لأنه من بيوع الغرر كما أنه لا خلاف ان السيد المدبر يواجره أياما معلومة أو مدة يجوز في مثلها استئجار الحر والعبد
وقال مالك (3) في العبد يكون بين الرجلين فيدبر أحدهما حصته انهما يتقاومانه فان اشتراه الذي دبره كان مدبرا كله وان لم يشتره انتقض تدبيره الا ان يشاء الذي بقي له فيه الرق ان يعطيه شريكه الذي دبره بقيمته فان أعطاه إياه بقيمته لزمه ذلك وكان مدبرا كله
قال أبو عمر اما اختلاف الفقهاء في هذه المسالة فان الشافعي لا باس عنده ان يدبر الرجل حصته من عبد بينه وبين غيره كما له ان يوصي بذلك والمدبر عنده والعبد غير المدبر سواء ويبقى نصيب الذي دبر مدبرا ونصيب الذي لم يدبر على حاله فان مات الذي دبر نصفه اعتق نصفه ولم يقوم النصف الثاني لان المال قد صار إلي الورثة
وقد الزم الشافعي مالكا في هذه المسالة بيع المدبر وزعم أنه قد نقض فيها قوله (لا يباع المدبر بإجازته المقاومة فيه لأنه إذا وقع في ملك الذي لم يدبر انتقض التدبير وصار بيعا لما كان دبر منه)
واما أبو حنيفة فيقول إذا دبر أحد الشريكين في عبد حصته فان لشريكه في ذلك خمس خيارات ان شاء امسك بحصته وان شاء استسعى العبد في قيمة الحصة التي له فيها وان شاء قومها على شريكه كان موسرا أو معسرا
وقال في الموسر ان شاء ضمنه وان شاء استسعى العبد وان كان معسرا سعى العبد ولم يرجع على العتق
وقال أبو يوسف ومحمد في مدبر بين رجلين يعتقه أحدهما إذا كان
451
المعتق موسرا فشريكه بالخيار ان شاء اعتق وان شاء ضمن نصف قيمته مدبرا وان شاء استسعى والولاء بينهما نصفان
وقال مالك يقوم على الذي اعتق قيمة عبد وينفسخ التدبير
وقال الليث لا يضمن المعتق ونصيب الاخر على ملكه يخدم المدبر للشريك يوما ولنفسه يوما وان مات العبد ورثه الذي له في الرق
وقال الليث في عبد بين رجلين دبره أحدهما [قال يقوم عليه] ويدفع إلى صاحبه نصف قيمته ويكون مدبرا كله فإن لم يكن له مال سعى في نصف قيمته حتى يؤديها إلى صاحبه فإذا أداها رجع إلى الذي دبر نصفه فكان مدبرا كله [فان مات العبد] في حال سعايته وترك مالا دفع إلى الذي دبر [نصفه فكان الذي لم يدبر ما بقي عليه] من نصف قيمته ثم كان ما بقي للذي دبره
واختلفوا في العبد بين الرجلين دبر أحدهما نصيبه واعتق الاخر
فقال مالك يقوم على الذي اعتقه وهو أحب إلي
وقال الشافعي ان كان الذي اعتق موسرا فالعبد حر كله وعليه نصف قيمته للذي دبره وله ولاؤه وان كان معسرا فنصيبه منه حر ونصيب شريكه مدبر
وقال بن أبي ليلى ان كان المعتق معسرا سعى العبد في نصف قيمته الذي دبر ويرجع بذلك على المعتق يتبعه به دينا والولاء كله له [وان كان موسرا ضمن نصف القيمة وبطل التدبير واعتق كله على المعتق]
وقال أبو حنيفة ان شاء الذي دبر ضمن نصف القيمة وان شاء استسعى العبد وان شاء اعتق
هذا إذا كان المعتق موسرا [وان كان معسرا استسعى العبد ان شاء في نصف قيمته وان شاء اعتق
وقال أبو يوسف ومحمد إذا دبر ثم اعتق شريكه كان عتقه باطلا وضمن الذي دبر نصف قيمته موسرا كان أو معسرا كان مدبرا كله]
وقال مالك (1) في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فاسلم العبد
452
قال مالك يحال بينه وبين العبد ويخارج على سيده النصراني ولا يباع عليه حتى يتبين امره فان هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن المدبر الا ان يكون في ماله ما يحمل الدين فيعتق المدبر
قال أبو عمر للشافعي في هذه المسالة قولان أحدهما كقول مالك
والاخر يباع عليه ساعة اسلم
واختاره المزني لان المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم في ملك مشرك يذله وقد صار بالاسلام عدوا له
وقال الليث بن سعد يباع على النصراني [من مسلم يعتقه ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه] ويدفع إلى النصراني ثمنه
وقال سفيان والكوفيون إذا اسلم النصراني قوم قيمته فسعى في قيمته فان مات النصراني قبل ان يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية
((6 - باب جراح المدبر))
1519 - مالك انه بلغه ان عمر بن عبد العزيز قضى في المدبر إذا جرح ان لسيده ان يسلم ما يملك منه إلى المجروح فيختدمه المجروح ويقاصه بجراحه من دية جرحه فان أدى قبل ان يهلك سيده رجع إلى سيده
قال مالك والامر عندنا في المدبر إذا جرح ثم هلك سيده وليس له مال غيره انه يعتق ثلثه ثم يقسم عقل الجرح أثلاثا فيكون ثلث العقل على الثلث الذي عتق منه ويكون ثلثاه على الثلثين اللذين بأيدي الورثة ان شاؤوا اسلموا الذي لهم منه إلى صاحب الجرح وان شاؤوا اعطوه ثلثي العقل وامسكوا نصيبهم من العبد وذلك أن عقل ذلك الجرح انما كانت جنايته من العبد ولم تكن دينا على السيد فلم يكن ذلك الذي احدث العبد بالذي يبطل ما صنع السيد من عتقه وتدبيره فإن كان على سيد العبد دين للناس مع جناية العبد بيع من المدبر بقدر عقل الجرح وقدر الدين ثم يبدأ بالعقل الذي كان في جناية العبد فيقضى من ثمن العبد ثم يقضى دين سيده ثم ينظر إلى ما بقي بعد ذلك من العبد فيعتق ثلثه ويبقى ثلثاه للورثة وذلك أن جناية العبد هي أولى من دين سيده وذلك أن الرجل إذا هلك وترك عبدا مدبرا قيمته خمسون ومائة دينار وكان العبد قد شج رجلا حرا
453
موضحة (1) عقلها خمسون دينارا وكان على سيد العبد من الدين خمسون دينارا
قال مالك فإنه يبدأ بالخمسين دينارا التي في عقل الشجة فتقضى من ثمن العبد ثم يقضى دين سيده ثم ينظر إلى ما بقي من العبد فيعتق ثلثه ويبقى ثلثاه للورثة فالعقل أوجب (2) في رقبته من دين سيده ودين سيده أوجب من التدبير الذي انما هو وصية في ثلث مال الميت فلا ينبغي ان يجوز شيء من التدبير وعلى سيد المدبر دين لم يقض وانما هو وصية وذلك أن الله تبارك وتعالى قال * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * قال مالك فإن كان في ثلث الميت ما يعتق فيه المدبر كله عتق وكان عقل جنايته دينا عليه يتبع به بعد عتقه وان كان ذلك العقل الدية كاملة وذلك إذا لم يكن على سيده دين
وقال مالك في المدبر إذا جرح رجلا فاسلمه سيده إلى المجروح ثم هلك سيده وعليه دين ولم يترك مالا غيره فقال الورثة نحن نسلمه إلى صاحب الجرح وقال صاحب الدين انا أزيد على ذلك أنه إذا زاد الغريم شيئا فهو أولى به ويحط عن الذي عليه الدين قدر ما زاد الغريم على دية الجرح فإن لم يزد شيئا لم يأخذ العبد
وقال مالك في المدبر إذا جرح وله مال فأبى سيده ان يفتديه فان المجروح يأخذ مال المدبر في دية جرحه فإن كان فيه وفاء استوفى المجروح دية جرحه ورد المدبر إلى سيده وان لم يكن فيه وفاء اقتضاه (3) من دية جرحه واستعمل المدبر بما بقي له من دية جرحه
قال أبو عمر قد احتج مالك في هذا الباب وأوضح ما ذهب إليه فالزيادة فيه تكلف
واما اختلاف الفقهاء في جراح المدبر فجملة قول مالك في ذلك إذا جنى المدبر اسلم السيد خدمته ان شاء وان شاء فداه فان مات سيده خرج حرا من ثلثه واتبعه الجاني بما جنى
وسنذكر قوله في جناية أم الولد في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
واما أبو حنيفة فالمدبر عنده وأم الولد سواء لا سبيل إلى اسلام واحد
454
منهما وعلى السيد أقل من أرش الجناية أو قيمة الرقبة فان جنى بعد ذلك أو أحدهما فالمجني عليه شريك الأول
وقال زفر المجني عليه بالخيار ان شاء استسعى المدبر بقية جنايته وان شاء اتبع سيده
وقال أبو يوسف ومحمد يستسعى المدبر في جنايته ولا شيء على المولى
واما الشافعي فالمدبر عنده لسيده عبد له الرجوع فيه وله اسلامه بجنايته وفداؤه كسائر العبيد
واما اسلام المدبر فهو اسلام خدمته إلى المجروح ليستوفي منها مقدار دية جرحه ثم يعتق من المدبر ثلثه ان لم يكن لسيده مال غيره
هذا إذا لم يكن عليه [دين] فإن كان عليه دين وأراد الغرماء الزيادة على دية الجرح فهي من حقوقهم لأنهم يدفعون إلى المجروح من قبل أنفسهم دية الجرح ويأخذون المدبر لأنفسهم فيستوفون من خدمته مقدار ما أدوه إلى صاحب الجرح [لان ذلك ينحط من دين صاحبه وانما يقضى لهم بذلك على المجروح فإنه لا ضرر على المجروح] في ذلك وفيه منفعة للعبد والورثة
فاما منفعة العبد فإنه يأخذ من تلك الزيادة التي زادها الغرماء على دية الجرح ثلثها وتكون فيه من الحرية بقدر ذلك
فاما منفعة الورثة فإنه ينحط من الدين عنهم بمقدار تلك الزيادة لأنه لا ميراث الا بعد الدين
فهذه مذاهب أصول هؤلاء الفقهاء [أئمة الفتوى] في جناية المدبر
وكل ما يفرغ منها يسهل رده عليها بفضل الله وعونه وبالله التوفيق لا شريك له
((7 - باب ما جاء في جراح أم الولد))
1520 - قال مالك في أم الولد تجرح ان عقل ذلك الجرح ضامن (1) على سيدها في ماله الا ان يكون عقل ذلك الجرح أكثر من قيمة أم الولد فليس على سيدها ان يخرج أكثر من قيمتها وذلك أن رب العبد أو الوليدة إذا اسلم غلامه أو
455
وليدته بجرح اصابه واحد منهما فليس عليه أكثر من ذلك وان كثر العقل فإذا لم يستطع سيد أم الولد ان يسلمها لما مضى في ذلك من السنة فإنه إذا اخرج قيمتها فكأنه أسلمها فليس عليه أكثر من ذلك
وهذا أحسن ما سمعت وليس عليه ان يحمل من جنايتها أكثر من قيمتها
قال أبو عمر قوله وهذا أحسن ما سمعت في ما وصف دليل على أنه قد سمع [الاختلاف] فيه
ومن الاختلاف في ذلك ما رواه انس بن الوليد عن أبي يوسف قال سالت ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أم ولد قتلت رجلا قال يقال لمولاها اد دية قتيلها فان فعل ذلك والا اعتقتها عليه وجعلت دية قتيلها على عاقلتها
وقال الليث بن سعد في جناية أم الولد يخير المولى بين ان يؤدي عقل جنايتها بينه وبين قيمة رقبتها وان شاء أسلمها لتسعى في قيمتها ليس على المولى غير ذلك
قال مالك وأصحابه ليس إلى اسلام أم الولد بجنايتها سبيل وعلى السيد ان يفديها بجنايتها الا أن تكون الجناية أكثر من قيمة رقبتها فليس عليه أكثر من قيمة رقبتها أمة وانما عليه الأقل من قيمة الرقبة أو أرش الجناية فان جنت بعد ذلك كان عليه أيضا اخراج قيمتها مرة ثانية وكذلك ثالثة ورابعة وأكثر
وبهذا قال المغيرة المخزومي
[وروي] عن مالك انه ليس [على سيدها] ان يخرج على قيمتها الا قيمة واحدة
وبه قال بن القاسم
وكذلك اختلف قول الشافعي فيها على هذين القولين
ذكر المزني عن الشافعي ان جنت أم الولد ضمن سيدها الأقل من الأرش أو القيمة فان جنت أخرى ففيها قولان
أحدهما ان الثاني يشارك الأول في تلك القيمة ثم هكذا كلما جنت
والقول الثاني ان المولى يغرم قيمة أخرى للثاني وكذلك كلما جنت
واما أبو حنيفة فأم الولد عنده والمدبر سواء لا سبيل إلى اسلام واحد منهما بجنايته وعلى السيد الأقل من أرش الجناية أو قيمة الرقبة فان جنتا بعد ذلك فالمجني عليه
شريك الأول
456
وقال زفر في أم الولد إذا جنت مرة بعد مرة فعلى السيد اخراج القيمة ثانية وثالثة ولو قتلت رجلين أو ثلاثة خطا فعلى المولى لورثة كل واحد منهم القيمة
وهو قول الحسن [بن صالح] بن حي
وقال أبو يوسف عليه قيمة واحدة يشتركون فيها
وقال الثوري في المدبر وأم الولد على المولى القيمة
وقال الأوزاعي ان جنت أم الولد فعلى سيدها قيمتها ان بلغتها جنايتها
457
((41 كتاب الحدود))
((1 - باب ما جاء في الرجم))
1521 - مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم) (1) فقالوا نفضحهم (2) ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم ان فيها الرجم فاتوا بالتوراة فنشروها (3) فوضع أحدهم يده على اية الرجم ثم قرا ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها اية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها اية الرجم فامر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما
فقال عبد الله بن عمر فرأيت الرجل يحني على المراة يقيها الحجارة
قال مالك يعني يحني يكب عليها حتى تقع الحجارة عليه
قال أبو عمر كذا رواه يحيى عن مالك يحني على المراة يريد يميل عليها كأنه مأخوذ من حنى الشيخ إذا انحنى
وقال أبو عبيد كذا يرويه أهل الحديث وانما هو يحنا مهموز يقال منه حنا يحنأ حناء وحنوءا إذا مال والمنحنىء والانحناء حنا ويحنا بمعنى واحد
458
قال أبو عمر قد روي يحنئ بالحاء عن طائفة من أصحاب مالك والمعنى متقارب جدا
وقال أيوب عن نافع يجانىء عنها بيده
وقال معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر يجافي بيده
وفي هذا الحديث جواز سؤال أهل الكتاب عن كتابهم وفي ذلك دليل على أن التوراة صحيحة بأيديهم ولولا ذلك ما سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها
وفي ما ذكرنا دليل على أن ما كانوا يكتبونه بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله هي كتب أحبارهم ورهبانهم كانوا يصنعون لهم كتبا من آرائهم ويضيفونها إلى الله عز وجل ولهذا وشبهه من اشكال امرهم نهينا عن تصديق ما حدثونا به وعن تكذيبه حذرا من أن نصدق بباطل أو نكذب بحق وقد أفردنا لهذا المعنى بابا في كتابنا كتاب بيان العلم وفضله
وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن من اليهود قوما يكذبون على توراتهم ويسترون منها عن المسلمين ما يشهد للمسلمين ويوافق دينهم لأنهم ذكروا ان الزناة محصنين كانوا أو غير محصنين ليس عليهم في التوراة رجم وكذبوا لان فيها على من أحصن الرجم
وفيه ان أهل الكتاب إذا ارتفعوا الينا متحاكمين راضين بحكمنا فيهم وكانت شريعتنا موافقة في ذلك لحكم شريعتهم جاز لنا ان نظهر عليهم بكتابهم حجة عليهم وان لم تكن الشريعة في ذلك الحكم موافقة لحكمهم حكمنا بينهم بما انزل الله تعالى في كتابه القران إذا تحاكموا الينا ورضوا بحكمنا ويتحمل ذلك ان يكون خصوصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاجماع على أن ذلك لم يعمل به أحد بعده ولقول الله عز وجل " أولم يكفهم انا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " [العنكبوت 51] والله أعلم
واختلف العلماء في الحكم بينهم إذا ترافعوا الينا في صوماتهم وسائر مظالمهم واحكامهم هل علينا ان نحكم بينهم فرضا واجبا أم نحن فيه مخيرون
فقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق ان الامام والحاكم يخير ان شاء حكم بينهم إذا تحاكموا إليه بحكم الاسلام وان شاء اعرض عنهم
وقالوا ان هذه الآية محكمة لم ينسخها شيء قوله تعالى * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) * [المائدة
459
وممن قال ذلك مالك والشافعي أحد القولين
وهو قول عطاء والشعبي والنخعي
وروي ذلك عن بن عباس من حديث بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس في قوله تعالى * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) * الآية [المائدة 42]
قال نزلت في بني قريظة وهي محكمة (1)
وذكر وكيع عن سفيان عن مغيرة عن الشعبي وإبراهيم " فان جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم " [المائدة 42]
قال إن شاء حكم وان لم يشا لم يحكم
وروى عيسى عن بن القاسم قال إن تحاكم أهل الذمة إلى حكم المسلمين ورضي الخصمان به جميعا فلا يحكم بينهم الا برضى من أساقفتهم فان كره ذلك أساقفتهم فلا يحكم بينهم وكذلك ان رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهم المسلمون
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال مضت السنة ان يرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم الا ان يأتوا راغبين فيحكم بينهم حاكمنا بكتاب الله عز وجل * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) * [المائدة 42]
وعن الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه قال كتب محمد بن أبي بكر إلى علي رضي الله عنه يسأله عن مسلم زنى بنصرانية فكتب إليه أقم الحد على المسلم ورد النصرانية إلى أهل دينها
وقال آخرون واجب على الحاكم ان يحكم بينهم بما انزل الله إليه إذا تحاكموا إليه وزعموا أن قوله عز وجل * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) * [المائدة 49] ناسخ للتخيير في الحكم بينهم في الآية التي قبل هذه
وروي ذلك عن بن عباس من حديث سفيان بن حسين والحكم عن مجاهد عن بن عباس
ومنهم من يرويه عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد من قوله وهو صحيح عن مجاهد وعكرمة
460
وبه قال الزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي
واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه
وهو أحد قولي الشافعي
وبه قال أبو حنيفة قال إذا جاءت المراة والزوج فعليه ان يحكم بينهما بالعدل وان جاءت المراة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم
وقال أبو يوسف ومحمد بل يحكم
وكذلك اختلف أصحاب مالك على هذين القولين إذا شكا أحد الزوجين وأبى صاحبه من التحاكم الينا فمنهم من قال يحكم لأنه من التظالم الذي لم يلزمه ان يمنع منه بعضهم من بعض
ومنهم من قال لا يحكم بينهما الا ان يرضيا جميعا بحكمه
ولم يختلف قول مالك وأصحابه في الذمي يسرق الذمية ويرفع إلى حاكم المسلمين انه يلزمه الحكم بينهما بالقطع للسارق منهما لان ذلك من الحرابة والفساد فلا يقرون عليه ولا على التلصص
وقال الشافعي ليس الحاكم بالخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم حكم الاسلام إذا جاءه في حد الله عز وجل وعليه ان يقيمه لقول الله عز وجل * (وهم صاغرون) * [التوبة 29]
واختاره المزني وقال في كتاب الحدود لا يحدون إذا جاؤوا الينا في حد الله تعالى ويردهم الحاكم إلى أهل دينهم
قال الشافعي وما كانوا يدينون به فلا يحكم عليهم بابطاله إذا لم يرتفعوا الينا ولا يكفوا عن ما استحلوا ما لم يكن ضررا على مسلم أو معاهد أو مستأمن
قال وان جاءت امرأة تستعدي بان زوجها طلقها أو إلى منها حكمه حكم المسلمين
قال أبو عمر الصحيح في النظر - عندي - ان لا يحكم بنسخ شيء من القران الا بما قام به الدليل الذي لا مدفع له ولا يحتمل التأويل وليس في قوله عز وجل * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * [المائدة 49] دليل على أنها ناسخة لقوله عز وجل * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) * الآية [المائدة 42] لأنها تحتمل معناها أن تكون
461
وان احكم بينهم بما انزل الله ان حكمت ولا تتبع أهواءهم فتكون الآيتان محكمتين مستعملتين غير متدافعتين
نقف على هذا الأصل في نسخ القران بعضه ببعض لأنه لا يصح الا باجماع لا تنازع فيه أو لسنة لا مدفع لها أو يكون التدافع في الآيتين غير ممكن فيهما استعمالهما ولا استعمال أحدهما ان لا يدفع الأخرى فيعلم انها ناسخة لها وبالله التوفيق
واختلف الفقهاء أيضا في اليهوديين من أهل الذمة إذا زنيا هل يحدان إذا رفعهما حكامهم الينا أم لا
فقال مالك إذا زنا أهل الذمة أو شربوا الخمر فلا يعرض لهم الامام الا ان يظهروا ذلك في ديار المسلمين فيدخلوا عليهم الضرر فيمنعهم السلطان من الاضرار بالمسلمين
قال مالك وانما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين لأنه لم يكن لليهود يومئذ - ذمة وتحاكموا إليه
وقال أبو حنيفة وأصحابه يحدان إذا زنيا كحد المسلم
وهو أحد قولي الشافعي قال في كتاب الحدود ان تحاكموا الينا فلنا ان نحكم أو ندع فان حكمنا حددنا المحصن بالرجم لان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا وجلدنا البكر مائة وغربناه عاما
وقال في كتاب الجزية لا خيار للامام ولا للحاكم إذا جاءه في حد الله عز وجل وعليه ان يقيمه عليهم في قول الله عز وجل * (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * [التوبة 29] والصغار ان يجري عليهم حكم الاسلام
وهذا القول اختاره المزني واختار غيره من أصحاب الشافعي القول الأول
وقال الطحاوي حين ذكر قول مالك انما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين لأنه لم تكن لهم ذمة وتحاكموا إليه
قال ولو لم يكن واجبا عليهم لما اقامه النبي صلى الله عليه وسلم
قال وإذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى الله عليه وسلم في الزنى فمن له ذمة احرى بذلك
قال ولم يختلفوا ان الذي يقطع في السرقة
قال أبو عمر سنذكر اختلافهم في حد الاحصان في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل
462
وقالت طائفة ممن رأى اية التخيير في الحكم بين أهل الذمة منسوخة لقول الله عز وجل * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * [المائدة 49] قالوا على الامام إذا علم من أهل الذمة حدا من حدود الله عز وجل ان يقيمة عليهم وان لم يتحاكموا إليه لان الله تعالى يقول * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * [المائدة 49] ولم يقل ان تحاكموا إليك
قالوا والسنة تبين ذلك
واحتجوا بحديث البراء بن عازب في ذلك وقد ذكرناه في (التمهيد) وليس فيه بيان ما ذكروا ولا يثبت ما ادعوا
قال واحتجوا أيضا بحديث مالك وليس فيه ان اليهود تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بشيء لأن فيه ان اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأتوا الا متحاكمين إليه راضين بحكمه وهم كانوا الذين إليهم إقامة الحدود عندهم ودعوه إلى الحكم بينهم وجاؤوه بالتوراة إذ دعاهم إليها
ويدل على ذلك أيضا حديث أبي هريرة من رواية بن شهاب وغيره وعن رجل من مزينة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وقد ذكرناه بطوله من طرق في (التمهيد)
وقد ذكرنا هناك حديث الشعبي عن جابر في هذا المعنى حدثناه عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني يحيى بن موسى قال حدثني أبو اسامة قال أخبرنا مجالد عن عامر عن جابر بن عبد الله قال جاءت يهود بامرأة ورجل منهم زنيا فقال (ائتوني بأعلم رجلين منكم) فاتوه بابني صوريا فنشدهما كيف تجدان امر هذين في التوراة قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة انهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما
قال فما منعكما ان ترجماهما
قال ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا انهم رأوا ذكره في فرجها كالميل في المكحلة فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما (1)
قال أبو عمر يحتمل ان يكون الشهود مسلمين وهو الأظهر في هذا الخبر ولذلك تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
463
وروى شريك عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديا ويهودية (1)
انفرد به شريك عن سماك
وأخبرنا أحمد بن عبد الله قال حدثنا الحسن بن إسماعيل قال حدثني عبد الملك بن محمد قال حدثني محمد بن إسماعيل السائغ قال حدثني سنيد عن هشيم عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي وان حكمت بينهم فاحكم بالقسط يعني بالرجم
1522 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان رجلا من اسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له ان الاخر زنى (2) فقال له أبو بكر هل ذكرت هذا لاحد غيري فقال لا فقال له أبو بكر فتب إلى الله واستتر بستر الله فان الله يقبل التوبة عن عباده فلم تقرره نفسه حتى اتى عمر بن الخطاب فقال له مثل ما قال لأبي بكر فقال له عمر مثل ما قال أبو بكر فلم تقرره نفسه حتى اتى عمر بن الخطاب فقال له مثل ما قال لأبي بكر فقال فلم تقرره نفسه حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ان الاخر زنى فقال سعيد فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أكثر عليه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال (ايشتكي أم به جنة) فقالوا يا رسول الله والله انه لصحيح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ابكر أم ثيب) فقالوا بل ثيب يا رسول الله فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم
1523 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال بلغني ان
464
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من اسلم يقال له هزال (يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك) قال يحيى بن سعيد فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي فقال يزيد هزال جدي وهذا الحديث حق
1524 - مالك عن بن شهاب انه اخبره ان رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد على نفسه اربع مرات فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم
قال بن شهاب فمن اجل ذلك يؤخذ الرجل باعترافه على نفسه
قال أبو عمر اما الحديث الأول في هذا الباب عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان رجلا من اسلم - ولم يسم الرجل - فقد سماه فيه يزيد بن هارون وغيره ممن روى عن يحيى بن سعيد قال يزيد بن هارون وغيره عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان ماعز بن مالك الأسلمي اتى إلى أبي بكر الصديق فأخبره انه زنى فقال له
أبو بكر هل ذكرت ذلك لاحد غيري
قال لا
فقال له أبو بكر استتر بستر الله وتب إلى الله تعالى فان الناس يعيرون ولا يعيرون واما الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده
قال أبو عمر هو ماعز بن مالك الأسلمي لا خلاف بين العلماء في ذلك وقد تكررت الآثار المروية في قصته بذلك
وقد روي معنى حديث مالك هذا متصلا من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكرنا بعضها في (التمهيد) ونذكر منها ما حضرنا في هذا الباب إن شاء الله عز وجل
وروى بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ان رجلا من اسلم اتى عمر فقال ان الاخر زنى فقال تب إلى الله تعالى واستتر بستر الله فان الله يقبل التوبة عن عباده وان الناس يعيرون ولا يعيرون فلم تدعه نفسه حتى اتى أبا بكر فقال له مثل ذلك فقال له قول عمر ورد عليه مثل ما رد عليه عمر فلم تدعه نفسه حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأعرض عنه فأتاه من الشق الآخر فأعرض عنه فأتاه من الشق الآخر فذكر له ذلك فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
465
قومه فسألهم عنه (ابه جنون ابه ريح) فقالوا لا فأمر به فرجم
قال يحيى بن سعيد عن نعيم بن عبد الله بن هزال ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال (لو سترته بثوبك كان خيرا لك)
قال وهزال كان امره ان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره
ذكره عبد الرزاق (1) عن بن عيينة
قال وقال بن عيينة قال واخبرني عبد الله بن دينار قال قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال (أيها الناس اجتنبوا هذه القاذورة التي نهاكم الله عنها ومن أصاب من ذلك شيئا فليستتر) (2)
وفي هذا الحديث من الفقه أن ستر المسلم على نفسه ما وقع فيه من الكبائر الموجبة للحدود والتوبة منها والندم عليها والاقلاع عنها أولى به من الاقرار بذلك على نفسه
الا ترى ان أبا بكر أشار بذلك على الرجل الذي اعترف عنده بالزنى وكذلك فعل عمر رضي الله عنهما
وهو ماعز الأسلمي لا خلاف في ذلك بين أهل العلم وذلك مشهور في الآثار
وكذلك اعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه حين أقر على نفسه بالزنى حتى أكثر عليه كان - والله أعلم - رجاء الا يتمادى في الاقرار وان ينتبه ويرعوي ثم ينصرف فيعقد التوبة مما وقع فيه
هذا مذهب من قال إن الاعتراف بالزنى مرة واحدة يكفي
واما من قال إنه لا بد من اقراره اربع مرات فقالوا انما اعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتم اقراره عنده
وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره لأنه كان إليه إقامة الحدود لله تعالى ومن كان ذلك إليه لم يكن له - إذا بلغته وثبت عنده ما يوجبها - الا اقامتها ولم يكن أبو بكر ولا عمر في ذلك الوقت كذلك
وسنذكر اختلاف الفقهاء في حكم اقرار المعترف في الزنى وهل يحتاج إلى تكرار الاقرار أم لا في حديث بن شهاب بعد هذا في هذا الباب إن شاء الله
466
يدلك ان الستر واجب من المؤمن على المؤمن قوله - صلى الله عليه وسلم تعافوا الحدود فيما بينكم فإنه إذا بلغني ذلك فلا عفو) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لهزال الأسلمي (يا هزال لو سترته بردائك لكان خيرا لك)
وكان هزال قد امره ان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف عنده بما وقع منه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول معرفا له ان ستره عليه كان أفضل وأولى به وإذا كان ستر المسلم على المسلم مندوبا إليه مرغوبا فيه فستر المرء على نفسه أولى به وعليه التوبة مما وقع فيه
ويدلك أيضا على ما وصفت لك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ايشتكي ابه جنة) فيقول أمجنون هو يبلغ نفسه إلى الموت وهو يمكنه ان يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يعود فان الله تعالى يقبل عن عباده ويحب التوابين
واما قوله ان الاخر زنى فالرواية فيه بكسر الخاء على وزن فعل عند أهل اللغة
والمعنى فيه ان البائس الشقي زنى كما تقول الأبعد زنى قال ذلك توبيخا لنفسه
قال أهل اللغة في قول قيس بن عاصم المسألة اخر كسب الرجل أي أرذل كسب الرجل
حدثني محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثني محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال حدثني إسحاق بن أبي حسان قال حدثني هشام بن عمار قال حدثني عبد الحميد بن حبيب قال حدثني الأوزاعي قال أخبرني عثمان بن أبي سودة قال حدثني من سمع عبادة بن الصامت يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان الله - عز وجل - ليستر العبد من الذنب ما لم يخرقه)
قالوا وكيف يخرقه
قال (يحدث به الناس)
حدثني خلف بن قاسم قال حدثني قاسم بن عبد الرحمن أبو عيسى الاسواني قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثني سفيان بن وكيع بن الجراح قال حدثني أبي عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن عبد الرحمن بن أبزي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ان ماعزا أقر على نفسه بالزنى عند
467
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (ان أقررت الرابعة أقمت عليك الحد) فأقر عنده الرابعة فأمر به فحبس ثم سأل عنه فذكروا خيرا فرجم
وهذا حديث حسن الا ان جابرا الجعفي يتكلمون فيه واجمعوا على أن يكتب حديثه واختلفوا في الاحتجاج به فكان يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي لا يحدثان عنه وكان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يضعفانه وكان شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري يشهدان له بالحفظ والاتقان وكان وكيع وزهير بن معاوية يوثقانه ويثنيان عليه قال وكيع مهما شككتم فلا تشكوا فان جابر الجعفي ثقة
واما حديث مالك في هذا الباب عن بن شهاب مرسلا فرواه معمر ويونس عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر ان رجلا من اسلم اتى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث
ورواه شعيب بن أبي حمزة وعقيل بن خالد عن بن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة ان ماعزا الأسلمي اتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف عنده بالزنى فرده اربع مرات وذكر الحديث
قال بن شهاب وحدثني من سمع جابر بن عبد الله يقول كنت فيمن رجمه فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه
وقد ذكرنا طرق حديث بن شهاب والفاظ ناقديه بالأسانيد في كتاب (التمهيد)
وقد روى حديث ماعز في قصة اعترافه بالزنى ورجمه عن النبي صلى الله عليه وسلم بن عباس
وروي حديثه أيضا من وجوه جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وسهل بن سعد ونعيم بن هزال وأبو سعيد الخدري وفي أكثرها انه اعترف اربع مرات وفي بعضها مرتين وفي بعضها ثلاث مرات وقد ذكرنا ذلك في (التمهيد)
وفي رواية شعبة وإسرائيل وأبي عوانة عن سماك عن جابر بن سمرة انه اعترف مرتين فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم
واختلف الفقهاء في عدد الاقرار بالزنى
فقال مالك والشافعي والليث وعثمان البتي إذا أقر مرة واحدة بالزنى حد
468
وهو قول الحسن البصري وحماد الكوفي
وبه قال أبو ثور وداود والطبري
ومن حجتهم على من خالفهم ان الآثار مختلفة في اقرار ماعز وروي فيها انه أقر مرة وروي انه أقر مرتين وروي انه أقر ثلاثا وروي انه أقر اربع مرات وسقط الاحتجاج به
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد (واغد يا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت فارجمها)
ولم يقل ان اعترفت اربع مرات وكل ما وقع عليه اعتراف وجب به الحد
وقد اجمع العلماء على أن الاقرار في الأموال يجب مرة واحدة فدل ذلك على أنه لا يراعى عدد الشهود لان الشهادة لا تصح بأقل من شاهدين
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبن أبي ليلى والحسن بن حي لا يجب عليه الحد في الزنى حتى يقر اربع مرات
وهو قول الحكم بن عتيبة
وبه قال احمد وإسحاق
وقال أبو حنيفة وأصحابه اربع مرات في مجالس مفترقة
وقال أبو يوسف ومحمد يحد في الخمر باقراره مرة واحدة
وقال زفر لا يحد في الخمر حتى يقر مرتين في موطنين
وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد إذا أقر مرة واحدة في السرقة صح اقراره
وقال أبو يوسف حتى يقر مرتين
قال أبو عمر من حجتهم حديث سعيد بن جبير عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم رد ماعزا حتى أقر اربع مرات ثم امر برجمه
وأحاديث كثيرة فيها الاقرار منه اربع مرات قد ذكرتها في (التمهيد)
قالوا وليس تقصير من قصر فيما حفظ غيره بحجة عليه]
ومن حفظ اربع مرات فقد زاد حفظه على حفظ غيره وشهادته أولى لأنه سمع ما لم يسمع غيره
وسنذكر ما يلزم من رجع عن اقراره بالزنى واكذب نفسه وما للفقهاء من
469
التنازع في باب من اعترف على نفسه بالزنى من هذا الكتاب إن شاء الله عز وجل
1525 - مالك عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن أبيه زيد بن طلحة عن عبد الله بن أبي مليكة انه اخبره ان امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته انها زنت وهي حامل فقال لها رسول الله (اذهبي حتى تضعي) فلما وضعت جاءته فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهبي حتى ترضعيه) فلما أرضعته جاءته فقال (اذهبي فاستودعيه) (1) قال فاستودعته ثم جاءت فأمر بها فرجمت
هكذا قال يحيى في هذا عن مالك عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن أبيه زيد بن طلحة عن عبد الله بن أبي مليكة فجعل الحديث من مرسل عبد الله بن أبي مليكة
وكذلك قال أبو مصعب عن مالك كما قال يحيى بن زيد بن طلحة عن عبد الله بن أبي مليكة فجعل الحديث من مرسل عبد الله
وكذلك روى بن عفير في (الموطأ)
وقال القعني وبن القاسم ومطرف وبن بكير في أكثر الروايات عنه عن مالك عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن أبيه زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة فجعلوا الحديث من مرسل زيد بن طلحة وهو الصواب إن شاء الله تعالى
ورواه بن وهب برفع موضع الاشكال منه ولم يقل عن بن أبي مليكة ولا جاء فيه بذكر بن أبي مليكة فرواه في (الموطأ)
عن مالك عن زيد بن طلحة التيمي عن أبيه ان امرأة اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنها زنت وهي حامل فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم (اذهبي حتى تضعي) فذهبت فلما وضعت جاءته فقال (اذهبي حتى ترضعيه) فلما أرضعته جاءته فقال (اذهبي حتى تستودعيه) فلما استودعته جاءته فأقام عليها الحد
وزيد بن طلحة هذا والد يعقوب معروف عند أهل الحديث يروي عن بن عباس وسعيد المقبري روى عنه الثوري وعبد الرحمن بن إسحاق وبن يعقوب
470
وروى عن ابنه يعقوب مالك وهشام بن سعد وموسى بن عبيدة ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الا ان أهل الحديث ينسبه بعضهم في بني تيم قريش فيقولون التيمي ويختلفون فمنهم من جعله من ولد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومنهم من ينسبه إلى بن جدعان ومنهم من يجعله من ولد طلحة بن ركانة وليس بشيء ولا يعرفه أهل النسب الا في تيم قريش ولا في ولد ركانة وركانة مطلبي لا تيمي فيعقوب وأبوه زيد بن طلحة مجهولان عند أهل العلم بالنسب معروفان عند أهل الحديث
وهكذا قال بن وهب فأقام عليها الحد ولم يذكر رجما
وما في الحديث من انتظار الفطام - والله أعلم - دليل على أن حدها كان الرجم
وقد روى هذا الحديث عمران بن حصين من وجه صحيح عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر فيه انتظار الرضاع والفطام منه وقال فيه فلما وضعت اتته فامر بها فشكت عليها ثيابها يعني شدت ثم رجمت وأمرهم فصلوا عليها فقال له عمر أنصلي عليها وقد زنت
فقال (والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت ما بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت ان جادت بأكثر من نفسها) (1)
رواه يحيى بن كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين
وكذا رواه أكثر أصحاب يحيى بن كثير وقال فيه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابه عن أبي المهاجر عن عمران بن حصين فوهم فيه إذ جعل موضع أبي المهلب ابا المهاجر وقد ذكرناه بالأسانيد من طرق في (التمهيد)
وقد روي انتظار الرضاع والفطام في هذا الحديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم من
471
وجوه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحديث أبي بكرة وحديث بريدة الأسلمي
وفي حديث علي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (انا اكفله) ولكنه من حديث حسين بن ضميرة وليس بشيء
وحديث أبي بكرة فيه رجل مجهول
وأحسن الأحاديث اسنادا في ذلك حديث بريدة وفيه فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبي فرفع إلى رجل من المسلمين يكفله
حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثني عيسى بن يونس عن بشير بن المهاجر
وحدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ولفظ الحديث لهما قالا حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عبد الله بن نمير قال حدثني بشير بن المهاجر قال حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال جاءت الغامدية فقالت يا رسول الله اني قد زنيت وأريد ان تطهرني فردها فلما كان الغد اتته فقالت يا نبي الله لم تردني لعلك تريد ان تردني كما رددت ماعز بن مالك فوالله اني لحبلى
فقال (اما لا فاذهبي حتى تلدي) فلما ولدت اتته بالصبي في خرقة فقالت هذا ولدته
قال (اذهبي فارضعيه حتى تفطميه)
فلما فطمته اتته بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد اكل الطعام فدفع الغلام إلى رجل من المسلمين ثم امر بها فحفر لها إلى صدرها وامر الناس ان يرموا
واقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال (مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له)
ثم امر بها فصلى عليها ودفنت
472
واختلف الفقهاء في انتظار المراة الحامل تقر على نفسها بالزنى إلى أن تضع ولدها وتفطمه
فقال مالك لا تحد حتى تضع إذا كانت ممن يجلد وان كان رجما رجمت بعد الوضع
وقد روي عنه انها لا ترجم حتى تجد من يكفل ولدها بعد الرضاعة
والمشهور من مذهبه انه ان وجد للصبي من يرضعه رجمت وان لم يوجد للصبي من يرضعه لم ترجم حتى تفطم الصبي فإذا فطم الصبي رجمت
وقال أبو حنيفة لا تحد حتى تضع فإذا كان جلدا فحتى تقال من النفاس وان كان رجما رجمت بعد الوضع
وقال الشافعي اما الجلد فيقام عليها إذا ولدت وأفاقت من نفاسها واما الرجم فلا يقام عليها حتى تفطم ولدها ويوجد من يكفله اتباعا للحديث في ذلك
وبه قال احمد وإسحاق
وقد روي عن الشافعي مثل قول مالك وأبي حنيفة ترجم إذا وضعت
وروي ذلك عن علي في شراحة الهمذانية
وروي عن علي بن أبي طالب أيضا من ثلاثة أوجه من حديث عبد الرحمن السلمي ومن حديث أبي جميلة الطهوي ومن حديث عاصم بن ضميرة كلهم عن علي ان أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقول لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فلما ولدت امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اجلدها بعد ما تعلت من نفاسها فجلدتها
أخبرنا أحمد بن سعيد بن بشر قال حدثني بن أبي دليم قال حدثني بن وضاح قال حدثني عبد العزيز بن عمران بن مقلاص قال حدثني بن وهب قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة قال كان بن عباس يقول في ولد الزنى لو كان شر الثلاثة لم يتان بأمه ان ترجم حتى تضعه
واختلفوا في الحفر للمرجوم
فقالت طائفة يحفر له
ورووا ذلك عن علي في شراحة الهمذانية حين امر برجمها
وبه قال قتادة واليه ذهب أبو ثور
ذكر سنيد قال حدثني هشيم قال أخبرنا الأجلح عن الشعبي قال اتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بامرأة يقال لها شراحة حبلى من الزنى
473
فقال لها لعل رجلا استكرهك قالت لا
قال فلعل رجلا اتاك في منامك قالت لا
قال فلعل زوجك من عدونا فاتاك سرا فأنت تكرهين ان تطلعينا عليه
فقالت لا
فامر بها فحبست فلما وضعت اخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ثم ردها إلى السجن فلما كان يوم الجمعة اخرجها فحفر لها حفيرا فأدخلها فيه وأحدق بها الناس لرميها فقال ليس هكذا الرجم اني أخاف ان يصيب بعضكم بعضا ولكن صفوا كما تصفون للصلاة ثم قال الرجم رجمان
رجم سر ورجم علانية فما كان منه من اقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس
وما كان منه ببينة فأول من يرجم البينة ثم الامام ثم الناس
قال وحدثني يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي ان عليا رضي الله عنه حفر لشراحة بنت مالك إلى الصرة
وقال مالك لا يحفر للمرجوم
وقال بن القاسم والمرجومة مثله
وقال أبو حنيفة لا يحفر للمرجوم وان حفر للمرجومة فحسن
وقال الشافعي ان شاء حفر وان شاء لم يحفر
وقال أحمد بن حنبل أكثر الأحاديث على أن لا يحفر والله أعلم
قال أبو عمر قد استدل بعض أصحابنا على أن لا يحفر للمرجوم بحديث بن عمر في رجم اليهوديين قال لو حفر لكل واحد منهما كان أحدهما يحني على الاخر ليقيه الحجارة
1526 - مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني انهما اخبراه ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر وهو افقههما اجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي ان أتكلم قال
474
(تكلم) فقال ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرني ان على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ثم اني سالت أهل العلم فأخبروني ان ما على ابني جلد مائة وتغريب عام واخبروني انما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله اما غنمك وجاريتك فرد
عليك) وجلد ابنه مائة وغربه عاما وامر أنيسا الأسلمي ان يأتي امرأة الاخر فان اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها
قال مالك والعسيف الأجير
قال أبو عمر قد ذكرنا الاختلاف على مالك والاختلاف علي بن شهاب في اسناده حديث هذا الباب وذكرنا من جمع فيه مع أبي هريرة وزيد بن خالد ومن رواه فجعله بهذا الاسناد عن زيد بن خالد خاصة ومن جعله عن أبي هريرة خاصة ومن اختصر وجعله عن زيد
واما من جعله عن أبي هريرة فكلهم اتى به بكماله
وذكرنا ان بن عيينة ذكر فيه مع أبي هريرة وزيد بن خالد شبلا فأخطأ فيه لان شبلا انما ذكره بن شهاب في حديث الأمة إذا زنت ولم تحصن
وقد أوضحنا ذلك كله عن الرواة في (التمهيد) والحمد لله كثيرا
قال أبو عمر لم يذكر في هذا الحديث اقرار الزاني بالزنى وهو قول عقله الراوي إذ عول في تركه على علم العامة فضلا عن الخاصة انه لا يؤخذ أحد باقرار أبيه عليه ولا اقرار غيره والذي تشهد له الأصول ان الابن كان حاضرا فصدق أباه فيما قال عليه ونسب إليه ولولا ذلك ما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حدا بقول أبيه لقول الله عز وجل * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * [الانعام 164]
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي زمعة في ابنه (انك لا تجني عليه ولا يجني عليك
475
وفي هذا الحديث دروب من العلم
منها ان أولى الناس بالقضاء بينهم الخليفة إذا كان عالما بوجوه القضاء
ومنها ان المدعي أولى بالقول واحق ان يتقدم بالكلام
ومنها ان الباطل من القضاء مردود ابدا وان ما خالف السنة باطل لا ينفذ ولا يمضي
ومنها ان ما قبضه الذي يقضي به وكان القضاء خطا مخالفا للسنة المجتمع عليها لا يدخله قبضه له (في ملكه) ولا يصح ذلك له
وفيه ان العالم يفتي في مصر فيه من هو اعلم منه
الا ترى ان الصحابة كانوا يفتون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي عن عكرمة بن خالد عن بن عمر انه سئل عن من كان يفتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر ولا اعلم غيرهما
وقال القاسم بن محمد كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى موسى بن ميسرة عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين عمر وعثمان وعلي وثلاثة من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت
وروى الفضيل بن أبي عبد الله عن عبد الله بن دينار الأسلمي عن أبيه قال كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر الواقدي قال حدثني أيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك قال كان معاذ بن جبل يفتي في المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وكان عمر بن الخطاب يقول إن خرج معاذ إلى الشام لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها فيما كان يفتيهم ولقد كنت كلمت أبا بكر ان يحبسه لحاجة الناس إليه فأبي علي وقال رجل أراد وجها يعني الشهادة لا احبسه
فقلت ان الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه في عظيم عنائه عن أهل مصره
قال الواقدي قال وحدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال خطب عمر بالجابية فقال من أراد ان يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل
واما قوله في هذا الكتاب لأقضين بينكما بكتاب الله فلاهل العلم في ذلك قولان
476
أحدهما ان الرجم في كتاب الله على مذهب من قال إن من القران ما نسخ خطه وثبت حكمه وقد اجمعوا ان من القران ما نسخ حكمه وثبت خطه وهذا في القياس مثله
وقد ذكرنا هذا المعنى في كتاب الصلاة عند قوله * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * [البقرة 238] وصلاة العصر (وقوموا لله قانتين) [البقرة 238]
ومن ذهب هذا المذهب احتج بقول عمر الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن
وقوله لولا أن يقال إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فانا قد قراناها
وسنذكر ما للعلماء في قول عمر هذا من التأويل في موضعه من هذا الباب إن شاء الله عز وجل
ومن حجته أيضا ظاهر هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لا قضين بكتاب الله) ثم قال لأنيس (لئن اعترفت امرأة هذا فارجمها) فرجمها
والقول الاخر ان معنى قوله عليه السلام (لأقضين بينكما بكتاب الله ولاحكمن بينكما بحكم الله ولاقضين بينكما بقضاء الله) وهذا جائز في اللغة
قال الله عز وجل * (كتاب الله عليكم) * [النساء 24] أي حكمه فيكم وقضاؤه عليكم
على أن كل ما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حكم الله عز وجل وقد أوضحنا هذا المعنى في (التمهيد)
ومنة قول علي رضي الله عنه في شراحة الهمذانية جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد تطلق على السنة التلاوة بظاهر قول الله تعالى " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " [الأحزاب 34] قالوا القران والسنة
وفيه ان الزاني إذا لم يحصن حده الجلد دون الرجم وهذا ما لا خلاف بين أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله عز وجل * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * [النور 2]
واجمعوا ان الابكار داخلون في هذا الخطاب
477
واجمع الجمهور من فقهاء المسلمين أهل الفقه والأثر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا ان المحصن من الزناة حده الرجم واختلفوا هل عليه مع ذلك جلد أم لا
فقال أكثرهم لا جلد على المحصن انما عليه الرجم فقط
ومن حجتهم في هذا الحديث (فان اعترفت فارجمها) ولم يقل اجلدها ثم ارجمها
وممن قال ذلك مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وبن أبي ليلى وبن شبرمة وأحمد بن حنبل وأبو ثور والطبري كل هؤلاء يقول لا يجتمع جلد ورجم
وقال الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود بن علي الزاني المحصن يجلد ثم يرجم
وحجتهم عموم الآية في الزناة في قوله تعالى * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * [النور 2] فعم الزناة ولم يخص محصنا من غير محصن
وحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (خذوا عني لقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة) (1)
وحديث علي رضي الله عنه في رجم شراحة الهمذانية بعد جلده لها
وروى أبو حصين وإسماعيل بن أبي خالد وعلقمة بن مرثد عن الشعبي بمعنى واحد قال اتي علي بزانية فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ثم قال الرجم رجمان رجم سر ورجم علانية فاما رجم العلانية فالشهود ثم الامام ثم الناس واما رجم السر فالاعتراف فالامام ثم الناس
وحجة الجمهور ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا الأسلمي ورجم اليهوديين ورجم امرأة من جهينة وامرأة من عامر ولم يجلد واحدا منهم وقد ذكرنا الآثار بذلك في (التمهيد) فدل ذلك على أن الآية قصد بها من لم يحصن من الزناة
478
ورجم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يجلدا
ومن أوضح شيء في هذا المعنى واصحه حديث بن شهاب في هذا الباب وفيه انه جلد البكر وغربه عاما ورجم المراة ولو جلد لنقل ذلك كما نقل انه رجمها وكانت ثيبا
وهذا كله يدل على أن حديث عبادة منسوخ لأنه كان في حين نزول الآية في الزناة وذلك أن الزناة كانت عقوبتهم إذا شهد عليهم أربعة من العدول ان يمسكوا في البيوت إلى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا فلما نزلت اية الجلد التي في سورة النور قام صلى الله عليه وسلم فقال (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا) الحديث كما ذكرناه من حديث عبادة فكان هذا في أول الأمر ثم رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة ولم يجلد مع الرجم فعلمنا ان هذا حكم أحدثه الله تعالى نسخ به ما قبله
ومثل هذا كثير في احكامه عز وجل واحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبتلي عبادة وانما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من امره صلى الله عليه وسلم
ذكر عبد الرزاق (1) عن معمر عن الزهري انه كان ينكر الجلد مع الرجم ويقول رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلد
وعن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قال ليس على المرجوم جلد بلغنا ان عمر رجم ولم يجلد
قال أبو عمر قد ذكرنا عن عمر رضي الله عنه انه رجم ولم يجلد اثارا كثيرة في (التمهيد)
وفي هذه المسالة قول ثالث وهو ان الثيب من الزناة ان كان شابا رجم وان كان شيخا جلد ورجم
وقاله مسروق وقالت به فرقة من أهل الحديث
وهو قول ضعيف لا أصل له وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عن مسروق في (التمهيد)
فهذا ما للجماعة أهل السنة من الأقاويل في هذا الباب
واما أهل البدع والخوارج منهم ومن جرى مجراهم من المعتزلة فإنهم لا يرون الرجم على زان محصن ولا غير محصن ولا يرون على الزناة الا الجلد
479
وليس عند أحد من أهل العلم ممن يعرج على قولهم ولا يعدون خلافا
وروى حماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم والمبارك بن فضالة وأشعث كلهم عن علي بن زيد وحماد بن سلمة عن يوسف بن مهران عن بن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول أيها الناس ان الرجم حق فلا تخدعن عنه فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم وكذلك أبو بكر ورجمنا بعدهما وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم وبالدجال وبطلوع الشمس من مغربها وبعذاب القبر وبالشفاعة وبقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا (1)
قال أبو عمر الخوارج والمعتزلة يكذبون بهذا كله عصمنا الله من الضلال برحمته
واما قوله وجلد ابنه مائة وغربه عاما فلا خلاف بين علماء المسلمين ان ابنه كان بكر وان الجلد حد البكر مائة جلدة واختلفوا في التغريب
فقال مالك ينفى الرجل ولا تنفى المراة ولا العبد ومن نفي حبس في الموضع الذي نفي إليه
وقال الأوزاعي لا تنفى المراة وينفى الرجل
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا نفي على زان وانما عليه الحد رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا
وقال مالك والشافعي وأصحابه والحسن بن حي ينفى الزاني إذا جلد الحد رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا
واختلف قول الشافعي في نفي العبيد
فقال مرة استخير الله في نفي العبيد
وقال مرة ينفى العبد نصف سنة
وقال مرة أخرى سنة إلى غير بلده
وبه قال الطبري
قال أبو عمر من حجة من غرب الزناة مع حديثنا هذا وقوله فيه وجلد ابنه مائة وغربه عاما حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) (2)
لم يخص عبدا من حر
480
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني أحمد بن زهير وبكر بن حماد قال احمد حدثني أبي وقال بكر حدثني مسدد قال حدثني يحيى القطان عن بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن بن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة
وحديث بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وان أبا بكر ضرب وغرب وان عمر ضرب وغرب وقد ذكرت اسناده في (التمهيد)
وحجة من لم ير النفي على العبيد حديث أبي هريرة في الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه الحد دون النفي
ومن رأى نفي العبيد زعم أن حديث الأمة معناه التأديب لا الحد
وحجة من لم ير نفي النساء ما يخشى عليهن من الفتنة
وروي عن علي رضي الله عنه انه لم ير نفي النساء
ومن حجة من لم ير النفي على الزاني ذكرا ولا أنثى حرا ولا عبدا ان الله عز وجل ذكر الجلد ولم يذكر نفيا
وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وغيره
ذكر عبد الرزاق (1) عن معمر عن الزهري عن بن المسيب قال غرب عمر بن الخطاب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهن قال وقال عمر لا اغرب مسلما بعدها ابدا
قال ولو كان النفي حدا ما تركه عمر
قال أبو عمر يحتمل ان يكون عمر قال ذلك في حد الخمر لأنه مأخوذ اجتهادا وقد صح عنه انه نفى في الزنى من طرق شتى
