الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: 1
الوفاة: 630
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: 1386 - 1966م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:
الكامل في التاريخ
1

مقدمة 1
الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد الأول
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه‍ _ 1965 م

مقدمة 3
بسم الله الرحمن الرحيم
نقدم لقراء لغتنا العربية الكرام هذه الطبعة الجديدة لكتاب " الكامل
في التاريخ " تأليف عز الدين ابن الأثير الجزري، هذا الكتاب الذي عز
وجوده بعد نفاد نسخ الطبعة الأوروبية التي نشرت ما بين سني 1851
و 1871 م. في اثني عشر جزءا بإشراف المستشرق كارلوس يوهنس تورنبرغ
الذي عاونه فريق من العلماء في نشرها، مع مجلد للفهارس مضافا إليه
استدراكات لما تفترق فيه بعض النسخ عن بعض، مع كثير من التصحيحات،
وكتيب ببنت فيه فوارق النسخ، تصويبات لما في الجزئين الحادي
عشر والثاني عشر من هفوات.
وقد اعتمد في إصدار الطبعة الأوروبية على عدة مخطوطات، منها:
مخطوطات باريس، وبرلين، والمتحف البريطاني، الأستانة، ومخطوط
شفري وراولنسن، فجاءت أفضل طبعة محققة لهذا التاريخ العظيم القيمة،
أثبت في أسفل صفحاتها ما افترقت به المخطوطات التي اعتمدها المحققون.
وعلى اعترافنا بفضل هؤلاء العلماء، وبما بذلوه من عظيم الجهد في
نشر هذا التاريخ، فإن طبعته لم تخل من هفوات كثيرة ربما رجع أكثرها
إلى خطأ الناسخين، أو إلى رداءة خطوط المخطوطات.
وإننا عندما فكرنا في مباشرة إعداد هذه الطبعة، عازمين على المحافظة

مقدمة 5
على التحقيقات التي أثبتت في الكتاب، رأينا أن علينا في أول الأمر تصحيح
ما جاء من التصويبات، والاستدراكات، والهفوات التي ذكرت فيه نهاية
كل مجلد، ثم إثبات فروق نسخ المجلدين الحادي عشر والثاني عشر في
مواضعها، مع ذكر التصويبات، وفروق النسخ في مجلد الفهارس.
وقد رجعنا، لتكون طبعتنا هذه وفروق النسخ في مجلد الفهارس.
وقد رجعنا، لتكون طبعتنا هذه فائقة سابقتها في الجودة والصحة،
إلى مختلف أمهات الكتب في مقابلتنا بين الحوادث، وأسماء الاشخاص
والأماكن، وتصحيح ما وجدنا فيها من الخطأ، ومن هذه الأمهات: تاريخ
الطبري، وتاريخ اليعقوبي، والطبقات الكبرى لابن سعد، والسيرة لابن
هشام، ومعجم البلدان لياقوت، والأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، والعقد
الفريد لابن عبد ربه، وصحيح البخاري، والقاموس المحيط للفيروزابادي،
ولسان العرب لابن منظور. ومجموعة دواوين العرب، والاعلام للزركلي،
وغيرها.
وقد حافظنا على طابع النسخة الأوروبية، فأشرنا إلى جميع ما أثبتنا
من الزيادات، أو التصحيحات، أو التوضيحات، أو الشروح. وضبطنا
الآيات القرآنية الكريمة بالشكل الكامل ووضعناها بين هلالين، وأشرنا
إلى رقمها ورقم الآية، ذاك لأن بعض الآيات كان مختلطا بالنص التاريخ
فلا يدرك القارئ أين تبتدىء الآية وأين تنتهي. وقد صححنا كذلك
بعض أرقام السور التي أخطىء بها في النسخة الأوروبية.
ووضعنا في المتن بين معقوفين [] ما رأينا ضرورة زيادته إتماما
للمعنى، أو توضيحا له.
وجعلنا كذلك في الهامش بين قوسين شروح المفردات التي اقتضى
شرحها وبعض التوضيحات. وقسمنا الفصول الطويلة إلى فقرات تسهيلا
للمطالعة. وعثرنا في إنشاء الكتاب على أخطاء صرفية ونحوية،

مقدمة 6
فصححناها دون أن نشير إليها. على أننا أشرنا إلى ما صححناه من
الأشياء التي يتغير المعنى بتصحيحها.
وقد وجدنا اختلافا بين كثير مما ذكر في هذا الكتاب من أسماء
للأشخاص والأماكن وما ذكر منها في أمهات الكتب، فأشرنا إلى بعضها
في الهامش، وصوبنا في المتن ما رأينا إجماع الأمهات على الاتفاق عليه.
وكذلك شأننا في الكلمات المحرفة التي توصلنا إلى تصحيحها. ووجدنا بعض
ما روي من القصائد محرفا تحريفا شوه القصيدة وأضاع معناها وأفسد وزنها.
فرجعنا إلى الروايات الصحيحة التي عثرنا عليها فأثبتناها في المتن، ووضعنا في
أسفل الصفحة الكلمة الأصلية أو الرواية المحرفة.
وإننا نترك للقارئ الكريم أن يأخذ بما أثبتنا من تصويبات في المتن
أو أن يرجع إلى الرواية الأصلية المثبتة في أسفل الصحفة.
هذا ونرجو أن نكون قد وفقنا في محاولتنا القيام بهذا العمل الصعب،
خدمة للغتنا العربية الشريفة، وأن يعذرنا القارئ الكريم إذا وجد أننا لم
نوفق كل التوفيق في جميع ما سعينا إليه، وما توخيناه من الاتقان. وإن
لنا خير شفيع من حسن نيتنا في سعينا المجهد لنجعل هذه الطبعة من
أفضل ما يمكن عمله لتكون معوانا للباحثين والمؤرخين والأدباء.
دار صادر _ دار بيروت

مقدمة 7
عز الدين ابن الأثير
555 - 630 ه‍ 1160 - 1232 م
عو علي بن محمد الشيباني، كنيته أبو الحسن، ولقبه عز الدين،
ويعرف بابن الأثير الجزري، نسبة إلى جزيرة ابن عمر.
وهو ثالث ثلاثة إخوة عرف كل واحد منهم بناحية من العلوم،
فألف كبيرهم مجد الدين في الحديث النبوي، وله فيه كتابان: " جامع
الأصول في أحاديث الرسول " و " النهاية في غريب الحديث ". وتعاطى
صغيرهم ضياء الدين نصر الله الأدب فبرع فيه، وله عدة مؤلفات، أشهرها:
" المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ". وانصرف أوسطهم عز الدين إلى
التاريخ، وأشهر ما كتبه فيه كتابه الذي سماه: " الكامل في التاريخ "
وهو الكتاب الذي نحن بصدده.

مقدمة 9
حياته
ولد عز الدين في جزيرة ابن عمر في رابع جمادى الأولى سنة 555 ه‍
1160 م، في بيت وجاهة وثراء، فقد كان أبوه محمد متوليا ديوان
المدينة من قبل قطب الدين مردود بن زنكي صاحب الموصل، وكان مع
ذلك يملك في قرية العقيمة، وهي قبالة جزيرة ابن عمر من الجانب الشرقي،
عدة بساتين، وكانت له تجارة بين الموصل والشام، عن طريق بحر الشام،
نهبها الفرنج مرة سنة 567 ه‍ 1171 م، واستولوا على مركبين مملوئين
بالأمتعة.
ثم انتقل عز الدين مع أبيه وأخويه إلى الموصل، وهناك سمع من أبي
الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي، ومن في طبقته.
ويقول ابن خلكان: " إنه قدم بغداد مرارا حاجا ورسولا من
صاحب الموصل، وسمع بها من الشيخين أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه
الشافعي، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي وغيرهما، ثم رحل
إلى الشام والقدس وسمع هناك من جماعة، ثم عاد إلى الموصل ".
ولم يكن عز الدين عالما في التاريخ يحفظ التواريخ المتقدمة والمتأخرة
حسب، وإنما كان أيضا إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به،
خبيرا بأنساب العرب، وأيامهم، ووقائعهم، وأخبارهم، له منزلة
رفيعة عند ذوي السلطان والناس، اشتهر بفضائله وكرم أخلاقه وتواضعه.
قال ابن خلكان: " ولما وصلت إلى حلب في أواخر سنة 626 ه‍ 1228 م
كان (أي عز الدين) مقيما بها في صورة الضيف عند الطواشي شهاب
الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز ابن الملك الظاهر صاحب حلب.
وكان الطواشي كثير الإقبال عليه، حسن الاعتقاد فيه، مكرما له، فاجتمعت

مقدمة 10
به فوجدته رجلا مكملا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع، فلازمت
الترداد إليه، وكان بينه وبين الوالد، رحمه الله، مؤانسة أكيدة، فكان
بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام، ثم سافر إلى دمشق في أثناء سنة 627 ه‍
1229 م. ثم عاد إلى حلب سنة 628 ه‍ 1230 م فجريت معه على عادة
الترداد والملازمة، وأقام قليلا، ثم توجه إلى الموصل ".
ويدلنا كلام ابن خلكان هذا على أن عزل الدين كان كثير التنقل بين
الموصل وبغداد ودمشق والقدس وحلب وأنه كان يتلقى في كل بلد نزله
العلم والحديث، عن علمائه، وقرائه، وفقهائه، ومحدثيه ونحاته،
فحصلت له بذلك ثقافة شاملة في العلوم الإسلامية، وفي التاريخ والنحو.
غير أنه في سنواته الأخيرة لزم بيته في الموصل على حد قول ابن خلكان،
وانقطع إلى التوفر على النظر في العلم والتصنيف، وكان بيته مجمع الفضل
لأهل الموصل والواردين عليها.
فظلت هكذا حاله إلى أن توفاه الله في شعبان سنة 630 ه‍ 1232 م،
وهو في الخامسة والسبعين، فد فن في الموصل، ولا يزال قبره معروفا.
مؤلفاته
لعز الدين ابن الأثير مؤلفات عديدة، منها:
" كتاب اللباب في تهذيب الأنساب " وهو مختصر لكتاب الأنساب
للسمعاني، على أنه نبه على ما في هذا الكتاب من هفوات، وزاد عليه أشياء
أهملها مؤلفه.
وكتاب " أسد الغابة في معرفة الصحابة ".
و " تاريخ الدولة الأتابكية " التي عاش في ظلها.
و " الكامل في التاريخ " وهو ما نحصر كلامنا فيه.

مقدمة 11
الكامل في التاريخ
هو أشهر كتب عز الدين ابن الأثير، وعليه تقوم شهرته ومنزلته العلمية،
وهو كناية عن تاريخ جامع الاخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، بدأه
منذ أول الزمان، إلى آخر سنة 628 ه‍ 1230 م، أي قبل وفاته بسنتين.
أما سبب وضعه هذا الكتاب، فهو ما بينه في مقدمة بأنه لم يزل محبا
لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، فلما تأملها رآها متباينة في تحصيل
الغرض، فمن بين مطول قد استقصى الطرق والروايات، ومختصر قد أخل بكثير
مما هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلهم العظيم من الحادثان، وسود
كثيرا من الأوراق بصغائر الأعراض، والشرقي منهم قد أخل بذكر أخبار
الغرب، والغربي قد أهمل أحوال الشرق، فكان الطالب إذا أراد أن يطالع
تاريخا متصلا إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة، مع ما
فيها من الإخلاق والإملال، وهذا ما جعله يؤلف تاريخه الجامع لأخبار
ملوك الشرق والغرب وما بينهما ليكون تذكرة له يراجعها خوف النسيان،
وليأتي بالحوادث والكائنات من أول الزمان متتابعة يتلو بعضها بعضا
إلى وقته.
وهو لا يدعي أنه أتى على جميع الحوادث المتعلقة بالتاريخ، فإن
من هو بالموصل لا بد أن يشذ عما هو بأقصى الشرق والغرب، ولكنه
جمع في كتابه هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد.
ورأى المؤرخين الذين تقدموه يأتون بالحادثة الواحدة فيذكرون منها
في كل شهر أشياء، فتأتي متقطعة لا يحصل منها على غرض ولا تفهم
إلا بعد إمعان النظر، فجمع الحادثة في موضع واحد، وذكر كل شيء
منها في أي شهر أو سنة كانت، فأتت متناسقة متتابعة.

مقدمة 12
وبين ما في مطالعة التواريخ من فائدة، فإن الإنسان يحب البقاء ويؤثر
أن يكون في زمرة الأحياء، فإذا قرأ أخبار الماضين فكأنه عاصرهم، وإذا
علمها فكأنه حاضرهم. ثم إن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي، إذا وقفوا
على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان، ونظروا ما أعقبت من سوء
الذكر وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وفساد الأحوال
استقبحوها وأعرضوا عنها واطرحوها.
والكال في التاريخ كسائر التواريخ القديمة، سرد للحوادث والأخبار
بحسب تواريخها. ويعترف صاحبه بأنه نقل عن الطبري، وقد أشار إلى
ذلك في مقدمته فقال إنه أخذ عن التاريخ الكبير لأبي جعفر الطبري، إذ
هو الكتاب المعول عليه، أخذ منه جميع تراجمه، ولم يخل بواحدة منها،
على أنه لم يتبع خطى الطبري في التأليف، فإن الطبري كان يذكر في أكثر
الحوادث روايات عديدة، فقصد ابن الأثير إلى أتمها فنقله وأضاف إليه.
ويدلنا قوله هذا على أنه لم ينقل الحوادث التاريخية على علاتها، وإنما
كان يختار منها ما يراه موافقا لمعقوله ويؤلفه تأليفا جديدا بما يضيف إليه،
وهو إن لم يكن قد سار على أسلوب فلسفة التاريخ في نقده للحوادث وربطه
بين الأسباب والمسببات، وهو أسلوب لم يعرف إلا مع ابن خلدون، فإنه
كان ينقد ما ينقله، ولم يكن ينقل إلا كل ما رآه صوابا، وكان يعرض
عن نقل ما يراه غير موافق للعقل، فعله بما رواه الطبري عن خلق الشمس
والقمر وسيرهما، قال:
" وروى أبو جعفر، ههنا، حديثا طويلا عدة أوراق عن ابن عباس،
عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في خلق الشمس والقمر وسيرهما،
فإنهما على عجلتين لكل عجلة ثلاث مئة وستون عروة يجرها بعددها
من الملائكة، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء

مقدمة 13
والأرض، فذلك كسوفهما، ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من
الكسوف... إلى أشياء أخر لا حاجة إلى ذكرها، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول،
ولو صح إسنادها لذكرناها وقلنا به، ولكن الحديث غير صحيح. ومثل
هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف ".
كما أنه كان إذا مرت به حادثة لم يثبت منها نقدا، شأنه في كلامه على
الدولة الغورية سنة 547 ه‍ 1152 م، وذاك حيث يقول: " وبالجملة فابتداء
دولة الغورية عندي فيه خلف، لو ينكشف الحق أصلحه إن شاء الله ".
فمثل هذه النقدات وإن تكن غير كثيرة، إن هي إلا أوليات لفلسفة
التاريخ، وإن يكن في تعليله لبعض الحوادث ضعف، ونظريات لا يصوبها
النقد التاريخ الحديث، فهو في كلامه مثلا على الدول العربية وغيرها،
وانتقال الملك من مؤسسه إلى غير من هو من صلبه يعلل لذلك بقوله:
" والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكبر ويأخذ
الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به، فلهذا يحرمه الله أعقابه ".
فهذا التعليل غير قوي، وإنما هو يرتكز على الظن لا على أساس متين.
ومن خصائصه أنه كان يضبط في آخر كل سنة أو فصل الأسماء
بالحركات ويقيدها إزالة لكل لبس، كما أنه كان إذا كان ذكر فتح بلد أو
ناحية شرح اسم البلد ولم سمي به، ومم اشتق هذا الاسم.
وإذا كان ابن الأثير قد اعتمد في الأجزاء السبعة الأولى من كتابه على
أبي جعفر الطبري، فذلك لم يمنعه من أن يستمد من مصادر أخرى كابن
الكلبي والمبرد والبلاذري والمسعودي ما ترك الطبري عن قصد أو غير قصد
وذلك مثل أيام العرب قبل الإسلام والوقائع بين قيس وتغلب في القرن
الأول الهجري وغزو العرب السند وغيرها.
فابن الأثير مؤرخ يمتاز بشدة التثبت فيما ينقل، بل قد يسمو أحيانا

مقدمة 14
إلى نقد المصادر التي يستمد منها. وله استدراكات وجيهة على الطبري
والشهرستاني، وغيرهما من العلماء والمؤرخين.
مثال ذلك نقده للشهرستاني: " ومن العجائب أن الشهرستاني مصنف
كتاب نهاية الاقدام في الأصول ومصنف كتاب الملل والنحل في ذكر
المذاهب والآراء القديمة والجديدة، ذكر فيه أنه نسطور كان أيام المأمون،
وهذا تفرد به ولا أعلم له في ذلك موافقا ".
ومهما يكن من أمر فإن الكامل في التاريخ، تاريخ جامع جزيل الفائدة.
لا سيما فيما يتعلق بالحوادث التي مرت في عصر المؤرخ وعايشها. وهذا
ما جعله موردا سائغا يرده من أتى بعد صاحبه من المؤرخين.

مقدمة 15
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القديم فلا أول لوجوده الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده الملك حقا فلا تدرك العقول حقيقة كنهه القادر فكل ما في العالم من أثر قدرته المقدس فلا تقرب الحوادث حماه. المنزه عن التعبير فلا ينجو منه سواه. مصرف الخلائق بين رفع وخفض وبسط وقبض وإبرام ونقص وإماتة وإحياء وإيجاد وإفناء وإسعاد وإضلال وإعزاز وإذلال يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير مبيد القرون السالفة والأمم الخالفة لم يمنعهم منه ما اتخذوه معقلا وحرزا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا بتقديره النفع والضر وله الخق والأمر تبارك الله رب العالمين.

1
أحمده على ما أولى من نعمه وأجزل للناس من قسمه وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم المبعوث إلى جميع الأمم وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظلم وعليهم وسلم.
أما بعد فإني لم أزل محبا لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها مؤثرا للاطلاع على الجلي من حوادثها وخافيها مائلا إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها فلما تأملتها رأيتها متباينة في تحصيل الغرض يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العرض فمن بين مطول قد استقصى الطرق والروايات ومختصر قد أخل بكثير مما هو آت ومع ذلك فقد ترك كلهم العظيم من الحادثات والمشهور من الكائنات. وسود كثير منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى وترك تسطيرها أحرى كقولهم: خلع فلان الذمي صاحب العيار وزاد رطلا في الأسعار وأكرم فلان وأهين فلان، وقد أرخ كل منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه والشرقي منهم قد أخل بذكر أخبار الغرب والغربي قد أهمل أحوال الشرق فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخا احتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان متتابعة يتلو بعضها بعضا إلى وقتنا هذا.
ولا أقول إني أتيت على جميع الحوادث المتعلقة بالتاريخ فإن من هو

2
بالموصل لا بد أن يشذ عنه ما هو بأقصى الشرق والغرب ولكن أقول إني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد ومن تأمله علم صحة ذلك.
فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه فأخذت ما فيه من جميع تراجمه لم أخل بترجمة واحدة منها وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد كل رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها وربما زاد الشيء اليسير أو نقصه فقصدت أتم الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها وأودعت كل شيء مكانه فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقا واحدا على ما تراه.
فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه ووضعت كل شيء منها موضعه إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا إلا ما فيه زيادة بيان أو اسم إنسان أو ما لا يطعن على أحد منهم ف ينقله وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقا الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا.
على اني لم أنقل الا من التواريخ المذكورة والكتب المشهورة ممن يعلم بصدقهم فيما نقلوه وصحة ما دونوه ولم أكن كالخابط في ظلماء

3
الليالي ولا كمن يجمع الحصباء والآلي.
ورأيتهم أيضا يذكرون الحادثة الواحدة في سنسن ويذكرون منها في كل شهر أشياء فتأتي الحادثة مقطعة لا يحصل منها على غرض ولا تفهم الا بعد إمعان النظر فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كل شيء منها في أي شهر أو سنة كانت فأتت متناسقة متتابعة قد أخذ بعضها برقاب بعض.
وذكرت في كل سنة لكل حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصها فأما الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كل شيء ترجمة فإنني أفردت لجميعها ترجمة واحدة في آخر كل سنة فأقول ذكر عدة حوادث وإذا ذكرت بعض من تبع وملك في قطر من البلاد ولم تطل أيامه فإني أذكر جميع حاله من أوله إلى آخره عند ابتداء أمره لأنه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به وذكرت في آخر كل سنة من توفي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللفظ الواردة فيه بالحروف ضبطا يزيل الإشكال ويغني عن النقاط والأشكال.
فلما جمعت أكثره أعرضت عنه مدة طويلة لحوادث تجددت وقواطع توالت وتعددت ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت ثم إن نفرا من إخواني وذوي المعارف والفضائل من خلاني ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري وأعدهم من أماثل مجالسي وسماري رغبوا

4
إلي في أن يسمعوه مني ليرووه فاعتذرت بالإعراض عنه وعدم الفراغ منه فإنني لم أعاود مطالعة مسودته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو ولا أسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو وطالت المراجعة مدة وهم للطلب ملازمون وعن الاعراض معرضون وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه وإثبات ما تمس الحاجة إليه وحذف ما لا بد من اطراحه والعزم على إتمامه فاتر والعجر ظاهر للاشتغال بما لا بد منه لعدم المعين والمظاهر ولهموم توالت ونوائب تتابعت فأنا ملازم الإهمال والتواني فلا أقول إني لأسير اليه سير الشواني.
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمر من طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب من أعلاق الفضل باقباله عليها نافقة وأرواح الجهل باعراضه عنها نافقة من أحيا المكارم وكانت أمواتا وأعادها خلقا جديدا بعد أن كانت رفاتا من عم رعيته عدله ونواله وشملهم إحسانه وإفضاله مولانا مالك الملك الرحيم العالم المؤيد المنصور والمظفر بدر الدين ركن الاسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين خلد الله دولته.
فحينئذ أقيت عني جلباب المهل وأبطلت رداء الكسل وألفت الدواة

5
وأصلحت القلم وقلت هذا أوان الشد فاشتدي زيم وجعلت الفراغ أهم مطلب وإذا أراد الله أمرا هيأ له السبب وشرعت في إتمامه مسابقا ومن العجب ان السكيت يروم أن يجيء سابقا ونصبت نفسي غرضا للسهام وجعلتها مظنة لأقوال اللوام لأن المآخذ إذا كانت تتطرق إلى التصنيف المهذب والاستدراكات تتعلق بالمجموع المرتب الذي تكررت مطالعته وتنقيحه وأجيد تأليفه وتصحيحه فهي بغيره أولى وبه أحرى على أني مقر بالتقصير فلا أقول ان الغلط سهو جرى به القلم بل اعترف بان ما أجهل أكثر مما أعلم.
وقد سميته اسما يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ.
ولقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزدريها ويعرض عنها ويلغيها ظنا منه ان غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره وأصبح مخشلبا جوهره ومن رزقه الله طبعا سليما وهداه صراطا مستقيما علم ان فوائدها كثيرة ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة وها نحن شيئا مما ظهر لنا فيها ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها.
فأما فوائدها الدنيوية فمنها ان الإنسان لا يخفي أنه يحب البقاء ويؤثر أن يكون في زمرة الأحياء فياليت شعري أي فرق بين ما رآه أمس أو

6
سمعه وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين فإذا طالعها فكأنه عاصرهم وإذا علمها فكأنه حاضرهم.
ومنها أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورأوها مدونة في اكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف ونظروا إلى ما أعقبت من سوء الذكر وقبيح الأحدوثة وخراب البلاد وهلاك العباد وذهاب الأموال وفساد الأحوال استقبحوها وأعرضوا عنها واطرحوها وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها وما يتبعها من الذكر الجميل بعد ذهابهم وان بلادهم وممالكهم عمرت وأموالها درت استحسنوا ذلك ورغبوا فيه وثابروا عليه وتركوا ما ينافيه هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء وخلصوا بها من المهالك واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخرا.
ومنها ما يحصل للانسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره فيزداد بذلك عقلا ويصبح لأن يفتدى به أهلا ولقد أحسن القائل حيث يقول.
(رأيت المعقل عقلين * فمطبوع ومسموع)
(فلا ينفع مسموع * إذا لم يك مطبوع)
(كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع)
يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للانسان وبالمسموع

7
ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة وجعله عقلا ثانيا وتعظيما له وإلا فهو زيادة في عقله الأول.
ومنها ما يتجمل به الانسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها ونقل طريفة من طرائفها فترى الاسماع مصغية اليه والوجوه مقبلة عليه: والقلوب متأملة ما يورده ويصدره مستحسنة ما يذكره.
وأما الفوائد الأخروية فمنها ان العاقل اللبيب إذا تفكر فيها ورأى تقلب الدنيا باهلها وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها وأنها سلبت نفوسهم وذخائرهم وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم فلم تبق على جليل ولا حقير ولم يسلم من نكدها غني ولا فقير زهد فيها وأعرض عنها وأقبل على التزود للآخرة منها ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص وسلم أهلها من هذه النقائص ولعل قائلا يقول ما نرى ناظرا فيها زهد في الدنيا وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا فياليت شعري كم رأى هذا القائل قارئا للقرآن العزيز وهو سيد المواعظ وافصح الكلام يطلب به اليسير من هذا الحطام فإن القلوب مولعة بحب العاجل.
ومنها التخلق بالصبر والتأسي وهما من محاسن الأخلاق فإن العاقل إذا رأى ان مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرم ولا ملك معظم بل ولا أحد من البشر علم أنه يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم. شعرا:
(وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وأن ترشد غزية أرشد)

8
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد) فإن ظن هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار فقد تمسك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا هذه أساطير الأولين اكتتبها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلبا عقولا ولسانا صادقا ويوفقنا للسداد في القول والعمل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

9
ذكر الوقت الذي ابتدىء فيه
بعمل التاريخ في الإسلام
قيل لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر بعمل التاريخ.
والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه
يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ فجمع عمر الناس للمشهورة فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبي.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صك محله شعبان فقال: أي شعبان؟ أشعبان الذي هو آت أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه. فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين فقال: هذا يطول فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس فقيل إن الفرس كلما أقام ملك طرح تاريخ من كان قبله فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه عشر سنين فكتبوا للتاريخ من هجرة رسول الله صلى الله

10
عليه وسلم.
وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا فقال عمر: حسن فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا من أي شهر فقالوا من رمضان ثم قالوا فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجمعوا عليه.
وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أي يوم نكتب التاريخ؟
فقال علي: من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراقه أرض الشرك ففعله عمر.
وقال عمرو بن دينار: أول من أرخ يعلى بن أمية وهو باليمن.
واما قبل الاسلام فقد كان بنو إبراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي وأرخوا من موته إلى الفيل.
ثم كان التاريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة.
وقد كان كل طائفة من العرب تؤرخ بالحادثات المشهورة فيها ولم يكن

11
لهم تاريخ يجمعهم وفي ذلك قول بعضهم:
(ها انا ذا آمل الخلود وقد * أدرك عقلي مولدي حجرا)
وقال الجعدي:
(فمن يك سائلا عني فإني * من الشبان أيام الختان)
وقال آخر:
(وما هي إلا في إزار وعلقة * بغار ابن همام على حي خثعما)
وكل واحد أرخ بحادث مشهور عندهم فلو كان لهم تاريخ يجمعهم لم يختلفوا في التاريخ والله أعلم.

12
القول في الزمان
الزمان عبارة عن ساعات الليل والنهار وقد يقال للطويل والقصير منهما والعرب تقول أتيتك زمان الصرام وزمان الصرام يعنى به وقت الصرام وكذلك: أتيتك أزمان الحجاج أمير. ويجمعون الزمان يريدون بذلك أن كل وقت من أوقات إمارته من الأزمنة.
القول في جميع الزمان من أوله إلى آخره
اختلف الناس في ذلك فقال ابن عباس من رواية سعيد بن جبير عنه سبعة آلاف سنة.
وقال وهب بن منبه: ستة آلف سنة قال أبو جعفر: والصحيح من ذلك ما دل على صحته الخبر الذي رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (أجلكم في اجل من قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس).
وروى نحو هذا المعنى أنس وأبو سعيد إلا أنهما قالا إنه قال: إلى غروب الشمس، وبدل صلاة العصر: بعد العصر. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه

13
وسلم، انه قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى.
وروى نحوه جابر بن سمرة وانس وسهل بن سعيد وبريدة، والمستورد بن شداد وأشياخ من الأنصار كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه أخبار صحيحة.
قال: وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة من لدن خلق آدم إلى الهجرة أربعة آلاف سنة وثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة
وقالت اليونانية من النصارى: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسعمائة واثنتين وتسعين سنة وشهرا.
وزعم قائل أن اليهود إنما نقصوا من السنين دفعا منهم لنبوة عيسى إذ كانت صفته ومبعثه في التوراة وقالوا: لم يأت الوقت الذي في التوراة أن عيسى يكون فيه فهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته.
قال: وأحسب ان الذي ينتظرونه ويدعون صفته في التوراة هو الدجال.
وقالت المجوس: إن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرث إلى وقت الهجرة ثلاثة آلاف ومائة وتسع وثلاثون سنة وهم لا يذكرون مع ذلك شيئا

14
يعرف فوق جيومرث ويزعمون أنه هو آدم.
وأهل الأخبار مختلفون فيه فمن قائل مثل قول المجوس ومن قائل انه يسمى بآدم بعد ان ملك الأقاليم السبعة وأنه حام بن يافث بن نوح وكان بارا بنوح فدعا له ولذريته بطول العمر والتمكين في البلاد واتصال الملك فاستجيب له فملك جيومرث وولده الفرس ولم يزل الملك فيهم إلى أن دخل المسلمون المدائن وغلبوهم على ملكهم ومن قائل غير ذلك كذا قال أبو جعفر.
قلت ثم ذكر أبو جعفر بعد هذا أصولا تتضمن الدلالة على حدوث الأزمان والأوقات وهل خلق الله قبل خلق الزمان شيئا أم لا؟ وعلى فناء العالم وأن لا يبقى إلا الله تعالى وانه احدث كل شيء واستدل على ذلك بأشياء يطول ذكرها ولا يليق ذلك بالتواريخ لا سيما المختصرات منه فإنه بعلم الأصول أولى وقد فرغ المتكلمون منه في كتبهم فرأينا تركه أولى.
(بريدة بضم الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخرها هاء).