وروى عبد الرزاق (2) عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم قد قال عبد الله بن مسعود في البكر يزني بالبكر يجلدان مائة وينفيان سنة
قال فقال علي حسبهما من الفتنة ان ينفيا
قال أبو عمر قد ثبت عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم انهم
481
غربوا ونفوا في الزنى بأسانيد أحسن من التي ذكرها الكوفيون
منها ما رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وان أبا بكر ضرب وغرب وان عمر ضرب وغرب (1)
الا انه قد اختلف في اسناد هذا الحديث فاضطرب في رفعه واتصاله
وروى أيوب وعبيد الله عن نافع عن بن عمر ان عمر نفى إلى فدك
وعن الثوري عن أبي إسحاق ان عليا نفى من الكوفة إلى البصرة
وقال معمر بن جريج سئل بن شهاب إلى كم ينفى الزاني
فقال عمر نفاه من المدينة إلى البصرة ومن المدينة إلى خيبر
وقال بن جريج قلت لعطاء نفي من مكة إلى الطائف
قال حسبه ذلك
وفي الحديث أيضا قوله ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته
وهذا قذف منه للمراة الا انها لما اعترفت بالزنى سقط حكم قذفها
وقد اختلف قول العلماء في من أقر بالزنى بامرأة بعينها وجحدت
قال مالك يقام عليه حد الزنى وان طلبت حد القذف أقيم عليه أيضا
قال وكذلك لو قالت زنى بي فلان وجحد حدت للقذف ثم للزنى
وبهذا قال الطبري
وقال أبو حنيفة لا حد عليه للزنى وعليه حد القذف ولها مثل ذلك ان قالت مثل ذلك لأنه لا يجتمع عنده الحدان
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا يحد من أقر منهما للزنى فقط لأنا قد احطنا علما انه لا يجب عليه الحدان جميعا لأنه ان كان زانيا فلا حد على قاذفه فإذا أقيم عليه حد الزنى لم يقم عليه حد القذف
وقال الأوزاعي يحد للقذف ولا يحد للزنى
وقال بن أبي ليلى إذا أقر هو بالزنى وجحدت هي جلد وان كان محصنا لم يرجم
وفي هذا الحديث أيضا ان للامام ان يسال المقذوف فان اعترف أقام عليه الواجب وان لم يعترف وطلب القاذف اخذ له بحده
وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء
482
فقال فيه مالك لا يحد الامام القاذف حتى يطالبه المقذوف الا ان يكون الامام سمعه فيحده ان كان معه شهود غيره عدول
قال ولو أن الامام شهد عنده شهود عدول على قاذف لم يقم الحد حتى يرسل إلى المقذوف وينظر ما يقول لعله يريد سترا على نفسه
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي لا يحد القاذف الا بمطالبة المقذوف
واما قوله (واغد يا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت فارجمها)
فإنه اقامه مقام نفسه في ذلك وسبيله في ما امره به سبيل الوكيل ينفذ لما امره به موكله
وفي هذا الحديث معان قد ذكرتها في (التمهيد) وذكرت وجه كل معنى منها وموضع استنباطه من الحديث لم ار لذكرها ها هنا وجها لان كتابي ها هنا لم يكن الغرض فيه والمقصد الا ايراد ما اختلف فيه العلماء من المعاني التي رسمها الموطأ
واما قول مالك العسيف الأجير فهو كما قال عند أهل العلم باللغة في معنى هذا الحديث وقد يكون العسيف العبد ويكون السائل
قال المرار الجلي يصف كلبا
(الف الناس فما ينبحهم
* من عسيف يبتغي الخير وحر (1))
يعني من عبد وحر
وقال أبو عمرو الشيباني في حديث النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن قتل العسفاء والوصفاء في سرية بعثها (2)
قال العسفاء الاجراء
هو كما قال مالك رحمه الله
وقال أبو عبيد وقد يكون العسيف الاسيف وهو الحزين
483
1528 - مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس أنه قال سمعت عمر بن الخطاب يقول الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن (1) إذا قامت البينة أو كان الحبل (2) أو الاعتراف
قد مضى في هذا الباب من اثبات الرجم على من أحصن من الزناة الأحرار ما اغنى عن اعادته هنا
واختلف الفقهاء في حد الاحصان الموجب للرجم
فجملة مذهب مالك في ذلك ان يكون الزاني حرا مسلما بالغا عاقلا قد وطئ قبل ان يزني وطئا مباحا في عقد نكاح صحيح ثم زنى بعد ذلك فإذا كان هذا وجب الرجم
ولا يثبت لكافر ولا لعبد عنده احصان كما لا يثبت عند الجميع لصبي ولا مجنون احصان
وكذلك الوطء المحظور كالوطء في الحج وفي الصيام وفي الاعتكاف وفي الحيض لا يثبت به عنده احصان
والأمة والكافرة والصغيرة لا تحصن الحر المسلم عند مالك لأنه لا يجتمع فيهن شروط الاحصان
وهذا كله مذهب مالك وأصحابه
واما أبو حنيفة وأصحابه فحد الاحصان عندهم على ضربين
أحدهما احصان يوجب الرجم يتعلق بست شروط الحرية والبلوغ والعقل والاسلام والنكاح الصحيح والدخول ولا يراعون وطئا محظورا مع ذلك ولا مباحا
والاخر احصان يتعلق به حد القذف له خمس خصال عندهم الحرية والبلوغ والعقل والاسلام والعفة
484
وروى أبو يوسف عن بن أبي ليلى قال إذا زنى اليهودي أو النصراني بعد ما أحصنا فعليهما الرجم
قال أبو يوسف وبه نأخذ
فالاحصان عند هؤلاء له أربعة شروط الحرية والبلوغ والعقل والوطء في النكاح الصحيح
ونحو هذا قول الشافعي وأحمد بن حنبل
قال الشافعي إذا دخل الرجل بامرأته وهما حران ووطئها فهذا احصان مسلمين كانا في [حين] الزنى بالغين
واختلف أصحابه على أربعة أوجه
فقال بعضهم إذا تزوج العبد أو الصبي ووطىء فذلك احصان إذا زنى بعد البلوغ والحرية
وقال بعضهم لا يكون واحد منهم محصنا كما قال مالك
وقال بعضهم إذا تزوج الصبي الحر أحصن فإذا بلغ وزنى رجم والعبد لا يحصن حتى يعتق بالغا ويزني بعد
وقال بعضهم إذا تزوج الصبي لم يحصن وإذا تزوج العبد أحصن
وقالوا جميعا الوطء الفاسد لا يقع به احصان
وقد تقدم في كتاب النكاح من أقوال العلماء في الاحصان أكثر من هذا وتقصينا ذلك في (التمهيد)
واما قوله في هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه (أو قامت عليه البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) فاجمع العلماء ان البينة في الزنى أربعة شهداء رجال عدول يشهدون بالصريح من الزنى لا بالكناية وبالرؤى ة كذلك والمعاينة
ولا يجوز عند الجميع في ذلك شهادة النساء فإذا شهد بذلك من وصفنا على من أحصن كما ذكرنا وجب الرجم على ما قال عمر رضي الله عنه
واما الاعتراف فهو الاقرار من البالغ العاقل بالزنى صراحا لا كناية فإذا ثبت على اقراره ولم ينزع عنه وكان محصنا وجب عليه الرجم وان كان بكرا جلد مائة وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء
واما الحمل الظاهر للمراة ولا زوج لها يعلم فقد اختلف العلماء في ذلك
485
فقالت طائفة الحبل والاعتراف والبينة سواء في ما يوجب الحد في الزنى على حديث عمر هذا في قوله إذا قامت عليه البينة أو كان الحبل أو الاعتراف فسواء في ذلك في ما يوجب الرجم على من أحصن فوجبت التسوية بذلك
وممن قال ذلك مالك بن انس في ما ذكر عنه بن عبد الحكم وغيره وذكره في (موطئه) قال إذا وجدت المراة حاملا فقالت تزوجت أو استكرهت لم يقبل ذلك منها الا بالبينة على ما ذكرت الا أن تكون جاءت تستغيث وهي تدمى أو نحو ذلك من فضيحة نفسها فإن لم يكن ذلك أقيم عليها الحد
وقال بن القاسم إذا كانت طارئة غريبة فلا حد عليها
وهو قول عثمان البتي
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لا حد عليها الا ان تقر بالزنى أو يقوم عليها بذلك بينة
ولم يفرقوا بين طارئة وغير طارئة لان الحمل دون اقرار ولا بينة ممكن أن تكون المراة في ما ادعته من النكاح أو الاستكراه صادقة والحدود لا تقام الا باليقين بل تدرا بالشبهات
فان احتج محتج بحديث عمر المذكور وتسويته فيه بين البينة والاقرار والحبل قيل له قد روي عنه خلاف ذلك من رواية الثقات أيضا
وروى شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن ميسرة عن نزال بن صبرة قال إني لمع عمر رضي الله عنه بمنى إذا بامرأة ضخمة حبلى قد كاد الناس ان يقتلوها من الزحام وهي تبكي فقال لها عمر ما يبكيك ان المراة ربما استكرهت فقالت اني امرأة ثقيلة الرأس وكان الله عز وجل يرزقني من الليل ما شاء الله أن يرزقني فصليت ونمت فوالله ما استيقظت الا ورجل قد ركبني ومضى ولا أدري أي خلق الله هو
فقال عمر لو قتلت هذه خفت على من بين الاخشبين النار ثم كتب إلى الامراء
الا لا تعجلوا أحدا الا باذنه
1529 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن أبي واقد
486
الليثي ان عمر بن الخطاب اتاه رجل وهو بالشام فذكر له انه وجد مع امرأته رجلا فبعث عمر بن الخطاب ابا واقد الليثي إلى امرأته يسألها عن ذلك فاتاها وعندها نسوة حولها فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب واخبرها انها لا تؤخذ بقوله وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع (1) فأبت ان تنزع وتمت (2) على الاعتراف فامر بها عمر فرجمت
قال أبو عمر قد تقدم القول في معنى هذا الحديث كله في هذا الباب فلا معنى لإعادته
وقد روى هذا الحديث نافع مولى بن عمر عن سليمان بن يسار ان رجلا جاء إلى عمر وهو بالجابية فقال يا أمير المؤمنين انه وجد عبده على امرأته فقال له عمر انظر ماذا تقول فإنك مأخوذ بما تقول قال نعم فقال عمر لأبي واقد وذكر معنى حديث مالك
ذكره سنيد عن حجاج عن صخر بن جويرية عن نافع
وراه معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد الليثي قال إني لمع عمر بالجابية إذ جاءه رجل فقال عبدي زنى بامراتي وهي هذه تعترف قال أبو واقد فأرسلني عمر إليها في نفر من قومه وذكر تمام الخبر
1530 - مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب انه سمعه يقول لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ (3) بالأبطح ثم كوم (4) كومة (5) بطحاء (6) ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى السماء فقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي (7) فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة (8) الا ان تضلوا بالناس يمينا وشمالا وضرب
487
بإحدى يديه على الأخرى ثم قال إياكم ان تهلكوا عن اية الرجم ان يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فانا قد قراناها
قال مالك قال يحيى بن سعيد قال سعيد بن المسيب فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله
قال يحيى سمعت مالكا يقول قوله الشيخ والشيخة يعني الثيب والثيبة (فارجموهما البتة)
قال أبو عمر هذا حديث صحيح الاسناد يستند منه قوله (رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وقد سمعه سعيد بن المسيب من عمر في قول جماعة من أهل العلم وشهد معه هذه الحجة وسمعه يقول عند رؤيته البيت وعند طوافه كلاما حفظه عنه قد ذكرته في (التمهيد)
وكان علي بن المديني يصحح سماع سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب
وكان بن معين ينكره ويقول كان غلاما في زمان عمر بن الخطاب لأنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر
قال أبو عمر كان سعيد بن المسيب حافظا ذكيا عالما وكانت سنة في حجة عمر هذه ثمانية أعوام ونحوها ومن دون هذا السن يحفظ أكثر من هذا
روى شعبة عن اياس بن معاوية قال قال لي سعيد بن المسيب ممن أنت قلت من مزينة قال إني لاذكر اليوم الذي نعى فيه عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن المزني إلى الناس على المنبر
رواه جماعة من حفاظ أصحاب شعبة عن شعبة
وروى الأصمعي قال حدثني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب عن سعيد بن المسيب قال كنت في الغلمة الذين جروا جعدة العقيلي إلى عمر
وقال الحسن الحلواني حدثني أسباط عن الشيباني عن بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب قال سمعت عمر على المنبر يقول لا أجد أحدا جامع ولم يغتسل انزل أو لم ينزل الا عاقبته
488
قال أبو عمر هذه الآثار أصح من حديث بن لهيعة عن بكير بن الأشج قال قيل لسعيد بن المسيب أدركت عمر بن الخطاب وكان يحيى بن معين ينكر سماعه من عمر وروايته له
وليس الانكار بعلم
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني عبد الصمد قال حدثني شعبة عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب رايت عمر بن الخطاب قال نعم
قال بن وضاح ولد سعيد بن المسيب لسنتين مضتا من خلافة عمر وسمع منه كلامه الذي قال حين نظر إلى الكعبة
اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام
كذلك قال بن كاسب وغير واحد ممن لاقيت
قال أبو عمر ليس في قول عمر رضي الله عنه فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط خلافا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) (1) لان هذا دعاء كان من عمر شفقة على دينه وخوفا من أن تدركه فتنة تصده عن القيام بأمور الناس في دنياهم ودينهم مما ادخل فيه نفسه
وانما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت عند نزول المصائب وحلول البلاء تسخطا للقضاء وقلة رضى وعدم صبر على الايذاء
واما إذا كان ذلك شحا من المرء على دينه وخوفا من أن يفتن لما يرى من عموم الفتن فليس ذلك من معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم
الا ترى إلى قول معاذ بن جبل لما رأى ما رأى وعلم ما علم من اقبال
489
الفتن قال في طاعون عمواس يا طاعون خذني إليك تمنيا للموت فمات في ذلك الطاعون
وما زال الأنبياء والصالحون يخافون الفتنة في الدين على أنفسهم ويتمنون من اجل ذلك الموت على خير ما هم عليه
قال إبراهيم الخليل عليه السلام * (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * [إبراهيم 35]
وقال يوسف عليه السلام * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * [يوسف 101]
قال أبو عمر قد تقدم في هذا الباب من القول في الرجم وثبوته عند أهل العلم في السنة وفي الكتاب المحكم المعمول به عند جماعة منهم بشهادة الآثار الصحاح بذلك ما فيه - والحمد لله - كفاية
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بكر بن حماد قال حدثني مسدد
وحدثني أحمد بن قاسم قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني الحارث بن أبي اسامة قال حدثني إسحاق بن عيسى قالا جميعا حدثني حماد بن زيد - واللفظ لحديث مسدد - وهو أتم عن حديث بن زيد عن يوسف بن مهران عن بن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يخطب أيها الناس ان الرجم حق فلا تخدعن عنه وان اية ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم وان أبا بكر قد رجم وانا قد رجمنا بعدهما وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بالشفاعة ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا (1)
قال أبو عمر الخوارج كلها وكثير من المعتزلة يكذبون بهذا كله - والله اساله التوفيق لما يرضاه من عصمته ورحمته
حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني قاسم بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سفيان بن عيينة قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن بن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إن الله عز وجل
490
بعث محمدا عليه السلام بالحق وانزل عليه الكتاب وكان في ما انزل عليه اية الرجم فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده (1)
قال سفيان قد سمعته من الزهري بطوله وحفظ بعضه وسقط عليه منه ما سمعه من معمر عنه
قال أبو عمر يعني حديث السقيفة سمعه من الزهري بطوله وحفظ بعضه وسقط عليه منه ما سمعه عن معمر عنه
1531 - مالك انه بلغه ان عثمان بن عفان اتي بامرأة قد ولدت في ستة اشهر فامر بها ان ترجم فقال له علي بن أبي طالب ليس ذلك عليها ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " وحمله وفصله ثلاثون شهرا " [الأحقاف 15] وقال " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن اردا ان يتم الرضاعة " [البقرة 233] فالحمل يكون ستة اشهر فلا رجم عليها فبعث عثمان بن عفان في اثرها فوجدها قد رجمت
قال أبو عمر رواه بن أبي ذئب وذكره في (موطئه) عن زيد بن عبد الله بن قسيط عن نعجة الجهيني قال تزوج رجل منا امرأة فولدت لستة اشهر فاتى عثمان فذكر ذلك له فامر برجمها فاتاه علي فقال ان الله تعالى يقول * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] وقال عز وجل * (وفصاله في عامين) * [لقمان 14]
قال أبو عمر يختلف أهل المدينة في رواية هذه القصة
فمنهم من يرويها لعثمان مع علي كما رواها مالك وبن أبي ذئب
ومنهم من يرويها عن عثمان عن بن عباس
واما أهل البصرة فيرونها لعمر بن الخطاب مع علي بن أبي طالب
فاما رواية أهل المدينة فذكرها معمر عن الزهري عن أبي عبيد
مولى عبد الرحمن بن عوف قال رفعت إلى عثمان امرأة ولدت لستة اشهر فقال إنها رفعت إلي امرأة لا أراها الا جاءت بشر ولدت لستة اشهر فقال له بن عباس إذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة اشهر قال وتلا بن عباس * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] فإذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة اشهر
491
وهذا الاسناد لا مدفع فيه من رواية أهل المدينة وقد خالفهم في ذلك ثقات أهل مكة فجعلوا القصة لابن عباس مع عمر
وروى بن جريج قال أخبرني عثمان بن أبي سليمان ان نافع بن جبير اخبره ان بن عباس اخبره قال إني لصاحب المراة التي اتي بها عمر وضعت لستة اشهر فأنكر الناس ذلك قال قلت لعمر لم تظلم قال كيف قال قلت أترى * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] وقال * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) * [البقرة 233] قال كم الحول قال سنة قلت وكم السنة قال اثنا عشر شهرا قال فأربعة وعشرون شهرا حولان كاملان ويؤخر الله عز وجل من الحمل ما شاء ويقدم ما يشاء قال فاستراح عمر إلى قولي (1)
وروي من حديث الكوفيين نحو ما رواه المدنيون في عثمان
ذكر عبد الرزاق (2) عن الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن قائد لابن عباس كنت معه فاتي عثمان بامرأة وضعت لستة اشهر فامر برجمها فقال له بن عباس ان خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم قال الله عز وجل * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] والحمل ستة اشهر والرضاع سنتان قال فدرا عنها الحد
قال أبو عمر هذا خلاف ما ذكره مالك ان عثمان بعث في اثرها فوجدها قد رجمت
وقد صحح عكرمة القصتين لعمر وعثمان أيضا ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم عن عكرمة وذكره غير واحد عن الزهري باسناده عن عكرمة ان عمر اتي بمثل التي اتي بها عثمان فقال فيها على نحو مما قال بن عباس
واما رواية أهل البصرة فذكر عبد الرزاق (3) عن عثمان بن مطر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال رفع إلى عمر
امرأة ولدت لستة اشهر فأراد عمر ان يرجمها فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالب فقالت إن عمر يريد ان يرجم أختي فأنشدك الله ان كنت تعلم لها عذرا لما أخبرتني به فقال لها علي فان لها عذرا فكبرت تكبيرة فسمعها
492
ومن عنده فانطلقت إلى عمر وقالت إن عليا زعم أن لأختي عذرا فأرسل عمر إلى علي ما عذرها فقال ان الله عز وجل يقول * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * [البقرة 233] وقال عز وجل * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * [الأحقاف 15] فحمله ستة اشهر والفصال أربعة وعشرون شهرا قال فخلى عمر سبيلها قال ثم إنها ولدت بعد ذلك لستة اشهر
وروى معمر عن قتادة قال رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة اشهر بمعنى ما تقدم لم يجاوز به قتادة يوما إلى اخره
ومن وصله حجة عليه
قال أبو عمر لا اعلم خلافا بين أهل العلم في ما قاله علي وبن عباس في هذا الباب في أقل الحمل وهو أصل واجماع
وفي الخبر بذلك فضيلة كبيرة وشهادة عادلة لعلي وبن عباس في موضعهما من الفقه في دين الله عز وجل والمعرفة بكتاب الله عز وجل
مالك (1) انه سال بن شهاب عن الذي يعمل عمل قوم لوط فقال بن شهاب عليه الرجم أحصن أو لم يحصن
قال أبو عمر قد اختلف عن بن شهاب في هذه المسالة لاختلاف قوله فيها والرواة لها عنه كلهم ثقات
روى بن أبي ذئب ومعمر عنه في اللوطي انه كالزاني يجلد ان كان بكرا ويرجم ان كان ثيبا محصنا
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني معن بن أبي عيسى عن بن أبي ذئب عن الزهري قال يرجم اللوطي إذا كان محصنا وإذا كان بكرا جلد مائة ويغلظ عليه في الحبس والنفي
قال أبو عمر هذا قول عطاء ومجاهد وقتادة وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن لم يختلف عن واحد من هؤلاء ان اللوطي حده حد الزاني الا إبراهيم النخعي فروي عنه ثلاث روايات
أحدها هذه
والثانية انه يرجم على كل حال قال ولو كان أحد يرجم مرتين رجم هذا
493
والثالثة انه يضرب دون الحد
وهو قول الحكم بن عتيبة ولا اعلم أحدا قاله قبل الحكم بن عتيبة الا الرواية عن إبراهيم
وأصح الروايات فيه عن إبراهيم انه كالزاني
وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد والحسن بن حي وعثمان البتي وأبي ثور وأحمد بن حنبل في احدى الروايتين عنه كل هؤلاء حد اللوطي عندهم حد الزاني يرجم ان كان محصنا وان كان بكرا جلد
وقال مالك وأصحابه يرجم اللوطي ويقتل بالرجم أحصن أو لم يحصن
وهو قول بن عباس
وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان
وروي عن أبي بكر الصديق انه امر باحراق من فعل ذلك
وممن قال بقول مالك في اللوطي يرجم أحصن أو لم يحصن جابر بن زيد أبو الشعثاء وعامر الشعبي
وبه قال الليث بن سعد وإسحاق بن راهويه واحمد في رواية
قال أبو عمر هذا القول أعلى لأنه روي عن الصحابة ولا مخالف له منهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحجة فيما تنازع فيه العلماء
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني وكيع عن بن أبي ليلى عن القاسم بن الوليد عن يزيد بن قيس ان عليا رجم لوطيا
قال وحدثني وكيع قال وحدثني محمد بن قيس عن أبي حصين ان عثمان اشرف على الناس يوم الدار فقال اما علمتم انه لا يحل دم امرئ مسلم الا بأربعة رجل عمل عمل قوم لوط أو ارتد بعد الايمان أو زنى بعد احصان أو قتل نفسا مؤمنة بغير حق
قال وحدثني غسان بن نصر عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة قال سئل بن عباس ما حد اللوطي قال ينظر إلى أعلى بناء في القرية فيرمى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة
قال وحدثني محمد بن بكر قال حدثني بن جريج قال أخبرني بن خيثم عن مجاهد وسعيد بن جبير انهما سمعا بن عباس يقول في الرجل يؤخذ على اللوطية انه يرجم
494
قال أبو عمر اما الآثار المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فأحسنها حديث عكرمة عن بن عباس رواه عن عكرمة داود بن حصين وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ومثله أو نحوه حديث جابر وحديث أبي هريرة
قال حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن اصبغ
قال حدثني إسماعيل بن إسحاق قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال (من وقع على رجل فاقتلوه) يعني عمل عمل قوم لوط
وحدثاني قال حدثني قاسم قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (اقتلوا الفاعل والمفعول به) يعني في اللوطة
وذكره عبد الرزاق قال أخبرنا إبراهيم من محمد قال حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الفاعل والمفعول به) الذي يعمل عمل قوم لوط (1)
وأخبرنا عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن بكر قال حدثني أبو داود قال حدثني النفيلي قال حدثني عبد العزيز بن محمد قال حدثني عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) (2)
قال أبو داود ورواه سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو مثله ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن بن عباس
واما حديث جابر فحدثناه عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني محمد بن ادم قال حدثني المحاربي عن عبد الله بن كثير عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه
495
واما حديث أبي هريرة فرواه عاصم بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال (الذي يعمل عمل قوم لوط ارجموا الاعلى والأسفل ارجموهما جميعا)
قال أبو عمر عاصم بن عمر هذا هو أخو عبيد الله وعبد الله ابني عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف وهو مجهول
وقال أبو حنيفة وداود يعذر اللوطي ولا حد عليه الا الأدب والتعزير الا ان التعذير عند أبي حنيفة أشد الضرب
وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث كفر بعد ايمان أو زنى بعد احصان أو قتل نفس بغير حق) (1)
وهذا حديث قيل في وقت ثم نزل بعده إباحة دم الساعي بالفساد في الأرض وقاطع السبيل وعامل عمل قوم لوط ومن شق عصى المسلمين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما) (2) وجاء النص فيمن عمل عمل قوم لوط (فاقتلوه)
وهذا من نحو قول الله عز وجل " لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه " [الانعام 145]
ثم حرم الله عز وجل بعد ذلك أشياء كثيرة في كتابه أو على لسان نبيه منها ان اللوطي زان واللواط زنى وأقبح من الزنى وبالله التوفيق
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط) (3) ولم يبلغنا انه لعن الزاني بل امر بالستر عليه وأولى الناس ان يقول اللواط كالزنى من أجاز وطء الدبر من الزوجات والإماء وهو عندنا غير جائز - والحمد لله - بموضع الأذى كالحيض من النساء وبالله توفيقنا
496
((2 - باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنى))
1532 - مالك عن زيد بن اسلم ان رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط (1) فأتي بسوط مكسور فقال (فوق هذا) فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته (2) فقال (دون هذا) فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد ثم قال (أيها الناس قد ان لكم ان تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات (3) شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته (4) نقم عليه كتاب الله
قال أبو عمر لم يختلف عن مالك في ارسال هذا الحديث ولا اعلمه يستند بهذا اللفظ من وجه من الوجوه
وقد ذكر بن وهب في (موطئه) عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت عبيد الله بن مقسم يقول سمعت كريبا مولى بن عباس أو حدثت عنه أنه قال اتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف على نفسه بالزنى ولم يكن الرجل أحصن فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطا فوجد رأسه شديدا فرده ثم اخذ سوطا فوجد رأسه لينا فأمر رجلا من القوم فجلده مائة جلدة ثم قام على المنبر فقال (أيها الناس اتقوا الله واستتروا بستر الله)
وقال (انظروا ما كره الله لكم فاجتنبوه)
أو قال (احذروا ما حذركم الله من الاعمال فاجتنبوه انه ما نؤتي به من امرئ)
قال بن وهب معناه نقم عليه كتاب الله
قال أبو عمر هذا معنى حديث قول مالك وإن كان خلاف لفظه وفيه كراهة الاعتراف بالزنى وحب الستر على نفسه والفزع إلى الله عز وجل في التوبة وقد
497
تقدم هذا المعنى في الباب قبل هذا وتقدم كثير من معاني هذا الحديث في ذلك الباب والحمد لله
وفي حديث هذا الباب أيضا ان السلطان إذا أقر عنده المقر بحد من حدود الله عز وجل ثم لم يرجع عنه لزمه إقامة الحد عليه ولم يجز له العفو عنه
وقد ذكرنا في فضل الستر على المسلم وستر المرء على نفسه أحاديث كثيرة في (التمهيد)