15
القول في ابتداء الخلق وما كان أوله
صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنه سمعه يقول إن أول ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن وروى نحو ذلك عن ابن عباس.
وقال محمد بن إسحاق: أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ليلا أسود وجعل النور نهارا أبيض مضيئا والأول أصح للحديث وابن إسحاق لم يسند قوله إلى أحد.
واعترض أبو جعفر على نفسه بما روى سفيان عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة وأجاب بأن هذا الحديث إن كان صحيحا فقد رواه شعبه أيضا عن أبي هاشم ولم يقل فيه أن الله كان على عرشه روى أنه قال: أول ما خلق الله القلم.
القول فيما خلق بعد القلم
ثم إن الله خلق بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة سحابا رقيقا وهو الغمام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم،

16
وقد سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام).
قلت فيه نظر لأنه قد تقدم أن أول ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة ثم ذكر في أول هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم وبعد أن جرى بما هو كائن سحابا ومن المعلوم أن الكتابة لا بد فيها من آلة يكتب بها وهو القلم ومن شيء يكتب فيه وهو الذي يعبر عنه ههنا باللوح المحفوظ وكان ينبغي أن يذكر اللوح المحفوظ ثانيا للقلم والله أعلم ويحتمل أن يكون ترك ذكره لأنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريق الملازمة.
ثم اختلف العلماء فيمن خلق الله بعد الغمام فروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس أول ما خلق الله العرش فاستوى عليه. وقال آخرون: خلق الله قبل العرش وخلق فوضعه على الماء وهو قول أبي صالح عن ابن عباس وقول ابن مسعود ووهب بن منبه.
وقد قيل إن الذي خلق الله تعالى بعد القلم الكرسي ثم العرش ثم الهواء ثم الظلمات ثم الماء فوضع العرش عليه.
قال: وقول من قال: إن الماء خلق قبل العرش أولى بالصواب لحديث أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش؛ قاله سعيد بن جبير عن ابن عباس فإن كان كذلك

17
فقد خلقا قبل العرش.
وقال غيره: إن الله خلق القلم قبل أن يخلق شيئا بألف عام.
واختلفوا أيضا في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق السماوات والأرض فقال عبد الله بن سلام وكعب والضحاك ومجاهد ابتداء الخلق يوم الأحد.
وقال محمد بن إسحاق: ابتداء الخلق يوم السبت وكذلك قال أبو هريرة.
واختلفوا أيضا فيما خلق كل يوم فقال عبد الله بن سلام: إن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين يوم الأحد والاثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات يوم الخميس والجمعة ففرغ آخر ساعة من الجمعة فخلق فيها آدم عليه السلام فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
ومثله قال ابن مسعود وابن عباس من رواية أبي صالح عنه إلا أنهم لم يذكرا خلق آدم ولا الساعة.
وقال ابن عباس من رواية علي بن طلحة عنه: إن الله تعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) وهذا القول عندي هو الصواب وقال ابن عباس أيضا من رواية عكرمة عنه: إن الله تعالى وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدني بألفي عام ثم دحيت الأرض من

18
تحت البيت. ومثله قال ابن عمر.
وروى السدي عن أبي صالح وعن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة الهمداني وعن ابن مسعود في قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات) قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه السماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين يوم الأحد ويوم الاثنين فخلق الأرض على حوت والحوت النون الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قوله (ن والقلم) والحوت في الماء والماء على ظهر صفاه والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطربت وتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى (وجعلنا فيها رواسي أن تميد بكم) قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وكعب وغيرهم: كل يوم من هذه الأيام الستة التي خلق الله

19
فيها السماء والأرض كألف سنة.
قلت أما ما ورد في هذه الأخبار من أن الله تعالى خلق الأرض في يوم كذا والسماء في يوم كذا إنما هو مجاز وإلا فلم يكن ذلك الوقت أيام وليالي لأن الأيام عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها والليالي عبارة عما بين غروبها وطلوعها ولم يكن ذلك الوقت سماء ولا شمس وإنما المراد به أنه خلق كل شيء بمقدار يوم كقوله تعالى (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) وليس في الجنة بكرة وعشي.
(سلام: والد عبد الله، بتخفيف اللام).
القول في الليل والنهار أيهما خلق قبل صاحبه
قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار وان ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فلنذكر الآن ذلك كان الابتداء أبالليل أم النهار فإن العلماء اختلفوا في ذلك فإن بعضهم يقول إن الليل خلق قبل النهار ويستدل على ذلك بان النهار من نور الشمس فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار وهو النور وارد على الظلمة التي هي الليل وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتا فدل ذلك على أن الليل هو الأول وهذا قول ابن عباس.

20
وقال آخرون: كان النهار قبل الليل واستدلوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه ولا ليل ولا نهار وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه الليل.
قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات من نور وجهه.
قال أبو جعفر: والأول أولى بالصواب للعلة أولا ولقوله تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها فبدأ بالليل قبل النهار.
قال عبيد بن عمير الحارثي: كنت عند علي فسأله ابن الكواء عن السواد الذي في القمر فقال: ذلك آية محيت، وقال ابن عباس مثله، وكذلك قال مجاهد وقتادة وغيرهما، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر.
قلت: وروى أبو جعفر ههنا حديثا طويلا عدة أوراق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، في خلق الشمس والقمر وسيرهما فإنهما على عجلتين لكل عجلة ثلاثمائة وستون عروة يجرها بعددها من الملائكة وأنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض فذلك كسوفهما ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من السوف وذكر الكواكب وسيرها وطلوع الشمس من مغربها ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمى جابرقا ولكل واحدة منهما عشرة

21
آلاف باب يحرس كل باب منها عشرة آلاف رجل لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة.
وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس إلى أشياء أخر لا حاجة إلى ذكرها فأعرضت عنها لمنافاتها العقول ولو صح أسنادها لذكرناها وقلنا به ولكن الحديث غير صحيح ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف.
وإذا كنا قد بينا مقدار مدة ما بين أول ابتداء الله عز وجل في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينا أنا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة والعاصية ربها والمطيعة ربها وأزمان الرسل والأنبياء وكنا قد أتينا على ذكر ما تصح به التأريخات وتعرف به الأوقات وهو الشمس والقمر.
فلنذكر الآن أول من أعطاه الله تعالى ملكا وأنعم عليه فكفر نعمته وجحد ربوبيته واستكبر فسلبه الله نعمته وأخزاه وأذلة.
ثم نتبعه ذكر من استن سنته واقتفى أثره وأحل الله به نقمته ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ومن الرسل والأنبياء إن شاء الله تعالى

22
قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره
وإطغائه آدم عليه السلام
فأولهم وإمامهم ورئيسهم إبليس وكان الله تعالى قد حسن خلقه وشرفه وملكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر وجعله مع ذلك خازنا من خزان الجنة فاستكبر على ربه وادعى الربوبية ودعا من كان تحت يده إلى عبادته فمسخه الله تعالى شيطانا في العاجل ثم جعل مسكنه ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ونعوذ بالله تعالى من غضبه ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر الأخبار عن السلف بما كان الله أعطاه من الكرامة وبادعائه ما لم يكن ونتبع ذلك بذكر أحداث في
سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه والسبب الذي به زال عنه إن شاء الله تعالى.

23
ذكر الأخبار بما كان لا بليس، لعنة الله،
من الملك وذكر الأحداث في ملكه
روي عن ابن عباس وابن مسعود إن إبليس كان له ملك سماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن. وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا، قال ابن عباس: ثم إنه عصى الله تعالى فمسخه شيطانا رجيما.
وروي عن قتادة في قوله تعالى (ومن يقل منهم إله من دونه) إنما كانت هذه الآية في إبليس خاصة لما قال ما قال لعنه الله تعالى وجعله شيطانا رجيما وقال: (فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) وروي عن ابن جريج مثله.
وأما الأحداث التي كانت في ملكه وسلطانه فمنها ما روي الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة من نور وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت وخلق الإنسان من طين فأول من سكن في الأرض الجن فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل ذلك اغتر في نفسه وقال: قد صنعت ما لم

24
يصنعه أحد. فاطلع الله تعالى على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه.
وروي عن أنس نحوه.
وروى أبو صالح عن ابن عباس ومرة الهمداني عن ابن مسعود أنهما قالا لما فرغ الله تعالى من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم من خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في نفسه كبر وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الأمر ألا لمزية لي على الملائكة فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فدعاه ذلك إلى الكبر. وهذا قول ثالث في سبب كبره.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقا فقال: اسجدوا لآدم فقالوا: لا نفعل فبعث عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق خلقا آخر فقال: إني (خالق بشرا من طين) فاسجدوا لآدم فأبوا فبعث الله تعالى عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم. قالوا: نعم. وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا.
وقال شهر بن حوشب: إن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض وطردتهم الملائكة وأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء وروي عن

25
سعيد بن مسعود نحو ذلك.
وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) وجائز أن يكون فسوقه من إعجابه بنفسه لكثرة عبادته واجتهاده وجائز أن يكون لكونه من الجن.
(ومرة الهمداني بسكون الميم والدال المهملة نسبة إلى همدان قبيلة كبيرة من اليمن).

26
ذكر خلق آدم عليه السلام
ومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم، عليه السلام. وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال فقال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). فروي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوه من أمره وأمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك، فقالوا لربهم تعالى: أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فقال الله لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عيانا. فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبريل أن يأتيه بطين من الأرض فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني فرجع ولم يأخذ منها شيئا وقال: يا رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فاستعاذت منه فأعاذها فرجع وقال مثل جبريل فبعث غليها ملك الموت فاستعاذت منه فقال: أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي

27
فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد واخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وطينا لازبا فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب ثم بلت طينته حتى صارت طينا لازبا ثم تركت حتى صارت حمأ مسنونا ثم تركت حتى صارت صلصالا كما قال ربنا، تبارك وتعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون).
واللازب الطين الملتزب بعضه ببعض أي ثم ترك حتى تغير وأنتن وصار حمأ مسنونا يعني منتنا ثم صار صلصالا وهو الذي له صوت.
وإنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض قال ابن عباس: أمر الله بتربة آدم فرفعت فخلق أدم من طين لازب من حمأ مسنون وإنما كان حمأ مسنونا بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبر إبليس عن السجود له قال: فمكث أربعين ليلة وقيل أربعين سنة جسدا ملقى فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل أي يصوت قال: فهو قول الله تعالى (من صلصال كالفخار) يقول هو كالمنفوخ الذي ليس بمصمت.
ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره فيخرج من فيه ثم يقول لست شيئا ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك فكانت الملائكة تمر به فتخافه وكان إبليس أشدهم منه خوفا.

28
فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: (إذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحما فلما دخلت الروح رأسه عطس فقالت له الملائكة: قل الحمد لله وقيل بل ألهمه الله التحميد فقال: الحمد لله رب العالمين.
فقال الله له: رحمك ربك يا آدم. فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما بلغت جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فلذلك يقول الله تعالى (وخلق الإنسان من عجل) فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
فقال الله له: يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين فلن يسجد كبرا وبغيا وحسدا فقال الله له: (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى قوله لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).
فلما فرغ من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأيأسه من رحمته وجعله شيطانا رجيما وأخرجه من الجنة.
قال الشعبي: أنزل إبليس مشتمل الصماء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل.
وقال حميد بن هلال: نزل إبليس مختصرا فلذلك كره الاختصار في

29
الصلاة، ولما أنزل قال يا رب أخرجتني من الجنة من اجل آدم وإنني لا أقوى عليه إلا بسلطانك قال فأنت مسلط قال زدني قال لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله. قال زدني قال صدورهم مساكن لك وتجري لك وتجري منهم مجرى الدم قال زدني قال أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم.
قال آدم: يا رب قد أنظرته وسلطته علي وإنني لا أمتنع منه إلا بك قال: لا يولد لكم ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء قال: يا رب زدني قال: الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها والسيئة بواحدة أو أمحوها قال: يا رب زدني قال: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) قال: يا
رب زدني قال: التوبة لا نمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح قال: يا رب زدني قال: أغفر ولا أبالي قال: حسبي. ثم قال الله لآدم: ائت أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم فأتاهم فسلم عليهم فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم فلما امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستترا عنهم علم الله آدم الأسماء كلها.
[الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم]
واختلف العلماء في الأسماء فقال الضحاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلها التي تتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار

30
وأشباه ذلك حتى الفسوة والفسية وقال مجاهد وسعيد بن جبير مثله.
وقال ابن زيد: علم أسماء ذريته وقال الربيع: علم أسماء الملائكة خاصة. فلما علمها عرض الله أهل الأسماء على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) إني إن جعلت الخليفة منكم أطعتموني وقدستموني ولم تعصوني وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك الدماء فإنكم إن لم تعلموا أسماء هؤلاء وأنتم تشاهدونهم فبأن لا تعلموا ما يكون منكم ومن غيركم وهو مغيب عنكم أولى وأحرى وهذا قول ابن مسعود ورواية أبي صالح عن ابن عباس.
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: لما أعلم الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه و (قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) و (قال: إني أعلم ما لا تعلمون). قالوا فيما بينهم: ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا إلا كنا أكرم على الله منه وأعلم منه.
فلما خلقه وأمرهم بالسجود له علموا أنه خير منهم وأكرم على الله منهم فقالوا: إن يك خيرا وأمرهم بالسجود له علموا أنه خير منهم وأكرم على الله منهم فقالوا: إن يك خيرا منا وأكرم على الله منا فنحن أعلم منه فلما أعجبوا بعلمهم أبتلوا بأن علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، إني لا أخلق أكرم منكم ولا أعلم

31
منكم. ففزعوا إلى التوبة وإليها يفزع كل مؤمن، ف‍ (قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم). قالا: وعلمه اسم كل شيء من هذه الخيل والبغال والإبل والجن والوحش وكل شيء.
ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منها
فلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستترا عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم فأصر على معصيته وأقام على غيه لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنة فقال الله تعالى له: (اخرج منها _ يعني من الجنة _ فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين)؛ واسكن آدم الجنة.
قال ابن عباس وابن مسعود: فلما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها فردا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومة واستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة لينظروا مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. وقال الله له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما).
وقال ابن إسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم، منهم عبد الله بن عباس

32
قال: ألقى الله تعالى عن آدم النوم وأخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وخلق منه حواء وآدم نائم، فلما استيقظ رآها إلى جنبه فقال لحمي ودمي وروحي فسكن إليها فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكنا من نفسه قال له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين). وعن مجاهد وقتادة مثله.
فلما أسكن الله آدم وزوجته الجنة أطلق لهما أن يأكلا كل ما أراد من كل ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة ابتلاء منه لهما وليمضي قضاؤه فيهما وفي ذريتهما فوسوس لهما الشيطان وكان سبب وصوله إليهما أنه أراد دخول الجنة فمنعه الخزنة فأتى كل دابة من دواب الأرض وعرض نفسه عليها أنها تحمله حتى يدخل الجنة ليكلم أدم وزوجته فكل الدواب أبى عليه حتى أتى الحية وقال لها: أمنعك من ابن آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به وكانت كاسية على أربعة قوائم من أحسن دابة خلقها الله كأنها بختية فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها.
قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها واخفروا ذمة عدو الله فيها.
فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فيها فناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما ثم أتاهما فوسوس لهما وقال: (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)؟ وقال: (ما

33
نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) أي تكونا ملكين أو تخلدا إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة. قال الله تعالى: (فدلاهما بغرور) وكان انفعال حواء لوسوسته أعظم فدعاها آدم لحاجته فقالت: لا! إلا أن تأتي ههنا فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة وهي الحنطة. قال: فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وكان لباسهما الظفر فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قيل كان ورق التين وكانت الشجرة من أكل منها أحدث وذهب آدم هاربا في الجنة فناداه ربه أن يا آدم مني تفر؟ قال: لا يا رب ولكن حياء منك فقال: يا آدم من أين أتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب فقال الله: فان لها علي أن أدميها في كل شهر وأن أجعلها سفيهة وقد كنت خلقتها حليمة وإن أجعلها تحمل كرها وتضع كرها وتشرف على الموت مرارا وقد كنت جعلتها تحمل يسرا ويضعن يسرا وقال الله تعالى له: لألعنن الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول ثمارها شوكا ولم يكن في الجنة ولا في الأرض أفضل من الطلح والسدر.
وقال للحية: دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي ملعونة أنت لعنة يتحول بها قوائمك في بطنك ولا يكون لك رزق إلا التراب أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت واحدا منهم أخذت بعقبه وحيث لقيك

34
شدخ رأسك، اهبطوا بعضكم لبعض عدو آدم وإبليس والحية. فأهبطهم إلى الأرض، وسلب الله آدم وحواء كل ما كانا فيه من النعمة والكرامة.
قيل: كان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن سقته حواء الخمر حتى سكر فلما سكر قادته إليها فأكل.
قلت: والعجب من سعيد كيف يقول هذا والله يقول في صفة خمر الجنة (لا فيها غول).
ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة واليوم الذي أخرج
فيه منها واليوم الذي تاب فيه
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أسكن الجنة وفيه أهبط منها وفيه تاب الله عليه وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة يقللها لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه.
قال عبد الله بن سلام: قد علمت أي ساعة هي هي آخر ساعة من النهار.
وقال أبو العالية: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة منه وهبط إلى الأرض لتسع ساعات مضين من ذلك اليوم وكن مكثه في الجنة خمس ساعات منه وقيل كان مكثه ثلاث ساعات منه.
فإن كان قائل هذا القول أراد أنه سكن الفردوس لساعتين مضتا من

35
يوم الجمعة من أيام الدنيا التي هي ما هي به اليوم فلم يبعد قوله من الصواب لأن الأخبار كذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم بأن آدم خلق آخر ساعة من اليوم السادس التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فمعلوم أن الساعة الواحدة من ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاما من أعوامنا وقد ذكرنا أن آدم بعد أن خمر ربنا طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاما وذلك لا شك أنه عنى به أعوامنا ثم بعد ان نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره وأسكن الجنة وأهبط إلى الأرض غير مستنكر أن يكون مقدار ذلك من سنينا قدر خمس وثلاثين سنة وإن كان أراد أنه سكن الجنة لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فقد
قال غير الحق، لأن كل من له قول في ذلك من أهل العلم يقول أنه نفخ فيه الروح آخر نهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
وقد روى أبو صالح عن ابن عباس ان مكث آدم كان في الجنة نصف يوم كان مقداره خمسمائة عام وهذا أيضا خلاف ما وردت به الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن العلماء.
ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء من الأرض
قيل: ثم إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه وهو يوم الجمعة مع زوجته حواء من السماء فقال علي وابن عباس وقتادة وأبو العالية: إنه أهبط بالهند على جبل يقال له نود من أرض

36
سرنديب، وحواء بجدة. قال ابن عباس: فجاء في طلبها فكان كلما وضع قدمه بموضع صار قرية وما بين خطوتيه مفاوز، فسار حتى أتى جمعا فازدلفت إليه حواء فلذلك سميت المزدلفة وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعا. وأهبطت الحية بأصفهان وإبليس بميسان. وقيل: اهبط آدم بالبرية وإبليس بالأبلة.
قال أبو جعفر: وهذا ما لا يوصل إلى معرفة صحته إلا بخبر يجئ مجيء الحجة ولا نعلم خبرا في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند فان ذلك مما لا يدفع صحته علماء الاسلام.
قال ابن عباس: فلما أهبط آدم على جبل نود كانت رجلاه تمس الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة فكانت تهابه فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله إلى ستين ذراعا فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم فقال: يا رب كنت جارك في دارك ليس لي رب غيرك أدخلتني جنتك آكل منها حيث شئت فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة فحططتني إلى ستين ذراعا فقد انقطع عني الصوت والنظر وذهبت عني ريح الجنة فأجابه الله تعالى: بمعصيتك يا آدم فعلت بك ذلك.
فلما رأى الله تعالى عرى آدم وحواء أمره أن يذبح كبشا من الضأن من

37
الثمانية الأزواج التي أنزلها الله من الجنة فأخذ كبشا فذبحه وأخذ صوفه فغزلته حواء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبة ولحواء درعا وخمارا فلبسا ذلك.
وقيل: أرسل إليهما ملكا يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام وقيل كان ذلك لباس أولاده وأما هو وحواء فكان لباسهما ما كان خصفا من ورق الجنة. فأوحى الله إلى آدم إن لي حرما حيال عرشي فانطلق وابن لي بيتا فيه ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي فقال: آدم يا رب وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه فقيض الله ملكا فانطلق به نحو مكة وكان آدم إذا مر بروضة قال للملك: انزل بنا ههنا فيقول الملك مكانك حتى قدم مكة فكان كل مكان نزله آدم عمرانا وما عداه مفاوز فبنى البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودي وبنى قواعده من حراء فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى الهند فمات على نود.
فعلى هذا القول أهبط حواء وآدم وإن جميعا وإن آدم بنى البيت وهذا خلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى منه إن البيت أنزل من السماء.
وقيل: حج آدم من الهند أربعين حجة ماشيا. ولما أنزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنة فلما وصل إلى الأرض يبس فتساقط ورقه فنبتت منه أنواع الطيب بالهند وقيل بل الطيب من الورق الذي خصفه آدم وحواء عليهما وقيل لما أمر بالخروج من الجنة جعل لا يمر بشجرة منها إلا أخذ منها غصنا فهبط وتلك الأغصان معه فكان أصل الطيب بالهند منها وزوده الله من

38
ثمار الجنة، فثمارنا هذه منها غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير وعلمه صنعة كل شيء ونزل معه بعض طيب الجنة والحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج وكان من ياقوت الجنة ونزل معه عصا موسى وهي من آس الجنة أو من لبان وأنزل بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان.
وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير يوسف. وأنزل عليه جبريل بصرة فيها حنطة، فقال آدم: ما هذا؟ قال: هذا الذي أخرجك من الجنة. فقال: ما أصنع به؟ فقال: انثره في الأرض. ففعل، فأنبته الله من ساعته ثم حصده وجمعه وفركه وذراه وطحنه وعجنه وخبزه كل ذلك بتعليم جبريل عليه السلام وجمع له جبريل الحجر والحديد فقدحه فخرجت منه النار وعلمه جبريل صنعة الحديد والحراثة وانزل إليه ثورا فكان يحرث عليه قيل هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى).
ثم إن الله أنزل آدم من الجبل وملكه الأرض وجميع ما عليها من الجن والدواب والطير وغير ذلك فشكا إلى الله تعالى وقال: يا رب أما في هذه الأرض منم يسبحك غيري فقال الله تعالى: سأخرج من صلبك من يسبحني ويحمدني وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري وأجعل فيها بيتا أختصه بكرامتي، وأسميه بيتي وأجعله حرما آمنا فمن حرمه بحرمتي فقد استوجب كرامتي ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمتي وأباح حرمتي أول بيت وضع للناس فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلي وزارني وضافني ويحق على الكريم أن

39
يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلا بحاجته تعمره أنت يا آدم ما كنت حيا ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة. ثم أمر آدم أن يأتي البيت الحرام وكان قد أهبط من الجنة ياقوتة واحدة وقيل درة واحدة وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح عليه السلام فرفع وبقي أساسه فبوأ الله لإبراهيم عليه السلام فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسار آدم إلى البيت ليحجه ويتوب عنده وكان قد بكى هو وحواء على خطيئتهما وما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما ثم أكلا وشربا بعدها ومكث آدم لم يقرب حواء مائة عام فحج البيت وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وهي قوله تعالى (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين).
(نود بضم النون وسكون الواو آخره دال مهملة).
ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق
روى سعيد بن جبير عن أبن عباس قال: أخذ الله الميثاق على ذرية آدم بنعمان من عرفة فأخرج من ظهره كل ذرية ذرأها إلى أن تقوم الساعة فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا وقال: ألست بربكم (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) إلى قوله: (بما فعل المبطلون).
نعمان بفتح النون الأولى.

40
وقيل: عن ابن عباس أيضا: إنه أخذ عليهم الميثاق بدحنا موضع.
وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه إلى الأرض من السماء ثم مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء مثل اللؤلؤ فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منها كهيئة الذر سوداء فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم اخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم قالوا: بلى فأعطوه الميثاق طائفة طائعين وطائفة على وجه التقية.
ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم في الدنيا
وكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل وأهل العلم مختلفون في اسم قابيل بعضهم يقول قين وبعضهم يقول قائين وبعضهم يقول قاين وبعضهم يقول قابيل.
واختلفوا أيضا في سبب قتله فقيل: كان سببه أن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل بن آدم وتوأمته فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولم تجد عليهما طلقا حين ولدتهما ولم تر معهما دما لطهر الجنة فلما أكلا من الشجرة وهبطا إلى الأرض فاطمأنا بها تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق حين ولدتهما ورأت معهما

41
الدم، وكانت حواء فيما يذكرون لا تحمل إلا توأما ذكرا وأنثى فولدت حواء لآدم أربعين ولدا لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطنا وكان الولد منهم أي أخواته شاء تزوج الا توأمته التي تولد معه فإنها لا تحل له وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء الا أخواتهم وأمهم حواء فأمر آدم ابنه قابيل أن ينكح توأمة هابيل وأمر هابيل أن ينكح توأمة
أخيه قابيل.
وقيل: بل كان آدم غائبا وكان لما أراد السير قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت وقال للأرض فأبت وللجبال فأبت وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وترجع وستجد ما يسرك فانطلق آدم فكان ما نذكره وفيه قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). فلما قال آدم لقابيل وهابيل في معنى نكاح أختيهما ما قال لهما سلم هابيل لذلك ورضي به وأبى ذلك قابيل وكرهه تكرها عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل وفال: نحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض فأنا أحق بأختي.
وقال بعض أهل العلم: إن أخت قابيل كانت من أحسن الناس فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه وانهما لم يكونا من ولادة الجنة إنما كانا من ولادة الأرض والله اعلم فقال له أبوه آدم: يا بني إنها لا تحل لك فأبى

42
أن يقبل ذلك من أبيه فقال له أبوه يا بني فقرب قربانا ويقرب أخوك هابيل قربانا فأيكما قبل الله قربانه فهو أحق بها وكان قابيل على بذر الأرض وهابيل على رعاية الماشية فقرب قابيل قمحا وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وقيل قرب بقرة فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله فلما قبل الله قربان هابيل وكان في ذلك القضاء له بأخت قابيل غضب قابيل وغلب عليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان قال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي قال هابيل: (إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) إلى قوله: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) فاتبعه وهو في ماشيته فقتله فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن فقال: (وأتل عليهم نبأ أبني آدم بالحق إذ قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر) إلى آخر القصة.
قال: فلما قتله سقط في يده ولم يدر كيف يواريه وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل من بني آدم فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه (قال: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) إلى قوله (المسرفين) فلما قتل أخاه قال الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل قال: لا أدري ما كنت عليه رقيبا فقال الله تعالى: إن صوت دم أخيك يناديني من الأرض الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا في الأرض فقال قابيل: عظمت خطيئتي إن لم تغفرها.