منها ما حدثني أحمد بن عمر قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني محمد بن فطيس قال حدثني مالك بن عبد الله بن سيف قال حدثني عمر بن الربيع بن طارق قال أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى بن اياس بن البكير ان صفوان بن سليم حدثه عن انس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (اطلبوا الخير
دهركم كله وتعرضوا نفحات الله عز وجل فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده وسلوه ان يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم)
حدثني عبد الرحمن بن مروان قال حدثني أحمد بن سليمان بن عمرو البغدادي بمصر قال حدثني أبو عمران موسى بن سهيل البصري قال حدثني عبد الواحد بن غياث قال حدثني فضال بن جبير عن أبي امامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث لو حلفت عليهن لبررت والرابعة لو حلفت عليها لرجوت ان لا اثم لا يجعل الله من له سهم في الاسلام كمن لا سهم له ولا يتولى الله عبدا فيوليه إلى غيره ولا يحب قوم عبدا الا بعثه الله فيهم) أو قال معهم (ولا يستر الله على عبد في الدنيا الا ستر عليه عند المعاد)
حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عفان قال حدثني همام قال سمعت إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال حدثني شيبة الحضرمي انه شهد عروة يحدث عمر بن عبد العزيز عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما ستر الله على عبد في الدنيا الا ستر عليه في الآخرة)
أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني أحمد بن سعيد قال حدثني محمد بن محمد الباهلي قال حدثني سليمان بن عمرو وهو الأقطع قال حدثني عيسى بن يونس عن حنظلة السدوسي قال سمعت انس بن مالك يقول كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين حتى يلين ثم يضرب به
قلنا لانس في زمان من كان هذا
498
قال في زمن عمر بن الخطاب
واختلف الفقهاء في الموضع التي يضرب بها الانسان في الحدود
فقال مالك الحدود كلها لا تضرب الا في الظهر
قال وكذلك التعزير لا يضرب الا في الظهر عندنا
وقال الشافعي وأصحابه يتقى الفرج والوجه وتضرب سائر الأعضاء
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل قول الشافعي انه كان يقول اتقوا وجهه والمذاكير
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن تضرب الأعضاء كلها في الحدود الا الفرج والرأس
وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا
قال أبو عمر روى سفيان عن عاصم عن أبي عثمان ان عمر رضي الله عنه اتي برجل في حد فقال للجلاد اضرب ولا نرى ابطك واعط كل عضو حقه
وروي عن عمر وبن عمر انهما قالا لا يضرب الرأس
قال بن عمر لا يؤمر ان يضرب الرأس
واختلفوا في كيفية ضرب الرجال والنساء قياما أو قعودا
فقال مالك الرجل والمراة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما يضربان قاعدين ويجرد الرجل في جميع الحدود ويترك على المراة ما يسترها وينزع عنها ما يقيها من الضرب
وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا يمد ويضرب قائما والمراة قاعدة
وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود الا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه المحشو والبرد والفرو
قال أبو عمر في حديث بن عمر في رجم اليهوديين ما يدل على أن الرجل كان قائما والمراة قاعدة لقوله فيه فرأيت الرجل يحني على المراة يقيها الحجارة
وما جاء عن عمر وعلي في ضرب الأعضاء ما يدل على القيام والله أعلم
ومما يدل على الضرب قائما ما رواه شعبة عن أبي ميمونة قال اتيت
499
المدينة فدخلت المسجد وقيدت بعيري فجاء رجل فجلد فقلت له يا نائك أمه فرفعني إلى أبي هريرة وهو خليفة لمروان فضربني ثمانين قال فركبت بعيري وقلت
(لعمرك انني يوم اضرب قائما
* ثمانين سوطا انني لصبور)
واختلفوا في أشد الحدود ضربا
فقال مالك وأصحابه والليث بن سعد الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح ضرب بين ضربين
وقال أبو حنيفة وأصحابه التعزير أشد الضرب وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر وضرب السارق أشد من ضرب القاذف
وقال الثوري ضرب الزنى أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب
وقال الحسن بن حي ضرب الزنى أشد من ضرب الشرب والقذف
وعن الحسن البصري مثله وزاد وضرب الشرب أشد من التعزير
وقال عطاء بن أبي رباح حد [الزنية] أشد من حد الفرية وحد الفرية والخمر واحد
قال أبو عمر القياس ان يكون الضرب في الحدود كلها واحدا لورود التوقيف فيها على عدد الجلدات ولا يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عما يجب التسليم له فوجبت التسوية في ذلك ومن فرق بين شيء من ذلك احتاج إلى دليل وقد ذكرنا ما نزعت به كل فرقة من الآثار لأقوالهم في كتاب (التمهيد)
قال أبو عمر روى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد قال اتي عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها اضربوها حدها ولا تخرقوا عليها جلدها
وروي عن علي أنه قال لقنبر في العبد الذي أقر عنده بالزنى اضربه كذا وكذا ولا تنهك
وروي عن علي وعمر رضي الله عنهما دليل على أن قول الله عز وجل * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * [النور 2] لم يرد به شدة الضرب والاسراف فيه وانما أراد تعطيل الحدود وان لا تأخذ الحكام رأفة على الزناة فلا يجلدونهم ويعطلوا الحدود
500
وهذا قول جماعة أهل التفسير
وممن قال ذلك الحسن ومجاهد وعطاء وعكرمة وزيد بن اسلم
وروى وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز في قوله عز وجل * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * [النور 2] قال إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان
وروى نافع عن بن عمر الجمحي عن بن أبي مليكة عن عبيد أو عبد الله بن عمر قال ضرب بن عمر جارية له أحدثت فجعل يضرب رجليها قال واحسبه قال ظهرها
قال فقلت * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * [النور 2] قال يا بني واخذتني بهما رأفة ان الله عز وجل لم يأمرني ان اقتلها اما انا فقد أوجعت حين ضربت
1533 - مالك عن نافع ان صفية بنت أبي عبيد أخبرته ان أبا بكر الصديق اتي برجل قد وقع على جارية بكر فاحبلها ثم اعترف على نفسه بالزنى ولم يكن أحصن فامر به أبو بكر فجلد الحد ثم نفي إلى فدك
قال أبو عمر قد تقدم في باب الرجم ان النبي صلى الله عليه وسلم جلد العسيف وغربه عاما وذكرنا هناك حديث نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم (البكر جلد مائة وتغريب عام) وذكرنا هناك أيضا حديث بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وان أبا بكر ضرب وغرب وان عمر ضرب وغرب والتغريب النفي وذكرنا ما للفقهاء من الاختلاف في نفي العبيد والنساء
وخالف أبو حنيفة وأصحابه الآثار المرفوعة وغيرها في هذا الباب فلم يروا على الزاني البكر غير الجلد
والجمهور على تغريب الرجل الحر إذا زنى وأقيم عليه الحد الا ان منهم من يجعل سجنه التغريب والأكثر ينفونه من بلده ويسجنونه بالبلد الذي يغربونه به
وفي اخر هذا الباب قال مالك الذي أدركت عليه أهل العلم انه لا نفي على العبيد إذا زنوا
قال أبو عمر قول مالك ومذهبه انه لا نفي على العبيد ولا على النساء
وقال الأوزاعي ينفى الزناة الرجال كلهم عبيدا أو أحرارا ولا ينفى النساء
501
وقال الثوري والحسن بن حي ينفى الزناة كلهم
واختلف قول الشافعي
فمرة قال ينفى الزناة كلهم إذا جلدوا عبيدا كانوا أو أحرارا ذكرانا كانوا أو إناثا سنة بسنة إلى غير بلادهم
ومرة قال ينفى العبد إلى غير بلده نصف سنة
وبه قال الطبري
ومرة قال استخيروا الله في نفي العبيد
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني هارون قال حدثني محمد بن إسحاق عن نافع عن بن عمر ان أبا بكر رضي الله عنه نفى رجلا وامرأة حولا
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه نفى إلى خيبر وعن عمر انه نفى إلى خيبر وعن علي انه نفى إلى البصرة وعن عثمان انه نفى إلى خيبر
وسئل الشعبي من اين إلى اين النفي قال من عمله إلى عمل غيره
قال مالك (1) في الذي يعترف على نفسه بالزنى ثم يرجع عن ذلك ويقول لم افعل وانما كان ذلك مني على وجه كذا وكذا لشيء يذكره ان ذلك يقبل منه ولا يقام عليه الحد وذلك أن الحد الذي هو لله لا يؤخذ الا بأحد وجهين اما ببينة عادلة تثبت على صاحبها واما باعتراف يقيم عليه حتى يقام عليه الحد فان أقام على اعترافه أقيم عليه الحد
قال أبو عمر اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه انه يقبل رجوع المقر بالزنى وشرب الخمر وكذلك السرقة إذا أقر بها السارق من مال الرجل وحرزه فاكذبه ذلك الرجل ولم يدع السرقة ثم رجع السارق عن اقراره قبل اقراره عند مالك ومن ذكرنا معه
وقال بن أبي ليلى وعثمان البتي لا يقبل رجوعه في الزنى ولا في السرقة ولا في الخمر
وقال الأوزاعي في رجل أقر على نفسه بالزنى اربع مرات وهو محصن ثم ندم وانكر ان يكون اتى ذلك أنه يضرب حد الفرية على نفسه قال وان اعترف
502
بسرقة أو شرب خمر أو قتل ثم انكر عاقبه السلطان دون الحد
قال أبو عمر قال الأوزاعي ضعيف لا يثبت على النظر
واختلف قول مالك في المقر بالزنى أو بشرب الخمر يقام عليه الحد فيرجع تحت الجلد قبل ان يتم الحد فمرة قال إذا أقيم عليه أكثر الحد أتم عليه لان رجوعه ندم منه ومرة قال يقبل رجوعه ابدا ولا يضرب بعد رجوعه ويرفع عنه
وهو قول بن القاسم وجماعة الفقهاء
قال أبو عمر محال ان يقام على أحد حد بغير اقرار ولا بينه ولا فرق في قياس ولا نظر بين رجوعه قبل الحد وفي أوله وفي اخره ودماء المسلمين فإذا هو محرم فلا يستباح منه شيء الا بيقين
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وحديث جابر وحديث نعيم بن هزال
وحديث أبي هريرة ان ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه رجما وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه) (1)
فهي هذا أوضح الدلائل على أن المقر بالحدود يقبل رجوعه إذا رجع لان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هروبه وقوله ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوعا وقال (فهلا تركتموه)
وقد اجمع العلماء على أن الحد إذا وجب بالشهادة وأقيم بعضه ثم رجع الشهود قبل ان يقام الحد أو قبل ان يتم انه لا يقام عليه ولا يتم ما بقي منه بعد رجوع الشهود فكذلك الاقرار والرجوع وبالله التوفيق
((3 - باب جامع ما جاء في حد الزنى))
1534 - مالك عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
503
مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال (ان زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير) (1)
قال بن شهاب لا أدري ابعد الثالثة أو الرابعة
قال مالك والضفير الحبل
هكذا روى مالك هذا الحديث عن بن شهاب بهذا الاسناد وتابعه على اسناده هذا يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد
ورواه عقيل والزبيدي وبن أخي الزهري عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ان شبل بن خالد أو شبيل بن خالد المزني اخبره ان عبد الله بن مالك الأوسي اخبره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت وذكروا الحديث الا ان عقيلا وحده قال مالك بن عبد الله الأوسي وقال الزبيدي وبن أخي الزهري عبد الله بن مالك الأوسي وقال يونس بن يزيد عن الزهري عن عبيد الله عن شبل بن خالد المزني عن عبد الله بن مالك ورواه بن عيينة عن بن شهاب عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل المزني ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت
وقد تقصينا الاختلاف عن بن شهاب في هذا الحديث في (التمهيد) وذكرنا أقوال أئمة أهل الحديث في ذلك هنالك
وزعم الطحاوي انه لم يقل أحد في هذا الحديث (ولم تحصن) سوى مالك وان سائر الرواة عن بن شهاب انما قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما قال عن الأمة (إذا زنت - فقال إذا زنت فاجلدوها) الحديث
وليس كما زعم الطحاوي وقد قاله يحيى بن سعيد في هذا الحديث عن بن شهاب وقالته طائفة من رواة بن عيينة عن بن عيينة عن الزهري في هذا الحديث
وإذا اتفق مالك وبن عيينة ويحيى بن سعيد في هذا الحديث على قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن) وليس من خالفهم عليهم حجة
504
وقد روى هذا الحديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيه ولم تحصن ورواه عن سعيد المقبري الليث بن سعد وأسامة بن سعد وعبيد الله بن عمر وإسماعيل بن أمية وقد ذكرنا الأسانيد عنهم وعن سائر رواة بن شهاب في (التمهيد)
ورواية أيوب بن موسى (فليجلدها الحد) ولا نعلم أحدا ذكر فيها الحد غيره وكلهم يقول ولا يعيرها ولا يثرب عليها
واجمع العلماء على أن الأمة إذا تزوجت فزنت ان عليها نصف ما على الحرة البكر من الجلد لقول الله عز وجل * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * [النساء 25]
والاحصان في الإماء على وجهين عند العلماء منهم من يقول فإذا أحصن أي تزوجن ومنهم من يقول احصان الأمة اسلامها
واختلف القراء في القراءة في هذه الكلمة
فمنهم من قرأ أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد يريدون تزوجن واحصن بالأزواج يعني احصنهن غيرهن يعني الأزواج بالنكاح
وقد قيل أحصن بالاسلام فالزوج محصنها والاسلام محصنها
ومن قرا بفتح الهمزة والصاد أراد تزوجن أو أسلمن على مذهب من قال ذلك
والمعنيان في القراءتين متقاربان متداخلان
وقد ذكرنا في (التمهيد) كل من قرا بالقراءتين من الصحابة والتابعين وسائر القراء في أمصار المسلمين
وكان بن عباس يقول إذا أحصن بالأزواج وكان يقول ليس على الأمة حد حتى تتزوج
وروى عطية بن قيس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء مثله
[وروي عن عمر] ما يشبهه
وروى عمرو بن دينار وعطاء عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عن أبيه انه سال عن عمر بن الخطاب عن الأمة كم حدها
قال القت بفروتها من وراء الدار
قال أبو عبيد لم يذكر بقوله هذا الفروة بعينها لان الفروة جلدة الرأس
505
كذا قال الأصمعي وكيف تلقي جلدة رأسها من وراء الدار ولكن انما أراد بالفروة القناع يقول ليس عليها قناع ولا حجاب لأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها [أهلها إليه] لا تقدر على الامتناع من ذلك وكذلك لا تكاد تمتنع من الفجور فكأنه رأى ان لا حد عليها إذا فجرت بهذا المعنى
قال وقد روي تصديق ذلك في حديث مفسر حدثناه زيد عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال تذاكرنا يوما قول عمر هذا فقال سعد بن حرملة انما ذلك من قول عمر في الرعايا فاما اللواتي قد احصنهن مواليهن فإنهن إذا احدثن حددن
قال أبو عبيد هكذا جاء في هذا الحديث الرعايا واما العربية فرواعي
قال أبو عمر ظاهر حديث عمر هذا ان لا حد على الأمة الا ان تحصن بالتزويج وقد قيل إن معناه ان لا حد على الأمة - كانت ذات زوج أو لم تكن لأنه لا حجاب عليهما ولا قناع وان كانت ذات زوج
وقد روي عن بن عباس ان لا حد على عبد ولا ذمي الا انه قول مجمل يحتمل التأويل
وروي عنه أيضا ان ليس على الأمة حد حتى تحصن رواه بن عيينة عن بن أبي نجيح عن مجاهد عنه
وهو قول طاوس وعطاء
وروي عن بن جريج عن بن طاوس عن أبيه انه كان لا يرى على العبد ولا على الأمة حدا الا ان ينكح الأمة حر فينكحها فيجب عليها شطر الجلد
قال بن جريج قلت لعطاء عبد زنى ولم يحصن قال يجلد غير حد
قال أبو عمر كل من لا يرى على الأمة حدا حتى تنكح يرى أن تؤدب وتجلد دون الحد ان زنت ورووا حديث أبي هريرة وزيد بن خالد على هذا المعنى
وممن قال لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج ما تقدم عن عمر وأبي الدرداء وبن عباس وطاوس وأبي عبيد القاسم بن سلام
واما الذين قالوا احصانها اسلامها فيرون عليها الحد إذا زنت كانت قد تزوجت قبل ذلك أم لا
روي ذلك عن بن مسعود وغيره
506
وروى أهل المدينة عن عمر هذا المعنى
1535 - ومن ذلك حديث مالك في هذا الباب عن يحيى بن سعيد ان سليمان بن يسار اخبره ان عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال امرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد (1) من ولائد الامارة خمسين خمسين في الزنى
ورواه بن جريج وبن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان مثله بمعناه
وروى معمر عن الزهري ان عمر بن الخطاب جلد ولا يرى من الخمسين انكارا في الزنى
وهذا كله واضح في أن الأمة إذا زنت حدت وان لم تكن محصنة بزوج [حر أم] عبد
1536 - وذكر مالك في هذا الباب عن نافع ان عبدا كان يقوم على رقيق الخمس وانه استكره جارية من ذلك الرقيق فوقع بها فجلده عمر بن الخطاب ونفاه ولم يجلد الوليدة لأنه استكرهها
وفي هذا الحديث جلد العبيد إذا زنوا ونفيهم وذلك كله عن عمر خلاف ما روى عنه أهل العراق في الأمة إذا زنت القت فروتها وراء الدار أي لا حد عليها
وروي عن انس انه كان يجلد اماءه إذا زنين تزوجن أو لم يتزوجن
وروي ذلك عن علي وبن مسعود
وبه قال إبراهيم النخعي والحسن البصري
واليه ذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد وعثمان البتي وأبو حنيفة والشافعي وعبيد الله بن الحسن واحمد وإسحاق
وروى معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر في الأمة إذا زنت قال إن كانت ليست ذات زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصنات من العذاب وان كانت ذات زوج يضع امرها إلى السلطان
507
قال أبو عمر اما ظاهر القران فهو شاهد بان الأمة لا حد عليها حتى تحصن بزوج قال الله عز وجل " ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المومنات فمن ما ملكت ايمانكم من فتياتكم المومنات " [النساء 25] [فوصفهن عز وجل بالايمان] ثم قال عز وجل * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * [النساء 25] والاحصان التزويج ها هنا لان ذكر الايمان قد تقدم
ثم جاءت السنة في الأمة إذا زنت ولم تحصن جلدت دون الحد وقيل بل بالحد وتكون زيادة بيان كنكاح المراة على عمتها وعلى خالتها ونحو ذلك مما قد أوضحناه في مواضع من كتابنا والحمد لله كثيرا
قال أبو عمر اختلف العلماء في إقامة السادة الحدود على عبيدهم
فقال مالك يحد المولى عبده وأمته في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عليه الشهود ولا يحده الا بالشهود ولا يقطعه في السرقة وانما يقطعه الامام
وهو قول الليث
واختلف أصحاب مالك في ذلك على ما ذكرنا عنهم في كتاب اختلافهم
وقال أبو حنيفة يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى وفي سائر الحدود
وهو قول الحسن بن حي
وقال الثوري في رواية الأشجعي عنه يحده المولى في الزنى وفي سائر الحدود
وهو قول الأوزاعي
وقال الشافعي يحده المولى في كل حد
وهو قول احمد وإسحاق وأبي ثور
واحتج الشافعي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم) (2)
وروي عن جماعة من الصحابة انهم أقاموا الحدود على ما ملكت ايمانهم منهم بن عمر وبن مسعود وانس ولا مخالف لهم من الصحابة
508
وروي عن أبي ليلى أنه قال أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم
وروى الثوري عن عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم)
وحجة أبي حنيفة ما روي عن الحسن وعبد الله بن محيريز ومسلم بن يسار وعمر بن عبد العزيز وغيرهم انهم قالوا الجمعة والزكاة والحدود والفيء والحكم إلى السلطان
واما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث
هذا الباب (ثم بيعوها ولو بضفير) فهذا على وجه الاختيار والحض على مساعدة الزانية لما في ذلك من الاطلاع وبما على المنكر وانه كالرضا به
وقد قالت أم سلمة في حديثها يا رسول الله انهلك وفينا الصالحون قال (نعم إذا كثر الخبث) (1)
والخبث في هذا الحديث عند أهل العلم أولاد الزنى وان كانت اللفظة محتملة لذلك ولغيره
وقد احتج بهذا الحديث من لم ير نفي العبيد لأنه ذكر فيه الجلد ولم يذكر نفيا
وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها إذا زنت بعد جلدها الرابعة منهم داود وغيره والله أعلم
((4 - باب ما جاء في المغتصبة))
1537 - قال مالك الامر عندنا في المراة توجد حاملا ولا زوج لها فتقول قد استكرهت أو تقول تزوجت ان ذلك لا يقبل منها وانها يقام عليها الحد الا ان يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة أو على أنها استكرهت أو جاءت تدمى (2) ان كانت بكرا أو استغاثت حتى اتيت (3) وهي على ذلك الحال أو ما
509
أشبه هذا من الامر الذي تبلغ فيه فضيحة نفسها قال فإن لم تأت بشيء من هذا أقيم عليها الحد ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك
قال أبو عمر قد مضى القول في هذا الباب في باب الرجم عند [قول] عمر بن الخطاب الرجم في كتاب الله حق على من زنت من الرجال والنساء إذا أحصن [إذا قامت البينة] أو كان الحبل والاعتراف فجعل وجود الحبل كالبينة أو الاعتراف فلا وجه لإعادة ما قد مضى الا ان نذكر طرفا هنا ونقول انه قد روي عن عمر خلاف ما رواه مالك عنه وان كان اسناد حديث مالك أعلى ولكنه محتمل للتأويل
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال قد بلغ عمر ان امرأة متعبدة حملت فقال عمر أتراها قامت من الليل تصلي فخشعت فسجدت فاتاه غاو من الغواة فتجشمها فحدثته بذلك سواء فخلى سبيلها
وعن بن عيينة عن عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه ان ابا موسى كتب إلى عمر في امرأة اتاها رجل وهي نائمة فقالت إن رجلا اتاني وانا نائمة فوالله ما علمت حتى قذف في مثل شهاب النار
فكتب عمر تهامية تنومت قد كان يكون مثل هذا وامر ان يدرا عنها الحد
وروي عن عمر أيضا انه اتي بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكي فقالوا زنت فقال عمر ما يبكيك فان المراة ربما استكرهت على نفسها يلقنها ذلك فأخبرت ان رجلا ركبها نائمة فقال لو قتلت هذه لخشيت ان يدخل ما بين هذين الاخشبين النار وخلى سبيلها
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لشراحة حين أقرت بالزنى لعلك غصبت على نفسك فقالت بل اتيت طائعة غير مكرهة
واختلف الفقهاء في الرجل والمراة يوجدان في بيت فيقران بالوطء ويدعيان الزوجية
فقال مالك ان لم يقيما البينة بما ادعيا من الزوجية بعد اقرارهما بالوطء أو بعد ان شهدا عليهما به أقيم عليهما الحد
قال بن القاسم الا ان يكونا طارئين
وقال عثمان البتي ان كان يرى قبل ذلك يدخل إليها ويذكرها أو كانا
510
طارئين لا يعرفان قبل ذلك فلا حد عليهما وان كان لم يأتيا شيئا من ذلك فهما زانيان ما اجتمعا وعليهما الحد
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا وجد رجل وامرأة واقرا بالوطء وادعيا انهما زوجان لم يحدا ويخلى بينه وبينها
وهو قول الشافعي
قال أبو عمر لا خلاف [عليه علمته] بين علماء السلف والخلف ان المكرهة على الزنى لا حد عليها إذا صح اكراهها واغتصابها نفسها
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تجاوز الله عن أمتي الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه) (1)
والأصل المجتمع عليه ان الدماء الممنوع منها بالكتاب والسنة لا ينبغي ان يراق شيئا منها ولا يستباح الا بيقين
واليقين الشهادة القاطعة أو الاقرار الذي يقيم عليه صاحبه فإن لم يكن ذلك فلان يخطئ الامام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة فإذا صحت التهمة فلا حرج عليه في تعزيز المتهم وتأديبه بالسجن وغيره وبالله التوفيق
وقد مضى القول في صداق المغتصبة ولا تنكح حتى تستبرئ نفسها بثلاث حيض فان ارتابت من حيضتها فلا تنكح حتى تستبرئ نفسها من تلك الريبة
قال أبو عمر قد تقدم في كتاب النكاح هذا المعنى وما فيه للعلماء ونعيده مختصرا هنا لإعادة مالك له في هذا الباب
وقال مالك إذا زنى الرجل بالمراة ثم أراد نكاحها فذلك جائز له بعد ان يستبرئها عن مائة الفاسد
قال وان عقد النكاح قبل ان يستبرئها فهو كالناكح في العدة ولا يحل له ابدا ان كان وطؤه في ذلك
قال مالك وإذا تزوج امرأة حرة فدخل بها فجاءت بولد بعد شهر انه لا ينكحها ابدا لأنه وطأها في عدة
وقال الشافعي يجوز نكاح الزانية وان كانت حبلى من زنى ولا يطؤها حتى يستبرئها وأحب إلي ان لا يعقد عليها حتى تضع
511
وقال زفر إذا زنت المرأة فعليه العدة وان تزوجت قبل انقضاء العدة لم يجز النكاح
وقال أبو حنيفة في رجل رأى امرأة تزني ثم تزوجها فله أن يطأها قبل أن يستبرئها كما لو رأى امرأته تزني لم يحرم عليه وطؤها عنده
وقال محمد بن الحسن لا أحب له ان يطأها حتى يستبرئها وان تزوج امرأة وبها حمل من زنى جاز النكاح [ولا يطؤها حتى تضع] ولم يفرق بين الزاني وغيره
وقال عثمان البتي لا باس بتزويج الزانية الزاني وغيره وأحب إلي ان لا يقربها وفيها ماء خبيث وقال أبو يوسف النكاح فاسد إذا كان الحمل من زنى
وهو قول الثوري [وزاد الثوري وكان الحمل منه
وقد روي عن أبي يوسف] كقول أبي حنيفة
وقال الأوزاعي لا يتزوج الزاني الزانية الا بعد حيضة وأحب إلي ان تحيض ثلاثا
قال أبو عمر اما حجة مالك فإنه قاس استبراء الرحم من الزنى بثلاث حيض في الحرة على حكم النكاح الفاسد المفسوخ لان حكم النكاح الفاسد عند الجميع كالنكاح الصحيح في العدة فكذلك الزنى لأنه لا يستبرئ رحم غيره في حرة بأقل من ثلاث حيض قياسا على العدة
وحجة الشافعي وأبي حنيفة ان العدة في الأصول لا تجب الا بأسباب تقدمتها بنكاح ثم طلاق أو موت فلم يكن قبل الزنى بسبب تجب العدة بزواله وكذلك لم يجب عندهم فيه عدة والقياس عندهم في الحمل مثله في استبراء الرحم
وقد احتج الشافعي بالحديث عن عمر انه حد (غلاما) وجارية فجرا ثم حرج على أن يجمع بينهما فأبى الغلام قال فلم يكن عنده ان عليها عدة من زنى ولا مخالف له من الصحابة
قال ولا وجه لمن جعل ماء الزاني كماء المطلق فقاسه عليه وأباح للزاني نكاحا دون عدة لأن العدة فيها حق للزوج وعبادة عليه لقوله عز وجل * (وأحصوا العدة) * [الطلاق 1] ولقوله * (فما لكم عليهن من عدة) * [الأحزاب 49]
والعدة من الزنى لو وجبت لم يكن للزاني فيها حق وهو من سائر الناس
512
لأنه لا فراش له ولا ولد يلحق به فلما لم يمنع الزاني من نكاحها لم يمنع غيره
((5 - باب الحد في القذف والنفي والتعريض))
1538 - مالك عن أبي الزناد أنه قال جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية (1) ثمانين
قال أبو الزناد فسالت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك فقال أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا فما رايت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين
قال أبو عمر روى سفيان الثوري عن عبد الله بن ذكوان عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان لا يجلدون العبد في القذف الا أربعين ثم رايتهم يزيدون على ذلك
قال أبو عمر قوله ثم رايتهم
يعني الامراء بالمدينة ليس الخلفاء الثلاثة الذين ذكرهم
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه كان يجلد العبد في الفرية أربعين من كتاب بن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهما
واختلف أهل العلم في العبد يقذف الحر كم يضرب