43
قيل كان قتله عند عقبة حراء. ثم نزل من الجبل آخذا بيد أخته وهرب بها إلى عدن من اليمن.
قال ابن عباس: لما قتل أخاه أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل نود إلى الحضيض، فقال له آدم: اذهب فلا تزال مرعوبا لا تأمن من تراه فكان لا يمر به أحد من ولده الا رماه فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل فارمه فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك فرفعا الأعمى يده فلطم ابنه فمات! فقال: يا ويلتي: قتلت أبي برميتي وابني بلطمتي.
ولما قتل هابيل كان عمره عشرين سنة وكان لقابيل يوم قتله خمس وعشرون سنة
وقال الحسن: كان الرجلان اللذان ذكرهما الله تعالى في القرآن بقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) من بني إسرائيل ولم يكونا من بني آدم لصلبه وكان آدم أول من مات وقال أبو جعفر: الصحيح عندنا أنهما ابنا آدم لصلبه للحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من نفس تقتل ظلما إلا كان ابن آدم الأول كفل منها وذلك لأنه أول من سن القتل فبان بهذا أنهما لصلب آدم فإن القتل ما زال بين بني آدم قبل بني إسرائيل وفي هذا الحديث أنه أول من سن القتل، ومن الدليل على أنه مات من ذرية آدم قبله ما ورد في تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس

44
واحدة) إلى قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما).
عن ابن عباس وابن جبير والسدي وغيرهم قالوا: حواء تلد لآدم فتعبدهم أي تسميهم عبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال: لو سميتما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما فولدت ولدا فسمته عبد الحارث وهو اسم إبليس فنزلت: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الآيات. وقد روي هذا المعنى مرفوعا.
قلت إنما كان الله تعالى يميت أولادهم أولا وأحيا هذا المسمى بعبد الحارث امتحانا واختبارا وإن كان الله تعالى يعلم الأشياء بغير امتحان علما لا يتعلق به الثواب والعقاب ومن الدليل على أن القاتل والمقتول ابنا آدم لصلبه ما رواه العلماء عن علي بن أبي طالب أن آدم قال لما قتل هابيل:
(تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الأرض مغبر قبيح)
(تغير كل ذي طعم ولو ن * وقل بشاشة الوجه المليح)
في أبيات غيرها.
وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرث هو آدم وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء وقالوا فيه أقوالا كثيرة يطول بذكرها الكتاب إذ كان قصدنا ذكر الملوك وأيامهم، ولم يكن ذكر الاختلاف في نسب ملك من

45
جنس ما أنشأنا له الكتاب فإن ذكرنا من ذلك شيئا فالتعريف من ذكرنا ليعرفه من لم يكن عارفا به وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنه غير آدم ووافق علماء الفرس على اسمه وخالفهم في عينه وصفته فزعم أن جيومرث الذي زعمت الفرس أنه آدم إنما حام بن يافث بن نوح وأنه كان معمرا سيدا نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق وتملك بها وبفارس وعظم أمره وأمر ولده حتى ملكوا بابل وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها. وابنتي جيومرث المدن والحصون وأعد السلاح واتخذ الخيل وتجبر في آخر أمره وتسمى بآدم وقال: من سماني بغيره قتلته وتزوج ثلاثين امرأة فكثر منهن نسله وإن ماري ابنه وماريانة أخته ممن كانا ولدا في آخر عمره فأعجب بهما وقدمهما فصار الملوك من نسلهما.
قال أبو جعفر: وإنما ذكرت من امر جيومرث في هذا الموضع ما ذكرت لأنه لا تدافع بين علماء الأمم أنه أبو الفرس من العجم وإنما اختلفوا فيه هل هو آدم أبو البشر أم غيره على ما ذكرناه ومع ذلك فلأن ملكه وملك أولاده لم يزل منتظما على سياق متصل بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزدجرد بن شهريار بمرو أيام عثمان بن عفان والتاريخ على أسماء ملوكهم أسهل بيانا وأقرب إلى التحقيق منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم إذ لا يعلم أمة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم دامت لهم المملكة واتصل الملك لملوكهم يأخذه آخرهم عن أولهم وغابرهم عن سالفهم سواهم.
وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم وأعمار من بعده من ولده

46
من الملوك والأنبياء وجيومرث أبي الفرس فأذكر ما اختلفوا فيه من أمرهم إلى الحال التي اجتمعوا عليها واتفقوا على ملك منهم في زمان بعينه أنه هو الملك في ذلك الزمان إن شاء الله.
وكان آدم مع أعطاه الله تعالى من ملك الأرض نبيا رسولا إلى ولده وأنزل الله عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم بيده علمه إياها جبريل.
روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قال: قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا يعني كثيرا طيبا قال: قلت: من أولهم؟ قال: آدم قال: قلت: يا رسول وهو نبي مرسل؟ قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه رجلا. وكان ممن أنزل عليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة.
ذكر ولادة شيث
ومن الأحداث في أيامه شيث وكانت ولادته بعد مضي مائة وعشرين سنة لآدم وبعد قتل هابيل بخمس سنين وقيل ولد فردا بغير توأم وتفسير شيث هبة الله ومعناه أنه خلف من هابيل وهو وصي آدم وقال ابن عباس: كان معه توأم ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى شيث وعلمه ساعات الليل والنهار وعبادة الخلوة في كل ساعة منها وأعلمه بالطوفان وصارت الرياسة بعد آدم إليه وأنزل الله عليه خمسين صحيفة، وإليه أنساب

47
بني آدم كلهم اليوم.
وأما الفرس الذين قالوا: إن جيومرث هو آدم فإنهم قالوا: ولد لجيومرث ابنته ميشان أخت ميشي، وتوج ميشي أخته ميشان فولدت له سيامك وسامي فولد لسيامك بن جيومرث أفروال ودقس وبواسب وأجرب وأوراش،
وأمهم جميعا سيامي ابنة ميشي وهي أخت أبيهم وذكروا أن الأرض كلها سبعة أقاليم فأرض بابل وما يوصل إليه مما يأتيه الناس برا وبحرا فهو من إقليم واحد وسكانه ولد أفروال بن سيامك وأعقابهم. فولد لا فروال بن سيامك من افرى ابنة سيامك أوشهنج بيشداد الملك وهو الذي خلف جده جيومرث في الملك وهو أو لمن جمع ملك الأقاليم السبعة وسنذكر أخباره.
وكان بعضهم يزعم أن اوشهنج هذا هو ابن آدم لصلبه من حواء.
وأما ابن الكلبي فإنه زعم أن أول من ملك الأرض أوشهنق بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال: والفرس تزعم أنه كان بعد آدم بمائتي سنة وإنما كان بعد نوح بمائتي سنة ولم تعرف الفرس ما كان قبل نوح.

48
والذي ذكره هشام بن الكلبي لا وجه له لأن اوشهنج مشهور عند الفرس وكل قوم أعلم بأنسابهم وأيامهم من غيرهم. قال: وقد زعم بعض نسابة الفرس أن أوشهنج هذا هو مهلائيل وأن أباه أفروال هو قينان وان سيامك هو أنوش أبو قينان وان ميشي هو شيث أبو أنوش وأن جيومرث هو آدم فإن كان الأمر كما زعم فلا شك أن أوشهنج كان في زمن آدم رجلا وذلك لأن مهلائيل فيما ذكر في الكتب الأولى كانت ولادة أمه دينه ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم وأتاه بعد ما مضى من عمر آدم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة وقد كان له حين وفاة آدم ستمائة سنة وخمس وستون سنة على حساب أن عمر آدم ألف سنة وقد زعمت الفرس أن ملك أوشهنج كان أربعين سنة فان كان الأمر على ما ذكره النسابة الذي ذكرت منه ما ذكرت فما يبعد من قال: أن ملكه كان بعد وفاة آدم بمائتي سنة.
ذكر وفاة آدم عليه السلام
ذكر أن آدم مرض أحد عشر يوما وأوصى إلى ابنه شيث وأمره أن يخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسدا منه له حين خصه آدم بالعلم فأخفى شيث وولده ما عندهم من العلم ولم يكن عند قابيل وولده

49
علم ينتفعون به.
وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى لآدم حين خلقه: أئت أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم فأتاهم فسلم عليهم، وقالوا له: عليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم ثم قبض له يديه فقال له: خذ واختر فقال: أحببت يمين ربي وكلتا يديه يمين ففتحها له فإذا فيها صورة آدم وذريته كلهم وإذا كل رجل منهم مكتوب عنده أجله وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة وإذا قوم عليهم النور. فقال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور؟ فقال: هؤلاء الأنبياء والرسل الذين أرسلهم إلى عبادي وإذا فيهم رجل هو من أضوئهم نورا ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة فقال آدم: يا رب هذا من أضوائهم ولم تكتب له إلا أربعين سنة بعد أن أعلمه انه داود عليه اسلام فقال: ذلك ما كتبت له فقال: يا رب انقص له من عمري ستين سنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما أهبط إلى الأرض يعد أيامه فلما أتاه ملك الموت لقبضه قال له آدم: عجلت يا ملك الموت! قد بقي من عمري ستون سنة. فقال له ملك الموت: ما بقي شيء سألت ربك أن يكتبه لابنك داود. فقال: ما فعلت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد فجحدت ذريته فحينئذ وضع الله الكتاب وأمر بالشهود.
وروى عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول من جحد آدم ثلاث مرار وإن الله لما خلقه مسح ظهره

50
فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرضهم على آدم فرأى منهم رجلا يزهر قال: أي رب أي بني هذا؟ قال: ابنك داود؟ قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: زده من العمر قال الله تعالى: لا، إلا أن تزيده أنت وكان عمر آدم ألف سنة فوهب له أربعين سنة فكتبت عليه بذلك كتبا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم أتته الملائكة لتقبض روحه فقال: قد بقي من عمري أربعون سنة قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود قال: ما فعلت ولا وهبت له شيئا فأنزل الله عليه الكتاب وأقام الملائكة شهودا فأكمل لآدم ألف سنة وأكمل لداود مائة سنة.
وروي مثل هذا عن عن جماعة منهم سعيد بن جبير وقال ابن عباس: كان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة وأهل التوراة يزعمون أن عمر آدم تسعمائة سنة وثلاثون سنة والأخبار عن رسول الله والعلماء ما ذكرنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق.
وعلى رواية أبي هريرة التي فيها أن آدم وهب داود من عمره ستين سنة لم يكن كثير اختلاف بين الحديثين وما في التوراة من أن عمره كان تسعمائة وثلاثين سنة فلعل الله ذكر عمره بين التوراة سوى ما وهبه لداود.
قال ابن إسحق عن يحيي بن عباد عن أبيه قال: بلغني أن آدم حين مات بعث الله بكفنه وحنوطه من الجنة ثم وليت الملائكة قبره ودفنه حتى غيبوه.

51
وروى أب يبن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حين حضرته الوفاة بعث الله إليه بحنوطه وكفنه من الجنة فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم فقال: خلي عني وعن رسل ربي فما لقيت ما لقيت إلا منك ولا أصابني ما أصابني ألا فيك فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وترا وكفنوه في وتر من الثياب ثم لحدوا له ودفنوه ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده.
قال ابن عباس: لما مات آدم قال شيث لجبرائيل: صل عليه. فقال: تقدم أنت فصل على أبيك فكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وأما خمس وعشرون تفضيلا لآدم.
وقيل دفن في غار في جبل أبي قبيس يقال له غار الكبر وقال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة دفن آدم ببيت المقدس.
وكانت وفاته يوم الجمعة كما تقدم وذكر أن حواء عاشت بعده سنة ثم ماتت فدفنت مع زوجها في الغار الذي ذكرت إلى وقت الطوفان واستخرجهما نوح وجعلها في تابوت ثم حملها معه في السفينة فلما غاضت بالأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل الطوفان قال: وكانت حواء فيما ذكر قد غزلت ونسجت وعجنت وخبزت وعملت أعمال النساء كلها.
وإذا قد فرغنا من ذكر آدم وعدوه إبليس وذكر أخبارهما وما صنع الله

52
بعدوه إبليس حين تجبر وتكبر من تعجيل العقوبة وطغى وبغي من الطرد والإبعاد والنظرة إلى يوم الدين وما صنع بآدم إذ أخطأ ونسي من تعجيل العقوبة له ثم تغمده الله بالرحمة إذ تاب من زلته فأرجع إلى ذكر قابيل وشيث ابني آدم وأولادهما إن شاء الله.

53
ذكر شيث بن آدم عليه السلام
قد ذكرنا بعض أمره وأنه كان وصي آدم في مخلفيه بعد مضيه لسبيله وما أنزل الله عليه من الصحف وقيل: إنه لم يزل مقيما بمكة يحج ويعتمر إلى أن مات وانه كان جمع ما أنزل عليه وعلى أبيه آدم من الصحف وعمل بما فيها وانه بنى الكعبة بالحجارة والطين.
وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم مكان البيت إلى أيام الطوفان فرفعها الله حين أرسل الطوفان وقيل: إن شيئا لما مرض أوصى إلى ابنه أنوش ومات فدفن مع أبويه بغار أبي قبيس وكان مولده لمضي مائتي سنة وخمس وثلاثين سنة من عمر آدم وقيل غير ذلك وقد تقدم وكانت وفاته وقد أتت عليه تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة. وقام أنوش بن شيث بعد موت أبيه بسياسة الملك وتدبير من تحت يديه من رعيته مقام أبيه لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل فكان جميع عمر أنوش سبعمائة وخمس سنين وكان مولده بعد أن مضى من عمر أبيه شيث ستمائة سنة وخمس سنين وهذا قول أهل التوراة.
وقال ابن عباس: ولد لشيث أنوس وولد معه نفرا كثيرا وإليه أوصى شيث ثم ولد لأنوش بن شيث ابنه قينان من أخته نعمة بنت شيث بعد مضي تسعين سنة من عمر أنوش وولد معه نفرا كثيرا وإليه الوصية وولد قينان مهلائيل ونفرا كثيرا معه وإليه الوصية وولد مهلائيل يرد وهو اليارد،

54
ونفرا معه وإليه الوصية فولد يرد خنوخ وهو إدريس النبي ونفرا معه وإليه الوصية وولد خنوخ متوشلخ ونفرا معه وإليه الوصية.
وأما التوراة ففيها أن مهلائيل ولد بعد أن مضى من عمر آدم عليه السلام ثلاثمائة وخمس وتسعون سنة ومن عمر
قينان سبعون وولد يرد لمهلائيل بعد ما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة فكان على منهاج أبيه غير أن الأحداث بدأت في زمانه

55
ذكر الأحداث التي كانت من لدن ملك شيث إلى أن ملك يرد
ذكر أن قابيل لما قتل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها.
وقال ابن إسحاق: إن قينا وهو قابيل نكح أخته أشوث بنت آدم فولدت له رجلا وامرأة خنوخ بن قين وعذب بنت قين فنكح أخته عذب فولدت ثلاثة بنين وامرأة غيرد ومحويل وأنوشيل وموليث ابنة خنوخ فنكح أنوشيل بن خنوخ أخته موليث وولدت له رجلا اسمه لامك فنكح لامك امرأتين اسم أحداهما عدى والأخرى صلى فولدت عدى بولس بن لامك فكان أول من سكن القباب واقتنى المال وتوبلين فكان أول من ضرب بالونج والصنج وولدت رجلا اسمه توبلقين وكان أول من عمل النحاس والحديد وكان أولادهم فراعنة وجبابرة وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق قال: ثم انقرض ولد قين ولم يتركوا عقبا إلا قليلا وذرية آدم كلها جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم إلا ما كان من شيث فمنه كان النسل وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أولاد أبيه آدم ولم يذكر ابن

56
إسحاق من أمر قابيل وولده إلا ما حكيت.
وقال غيره من أهل التوراة: إن أول من اتخذ الملاهي من ولد قابيل رجل يقال له ثوبال بن قابيل اتخذها في زمان مهلائيل بن قينان اتخذ المزامير والطنابير والطبول والعيدان والمعارف فانهمك ولد قابيل في اللهو وتناهي خبرهم إلى من بالجبل من ولد شيث فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم وبلغ ذلك يارد فوعظهم ونهاهم فلم يقبلوا ونزلوا إلى ولد قابيل فاعجبوا بما رأوا منهم فلما أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم فلما أبطأوا ظن من بالجبل ممن كان في نفسه زيغ انهم أقاموا اغتباطا فتسللوا ينزلون من الجبل ورأوا اللهو فأعجبهم ووافقوا نساء من ولد قابيل متشرعات إليهم وصرن معهم وانهمكوا في الطغيان وفشت الفحشاء وشرب الخمر فيهم وهذا القول غير بعيد من الحق وذلك أنه قد روي عن جماعة من سلف علمائنا المسلمين نحو منه إن لم يكونوا بينوا زمان من حدث ذلك في ملكه إلا أنهم ذكروا أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح منهم ابن عباس أو مثله ومثله روى الحكم بن عتيبة عن أبيه مع اختلاف قريب من القولين والله أعلم.
وأما نسابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة وبينت قول من خالفهم.
وقال هشام بن الكلبي: إنه أول من بنى البناء واستخرج المعادن وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد وبنى مدينتين كانتا أول ما بنى على ظهر الأرض من المدائن وهما مدينة بابل وهي بالعراق ومدينة السوس بخوزستان وكان ملكه أربعين سنة.

57
وقال غيره: هو أول من استنبط الحديد وعمل منه الأدوات للصناعات وقدر المياه في مواضع المنافع وخص الناس على الزراعة واعتماد الأعمال وأمر بقتل السباع الضارية واتخاذ الملابس من جلودها والمفارش وبذبح البقر والغنم والوحش وأكل لحومها وأنه بنى مدينة الري قالوا: وهي أو لمدينة بنيت بعد مدينة جيومرث التي كان يسكنها بدنباوند، وقالوا: إنه أول من وضع الأحكام والحدود وكان ملقبا بذلك يدعي بيشداد ومعناه بالفارسية أول من حكم بالعدل وذلك أن بيش معناه أول وداد معناه عدل وقضاء وهو أول من استخدم الجواري وأول من قطع الشجر وجعله في البناء وذكروا أنه نزل الهند وتنقل في البلاد وعقد على رأسه تاجا وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالناس وتوعدهم على ذلك وقتل مردتهم فهربوا من خوفه إلى المفاوز والجبال فلما مات عادوا.
وقيل: إنه سمى شرار الناس شياطين واستخدمهم وملك الأقاليم كلها وأنه كان بين مولج اوشهنج وموت جيومرث مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة.
(عتيبة بالعين وبعدها تاء فوقها نقطتان وياء وتحتها نقطتان وباء موحدة)

58
ذكر يرد
وقيل يارد بن مهلائيل أمه خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم ولد بعد ما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، وفي أيامه عملت الأصنام وعاد من عاد عن الإسلام ثم نكح يرد في قول ابن إسحاق وهو ابن مائة واثنتين وستين سنة بركتا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم.
فولدت له خنوخ وهو إدريس النبي فكان أول بني آدم أعطي النبوة وخط بالقلم وأول من نظر في علوم النجوم والحساب وحكماء اليونانيين يسمونه هرمس الحكيم وهو عظيم عندهم فعاش يرد بعد مولد إدريس ثمانمائة سنة وولد له بنون وبنان فكان عمره تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة وقيل أنزل على إدريس ثلاثون صحيفة وهو أول من جاهد في سبيل الله وقطع الثياب وخاطها وأول من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترق منهم وكان وصي والده يرد فيما كان آباؤه وصوا به إليه وفيما أوصى بعضهم بعضا وتوفي آدم بعد أن مضى من عمر إدريس ثلاثمائة وثمان سنين ودعا إدريس قومه ووعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل فلم يقبلوا منه.

59
قال: وفي التوراة أن الله رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة من عمره وبعد أن مضى من عمر أبيه خمسمائة واثنتين وستين سنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر من الرسل أربعة سريانيون آدم وشيث [ونوح] وحنوخ وهو أو لمن خط بالقلم وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة وقيل إن الله أرسله إلى جميع أهل الأرض في زمانه وجمع له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة وقال بعضهم ملك بيوراسب في عهد إدريس وكان قد وقع عليه من كلام آدم فاتخذه سحرا وكان بيوارسب يعمل به.
(يارد بياء معجمة باثنتين من تحتها وراء مهملة وذال معجمة. وحنوخ بحاء مهملة مفتوحة ونون بعدها واو وخاء معجمة وقيل بخاءين معجمتين).

60
ذكر ملك طهمورث
زعمت الفرس انه ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان يعني خير أهل الأرض ابن حبايداد بن أوشهنج وقي لفي نسبه غير ذلك وزعم الفرس أيضا أنه ملك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجا وكان محمودا في ملكه مشفقا على رعيته وأنه ابنتي سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان وأنه وثب بإبليس حتى ركبه فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها وأفزعه ومردته حتى تفرقوا وكان أول من اتخذ الصوف والشعر للبس والفرش وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وغيرها وأخذ الجوارح للصيد وكتب بالفارسية. وأن بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه ودعا إلى ملة الصابئين.
كذا قال أبو جعفر وغيره من العلماء: أنه ركب إبليس وطاف عليه والعهدة عليهم وإنما نحن نقلنا ما قالوه.
قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل طهمورث وكان لله مطيعا وكان ملكه أربعين سنة وهو أول من كتب بالفارسية وفي أيامه عبدت الأصنام وأول ما عرف الصوم في ملكه وسببه أن قوما فقراء تعذر عليهم القوت فأمسكوا نهارا وأكلوا ليلا ما يمسك رمقهم ثم اعتقدوه تقربا إلى الله وجاءت الشرائع به.

61
ذكر حنوخ وهو إدريس عليه السلام
ثم نكح حنوخ بن يرد وتقال اذانه، ابنة باويل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم وهو ابن خمس وستين سنة فولدت له متوشلخ بن حنوخ فعاش بعدما ولد متوشلخ ثلاثمائة سنة ثم رفع واستحلفه حنوخ على أمر ولده وأمر الله وأوصاه وأهل بيته قبل أن يرفع وأعلمهم أن الله سوف يعذب ولد قابيل ومن خالطهم ونهاهم عن مخالطتهم وأنه كان أول من ركب الخيل لأنه سلك رسم أبيه حنوخ في الجهاد. ثم نكح متوشلخ عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل بن حنوخ بن قين وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة فولدت له لملك بن متوشلخ فعاش بعدما ولد له لملك سبعمائة سنة وولد له بنون وبنات فكان كل ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وسبعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى إلى ابنه لملك فكان لملك يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل فلم يقبلوا حتى نزل إليهم جميع من
كان معهم في الجبل.
وقيل: كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك يقال له صابي وبه سمي الصابئون.
(قلت: محويل بحاء مهملة وياء معجمة باثنتين من تحت وقين بقاف وياء معجمة باثنتين من تحت ومتوشلخ بفتح الميم وبالتاء المعجمة باثنتين من فوق وبالشين المعجمة وبحاء مهملة وقيل خاء معجمة).

62
ونكح لمك بن متوشلخ قينوش ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة فولدت له نوح بن لمك وهو النبي فعاش لمك بعد مولد نوح خمسمائة سنة وخمسا وتسعين سنة وولد له بنون وبنات ثم مات ونكح نوح بن لمك عزرة بنت براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين وهو ابن خمسمائة سنة فولدت له ولده ساما وحاما ويافث بني نوح. وكان مولد نوح بعد موت آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة ولما أدرك قال له أبوه لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الجبل غيرنا فلا تستوحش ولا تتبع الأمة الخاطئة وكان نوح يدعو قومه ويعظهم فيستخفون به.
وقيل كان نوح في عهد بيوراسب وكانوا قومه فدعاهم إلى الله تسعمائة وخمسين سنة كلما مضى قرن اتبعهم قرن على ملة واحدة من الكفر حتى أنزل الله عليهم العذاب.
وقال ابن عباس فيما رواه الكلبي عن أبي صالح عنه: فولد لمك نوحا وكان له يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة ولم يكن في ذلك الزمان أحد ينهى عن منكر فبعث الله إليهم نوحا وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة فدعاهم مائة وعشرين سنة ثم أمره الله بصنعة الفلك فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثم مكث من بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة وروي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على ملة الحق وان الكفر بالله حدث في القرن الذي بعث إليهم فيه نوح فأرسله الله وهو أول نبي بعث بالإنذار والدعاء إلى التوحيد وهو قول ابن عباس وقتادة.

63
ذكر ملك جمشيد
وأما علماء الفرس فإنهم قالوا: ملك بعد طهمورث جمشيد، والشيد عندهم الشعاع وجم القمر لقبوه بذلك لجماله وهو جم بن ويونجهان وهو أخو طهمورث، وقيل إنه ملك الأقاليم السبعة وسخر له ما فيها من الجن والأنس وعقد التاج على رأسه وأمر لسنة مضت من ملكه إلى خمسين سنة بعمل السيوف والدروع وسائر الأسلحة وآله الصناع من الحديد ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعمل الإبريسم وغزله والقطن والكتان وكل ما يستطاع غزاه وحياكة ذلك وصبغه ألونا ولبسه ومن سنة مائة إلى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات طبقة مقاتلة وطبقة فقهاء وطبقة كتاب وصناع وطبقة حراثين واتخذ منهم خدما ووضع لكل أمر خاتما مخصوصا به فكتب على خاتم الحرب الرفق والمداراة وعلى خاتم الخراج العمارة والعدل وعلى خاتم البرد والرسل الصدق والأمانة وعلى خاتم المظالم السياسة والانتصاف وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام.
ومن سنة مائة وخمسين إلى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين وأذلهم وقهرهم وسخروا له ومن سنة خمسين ومائتين إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكل الشياطين بقطع الحجار والصخور من الجبال وعمل والرخام والجص والكلس والبناء بذلك الحمامات والنقل من البحار والجبال والمعادن والذهب

64
والفضة وسائر ما يذاب من الجواهر وأنواع الطيب والأدوية فنفذوا في ذلك بأمره. ثم أمر فصنعت له عجلة من الزجاج فأصفد فيها الشياطين وركبها وأقبل عليها في الهواء من دنباوند إلى بابل في يوم واحد وهو هرمزروز وافروز دين ماء فاتخذ الناس ذلك اليوم عيدا وخمسة أيام بعده. وكتب إلى الناس في اليوم السادس يخبرهم أنه قد سار بسيرة ارتضاها الله فكان من جزائه إياه عليها أنه قد جنبهم الحر والبرد والأسقام والهرم والحسد فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والستة عشر سنة لا يصيبهم شيىء مما ذكر.
ثم بنى قنطرة على دجلة فبقيت دهرا طويلا حتى خربها الإسكندر وأراد الملوك عمل مثلها فعجزوا فعدلوا إلى عمل الجسور من الخشب ثم أن جما بطر نعمة الله عليه وجمع الأنس والجن والشياطين وأخبرهم أنه وليهم ومانعهم بقوته من الأسقام والهرم والموت وتمادى في غيه فلم يحر أحد منهم جوابا وفقد مكانه وبهاءه وعزه وتخلت عنه الملائكة الذي كان الله أمرهم بسياسة أمره فأحس بذلك بيوراسب الذي سمي الضحاك فابتدر إلى جم لينتهسه فهرب منه ثم ظفر به بعد ذلك بيوراسب فاستطرد أمعاءه وأشره بمئشار.
وقيل: إنه أدعى الربوبية فوثب عليه أخوه ليقتله واسمه اسغتور فتوارى عنه مائة سنة فخرج عليه في تواريه بيوراسب فغلبه على ملكه.

65
وقيل: كان ملكه سبعمائة سنة وست عشرة سنة وأربعمائة أشهر.
قلت: وهذا الفصل من حديث جم قد أتينا به تاما بعد أن كنا عازمين على تركه لما فيه من الأشياء التي تمجها الأسماع وتأباها العقول والطباع فإنها من خرافات الفرس مع أشياء أخر قد تقدمت قبلها وإنما ذكرناها ليعلم جهل الفرس فإنهم كثيرا ما يشنعون على العرب بجهلهم وما بلغوا هذا ولأنا لو كنا تركنا هذا الفصل لخلا من شيء نذكره من أخبارهم.

66
ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح عليه السلام
قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذين أرسل إليهم نوح فمنهم من قال إنهم كانوا قد اجمعوا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش والكفر وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله ومنهم من قال: إنهم كانوا أهل طاعة وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد.
وأما كتاب الله تعالى، قال: فينطق بأنهم أهل أوثان قال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا).
قلت: لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة فغن القول الحق الذي لا يشك فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها كما نطق به القرآن وهو مذهب طائفة من الصابئين فإن أصل مذهب الصابئين عبادة الروحانيين وهم الملائكة لتقربهم إلى الله تعالى زلفى فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدس إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدس إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى معرفة جلاله وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقربة لديه وهم الروحانيون,

67
وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم ثم ذهبت طائفة منهم وهم أصحاب الأشخاص حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلا ولا نهارا إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسلوا بها إلى الهياكل والهياكل إلى الروحانيين والروحانيون إلى صانع العالم. فهذا كان أصل وضع الأصنام أولا وقد كان أخيرا في العرب من هو على هذا الاعتقاد قال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). فقد حصل من عبادة الأصنام مذهب الصابئين والكفر والفواحش وغير ذلك من المعاصي.
فلما تمادى قوم نوح على كفرهم وعصيانهم بعث الله إليهم نوحا يحذرهم بأسه ونقمته ويدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق والعمل بما أمر الله تعالى وأرسل نوح وهو ابن خمسين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
وقال عون بن شداد: إن الله تعالى أرسل نوحا وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة وقيل غير ذلك وقد تقدم.
قال ابن إسحاق وغيره: إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون! حتى

68
إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت منهم الخطيئة وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنونا لا يقبلون منه شيئا وكان يضرب ويلف ويلقى في بيته يرون أنه قد مات فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم إلى الله فلما طال ذلك عليه ورأى الأولاد شرا من الآباء قال: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن تلك لك فيهم حاجة فاهدهم وإن يك غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم فيهم فأوحى إليه: (أنه لن يؤمن قومك إلا من قد
آمن) فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) إلى آخر القصة. فلما شكا إلى الله واستنصره عليهم أوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيء عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها مما لا يصلحه سواه وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه فيقول (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون) قال: ويقولون قد صرت نجارا بعد النبوة. وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم وصنع الفلك من خشب الساج وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطولها في السماء ثلاثين ذراعا.
وقال

69
قنادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعا. وقال الحسن: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والله أعلم.
ولأمر نوحا أن يجعله ثلاث طبقات سفلى ووسطى وعليا ففعل نوح كما أمره الله تعالى حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه إذا جاء أمرنا وفار التنور فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن معه إلا قليل وقد جعل التنور آية فيما بيانه وبينه فلما فار التنور وكان فيما قيل من حجارة كان لحواء وقال ابن عباس: كان ذلك تنورا من أرض الهند وقال مجاهد والشعبي: كان التنور بأرض الكوفة وأخبرته زوجته بفوران الماء في التنور وأمر الله جبرائيل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة وكانت من ياقوت الجنة كما ذكرناه وخبأ الحجر الأسود بجبل أبي قبيس فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله موضعه ولما فار التنور حمل نوح من أمر الله بحمله وهم أولاد ه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساؤهم وستة أناسي، فكانوا مع نوح [ثلاثة] عشرة.
وقال ابن عباس: كان في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم كلهم بنوشيث. وقال قتادة: كانوا ثمانية أنفس نوح وامرأته وثلاثة بنوه ونساؤهم وقال الأعمش: كانوا سبعة ولم يذكر فيهم زوج نوح وحمل معه جسد آدم ثم أدخل ما أمر الله به من الدواب وتخلف عنه ابنه يام وكان كافرا،

70
وكان آخر من دخل السفينة الحمار فلما دخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم ترتفع رجلاه فجعل نوح يأمره بالدخول فلا يستطيع حتى قال: ادخل وإن كان الشيطان معك فقال كلمة زلت على لسانه فلما قالها دخل الشيطان معه فقال له نوح: ما أدخلك يا عدو الله؟ فقال: ألم تقل أدخل وإن كان الشيطان معك فتركه. ولما أمر نوح بإدخال الحيوان السفينة قال: أي رب كيف أصنع بالأسد والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب والطير والهر؟ قال: الذي ألقى بينها العداوة وهو يؤلف بينها فألقى الحمى على الأسد وشغله بنفسه ولذلك قيل:
(وما الكلب محموما وإن طال عمره * ألا إنما الحمى على الأسد الورد)
وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة وجعل الوحش في الطبق الأوسط وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى فلما اطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كل من أمر به وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم وفي قول بعضهم ما ذكرناه وحمل معه من حمل جاء الماء كما قال الله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) فكان بين أن أرسل الماء وبين أن يحتمل الماء الفلك أربعون يوما وأربعون ليلة وكثر واشتد وارتفع وطمى وغطى نوح عليه وعلى من معه طبق السفينة وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه الذي هلك،

71
و كان في معزل: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) وكان كافرا؛ (قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وكان عهد الجبال وهي حرز وملجأ فقال نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين). وعلا الماء على رؤوس الجبال فكان على أعلا جبل في الأرض خمسة عشر ذراعا فهلك ما على وجه الأرض من حيوان وبنات فلم يبق إلا نوح ومن معه والأعوج بن عنق فيما زعم أهل التوراة وكان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال.
قال ابن عباس: أرسل الله المطر أربعين يوما فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والطين إلى نوح وسخرت له فحمل منها كما أمره الله فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب وكان ذلك لثلاث عشرة خلت من آب وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم فلذلك صام من صام يوم عاشوراء وكان الماء نصفين نصفا من السماء ونصفا من الأرض وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى الجودي وهو جبل بقردى بأرض الموصل فاستقرت عليه فقيل عند ذلك: (بعدا للقوم الظالمين).

72
ولما استقرت قيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء نشفته الأرض وأقام نوح في الفلك إلى أن غاض الماء فلما خرج منها اتخذ بناحية من قردى من الماء أرض الجزيرة موضعا وابتنى قرية سموها ثمانين وهي الآن تسمى سوق الثمانين لان كل واحد ممن معه بنى لنفسه بيتا وكانوا ثمانين رجلا.
قال بعض أهل التوراة: لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان وقيل إن ساما ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة وقيل إن اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام.
وأما المجوس فإنهم لا يعرفون الطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرث وهو آدم ولو كان كذلك لكان نسب القوم قد انقطع وملكهم قد اضمحل وكان بعضهم يقر بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه وأن مساكن ولد جيومرث كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم.
وقول الله تعالى أصدق في أن ذرية نوح هم الباقون فلم يعقب أحد ممن كان معه في السفينة غير ولده سام وحام ويافث.
ولما حضرت نوحا الوفاة قيل له كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر وأوصى إلى ابنه سام وكان أكبر ولده.

73
ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحاك
وأهل اليمن يدعون أن الضحاك منهم وأنه أول الفراعنة وكان ملك مصر لما قدمها إبراهيم الخليل والفرس تذكر أنه منهم وتنسبه إليهم وأنه بيوراسب بن ارونداسب بن رينكار بن وندريشتك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشى بن جيومرث ومنهم من ينسبه هذه النسبة وزعم أهل الأخبار انه ملك الأقاليم السبعة وأنه كان ساحرا فاجرا.
قال هشام بن الكلبي: ملك الضحاك بعد جم فيما يزعمون والله أعلم ألف سنة ونزل السواد في قرية لها برس في ناحية طريق الكوفة وملك الأرض كلها وسار بالفجور والعسف وبسط يده في القتل وكان أول من سن الصلب والقطع وأول من وضع العشور وضرب الدراهم وأول من تغنى وغني له قال: وبلغنا أن الضحاك هو نمرود، وأن إبراهيم عليه السلام ولد في زمانه وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه. وتزعم الفرس أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث وأن الضحاك كان غاضبا وأنه غضب أهل الأرض بسحره وخبثه وهول عليهم بالحيتين اللتين كانتا على منكبيه.

74
وقال كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين كل واحدة منهما كرأس الثعبان وكان يسترهما بالثياب ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان يقتضيانه الطعام وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاعتا ولقي الناس منه جهدا شديدا وذبح الصبيان لأن اللحمتين اللتين كانت على منكبيه كانت تضربانه فإذا طلاهما بدماغ إنسان سكنتا فكان يذبح كل يوم رجلين فلم يزل الناس كذلك حتى إذا أراد الله وثب رجل من العامة من أهل أصبهان بقال له كأبي بسبب ابنين له أخذهما أصحاب بيوراسب بسبب اللحمتين اللتين على منكبيه وأخذ كأبي عصا كانت بيده فعلق بطرفها جرابا كان معه ثم نصب ذلك كالعلم ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب ومحاربته فأسرع إلى إجابته خلق كثير لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور فلما غلب كأبي تفاءل الناس بذلك العلم فعظموه وزادوا فيه فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور الكبار العظام ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور الكبار.
وكان من خبر كأبي أنه من أهل أصبهان فثار بمن فالتفت الخلائق إليه فلما أشرف على الضحاك قذف في قلب
الضحاك منه الرعب فهرب عن منازله وخلى مكانه فاجتمع الأعجام إلى كأبي فأعلمهم أنه لا يتعرض للملك لأنه ليس من أهله وأمرهم أن يملكوا بعض ولد لأنه ابن الملك أوشهنج الأكبر بن فروال الذي رسم الملك وسبق في القيام به وكان أفريدون

75
ابن أثغيان مستخفيا من الضحاك فوافى كأبي ومن معه فاستبشروا بموافاته فملكوه وصار كأبي والوجوه لأفريدون أعوانا على أمره فلما ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك واحتوى على منازل الضحاك وسار في أثره فأسره بدنباوند في جبالها.
وبعض المجوس تزعم أنه وكل به قوما من الجن وبعضهم يقول إنه لقي سليمان بن داود وحبسه سليمان في جبل دنباوند وكان ذلك الزمان بالشام فما برح بيوراسب بحبسه يجره حتى حمله إلى خراسان فلما عرف سليمان ذلك أمر الجن فأوثقوه حتى لا يزول وعملوا عليه طلسما كرجلين يدقان باب الغار الذي حبس فيه أبدا لئلا يخرج فإنه عندهم لا يموت.
وهذا أيضا من أكاذيب الفرس الباردة ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها.
وبعض الفرس يزعم أن أفريدون قتله يوم النيروز فقال العجم: عند قتله: إمروز نوروز أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيدا وكان أسره يوم المهرجان، فقال العجم: آمد مهرجان لقتل من كان يذبح وزعموا أنهم لم يسمعوا في أمور الضحاك بشيء يستحسن غير شيء واحد وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وتراسل الوجوه في أمره فاجمعوا على المصير إلى بابه فوافاه الوجوه فاتفقوا على أن يدخل عليه كأبي الأصبهاني فدخل عليه ولم يسلم، فقال: أيها الملك أي السلام أسلم عليك سلام؟ من يملك الأقاليم؟ كلها أم سلام من يملك هذا الإقليم فقال بل سلام من يملك الأقاليم لأني

76
ملك الأرض فقال كأبي: إذ كنت تملك الأقاليم كلها فلم خصصتنا بأثقالك وأسبابك من بينهم ولم لا تقسم الأمور بيننا وبينهم؟ وعدد عليه أشياء كثيرة، فصدقه، فعمل كلامه في الضحاك، فأقر بالإساءة وتألف القوم ووعدهم بما يحبون وأمرهم بالانصراف ليعودوا ويقضي حوائجهم ثم ينصرفوا إلى بلادهم.
وكانت أمه حاضرة تسمع معاتبتهم، وكانت شرا منه فلما خرج القوم دخلت مغتاظة من احتماله وحلمه عنهم فوبخته وقالت له ألا أهلكتهم وقطعت أيديهم فلما أكثرت عليه قال لها يا هذا لا تفكري في شيء إلا وقد سبقت إليه إلا أن القوم بدهوني بالحق وقرعوني به فكلما هممت بهم تخيل لي الحق بمنزلة الجبل بيني وبينهم فما أمكنني فيهم شيء ثم جلس لأهل النواحي فوفى لهم بما وعدهم وقضى أكثر حوائجهم.
وقال بعضهم كان ملكه ستمائة سنة وكان عمره ألف سنة وأنه كان في باقي عمره شبيها بالملك لقدرته ونفوذ أمره وقيل كان ملكه ألف سنة ومائة سنة.
وإنما ذكرنا خبر بيوراسب ههنا لأن بعضهم يزعم أن نوحا في زمانه وإنما أرسل إليه وإلى أهل مملكته وقيل إنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة صور ومدينة دمشق.

77
ذكر ذرية نوح عليه السلام
قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) إنهم سام وحام ويافث. وقال وهب بن منبه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم وإن حام أبو السودان وإن يافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقيل إن القبط من ولد قوط بن حام وإنما كان السودان في نسل حام لأن نوحا نام فانكشف سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوبا فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدع عليهم.
قال ابن إسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صلب ابنة بتأويل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم فولدت له نفرا: أرفخشذ واسوذ ولاود وأرم قال: ولا أدري آرم لأم أرفخشذ وإخوته أم لا. فمن ولد لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعمليق وهو أبو العماليق ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون والفراعنة بمصر وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل وهي بين اليمامة والشحر وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقية وهم الذين يقال لهم النسناس وكان طسم ساكني اليمامة إلى البحرين فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قوما عربا لسانهم عربي ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن

78
تسمى صنعاء. وانحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلا فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل سيل فاجتحفهم أي أهلكهم، فسميت الجحفة.
قال: وولد آرم بن سام عوض وعابر وحويل فولد عوض عابر وعاد وعبيلا وولد غاثر بن إرم ثمود وجديسا وكانوا عربا يتكلمون بهذا اللسان المصري وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة ويقولون لبني إسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أظهرهم فكانت عاد بهذا الرمل إلى حضرموت وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين واسم اليمامة إذ ذاك جو وسكنت جاشم عمان والنبط من ولد نبيط بن ماش بن آرم بن سام. والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان كان ساحرا وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذلك فينان لما ذكر من سحره وولد لشالخ عابر ولعابر فالغ ومعناه القاسم لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وقحطان بن عابر فولد لقحطان يعرب ويقظان فنزلا اليمن وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن وولد لفالغ بن عابر

79
أرغو، وولد لأرغو ساروغ، وولد لساروغ ناخور وولد لناخور تارخ واسمه بالعربية آزر وولد لآزر إبراهيم عليه السلام وولد لأرفخشذ أيضا نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
قال: هشام بن الكلبي السند والهند بنو توقير بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وجرهم من ولد يقطن بن عابر وحضرموت بن يقطن ويقطن هو قحطان في قول من نسبه إلى غير إسماعيل.
والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة فإنهما بنو فريقش بن ضيفي بن سبأ.
وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش. فمن ولد جامر ملوك فارس في قول ومن ولد تيرش الترك والخزر ومن ولد ماشج الاشبان ومن ولد موعع يأجوج ومأجوج ومن ولد بوان الصقالبة وبرجان والاشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم وقصد كل فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضا فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها ومن

80
ولد يافث الروم وهم بنو لنطى ين يونان بن يافث بن نوح.
وأما حام فولد له كوش ومصرايم وفوط وكنعان فمن ولد كوش نمرود بن كوش وقيل هو من ولد سام وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر.
وأما فوط فقيل إنه سار إلى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده.
وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل ثم وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام إلى العراق إلا قليلا منهم ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام وكان يقال لعاد عاد إرم فلما هلكوا قيل لثمود إرم.
قال:
وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسم بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان وكان جميع عمر سام ستمائة سنة.
ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة وكان عمره أربعمائة وثمانيا وثلاثين سنة ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضى من عمره تسع وثلاثون سنة ولم تذكر مدة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره. ثم ولد لشالخ عابر بعد ما مضى من عمره ثلاثون سنة وكان عمره كله أربعمائة وثلاثا وثلاثون سنة ثم ولد لعابر فالغ وأخوه قحطان وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة وكان عمره أربعمائة وأربعا وسبعين سنة ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ وكان عمره

81
مائتين وتسعا وثلاثين سنة. وولد لأرغو ساروغ بعد ما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة وكان عمره مائتين وتسعا وثلاثين سنة وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة وكان عمره كله مائتين وثلاثين سنة ثم ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعد ما مضى من عمره سبع وعشرون سنة وكان عمره كله مائتين وثمانيا وأربعين سنة وولد لتارخ وهو آزر إبراهيم عليه السلام وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة وولد لقحطان بن عابر يعرب فولد ليعرب يشجب فولد يشجب سبأ فولد سبأ حمير وكهلان وعمرا والأشعر وأنمار ومرا فولد عمرو بن سبأ وولد عدي لخما وجذاما.

82
ذكر ملك أفريدون
وهو أفريدون بن أثغيان وهو من ولد جمشيد وقد زعم نسابة الفرس أن نوحا هو أفريدون الذي قهر الضحاك وسلبه ملكه وزعم بعضهم أن أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحاك على يديه ولأنه قيل إن هلاك الضحاك كان على يد نوح.
وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جمشيد الملك وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى أثغيان خوفا من الضحاك وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال لأحدهم أثغيان صاحب البقر الحمر وأثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك وكان أفريدون أول من ذلل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعمل الترياق ورد المظالم وأمر الناس بعبادة الله والأنصاف والإحسان ورد على الناس ما كان الضحاك غصبه من الأرض وغيرها إلا ما لم يجد له صاحبا فإنه وقفه على المساكين.
وقيل: إنه أول من سمي الصوفي وهو أول من نظر في علم الطب وكان له ثلاثة بنين اسم الأكبر شرم والثاني طوج والثالث إيرج فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثا وجعل ذلك في سهام كتب

83
أسماؤهم عليها وأمر كل واحد منهم فاخذ سهما العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لا يرج وهو الثالث وكان يحبه وأعطاه التاج والسرير، ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لا يرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم وكان ملكه خمسمائة سنة.

84
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم
قد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كل فريق منهم فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولا فكذبوه فأهلكهم الله هذان الحيان من ولد إرم بن سام بن نوح أحدهما عاد والثاني ثمود.
فأما عاد فهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهو عاد الأولى وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف فكانوا جبارين طوال القامة لم يكن مثلهم يقول الله تعالى (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة) فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص ومن الناس من يزعم أنه هود وهو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدهما ضرا وللآخر ضمور وللثالث الهباء فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس فكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة. ولم يؤمن بهود منهم إلا قليل وكان من أمره ما ذكره ابن إسحاق قال: إن عادا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودا فلما أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة يستسقون لكم فبعثوا قيل بن عير

85
ولقيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلا من قومهم فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأكرمهم وكانوا أخواله وصهره لأن لقيم بن هزال كان تزوج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولادا كانوا عند خالهم معاوية بمكة وهم عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى فلما نزلوا علة معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له ذلك للجرادتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قائله لعلهم يتركون؛ فقال معاوية:
(ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصحبنا غماما)
(فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما)
في أبيات ذكرها والهيمنة الكلام الخفي فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليهم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون وأظهر إسلامه عند ذلك فقال جلهمة بن الخيبري، خال معاوية، لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد وخرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء

86
وسوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا ألا تبقي من عاد أحدا لا ولد تترك ولا والد إلا جعلته همدا إلا بني اللوذية المهدي. وبنو اللوذية بنو لقيم بن هزال كانوا بمكة عند خالهم معاوية بن بكر وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب إلى عاد فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: (هذا عارض ممطرنا) يقول الله تعالى (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها) أي كل شيء أمرت به وكان صاحت وصعقت فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فلما خرجت الريح من الوادي قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان تعالوا: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها. فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال:
(لم يبق إلا الخلجان نفسه * يا لك من يوم دهاني أمسه)
(بثابت الوطء شديد وطسه * لو لم يجئني جئته أجسه)
فقال له هود: أسلم تسلم فقال: ومالي قال: الجنة فقال: فما

87
هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت؟ قال: الملائكة قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت؟ قال: هل رأيت ملكا لا يعيذ من جنده قال: لو فعل ما رضيت.
ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه وسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال تعالى والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه [منها] الإ تليين الجلود وإنها لتمر من علد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة. وعاد وفد عاد إلى معاوية بن بكر فنزلوا عليه فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود.
قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل إلى الخلود فقال: يا رب أعطني عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر فعمر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة فلما مات السابع مات لقمان معه وكان السابع يسمى لبدا قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة وقبره بحضرموت وقيل بالحجر من مكة فلما هلكوا أرسل الله طيرا أسود فنقلتهم إلى البحر فذلك قوله تعالى (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت

88
على الخزنة فذلك قوله (أهلكوا بريح صرصر عاتية) وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه.
وأما ثمود فهو ولد ثمود بن جاثر بن أرم بن سام وكانت مساكين ثمود بالحجر بين الحجاز والشام وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود وقيل أسف بن كماشج بن أروم بن ثمود يدعوعهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة (فقالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) الآية؛ وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فارهين فنحتوها وكانوا في سعة من معايشهم ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح أخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا
اتبعتنا فقال: نعم، فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به وقال له سيد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة ناقة جوفاء عشراء فإن فعلت ذلك صدقناك.

89
فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلى ودعا ربه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فآمن به سيد قومه واسمه جندع بن عمرو ورهط من قومه فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: (هذه الناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) ومتى عقرتموها أهلككم الله فكان شربها يوما وشربهم يوما معلوما فإذا كان يوم شربها خلوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأ وأكل وإناء وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئا وتزودوا من الماء للغد.
فأوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون الناقة فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل قال: إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها قالوا: وما علامته؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا فزوج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود فلما قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهن شرطا يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو فلما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبي الله صالح فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وبينه وقالوا لو أراد صالح هذا لقتلناه. فكان شر مولود وكان يشب في اليوم

90
شباب غيره في الجمعة فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفا أن يكون عاقر الناقة منهم ثم ندموا فأقسموا ليقتلن صالحا وأهله وقالوا: نخرج فنرى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه فإذا جاء الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه ثم رجعنا إلى الغار ثم انصرفنا إلى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدقنا قومه وكان صالح لا يبيت معهم كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه فلما دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى فعادوا يصيحون أن صالحا امرهم بقيل أولادهم ثم قتلهم.
وقيل: إنما كان تقاسم الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلنا قتله وإن كان كاذبا ألحقناه بالناقة فأتوه ليلا في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا فاتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا: لصالح أنت قتلتهم وأرادوا قتله فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم غضبا وإن كان كاذبا فنحن نسلمه إليكم فعادوا عنه؛ فعلى القول الأول يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة والثاني أصح والله أعلم.
وأما سبب قتل الناقة فقيل إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزحون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة فحرص بعضهم بعضا على قتلها وقيل: إن ثمودا كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام وللأخرى قبال وكان قدار يهوى قطام ومصدع يهوى قبال

91
ويجتمعان بهما ففي بعض الليالي قلتا لقدار ومصدع لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة فقالا: نعم، وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها فقال الشقي لأحدهم: اذهب فاعقرها فأتاها فتعاظمه ذلك فأصرت عنه وبعث آخر بأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحدا إلا تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض وكان قتلها يوم الأربعاء واسمه بلغتهم جبار وكان هلاكهم يوم الأحد وهو عندهم أول فلما قتلت أتى رجل منهم صالحا فقال: أدرك الناقة فقد عقروها فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان إنه لا ذنب لنا قال: أنظروا هل تدركون فصيلها؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمه تضطرب قصد جبلا يقال له القارة قصيرا فصعده وذهبوا يطلبونه فأوحى الله إلى الجبل فطال في السماء حتى ما يناله الطير ودخل صالح القرية ولما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم استقبل صالحا فرغا ثلاثا فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة وتصبح في اليوم الثاني محمرة، فلما أصبحوا في اليوم

92
الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فتكفنوا وتحنطوا يقلبون أبصارهم إلى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة فتقطعت قلوبهم في صدورهم (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا كان في الحرم فمنعه الحرم قيل ومن هو قيل هو أبو رغال وهو أبو ثقيف في قول.
ولما سار النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قرية ثمود فقال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل وأراهم الفج الذي كانت الناقة ترد منه الماء.
وأما صالح، عليه السلام فإنه سار إلى الشام فنزل فلسطين ثم انتقل إلى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة.
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة قال: وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل عليه السلام.
قلت وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوة إبراهيم الخليل ورسالته وكذلك إنكارهم حال المسيح عليه السلام.

93
ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام
ومن كان في عصره من ملوك العجم
وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه فقيل ولد بالسوس من أرض الأهواز وقيل ولد ببابل وقيل بكوثى وقيل بحران ولكن أباه نقله. قال عامة أهل العلم: كان مولده ف يعهد نمرود بن كوش ويقول عامة أهل الأخبار أن نمرود كان عاملا للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحا أرسل إليه واما جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون كان ملكا برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغربها وكان ببابل قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض الا لثلاثة ملوك نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود وأضاف غيره إليهم بختنصر وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على خلقه ورسولا إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبي إلا هود وصالح فلما تقارب زمان إبراهيم أتى أصحاب النجوم نمرود فقالوا له: أنا نجد غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم يفارق دينكم ويكسر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا فلما دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الجبالي عنده إلا أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره فذبح كل غلام ولد في ذلك الوقت.

94
فلما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبة منها فولدت إبراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ثم سعت إلى بيتها راجعة ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل. فكان يشب في اليوم ما يشب غيره في الشهر وكانت تجده حيا يمص إبهامه جعل الله رزقه فيها.
وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها فقالت: ولدت غلاما فمات فصدقها، وقيل بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك، فقال آزر: إن لي أبنا قد خباته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ فقالوا: لا فانطلق فأخرجه من السرب فلما نظر إلى الدواب والى الخلق ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه فجعل يسأل أباه عما يراه فيقول أبوه هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك فقال: مال هؤلاء الخلق بد من أن يكون لهم رب وكان خروجه بعد غروب الشمس فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري فقال: هذا ربي فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكر وعمره خمسة عشر شهرا وقال لأمه وهو في المغارة: أخرجيني انظر فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكر في خلق السماوات والأرض وقال في الكواكب ما تقدم، (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نورا
أعظم من كل ما رأى فقال: (هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال::

95
يا قوم أني برئ مما تشركون) ثم رجع إبراهيم إلى أبيه وقد عرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم ينادهم بذلك فأخبرته أمه بما كانت صنعت من كتمان حاله فسره ذلك.
وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها فكان إبراهيم يقول من يشري مالا يضره ولا ينفعه فلا يشتريها منه أحد وكان يأخذها وينطلق بها إلى نهر فيصوب رؤسها فيه ويقول أشربي استهزاء بقومه حتى فشا ذلك عنه في قومه غير أنه لم يبلغ خبره نمرود فلما بدا لإبراهيم أن يدعو قومه إلى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه إلى التوحيد فلم يجبه ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت؟ قال: رب العالمين قالوا: نمرود؟ قال: بل أعبد الذي خلقني فظهر أمره. وبلغ نمرود أن إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجة فجعل يتوقع قرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك فنظر نظرة في النجوم فقال: إني سقيم أي طعين ليهربوا منه إذا سمعوا به وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عليه ليبلغ من أصنامهم وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم إلى العيد وخالف إلى أصنامهم وهوي قول (تالله لأكيدن أصنامكم) فسمعه ضعفاء الناس ومن هو في آخرهم ورجع إلى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها إلى جنب

96
بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله فلما نظر إبراهيم إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: (ألا تأكلون؟) فلما لم يجبه أحد قال: ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثم تركهن.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) يعنون يسبها ويعيبها ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنه صنع بها هذا وبلغ ذلك نمرود وأشرف قومه فقالوا: (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) ما نفعل به وقيل يشهدون عليه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فلما أتى به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) غضب من أن تعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها فارعووا ورجعوا عنه فيما ادعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا، لقد ظلمناه وما نراه إلا كما قال ثم قالوا وعرفوا أنها لا تضر ولا تبطش: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)،

97
أي لا يتكلمون، فيخبرونا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدقك قول الله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) في الحجة عليهم لإبراهيم. فقال لهم إبراهيم عند قولهم (ما هؤلاء ينطقون): (أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون).
ثم إن نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبده وتدعو إلى عبادته ما هو؟ قال: (ربي الذي يحيي ويميت) قال نمرود: أنا أحيي وأميت قال إبراهيم: وكيف ذلك؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته. فقال إبراهيم: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت) عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئا. ثم إنه وأصحابه أجمعوا على [قتل] إبراهيم فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم).
قال عبد اله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم الأكراد هم أعرابهم. قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتنذر

98
ب‍: إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدموه وأشعلوا النار حتى فلما أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء والأرض وما فيها [من الخلق] الا الثقلين إلى الله صيحة واحدة: أي ربنا! إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فإذن لنا في نصره قال الله تعالى: إن استغاث بشئ منكم فلينصره وإن يدع غيري فأنا له فلما رفعوه على رأس البنيان رفع إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنت الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل. وعرض له جبريل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إبراهيم قال: أما إليك فلا فقذفوه في النار فناداها الله فقال: (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) وقيل: ناداها جبريل، فلو لم يتبع بردها سلام لمات إبراهيم من شدة بردها فلم يبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها هي وبعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه.
فمكث نمرود أياما لا يشك أن النار قد أكلت إبراهيم فرأى كأنه نظر فيها وهي يحرق بعضها بعضا وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله فقال لقومه: لقد رأيت كأن إبراهيم حي ولقد شبه علي ابنوا لي صرحا يشرف بي على النار فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالسا والى جانبه رجل في صورته فناداه نمرود يا إبراهيم إن كبير إلهك الذي بلغت قدرته وعزته أن حال بينك وبين ما أرى هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم.