فقال أكثر العلماء حد العبد في القذف أربعون جلدة سواء قذف حرا أو عبدا روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبن عباس
وروى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه ان عليا قال يجلد العبد في الفرية أربعين
وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والشعبي والنخعي وطاوس والحكم وحماد وقتادة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله
واليه ذهب مالك والليث وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وأحمد بن حنبل وإسحاق
513
وحجتهم القياس للعبيد على الإماء لقول الله عز وجل في الإماء * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * [النساء 25]
وروى عن بن مسعود أنه قال في عبد قذف حرا يجلد ثمانين
وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد عمرو بن حزم وقبيصة بن ذؤيب وبن شهاب الزهري والقاسم بن محمد
واليه ذهب الأوزاعي وأبو ثور وداود
حدثني خلف بن قاسم قال حدثني محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثني أحمد بن شعيب قال أخبرنا أحمد بن مسعدة قال أخبرنا سليم بن اخضر عن بن عون وعوف ان عمر بن عبد العزيز كتب في المملوك يقذف الحر قال يجلد ثمانين
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو اسامة قال حدثني جرير بن حازم قال قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة اما بعد فإنك كتبت إلي [تسال] عن العبد يقذف الحر كم يجلد وذكرت انه بلغك اني كنت اجلده إذا زنى بالمدينة أربعين جلدة ثم جلدته في اخر عملي ثمانين جلدة فان جلدي الأول كان رأيا رايته وان جلدي الاخر وافق كتاب الله تعالى فاجلده ثمانين
قال حدثني بن مهدي عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر قال ضرب عمر بن عبد العزيز العبد في القذف ثمانين
قال أبو عمر ظن داود وأهل الظاهر أن عمر بن عبد العزيز ومن قال بقوله انما جلد العبد في القذف ثمانين فرارا عن قياس العبيد على الإماء وليس كذلك بل المعنى الذي ذهبوا إليه [نفس] القياس لان الله عز وجل امر في كل من قذف محصنة ان يجلد ثمانين جلدة الا ان يأتي بأربعة شهداء
والمحصنات لا يدخل فيهن المحصنون الا بالقياس [وقد اجمع علماء المسلمون] ان المحصنين [في ذلك كلهم] حكمهم في ذلك حكم المحصنات قياسا وان من قذف حرا عفيفا مسلما كمن قذف حرة عفيفة مسلمة
هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من علماء هذه الأمة فمن رأى الحد حقا يجب للمقذوف سواء كان قاذفه حرا أو عبدا قال حد القاذف للحر المسلم البالغ ثمانون جلدة حرا كان أو عبدا لان الله تعالى لم يخص قاذفا حرا من قاذف عبد
514
إذا كان المقذوف حرا مسلما فليس ها هنا نفي قياس لمن أنعم النظر وسلم من الغفلة و [من] قال الحد انما يراعى فيه القاذف فإن كان عبدا حد حد العبيد كما يضرب في الزنى نصف حد الحر انما يراعى فيه القاذف وهذا تصريح بالقياس وهو قول الخلفاء الراشدين وجمهور علماء المسلمين وبالله التوفيق
1539 - مالك عن زريق بن حكيم الأيلي ان رجلا يقال له مصباح استعان ابنا له فكأنه استبطاه فلما جاءه قال له يا زان قال زريق فاستعداني عليه (1) فلما أردت ان اجلده قال ابنه والله لئن جلدته لابوان (2) على نفسي بالزنى فلما قال ذلك أشكل علي امره فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز وهو الوالي يومئذ اذكر له ذلك فكتب إلي عمر ان اجز (3) عفوه
قال زريق وكتبت إلى عمر بن عبد العزيز أيضا أرأيت رجلا افتري عليه أو على أبويه وقد هلكا أو أحدهما قال فكتب إلي عمر ان عفا فاجز عفوه في نفسه وان افتري على أبويه وقد هلكا أو أحدهما فخذ له بكتاب الله الا ان يريد سترا
قال مالك وذلك أن يكون الرجل المفترى عليه يخاف ان كشف ذلك منه ان تقوم عليه بينة فإذا كان على ما وصفت فعفا جاز عفوه
قال أبو عمر اختلف [الفقهاء] في حد القذف هل هو لله عز وجل كالزنى لا يجوز عفو أو هو حق من حقوق الآدميين كالقتل يجوز فيه العفو
واختلف قول مالك في ذلك أيضا فمرة قال العفو عن حد القذف جائز بلغ الامام أو لم يبلغ
وهو قول الشافعي وأبي يوسف
[ومرة قال لا يجوز فيه العفو إذا بلغ الامام]
ومرة قال لا يجوز فيه العفو الا ان يريد صاحبه سترا على نفسه
وهذا نحو القول الأول الذي أجاز فيه العفو عن القاذف
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية محمد عنه لا يصح العفو عن حد القذف بلغ الامام أو لم يبلغ
515
وهو قول الثوري والأوزاعي
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف ان عفوه يصح كقول الشافعي
وقال أبو جعفر الطحاوي لما كان حد القذف يسقط بتصديق القذف للقاذف دل انه حق للادمي لا حق لله
قال أبو عمر العفو في حقوق الآدميين إذا عفوا جائز باجماع
1540 - مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل قذف قوما جماعة انه ليس عليه الا حد واحد
قال مالك وان تفرقوا فليس عليه الا حد واحد
قال أبو عمر] روى معمر عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا جاؤوا جميعا فحد واحد وان جاؤوا متفرقين اخذ لكل انسان بحده
ذكر أبو بكر قال حدثني أبو اسامة [عن هشام بن عروة] عن أبيه في الذي يقذف القوم جميعا [قال إن كان في كلام واحد فحد واحد وان فرق فلكل واحد منهم حد والسارق مثل ذلك]
قال عبد الرزاق عن بن جريج عن هشام عن أبيه مثله إلى اخره
قال أبو عمر في هذه المسالة للعلماء أقوال
أحدها انه ليس على قاذف الجماعة الا حد واحد تفرقوا أو اجتمعوا وهو قول مالك وطاوس وعطاء والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي في رواية حماد وهو قول الثوري واحمد وإسحاق
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن سليمان الشيباني وجابر وفراس كلهم عن الشعبي في الرجل يقذف القوم جميعا قال إذا فرق ضرب لكل انسان منهم وان جمعهم فحد واحد
قال الثوري وقال حماد حد واحد جمع أو فرق
وعن معمر عن الزهري قال إن قذفهم جميعا فحد واحد مجتمعين كانوا أو مفترقين والاخر ان قذفهم شتى فلكل واحد منهم حد وان قذفهم جميعا فحد واحد
والثالث ان لكل واحد منهم حدا] سواء كان القذف واحد أو قذف كل واحد منهم منفردا
516
واتفق مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد انه إذا قذفهم بقول واحد أو افرد كل واحد منهم فليس عليه الا حد واحد ما لم يحد ثم يقذف بعد الحد
وقال بن أبي ليلى إذا قال لهم يا زناة فعليه حد واحد وان قال لكل واحد منهم يا زان فلكل واحد منهم حد
وهو قول الشعبي في رواية وقول احمد أيضا
وقال عثمان البتي إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد منهم حد فان قال لرجل زنيت بفلانه فعليه حد واحد لان ابا بكرة وأصحابه ضربهم عمر حدا واحدا ولم يحدهم للمراة
قال أبو عمر تناقض البتي في هذه المسالة وليس ما احتج به من فعل عمر [حجة لان المراة لم تطلب حدها عند عمر وانما الحد لمن طلبه وقام فيه وهذا أيضا من فعل عمر يدل على أن حد القذف من حقوق الآدميين لا يقوم به السلطان الا ان يطلب المقذوف ذلك عنده
وقال الحسن بن حي إذا قال من دخل هذه الدار فهو زان ضرب لكل من دخلها الحد إذا [طلب] ذلك
وقال الشافعي فيما ذكر عنه المزني إذا قذف جماعة بكلمة واحدة فلكل واحد منهم حد وان قال يا بن الزانيين فعليه حدان
وقال في احكام القران إذا قذف [امرأته] برجل لاعن ولم يحد الرجل
وفي البويطي عنه مثل قول مالك
قال أبو عمر الحجة لمالك ومن قال بقوله حديث انس وغيره ان هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلاعن بينهما ولم يحد لشريك (1) ولا يختلفون ان من قذف [امرأته] برجل فلاعن لم يحد الرجل
ومن حجة من قال على قاذف الجماعة لكل واحد منهم حد اجماعهم على أنه لو عفا أحد المقذوفين كان لمن جمعه القذف معه ان يقوم - ان شاء - بحده ولو
517
كانوا عشرة أو أكثر فعفا التسعة كان للباقي القيام في حده وحد القاذف له ولو كان حدا واحدا لسقط يعفو من عفا كما يسقط الدماء
ولهم في هذا من القول والاعتلال ما يطول ذكره وليس كتابنا هذا بموضع له
1541 - مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري ثم من بني النجار عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن ان رجلين استبا [في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما للاخر والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى ان تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين
قال مالك لا حد عندنا الا في نفي أو قذف أو تعريض يرى أن قائله انما أراد بذلك نفيا أو قذفا فعلى من قال ذلك الحد تاما
قال أبو عمر اختلف العلماء في التعريض بالقذف هل يوجب الحد أم لا
يروى عن عمر من وجوه انه حد في التعريض
وروى معمر عن الزهري عن سالم عن بن عمر أن عمر كان يحد في التعريضي بالفاحشة
وبن جريج قال أخبرني بن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر بن الخطاب انه حد في التعريض
وقال بن جريج الذي حده عمر في التعريض عكرمة بن عامر بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار عندما هجا وهب بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد تعرض له في هجائه سمعت بن أبي مليكة يحدث بذلك
وكان عثمان يرى الحد في التعريض
ذكر أبو بكر [قال حدثني] معاذ عن عوف عن أبي رجاء ان عمر وعثمان كانا يعاقبان في الهجاء
قال وحدثني عبد الأعلى عن خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة ان عثمان جلد الحد في التعريض
وكان عمر بن عبد العزيز يحد في التعريض
وذكر الأوزاعي عن الزهري انه كان يحد في التعريض
518
[وهو قول الأوزاعي
وعن سعيد بن المسيب روايتان
إحداهما انه أفتى بضرب الحد في التعريض]
والثانية أنه قال لا حد الا على من نصب الحد نصبا
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وبن أبي ليلى والحسن بن حي لا حد في التعريض في القذف ولا يجب الحد الا في التصريح بالقذف البين
الا ان أبا حنيفة والشافعي يقولان [يعزر] المعرض للقذف ويؤدب لأنه اذى ويزجر عن ذلك
وقال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة ان الخلاف في ذلك بين الصحابة لان عمر [حد] في حديث مالك [وغيره] ولم يشاور في قول الرجل ما [أبي] بزان ولا أمي بزانية الا من [إذا] خالف قبل خلافه من الصحابة لا من غيرهم
قال أبو عمر قد روي أن عمر خالف في ذلك غيره من الصحابة الذين شاورهم في ذلك
ذكر أبو بكر قال حدثني [عبد الله] بن إدريس عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن أمه عمرة [قالت] استب رجلان فقال أحدهما ما أبي بزان ولا أمي بزانية فشاور عمر القوم فقالوا مدح أباه وأمه فقال عمر لقد كان لهما من المدح غير هذا فضربه
وممن قال إن لا حد في التعريض عبد الله بن مسعود والقاسم بن محمد والشعبي وطاوس والحسن وحماد بن أبي سليمان
وروى بن عتيبة والثوري عن يحيى بن سعيد عن قاسم بن محمد [قال ما كنا نرى الحد الا في القذف البين أو في النفي البين
وذكر أبو بكر قال حدثني عبدة عن محمد] بن إسحاق عن القاسم مثله
قال وحدثني بن المبارك وعبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم عن سعيد بن المسيب قال لا حد الا على من نصب الحد نصبا
قال حدثني غندر عن عوف عن الحسن أنه قال لا يجلد الا من صرح بالقذف
قال وأخبرنا هشيم عن منصور عن الحسن قال ليس عليه حد حتى يقول يا زان أو يا بن الزانية
519
قال مالك (1) الامر عندنا انه إذا نفى رجل رجلا من أبيه فان عليه الحد وان كانت أم الذي نفي مملوكة فان عليه الحد
قال أبو عمر لا خلاف بين السلف والخلف من العلماء فيمن نفى رجلا عن أبيه وكانت أمه حرة مسلمة عفيفة ان عليه الحد ثمانين جلدة ان كان حرا واختلفوا إذا كانت أمة أو ذمية
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني شريك عن جابر عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال [قال عبد الله لا حد الا على رجلين رجل قذف محصنة أو نفى رجلا عن أبيه] وان كانت أمه أمة
قال وحدثني عبد الأعلى عن معمر عن الزهري قال إذا نفى الرجل عن أبيه فان عليه الحد وان كانت أمه مملوكة
قال وحدثني بن مهدي عن سفيان عن سعيد الزبيدي عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقول للرجل لست لأبيك وأمه أمة أو يهودية أو نصرانية قال لا يجلد
قال وحدثني وكيع عن سفيان عن شيخ من الأزد ان بن هبيرة سال عن الرجل ينفي الرجل عن أبيه وأمه أمة الحسن والشعبي فقالا يضرب الحد
قال أبو عمر الذي يدل عليه مذهب الشافعي وأبي حنيفة ان لا حد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كانت أمه أمة أو ذمية لأنه قاذف لامه ولو صرح بقذفها لم يمن عليه حد
وذكر المزني عن الشافعي قال [وان قال] يا بن الزانيين وكان أبواه حرين مسلمين فعليه حدان
قال ولا حد الا على من قذف حرا بالغا مسلما أو حرة بالغة مسلمة
ولم يختلفوا ان قذف مملوكة [مسلمة] أو كافرة انه لا حد عليه للقذف وان كان منهم من يرى التعزير للأذى ومنهم من يرى في ذلك الأدب
((6 - باب ما لا حد فيه))
1542 - قال مالك ان أحسن ما سمع في الأمة يقع بها الرجل وله فيها
520
شرك انه لا يقام عليه الحد وانه يلحق به الولد وتقوم عليه الجارية حين حملت فيعطى شركاؤه حصصهم من الثمن وتكون الجارية له وعلى هذا الامر عندنا
قال أبو عمر هذا واضح لأنه قد سمع الخلاف في هذه المسالة واختار منه ما ذهب إليه وذكره في (موطئه) وله من السلف في ذلك عبد الله بن عمر وشريح وإبراهيم وغيرهم ولم يفرق بن عمر بين علم الواطىء بتحريمها عليه وبين جهله ولم ير عليه حدا وجعله خائنا
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه
والقياس أحد قولي الشافعي لأنه قال في رجل له أمة وهي أخته في الرضاعة وطأها عالما بالتحريم فيها قولان
أحدهما عليه الحد
والثاني لا حد عليه لشبهة الملك التي [لا شبهة] له فيها
واما حديث بن عمر فذكره أبو بكر قال حدثني [وكيع عن] إسماعيل بن أبي خالد عن عمير بن نمير قالا سئل بن عمر عن جارية كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما فقال ليس عليه حد هو خائن تقوم عليه [قيمتها] ويأخذها
قال وحدثني يحيى بن سعيد عن سعيد عن مغيرة عن إبراهيم في جارية كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما فحملت قال تقوم عليه
قال وحدثني حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن حسن بن صالح عن ليث عن طاوس في الجارية تكون بين الرجلين فيطؤها أحدهما قال عليه العقر بالحصة
قال أبو عمر من درا عنه الحد الحق به الولد والزمه نصيب شريكه أو شركائه من صداق مثلها ولم يقومها عليه ومن قومها عليه لم يلزمه شيئا من الصداق
وكان الحسن يقول يعزر ويقوم عليه ذكره أبو بكر عن يزيد عن هشام عن الحسن
قال وحدثني كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال [بلغنا] ان عمر بن عبد العزيز اتي بجارية كانت بين رجلين فوطئها أحدهما فحملت فاستشار في ذلك سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير فقالوا نرى ان يجلد دون الحد ويقومونها قيمة ويدفع إلى شريكه نصف القيمة
521
وقد روي عن سعيد بن المسيب في هذه المسالة قول اخر انه يجلد الحد الا سوطا واحدا
رواه معمر عن يحيى بن كثير قال سئل سعيد بن المسيب ورجلان معه من فقهاء المدينة عن رجل وطئ جارية له فيها شرك فقالوا عليه الحد الا سوطا واحدا
وذكر أبو بكر قال حدثني حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب في جارية كانت بين رجلين فوقع عليها أحدهما قال يضرب تسعة وتسعين سوطا
وقد جاء عن سعيد بن المسيب في ذلك أيضا رواية ثالثة ذكرها عبد الرزاق عن بن جريج قال أخبرني داود بن أبي العاصم عن سعيد بن المسيب في رجلين بينهما جارية وطأها معا قال يجلد كل واحد منهما شطر العذاب وانما درا عنهما الرجم نصيب كل واحد منهما وان ولدت دعي الولد القافة
وعن معمر عن الزهري في رجل وطئ جارية وله شرك قال يجلد مائة أحصن أو لم يحصن وتقوم عليه هي وولدها ثم يغرم لصاحبه الثمن قال معمر واما بن شبرمة وغيره من فقهاء الكوفة فيقولون تقوم عليه [هي وولدها ثم يغرم لصاحبه الثمن قال معمر] ولا يقوم عليه ولدها
قال أبو عمر من قومها عليه يوم الوطء لم يقوم ولدها ومن قومها بعد الوضع قوم ولدها معها ويغرم لشريكه نصف قيمتها ونصف قيمة ولدها ان كانت بينهما نصفين
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني داود بن الجراح عن الأوزاعي عن مكحول في جارية بين ثلاثة وقع عليها أحدهم قال عليه أدنى الحدين مائة وعليه ثلثا ثمنها وثلثا عقرها وثلثا قيمة الولد ان كان
وذكر عبد الرزاق عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الجارية تكون بين الرجلين فتلد من أحدهما قال يدرا عنه [الحد بجهالته ويضمن لصاحبه نصيبه ونصف ثمن ولده
قال وان كانت بين أخوين فوقع عليها أحدهما فولدت قال يدرا عنه] الحد ويضمن لأخيه قيمة نصيبه من الجارية وليس عليه قيمة في ولدها لأنه يعتق حين ملكه
522
قال أبو عمر هذا على ما ذكرنا في كتاب العتق من مذهب الكوفيين في أنه يعتق على انسان كل ما ملكه من ذي رحم [محرم منه]
قال عبد الرزاق وقال لنا سفيان الثوري اما نحن فنقول في هذه لا جلد ولا رجم ولكن تعزير
ومذهب الأوزاعي فيها كمذهب الزهري ومكحول يضرب أدنى الحدين أحصن أو لم يحصن
وقال أبو ثور عليه الحد كاملا لأنه وطئ فرجا محرما عليه إذا كان بالتحريم عالما
قال أبو عمر ليس كل من وطئ فرجا محرما عليه وطؤه يلزمه الحد لاجماعهم ان لا حد على من وطئ صائمة أو معتكفة أو محرمة أو حائضا وهي له زوجة أو أمة
والذي عليه جمهور الفقهاء ان شبهة الملك شبهة يسقط من اجلها الحد
وأحسن ما فيه عندي انه يلزم الواطىء نصف صداق مثلها ان كان له نصفها ونصف قيمتها ويدرا عنه الحد وبالله التوفيق
واما الرجل الغازي يطأ جارية من المغنم وله في المغنم نصيب فاختلف الفقهاء في هذا على غير اختلافهم في الجارية تكون بين الرجلين فيطؤها أحدهما أو كلاهما فاختلف في ذلك قول مالك وأصحابه وسائر أهل العلم منهم من رأى الحد عليه ومنهم من لم ير عليه حدا لان له فيها نصيبا
الذي رأى عليه الحد قال ليس عليه نصيب معلوم ولا حصة متعينة ولا ينفذ له في نصيبه عتق فكأنه لا نصيب له فيها حتى يبرزه له السلطان
ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن نافع ان غلاما لعمر بن الخطاب وقع على وليدة من الخمس فاستكرهها فأصابها وهو أمير على ذلك الرقيق فجلده عمر الحد ونفاه وترك الجارية ولم يجلدها من اجل انه استكرهها
قال أبو عمر ذكر هذا الخبر عبد الرزاق في باب الرجل يصيب جارية من المغنم وهذا قد يمكن ان يكون الغلام عبدا لا حق له في الفيء وانما فائدة هذا الخبر جلد العبد ونفيه وان المستكرهة لا شيء عليها
وقد مضى ذلك كله في موضعه من كتابنا هذا والحمد لله كثيرا
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج قال أخبرنا إسماعيل بن خالد ان رجلا
523
عجل فأصاب وليدة من الخمس وقال ظننت انها تحل لي فقال علي رضي الله عنه ان له فيها حقا فلم يجلده من اجل الذي له فيها
وذكر أبو بكر قال حدثني وكيع عن موسى بن عبيدة عن بكر بن داود ان عليا أقام على رجل وقع على جارية من الخمس الحد
قال أبو عمر كلا الخبرين عن علي منقطع لا حجة فيه ولا يقطع به على علي عليه السلام
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب في رجل وقع على جارية من المغنم قبل ان يقسم قال يجلد مائة الا سوطا أحصن أو لم يحصن
وذكر أبو بكر قال حدثني يزيد بن هارون [عن هشام] عن الحسن قال إذا كان له في الفيء شيء عذر ويقوم عليه وكذلك في جارية بينه وبين رجل
قال وحدثني هشيم عن إسماعيل بن سالم عن الحكم أنه قال في رجل وطئ جارية من الفيء قال ليس عليه حد له فيها نصيب
وقد روي عن سعيد [في ذلك خلاف ما تقدم
ذكر أبو بكر قال حدثني عبدة عن سعيد عن قتادة عن سعيد] بن المسيب قال ليس عليه حد إذا كان له فيها نصيب
قال أبو عمر هذا أولى لان الدماء محذورة الا بيقين ولان يخطئ الامام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة وبالله التوفيق
قال مالك (1) في الرجل يحل للرجل جاريته انه ان أصابها الذي أحلت له قومت عليه يوم أصابها حملت أو لم تحمل ودرىء عنه الحد بذلك فان حملت الحق به الولد
قال أبو عمر في هذا أيضا أقوال
أحدها هذا
والاخر انها لا تقوم عليه ان لم تحمل ويعزران معا الا ان يكونا جاهلين
والثالث ان الرقبة تبع للفرج فإذا أحل له وطؤها فهي هبة مقبوضة فان ادعى [انه] لم يرد ذلك حلف وقومت على الواطئ حملت أو لم تحمل ليكون وطؤها في شبهة يلحق بها الولد
524
وقد قيل إنه إذا أحل له وطؤها فقد وهبها له إذا كان ممن يقرا * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * [المؤمنون 7 - 5] * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) * [الطلاق 1]
والرابع [انه زان ان علم] انه لا يحل له وطء فرج لم يملك رقبته وعليه الحد وان جهل وظن أن من يملك يجوز له التصرف في ما شاء منها درىء عنه الحد
قال مالك (1) في الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته انه يدرا عنه الحد وتقام عليه الجارية حملت أو لم تحمل
قال أبو عمر على هذا جمهور العلماء انه لا حد على من وطئ أمة من ولده وأظن ذلك والله أعلم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل خاطبة (أنت ومالك لأبيك) (2) وقال صلى الله عليه وسلم (لا يقاد بالولد الوالد) (3)
واجمع الجمهور انه لا يقطع في ما سرق من مال ولده
فهذه كلها شبهات يدرا بها عنها الحد
واما تقويمها عليه فلان وطأه لها [يحرمها على ابنه] فكأنه استكرهها
وليس له من ماله الا القوت عند الفقر والزمانة وما استهلك من ماله غير ذلك ضمنه له الا ترى انه ليس له من مال ولده ان مات وترك ولدا الا السدس وسائر ماله لولده
وهذا بين ان قوله صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك) انه ليس على التمليك وكما كان قوله عليه الصلاة والسلام (أنت) ليس على التمليك فكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (ومالك) ليس على التمليك ولكنه على البر به والاكرام له
وقد اجمعوا ان الأب لو قتل بن ابنه أو من [الابن] وليه لم يكن للابن ان يقبض من أبيه في ذلك كله
وهذا كله تعظيم [حقوق الاباء والأمهات] قال الله عز وجل * (أن اشكر لي ولوالديك) * [لقمان 14] وقال عز وجل * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) * [العنكبوت 8] وقال عز وجل " اما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا
525
تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) [الاسراء 23 24]
فأمر الله عز وجل الأبناء ببر الاباء واكرامهما في حياتهما والدعاء لهما بعد وفاتهما
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه عد في الكبائر عقوق الأبوين (1)
واجمع العلماء على ذلك
1543 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ان عمر بن الخطاب قال لرجل خرج بجارية لامرأته معه في سفر فأصابها فغارت امرأته فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فسأله عن ذلك فقال وهبتها لي فقال عمر لتأتيني بالبينة أو لأرمينك بالحجارة قال فاعترفت امرأته انها وهبتها له
قال أبو عمر هذا [واضح] لان عمر رضي الله عنه راه زانيا وكان محصنا فمن ذلك اخبره ان لم يقم البينة رجم وفي اعتراف امرأته له بعد شكواها به ما يدل على أن الشبهات تسقط الحدود والله أعلم
وقد روى هذا الخبر بن جريج عن عبد الله بن أبي بكر
ورواه أيضا معمر عن قتادة وقال فيه فلما سمعت المراة ذلك قالت صدق قد كنت وهبتها له ولكن حملتني الغيرة فجلدها عمر حد القذف ثمانين وخلى سبيله
وهذا يدل على أن حد القذف اوكد من حد الزنى الا ترى ان من وجب عليه القتل [ووجبت] عليه حدود انه لا يقام عليه مع القتل الا حد [القذف] فإنه يجلد للقذف ثم يقتل عند مالك وكثير من العلماء
526
والذي خرج بجارية امرأته معه في السفر هو هلال بن يساف الأنصاري وامرأته التي شكت به أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق أمها حبيبة بنت خارجة بنت زيد بن أبي زهير وذلك موجود في باب الرجل يصيب وليدة امرأته في كتاب عبد الرزاق
وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر مثل ما روي عن عمر في الذي يقع على جارية امرأته ان حده الرجم
وقد روي عن علي انه درا عنه الحد وهذا معناه ان كان جاهلا بتحريم ذلك عليه لو صح والأول أصح عنه
وذكر عبد الرزاق (1) وغيره عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي ان امرأة جاءت إلى علي فقال ان زوجها وقع على جاريتها فقال ان تكوني صادقة رجمته وان تكوني كاذبة جلدتك ثمانين قالت يا ويلها غيرى نفرة
وذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن مدرك بن عمارة قال جاءت امرأة إلى علي فقالت يا ويلها ان زوجها وقع على جاريتها فقال ان كنت صادقة رجمناه وان كنت كاذبة جلدناك
وقد روي مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير (2)
وروى الأعمش ومنصور عن إبراهيم عن علقمة قال ما أبالي وقعت على جارية امرأتي أو وقعت على جارية عوسجة رجل من النخع
وذكر أبو بكر قال حدثني بن إدريس عن هشام عن الحسن وبن سيرين انهما كانا إذا سئلا عن الرجل يقع على جارية امرأته يتلوان هذه الآية * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * إلى قوله * (العادون) * [المؤمنون 5 - 7]
قال وحدثني يزيد بن هارون قال أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن اياس بن معاوية عن نافع قال جاءت جارية إلى عمر فقالت يا أمير المؤمنين ان المغيرة - تعني بن شعبة - يطؤني وان امرأته تدعوني زانية فان كنت لها فإنه عن غشياني وان كنت له فإنه امرأته عن قذفي فأرسل إلى المغيرة فقال تطأ هذه الجارية
527
قال نعم من اين قال وهبتها لي امرأتي [قال والله] لئن لم تكن وهبتها لك لا ترجع إلى أهلك الا مرجوما ثم دعا رجل رقيقين فقال انطلقا إلى امرأة المغيرة فأعلماها لئن لم تكوني وهبتها له لنرجمنه قال فأتياها فأخبراها فقالت يا لهفاه أتريد ان ترجم بعلي لاها الله إذا لقد وهبتها له فخلى عنه
وقال عطاء هو زان ولا حد على من قذفة بالزنى
وقال قتادة [يرجم] فإنه زان
قال أبو عمر كان بن مسعود لا يرى عليه حدا روي ذلك عنه من وجوه ويحتمل ان يكون عذره بالجهالة ويظنها انها تحل له والله أعلم
ذكر وكيع عن زكريا وإسماعيل عن الشعبي قال جاء رجل إلى عبد الله فقال إني قد وقعت على جارية امرأتي قال اتق الله ولا تعد ثم قال لا جلد ولا رجم
وروى سفيان عن منصور عن ربعي عن عقبة [بن حيان] عن عبد الله قال لا حد عليه
وكان إبراهيم النخعي يقول يعزر ولا حد عليه
وقد روي عن بن مسعود انه ضربة دون الحد
وقد روي عن عمر بن الخطاب انه ضربة مائة جلدة
ورواه معمر وبن عيينة عن الزهري عن القاسم بن محمد
وقال بن عيينة فيه عن الزهري عن القاسم عن عبيد بن عمير عن عمر
ورواه معمر عن سماك بن الفضل عن عبد الرحمن بن سلمان [عن عمر]
وبه قال بن شهاب الزهري وأبو عمر والأوزاعي انه يجلد مائة وان كان محصنا وذلك أدنى الحدين
فهذا قول ثالث
وفي المسألة قول رابع روي من وجوه ثابتة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل وطئ جارية امرأته ان كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها وان كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها
528
وهذا حديث صحيح رواه بن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت الحسن البصري يحدث عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم
وبه قال احمد وإسحاق وهو قول بن مسعود
ذكره أبو بكر قال حدثني يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن الشيباني عن الشعبي عن عامر بن مطر عن عبد الله في الرجل يقع على جارية امرأته قال إن استكرهها فهي حرة وعليه مثلها وان كانت طاوعته فهي له وعليه مثلها لسيدتها
((7 - باب ما يجب فيه القطع))
1544 - مالك بن نافع عن عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن (1) ثمنة ثلاثة دراهم
1545 - مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل (2) فإذا أواه المراح (3) أو الجرين (4) فالقطع فيما يبلغ ثمن المجن)
1546 - مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد
529
الرحمن أن سارقا سرق في زمان عثمان أترجة فأمر بها عثمان بن عفان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فقطع عثمان يده
1547 - مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت ما طال علي وما نسيت (القطع في ربع دينار فصاعدا)
وقال مالك (1) أحب ما يجب فيه القطع إلي ثلاثة دراهم وان ارتفع الصرف أو اتضع وذلك أن رسول الله قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وان عثمان بن عفان قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم وهذا أحب ما سمعت إلي في ذلك
قال أبو عمر ادخل مالك رحمه الله في أول هذا الباب الحديث المسند الصحيح الاسناد حديث بن عمر وهذا أثبت ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في معناه وهو يوجب القطع في كل عرض مسروق يبلغ ثمنه ثلاثة دراهم
واردفه بالحديث المرسل ومراسيل الثقات عندهم صحاح يجب العمل بها وهو [مع هذا] يستند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه الثقات عن عمرو بن شعيب منهم عمرو بن الحارث وهشام بن سعد ومحمد بن إسحاق
حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر قال حدثني عبد الله بن إدريس قال حدثني محمد بن إسحاق قال وحدثني عبد الوارث بن سفيان واللفظ لحديثه قال وحدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني سحنون قال حدثني بن وهب قال أخبرني هشام بن سعد وعمرو بن الحارث ثم اتفقا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح والجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن
530
قال أبو عمر كان مالكا رحمه الله انما أراد بادخاله هذا الحديث باثر حديث بن عمر البيان ان المجن المذكور فيه هو الذي روى بن عمر ان ثمنه ثلاثة دراهم ردا على الكوفيين الذين يروون ان ثمن المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عشرة دراهم ثم اردفه بحديث عثمان رضي الله عنه انه قطع في ثمن أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما يعني بدينار ثم اردف ذلك بحديث عائشة قولها (ما طال على وما نسيت) والقطع في ربع دينار فصاعدا تريد ثلاثة دراهم من الصرف المذكور ثم اختار القطع فيما بلغ ثلاثة دراهم واستحبه دون مراعاة ربع دينار ذهبا في تقويم العروض المسروقة لان النبي صلى الله عليه وسلم ثم عثمان بعده انما قوم المجن والأترجة بالثلاثة دراهم لا بربع دينار ذهبا
وتحصيل مذهبه انه لا يرد الذهب إلى الفضة بالقيمة ولا ترد الفضة إلى الذهب بالقيمة ومن سرق من الذهب ربع دينار فصاعدا فعليه القطع ومن سرق من [الفضة] ثلاثة دراهم فصاعدا فعليه القطع ولو سرق السارق درهمين صرفهما ربع دينار لم يجب عليه قطع ومن سرق ما عداهما من العروض كلها قومت سرقته بالثلاثة دراهم لا بربع دينار ارتفع الصرف بذلك أو انخفض
وبهذا كله قال أحمد بن حنبل الا ان احمد يقول من سرق من العروض ما يبلغ ثمنه ثلاثة دراهم أو ربع دينار قطع ولا يقطع في الدراهم حتى تكون ثلاثة دراهم [ولا في الذهب حتى يكون] ربع دينار
وهو قول إسحاق في رواية
واما الشافعي رحمه الله فإنما عزل واحتمل على حديث عائشة في ربع دينار من الورق لا يساوي ربع دينار ذهبا لم يجب عليه القطع لان الثلاثة دراهم انما ذكرت في الحديث لأنها كانت يومئذ ربع دينار ذهبا وذلك بين في حديث عثمان في الأترجة إذ قال من صرف اثني عشر درهما ومن سرق شيئا من العروض كلها على اختلاف أجناسها لم تقوم سرقته الا بربع دينار ذهبا ارتفع الصرف أو انخفض الا بالثلاثة الدراهم
وحجته في ذلك قول عائشة ما طالع علي وما نسيت (القطع في ربع دينار فصاعدا) وذلك [عن] النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الثقات
وقد روي عن إسحاق مثل قول الشافعي
وبه قال أبو ثور وداود [كلهم يقدروا بدينار في تقويم العروض المسروقة وفي الصرف أيضا ارتفع الصرف أو اتضع
531
وقول [] (1) كالشافعي سواء
والحجة للشافعي وأبي ثور داود] ومن قال بقولهم ما حدثناه سعيد بن نصر وعبد الوارث قالا حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر قال حدثني يزيد بن هارون قال حدثني بن كثير وإبراهيم بن سعد قالا جميعا أخبرنا الزهري عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (القطع في ربع دينار فصاعدا) (2)
وحدثاني قالا حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني الحميدي قال حدثني سليمان قال حدثني أربعة عن عمرة عن عائشة لم يرفعوه عبد الله بن أبي بكر ورزيق بن حكيم ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد الا ان في حديث يحيى ما دل على أن الرفع قولها ما طال علي وما نسيت (القطع في ربع دينار فصاعدا) (3)
قال وحدثني الزهري وكان احفظهم قال حدثني عمرة عن عائشة انها سمعها تقول ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعدا فرفعه الزهري وهو احفظهم
وهذا كله كلام بن عيينة
وكذلك رواه معمر وسائر أصحاب الزهري عنه عن عمرة عن عائشة مرفوعا
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عمرة عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا)
ورواه الليث بن سعد عن بن الهادي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تقطع يد السارق الا في ربع دينار فصاعدا
532
قال أبو عمر حديث بن شهاب الزهري وأبي بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح ما في هذا الباب
وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي وأصحابه
واليه ذهب أبو ثور وداود
وقال داود ليس في حديث بن عمر [لان الثلاثة دراهم كانت ربع دينار
قال ولو خالف بن عمر] لحديث عائشة لأنها حكته عن النبي صلى الله عليه وسلم وبن عمر انما اخبر ان قيمة المجن كانت ثلاثة دراهم ولم يذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروي مثل قول الشافعي في هذا الباب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهي منقطعة وأحسنها حديث علي
حدثناه عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني محمد بن عبد السلام قال حدثني محمد بن بشار قال حدثني يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه ان عليا رضي الله عنه قطع في ربع دينار درهمين ونصف
وذكر أبو بكر قال حدثني عبد الرحمن عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد قال اتي عثمان رضي الله عنه في رجل سرق أترجة [فقومها بربع دينار] فقطع يده
قال أبو عمر فهذان القولان [لفقهاء الحجاز] - ومن قال بقولهم - متقاربان في وجه مختلفان في اخر
واما فقهاء العراق فلا يرون قطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم الا ان منهم من يراعيها دون مراعاة دينار
ومنهم من يقول بقطع اليد في دينار أو في عشرة دراهم
فالدينار عندهم عشرة دراهم على ما قوم به عمر الدينار في الدية فجعلها في روايته ألف دينار أو عشرة آلاف درهم
وروي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود انهما قالا تقطع اليد في أقل من دينار أو عشرة دراهم
وروى وكيع عن حمزة الزيات عن الحكم عن أبي جعفر قال قيمة المجن الذي قطعت فيه اليد دينار
وقال إبراهيم النخعي لا تقطع اليد الا في دينار أو قيمته
533
واما سفيان الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر فقالوا لا تقطع اليد الا في عشرة دراهم
وهذا قول عطاء
وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يقطع من سرق مثقالا من ذهب حتى يكون المثقال يساوي عشرة دراهم مضروبة فصاعدا ولا يقطع من سرسق نفرا من فضة وزنها عشرة [دراهم] مضروبة] ولا يقطع من سرق عشرة دراهم زائفة أو مبهرجة إذا كانت لا تساوي عشرة دراهم بيضا
فالحجة لمن قال إن اليد لا تقطع الا في عشرة دراهم وان المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم
ما حدثناه عبد الوارث [قال حدثني قاسم] قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر قال حدثني بن نمير وعبد الاعلى قالا حدثني محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن بن عباس قال كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم
[قال أبو بكر] قال وحدثني عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقطع يد السارق [في دون] ثمن المجن) قال وكان ثمن المجن عشرة دراهم
قال فهذا بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص قد خالفا بن عمر في ثمن المجن الذي قطع [فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم] يد السارق
فالواجب ان لا تستباح اليد الا بيقين لان صاحب العشرة يجامعه صاحب الثلاثة وليس صاحب العشرة بجامع لصاحب الثلاثة
قال أبو عمر قد يكون ذلك امرين في حدين إذا صح القطع في ثلاثة دراهم فصاعدا دخل فيه العشرة وكل ما زاد على الثلاثة والله أعلم كيف كان ذلك وحديث ربع دينار أولى ما قيل في هذا الباب والله الموفق للصواب
قال أبو عمر من قال لا تقطع اليد الا في ثلاثة دراهم فصاعدا ومن قال في ربع دينار فصاعدا [أو من قال في دينار] أو عشرة دراهم فصاعدا لكل واحد منهم حديث [عن النبي صلى الله عليه وسلم] [يحدثه] ويسند إليه ويحتج به ويعدل عليه ولكل واحد منهم سلف من الصحابة والتابعين
وفي المسالة أقاويل غير هذه ليس في شيء منها حديث مسند الا واحد
534
منها وفيها أحاديث منقطعة لا تثبت ان ثمن المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خمسة دراهم
وقد قال بان اليد لا تقطع الا في خمسة دراهم فصاعدا جماعة منهم بن أبي ليلى وبن شبرمة
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسليمان بن يسار
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني بن إدريس عن بن أبي عروبة وإسماعيل عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال لا يقطع الخمس الا في [خمس]
قال وحدثني أبو داود عن هشام عن قتادة [عن سليمان بن يسار قال لا يقطع الخمس الا في خمس
وقد روى شعبة عن قتادة] عن انس قال قطع أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مجن قيمته خمسة دراهم
قال أبو عمر هذا حديث رواه الثوري عن شعبة وليس فيه حجة لان من رأى القطع في ثلاثة دراهم قطعها فيما زاد خمسة أو غير خمسة
وقول اخر ان اليد لا تقطع الا في أربعة دراهم فصاعدا
روي ذلك عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة من حديث يحيى القطان وحديث شعبة أيضا رواه جميعا عن داود اصيبيح انه سمع ابا سعيد وأبا هريرة يقولان لا تقطع اليد الا في أربعة دراهم فصاعدا
ذكره أبو بكر [قال حدثني غندر] وذكره بنداد عن يحيى القطان
قال أبو بكر وحدثني عبد الوهاب الثقفي عن خالد عن عكرمة قال تقطع اليد في ثمن المجن قال خالد قلت له ذكر لك ثمنه قال أربعة أو خمسة
وقال عثمان البتي تقطع اليد في درهم
وروي عن الحسن البصري في هذا الباب روايات
فروى الأشعث بن عبد الملك أنه قال ما كنت لان اقطع اليد في أقل من خمسة دراهم
وروى منصور عنه انه كان لا يوقت في السرقة شيئا ويتلو هذه الآية * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38]
وروى قتادة عنه أنه قال تذاكرنا على عهد زياد ما تقطع فيه اليد فاجمع رأينا على درهمين
535
وقالت الخوارج وطائفة من أهل الكلام كل سارق بالغ سرق ما له قيمة قلت أو كثرت فعليه القطع
واحتج بعض المتأخرين ممن ذهب إلى هذا ما حدثناه سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو معاوية عن الأعمش [عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) (1)
وهذا حديث شاذ ويحتمل ان يكون معناه القليل لان مقدار ما تقطع فيه يد السارق في جناية يده قليل
وقد قيل إن حديث أبي هريرة هذا كان في حين نزول الآية ثم أحكمت الأمور بعد احكمها الله تعالى بان سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مراد الله من كتابه فقال ما رواه الزهري وغيره عن عمرة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول] (لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا)
وقد قيل إنه أراد عليه الصلاة والسلام بذكر البيضة في حديث أبي هريرة بيضة الحديد وليس بشيء والصواب ما قدمت لك والله أعلم
ذكر أبو بكر قال حدثني حاتم بن إسماعيل قال حدثني جعفر بن محمد عن أبيه ان عليا رضي الله عنه انه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار
1548 - قال أبو عمر ذكر مالك في هذا الباب حديثه عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة قالت خرجت عائشة إلى مكة ومعها مولاتان لها ومعهما غلام لبني عبد الله بن أبي بكر الصديق فبعثت مع المولاتين ببرد مرجل قد خيط عليه خرقة خضراء قالت فاخذ الغلام البرد ففتق عنه فاستخرجه وجعل مكانه لبدا أو فروة وخاط عليه فلما قدمت المولاتان المدينة دفعتا ذلك إلى أهله فلما فتقوا عنه وجدوا فيه اللبد ولم يجدوا البرد فكلموا المراتين فكلمتا عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أو كتبتا إليها واتهمتا العبد فسئل العبد عن ذلك فاعترف فامرت به عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده وقالت عائشة القطع في ربع دينار فصاعدا
536
وليس فيه أكثر من فتيا عائشة بقطع [يد] العبد السارق وقولها القطع في ربع دينار فصاعدا
وسيأتي القول في الحرز في موضعه من باب جامع القطع إن شاء الله عز وجل
ولم يختلف العلماء فيمن اخرج الشيء المسروق من حرزه سارقا له وبلغ المقدار الذي تقطع فيه يده ان عليه القطع حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى مسلما كان أو ذميا لان العبد الآبق إذا سرق اختلف السلف في قطعه ولم يختلف [أئمة] فقهاء الأمصار في ذلك [والحمد لله]
((8 - باب ما جاء في قطع الآبق والسارق))
1549 - مالك عن نافع ان عبدا لعبد الله بن عمر سرق وهو ابق فأرسل به عبد الله بن عمر إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده فأبى سعيد ان يقطع يده وقال لا تقطع يد الآبق السارق إذا سرق فقال له عبد الله بن عمر في أي كتاب الله وجدت هذا ثم امر به عبد الله بن عمر فقطعت يده
قال أبو عمر في هذا الخبر لمذهب مالك في أن السيد لا يقطع يد عبده في السرقة وان كان قد اختلف عنه [في حده] في الزنى ولم يختلف عنه انه لا يقطع السيد عبده في السرقة لان قطع السارق إلى السلطان فلما لم يرض بن عمر الحد يقام على يدي السلطان وراه حدا معطلا [قام لله عز وجل]
وقد ذكرنا اختلاف العلماء في هذه المسالة فيما مضى
1550 - مالك عن زريق بن حكيم انه اخبره انه اخذ عبدا ابقا قد سرق قال فاشكل علي امره قال فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز اساله عن ذلك وهو الوالي يؤمئذ قال فأخبرته انني كنت اسمع ان العبد الآبق إذا سرق وهو ابق لم تقطع يده قال فكتب إلي عمر بن عبد العزيز نقيض كتابي يقول كتبت إلي انك كنت تسمع ان العبد الآبق إذا سرق لم تقطع يده وان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه " والسارق والسارقة فاقطعونا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " [المائدة 38] فان بلغت سرقته ربع دينار فصاعدا فاقطع يده
537
قال أبو عمر روي هذا الحديث عن زريق صاحب أيلة كما رواه مالك وانما أشكل على زريق بن حكيم قطع يد العبد إذا سرق لما سمع فيه من الاختلاف [والله أعلم - فأراد ان يقف من ذلك على رأي امين في المسالة ولم ير عمر بن عبد العزيز الاختلاف] في ذلك شيئا إذا لم تكن سنة من النبي صلى الله عليه وسلم فبين فيها مراد الله من تخصيص [الله] الآية في الإباق من العبيد كما بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقدار الذي [يجب] فيه القطع حمل الآية على ظاهرها وعمومها
وهذا أصل صحيح ومذهب جميل
1551 - مالك انه بلغه ان القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعروة بن الزبير كانوا يقولون إذا سرق العبد الآبق ما يجب فيه القطع قطع
[قال مالك وذلك الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا ان العبد الآبق إذا سرق ما يجب فيه القطع قطع]
قال أبو عمر على هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث واحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وجمهور أهل العلم - اليوم بالامصار وانما وقع الاختلاف فيه قديما ثم انعقد الاجماع بعد ذلك والحمد لله كثيرا
ومن الاختلاف بين السلف ما رواه معمر عن الزهري قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فسألني أيقطع العبد الآبق إذا سرق قلت لم اسمع فيه بشيء فقال لي عمر كان عثمان ومروان لا يقطعانه
قال الزهري فلما استخلف يزيد بن عبد الملك رفع إليه عبد ابق سرق فسألني عنه فأخبرته بما أخبرني به عمر بن عبد العزيز عن عثمان ومروان فقال أسمعت فيه بشيء قلت لا الا ما أخبرني به عمر قال فوالله لأقطعنه
قال الزهري فحججت عامئذ فلقيت سالم بن عبد الله فسألته فأخبرني ان غلاما لعبد الله بن عمر سرق [وهو] ابق فرفعه [بن] عمر إلى سعيد بن العاص وهو أمير على المدينة فقال ليس عليه قطع انا لا نقطع آبقا قال فذهب به بن عمر فقطعت يده وقام عليه حتى قطع
وروى الثوري ومعمر عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن بن عباس انه كان لا يرى على عبد ابق سرق قطعا
538
وذكره أبو بكر قال حدثني يحيى بن سعيد عن سفيان عن عمرو عن مجاهد عن بن عباس قال لا يقطع الآبق إذا سرق في إباقه
قال وحدثني وكيع عن بن أبي ذئب عن الزهري ان عثمان ومروان وعمر بن عبد العزيز كانوا لا يقطعون الآبق إذا سرق
قال وحدثني عبيد الله عن حنظلة عن سالم عن عائشة قالت ليس عليه قطع
وعبد الرزاق (1) عن عبد الله بن عمر عن نافع عن عائشة مثله
قال عبد الرزاق قال سفيان قولها انه لا يقطع ليس معصية الله عز وجل في إباقه تخرجه من القطع
وقال سفيان عن خالد الحذاء عن الحسن انه سئل عن العبد الآبق يسرق أتقطع يده قال نعم
وقال حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد ان عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد قالا العبد الآبق إذا سرق قطع
وذكر أبو بكر قال حدثني الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح عن إبراهيم بن عامر ان عمر بن عبد العزيز سال عروة عنه فقال يقطع
قال وحدثني وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر قال يقطع
((9 - باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان))
1552 - مالك عن بن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان ان صفوان بن أمية قيل له انه من لم يهاجر هلك فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فاخذ رداءه فاخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أسرقت رداء هذا) قال نعم فامر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تقطع يده فقال له صفوان اني لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فهلا قبل ان تأتيني به
539
قد ذكرنا في (التمهيد) اختلاف الرواة لهذا الحديث عن مالك وعن بن شهاب أيضا وذكرنا طرقه من غير رواية بن شهاب وتقصينا ذلك هنالك والحمد لله كثيرا
ونذكر في اخر هذا الباب ما في هذا الحديث من المعاني وما للعلماء فيها من المذاهب والحمد لله
1553 - مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ان الزبير بن العوام لقي رجلا قد اخذ سارقا وهو يريد ان يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع (1)
هذا خبر منقطع ويتصل من وجه صحيح
قال أبو عمر ادخل مالك خبر الزبير بيانا لحديث صفوان لان السلطان لا يحل له ان يعطل حدا من الحدود التي لله عز وجل اقامتها عليه إذا بلغته كما ليس له ان يتجسس [عليها] إذا استترت عنه وبان الشفاعة في ذوي الحدود حسنة جائزة وان كانت الحدود فيها واجبة إذا لم تبلغ السلطان
وهذا كله لا اعلم فيه خلافا بين العلماء وحسبك بذلك علما
وذكر أبو بكر قال حدثني وكيع وحميد بن عبد الرحمن الرواسي عن هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة عن الفرافصه الحنفي قال مروا على الزبير بسارق فشفع له فقالوا أتشفع للسارق قال نعم ما لم يؤت به إلى الامام فإذا اتي به إلى الامام فلا عفو له عنه ان عفا عنه
وروى بن سلمة عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة عن الفرافصة ان الزبير مر بلص قد اخذ فقال دعوه اعفوا عنه فقالوا اتامرنا بهذا يا أبا عبد الله وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ان الحدود يعفى عنها ما لم تبلغ إلى السلطان فإذا رفعت إلى السلطان فلا عفا الله عنه ان عفي عنها
قال أبو عمر هذا تفسير قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان (فهلا قبل ان تأتيني به) فإنه لم يهب الرداء الا رجاء العفو عنه
540
قال أبو بكر وحدثني حميد عن هشام عن أبي حازم ان عليا شفع لسارق فقيل له أتشفع لسارق قال نعم ان ذلك ليفعل ما لم يبلغ الامام
وعن سعيد بن جبير وعطاء وجماعة من علماء التابعين مثل ذلك
[وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان مثل ذلك]
والآثار في الستر على المسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة
وذكر أبو بكر قال حدثني أبو معاوية عن عاصم عن عكرمة ان بن عباس وعمارا والزبير اخذوا سارقا فخلوا سبيله قال عكرمة فقلت لابن عباس بئس ما صنعتم حين خليتم سبيله فقال لا أم لك اما لو كنت أنت لسرك ان يخلى سبيلك (1)
وهذا كله قبل ان يبلغ إلى السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عز وجل في حكمه) (2)
وذكره أبو بكر قال حدثني عبدة عن يحيى بن سعيد عن عبد الوهاب عن بن عمر
قال حدثني سعيد قال حدثني قاسم قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر قال حدثني بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كلم في شيء فقال عليه الصلاة والسلام (لو كانت فاطمة بنت محمد لاقمت عليها الحد)
قال أبو عمر في حديث بن شهاب في هذا الباب في قصة رداء صفوان المسروق من تحت رأسه وهو قد توسده دليل على أن الحرز قد يكون بمثل ذلك من الفعل
واتفق الفقهاء أئمة الفتوى بالامصار واتباعهم على مراعاة الحرز في ما يسرقه السارق فقالوا ما سرقه [السارق] من غير حرز فلا قطع عليه بلغ المقدار الذي يجب فيه القطع أم لم يبلغ
وممن ذهب إلى هذا مالك والثوري والليث والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم
541
وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم (لا قطع في حريسة الجبل حتى يؤويها المراح فإذا اواها المراح فالقطع على من سرق منها ثمن المجن) (1)
ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال علي بن المديني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة إذ رواه عن عمرو بن شعيب ثقة وأدرك أباه وأبوه شعيب أدرك عبد الله بن عمرو بن العاص وقال صلى الله عليه وسلم] (لا قطع على خائن ولا مختلس) (2)
فلما كان الخائن لا يحترز منه علم أنهما لم يكن في حرز فليس بسرقة [يجب فيها] القطع
واجمع العلماء انه لا قطع على المضارب من مال مضاربه وكذلك المودع عنده الوديعة
وقد اختلف الفقهاء في أبواب من معاني الحرز يطول ذكرها
فجملة مذهب مالك والشافعي ان الحرز كل ما يحرز الناس به أموالهم إذا أرادوا التحفظ من سارق يسرقها وهو يختلف باختلاف الشيء المحروز واختلاف المواضع فإذا ضم المتاع في السوق وقعد صاحبه عليه فهو حرز له سواء كان المتاع في ظرف فأخرجه السارق من ظرفه أو كان بحيث ينظر إليه صاحبه جاز ذلك
وكذلك إبل القافلة ودواب الرفقة إذا قطر بعضها إلى بعض أو كانت غنما في مراحها أو متاعا في فسطاط أو خباء وعليه من يحفظه ونحو هذا مما يطول أوصافه
ومعنى قول الشافعي ومالك في هذا الباب متقارب جدا
وقد قال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث كل سارق سرق ربع دينار ذهبا أو قيمته من سائر الأشياء وجب عليه القطع من حرز اخذه أو من غير حرز إذا اخذه من ملك مالك لم يأتمنه عليه لان الله عز وجل امر بقطع السارق امرا مطلقا وبين النبي صلى الله عليه وسلم المقدار المقطوع فيه ولم يبين الحرز
542
وتكلموا في الأحاديث التي ذكرناها وهي حجة [عليهم لما وصفنا] وما اعلم لهم في ترك مراعاة اخراج السرقة من حرزها الا شيئا عن عائشة وبن الزبير ورواية عن الحسن قد روي عنه خلافها
وجمهور أهل العلم على أن السارق لا قطع عليه الا ان يسرق شيئا محروزا يخرجه من حرزه
وعلى ذلك جماعة الفقهاء أئمة الفتوى بالامصار
واختلف العلماء في السارق يسرق ما يجب فيه القطع ويرفع إلى الامام فيقر أو تثبت عليه السرقة بالبينة العادلة فيأمر الامام بقطعه فيهب له المسروق منه [الشيء المسروق] قبل ان يقطع على ما صح عن صفوان رضي الله عنه
فقال مالك والشافعي وأكثر أهل الحجاز يقطع لان الهبة له والصدقة عليه بما سرقه ربما وقعت بعد وجوب الحد عليه
وهو أحد قولي أبي يوسف
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وطائفة لا يقطع لأنه قد ملك الشيء المسروق بالصدقة والهبة قبل ان يقع فلا تقطع يد أحد في ما هو ملك له
وهذا منهم دفع لحديث صفوان قوله صلى الله عليه وسلم (فهلا قبل ان تأتيني به) ولم يروون شيئا يردونه به
وكذلك اختلفوا في هذه المسالة لو وقعت الهبة من المسروق منه للسارق قبل ان يرفع إلى الامام
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف من غير خلاف عنه ومحمد بن الحسن لا قطع عليه
وقال مالك والشافعي وأصحابهما يقطع
ووافقهم على ذلك بن أبي ليلى
واحتج الشافعي في ذلك بالزاني بأمة غيره توهب له قبل ان يقام عليه الحد أو يشتريها قبل ان يقام عليه الحد ان ملكه الطارئ لا يزيل عنه الحد
ومن حجة أبي حنيفة ومن تابعه الحديث المرفوع (تعافوا الحدود في ما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب
543
وقال بن وهب سمعت بن جريج يحدث به عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فهذا الحديث قد عفي عنه بالهبة والصدقة وقد حصل الشيء المسروق ملكا للسارق قبل ان يبلغ السلطان فلم يبلغ الحد السلطان الا وهو يعفو عنه
قالوا وما صار ملكا للسارق واستحال ان يقطع فيه لأنه انما يقطع في ملك غيره لا في ملك نفسه
قالوا والطارئ من الشبهات في الحدود بمنزلة ما هو موجود في الحال قياسا على الشهادات
[قال أبو عمر] قوله صلى الله عليه وسلم لصفوان (فهلا قبل ان تأتيني به) يمنع من استعمال النظر ما يوجب التسليم إلى ما ذكرنا من صحيح القياس في ملك الزاني نظرا له قبل الحد والله أعلم