99
قال: أتخشى إن أقمت فيها [أن تضرك؟] قال: لا. فقام إبراهيم فخرج فلما خرج قال له: يا إبراهيم من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك. قال: ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسي. قال نمرود: إي مقرب إلهك قربنا لما رأيت من قدرته وعزته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته.
فقال إبراهيم: إذا لا يقبل الله منك م كنت على شيء من دينك فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي وقرب أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم ومنعه الله منه وآمن مع إبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملئهم وآمن له لوط بن هاران وهو ابن أخي إبراهيم وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ وهو أبو بتويل وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب ولابان أبو ليئة وراحيل زوجتي يعقوب وآمنت به سارة وهي ابنة عمه وهي سارة ابنة هاران الأكبر عم إبراهيم وقيل كانت ابنة ملك حران فآمنت بالله تعالى مع إبراهيم.
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه
ثم إن إبراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجرا حتى قدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن

100
علوان بن عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح وقيل كان أخا الضحاك استعمله على مصر وكانت سارة من أحسن النساء وجها وكانت لا تعصى إبراهيم شيئا فلما وصفت لفرعون أرسل إلى إبراهيم فقال: من هذه التي معك؟ قال: أختي يعنى في الإسلام وتخوف إن قال هي امرأتي أن يقتله فقال له: زينها وأرسلها إلي فأمر بذلك إبراهيم فتزينت وأرسلها اليه فلما دخلت عليه أهوى بيده إليها وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلي فلما أهوى إليها أخذ شديدا فقال: ادعى الله ولا أضرك فدعت له فأرسل فاهوى إليها فأخذ أخذا شديدا فقال: ادعي ولا أضرك فدعت له تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر ففعل فأقبلت بهاجر فلما أحس إبراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم! فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول تلك أمكم يا بني ماء السماء. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات اثنتين في ذات الله قوله: (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله في سارة: هي أختي.

101
ذكر ولادة إسماعيل عليه السلام
وحمله إلى مكة
قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت خذها لعل الله يرزقك منها ولدا وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة ورحما يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها إلى الشام من مصر خوفا من فرعون فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع مسيرة يوم وليلة فبعثه الله نبيا وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئرا ومسجدا وكان ماء البئر معينا طاهرا فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز
وقال إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معينا طاهرا فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض فخرجوا بالأعنز فلما الماء فلما وقفت على الماء ظهر إليها وكانوا يشربون منه إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء إلى الذي هو عليه اليوم وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قط أو قط.
قال فلما ولد إسماعيل حزنت سارة حزنا شديدا فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة فلما كبر إسماعيل

102
وإسحاق اختصما فغضبت سارة على هاجر فأخرجتها ثم أعادتها فغارت منها فأخرجتها وحلفت لتقطعن منها بضعة فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها ثم خفضتها فمن ثم خفض النساء وقيل كان إسماعيل صغيرا وإنما أخرجتها سارة غيرة منها وهو الصحيح وقالت سارة لا تساكنني في بلد. فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر فوضعها بمكة بموضع زمزم فلما مضى نادته هاجر يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع زلا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس. قال ربي أمرني قالت فإنه لن يضيعنا. فلما ولى قال (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) يعني من الحزن وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي) الآية.
فلما ظمىء إسماعيل جعل يدحض الأرض برجله فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئا فلم تر شيئا فانحدرت إلى الوادي فسمعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئا فلم تر شيئا ففعلت ذلك سبع مرار فذلك أصل السعي ثم جاءت إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين وهي زمزم فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء وكلما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم يرحمها الله لو تركتها لكانت عينا سائحة.
وكانت جرهم بواد قريب من مكة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا ما لزمته إلا وفيه ماء فجاؤوا إلى هاجر فقالوا لو شئت لكنا معك فآنسناك والماء ماؤك. قالت:

103
نعم. فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده فهم العرب المتعربة.
واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت ليس ههنا ذهب يتصيد وكان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيد ثم يرجع. قال إبراهيم: هل عندك ضيافة قالت ليس عندي ضيافة وما عندي أحد. فقال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه.
وعاد إبراهيم، وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال لامرأته هل عندك أحد قالت جاءني شيخ كذا وكذا كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال: اقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه. فطلقها وتزوج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك قالت ذهب ليتصيد وهو يجئ الآن إن شاء الله تعالى فانزل يرحمك الله فقال لها فعندك ضيافة قالت نعم قال فهل عندك خبز أو بر أو شعير أو تمر قال فجاءت باللبن واللحم فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز أو تمر أو بر أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك فقالت انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فيقي أثر قدمه فيه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر ففعلت به كذلك فقال لها إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك.

104
فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدمه وهو يقرئك السلام ويقول قد استقامت عتبة بابك قال: ذلك إبراهيم.
وقيل إن الذي أنبع الماء جبرائيل فإنه نزل إلى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسه فقالت قد أسمعتني فأغثني فقد هلكت أنا ومن معي فجاء بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فتعجلت فجعلت تفرغ في شنها فقال لها لا تخافي الظمأ.

105
ذكر عمارة البيت الحرام بمكة
قيل ثم أمر الله إبراهيم ببناء البيت الحرام فضاق بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج وهي اللينة الهبوب لها رأسان فسار معها إبراهيم حتى انتهت إلى موضع البيت فتطوت عليه كتطوي الحجفة فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم.
وقيل: أرسل الله مثل الغمامة له رأس فكلمه وقال يا إبراهيم ابن علي ظلي أو علي قدري لا تزد ولا تنقص فبنى. وهذان القولان نقلا عن علي وقال السدي الذي دله على موضع البيت جبريل.
فسار إبراهيم إلى مكة، فلما وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلا له وراء زمزم فقال له يا إسماعيل إن الله قد أمرني أن ابني بيتا قال إسماعيل فأقطع ربك فقال إبراهيم قد امرك أن تعينني على بنائه قال إذن أفعل فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة. ثم قال إبراهيم لإسماعيل ائتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علما. فناداه أبو قبيس إن لك عندي وديعة وقيل بل جبريل أخبره بالحجر الأسود فأخذه ووضعه موضعه وكان كلما بنيا دعوا الله (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).
فلما أرتفع البنيان وضعت الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو

106
مقام إبراهيم، فجعل يناوله فلما فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج فقال إبراهيم يا رب وما يبلغ صوتي قال أذن وعلي البلاغ فنادى أيا الناس إن الله قد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة فأجيب لبيك لبيك. ثم خرج بإسماعيل معه إلى التروية فنزل به منى ومن معه من المسلمين فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ثم بات حتى أصبح فصلى بهم الفجر ثم سار إلى عرفة فقام هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام فوقف به على الأراك فلما غربت الشمس دفع به ومن معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة ثم بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجر صلى الغداة ثم وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع بخ وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنجر ثم نحر وحلق وأراه كيف يطوف ثم عاد به إلى منى ليريه كيف رمى الجمار حتى فرغ من الحج وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحج ورواه عنه ابن عمر ولم يزل البيت على مكا بناه إبراهيم عليه السلام إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكره إن شاء الله تعالى

107
ذكر قصة الذبح
واختلف السلف من المسلمين في الذبيح فقال بعضهم وهو إسماعيل وقال بعضهم هو إسحاق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كلا القولين ولو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره؛ فأما الحديث في أن الذبيح إسحاق فقد روى الأحنف عن العباس بن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ذكر فيه (وفديناه بذبح عظيم) هو إسحاق وقد روى هذا لحديث عن العباس من قوله لم يرفعه.
وأما الحديث الآخر في أن الذبيح إسماعيل فقد روى الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح فقال على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال يا رسول الله عد علي ما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فضحك فقيل لمعاوية وما الذبيحان فقال إن عبد المطلب نذر ان سهل الله حفر زمزم أن يذبح أولاده فخرج السهم على عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم بمائة بعير وسنذكره إن شاء الله والذبيح الثاني إسماعيل.

108
ذكر من قال إنه إسحاق
ذهب عمر بن الخطاب وعلي والعباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهم فيما رواه عنه عكرمة وعبد
الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن أبي الهذيل ومسروق إلى أن الذبيح إسحاق عليه السلام.
حدث عمرو بن أبي سفيان بن أبي أسيد بن جارية الثقفي أن كعبا قال لأبي هريرة ألا أخبرك عن إسحاق بن إبراهيم قال بلى قال كعب لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق قال الشيطان والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لم أفتن أحدا منهم بعد ذلك أبدا فتمثل رجلا يعرفونه فأقبل حتى إذا خرج إبراهيم بإسحاق قالت لبعض حاجته قال لا والله إنما غدا به ليذبحه قالت سارة لم يكن ليذبح وله قال الشيطان بلى والله لأنه زعم أن الله قد أمره بذلك قلات سارة فهذا أحسن بأن يطيع ربه ثم خرج الشيطان فأدرك إسحاق وهو مع أبيه فقال له إن إبراهيم يريد أن يذبحك. قال إسحاق ما كان لفعل قال بلى والله إنه زعم أن ربه أمره بذلك قال إسحاق فوالله لئن أمره ربه بذلك ليطيعنه! فتركه ولحق إبراهيم فقال أين أصبحت غايا بابنك قال لبعض حاجتي قال: لا والله إنما تريد ذبحه قال ولم قال لأنك زعمت أن الله

109
أمرك بذلك قال إبراهيم فو الله إن كان الله أمرني بذلك لأفعلن.
فلما أخذ إبراهيم إسحاق ليذبحه أعفاه الله من ذلك وفداه بذبح عظيم، وأوحى الله إلى إسحاق إني معطيك دعوة أستجيب لك فيها قال إسحاق اللهم فأيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة.
وقال عبيد بن عمير قال موسى يا رب يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم نالوا ذلك قال إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلا اختارني وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن بي.
(أسيد بفتح الهمزة وكسر السين وجارية بالجيم).
ذكر من قال إن الذبيح إسماعيل عليه السلام
روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلهم عن ابن عباس أنه قال إن الذبيح إسماعيل وقال زعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وقال أبة الطفيل والشعبي ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب القرظي إنه إسماعيل قال الشعبي رأيت قرني الكبش في الكعبة.
قال محمد بن كعب: إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أم ربه من ذبحه ابنه إنه إسماعيل وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني

110
إبراهيم (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين)، ويقول: (وبشرناه بإسحاق نبيا ومن وراء إسحاق يعقوب) بابن وابن ابن فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله عز وجل ما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة فقال إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه وإني لأراه كما قلت.
ذكر السبب الذي من أجله أمر إبراهيم بالذبح وصفة الذبح
قيل أمر الله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه فيما ذكر أنه دعا الله أن يهب له ولدا ذكرا صالحا فقال رب هب لي من الصالحين فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال إذن هو لله ذبيح فلما ولد الغلام وبلغ معه السعي قيل له أوف نذرك الذي نذرت. وهذا على قول من زعم أن الذبيح إسحاق وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا. وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول إن ذلك كان بمكة.
قال محمد بن إسحاق إن إبراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب لأهلك فلما توجه اعترضه إبليس ليصده عن ذلك فقال إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر الله. فاعترض إسماعيل فأعلمه ما يريد إبراهيم يصنع به،

111
فقال: سمعا لأمر ربي وطاعة. فذهب إلى هاجر فأعلمها فقالت إن كان ربه أمره بذلك فتسليما لأمر الله. فرجع بغيظه لم يصب منهم شيئا.
فلما خلا إبراهيم بالشعب وهو شعب ثبير قال له يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت فعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. ثم قال له: يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصيبك من دمي شيء فينتقص أجري فإن الموت شديد وأشحذ شفرتك حتى تريحني فإذا أضجعتني فكبني على وجهي فإني أخشى أن نظرت في وجهي أنك تدركك رحمة فتحول بينك وبين أمر اله وإن رأيت أن ترد قميصي إلى هاجر أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني فافعل فقال إبراهيم نعم المعين أنت أي نبي على أمر الله فربطه كما أمره ثم حد شفرته وتله للجبين ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه فنودي أن يا إبراهيم لقد صدقت الرؤيا هذه ذبيحتك فداء ابنك فاذبحها وقيل جعل الله على حلقه صفيحة نحاس قال ابن عباس خرج عليه كبش عليه السلام كان كبشا أقرن أعين أبيض وقال الحسن:

112
ما فدى إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام وقيل بمنى في المنجر.
ذكر ما امتحن اله به إبراهيم عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى إبراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد رجاء نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنه ابتلاه بهن فقال تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم وقال الله (وإبراهيم الذي وفى) قال والكلمات عشر في براءة وهي (العابدون الحامدون) الآية وعشر في الأحزاب وهي (ان المسلمين والمسلمات) الآية عشر في المؤمنين من أولها إلى قوله تعالى (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وقال آخرون هي عشر خصال قال ابن عباس من رواية طاوس وغيره عنه الكلمات عشر وهي خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق

113
الرأس، وخمس في الجسد وهي تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الأبط وغسل أثر الغائط وقال آخرون هي مناسك الحج وقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما) وهو قول أبي صالح ومجاهد وقال آخرون هي ست وهي الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان.
وذبح ابنه، وهو قول الحسن قال ابتلاه بذلك فعرف أن ربه دائم لا يزول فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه في التاريخ المختصر وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب.

114
ذكر عدو الله نمرود وهلاكه
ونرجع الآن إلى خبر عدو الله نمرود وما آل اليه امره في دنياه وتمرده على الله تعالى واملاء الله له وكان أول جبار في الأرض وكان إحراقه إبراهيم ما قدمنا ذكره فأخرج إبراهيم عليه السلام من مدينته وحلف أنه يطلب إله إبراهيم فخذ أربعة أفرخ نسور فرباهن باللحم والخمر حتى كبرن وغلظن فقرنهن بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلا ومعه لحم لهن فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كالنمل ثم رفع لهن اللحم ونظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كالنمل ثم رفع لهن اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنها فلك في ماء ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته ففزع وألقى اللحم فاتبعه النسور منقضات فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهن فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) وكانت طيرورتهن من بيت المقدس ووقوعهن في جبل
الدخان.
فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى أله إبراهيم بزعمه وأحدث ولم يكن يحدث وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرح فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، وكان لسان الناس قبل ذلك سريانيا.
هكذا روي أنه لم يحدث وهذا ليس بشيء فإن الطبع البشري لم

115
يخل منه إنسان حتى الأنبياء صلوات الله عليهم وهو أكثر اتصالا بالعالم العلوي وأشرف أنفسا ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوطون فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى لشرفهم وقربهم من الله تعالى وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلا ولو ملك مستقلا لكان الإسكندر أكثر ملكا منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا.
قال زيد بن أسلم إن الله تعلى بعث إلى نمرود بعد إبراهيم ملكا يدعوه إلى الله أربع مرات فأبى وقال أرب غيري فقال له الملك اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام فجمع جموعه ففتح الله عليه بابا من البعوض فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها فبعثها فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يجمع يديه ويضرب بهما رأسه وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة وأماته الله تعالى وهو الذي بنى الصرح.
وقال جماعة إن نمرود بن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها وهذا قول يدفعه أهل العلم باليسر وأخبار الملوك وذلك أنهم لا ينكرون أن مولد إبراهيم كان أيام الضحاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها وقول القائل إن الضحاك الذي ملك الأرض هو نمرود ليس بصحيح لأن أهل العلم بالمتقدمين يذكرون أن نسب نمرود في النبط معروف ونسب الضحاك في الفرس مشهور وإنما الضحاك استعمل نمرود على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمالا على

116
ذلك، وكان هو ينتقل في البلاد وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند من جبال طبرستان وهناك رمى به أفريدون حين ظفر به. وكذلك بختنصر ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها وليس كذلك وإنما كان اصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة من قبل لهراسب لأن لهراسب كان مشتغلا بقتال الترك مقيما بإزائهم ببلخ وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك ولم يملك أحد من النبط شبرا من الأرض مستقلا برأسه فكيف الأرض جميعها وإنما تطاولت مدة نمرود بالسواد فمكث أربعمائة سنة ثم دخل من نسله بعد هلاكه جيل ياقل له نبط بن قعود ملك بعده مائة سنة ثم كداوص بن نبط ثمانين سنة ثم بالش بن كداوص مائة وعشرين سنة ثم نمرود بن بالشن سنة وشهرا فذلك سبعمائة سنة وسنة وشهد أيام الضحاك وظن الناس في نمرود ما ذكرناه فلما ملك أفريدون وقهر الازدهاق قتل نمرود بن بالشن وشرد النبط وقتل فيهم مقتلة عظيمة.

117
ذكر قصة قوم لوط
قد ذكرنا مهاجر لوط مع إبراهيم عليه السلام إلى مصر وعودهم إلى الشام ومقام لوط بسدوم.
فلما أقام بها أرسله الله إلى أهلها وكانوا أهل كفر بالله تعالى وركوب فاحشة، كما قال تعالى: (إنكم لتأنون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعلمون به ذلك العمل الخبيث وهو اللواطة وأما إتيانهم النمكر في ناديهم فقيل كانوا يحذفون من مر بهم ويسخرون منهم وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم وقيل كان يأتي بعضهم بعضا في مجالسهم وكان لوط يدعوهم إلى بعادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تماديا واستعجالا لعقاب الله انكارا منهم لوعيده ويقولون له أئتنا بعذاب الله أن كنت من الصادقين حتى سأل لوط ربه النصرة عليهم فلما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيهم.
فبعث الله لما أراد هلاكهم ونصر رسوله جبرائيل وملكين آخرين

118
معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل فاقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فلما نزلوا على إبراهيم وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وكان يضيف من نزل به وقد وسع الله عليه الرزق فرح بهم ورأى ضيفا لم ير مثلهم حسنا وجمالا فقال لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنذه أي أنضجه فقربه إليهم فأمسكوا أيديهم عنه (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته) سارة (قائمة فضحكت) لما رعفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ف (قالت) وصكت وجهها (يا ويلتي أألد وأنا عجوز) إلى قوله (حميد مجيد) وكانت ابنة تسعين سنة وإبراهيم ابن عشرين ومائة.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبرائيل في قوم لوط فقال له أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين قالوا وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذبهم قال وأربعون قالوا وأربعون قال وثلاثون حتى بلغ عشرة قالوا وإن كان فيهم عشرة قال ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته

119
كانت من الغابرين).
ثم مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط انتهوا إليها لقوا لوطا في أرض له يعمل فيها وقد قال الله تعالى لهم لا تهلكوهم حتى تشهدوا عليهم لوطا أربع شهادات فأتوه فقالوا أنا متضيفوك الليلة فانطلق بهم فلما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية والله ما أعلم على ظهر الأرض إنسانا أخبث لهم أما تعلمون ما يعمل أهل القرية والله ما أعلم على ظهر الأرض إنسانا أخبث منهم حتى قال ذلك أربع مرات.
وقيل بل لقوا ابنته فقالوا يا جارية هل من منزل قالت نعم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم خافت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوها منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلا فجاء بهم فلم يعلم إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوها منهم ولا أطيب رائحة فجاءه قومه يهرعون إليه فقال يا قوم اتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد فنهاهم ورغبهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم مما تريدون قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) (أو لم ننهك عن العالمين)،

120
فلما لم يقبلوا منه (قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) يعني لو أن لي أنصارا أو عشيرة يمنعوني منك فلما قال ذلك وجد عليه الرسل فقالوا إن ركنك لشديد ولم يبعث الله نبيا إلا في ثروة من قومه ومنعه من عشيرته وأغلق لوط الباب فعالجوه وفتح لوط الباب فدخلوا واستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فإذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضا عميانا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط (إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل) (وابتع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون).
فأخرجهم الله إلى الشام وقال لوط أهلكوهم الساعة فقالوا لن نؤمر إلا بالصبح أليس الصبح بقريب. فلما كان الصبح أدخل جبرائيل وقيل ميكائيل جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل فأهلكت من لم يكن بالقرى وسمعت امرأة لوط الهدة فقالت واقوماه فأدركها حجر فقتلها ونجى الله لوطا وألهه إلا

121
مرأته. وذكر أنه كان فيها أربعمائة أف وكان إبراهيم يتشرف عليها ويقول سدوم يوما هالك. ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة وسدوم هي القرى العظمى.
(قوله يهرعون إليه) هو مشي بين الهرولة والجمز.

122
ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام
وذكر أولاده وأزواجه
لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان وقيل عاشت هاجر بعد سارة مدة والصحيح أن هاجر توفيت قبل سارة كما ذكرنا في مسير إبراهيم إلى مكة وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فلما ماتت سارة تزوج بعدها قطورا ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستة نفر يقشان ومران ومدين ومدان ونشق وسوح وكان جميع أولاد إبراهيم مع إسماعيل وإسحاق وثمانية نفر وكان إسماعيل بكره وقيل في عدد أولاده غير ذلك فالبربر من ولد يقشان وأهل مدين قوم شعيب من ولد مدين وقيل تزوج بعد قطورا امرأة أخرى اسمها حجون ابنة اهير.
ذكر وفاة إبراهيم وعدد ما أنزل عليه
قيل: لما أراد الله قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم فرآه إبراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحر فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه

123
فيدخلها في عينه وأذنه ثم يدخلها فاه فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره وكان إبراهيم سأل ربه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت فقال يا شيخ ما لك تصنع هذا قال يا إبراهيم الكبر قال ابن كم أنت فزاد على عمر إبراهيم ستين فقال إبراهيم إنما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان اللهم اقبضني إليك فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائتي سنة وقيل مائة وخمس وسبعين سنة.
وهذا عندي فه نظر لان إبراهيم لا يخلو أن يكون قد رأى من هو أكبر منه بسنتين أو أكثر من ذلك فإن من عاش مائتي سنة كيف لا يرى من هو أكبر منه بهذا القدر القريب ولكن هكذا روي ثم إنه قد بلغه عمر نوح ولم يصبه شيء مما رأى بذلك الرجل.
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وأنزل الله على عشر صحائف قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالا كلها أيها الملك المسلط المبتلي المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وكان فيها أمثال منها وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يكفر فيها في صنع الله وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاده ومرمة لمعاشه ولذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شانه حافظا للسانه ومن حسب [كلامه] من عمله قل إلا فيما يعنيه.
وهو أول من اختتن وأول من أضاف الضيف وأول من اتخذ السراويل إلى غير ذلك من الأقاويل.

124
ذكر خبر ولد إسماعيل بن إبراهيم
قد ذكرنا فيما مضى سب إسكان إسماعيل الحرم وتزوجه امرأة من جرهم وفراقه إياها بأمر إبراهيم ثم تزوج أخرى وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي وهي التي قال لها قولي لزوجك قد رضيت [لك] عتبة بابك فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلا نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآزر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعا وثلاثون ومائة سنة ومن نابت وقيذار بني إسماعيل نشر الله العرب. وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن وقد ينطق أولاد إسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت. ولما حضرت إسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق أن يزوج ابنته من العيص بن إسحاق وأن يدفن عند قبر أمه هاجر بالحجر.

125
ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولاده
قيل ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيص ويعقوب توأمين وان عيص كان أكبرهما وكان عمر إسحاق لها ولد له ستين سنة ثم نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم بن عيص وكل بني الأصفر من ولده، وزعم بعض الناس أن أشباه من ولده.
ونكح يعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل وكان أكبر ولده وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر وقيل ويشحر ثم توفيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين وهو بالعربية شداد وولده له من سريتين أربعة نفر دان ونفتالي وجاد وأشر فكان ليعقوب اثنا عشر رجلا.
قال السدي: تزوج إسحاق بجارية فحملت بغلامين فلما أرادت أن تضع أراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص والله خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي ولأقتلنها فتأخر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص فسمي يعقوب وسمي أخوه عيص لعصيانه وكان عيص أحبهما إلى أبيه ويعقوب أحبهما إلى أمه وكان عيص صاحب صيد فقال له إسحاق لما كبر وعمي يا بني أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء لي به أبي وكان عيص رجلا أشعر وكان يعقوب أجرد وسمعت أمهما ذلك فقالت ليعقوب يا بني اذبح شاة واشوها والبس جلدها وقربها

126
إلى أبيك وقل له: أنا ابنك عيص ففعل ذلك يعقوب فلما جاء قال: يا أبتاه كل. قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص. فمسحه إسحاق فقال المس مس عيص والريح ريح يعقوب فقالت أمه إنه عيص فكل فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذريته الأنبياء والملوك.
وقام ويعقوب وجاء عيص وكان في الصيد فقال لأبيه قد جئتك بالصيد الذي طلبت فقال يا بني قد سبقك أخوك فحلف عيص ليقتلن يعقوب فقال يا بني قد بقيت لك دعوة فدعا له أن تكون ذريته عدد التراب وان لا يملكهم غيرهم.
وهرب يعقوب خوفا من أخيه إلى خاله وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار فلذلك سمي إسرائيل. ثم أن يعقوب تزوج ابنتي خاله وجمع بينهما فلذلك قال الله تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) وولده له منهما فماتت راحيل في نفاسها بنيامين وأراد يعقوب الرجوع إلى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم فلما ارتحلوا لم يكن لهم نفقة فقالت زوجة يعقوب ليوسف اسرق صنما من أصنام أبي نستنفق منه فسرق صنما من أصنام أبيها.
وأحب يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبا شديدا ليتمهما وقال يعقوب لراع من الرعاة إذا أتاكم أحد يسألكم من أنتم فقولوا نحن ليعقوب عبد عيص فلقيهم عيص فسألهم فأجابه الراعي بذلك الجواب فكف عيص عن يعقوب ونزل يعقوب بالشام. ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم عليه السلام.

127
قصة أيوب عليه السلام
وهو رجل من الروم من ولد عيص وهو أيوب بن موص بن رازج بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم وقيل موص بن روعيل بن عيص وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغث ليا ابنة يعقوب بن إسحاق وقيل هي رحمة ابنة افراهيم بن يوسف وكانت أمة من ولد لوط وكان دينه التوحيد والإصلاح بين الناس وإذا أراد حاجة سجد ثم طلبها.
وكان من حديثه وسبب بلائه أن إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلطه عليه لفتنه عن دينه فسلطه على ماله حسب فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت وكان لأيوب البثنية جميعها من أعمال دمشق بما فيها وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آله الفدان أتان ولد واثنان وما فوق ذلك فلما جميعهم إبليس قال ما عندكم من القوة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب فقال كل منهم قولا فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجد في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصبر على ما ابتلاه.
فلما رأى إبليس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده فسلطه [عليهم] ولم يجعل له سلطانا على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم،

128
ثم جاء إليه متمثلا بمعلمه الذي كان يعلمهم الحكمة جريحا مشدوخا يرققه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه فسر بذلك إبليس.
ثم إن أيوب ندم لذلك وجد واستغفر فصعدت حفظته من الملائكة بتوبته إلى الله قبل إبليس فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربه والصبر على ما بلاه به سأل الله تعالى أن يسلطه على جسده فسلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره إلى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دودا فإن كانت الدودة تسقط من جسده فيردها إليه ويقول كلي من رزق الله وأصابه الجذام وكان أشد من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقأ وأنتن حتى لم يطق أحد أن يشم ريحه فأخرجه أهل القرية منها إلى الكناسة خارج القرية لا يقربه أحد إلا زوجته وكانت تختلف إليه بما يصلحه فبقي مطروحا على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.
وقيل كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيوب أن هلم الينا فإن لك عندنا سعة فأقبل بأهله وخيله وماشيته فأقطعهم فرعون القطائع ثم إن شعيبا النبي دخل إلى فرعون فقال يا فرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال وأيوب ساكت لا يتكلم فلما خرجا أوحى الله إلى أيوب يا أيوب سكت عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء فقال أيوب أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع واكفت الأرملة فمرت سحابة

129
يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون من فعل ذلك يا أيوب فاخذ ترابا فوضعه على رأسه وقال
أنت يا رب فأوحى الله إليه استعد للبلاء قال فديني قال أسلمه لك قال فما أبالي.
وقيل كان السب غير ذلك وهو نحو ما ذكرناه.
فلما ابتلاه الله واشتد البلاء قالت امرأته إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك فقال كنا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقيل إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال بم أصابكم ما أصابكم قالت بقدر الله قال وهذا أيضا بقدر الله فاتبعني فاتبعته فأراها جميع ما ذهب منهم في واد وقال اسجدي لي وأرد عليكم فقالت إن لي زوجا استأمره فلما أخبرت أيوب قال ألم تعلمي أن ذلك الشيطان لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة وأبعدها وقال لها طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيي به شيئا فابعدي عني فلا أراك فذهبت عنه فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا وقال رب (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) كرر ذلك فقيل له أرفع رأسك فقد استجيب لك (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ورد الله إليه جسده وصورته.

130
وأما امرأته فقالت: كيف أتركه وليس عنده أحد يموت جوعا وتأكله السباع فرجعت اليه فرأت أيوب وقد عوفي فلم تعرفه فعجبت حيث لم تره على حاله فقالت له يا عبد الله هل رأيت ذلك الرجل المبتلي الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته.
وقيل: إنما قال مسني الضر لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه وخاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر. ورد الله اليه أهله ومثلهم معهم قيل هم بأعيانهم وقيل رد الله اليه امرأته ورد إليها سبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا وأنزل الله اليه ملكا فقال يا أيوب إن الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء أخرج إلى أندرك فخرج اليه فبعث الله سبحانه فألقت عليه جرادا من ذهب وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردها في أندره فقال الملك أما تشبع من الداخل حتى تتبع الخارج فقال إن هذه البركة من بركات ربي لست أسبع منها.
وعاش أيوب بعد ان رفع عنه البلاء سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجونا من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبر من يمينه ففعل ذلك.
وقول أيوب: (ربي إني مسني الضر) دعاء ليس بشكوى ودليله قوله تعالى (فاستجبنا له).
وكان من دعاء أيوب أعوذ بالله من جار عينه تراني إن رأى حسنة سترها وغن رأى سيئة ذكرها. وقيل كان سبب دعائه انه قد ابتعه

131
ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر فانطلقوا اليه وهو في البلاد فبكتوه أشد تبكيت وقالوا له لقد أذنبت ذنبا ما اذنبه أحد فلهذا لم يكشف العذاب عنك وطال الجدال بينهم وبينه فقال فتى كان معهم لهم كاملا يرد عليهم فقال قد تركتم من القول أفضل أحسنه ومن الرأي أصوبه ومن الأمر أجمله وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم فهل تدرون حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم أم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته من خلقه يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئا من أمره ولا أنه نزع شيئا من الكرامة التي أكرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحق في طول ما صحبتموه فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم وقد علمتم ان الله يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخبرة لهم وأطال في هذا النحو من الكلام.
ثم قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكل ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عي ولا بكم وانهم لهم الفصحاء الألباء العالمون بالله وآياته ولكنهم إذا ذكروا عظمة اله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعا من الله وهيبة له فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزكية يعدون أنفسهم مع الظالمين وانهم لا برار،

132
ومع المقصرين وانهم لأكياس أتقياء ولكنهم لا يستكثرون لله عز وجل الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون.
فلما سمع أيوب كلامه قال إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ولا طول التجربة وإذا جعل الله تعالى عبدا حكيما عند الصبا لم تسقط منزلته عند الحكام ثم قال أقبل على الثلاثة فقال رهبتم قبل أن تسترهبوا وبكيتم قبل أن تضربوا كيف بكم لو قلت لكم تصدقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني أو قربوا قربانا لعل الله أن يتقبل ويرضى عني وأنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزرتم لو صدقتم ونظرتم بينكم وبين ربكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية وقد كنت فيما خلا والرجال يوقرونني وأنا مسموع كلامي معروف من حقي مستنصف من خصمي فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم فأنتم أشد علي من مصيبتي.
ثم أعرض عنهم وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا اليه فقال رب لأي شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني يا ليتني كنت حيضة ملقاة وياليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فالموت أجمل بي أم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا

133
وللأرملة قيما؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فلمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضا فقد وقع علي البلاء لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرت أسأل بكفي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمنها علي ويعيرني هلك أولادي ولو بقي أحدهم أعانني قد ملني أهلي وعقني أرحامي فتنكرت معارفي ورغب عني صديقي وجحدت حقوقي ونسيت صنائعي أصرخ فلا يصرخونني واعتذر فلا يعذرونني دعوت غلامي فلم يجبني وتضرعت إلى أمتي فلم ترحمني وإن قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني وإن سلطانك هو الذي أسقمني فلو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم ملء فمي ثم كان ينبغي للعبد ان يحاج مولاه عن نفسه لرجوت أن تعافيني عند ذلك ولكنه القاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إلي فرحمني ولا دنا مني فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلما قال أيوب ذلك أظلتهم غمامة ونودي منها يا أيوب إن الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا فقم فأدل بحجتك وتكلم ببراءتك وقم مقام جبار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار تجعل الزيار في فم الأسد واللجام في فم التنين وتكيل مكيالا من النور وتزن مثقالا من الريح وتصر صرة من الشمس وترد أمس لقد منتك نفسك أمرا لا تبلغه بمثل قوتك أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيبك أم تحاجني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض هل علمت بأي مقدار قدرتها؟ ابن كنت معي يوم

134
رفعت السماء سقفا في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها هل تبلغ حكمتك ان تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها وذكر أشياء من مصنوعات الله.
فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك إلهي اجتمع علي البلاء وأنا أعلم أن كل الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفي عليك خافية تعلم ما تخفي القلوب وقد علمت في بلائي ما لم أكن اعلمه كنت أسمع بسطوتك سمعا فاما الآن فهو نظر العين إنما تكلمت بما تكملت به لتعذرني وسكت لترحمني وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي فدسست فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه ودعا.
فقال الله يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبك قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاء للصابرين فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاء وقرب عن أصحابك قربنا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فيها فرفع الله عنه البلاء ثم خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال هل تعرفينه قالت نعم مالي لا أعرفه فتبسم فعرفته بضحكة فاعتنقته ولم تفارقه من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد.
وإنما ذكرته قبل يوسف وقصته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيا في عهد يعقوب.

135
وذكر ان عمر أيوب كان ثلاثا وتسعين سنة وأنه أوصى عند موته إلى ابنه حوصل وأن الله بعث بعده ابنه بشر بن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل وكان مقيما بالشام حتى مات وكان عمره خمسا وسبعين سنة فأوصى إلى ابنه عيدان وإن الله بعث بعده شعيب بن صفيون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم عليه السلام.

136
ذكر قصة يوسف عليه السلام
ذكروا أن إسحاق توفي وعمره ستون ومائة سنة وقبره عند أبيه إبراهيم قبره أبناء يعقوب وعيص في مزرعة جيرون وكان عمر يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمه شطر الحسن وكان يعقوب قد دفعه إلى أخته ابنة إسحاق تحضنه فأحبته حبا شديدا وأحبه يعقوب أيضا حبا شديدا فقال لأخته يا أخية سلمي إلي يوسف فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة فقالت والله ما أنا بتاركته ساعة فأصر يعقوب على أخذه منها فقالت أتركه عندي أياما لعل ذلك يسليني ثم عمدت إلى منطقة إسحاق وكانت عندها لأنها كانت أكبر ولده فحزمتها على وسط يوسف ثم قالت قد فقدت المنطقة فانظروا من أخذها فالتمست فقالت اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف وكان من مذهبهم ان صاحب السرقة يأخذ السارق له لا يعارضه فيه أحد فأخذت يوسف فأمسكته عندها حتى ماتت وأخذه يعقوب بعد موتها فهذا الذي تأول اخوة يوسف (أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) وقيل في سرقته غير هذا وقد تقدم.
فلما رأى أخوة يوسف محبة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه وعظم عندهم.

137
ثم إن يوسف رأى في منامه كأن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر تسجد له فقصها على أبيه وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة فقال له أبوه يا بني (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ثم عبر له رؤياه فقال (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث).
وسمعت امرأة يعقوب ما قال يوسف لأبيه فقال لها يعقوب اكتمي ما قال يوسف ولا تخبري أولادك قالت نعم فلما أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرؤيا فازدادوا حسدا وكراهة له وقالوا ما عني بالشمس غير أبينا ولا بالقمر غيرك ولا بالكواكب غيرنا إن ابن راحيل يريد أن يمتلك علينا ويقول أنا سيدكم وتآمروا بينهم أن يفرقوا بينه وبين أبيه وقالوا (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين) في خطأ بين في إيثارهما علينا (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين) أي تائبين.
فقال قائل منهم، وهو يهوذا وكان أفضلهم وأعقلهم لا تقتلوا يوسف فإن القتل عظيم وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة وأخذ عليهم العهد أنهم لا يقتلونه فأجمعوا عند ذلك أن يدخلوا على يعقوب ويكلموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية وأقبلوا إليه ووقفوا بين يديه وكذلك

138
كانوا يفعلون إذا أرادوا منه حاجة فلما رآهم قال ما حاجتكم (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون) نحفظه حتى نرده أرسله معنا إلى الصحراء يرتع ويلعب وإنا له لحافظون فقال لهم يعقوب (إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) لا تشعرون. وإنما قال لهم ذلك لأنه كان رأى في منامه كان يوسف على رأس جبل وكأن عشرة من الذئاب قد شدوا عليه ليقتلوه وإذا ذئب منها يحمي عنه وكأن الأرض انشقت فذهب فيها فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام فلذلك خاف عليه الذئب.
فقال له بنوه: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون). فلما سمع يعقوب ذلك اطمأن قلبه إليهم فقال يوسف يا أبت ارسلني معهم قال أو تحب ذلك قال نعم فاذن له فلبس ثيابه وخرج معهم وهم يكرمونه فلما برزوا إلى البرية اظهروا له العداوة وجعل بعض أخوته يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه فجع لا يرى منهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وجعل يصيح يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء.
كادوا يقتلون قال لهم يهوذا أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب فأوثقوه كتافا ونزعوا قميصه وألقوه فيه فقال يا أخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في الجب فقال ادع الشمس والقمر والأحد

139
عشر كوكبا تؤنسك قال إني لم أر شيئا فدلوه في الجب فلما بلغ نصفه ألقوه وأرادوا أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فأقام عليها ثم نادوه فظن أنهم قد رحموه فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فمنعهم يهودا.
ثم أوحى الله إليه (لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) بالوحي. وقيل لا يشعرون أنه يوسف.
والجب بأرض بيت المقدس معروف.
ثم عادوا إلى أبيهم عشاء يبكون فقالوا (يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب) فقال لهم أبوهم (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل) ثم قال لهم أروني قميصه فأروه فقال تالله ما رأيت ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يشق قميصه ثم صاح وخر مغشيا عليه ساعة فلما أفاق بكى بكاء طويلا فأخذ القميص يقبله ويشمه.
وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام وأرسل الله ملكا فحل كتافه ثم جاءت سيارة فأرسلوا واردهم وهو الذي يتقدم إلى الماء فأدلى دلوه إلى البئر فتعلق به يوسف فأخرجه من الجب وقال (يا بشرى هذا غلام) أي تباشروا وقيل بشرى اسم غلام (وأسروه بضاعة) يعني الوارد وأصحابه خافوا

140
أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة أشركونا فيه فقال إن أهل الماء استبضعونا هذا الغلام.
وجاء يهوذا بطعام ليوسف فلم يره في الجب فنظر فرآه عند مالك في المنزل فأخبر اخوته بذلك فاتوا مالكا وقالوا هذا عبد ابق منا وخافهم يوسف فلم يذكر حاله واشتروه من اخوته بثمن بخس قيل عشرون درهما وقيل أربعون درهما وذهبوا به إلى مصر فكساه مالك وعرضه للبيع فاشتراه قطفير وقيل اطفير وهو العزيز وكان على خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة قيل إن هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف ومات ويوسف حي وملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف فلم يؤمن.
فلما اشترى يوسف وأتى به إلى منزله قال لامرأته واسمها راعيل (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا) إذا فهم الأمور بعض ما نحن بسبيله (أو نتخذه ولدا) وكان لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء ناعمة في ملك ودنيا.
فلما خلا من عمر يوسف ثلاث وثلاثون سنة آتاه الله العلم والحكمة قبل النبوة وراودته راعيل عن نفسه وأغلقت الأبواب عليه وعليها ودعته إلى نفسها (فقال معاذ الله إنه ربي) يعني أن زوجك سيدي (أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) يعني إن خيانته ظلم. وجعلت

141
تذكر محاسنه وتشوقه إلى نفسها فقالت له يا يوسف ما أحسن شعرك قال هو أول ما ينتثر من جسدي قال يا يوسف ما أحسن عينيك قال هي أول ما يسيل من جسدي قالت ما أحسن وجهك قال هو للتراب. فلم تزل به حتى همت وهم بها وذهب ليحل سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قد عض على إصبعه يقول يا يوسف لا تواقعها إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وسقط إلى الأرض وقيل جلس بين رجليها فرأى في الحائط (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا) فقام حين رأى برهان ربه هاربا يريد الباب فأدركته قبل خروجه من الباب فجذبت قميصه من قبل ظهره فقدته (وألفيا سيدها لدى الباب) وابن عمها معه فقالت له (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن) قال يوسف بل (هي راودتني عن نفسي) فهربت منها فأدركتني فقدت قميصي قال لها ابن عمها تبيان هذا في القميص فإن كان قد من قبل فصدقت وإن كان قد قد من دبر فكذبت فأتى بالقميص فوجده قد من دبر فقال:

142
(إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم).
وقيل كان الشاهد صبيا في المهد قال ابن عباس تكلم أربعة تكلم أربعة في المهد وهم صغار ابن ماشطة امرأة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم.
وقال زوجها ليوسف (أعرض عن هذا) أي ذكر ما كان منها فلا تذكره لأحد ثم قال لزوجته (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين).
وتحدث النساء بأمر يوسف وامرأة العزيز وبلغ ذلك امرأة العزيز (فأرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ) يتكئن على وسائد وحضرن وقدمت لهن أترنجا وأعطت كل واحدة منهن سكينا لقطع الأترنج وقد أجلست يوسف في غير المجلس الذي هن فيه وقالت له (أخرج عليهن) فخرج (فلما رأينه أكبرنه) وأعظمنه (وقطعن أيديهن) بالسكاكين ولا يشعرون (وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم).
فلما حل بهن ما حل من قطعهن أيديهن وذهاب عقولهن وعرفن خطأهن فيما قلن أقرت على نفسها وقالت (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) فاختار يوسف السجن

143
على معصية الله، فقال (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن). ثم بدا للعزيز من بعد ما رأى الآيات من القميص وخمش الوجه وشهادة الطفل وتقطيع النسوة أيديهن في ترك يوسف مطلقا.
وقيل إنها شكت إلى زوجها وقالت إن هذا العبد قد فضحني في الناس يخبرهم إنني راودته عن نفسه فسجنه سبع سنين. فلما حبس يوسف أدخل معه فتيان من أصحاب فرعون مصر أحدهما صاحب طعامه والآخر صاحب شرابه لأنهما نقل عنهما أنهما يريدان أن يسما الملك، فلما دخل يوسف السجن قال إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين للآخر هلم فلنجربه قال الخباز إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه وقال الآخر إني أراني أعصر خمرا فقال لهما يوسف (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) كره أن يعبر لهما ما سألاه عنه وأخذ في عير ذلك وقال (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار). وكان اسم الخباز مجلت واسم الآخر نبو فلم يدعاه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال أما أحدكما وهو الذي رأى

144
أنه يعصر الخمر، (فيسقي ربه خمرا) يعني سيده الملك (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه). فلما عبر لهما قالا ما رأينا شيئا قال قضى الأمر الذي فيه تستفتيان ثم قال لنبو وهو الذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك الملك وأخبره أني محبوس ظلما فأنساه الشيطان ذكر ربه غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان فأوحى الله إليه يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك فلبث في السجن سبع سنين.
ثم إن الملك وهو الريان بن الوليد بن الهروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى رؤية هائلة رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ورأى سبع سنبلات خضر وأخر يابسات فجمع السحرة والكهنة والحازة والعافة فقصها عليهم فقالوا (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) أي حين (أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون). فأرسلوه إلى يوسف فقص عليه الرؤيا فقال (تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبلة إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد

145
ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) فإن البقر السمان سنون مخاصيب والبقرات العجاف السنون المحول وكذلك السنبلات الخضر واليابسات فعاد بنو إلى الملك فأخبره فعلم أن قول يوسف حق فقال أئتوني به. فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك لم يخرج معه وقال (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) فلما رجع الرسول من عند يوسف سأل الملك أولئك النسوة فقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ولكن امرأة العزيز خبرتنا أنها راودته عن نفسه فقالت امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه فقال يوسف إنما رددت الرسل ليعلم سيدي أني لم أخنه بالغيب في زوجته فلما قال ذلك قال له جبرائيل ولا حين هممت بها فقال يوسف (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).
فلما ظهر للملك براءة يوسف وأمانته قال (ائتوني به أستخلصه لنفسي) فلما جاءه الرسول خرج معه ودعا لأهل السجن وكتب على بابه هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء. ثم اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك فلما وصل إليه وكلمه قال (إنك

146
اليوم لدينا مكين أمين) فقال يوسف (اجعلني على خزائن الأرض) فاستعمله بعد سنة ولو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته فسلم خزائنه كلها إليه بعد سنة وجعل القضاء إليه وحكمه نافذا ورد إليه عمل قطفير سيده بعد أن هلك وكان هلاكه في تلك الليالي وقيل بل عزله فرعون وولى يوسف عمله والأول أصح لأن يوسف تزوج امرأته على ما نذكره.
ولما ولي يوسف عمل مصر دعا الملك الريان إلى الإيمان فآمن ثم توفي. ثم ملك بعده مصر قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق فدعاه يوسف إلى الإيمان فلم يؤمن وتوفي يوسف في ملكه.
ثم إن الملك الريان زوج يوسف راعيل امرأة سيده فلما دخل بها قال أليس هذا خيرا مما كنت تريدين فقالت أيها الصديق لا تلمني فإني امرأة حسناء جميلة في ملك الدنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي ووجدها بكرا فولدت له ولدين افرائيم ومنشأ.
فلما ولي يوسف خزائن أرضه ومضت السنون السبع المخصبات وجمع فيها الطعام في سنبلة ودخلت السنون المجدبة وقحط الناس وأصابهم الجوع وأصاب بلاد يعقوب التي هو بها فبعث بنيه إلى مصر وأمسك بنيامين أخا يوسف

147
لأمه، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون وإنما أنكروه لبعد عهدهم منه ولتغير لبسه فإنه لبس ثياب الملوك فلما نظر إليهم قال أخبروني ما شأنكم قالوا نحن من الشام جئنا نمتار الطعام قال كذبتم أنتم عيون فأخبروني خبركم قالوا نحن عشرة أولاد رجل واحد صديق كنا اثني عشر وأنه كان لنا أخ فخرج معنا إلى البرية فهلك وكان أحبنا إلى أبينا قال فإلى من سكن أبوكم بعده قالوا إلى أخ لنا أصغر منه قال فأتوني به أنظر إليه (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) قالوا سنراود عنه أباه قال فاجعلوا بعضكم عندي رهينة حتى ترجعوا فوضعوا شمعون أصابته القرعة. وجهز يوسف بجهازهم وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم يعني ثمن الطعام في رحالهم لعلهم يرجعون لما علم أن أمانتهم وديانتهم تحملهم على رد البضاعة فيرجعون إليه لأجلها.
وقيل: رد مالهم لأنه خشي أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى فإذا رأوا معهم بضاعة عادوا وكان يوسف حين رأى ما بالناس من الجهد قد آسى بينهم وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرا.
فلما رجعوا إلى أبيهم بأحمالهم قالوا يا أبانا إن عزيز مصر قد أكرمنا كرامة لو أنه بعض أولاد يعقوب ما زاد على كرامته وأنه ارتهن شمعون وقال ائتوني بأخيكم الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم (فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) قال: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل). (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليه قالوا يا أبانا ما

148
نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير). قال يعقوب (ذلك كيل يسير) فقال يعقوب (لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل). ثم أوصاهم أبوهم بعد أن أذن لأخيهم في الرحيل معهم وقال (يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) خاف عليهم العين وكانوا ذوي صورة حسنة ففعلوا كما أمرهم أبوهم (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) وعرفه وأنزلهم منزلا وأجرى عليهم الوظائف وقدم لهم الطعام وأجلس كل اثنين على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف لقد بقي أخوكم هذا وحيدا فأجلسه معه وقعد يؤاكله فلما كان الليل جاءهم بالفرش وقال لينم كل أخوين منكم على فراش وبقي بنيامين وحيده فقال هذا ينام معي فبات معه على فراشه فبقي يشمه ويضمه إليه حتى أصبح وذكر له بنيامين حزنه على يوسف فقال له أتحب أن أكون أخاك عوض أخيك الذاهب فقال بنيامين ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه فعانقه وقال له إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا ولا تعلمهم بما علمتك.

149
وقيل: لما دخلوا على يوسف نقر الصواع وقال إنه يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا وأنكم بعتم أخاكم فلما سمعه بنيامين سجد له وقال سل صواعك هذا عن أخي أحي هو فنقره ثم قال هو حي وستراه قال فاصنع بي ما شئت فإنه إن علم بي سوف يستنقذني قال فدخل يوسف فبكى ثم توضأ وخرج إليهم قال فلما حمل يوسف إبل اخوته من الميرة جعل الاناء الذي يكيل به الطعام وهو الصواع وكان من فضة في رحل أخيه وقيل كان إناء يشرب فيه ولم يشعر أخوه بذلك.
وقيل: إن بنيامين لما علم أن يوسف أخوه قال لا أفارقك قال يوسف أخاف غم أبوينا ولا يمكنني حبسك إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع قال افعل قال فإني أجعل الصواع في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة لآخذك منهم قال افعل فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) لأننا رددنا ثمن الطعام إلى يوسف فلما قالوا ذلك قالوا فما جزاؤه تأخذونه لكم فبدأ بأوعيتهم ففتشها قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه فقالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف وكانت سرقته حين سرق صنما لجده أبي أمه فكسره فعيروه بذلك وقيل ما تقدم ذكره من المنطقة.

150
فلما استخرجت السرقة من رحل الغلام قال إخوته يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء فقال بنيامين بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
فاخذ يوسف أخاه بحكم إخوته فلما رأوا أنهم لا سبيل لهم عليه سألوه أن يتركه لهم وقالوا (يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه) فقال (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) فلما أيسوا من خلاصه خلصوا نجيا لا يختلط بهم غيرهم فقال كبيرهم وهو شمعون وقيل روبيل (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله) أن نأتيه بأخينا إلا أن يحاط بنا ومن قبل هذه المرة ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي بالخروج وقيل بالحرب فارجعوا إلى أبيكم فقصوا عليه خبركم فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر بنيامين وتخلف شمعون قال (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) بيوسف وأخيه وشمعون ثم أعرض عنهم وقال واحزناه على يوسف (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) مملوء من الحزن والغيظ فقال له بنوه تالله لا تزال تذكر

151
يوسف حتى تكون حرضا أي دنفا أو تكون من الهالكين فأجابهم يعقوب فقال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) من صدق رؤيا يوسف.
وقيل: بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين ثكلى وأعطى على ذلك أجر مائة شهيد.
قيل دخل على يعقوب جار له فقال يا يعقوب قد انهمشت وفنيت لم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فقال هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه أتشكوني إلى خلقي قال يا رب خطيئة فاغفرها قال قد غفرتها لك فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال انما اشكو بشي وحزني إلى الله فأوحى الله إليه لو كانا ميتين لأحييتهما لك إنما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه.
وقيل كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب فابتلى بفقد أعز ولده عنده وقيل ذبح شاه فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه فصنع طعاما ونادى من كان صائما فليفطر عند يعقوب.
ثم إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع إليها وتحسس الأخبار عن يوسف وأخيه فرجعوا إلى مصر فدخلوا على يوسف وقالوا (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة

152
_ يعني قليلة _ فأوف لنا الكيل) قيل كانت بضاعتهم دراهم زيوفا وقيل كانت سمنا وصوفا وقيل غير ذلك وتصدق علينا بفضل ما بين الجيد والرديء وقيل برد أخينا علينا فلما سمع كلامهم غلبته نفسه فارفض دمعا باكيا ثم باح لهم بالذي كان يكتم. وقيل إنما أظهر لهم ذلك لأن أباه كتب إليه حين قيل له إنه أخذ ابنه لأنه سرق كتابا.
من يعقوب إسرائيل بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر المظهر العدل
أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما أما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به اخوته إلى البرية فعادوا ومعهم قميصه ملطخا بدم وقالوا أكله الذئب وكان لي ابن آخر أخوه لأمه فكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وأنك حبسته وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك.
فلما قرأ الكتاب لم يتمالك أن بكى وأظهر لهم فقال (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا) بأن جمع بيننا فاعتذروا وقالوا (تالله لقد آثرك الله

153
علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم) أي لا أذكر لكم ذنبكم يغفر الله لكم ثم سألهم عن أبيه فقالوا لما فاته بنيامين عمي من الحزن فقال اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين فقال يهوذا أنا أذهب به لأني ذهبت إليه بالقميص ملطخا بالدم وأخبرته أن يوسف أكله الذئب فأنا أخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته وكان هو البشير.
لما فصلت العير عن مصر حملت الريح إلى يعقوب ريح يوسف وبينهما ثمانون فرسخا يوسف بمصر ويعقوب بأرض كنعان فقال (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) فقال له من حضره من أولاده (تالله إنك) من ذكر يوسف (لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير) بقميص يوسف (ألقاه) على وجه يعقوب فعاد بصيرا وقال (ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون) يعني تصديق الله وتأويل رؤيا يوسف (ولما أن جاء البشير) قال له يعقوب كيف تركت يوسف قال تركته ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال تركته على دين الاسلام قال الآن تمت النعمة فلما رأى من عنده من أولاده قميص يوسف وخبره قالوا له (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا قال سوف

154
أستغفر لكم) أخر الدعاء إلى السحر من ليلة الجمعة.
ثم ارتحل يعقوب وولده فلما دنا من مصر خرج يوسف يتلقاه ومعه أهل مصر وكانوا يعظمونه فلما دنا أحدهما من صاحبه نظر يعقوب إلى الناس والخيل وكان يعقوب يمشي ويتوكأ على ابنه يهوذا فقال له يا بني هذا فرعون مصر قال لا هذا ابنك يوسف فلما قرب منه أراد يوسف أن يبدأه بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب السلام عليك يا مذهب الأحزان لأنه لم يفارقه الحزن والبكاء مدة غيبة يوسف عنه.
قال فلما دخلوا مصر رفع أبويه يعني أمه وأباه وقيل كانت خالته وكانت أمه قد ماتت وخر له يعقوب وأمه وأخوته سجدا وكان السجود تحية الناس للملوك ولم يرد بالسجود وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك لا يجوز إلا لله تعالى وإنما أراد الخضوع والتواضع والانحناء على السلام كما يفعل الآن بالملوك والعرش السرير. وقال (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا).
وكان بين الرؤيا يوسف ومجئ يعقوب أربعون سنة وقيل ثمانون سنة فإنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ولقيه وهو ابن سبعة وتسعين سنة وعاش بعد جمع شمله ثلاثا وعشرين سنة وتوفي وله مائة وعشرون سنة وأوصي إلى أخيه يهوذا وقيل كان غيبة يوسف عن يعقوب ثماني عشر سنة وقيل إن يوسف دخل مصر وله سبع عشرة سنة واستوزره فرعون بعد ثلاث عشرة سنة من قدومه إلى مصر وكانت مدة غيبته عن يعقوب اثنتين وعشرين سنة وكان مقام يعقوب بمصر وأهله معه سبع عشرة سنة

155
وقيل غير ذلك والله أعلم.
ولما مات يعقوب أوصى إلى يوسف أن يدفنه مع أبيه إسحاق ففعل يوسف فسار به إلى الشام فدفنه عند أبيه ثم عاد إلى مصر وأوصى يوسف أن يحمل من مصر ويدفن عند آبائه فحمله موسى لما خرج ببني إسرائيل وولد يوسف افرائيم ومنشأ فولد لافرائيم نون ولنون يوشع فتى موسى وولد لمنشى موسى قيل موسى بن عمران وزعم أهل التوراة أنه موسى الخضر وولد له رحمة امرأة أيوب في قول.

156
قصة شعيب عليه السلام
قيل إن اسم شعيب يثرون بن ضيعون ين عنقا بن نابت بن مدين بن إبراهيم وقيل هو شعيب بن ميكيل من ولد مدين وقيل لم يكن شعيب من ولد إبراهيم وإنما من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى الشام ولكنه ابن بنت لوط فجدة شعيب ابنه لوط وكان ضرير البصر وهو معنى قوله تعالى (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي ضرير البصر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره قال (ذلك خطيب الأنبياء) بحسن مراجعته قومه وإن الله أرسله إلى أهل مدين وهم أصحاب الأيكة والأيكة شجر ملتف وكانوا أهل كفر بالله وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد أموالهم وكان الله وسع عليهم في الرزق وبسط لهم في العيش استدراجا لهم منه مع كفرهم بالله فقال لهم شعيب (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط).
فلما طال تماديهم في غيهم وضلالهم ولم يزدهم تذكير شعيب إياهم وتحذيره عذاب الله إياهم إلا تماديا ولما أراد إهلاكهم سلط عليهم عذاب

157
يوم الظلة وهو ما ذكره ابن عباس في تفسير قوله تعالى (فأخذهم عذاب يوم القيامة إنه كان عذاب يوم عظيم) فقال بعث الله عليهم وقدة وحرا شديدا فأخذ بأنفسهم فخرجوا من البيوت هرابا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة
فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها فأرسل الله عليهم نارا قال عبد الله بن عباس فذلك عذاب الظلة وقال قتادة بعث الله شعيبا إلى أمتين إلى قومه أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة وكانت الأيكة من شجر ملتف فلما أراد الله أن يعذبهم بعث عليهم حرا شديدا ورفع لهم العذاب كأنه سحابة فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها فلما كانوا تحتها أمطرت عليهم نارا قال فذلك قوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة).
وأما أهل مدين فهم من ولد مدين بن إبراهيم الخليل فعذبهم الله بالرجفة وهي الزلزلة فأهلكوا.
قال بعض العلماء كان قوم شعيب عطلوا حدا فوسع الله عليهم في الرزق ثم عطلوا حدا فوسع الله عليهم الرزق فجعلوا كلما عطلوا حدا وسع الله عليهم في الرزق حتى إذا أراد هلاكهم سلط عليهم حرا لا يستطيعون أن يتقاروا ولا ينفعهم ظل ولا ماء حتى ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظله فوجد روحا فنادى أصحابه هلموا إلى الروح فذهبوا إليه سراعا حتى إذا اجتمعوا إليها ألهبها الله عليهم نارا فذلك عذاب يوم الظلة.
وقد روى عامر عن ابن عباس أنه قال له من حدثك ما عذاب يوم

158
الظلة فكذبه وقال مجاهد عذاب يوم الظلة هو إظلال العذاب على قوم شعيب وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) قال مما كان ينهاهم عنه قطع الدراهم.