((10 - باب جامع القطع))
1554 - مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان رجلا من أهل اليمن اقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق فشكا إليه ان عامل اليمن قد ظلمه فكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر وأبيك ما ليلك بليل سارق ثم إنهم فقدوا عقدا لاسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق فجعل الرجل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به فامر به أبو بكر الصديق فقطعت يده اليسرى وقال أبو بكر والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته
قال أبو عمر اختلف في هذا الحديث فروي ان هذا الأقطع لم يكن مقطوع اليد والرجل وانما كان مقطوع اليد اليمنى فقط
ذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم وغيره قال انما قطع أبو بكر رجل الأقطع وكان مقطوع اليد اليمنى فقط
قال الزهري ولم يبلغنا في السنة الا قطع اليد والرجل لا يزاد على ذلك
قال وأخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال انما قطع أبو بكر رجل الذي قطعه يعلى بن أمية كان مقطوع اليد قبل ذلك
544
قال أبو عمر هؤلاء نفوا و [عبد الرحمن] بن القاسم زاد وأثبت والله أعلم
وقد رواه الثوري كما رواه مالك
ذكر عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم بن محمد ان سارقا مقطوع اليد والرجل سرق حليا لاسماء فقطعه أبو بكر الثالثة
قال حسبته قال يده
ورواه وكيع [عن سفيان] فخالف عبد الرزاق في لفظه
وذكر أبو بكر قال حدثني وكيع عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان أبا بكر أراد ان يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له عمر السنة اليد
وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان رجل اسود يأتي أبا بكر فيدنيه ويقرئه القران حتى بعث ساعيا أو قال سرية فقال ارسلني معه فقال بل تمكث عندنا فأبى فأرسله معه واستوصى به خيرا فلم يغب معه الا قليلا حتى جاء قد قطعت يده فلما راه أبو بكر فاضت عيناه فقال ما شانك قال ما زدت على أنه كان يوليني شيئا من عمله فخنته فريضة واحدة فقطع يدي
فقال أبو بكر تجدون الذي قطع يد هذا يخون عشرين فريضة والله لئن كنت [صادقا] لاقيدنك منه قال ثم أدناه ولم يحول منزلته التي كانت له منه قال فكان الرجل يقوم الليل فيقرا فإذا سمع أبو بكر صوته قال تالله لرجل قطع هذا لقد اجترا على الله عز وجل
قال فلم يغب الا قليلا حتى فقد ال أبي بكر حليا لهم ومتاعا فقال أبو بكر طرق الحي الليلة فقام الأقطع [فاستقبل القبلة] ورفع يده الصحيحة والأخرى التي قطعت فقال اللهم اظهر على من سرقهم أو نحو هذا
وكان معمر ربما قال اللهم اظهر على من سرق أهل هذا البيت الصالح قال فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده فقال أبو بكر ويلك انك لقليل العلم بالله عز وجل فامر به فقطعت رجله
وفي هذا الخبر وخبر الزهري أيضا عن سالم وخبر أيوب عن نافع عن بن عمر ان ذلك الأقطع لم تكن رجله مقطوعة وانما كان مقطوع اليد اليمنى فقطع أبو بكر رجله - يعني - اليسرى
545
وهذا خلاف ما رواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه في هذا الخبر وقد روي فيه ما يوافقه
ذكر عبد الرزاق (1) قال أخبرني بن جريج قال أخبرني غير واحد من أهل المدينة منهم إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ان يعلى بن أمية قطع يد سارق ورجله لأنه سرق في الثانية فقطع أبو بكر يده للثالثة ثم ذكر نحو حديث الزهري قال فكان أبو بكر يقول لجراته على الله عز وجل أغيظ عندي من سرقته
قال بن جريج واخبرني عبد الله بن أبي بكر ان اسمه جبر أو جبير
قال أبو عمر اختلف العلماء من السلف والخلف فيما يقطع من السارق إذا قطعت يده اليمنى بسرقة يسرقها ثم عاد فسرق أخرى بعد اجماعهم ان اليد اليمنى هي التي تقطع منه أولا
فقال مالك والشافعي وأصحابهما إذا قطع في السرقة ثم سرق ثانية قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى وتحسم كل واحدة بالنار ساعة القطع خوف التلف والقطع عندهم من المفصل
وبه قال قتادة واليه ذهب أبو ثور
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعن أبي بكر فيه ما قد ذكرنا
وقال بذلك جماعة من السلف والتابعين
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني بن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة عن بن عباس قال رايت عمر بن الخطاب قطع يد رجل بعد يده ورجله
والحجة لما ذهب إليه مالك والشافعي ومن قال بقولهما انه قد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من مراسيل الثقات
منها ما رواه بن جريج عن عبد ربه بن أمية بن الحارث انه اخبره عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة انه حدثه عبد الرحمن بن سابط ان النبي صلى الله عليه وسلم اتي بعبد قد سرق فقطع يده ثم الثانية فقطع رجله ثم اتي به في الثالثة قطع يده ثم اتي به فقطع رجله
546
قال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا وجب على السارق القطع قطعت يده اليمنى من المفصل ثم إن سرق ثانية قطعت رجله اليسرى ولا يقطع منه شيء بعد ذلك وانما عليه الغرم
وهو قول الزهري [وحماد] والشعبي وإبراهيم النخعي واليه ذهب احمد
قال أبو عمر روي هذا القول [عن] جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعده من العلماء الخالفين
وذكر عبد الرزاق (1) عن إسرائيل بن يونس عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عائد الأودي عن عمر انه اتي برجل قد سرق يقال له سدوم فقطعه ثم اتي به الثانية فقطعه ثم اتي الثالثة فأراد ان يقطعه فقال له علي رضي الله عنه لا تفعل فإنما عليه يد ورجل ولكن احبسه
وذكر أبو بكر قال حدثني جرير عن منصور عن أبي الضحى وعن مغيرة عن الشعبي قالا كان علي رضي الله عنه يقول إذا سرق السارق مرارا قطعت يده ورجله ثم إن
عاد استودعته السجن
قال وحدثني حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال كان علي لا يزيد على أن يقطع للسارق يدا ورجلا فإذا أوتي به بعد ذلك قال إني لأستحي ان لا يتطهر لصلاته ولكن امسكوا كلبه عن المسلمين وانفقوا عليه من بيت المال
قال وحدثني عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن الزهري قال انتهى أبو بكر في قطع السارق إلى اليد والرجل
قال وحدثني أبو اسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول ان عمر قال إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن عاد فاقطعوا رجله ولا تقطعوا يده الأخرى وذروه يأكل بها الطعام ويستنجي بها من الغائط ولكن احبسوه عن المسلمين
قال وحدثني أبو خالد عن الحجاج عن عمرو عن مرة [عن عبد الله بن سلمة قال كان علي يقول في السارق إذا سرق قطعت يده فان عاد قطعت رجله فان عاد استودعته السجن
قال وأخبرنا أبو خالد عن الحجاج] عن عمرو بن دينار ان نجدة الخارجي كتب إلى بن عباس يسأله عن السارق فكتب إليه بمثل قول علي
قال وحدثني أبو خالد عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه ان عمر
547
استشارهم في سارق فاجمعوا على مثل قول علي رضي الله عنه
قال أبو عمر حصل اتفاق جمهور السلف والخلف على جواز قطع الرجل [بعد] اليد من قال بقول الحجازيين ومن قال بقول العراقيين وهم عامة العلماء قالوا بذلك وهم يقرؤون * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38]
وهذه مسالة تشبه المسح على الخفين وهم يقرون غسل الرجلين أو مسحهما ويشبه الجزاء في الصيد في الخطا وهم يقرؤون * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * [المائدة 95]
والجمهور لا يجوز عليه تحريف الكتاب ولا الخطا في تأويله وانما قالوا [ذلك] بالسنة المسنونة لهم والامر المتبع
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال كتب نجدة إلى عمر يسأله عن قطع النبي صلى الله عليه وسلم [الرجل بعد اليد] فكتب إليه ان النبي صلى الله عليه وسلم قد قطع الرجل بعد اليد
وقال بعض التابعين منهم عطاء وغيره والخوارج وطوائف من أهل الكلام وبعض أصحاب داود لا يجوز ان يقطع من السارق الا الأيدي دون الأرجل لان الله عز وجل يقول * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38]
وذكر بن جريج قال قلت لعطاء إذا سرق الثانية قال ما أرى ان يقطع في السرقة الا الأيدي قال الله عز وجل * (فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38] ولو شاء امر [بالرجلين] وما كان ربك نسيا
قال أبو عمر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الأيدي والأيدي من السراق كالمحاربين - من خلاف
أخبرنا محمد بن عبد الله قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني إسحاق بن أبي حسان قال حدثني هشام بن عمار قال حدثني [يحيى بن سعيد] [وحدثني سعيد بن يعلى] قال وحدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال اتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم اتي به بعد قد سرق فقطع رجله ثم اتي به بعد قد سرق فقطع يده ثم اتي به بعد قد سرق فقطع رجله ثم اتي به بعد قد سرق فقتله
548
وقد رواه مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن جابر [مثله] بمعناه
وذكره النسائي وأبو داود كلاهما عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل عن جده عن مصعب بن ثابت
قال النسائي مصعب بن ثابت ليس بالقوي وان كان يحيى القطان قد روى عنه قال وهذا الحديث ليس بصحيح قال ولا اعلم في هذا الباب [حديثا] صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم
وفي حديث مصعب بن ثابت قتل السارق بالحجارة في الخامسة ولا اعلم أحدا من أهل العلم قال به الا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في مختصره عن أهل المدينة
مالك وغيره قال من سرق ممن بلغ الحلم من الرجال والمحيض من النساء سرقة فخرج بها من حرزها وبلغت ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطعت يده اليمنى ثم حسمت بالنار ثم خلي سبيله فان سرق ثانية قطعت رجلة اليسرى ثم إن سرق الثالثة قطعت يده اليسرى فان سرق الرابعة قطعت رجلة اليمنى فان سرق الخامسة قتل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعثمان] وعمر بن عبد العزيز
قال وكان مالك بن انس يقول لا يقتل
قال أبو عمر حديث القتل لا أصل له وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ان لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث كفر بعد ايمان أو زنى بعد احصان أو قتل نفس بغير نفس (1) ولم يذكر فيها السارق
وقال صلى الله عليه وسلم في السرقة (فاحشة وفيها عقوبة) ولم يذكر قتلا
وعلى هذا جمهور أهل العلم في الآفاق على المسلمين والحمد لله رب العالمين
قال مالك (2) الامر عندنا في الذي يسرق مرارا ثم يستعدى عليه انه ليس عليه الا ان تقطع يده لجميع من سرق منه إذا لم يكن أقيم عليه الحد فإن كان قد أقيم عليه الحد قبل ذلك ثم سرق ما يجب فيه القطع قطع أيضا
قال أبو عمر لا اعلم في هذه المسالة خلافا بين أهل الفقه الذين تدور على مذاهبهم الفتوى بالامصار ولا على من قبلهم
549
وقد روي أيضا منصوصا عن جماعة من التابعين وهو القياس الصحيح لان قطع اليد في السرقة حق لله عز وجل فلا يقام الا مرة لما تقدم كالزنى لا يقام فيه الحد الا مرة على الزاني مرارا ما لم يحد فان عاد بعد الحد فعليه الحد مرة أخرى وهكذا ابدا في السرقة
والزنى أصل اخر من الاجماع أيضا في الرجل يطا امرأة قد نكحها نكاحا فاسدا أو نكاحا صحيحا انه [يجب] عليه المهر بوطء مرة ولو وطأها بعد ذلك مرارا لم يكن عليه غير ذلك
1555 - مالك ان ابا الزناد اخبره ان عاملا لعمر بن عبد العزيز اخذ ناسا في حرابة ولم يقتلوا أحدا فأراد ان يقطع أيديهم أو يقتل فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك فكتب إليه عمر بن عبد العزيز لو اخذت بأيسر ذلك
قال أبو عمر ليس في (الموطأ) مثله في المحاربين غير هذه وهي لمحة كما ترى فلنذكر احكام المحاربين باخصر ما يقدر عليه بعون الله عز وجل
واما قول عمر بن عبد العزيز لعامله في المحاربين الذين لم يقتلوا لو اخذت بأيسر ذلك فيدل على أنه كان يذهب إلى تخيير الامام في عقوبة المحاربين على ظاهر القران قوله عز وجل * (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) * [المائدة 33]
[فقالت طائفة] قد اختلف السلف ومن بعدهم من العلماء في حكم المحارب إذا اخذ في حرابته قبل ان يتوب واختلفوا في من عنى الله عز وجل بقوله " انما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا " [المائدة 33]
فقالت طائفة منهم نزلت في الكفار المرتدين الذين أغاروا على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلوا الرعاة وكفروا بعد ايمانهم فمن كفر بالله من بعد ايمانه فقد حارب الله عز وجل ورسوله فإذا جمع السعي في الأرض بالفساد وهو الخروج عن المسلمين وقطع الطريق وإخافة السبل فهو ممن عني بالآية
واحتجوا بحديث انس رواه ثابت البناني وأبو قلابة وقتادة بن دعامة عن انس ان نفرا من عكل وعرينة قدموا المدينة فتكلموا بالاسلام وكانوا أهل ضرع
550
ولم يكونوا أهل الف فاجتووا (1) المدينة فامر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بزود ولقاح وان يخرجوا من المدينة فيشربوا من البانها وأبوالها
وقال بعضهم في هذا الحديث فامرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من البانها وأبوالها فانطلقوا فلما كانوا بناحية الحرة كفروا بعد اسلامهم وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل مرتدين فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثرهم فأدركوا [وأتى بهم] فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ومنهم من يقول وسمر أعينهم وتركوا بناحية الحرة يكدمون حجارتها حتى ماتوا (2)
قال قتادة فبلغنا ان هذه الآية نزلت فيهم * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) * [المائدة 33]
وممن قال إن الآية نزلت في أهل الكفر الحسن وعطاء
وقال أكثر أهل العلم نزلت في كل من قطع الطريق وأخاف السبيل واخذ المال قتل أو لم يقتل على ما نذكر
فمن اختلافهم في جزاء المحارب هل هو على الاستحقاق أو على تخيير الامام فيه
وانكر الفقهاء أن تكون الآية نزلت في أهل الشرك لان الله عز وجل قال في المحاربين * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) * [المائدة 34]
وقد اجمع علماء المسلمين على أن الكفار إذا انتهوا وتابوا من كفرهم غفر لهم كل ما سلف وسقط عنهم كل ما كان لزمهم في حال الكفر من حقوق الله عز وجل وحقوق المسلمين قبل ان يقدروا عليهم [وبعد ان يقدروا عليهم] ويصيروا في أيدي المسلمين فلا يحل قتلهم باجماع المسلمين ولا يؤخذ بشيء جنوه في مال أو دم فدل ذلك على أن الآية تنزل في أهل الشرك والكفر
وهذا هو الصحيح لان المحاربين يؤخذون بكثير من ذلك مما يؤخذ منهم
551
لاجماع العلماء - ما وجد في أيديهم من أموال المسلمين وأهل الذمة أيضا
وقال مالك يؤخذون بالدم إذا طلبه وليه
وقال الليث لا يؤخذون به
وقال الشافعي تضع عن المحارب توبته حد الله عز وجل الذي وجب لمحاربته ولا تسقط عنه حقوق بني ادم
وقال أبو حنيفة ان لم يقدر الامام على قطاع الطريق حتى جاؤوا تائبين وضعت عنهم حقوق الله عز وجل التي كانت تقام عليهم [لو لم يتوبوا ويرجع حكم ما أصابوا من القتل والجراح إلى أولياء المقتولين والمجروحين فيكون حكمهم في ذلك كحكمهم لو أصابوا ذلك على غير قطع الطريق
قال أبو عمر هذا كله ليس هو الحكم عند أحد من العلماء في من اسلم من الكفار قبل ان يقدر عليه فدل ذلك على فساد قول من قال نزلت الآية في أهل الشرك
وقال الفقهاء [وأهل] اللغة معنى قوله عز وجل * (يحاربون الله) * [المائدة 33] يحاربون [أهل] دين الله عز وجل
واما اختلاف العلماء في جزاء المحاربين هل هو على قدر الاستحقاق أم على تخيير الامام
فروي عن بن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وإبراهيم ان الامام مخير يحكم فيهم بما شاء من الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في الآية من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي
و (أو) عند هؤلاء للتخيير
وممن قال بذلك مالك والليث وأبو ثور
قال مالك ذلك إلى اجتهاد الامام يستشير بذلك أهل العلم والرأي والفضل على قدر جرم المحارب وافساده
وليس ذلك إلى سوى الإمام قال
مالك الفساد في الأرض القتل واخذ المال قال الله عز وجل * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) * [البقرة 205]
وقال عز وجل * (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) * [المائدة
552
قال أبو عمر معناه أو بغير فساد في الأرض فدل على أن الفساد في الأرض وان لم يكن قتلا فهو كالقتل والفساد المجتمع عليه هنا قطع الطريق وسلب المسلمين وإخافة سبلهم
والقول الثاني ان الحكم في المحارب انه ان قتل قتل وان اخذ المال وقتل وصلب وان اخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وان أخاف السبيل فقط لم يكن عليه غير النفي
وروي هذا أيضا عن بن عباس ومجاهد [وعطاء وإبراهيم النخعي والحسن البصري
وهو قول أبي مجالد والضحاك] وسعيد بن جبير وقتادة
وهو قول أهل العلم
و (أو) عند هؤلاء للتفضيل
والى هذا ذهب الشافعي وأبو حنيفة [والأوزاعي] وأصحابهما والثوري [واحمد] وإسحاق
وقال الشافعي تقام عليهم الحدود على قدر اختلاف افعالهم من قتل منهم واخذ المال قتل وصلب وإذا قتل ولم يأخذ مالا قتل ودفع إلى [أوليائه] يدفنوه ومن اخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف في مكان واحد وحسمع على عضوه بالنار قبل ان يقطع الاخر ومن حضر وكثر وهيب وكان ردءا عزر وحبس
قال أبو عمر نحو هذا قول الكوفيين وسائر من ذكرنا من الفقهاء والنفي عندهم ان يحبسوا حتى يحدثوا توبة
وقال مالك النفي ان يخرج إلى بلد اخر ويحبس هناك في [السجن]
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ينفى من بلده إلى بلد غيره ولم يذكر حبسا
وقال عبد الملك بن الماجشون قول أبي وبن دينار والمغيرة ان نفي المحارب [انما هو ان] يطلبه الامام لإقامة الحد [عليه] فيهرب وليس كنفي الزاني البكر
وهو قول بن شهاب
قال أبو عمر في صلب المحارب أقوال لأهل العلم وكذلك في نفيه أيضا لأهل العلم أقوال واعتلالات وتوجيهات واختصرنا ذلك كله خوف الإطالة وشرطنا الاختصار والإشارة إلى ما أشار إليه مالك رحمه الله
553
قال مالك (1) الامر عندنا في الذي يسرق امتعه الناس التي تكون موضوعة بالأسواق محرزة قد احرزها أهلها في أوعيتهم وضموا بعضها إلى بعض انه من سرق من ذلك شيئا من جرزه فبلغ قيمته ما يجب فيه القطع فان عليه القطع كان صاحب المتاع عند متاعه أو لم يكن ليلا ذلك أو نهارا
قال أبو عمر الحجة في قوله هذا حديث صفوان بن أمية إذ سرق رداؤه من تحت رأسه أو من تحت توسده وهو نائم والنائم كالغائب عن متاعه وغلق الوعاء على المتاع كغلق باب الدار والبيت
ولم يختلفوا ان من فتح باب دار أو بيت وسرق منه ما يبلغ المقدار انه يقطع وقد أبى كثير من الفقهاء ان يجعلوا ذلك خرزا إذا غاب عنه صاحبه ولم يكن عقله ولا تحت حرزه وقفله
وهذه من مسائل الرأي يسوغ فيها الاجتهاد
والأصل عندي في هذا وما كان مثله ان لا يراق دم السارق المسلم الا بيقين والتيقن أصل أو قياس غير مدفوع على أصل لان الخطا في العفو خير وأيسر من الخطا في العقوبة
وقد اجمع العلماء على أن كل سرقة لا قطع فيها فالغرم واجب على من سرقها موسرا كان أو معسرا
قال مالك (2) في الذي يسرق ما يجب عليه فيه القطع ثم يوجد معه ما سرق فيرد إلى صاحبه انه تقطع يده
واحتج مالك لقوله هذا بالشارب يوجد منه ريح الشراب فيحد وهذا ليس بحجة عند موافقيه فضلا عن مخالفيه
والقطع واجب عند العلماء على كل سارق اخرج المتاع من حرزه وهو حق لله عز وجل وليس للادمي في القطع حق فان وجد متاعه اخذه باجماع ليس له غير ذلك ولا له العفو عن السارق إذا بلغ السلطان وهو وغيره في ذلك سواء
واختلف العلماء في السارق تقطع يده وقد استهلك المتاع
فقال مالك يغرمه ان كان مليئا في حين القطع أو في حين الحكم وان كان معسرا لم يتبع [بشيء] من قيمة السرقة
554
وقال الشافعي يتبع به دينا إذا استهلكه ويلزمه غرم ما سرق مليا أو معدما لان القطع حق لله عز وجل والغرم حق للمسروق منه
قال وقد اجمعوا انه لو وجده ربه بيد السارق اخذه وان قطعت يده به وكذلك إذا استهلكه يغرمه في حال اليسر والعسر كسائر المستهلكات من أموال المسلمين
وبه قال أبو ثور واحمد وإسحاق
وهو قول إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان ويحيى بن سعيد الأنصاري والليث بن سعد وعثمان البتي
وقال سفيان الثوري والحسن بن صالح بن حي وأبو حنيفة وأصحابه إذا قطعت يد السارق فلا غرم عليه مليا ولا عديما الا ان يوجد الشيء معه فيؤخذ منه
وهو قول عطاء والشعبي وبن سيرين ومكحول
وبه قال بن أبي ليلى وبن شبرمة
وحجة من قال بهذا القول ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد [بن أسيد] قال حدثني حمزة بن علي قال حدثني أحمد بن شعيب قال حدثني أحمد بن منصور قال حدثني حسان بن عبيد الله قال حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد) (1)
قال أبو عمر هذا ليس بالقوي عندهم والمسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أخو سعد بن إبراهيم وصالح بن إبراهيم لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف ولو ثبت هذا الحديث لوجب القول به ولكنه عندهم غير ثابت لأنه منقطع وان كان قد وصله سعيد بن [كثير عن] عفير عن المفضل عن يونس عن سعد عن أخيه المسور بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف فان ثبت فالقول به أولى والا فالقياس ما قاله الشافعي ومن تابعه وبالله التوفيق
أخبرنا أحمد بن محمد قال حدثني أحمد بن المفضل قال حدثني محمد بن جرير قال حدثني أحمد بن الحسن الترمذي قال حدثني سعيد بن
555
كثير [بن عفير] قال حدثني مفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد عن سعد بن إبراهيم قال حدثني أخي المسور بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه)
قال مالك (1) في القوم يأتون إلى البيت فيسرقون منه جميعا فيخرجون بالعدل يحملونه جميعا أو الصندوق أو الخشبة أو بالمكتل (2) أو ما أشبه ذلك مما يحمله القوم جميعا انهم إذا اخرجوا ذلك من حرزه وهم يحملونه جميعا فبلغ ثمن ما خرجوا به من ذلك ما يجب فيه القطع وذلك ثلاثة دراهم فصاعدا فعليهم القطع جميعا
قال وان خرج كل واحد منهم بمتاع على حدته فمن خرج منهم بما تبلغ قيمته ثلاثة دراهم فصاعدا [فعليه القطع ومن لم يخرج منهم بما تبلغ قيمته ثلاثة دراهم فصاعدا] فلا قطع عليه
قال أبو عمر من الاختلاف في هذه المسالة ما ذكره المزني عن الشافعي قال وإذا كانوا ثلاثة فحملوا متاعا واخرجوه معا فبلغ ثلاثة أرباع دينار قطعوا وان نقص شيئا لم يقطعوا وان أخرجوه متفرقا فمن اخرج ما يساوي ربع دينار قطع وان لم يساو ربع دينار لم يقطع قال ولو نقبوا جميعا ثم اخرج بعضهم ولم يخرج بعض قطع المخرج خاصة
واما أبو حنيفة وأصحابه فذكر الطحاوي عنهم قال ولا قطع على جماعة سرقوا حتى يكون لكل واحد منهم [قيمة] عشرة دراهم فصاعدا ومن سرق من رجلين عشرة دراهم سرقة واحدة قطع فيها
وقال في موضع اخر ومن دخل عليه جماعة فولي رجل منهم اخذ متاعه وحمله قطعوا جميعا
قال أبو عمر هذا تناقض ظاهر وممن قال بقول مالك في الرجلين أو أكثر يسرقون مقدار ربع دينار انهم يقطعون فيه أحمد بن حنبل وأبو ثور قياسا على القوم يشتركون في القتل انهم يقتلون بالواحد إذا اشتركوا في قتله
واختلف الفقهاء أيضا في النفر يدخلون الدار ويجمعون المتاع ويحملونه على أحدهم ويخرجون معه
556
فقال الشافعي وأبو ثور القطع على الذي اخرج المتاع وحده
واختلف أصحاب أبي حنيفة فمنهم من قال يقطعون كلهم ومنهم من قال لا يقطع الا الذي اخرج المتاع
واختلف في ذلك قول مالك أيضا
فروى بن أبي أويس عنه أنه قال يقطعون جميعا قال انما ذلك بمنزلة ما لو حملوه على حمار أو غيره من الدواب
وروى بن القاسم عنه أنه قال لا يقطع الا الذي حملة وحده
قال مالك (1) الامر عندنا انه إذا كانت دار رجل مغلقة عليه ليس معه فيها غيره فإنه لا يجب على من سرق منها شيئا القطع حتى يخرج به من الدار كلها وذلك أن
الدار كلها هي حرزه فإن كان معه في الدار ساكن غيره وكان كل انسان منهم يغلق عليه بابه وكانت حرزا لهم جميعا فمن سرق من بيوت تلك الدار شيئا يجب فيه القطع فخرج به إلى الدار فقد اخرجه من حرزه إلى غير حرزه ووجب عليه فيه القطع
قال أبو عمر هذا كله قول الشافعي وأبي حنيفة
وبه قال أبو ثور واحمد وإسحاق
وقال أبو يوسف ومحمد لا قطع في الدار المشتركة حتى يخرج السارق بالسرقة من الدار كلها
قال مالك (2) والامر عندنا في العبد يسرق من متاع سيده انه ان كان ليس من خدمه ولا ممن يأمن على بيته ثم دخل سرا فسرق من متاع سيده ما يجب فيه القطع فلا قطع عليه وكذلك الأمة إذا سرقت من متاع سيدها لا قطع عليها
قال أبو عمر الجمهور من العلماء الذين هم حجة على من شذ عنهم اجمعوا على أن العبد لا يقطع في ما سرق من مال سيده وسيدته وكذلك الأمة لا قطع عليها في ما سرقت من مال سيدها وسيدتها مما يؤتمن عليه ومما لا يؤتمنون عليه
وهو قول مالك [والليث] وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم] والثوري والأوزاعي واحمد وإسحاق وإبراهيم] والطبري
وقال أبو ثور يقطع العبد إذا سرق من سيده الا ان يمنع منه اجماع
557
وقال أهل الظاهر يقطع العبد إذا سرق من مال سيده الذي لم يأتمنه عليه لظاهر قول الله عز وجل * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * [المائدة 38]
قال أبو عمر ثبت عن عمر بمحضر من الصحابة قوله خادمكم سرق متاعكم [فجعلوا] العلة المانعة [من القطع] في الغلام الذي شكا بن الحضرمي وهو غلامه انه سرق مراة امرأته قوله خادمكم سرق متاعكم
وثبت عن بن مسعود أنه قال في عبد سرق من مال سيده مالك سرق بعضه بعضا
ولا اعلم لعمر وبن مسعود مخالفا من الصحابة ولا من التابعين بعدهم إلى ما ذكرنا من اتفاق [العلماء] أئمة الفتوى بالامصار على ذلك
وسيأتي القول في غلام الرجل يسرق من مال امرأته أو خادم المراة يسرق من مال زوجها في الباب بعد هذا عند ذكر حديث بن الحضرمي من رواية مالك إن شاء الله عز وجل
وذكر عبد الرزاق (1) عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد قال شاهدت عمر وجاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي بغلام له فقال ان غلامي هذا سرق فاقطع يده قال عمر ما سرق قال مراة امرأتي [قيمتها] ستون درهما قال ارسله فلا قطع عليه خادمكم اخذ متاعكم ولكنه لو سرق من غيركم قطع
قال أبو عمر هذا لا يقوله عمر من رايه وهو يتلو الآية في السارق والسارقة الا بتوقيف
ذكر عبد الله بن المبارك عن سفيان عن الأعمش [عن إبراهيم] عن همام بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال عبدي سرق من عبدي وقال بن نمير في هذا الخبر عن سفيان باسناده هذا غلامي سرق من غلامي فقال بن مسعود لا قطع عليه مالك سرق بعضه بعضا
وقال مالك (2) في العبد لا يكون من خدمه ولا ممن يأمن على بيته فدخل سرا فسرق من متاع امرأة سيده ما يجب فيه القطع انه تقطع يده
قال وكذلك أمة المراة إذا كانت ليست بخادم لها ولا لزوجها ولا ممن تأمن
558
على بيتها فدخلت سرا فسرقت من متاع سيدتها ما يجب فيه القطع فلا قطع عليها
قال مالك (1) وكذلك أمة المراة التي لا تكون من خدمها ولا ممن تأمن على بيتها فدخلت سرا فسرقت من متاع زوج سيدتها ما يجب فيه القطع انها تقطع يدها
قال مالك (2) وكذلك الرجل يسرق من متاع امرأته أو المراة تسرق من متاع زوجها ما يجب فيه القطع ان كان الذي سرق كل واحد منهما من متاع صاحبه في بيت سوى البيت الذي يغلقان عليهما وكان في حرز سوى البيت الذي هما فيه فان من سرق منهما من متاع صاحبه ما يجب فيه القطع فعليه القطع فيه
قال أبو عمر اختلف قول الشافعي في هذه المسألة والمشهور من مذهبه ما ذكره الربيع والمزني عنه في أنه ذكر قول مالك هذا في (موطئه) وقال هذا مذهب من ذهب إليه وتأول قول عمر خادمكم سرق متاعكم أي خادمكم الذي يلي خدمتكم وارى - والله أعلم - على الاحتياط أي لا يقطع الرجل لامرأته ولا المراة لزوجها ولا عبد واحد منهما سرق من مال الاخر شيئا للأثر والشبهة وبخلطة كل واحد منهما صاحبه لأنها خيانة لا سرقة
قال المزني وقال في كتاب (اختلاف الأوزاعي وأبي حنيفة) إذا سرقت المراة من مال زوجها الذي لم يأمنها عليه وفي حرز منها قطعت
قال المزني هذا عندي أقيس
قال أبو عمر تحصيل مذهب الشافعي عند أصحابه ان لا قطع على عبد رجل سرق من [متاع] مال امرأة سيده ولا عبد امرأة سرق من مال زوج سيدته
وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وسليمان وقالوا لا قطع على رجل سرق في ما سرق من مال زوجته وعلى امرأة سرقت في ما سرقت من مال زوجها
وقال أبو ثور في ذلك كله بقول مالك
وقال مالك يقطع الولد إذا سرق من مال والديه ولا يقطع الأبوان مما سرقا من ولدهما
وقال الشافعي لا يقطع من سرق من مال ولده ولا ولد ولده ولا من مال
559
أبيه وأمه وأجداده من قبل أيهما كان ويقطع في من سواهم من القرابات
وقال الشافعي في طنبور ولا مزمار ولا خمر ولا خنزير
وهو قول احمد وإسحاق
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يقطع من سرق من مال ذي رحم محرمة منه مثل الخالة والعمة ومن كان مثلهما
وقال أبو ثور يقطع كل من سرق الا ان يجمعوا على أحد فيسلموا للاجماع
قال مالك (1) في الصبي الصغير والأعجمي الذي لا يفصح انهما إذا سرقا من حرزهما أو غلقهما فعلى من سرقهما القطع وان خرجا من حرزهما وغلقهما فليس على من سرقهما قطع
قال وانما هما بمنزلة حريسة الجبل والثمر المعلق
قال أبو عمر يأتي القول في الثمر المعلق وغير المعلق في الباب بعد هذا إن شاء الله عز وجل عند قول رسول الله (لا قطع في ثمر ولا كثر) إن شاء الله عز وجل
واما الحريسة فقال أبو عبيد تفسر تفسيرين
فبعضهم يجعلها السرقة بعينها يقول حرس يحرس حرسا إذا سرق فيكون المعنى ان ما سرق من الماشية بالجبل قطع حتى ياويها المراح
قال والتفسير الاخر أن تكون الحريسة هي المحروسة فيقول
ليس فيما يحرس في الجبل قطع لأنه ليس بموضع حرز وان سرق
قال أبو عمر قد اختلف الفقهاء في الصبي المملوك والأعجمي اللذين لا يعقلان يسرقان من حرزهما فقال جمهور الفقهاء يقطع من سرقهما أو أحدهما
وهذا قول مالك والثوري والشافعي وأبي حنيفة واحمد وإسحاق وأبي ثور
وروي ذلك عن الحسن والشعبي وبن شهاب الزهري هذا كله إذا كانا لا يعقلان ولا يميزان فان ميزا وعقلا فلا قطع على من سرقهما عند الكوفيين
واما اختلافهم في الصبي الصغير الحر
560
فقال مالك وأصحابه يقطع سارقه
وهو قول إسحاق
وروي ذلك عن الحسن والشعبي
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري لا يقطع سارق الصبي الحر لأنه ليس بمال
وبه قال احمد وأبو ثور
وحكاه أبو ثور عن الشافعي
وهو قول عبد الملك بن الماجشون
قال مالك والامر عندنا في الذي ينبش القبور انه إذا بلغ ما اخرج من القبر ما يجب فيه القطع فعليه فيه القطع
وقال مالك (1) وذلك أن القبر حرز لما فيه كما أن البيوت حرز لما فيها
قال ولا يجب عليه القطع حتى يخرج به من القبر
قال أبو عمر الاختلاف في قطع النباش إذا اخرج من القبر ما يبلغ المقدار المقطوع فيه السارق على ما أصفه لك
اما الجمهور من الفقهاء والتابعين فيرون قطعه منهم مالك والشافعي وأصحابهما
وبه قال إسحاق وأبو ثور
وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي والشعبي وقتادة وحماد بن أبي سليمان ورواية عن عمر بن عبد العزيز
وقال احمد هو أهل ان يقطع
وروي عن عبد الله بن الزبير انه قطع نباشا
أخبرنا أحمد بن عبد الله قال حدثني أحمد بن مخلد قال حدثني أبي قال حدثني علي بن عبد العزيز قال حدثني حجاج قال حدثني هشيم عن سهيل بن ذكوان قال شاهدت عبد الله بن الزبير قطع نباشا
وروي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ان النباش كالمحارب
وكان سفيان الثوري [وأبو حنيفة وأصحابه] لا يرون على النباش قطعا
561
وروي ذلك عن زيد بن ثابت ومروان بن الحكم
وافتى به بن شهاب الزهري
قال أبو عمر احتج من رأى قطع النباش بقول الله عز وجل * (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا) * [المرسلات 25 26] وان النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتا وليس في هذا كله ما يوجب التسليم له الا ان النفس أشد سكونا إلى قول الأكثر من أهل العلم
وقد روي عن عبيد الله بن زياد انه صلب نباشا وليس في عبيد الله بن زياد أسوة ولا في أبيه قبله
ومن حجة من رأى الا قطع على النباش لان الميت لا يصح له ملك وانما يجب القطع على من سرق من ملك مالك وبالله التوفيق
((11 - باب ما لا قطع فيه))
1556 - مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان ان عبدا سرق وديا (1) من حائط رجل فغرسه في حائط سيده فخرج صاحب الودي يلتمس ودية فوجده فاستعدى على العبد مروان بن الحكم فسجن مروان العبد وأراد قطع يده فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك فأخبره انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا قطع في ثمر ولا كثر) والكثر الجمار (2) فقال الرجل فان مروان بن الحكم اخذ غلاما لي وهو يريد قطعه وانا أحب ان تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم فقال اخذت غلاما لهذا فقال نعم فقال فما أنت صانع به قال أردت قطع يده فقال له رافع سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا قطع في ثمر ولا كثر) فامر مروان بالعبد فأرسل
562
قال أبو عمر قد ذكرنا الاختلاف في اسناد هذا الحديث في (التمهيد) وذكرنا طرقه واختلاف الناقلين لها فمنها مرسل منقطع ومنها ما يستند من وجه ويتصل وهو حديث لا يطابق متنه ولفظه المعنى الذي خرج عليه لان المسروق كان وديا والودي الفصيل وهو النخلة الصغيرة كالنقل من شجر التين وغيرها قلعة الذي سرقه وغرسه في حائط سيده
والثمر المعلق ما كان من الثمار في رؤوس الأشجار لم يجذه ربه ولم ياويه صاحبه إلى جرين ولا بيدر ولا جودان ولا اندر ولا مربد وانما قائم يتعلق من الأشجار والكثر
قال أبو عبيد وغيره هو جمار النخل في كلام الأنصار وهو يؤكل عندهم كما تؤكل الثمار والودي ليس كذلك
واختلف الفقهاء فيمن سرق شجرة مقلوعة أو غير مقلوعة
واختلفوا أيضا فيما يؤكل من الثمار رطبا وفي ما يكون من الحيطان لاشجارها وثمارها فنورد من ذلك ما حضرنا ذكره وبالله عز وجل توفيقنا
قال مالك لا قطع في النخلة الصغيرة ولا الكبيرة إذا قلعها من موضعها
واختلف أصحابه في الشجرة [تقلع] وتوضع في الأرض فقال بعضهم وضعها في الأرض حرز لها إذا كان في موضع محروز والله أعلم
وقال بعضهم لا قطع فيها على حال ولم يختلفوا في من [قلع] شيئا من البقول القائمة والشجر القائمة انه لا قطع على سارقها كما لا قطع في الثمر المعلق حتى ياويه الجرين ولا في حريسه الجبل من الماشية كلها حتى ياويها المراح والجرين
والمراح والجرين حرز على ما يسرق منه لمن سرق منه وفيه ما يوجب القطع
واما الشافعي فقال الأصل انه لا قطع على من سرق من غير حرز
والجرين حرز لما فيه والمراح حرز لما يحويه من الغنم
قال والذي تعرفه العامة بالحجاز ان الجرين حرز والحائط ليس بحرز
قال والحوائط ليست بحرز للنخل ولا للثمر لان أكثرها مباح يدخل من جوانبها فمن سرق من حائط شيئا من الثمر المعلق لم يقطع وإذا أواه الجرين قطع سارقه إذا بلغت قيمته ربع دينار
قال الشافعي قال مالك في الأترجة التي قطع فيها عثمان رضي الله عنه كانت أترجة تؤكل
563
قال الشافعي وفي ذلك دليل على قطع من سرق الرطب من طعام أو غيره إذا بلغت سرقته ربع دينار
واما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا لا قطع في سرقة ثمر من رؤوس النخل ولا في حنطة إذا كانت سنبلا في سنبلتها ولا في ثمر ولا في كثر فإذا احرز الثمر وجعل في حظيرة وأغلق باب كان على من سرق منه ما بلغ عشرة دراهم القطع
[قالوا ولا] قطع على من سرق ما يفسد من الفاكهة واللحم والطعام الذي هو كذلك وان غلت قيمته ولا قطع في شيء من الخشب الا في الساج وحده فمن سرق منه ما يساوي عشرة دراهم قطع
قال أبو يوسف في (الاملاء) القثاء مثل الساج يقطع سارقه
وهو قول الثوري فيما لا بقاء له من الفاكهة كقول أبي حنيفة ولهم في باب ما لا قطع فيه أقوال ضعيفة جدا
وانما ذكرنا في هذا الباب ما يؤكل من الثمار وذكرنا من الخشب لما جرى في الحديث المذكور فيه منها
ولم نتعرض لغير ذلك خشية الإطالة لان كتابنا هذا [كتاب] (أصول الفقه) لم يوضع لفروعه لأنها لا تحصى الا بمعرفة أصولها والله [ولي العون والتوفيق لا شريك له]
1557 - مالك عن بن شهاب عن السائب بن يزيد ان عبد الله بن عمرو بن الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب فقال له اقطع يد غلامي هذا فإنه سرق فقال عمر
ماذا سرق فقال سرق مراة لامراتي ثمنها ستون درهما فقال عمر ارسله فليس عليه قطع (خادمكم سرق متاعكم)
قال أبو عمر قد تقدم القول في [هذا المعنى] في الباب قبل هذا وهو يشهد بان العبد [لا قطع عليه] في مال زوج سيده ولا معنى لقول من اعتل فيه بالحرز لأنه لا يقطع عندهم أحد سرق من غير حرز عبد ولا حر
ويدل هذا على أن ما لم يقطع فيه بالسيد لم يقطع فيه غلامه فلما كان السيد لا يقطع في مال امرأته لأنه خائن ففعل ذلك كان عبده كذلك والله أعلم
564
وقد ذكرنا من قال بهذا القول ومن خالف فيه من العلماء في الباب قبل هذا والحمد لله كثيرا
وقد قال مالك رحمه الله فيما ذكر بن عبد الحكم عنه من ادخل رجلا منزله فعمد إلى تابوت في البيت صغير أو كبير فدقه فاخذ ما فيه فلا قطع عليه
قال وكذلك إذا عمد إلى خزانة مغلقة فكسرها واخذ ما فيها فلا قطع عليه
ومن أغلق حانوته ورفع مفاتحه إلى أجير له فخالفه إليه فسرق منه فلا قطع عليه
قال أبو عمر الغلام السارق من متاع امرأة سيده وهو معهما في دار واحدة أولى بهذا الحكم لأنه كله خيانة لا سرقة والله أعلم
وفي هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه مالك من أن السيد لا يقطع عبده في السرقة ولو كان ما احتاج بن الحضرمي الا لسلطان في قطع غلامه
1558 - مالك عن بن شهاب ان مروان بن الحكم اتي بانسان قد اختلس متاعا فأراد قطع يده فأرسل إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك فقال زيد بن ثابت ليس في الخلسة قطع
قال أبو عمر رواه معمر عن الزهري قال اختلس رجل متاعا فأراد مروان ان يقطع يده فقال له زيد بن ثابت تلك الخلسة الظاهرة لا قطع فيها
قال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن علي رضي الله عنه انه سئل عن الخلسة فقال تلك الدعرة المعلنة لا قطع فيها
[قال أبو عمر] اجمع أهل العلم على أن الخلسة لا قطع فيها ولا في الخيانة ولا اعلم أحدا أوجب في الخلسة القطع الا اياس بن معاوية وسائر أهل العلم لا يرون فيها قطعا
وقد روى بن جريج عن أبي الزبير عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على الخائن قطع ولا على المختلس قطع
565
وقد روى بن المبارك عن سفيان عن إسماعيل عن الحسن ان علي بن أبي طالب اتي في الخلسة فقال تلك المعلنة لا قطع فيها
وروى سعيد عن قتادة عن خلاس ان عليا كان لا يقطع في الخلسة
واجمعوا انه ليس على الغاصب ولا على المكابر الغالب قطع الا ان يكون قاطع طريق شاهرا بالسلاح على المسلمين مخيفا للسبل فحكمه ما تقدم ذكره في المحاربين
1559 - واما حديث [مالك] في هذا الباب عن يحيى بن سعيد أنه قال أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم انه اخذ نبطيا قد سرق خواتم من حديد فحبسه ليقطع يده فأرسلت إليه عمرة بنت عبد الرحمن مولاة لها يقال لها أمية قال أبو بكر فجاءتني وانا بين ظهراني الناس فقالت تقول لك خالتك عمرة يا بن أختي اخذت نبطيا في شيء يسير ذكر لي فأردت قطع يده قلت نعم قالت فان عمرة تقول لك لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا قال أبو بكر فأرسلت النبطي
وهذا المعنى قد مضى في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله
قال مالك (1) والامر المجتمع عليه عندنا في اعتراف العبيد انه من اعترف منهم على نفسه بشيء يقع الحد والعقوبة فيه في جسده فان اعترافه جائز عليه ولا يتهم ان يوقع على نفسه هذا
قال مالك واما من اعترف منهم بأمر يكون غرما على سيده فان اعترافه غير جائز على سيده
قال أبو عمر قول مالك هذا في اقرار العبيد بما يوجب الحد عليهم والعقوبة في أبدانهم انهم يؤخذون به
وهو قول جمهور الفقهاء [الشافعي] وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وعثمان البتي والحسن بن حي
وقال زفر بن الهذيل لا يجوز اقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده إذا اكذبه مولاه
566
قال أبو عمر قول زفر هذا هو قول شريح والشعبي وقتادة وعطاء وعمرو بن دينار وسليمان بن موسى وأبي الضحى
ذكر ذلك كله عنهم بالأسانيد عبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة
وقال أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون عن أبي مالك الأشجعي قال حدثني أهل هرمز والخبر عن هرمز انه اتى عليا فقال إني أصبت حدا فقال تب إلى الله عز وجل واستتر [بستر الله] قال يا أمير المؤمنين طهرني قال قم قنبر فاضربه الحد وليكن هو يعد لنفسه فإذا نهاك فانته وكان مملوكا
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي مالك الأشجعي عن أشياخ لهم ان عبدا لاشجع يقال له أبو حليمة اعترف بالزنى عند علي رضوان الله عليه اربع مرات فأقام عليه الحد
وروى أبو الزناد عن عبد الله بن عامر ان أبا بكر قطع يد عبد سرق
قال أبو عمر الجلد لا ينقص المولى منفعة ولا ثمنا وليس كالقتل وقطع اليد واما قوله إذا نهاك فانته فهذا شأن كل مقر على نفسه الا يقام عليه الحد إذا نزع ولو بقي من الحد سوط واحد عند جمهور العلماء
وقد ذكرنا الاختلاف [في ذلك] في ما مضى
وذكر الطحاوي عن علي ان عبدا أقر عنده بالسرقة مرتين فقطع يده
وذكر بن المبارك عن سفيان وعن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاعترف عنده بالسرقة فطرده ثم اتاه الثانية فاعترف عنده فقال علي شهدت على نفسك مرتين فقطعه قال فرأيت يده معلقة في عنقه
ذكر الطحاوي ان الرجل كان عبدا وليس ذلك في الحديث
وذكر عبد الرزاق [عن الثوري] عن مغيرة عن إبراهيم قال ما اعترف العبد في شيء يقام عليه في جسده فإنه لا يتهم في جسده وما اعترف به من شيء يخرجه عن مولاه فلا يجوز اعترافه
وأخبرنا معمر عن قتادة قال لا يجوز اعتراف [العبد الا في سرقة أو زنى
قال وأخبرنا معمر عن الزهري قال كان ممن مضى يجيز اعتراف] العبيد على أنفسهم حتى اتهمت القضاة العبيد انهم انما يفعلون ذلك كراهة لساداتهم وفرارا منهم فاتهموهم في بعض الأمور التي تشكل
567
قال وأخبرنا بن جريج عن سليمان بن موسى قال لا يجوز اعتراف العبيد الا في الحدود
فالرواية الأولى ذكرها أبو بكر قال حدثني أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن بن جريج عن سليمان بن موسى قال لا يجوز اعتراف العبيد الا ببينة
وقال أبو بكر حدثني هشيم عن أبي حرة عن الحسن قال يجوز اقرار العبد فيما أقر به من حد وما أقر به مما يذهب رقبته فلا
قال وحدثني هشيم عن مغيرة عن إبراهيم مثله
قال أبو عمر رواية الثوري عن مغيرة عن إبراهيم أصح
قال مالك (1) ليس على الأجير ولا على الرجل يكونان مع القوم يخدمانهم ان سرقاهم قطع لان حالهما ليست بحال السارق وانما حالهما حال الخائن وليس على الخائن قطع
قال أبو عمر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليس على الخائن ولا على المختلس قطع) (2)
واجمع علماء المسلمين انه ليس على الخائن قطع وكفى بهذا
وذكر عبد الرزاق عن بن جريج انه اخبره عن أبي الزبير عن جابر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس على المختلس ولا على الخائن قطع)
قال عبد الرزاق وأخبرنا ياسين الزيات عن أبي الزبير عن جابر قال ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع
قال قلت اعن النبي صلى الله عليه وسلم [قال ليس على الخائن ولا على المختلس قطع] قال فعن من
وذكر أبو داود هذا الحديث قال حدثني نصر بن علي قال حدثني عيسى بن يونس عن بن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على الخائن ولا على المختلس قطع)
قال أبو داود بلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال لم يسمع بن جريج هذا الحديث من أبي الزبير وانما سمعه من ياسين الزيات
قال أبو داود وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
568
قال مالك (1) في الذي يستعير العارية فيجحدها انه ليس عليه قطع وانما مثل ذلك مثل رجل كان له على رجل دين فجحده ذلك فليس عليه فيما جحده قطع
قال أبو عمر جمهور الفقهاء على ما قاله مالك في المستعير الجاحد انه لا قطع عليه
وهو قول [أهل] الحجاز والعراق و [أهل] الشام ومصر
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق يقطع
قال احمد لا اعلم شيئا يدفع حديث عائشة في ذلك
قال أبو عمر [احتج من قال بهذا] الحديث رواه معمر ذكره عبد الرزاق وغيره عن معمر انه أخبرهم عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فاتى أهلها اسامة فكلموه فكلم اسامة النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (يا اسامة الا أراك تتكلم في حد من حدود الله عز وجل) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وان سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)
فقطع يد المخزومية (2)
[قال أبو عمر] احتج [من قال] بهذا الحديث بما فيه من قوله كانت تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها
قالوا فالظاهر أنه لم يقطع يدها الا لأنها كانت تستعير المتاع وتجحده
قالوا [قد تابعه معمر على ما ذكرناه من ذلك بن أخي الزهري وغيره وحسبك بمعمر في الزهري
قالوا] وقد رواه عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد ان امرأة كانت تستعير المتاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجحده ولا ترده فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم [بقطعها]
[ورواه معمر] عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال كانت امرأة مخزومية تستعير [متاعا] على جارتها وتجحده فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها
قال أبو عمر من تدبر هذا الحديث علم أنه لم يقطع يدها الا لأنها سرقت
569
لقوله صلى الله عليه وسلم فيه لاسامة (الا أراك تتكلم في حد من حدود الله عز وجل)
وليس لله عز وجل في كتابه ولا في المعروف من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم حد من حدوده فيمن استعار المتاع وجحده
ودليل اخر من الحدود من حديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه)
وهذا يدل على أنه انما قطعها لسرقتها لا لأنها كانت تستعير المتاع وتجحده ولو كان ذلك لقال صلى الله عليه وسلم انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا إذا استعار فيهم الشريف من المتاع وجحده تركوه
هذا ما ظهر إلى من ظاهر لفظ هذا الحديث الذي احتج به من رأى قطع المستعير الجاحد
وقد روى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري باسناده وقال فيه ان المخزومية سرقت وقال في اخره (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)
وهذا كله يوضح ان القطع انما كان من اجل السرقة لا من اجل جحد العارية من المتاع
ويحتمل - والله تعالى اعلم - ان تلك القرشية المخزومية كان من شأنها استعارة المتاع وجحده [فعرفت بذلك] ثم إنها سرقت فقيل المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها يعنون في السرقة - والله أعلم
حدثني عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن اصبغ قال حدثني عبيد الله بن يحيى قراءة عليه عن أبيه يحيى بن يحيى عن الليث بن سعد عن بن شهاب عن عروة عن عائشة ان قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت قالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ومن يجترئ عليه الا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه اسامة فقال صلى الله عليه وسلم (أتشفع في حد من حدود الله عز وجل) ثم قام خطيبا فقال (انما هلك من كان قبلكم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
570
وكذلك رواه أيوب بن موسى [ويونس بن يزيد] عن الزهري
[وذكره أبو عبد الرحمن النسائي قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثني أيوب عن يوسف بن موسى عن الزهري] عن عروة عن عائشة ان امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [في غزوة الفتح فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم] فكلمه فيها أسامة بن زيد وذكر الحديث بمعنى حديث الليث سواء
وقد حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني مطلب قراءة عليه قال حدثني عبد الله بن صالح قال حدثني الليث قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانه ان خالته ابنة مسعود بن العجماء حدثته ان أباها قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المخزومية التي سرقت قطيفة
وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم قالا حدثني بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني بن نمير قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة بن ركانة عن أمه عن عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها مسعود قال لما سرقت المراة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك وكانت المراة من قريش فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه فيها فقلنا نحن نفديها بأربعين أوقية قال (تطهر خير لها) فلما سمعنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتينا أسامة بن زيد فقلنا كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المراة نحن نفديها بأربعين أوقية فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قام خطيبا فقال (يا أيها الناس ما اجتراكم علي في حد من حدود الله تعالى وقع على أمة من إماء الله عز وجل والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت رسول الله نزل بها الذي نزل بهذه لقطع محمد يدها)
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراة المخزومية انما قطعت للسرقة لا لاستعارة المتاع وبالله التوفيق
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا في السارق يوجد في البيت قد جمع المتاع لم يخرج به انه ليس عليه قطع وانما مثل ذلك كمثل رجل وضع بين يديه خمرا ليشربها فلم يفعل فليس عليه حد ومثل ذلك رجل جلس من امرأة مجلسا وهو يريد ان يصيبها حراما فلم يفعل ولم يبلغ ذلك منها فليس عليه أيضا في ذلك حد
571
قال أبو عمر هذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف
وبه قال أئمة الفتوى بالامصار وأصحابهم إلى اليوم وذلك دليل على مراعاتهم الحرز وانه لا قطع الا على من سرق من حرز
والخلاف في هذا شذوذ لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه وهو الصحيح عن أحمد بن حنبل انه ذهب إليه
ونحن نذكر ما في كتاب عبد الرزاق بن همام وأبي بكر عبد الله بن أبي شيبة في ذلك لنرى ما عليه في ذلك جمهور العلماء إن شاء الله عز وجل
قال عبد الرزاق وأخبرنا بن جريج قال قلت لعطاء السارق يوجد في البيت وقد جمع المتاع ولم يخرج به قال لا قطع عليه حتى يخرج به
قال بن جريج وقال لي عمرو بن دينار لا قطع عليه [حتى يخرج به]
قال بن جريج واخبرني سليمان بن موسى ان عثمان قضى انه لا قطع عليه [حتى يخرج به وان كان قد جمعه]
قال بن جريج واخبرني عمرو بن شعيب ان بن الزبير أراد قطعه فقال له بن عمر لا قطع عليه حتى يخرج بالمتاع من البيت وقال له بن عمر أرأيت لو أن رجلا وجد بين رجلي امرأة لم يصيبها أكنت تحده قال لا لعله سوف ينزع - قبل ان يوقعها قال وهذا كذلك ما يدريك لعله كان نازعا تائبا وتاركا للمتاع
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال إذا وجد السارق في البيت قد جمع المتاع ولم يخرج به فلا قطع عليه ولكن ينكل
قال معمر وقال قتادة هو رجل أراد ان يسرق فلم يدعوه
قال وأخبرنا الثوري عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال لا يقطع السارق حتى يخرج بالمتاع من البيت
قال وأخبرنا الثوري عن يونس عن الحسن مثل قول الشعبي
وروي ذلك عن علي رضي الله عنه [من حديث حصين عن الشعبي] ومن حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه
ومن حديث حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي
وكتب فيه عمر بن عبد العزيز ان ينكل ويسجن ولا يقطع
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني وكيع عن بن جريج عن
572
سليمان بن موسى عن عثمان قال ليس عليه قطع حتى يخرج من البيت بالمتاع
قال وأخبرنا وكيع عن بن جريج عن عمرو بن شعيب عن بن عمر قال ليس عليه قطع حتى يخرج بالمتاع
قال وحدثني حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات وعن عمر بن عبد العزيز قال لا يقطع حتى يخرج بالمتاع من البيت
قال وأخبرنا أبو معاوية عن عاصم عن الشعبي انه سئل [عن رجل] سرق سرقة ثم [كورها] فأدرك قبل ان يخرج من البيت قال ليس عليه قطع
[قال وحدثني] علي بن مسهر عن زكريا عن الشعبي مثله
قال وحدثني محمد بن بكر قال حدثني بن جريج قال قلت لعطاء يوجد السارق وقد اخذ المتاع وجمعه في البيت قال لا قطع عليه حتى يخرج به من البيت زعموا
قال وقال عمرو بن دينار ما أرى عليه قطعا
قال وحدثني يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن حميد ان عمر بن عبد العزيز كتب في سارق لا يقطع حتى يخرج بالمتاع من الدار لعله تعرض له توبة قبل ان يخرج من الدار
قال أبو عمر لا اعلم لمن لم يعتبر الحرز متعلقا بأحد من الصحابة رضي الله عنهم الا ما روي عن عائشة رضي الله عنها
ذكره أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال بلغ عائشة انهم يقولون إذا لم يخرج بالمتاع من البيت لم يقطع فقالت لو لم أجد الا سكينا لقطعته [إذا لم يخرج]
قال مالك (1) الامر المجتمع عليه عندنا انه ليس في الخلسة قطع بلغ ثمنها ما يقطع فيه أو لم يبلغ
قال أبو عمر هذا كما ذكره مالك امر مجتمع عليه لا خلاف فيه وقد مضى القول في الخلسة في ما تقدم من هذا الكتاب فلا وجه لإعادته وبالله التوفيق
573