159
قصة الخضر وخبره مع موسى
قال أهل الكتاب: إن موسى صاحب الخضر هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب والحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى صاحب الخضر هو موسى بن عمران على ما نذكره. وكان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك ابن اثغيان في قول علماء [أهل] الكتاب الأول قبل موسى بن عمران وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في أيام إبراهيم الخليل وأنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فشرب من مائه ولا يعلم ذو القرنين ومن معه فجلد وهي حي عندهم إلى الآن وزعم بعضهم أنه كان من ولد من آمن مع إبراهيم وهاجر معه واسمه باليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح وكان أبوه ملكا عظيما وقال آخرون ذو القرنين الذي كان على عهد إبراهيم أفريدون بن اثغيان وعلى مقدمته كان الخضر.
قال عبد الله بن شوذب الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام بالموسم وقال ابن إسحاق استخلف الله على بني إسرائيل رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص فبعث الله لهم الخضر معه نبيا قال واسم الخضر فيما يقول بنو إسرائيل ارميا بن حلقيا وكان من سبط هارون بن عمران وبين هذا الملك وبين أفريدون أكثر من ألف عام.
وقول من قال إن الخضر كان في أيام أفريدون وذي القرنين الأكبر

160
قبل موسى بن عمران أشبه للحديث الصحيح أن موسى بن عمران أمره الله بطلب الخضر ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق بالكائن من الأمور فيحتمل أن يكون الخضر على مقدمة على ذي القرنين قبل موسى وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره ولم يرسل في أيام إبراهيم وبعث في أيام ناشية بن أموص وكان ناشية هذا في أيام بشتاسب بن لهراسب. والحديث ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إن نوفا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران قال كذب عدو الله حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن موسى قام في بني إسرائيل خطيبا فقيل له أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه فقال يا رب هل هناك أعلم مني قال بلى عبد لي بمجمع البحرين قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتا فتجعله في مكتل فحيث تفقده فهو هناك فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم قال لفتاه إذا فقدت هذا الحوت فأخبرني فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا الصخرة وذلك وهو ماء الحياة فمن شرب منه خلد ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي فمس الحوت منه فحيي وكان موسى راقدا واضطرب الحوت في المكتل فخرج في البحر فامسك الله عنه جرية الماء فصار مثل الطاق فصار للحوت سربا وكان لهم عجبا ثم انطلقا. فلما كان حين الغداء قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال ولم يجد موسى النصب حتى تجاوز حيث أمره الله فقال (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا،

161
قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا) قال يقصان آثارهما حتى أتيا الصخرة فإذا رجل نائم مسجى بثوبه فسلم موسى عليه فقال وأني بأرضنا السلام قال أنا موسى قال موسى بن إسرائيل قال نعم قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه وأنت على علم من علم الله لا أعلمه قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت راشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.
قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ثم ركبا سفينة فجاء عصفور فقعد على حرف السفينة فنقر في الماء فقال الخضر لموسى ما ينقصك علمي وعلمك من علم الله إلا مقدار ما نقر هذا العصفور من البحر.
قال فبينا هم في السفينة فلم يفجأ موسى إلا وهو يوتد وتدا أو ينزع تختا منها فقال له موسى حملنا بغير نول فتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا قال ألم أقل إنك

162
لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا قال وكانت الأولى من موسى نسيانا.
قال فخرجت فانطلقا يمشيان فأبصرا غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ برأسه فقتله فقال له موسى (أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) فلم يجد أحدا يطعمهما ولا يسقيهما (فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه). فقال له موسى لم يضيفونا ولم ينزلونا (لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) وفي قراءة أبي سفينة صالحة. (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا) إلى (ما لم تستطع عليه صبرا).
فكان ابن عباس يقول ما كان الكنز إلا علما. قيل لابن عباس لم نسمع لفتى موسى بذكر فقال شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه العالم فطابق به سفينته ثم أرسلها في البحر فإنها لتموج له إلى يوم القيامة.
الحديث يدل على أن الخضر كان قبل موسى وفي أيامه ويدل على خطأ من قال أنه أرميا لأن أرميا كان أيام بختنصر وبين أيام موسى وبخت نصر من المدة ما لا يشكل على عالم بأيام الناس فإن موسى إنما نبئ في أيام منوجهر وكان ملكه بعد جده أفريدون.

163
ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامه
ثم ملك أفريدون بن أثغيان بن كاو منوجهر وهو من ولد إيرج بن أفريدون وكان مولده بدنباوند وقيل بالري فلما ولد منوجهر أخفى أمره خوفا من طوج وسلم عميه ولما كبر منوجهر سار إلى جده أفريدون فتوسم فيه الخير وجعل له ما كان جعله لجده إيرج من المملكة وتوجه بتاجه وقد زعم بعضهم أن منوجهر بن شجر بن افريقش بن إسحاق بن إبراهيم انتقل إليه الملك واستشهد بقول جرير بن عطية.
(وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا * حمائل موت لابسين السنورا)
(إذا انتسبوا عدوا الصبهبذ منهم * وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا)
(وكان كتاب فيهم ونبوة * وكانوا بإصطخر الملوك وتسترا)
(فيجمعنا والغر أبناء فارس * أب لا يبالي بعده من تأخرا)

164
(أبونا خليل الله والله ربنا * رضينا بما أعطى الاله وقدرا)
وأما الفرس فتنكر هذا النسب ولا تعرف لها ملكا إلا في أولاد أفريدون ولا تقر بالملك لغيرهم.
قلت والحق ما قاله الفرس فان أسماء ملوكهم قبل الإسكندر معروفة وبعد أيامه ملوك الطوائف وإذا كان منوجهر أيام موسى وكل ما بين موسى وإسحاق خمسة آباء معروفون ولم يزالوا بمصر ففي أي زمان كثروا وانتشروا وملكوا بلاد الفرس ومن أين لجرير هذا العلم حتى يكون قوله حجة لا سيما وقد جعل الجميع أبناء إسحاق.
قال هشام بن الكلبي: ملك طوج وسلم الأرض بعد أخيهما إيرج ثلاثمائة سنة ثم ملك منوجهر مائة وعشرين سنة ثم وثب به ابن لطوج التركي على رأس ثمانين سنة فنفاه بعد ذلك ثمانيا وعشرين سنة.
وكان منوجهر يوصف بالعدل والاحسان وهو أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب وأول من وضع الدهقنة فجعل لكل قرية دهقانا وأمر أهلها بطاعته ويقال أن موسى ظهر في سنة ستين من ملكه.
وقال غير هشام: أنه لما ملك سار نحو بلاد الترك طالبا بدم جده إيرج بن أفريدون فقتل طوج بن أفريدون، وأخاه سلما ثم أن افراسياب بن فشنج بن رستم بن ترك الذي ينسب إليه الأتراك من ولد طوج بن أفريدون،

165
حارب منوجهر بعد قتله طوج بستين سنة وحاصره بطبرستان ثم اصطلحا أن يجعلا حد ما بين ملكيهما رمية سهم رجل من أصحاب منوجهر اسمه إيرشى وكان راميا شديد النزع فرمى سهما من طبرستان فوقع بنهر بلخ وصار النهر حد ما بين الترك ولد طوج وعمل منوجهر.
قلت: وهذا من أعجب ما يتداوله الفرس في أكاذيبهم أن رمية سهم تبلغ هذا كله.
وقد ذكر أن منوجهر اشتق من الفرات ودجلة ونهر بلخ أنهارا عظاما وأمر بعمارة الأرض وقيل إن الترك تناولت من أطراف رعيته بعد خمس وثلاثين سنة من ملكه فوبخ قومه وقال لهم أيها الناس إنكم لم تلدوا الناس كلهم وأنما الناس ناس ما ناضلوا عن أنفسهم ودفعوا العدو عنهم وقد نالت الترك من أطرافكم وليس ذلك إلا بترككم جهاد عدوكم وإن الله أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر أم نكفر فيعاقبنا فإذا كان غد فاحضروا.
فحضر الناس والاشراف، فقام على قدميه، فقام له الناس، فقال: اقعدوا إنما قمت لأسمعكم فجلسوا فقال: أيها الناس إنما الخلق للخالق والشكر للمنعم والتسليم للقادر ولا بد مما هو كائن وأنه لا أضعف من مخلوق طالبا كان أو مطلوبا ولا أقوى من خالق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أعجز ممن هو في يده طالبا وإن التفكر نور والغفلة ظلمة فالضلالة جهالة وقد ورد الأول ولا بد للآخر من اللحاق بالأول إن الله أعطانا هذا الملك فله الحمد ونسأله الهام الرشد والصدق واليقين وأنه لا بد أن يكون للملك على أهل مملكته حق ولأهل مملكته عليه حق فحق الملك عليهم أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوه وحقهم على الملك أن يعطيهم

166
أرزاقهم في أوقاتها إذ لا معول لهم إلا عليها وأنه خازنهم وحق الرعية على الملك أن ينظر إليهم ويرفق بهم ولا يحملهم على ما لا يطيقون وإن أصابتهم مصيبة أو تنقص من ثمارهم أن يسقط عنهم خراج ما نقص وأن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقويهم على عمارتهم ثم يأخذ منهم بعد ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال أن يكون صديقا لا يكذب وأن يكون سخيا لا يبخل وأن يملك نفسه عند الغضب فإنه مسلط ويده مبسوطة والخراج يأتيه فلا يستأثر على جنده ورعيته بما هم أهل له وأن يكثر العفو فإنه لا ملك أقوى ولا أبقى من ملك فيه العفو فإن الملك أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ألا وإن الترك قد طمعت فيكم فاكفونا فإنما تكفون أنفسكم وقد أمرت لكم بالسلاح والعدة وأنا شريككم في الرأي وإنما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم وإنما الملك ملك إذا أطيع فإن خولف فهو مملوك وليس بملك ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الأخذ بالصبر والراحة إلى اليقين فمن قتل في مجاهدة العدو رجوت له بفوز رضوان الله وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلون عقد الرحال إلا في غيرها وهي خطبة طويلة.
ثم أمر بالطعام فأكلوا وشربوا وخرجوا وهم له شاكرون مطيعون وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وزعم ابن الكلبي أن الرائش واسمه الحرث بن قيس بن صيفي بن سبا بن يعرب بن قحطان،

167
وكان قد ملك اليمن بعد يعرب بن قحطان كان ملكه باليمن أيام ملك منوجهر وإنما سمي الرائش لغنيمة غنمها فأدخلها اليمن فسمي الرائش ثم غزا الهند فقتل بها وأسر وغنم ورجع إلى اليمن ثم سار على جبلي طيئ ثم على الأنبار ثم على الموصل ووجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه يقال له شمر بن العطاف فدخل على الترك بأرض أذربيجان فقتل المقاتلة وسبى الذرية وكتب ما كان من مسيرة على حجرين وهما معروفان بأذربيجان.
ثم ملك بعده ابنه أبرهة ولقبه ذو المنار وإنما لقب بذلك لأنه غزا بلاد المغرب وأوغل فيها برا وبحرا وخاف على جيشه الضلال عند قفوله فبنى المنار ليهتدوا وقد زعم أهل اليمن أنه وجه ابنه العيد بن أبرهة في غزواته إلى ناحية من أقاصي المغرب فغنم وقد بسبي له وحشة منكرة فذعر الناس منهم فسمي ذو الأذعار فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغلوا في البلاد.
وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن ههنا لقول من زعم أن الرائش كان أيام منوجهر وأن ملوك اليمن كانوا عمالا لملوك فارس.

168
قصة موسى عليه السلام ونسبه وما كان في أيامه من الأحداث
قيل هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة وولد قاهث للاوي وهو ابن ستة وأربعين سنة وولد لقاهث يصهر وولد عمران ليصهر وله ستون سنة وكان عمره جميعه مائة وسبعا وأربعين سنة وولد موسى ولعمران سبعون سنة وكان عمر عمران جميعه مائة وسبعا وثلاثين سنة وأم موسى يوخابد واسم امرأته صفورا بنت شعيب النبي.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول وقيل كانت من بني إسرائيل. فلما نودي موسى اعلم أن قابوس فرعون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه وكان عمره طويلا وكان أعنى من قابوس وأفجر وأمر بأن يأتيه هو وهارون بالرسالة ويقال إن الوليد تزوج آسية بعد أخيه ثم سار موسى إلى فرعون رسولا مع هارون فكان من مولد موسى إلى أن أخرج بني إسرائيل من مصر ثمانون سنة ثم سار إلى التيه بعد أن مضى وعبر البحر وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة فكان ما بين مولد موسى إلى وفاته مائة وعشرون سنة.
قال ابن عباس وغيره دخل حديث بعضهم في بعض إن الله تعالى

169
لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل لم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم من الاسلام حتى كان فرعون موسى وكان أعتاهم على الله وأعظمهم قولا وأطولهم عمرا واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب وكان سئ الملكة على بني إسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولا ويسومهم سوء العذاب.
فلما أراد الله أن يستنقذهم بلغ موسى الأشد وأعطاه الرسالة وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر فدعا السحرة والحزاة والكهنة فسألهم عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد يعنون بيت المقدس الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على وجهه هلاك مصر فأمر ألا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري.
وقيل: إنه لما تقارب زمان موسى أتى المنجمون فرعون وحزاته إليه فقالوا اعلم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ويبدل دينك فأمر بقتل كل مولود يولد في بني إسرائيل.
وقيل: بل تذاكر فرعون وجلساؤه معا ما وعد الله عز وجل إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فقال بعضهم إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا ليس هكذا وعد الله إبراهيم فقال فرعون كيف ترون فاجمعوا على أن يبعث رجالا

170
يقتلون كل مولود في بني إسرائيل وقال للقبط انظروا مماليككم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم واجعلوا بني إسرائيل يلون ذلك فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم فذلك حين يقول الله عز وجل (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم) فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح وكان
يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن فكان يشقق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب وقضى الله الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط فرعون وكلموه وقالوا إن هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا تذبح الصغار وتفني الكبار فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها وهي السنة المقبلة فلما أرادت أمه وضعه حزنت من شأنه فأوحى الله إليها أي ألهمها (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) وهو النيل (ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
فلما وضعته أرضعته ثم دعت نجارا فجعل له تابوتا وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم فلما توارى عنها أتاها إبليس فقالت في نفسها ما الذي صنعت بنفسي لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه فلما ألقته (قالت لأخته) واسمها مريم (قصيه) قصي أثره (فبصرت به عن جنب وهم

171
لا يشعرون) أنها أخته فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى أدخله بين أشجار عند دور فرعون فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية وظنن أن فيه مالا فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته فلما أخبرت به فرعون وأتته به قالت هو (قرة عين لي ولك لا تقتلوه) فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها).
وأراد أن يذبحه فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا فذلك قوله عز وجل (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) وأرادوا له المرضعات فلم يأخذ من أحد من النساء فذلك قوله (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت) أخته مريم (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) فأخذوها وقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك.
فقالت نصحهم له شفقتهم عليه ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ورجاء منفعته فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما أعطته ثديها

172
أخذه منها فكادت تقول هذا ابني فعصمها الله.
وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر والماء بالقبطية مو والشجر سا فذاك قوله تعالى (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن).
وكان غيبته عنها ثلاثة أيام وأخذته معها إلى بيتها واتخذه فرعون ولدا فدعي ابن فرعون فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون فلما أخذه إليه أحد الغلام بلحيته فنتفها قال فرعون علي بالذباحين يذبحونه هو هذا قالت آسية لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) إنما هو صبي لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل وقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليا مني أنا أضع له حليا من ياقوت وجمرا فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه وأن أخذ الجمر فإنما هو صبي فأخرجت له ياقوتا ووضعت له طشتا من جمر فجاء جبريل فوضع يده في جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه فأحرقت لسانه فهو الذي يقول الله تعالى (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) فدرأت عن موسى بتلك القتل.
وكبر موسى وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس ويدعى موسى بن فرعون وامتنع به بنو إسرائيل ولم يبق قبطي يظلم إسرائيليا خوفا منه.

173
ثم أن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى فلما جاء موسى قيل له فرعون قد ركب فركب موسى في أثره فأدركته المقيل بأرض يقال لها منف وهذه منف (بفتح الميم وسكون النون) مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق وهي الآن قرية كبيرة فدخل نصف النهار وقد أغلقت أسواقها على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته يقول هذا إسرائيلي قيل إنه السامري وهذا من عدوه يقول من القبط فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم وكان قد حماهم من القبط وكان الناس لا يعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرضاع فلما اشتد غضبه وكزه (فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم) أوحى الله تعالى إلى موسى وعزتي لو أن النفس التي قتلت أقرت له ساعة واحدة إني خالق رازق لأذقتك العذاب قال (رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح في المدينة خائفا يترقب) أن يؤخذ (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) يقول يستعينه (قال له موسى إنك لغوي مبين) ثم أقبل لينصره فلما نظر موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الإسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس

174
إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) فترك القبطي فذهب فأفشى عليه أن موسى هو الذي قتل الرجل فطلبه فرعون وقال خذوه فإنه صاحبنا فجاء رجل فأخبره وقال له (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج).
قيل: كان حزقيل مؤمن آل فرعون كان على بقية من دين إبراهيم عليه السلام وكان أول من آمن بموسى. فلما أخبره خرج من بينهم (خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين) وأخذ في ثنيات الطريق فجاءه ملك على فرس وفي يده عنزة وهي الحربة الصغيرة فلما رآه موسى سجد له من الفرق فقال له لا تسجد لي ولكن اتبعني فهداه نحو مدين وقال موسى وهو متوجه إليها عسى ربي أن يهديني سواء السبيل فانطلق به الملك حتى انتهى به إلى مدين فكان قد سار وليس معه طعام وكان يأكل ورق الشجر ولم يكن له قوة على المشي فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه. (ولما ورد ماء مدين _ قصد الماء _ وجد عليه أمه من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي تحبسان غنمهما وهما ابنتا شعيب النبي وقيل ابنتا يثرون وهو ابن أخي شعيب فلما رآهما موسى سألهما (ما خطبكما؟

175
قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما فرجعتا سريعا وكانتا إنما تسقيان من فضول الحيض وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال (رب إني أنزلت إلي من خير فقير).
قال ابن عباس لقد قال موسى ذلك ولو شاء انسان أن ينظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع لفعل وما سأل إلا أكله.
فلما رجع الجاريتان إلى أبيهما سريعا سألهما فأخبرتاه فأعاد إحداهما إلى موسى تستدعيه فأتته وقالت له (إن أبي ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام معها فمشت بين يديه فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها فقال لها امش خلفي ودليني على الطريق فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء.
فلما أتاه (وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما) وهي التي أحضرته (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) قال لها أبوها القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه فقال له أبوها (إني أريد أن أنكحك إحدى بناتي هاتين على أن تأجرني) نفسك (ثماني حجج فإن أتممت

176
عشرا فمن عندك) فقال له موسى (ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل). فأقام عنده يومه فلما أمسى أحضر شعيب العشاء فامتنع موسى من الأكل فقال ولم ذلك قال إنا من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها فقال شعيب ليس لذلك أطعمتك إنما هي عادتي وعادة آبائي فأكل، وازدادت رغبة شعيب في موسى فوجه ابنته التي أحضرته واسمها صفورا وأمراها أن تأتيه بعصا فاتته وكانت تلك العصا قد استودعها إياه ملك في صورة رجل فدفعتها إليه فلما رآها أبوها أمرها بردها والإتيان بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم تقع بيدها سواها جعل يرددها وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها فأخذها
موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة فلما رآه موسى يريد أخذها منه مانعه فحكما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك في صورة آدمي فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض فمن حملها فهي له فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن وقيل كانت من آس الجنة حملها آدم معه وقيل في أخذها غير ذلك.
وأقام موسى عند شعيب يرعى له غنمه عشر سنين وسار بأهله في زمن شتاء وبرد فلما كانت الليلة التي أراد الله عز وجل لموسى كرامته وابتداءه فيها بنبوته وكلامه أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه وكانت امرأته حاملا فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ورعد وبرق فأخرج زنده ليقدح نارا لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه فأصلد

177
زنده فقدح حتى أعيا فرفعت له نار فلما رآها انها نار وكانت من نور الله ف‍ (قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر) فإن لم أجد خبرا (آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) فحين قصدها رآها نورا ممتدا من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج وقيل من العناب فتحير موسى وخاف حين رأى نارا عظيمة بغير دخان وهي تلتهب في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا عظما ولا تزداد الشجرة إلا خضرة. فلما دنا منها استأخرت عنه ففزع ورجع فنودي منها فلما سمع الصوت استأنس فعاد فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن من الشجرة في البقعة المباركة أن بورك من في النار ومن حولها يا موسى إني أنا الله رب العالمين، فلما سمع النداء ورأى تلك الهيبة علم أنه ربه تعالى فخفق قلبه وكل لسانه وضعفت قوته وصار حيا كميت إلا أن الروح يترد فيه فأرسل الله إليه ملكا يشد قلبه فلما ثاب إلى عقله نودي (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى) وإنما أمر بخلع نعليه لأنهما كانتا من جلد حمار ميت وقيل لينال قدمه الأرض المباركة. ثم قال له تسكينا لقلبه (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) يقول أضرب الشجر فيسقط ورقه للغنم (ولي فيها مآرب أخرى)

178
أحمل عليها المزود والسقاء.
وكانت تضيء لموسى في الليلة المظلمة وكانت إذا أعوزه الماء دلاها في البئر فينال الماء ويصير في رأسها شبه الدلو وكان إذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض فنبتت لها أغصان تحمل الفاكهة لوقتها.
قال له: ألقها يا موسى. فألقاها موسى فإذا هي حية تسعى عظيمة الجثث في خفة حركة الجان. فلما رآها موسى ولي مدبرا ولم يعقب فنودي يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون أقبل ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى عصا وإنما أمره الله بإلقاء العصا حتى إذا ألقاها عند فرعون لا يخاف منها. فلما أقبل قال: خذها ولا تخف وأدخل يدك في فيها وكان على موسى جبه صوف فلف يده بكمه وهو لها هائب فنودي ألق كمك عن يدك فألقاه وأدخل يده بين لحييها فلما أدخل يده عادت عصا كما كانت لا ينكر منها شيئا.
ثم قال له أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء يعني برصا فأدخلها وأخرجها بيضاء من غير سوء مثل الثلج لها نور ثم ردها فعادت كما كانت فقيل له هذان برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين. قال (رب قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردأ يصدقني) أي يبين لهم عني ما أكلمهم به فإنه يفهم عني ما لا يفهمون قال (سنشد عضدك

179
بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه فجاء هارون فسألها عنه فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه وسأله هارون من أنت قال أنا موسى فاعتنقا. وقيل إن الله ترك موسى سبعة أيام ثم قال أجب ربك فيما كلمك فقال (رب اشرح لي صدري) الآيات فأمره بالمسير إلى فرعون ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مر راع من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعد ما فلق البحر فساروا إليه.
وأما موسى فإنه سار إلى مصر وأوحى الله إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقيه فخرج من مصر فالتقى به قال موسى يا هارون إن الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه قال سمعا وطاعة. فلما جاء إلى بيت هارون وأظهر أنهما ينطلقان إلى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت أنشدكما أن لا تذهبان إلى فرعون فيقتلكما جميعا فأبيا فانطلقا إليه ليلا فضربا بابه فقال فرعون لبوابه من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى (إنا رسولا رب العالمين) فأخبر فرعون فأدخلا إليه.

180
وقيل أن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان إلى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بشأنهما حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله فأمر حينئذ فرعون بإدخالهما. فلما دخلا قال له موسى إني رسول من رب العالمين فعرفه فرعون فقال له (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففرت منكم لما خفت فوهب لي ربي حكما) يعني نبوة (وجعلني من المرسلين). فقال له فرعون (إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) قد فتح فاه فوضع اللحى الأسفل في الأرض والأعلى على القصر وتوجه نحو فرعون ليأخذه فخافه فرعون ووثب فزعا فأحدث في ثيابه ثم بقي بضعا وعشرين يوما يجيء بطنه حتى كاد يهلك وناشده فرعون بربه تعالى أن يرد الثعبان فأخذه موسى فعاد عصا ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ثم ردها إلى ما كانت عليه من لونها ثم أخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تلك منه الأبصار قد أضاءت ما حولها يدخل نورها البيوت ويرى من الكوى ومن وراء الحجب فلم يستطع فرعون النظر إليها ثم ردها موسى في جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها.
وأوحى الله إلى موسى وهارون أن (قولا له قولا لينا لعله

181
يتذكر أو يخشى) فقال له موسى هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم وملكك فلا ينزع وأرد إليك لذة المناكح والمشارب والركوب فإذا مت دخلت الجنة وتؤمن بي فقال لا حتى يأتي هامان فلما حضر هامان عرض عليه قول موسى فعجزه وقال له تصير تعبد بعد أن كنت تعبد ثم قال له أنا أرد عليك شبابك فعمل له الوسمة فخضبه بها فهو أول من خضب بالسواد فلما رآه موسى هاله ذلك فأوحى الله إليه لا يهولنك ما ترى فلن يلبث إلى قليلا.
فلما سمع فرعون ذلك خرج إلى قومه فقال إن هذا لساحر عليم وأراد قتله فقال مر من آل فرعون واسمه حزقيل (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات) وقال الملأ من قوم فرعون (أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) ففعل وجمع السحرة فكانوا سبعين ساحرا وقيل اثنين وسبعين وقيل خمسة عشر ألفا وقيل ثلاثين ألفا فوعدهم فرعون واتعدوا يوم عيد كان لفرعون فصفهم فرعون وجمع الناس وجاء موسى ومن معه أخوه هارون وبيده عصاه حتى أتى الجميع وفرعون في مجلسه من أشراف قومه فقال موسى للسحرة حين جاءهم (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فسيحتكم بعذاب) فقال السحرة بعضهم لبعض ما هذا بقول ساحر! ثم قالوا:

182
لنأتينك بسحر لم تر مثله (وقالوا بعزة فرعون إنا نحن الغالبون) فقال له السحرة (يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا هي في رأى العين حيات أمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا فأوجس موسى خوفا فأوحى الله إليه أن ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا فألقى عصاه من يده فصارت ثعبانا عظيما فاستعرضت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم وهي كالحيات في أعين الناس فجعلت تلقفها وتبتلعها حتى لم تبق منها شيئا ثم أخذ موسى عصاه فإذا هي في يده كما كانت.
وكان رئيس السحرة أعمى فقال له أصحابه إن عصا موسى صارت ثعبانا عظيما وتلقف حبالنا وعصينا فقال لهم ولم يبق لها أثر ولا عادت إلى حالها الأول فقالوا لا فقال هذا ليس بسحر. فخر ساجدا وتبعه السحرة أجمعون (وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل) فقطعهم وقتلهم وهي يقولون (ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين)،

183
فكانوا أول النهار كفارا وآخر النهار شهداء.
وكان حزقيل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه قيل كان من بني إسرائيل وقيل كان من القبط وقيل هو النجار الذي
صنع تابوت الذي جعل موسى فيه وألقي في النيل فلما رأى غلبة موسى السحرة أظهر إيمانه وقيل أظهر ايمانه قبل ذل وكان فرعون أراد قتل موسى (فقال أتقتلون رجلا يقول ربي الله وقد جائكم بالبينات من ربكم) فلما أظهر إيمانه قتل وصلب مع السحرة.
وكان له امرأة مؤمنة تكتم إيمانها أيضا وكانت ماشطة ابنة فرعون فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها فقالت بسم الله فقالت ابنة فرعون أبي قالت لا بل ربي وربك ورب أبيك فأخبرت أباها بذلك فدعا بها وبولدها وقال لها: من ربك قالت ربي وربك الله فأمر بتنور نحاس فأحمي ليعذبها وأولادها فقالت له ذلك لك أمر بأولادها فألقوا في التنور واحدا واحدا وكان آخر أولادها صبيا صغيرا فقال اصبري يا أماه فإنك على الحق فألقيت في التنور مع ولدها.
وكانت آسية امرأة فرعون من بني إسرائيل وقيل كانت من غيرهم وكانت مؤمنة تكتم إيمانها فلما قتلت الماشطة رأت آسية الملائكة تعرج بروحها كشف الله عن بصيرتها وكانت تنظر إليها وهي تعذب فلما رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقينا وتصديقا لموسى فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة قالت له آسية الويل لك ما أجرأك على الله فقال لها لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة فقالت ما بي جنون ولكني آمنت بالله تعالى ربي وربك ورب العالمين.

184
فدعا فرعون أمها وقال لها إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى فخلت بها أمها وأرادتها على موافقة فرعون فأبت وقالت إما أن أكفر بالله فلا والله. فأمر فرعون حتى مدت بين يديه أربعة أوتاد وعذبت حتى ماتت فلما عاينت الموت قالت (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) فكشف الله عن بصيرتها فرأت الملائكة وما أعد لها من الكرامات فضحكت فقال فرعون انظروا إلى الجنون الذي بها تضحك وهي في العذاب ثم ماتت.
ولما رأى فرعون قومه قد دخله الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه وقال لوزيره يا هامان ابن لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا. فأمر هامان بعمل الآجر وهو أول من عمله وجمع الصناع وعمله في سبع سنين وارتفع البنيان ارتفاعا لم يبلغه بنيان آخر فشق ذلك على موسى واستعظمه فأوحى الله إليه أن دعه وما يريد فإني مستدرجه ومبطل ما عمله في ساعة واحدة فملا تم بناؤه أمر الله جبريل فخربه وأهلك كل من عمل فيه من صانع ومستعمل.
فلما رأى فرعون ذلك من صنع الله أمر أصحابه بالشدة على بني إسرائيل وعلى موسى ففعلوا ذلك وصاروا يكلفون بني إسرائيل من العمل مالا يطيقونه وكان الرجال والنساء في شدة وكانوا قبل ذلك يطعمون بني إسرائيل إذا استعملوهم فصاروا لا يطعمونهم شيئا فيعودون بأسوء حال يريدون يكسبون ما يقوتهم فشكوا ذلك إلى موسى فقال لهم استعينوا بالله واصبروا إن العاقبة للمتقين،

185
(عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).
فلما أبى فرعون وقومه إلا الثبات على الكفر تابع الله عليه الآيات فأرسل عليهم الطوفان وهو المطر المتتابع فغرق كل شيء لهم فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فكشفه الله عنهم ونبتت زروعهم فقالوا ما يسرنا أنا لم نمطر. فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم فسألوا موسى أن يكشف ما بهم ويؤمنون به فدعا الله فكشفه فلم يؤمنوا وقالوا قد بقي من زروعنا بقية. فأرسل عليهم الدبا وهو القمل فأهلك الزروع والنبات أجمع وكان يهلك أطعمتهم ولم يقدروا أن يحترزوا منه فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ففعل فلم يؤمنوا. فأرسل عليهم الضفادع وكانت تسقط في قدورهم وأطعمتهم وملأت البيوت عليهم فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا به ففعل فلم يؤمنوا. فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه الفرعونيين دما وكان الفرعوني والإسرائيلي يستقيان من ماء واحد فيأخذ الإسرائيلي ماء ويأخذ الفرعوني دما وكان الإسرائيلي يأخذ الماء في فمه فيمجه في فم الفرعوني فيصير دما فبقي ذلك سبعة أيام فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا ففعل فلم يؤمنوا.
فلما يئس من إيمانهم ومن إيمان فرعون دعا موسى وأمن هارون فقال (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) فاستجاب

186
الله لهما، فمسخ الله أموالهم، ما عدا خيلهم وجواهرهم وزينتهم، حجارة، والنخل والأطعمة والدقيق وغير ذلك، فكانت إحدى الآيات التي جاء بها موسى.
فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدسة فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرأة عجوز فأرته مكانه في النيل فاستخرجه موسى وهو في صندوق مرمر فأخذه معه فسار وأمر بني إسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم ففعلوا ذلك وأخذوا شيئا كثيرا وخرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون وكان موسى على ساقة بني إسرائيل وهارون على مقدمتهم وكان بنو إسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفا تبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أما الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا وأما الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا قال موسى (كلا إن ربي سيهدين).
وبلغ بنو إسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم فأيقنوا بالهلاك فتقدم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق فقال كل سبط قد هلك أصحابنا فأمر الله الماء فصار كالشباك فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا ودنا فرعون وأصحابه من البحر فرأى الماء على هيئته والطرق فيه فقال لأصحابه ألا ترون البحر قد فرق

187
مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي فلما وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله فنزل جبريل على فرس أنثى وديق فشمت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أوليهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم وبنو إسرائيل ينظرون إليهم وانفرد جبريل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه وقال حين أدركه الغرق (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) وغرق فبعث الله إليه ميكائيل يعيره فقال له (الآن وقد عصيت قبل وكنت المفسدين) وقال جبريل للنبي لو رأيتني وأنا أدس من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها.
فلما نجا بنو إسرائيل قالوا إن فرعون لم يغرق فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقا فأخذه بنو إسرائيل يتمثلون به. ثم ساروا فأتوا على قوم يعبدون الأصنام فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون فتركوا ذلك. ثم بعث موسى جندين عظيمين كل جند اثنا عشر ألفا إلى مدائن فرعون وهي يومئذ خالية من أهلها وقد أهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ولم يبق غير النساء والصبيان والزمنى والمرضى والمشايخ والعاجزين فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله على غيرهم وكان على الجندين يوشع بن نون وكالب بن يوفنا..
وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنه إذا خرج مع بني إسرائيل منها

188
وأهلك الله عدوهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون. فلما أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا فسأل موسى ربه ذلك فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ويتطهر ويطهر ثيابه ويأتي الجبل طور سيناء ليكلمه الله ويعطيه الكتاب فصام ثلاثين يوما أولها أول ذي القعدة وسار إلى الجبل واستخلف هارون على بني إسرائيل. فلما قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل تسوق بلحاء شجرة فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى فصامها وهي عشر ذي الحجة (فتم ميقات ربه أربعين ليلة).
ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى. وكان السامري من أهل باجرمى وقيل من بني إسرائيل فقال هارون يا بني إسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم والحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة فاحفروا حفرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه ففعلوا ذلك وجاء السامري بقبضة من
التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل فألقاه فيه فصار الحلي عجلا له جسدا له خوار، وقيل إن الحلي ألقي في النار فذاب فألقى السامري ذلك التراب فصار الحلي جسدا له خوار وقيل كان يخور ويمشي وقيل ما خار إلا مرة واحدة ولم يعد. وقيل إن السامري صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ثم قذف فيه التراب فقام له خوار.

189
فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) موسى وتركه ههنا وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم فأقام بمن معه ولم يقاتلهم ولما ناجى الله تعالى موسى قال له ما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى قال فإنا قد فتنا قومك ومن بعدك يا موسى وأضلهم السامري فقال موسى يا رب هذا السامري قد أمرهم أن يتخذوا العجل من نفخ فيه الروح قال أنا قال فأنت اذن أضللتهم.
ثم أن موسى لما كلمه الله تعالى أحب أن ينظر إليه قال (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فتجلى الله تعالى (للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين). وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوما ثم يكشفها لما تغشاه من النور. فلما وصل إلى قومه ورأى عبادتها العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه قال يا بن أم لا

190
تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي فترك هارون وأقبل على السامري وقال ما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس.
ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه وأمر السامري فبال عليه وذراه في البحر فلما ألقى موسى الألواح ذهب ستة أسباعها وبقي سبع وطلب بنو إسرائيل التوبة فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه فكان من قتل من الفريقين شهيدا فقتل منهم سبعون ألفا وقام موسى وهارون يدعوان الله فعفا عنهم وأمرهم بالكف عن القتال وتاب عليهم وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال إنه سخي فلعنه موسى.
ثم إن موسى اختار من قومه سبعين رجلا من أخيارهم وقال لهم انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم وصوموا وتطهروا وخرج لهم إلى طور سيناء للميقات الذي وقته الله له فقالوا اطلب أن نسمع كلام ربنا فقال أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل

191
كله ودخل فيه موسى وقال للقوم ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام فوقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا لموسى (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) فماتوا جميعا.
فقام موسى يناشد الله ويقول يا رب اخترت أخيار بني إسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدقونني ولم يزل يتضرع إلى الله حتى رد الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فقالوا يا موسى أنت تدعوا الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك فادعه يجعلنا أنبياء فدعا الله فجعلهم أنبياء.
وقيل أمر السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني إسرائيل فلما مضوا للميقات واعتذروا قبل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضا والله أعلم.
ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأثقال والشدة التي جاء بها وأمر الله جبريل فقطع جبلا من فلسطين على قدر عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظلة وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم فقال لهم موسى (خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا) فان قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلا رضختكم بهذا الجبل وغرقتكم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار فلما

192
رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شق وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصارت سنة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا سمعنا وأطعنا.
ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوما لا يراه أحد إلا مات وقيل ما رآه الأعمى فجعل على وجهه ورأسه برنسا لئلا يرى وجهه.
ثم إن رجلا من بني إسرائيل قتل ابن عم له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر ثم أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني إسرائيل فجحدوا فسأل موسى ربه فأمرهم أن يذبحوا بقرة فقالوا (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) المستهزئين فقالوا له ما هي ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم وإنما تشديدهم لأن رجلا منهم كان برا بأمه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه بره بأمه فلم يجدوا على الصفة المذكورة إلا بقرته فباعها منهم بملء جلدها ذهبا. فلما سألوا موسى عنها (قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر) يقول لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا (وإنا إن شاء الله لمهتدون) قال إنه يقول إنها بقرة لا

193
ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) يعني لا عيب فيها وقيل لا بياض فيها قالوا (الآن جئت بالحق) وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البار بأمه فاشتروها فغالى بها حتى أخذ ملء جلدها ذهبا فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها وقيل بغيره فحيي وقال قتلني فلان ثم مات.

194
ذكر أمر بني إسرائيل في التيه
ووفاة هارون عليه السلام
ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحاء بلد الجبارين وهي أرض ببيت المقدس فساروا حتى كانوا قريبا منهم فبعث موسى اثني عشر نقيبا من سائر أسباط بني إسرائيل فساروا ليأتوا بخبر الجبارين فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عناق فأخذ الاثني عشر فحملهم وانطلق بهم إلى امرأته فقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا وأراد أن يطأهم برجله فمنعته امرأته وقالت أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما خرجوا قال بعضهم لبعض إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم فاكتموا الأمر عنهم وتعاهدوا على ذلك ورجعوا فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا وكتم رجلان منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ختن موسى ولم يخبروا إلا موسى وهارون. فلما سمع بنو إسرائيل الخبر عن الجبارين امتنعوا عن المسير إليهم (فقال لهم موسى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين). قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان وهما يوشع وكالب (من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا

195
دخلتموه فإنكم غالبون قالوا يا موسى إنا لن ندخل أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون).
فغضب موسى فدعا عليهم فقال (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) وكانت عجلة من موسى فقال الله تعالى (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض). فندم موسى حينئذ فقالوا له فكيف لنا بالطعام فأنزل الله المن والسلوى فأما المن فقيل هو كالصمغ وطعمه كالشهد يقع على الأشجار وقيل هو الترنجبين وقيل هو الخبر الرقاق وقيل هو عسل كان ينزل لكل انسان صاع. وأما السلوى فهو طائر يشبه السماني فقالوا أين الشراب فأمر موسى (فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط عين فقالوا أين الظل فظلل عليهم الغمام فقالوا أين اللباس فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزق لهم ثوب ثم (قالوا يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها

196
وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم) فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المن والسلوى.
ثم إن موسى التقى هو وعوج بن عناق فوثب موسى عشرة أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع وكان طوله عشرة
أذرع فأصاب كعب عوج فقتله وقيل عاش عوج ثلاثة آلاف سنة.
ثم إن الله أوحى إلى موسى إني متوفى هارون فأت به جبل كذا وكذا فانطلقا نحوه فإذا هم فيه بشجرة لم يروا مثلها وفيه بيت مبني وسرير عليه فرش وريح طيبة فلما رآه هارون أعجبه قال يا موسى إني أريد أن أنام على هذا السرير فقال له موسى نم قال إني أخاف رب هذا البيت أن يأتي فيغضب علي قال موسى لا تخف أنا أكفيك قال فنم معي فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حسه قال يا موسى خدعتني فتوفي ورفع على السرير إلى السماء ورجع موسى إلى بني إسرائيل فقال له بنو إسرائيل إنك قتلت هارون لحبنا إياه فقال ويحكم افترون أني أقتل أخي فلما أكثروا عليه صلى ودعا الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه ما بين السماء والأرض فأخبرهم أنه مات وأن موسى لم يقتله فصدقوه وكان موته في التيه.

197
ذكر وفاة موسى عليه السلام
قيل بينما موسى عليه السلام يمشى ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى وقال لا تقوم الساعة إلا وأنا ملتزم نبي الله فاستل موسى من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع فلما جاء يوشع بالقميص أخذه بنو إسرائيل وقالوا قتلت نبي الله فقال ما قتلته ولكنه استل مني فلم يصدقوه قال فإذا لم تصدقوني فأخبروني ثلاثة أيام فوكلوا به من يحفظه فدعا الله فأتي كل رجل كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى فإنا رفعناه إلينا فتركوه.
وقيل إن موسى كره الموت فأراد الله أن يحبب إليه الموت فأوحى الله إلى يوشع بن نون وكان يغدو عليه ويروح ويقول له موسى يا نبي الله ما أحدث الله إليك فقال له يوشع بن نون يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك ولا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحياة وأحب الموت. وقيل إنه مر منفردا برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم فوقف عليهم فلم ير أحسن منه ولم ير مثله ما فيه من الخضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر فقالوا نحفره لعبد كريم على ربه فقال إن هذا العبد له منزل كريم ما رأيت مضجعا ولا مدخلا مثله فقالوا أتحب أن يكون لك قال وددت قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك وتنفس أسهل تنفس تتنفسه فنزل فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس فقبض الله روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب.

198
وكان زاهدا في الدنيا راغبا فيما عند الله إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعا إلى الله تعالى وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه فقاد وقال يا رب أرسلتني إلى عبد لا يحب الموت قال الله ارجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكل شعرة تحت يده سنة وخيره بين ذلك وبين أن يموت الآن فأتاه ملك الموت وخيره فقال له فما بعد ذلك قال الموت قال فالآن إذا فقبض روحه وهذا القول صحيح قد صح النقل به عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان موته في التيه أيضا.
وقيل بل هو الذي فتح مدينة الجبارين على ما نذكره.
وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة من ذلك في ملك أفريدون عشرون وفي ملك منوجهر مائة سنة وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلى أن قبضه في ملك منوجهر ثم نبئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة وفي زمن افراسياب سبع سنين.

199
ذكر يوشع بن نون عليه السلام
وفتح مدينة الجبارين
لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام نبيا إلى بني إسرائيل وأمره بالمسير إلى أريحاء مدينة الجبارين واختلف العلماء في فتحها على يد من كان فقال ابن عباس إن موسى وهارون توفيا في التيه وتوفي فيه كل من دخله وقد جاوز العشرين سنة غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فأمره بالمسير إليها وفتحها ففتحها ومثله قال قتادة والسدي وعكرمة.
وقال آخرون إن موسى عاش حتى خرج من التيه وسار إلى مدينة الجبارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها وهو قول ابن إسحاق قال ابن إسحاق سار موسى بن عمران إلى أرض كنعان لقتال الجبارين فقدم يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهو صهره على أخته مريم بنت عمران. فلما بلغوها اجتمع الجبارون إلى بلعم بن باعوراء وهو من ولد لوط فقالوا له إن موسى قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم وكان بلعم يعرف اسم الأعظم فقال لهم كيف ادعوا على نبي الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم فأتوا امرأته وأهدوا لها هدية فقبلتها وطلبوا إليها أن تحسن لزوجها أن يدعو على بني

200
إسرائيل فقالت له في ذلك فامتنع فلم تزل به حتى قال أستخير الله فاستخار الله تعالى فنهاه في المنام فأخبرها بذلك فقالت راجع ربك فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب فقالت لو أراد ربك لنهاك ولم تزل تخدعه حتى أجابهم فركب حمارا له متوجها إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم فما سار عليه إلا قليلا حتى ربض الحمار فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار قليلا فبرك فعل ذلك ثلاث مرات فلما اشتد ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له ويحك يا بلعم أين تذهب أما ترى الملائكة تردني فلم يرجع فأطلق الله الحمار حينئذ فسار عليه حتى أشرف على بني إسرائيل فكان كلما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم فقالوا له في ذلك فقال هذا شيء غلبنا الله عليه واندلع لسانه فوق صدره فقال الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق غير المكر والحيلة وأمرهم أن يزينوا نساءهم ويعطوهن السلع للبيع ويرسلوهن إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها وقال إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا ذلك ودخل النساء عسكر بني إسرائيل فأخذ زمرى بن شلوم وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب امرأة وأتى بها موسى فقال له أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك ثم أدخلها خيمته فوقع عليها فأنزل الله عليهم الطاعون وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر عمه موسى غائبا فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني إسرائيل وأخبر الخبر وكان ذا قوة

201
وبطش فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما ورفع الطاعون وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفا وقيل سبعون ألفا فأنزل الله في بلعم (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
ثم إن موسى قدم يوشع إلى أريحاء في بني إسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين وبقيت منهم بقية وقد قاربت الشمس الغروب فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس ففعل وحبسها حتى استأصلهم ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق.
وأما من زعم أن موسى كان قد توفي قبل ذلك فقال إن الله أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين فسار ببني إسرائيل ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعوراء وكان يعرف الاسم الأعظم وساق من حديثه نحو ما تقدم فلما ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فرد الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان فلم تأت النار فقال يوشع فيكم غلول فبايعوني فبايعوه فلصقت يده في يد من غل فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلتهما.
وقيل: بل حصرها ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور فدخلوها وهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا ثم اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم

202
وهرب الملوك إلى غار فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا ثم ملك الشام جميعه فصار لبني إسرائيل وفرق عماله فيه ثم توفاه الله فاستخلف على بني إسرائيل كالب بن يوفنا وكان عمر يوشع مائة وستا وعشرين سنة وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعا وعشرين سنة.
وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي ين سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجها إلى إفريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم إفريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها فهم البرابرة وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة فهم فيهم إلى اليوم.

203
ذكر أمر قارون
وكان قارون بن يصهر بن قاهث وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث وقيل كان عم موسى والأول أصح وكان عظيم المال كثير الكنوز قيل إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلا فبغى على قومه بكثرة ماله فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قص الله تعالى في كتابه (لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) فأجابهم جواب مغتر لحلم الله عنه فقال (إنما أوتيته) يعني المال والخزائن (على علم عندي) قيل على خبر ومعرفة مني وقيل لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا فلم يرجع عن غيه ولكنه تمادى في طغيانه حتى خرج على قومه في زينته وهي أن ركب برذونا أبيض بمراكب الأرجوان المذهبة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه وبنى داره وضرب عليها الصفائح الذهب وعمل لها بابا من ذهب فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله

204
فنهاهم أهل العلم بالله.
وأمره الله تعالى بالزكاة فجاء إلى موسى من كل ألف دينار دينار وعلى هذا من كل ألف شيء شيء فلما عاد إلى بيته وجده كثيرا فجمع نفرا يثق بهم من بني إسرائيل فقال إن موسى أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تحضروا فلانة البغي فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ففعلوا ذلك فأجابتهم إليه ثم أتى موسى فقال إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم فقال من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة وأن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون وإن كنت أنت فقال نعم قال فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فقال ادعوها فإن قالت فهو كما قالت فلما جاءت قال لها موسى أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة ألا صدقت أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء قالت لا كذبوا ولكن جعلوا جعلا على أن أقذفك فسجد ودعا عليهم فأوحى الله إليه مر الأرض بما شئت تطعك فقال يا أرض خذيهم.
وقيل إن هذا الأمر بلغ موسى فدعا الله تعالى عليه فأوحى الله إليه مر الأرض بما شئت تطعك فجاء موسى إلى قارون فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له يا موسى ارحمني فقال موسى يا أرض خذيهم فاضطربت داره وسخنت بقارون وأصحابه إلى الكعبين وجعل يقول يا موسى ارحمني قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فلم يزل يستعطفه وهو يقول يا أرض خذيهم حتى خسف بهم فأوحى

205
الله إلى موسى: ما أفظك! أما وعزتي لو إياي نادى لأجبته ولا أعيد الأرض تطع أحدا أبدا بعدك فهو يخسف به كل يوم قامة فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله وعرف الذين تمنوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا.

206
ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهر
لما هلك منوجهر ملك فرس سار افراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك إلى مملكة الفرس واستولى عليها وسار إلى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهر جانقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس وعظم ظلمه وأخرب ما كان عامرا ودفن الأنهار والقنى وقحط الناس سنة خمس من ملكه إلى أن خرج عن مملكة فارس ولم يزل الناس منه في أعظم البلية إلى أن ملك زو بن طهماسب وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده فأقام في بلاد الترك عند ملك لهم يقال له (وامن) وتزوج ابنته فولدت له زو بن طهماسب وكان المنجمون قد قالوا لأبيها إن ابنته تلد ولدا يقتله فسجنها فلما تزوجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها، ثم إن منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه فاحتال في إخراج زوجته وابنه زو من محبسهما فوصلت إليه، ثم إن زو فيما ذكر قتل جده وأمن في بعض الحروب [الترك] وطرد افراسياب التركي عن مملكة فارس حتى رده إلى الترك بعد حروب جرت بينهما فكانت غلبة افراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشر سنة من لدن توفي منوجهر إلى أن أخرجه عنها زو وكان اخراجه عنها في روزابان من شهر ابان ماه فاتخذ لهم هذا اليوم عيدا وجعلوه الثالث لعيدهم النوروز والمهرجان.
وكان زو محمودا في ملكه محسنا إلى رعيته وأمر باصلاح ما كان افراسياب أفسده من مملكتهم وبعمارة الحصون وإخراج المياه التي غور طرقها حتى عادت البلاد إلى أحسن ما كانت ووضع عن الناس الخراج سبع

207
سنين فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش واستخرج بالسواد نهرا وسماه الزان وبنى عليه مدينة وهي التي تسمى العتيقة وجعل لها طسوج الزاب الأعلى وطسوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل.
وكان أول من اتخذ ألوان الطبيخ وأمر بها وبأصناف الأطعمة وأعطى جنوده ما غنم من الترك وغيرهم وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدته ثلاث سنين وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه وقيل كان شريكه في الملك والأول أصح وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنه لم يملك

208
ذكر ملك كيقباذ
ثم ملك بعد زو كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدر مياه الأنهار والعيون لشرب الأرض وسمى البلاد بأسمائها وحدها بحدودها وكور الكور وبين حيز كل كورة وأخذ العشر من غلاتها لأرزاق الجند وكان فيما ذكر كيقباذ حريصا على عمارة البلاد ومنعها من العدو كثر الكنوز وقيل أن الملوك الكيانية وأبناءهم من نسله وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة فكان مقيما بالقرب من نهر بلخ وهو جيحون لمنع تطرق شيء من بلاده وكان ملكه مائة سنة.

209
ذكر الأحداث في بني إسرائيل في عهد
زو وكيقباذ ونبوة حزقيل
لما توفي بن نون قام بأمر بني إسرائيل بعده كالب بن يوفنا ثم حزقيل بن نوري وهو الذي يقال له ابن العجوز وإنما قيل له ذلك لأن أمه سألت الله الولد وقد كبرت فوهبه الله لها وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله.
وكان سبب ذلك أن قرية يقال لها راوردارة وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها ونزلوا ناحية فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون فلما ارتفع الطاعون رجعوا فقال الذين بقوا أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا فوقع الطاعون من قابل فهرب أهلها وهم بضعة وثلاثون ألفا وقيل ثلاثة آلاف وقيل أربعة آلاف وقيل غير ذلك حتى نزلوا على ذلك المكان فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم فمر بهم حزقيل فلما رآهم جعل يتفكر في بعثهم فأوحى الله إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم قال نعم فقيل ناد فنادى يا أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فجعلت العظام تطير بعضها إلى بعض حتى صارت أجسادا من عظام ثم نادى يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها ثم نادى يا أيتها الأرواح أن الله يأمرك ان تعودي إلى أجسادك فعادت وقامت الأجساد أحياء وقالوا

210
حين أحيوا: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني إسرائيل وقيل كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال أتحب أن أحييهم قال نعم قال فإني قد جعلت حياتهم إليك فقال حزقيل أحيوا بإذن الله تعالى، فعاشوا.

211
ذكر إلياس عليه السلام
لما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم الياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هارون بن عمران نبيا وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعد موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة وكان إلياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان إلياس يقيم له أمره وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه يقال له بعل فجعل إلياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها فقال ذلك الملك الذي كان إلياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلا لأني أرى فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان فلم يضرهم ذلك شيئا يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من دنياهم وما نرى لنا عليهم من فضل.
ففارقه إلياس وهو يسترجع فعبد ذلك الملك الأوثان أيضا، وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه وله بستان إلى جانب دار الملك والملك يحسن جواره وللملك زوجة عظيمة الشر والكفر فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم
يفعل فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس فغاب مرة فوضعت امرأته على صاحب البستان من شهد عليه أن سب الملك فقتلته وأخذت بستانه فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره فقالت:

212
فات أمره فأوحى الله إلى إلياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا.
فأخبرهما إلياس بذلك فلم يرجعا الحق. فلما رأى إلياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين فهلكت الماشية والطيور والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا واستخفى إلياس خوفا من بني إسرائيل فكان يأتيه رزقه ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال لها أليسع بن أخطوب به ضر شديد فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به واتبع الياس وكان معه وصحبه وصدقه وكان الياس قد كبر فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها ولم يعص سوى بني إسرائيل فقال الياس أي رب دعني أكن أنا الذي ادعوا لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون.
فجاء إلياس إليهم وقال لهم: إنكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق فأخرجوا بأصنامكم وادعوها فإن استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرج عنكم.
قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرج عنهم فقالوا لإلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وأن يسقوا فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق فلما رأى إلياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم

213
فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فصار ملكيا إنسيا سماويا أرضيا وسلط الله على الملك وقومه عدوا فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما.
ذكر نبوة اليسوع عليه السلام
وأخذ التابوت من بني إسرائيل
فلما انقطع عن بني إسرائيل بعث الله اليسع فكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله وعظمت فيهم الأحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت إلا هزم الله العدو وكانت السكينة شبه رأس هر فإذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
ثم خلف فيها ملك يقال له إيلاف وكان الله يمنعهم ويحميهم فلما عظمت أحداثهم نزل بهم عدو فخرجوا إليه وأخرجوا التابوت فاقتتلوا فغلبهم عدوهم على التابوت وأخذه منهم وانهزموا فلما علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كمدا ودخل العدو أرضهم ونهب وسبى وعاد فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف وكانوا يتمادون أحيانا في غيبهم فيسلط الله عليهم من ينتقم منهم فإذا راجعوا التوبة كف الله عنهم شر عدوهم فكان هذا حالهم من لدن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت ورد عليهم التابوت.
وكانت مدة ما بين وفاة يوشع الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلبون إلى أن ثبت الملك فيهم ورجعت

214
النبوة إلى اشمويل أربعمائة سنة وستين سنة.
فكان أول من سلط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلهم ثماني سنين ثم أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل فقام بأمرهم أربعين سنة ثم سلط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ وقام بأمرهم ثمانين سنة.
ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيين يقال له يابين فملكهم عشرين سنة واستنقذهم منه امرأة من بني أنبيائهم يقال له دبورا ودبر الأمر رجل من قبلها يقال له بارق أربعين.
سنة ثم سلط عليهم قوم من نسل لوط فملكهم سبع سنين واستنقذهم رجل يقال له جدعون بن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب فدبر أمرهم أربعين سنة وتوفي. ودبر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين ثم دبرهم بعده فولع بن فوا ابن خال ابيمالخ ويقال ابن عمه ثلاثا وعشرين سنة ثم دبر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنين وعشرين سنة.
ثم ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين ثم دبرهم بعده يبحسون سبع سنين ثم بعده آلون عشر سنين ثم بعده لترون ويسميه بعضهم عكرون

215
ثماني سنين ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة ثم وليهم شمسون عشرين سنة ثم بقوا بعده عشرين سنة بغير مدبر ولا رئيس ثم قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن وفي أيامه غلب أهل فلسطين على تابوت في قول فلما مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبيا فدبرهم عشر سنين ثم سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكا يقاتل بهم أعداءهم.

216
ذكر حال اشمويل وطالوت
كان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء وطمع فيهم الأعداء وأخذ التابوت منهم فصاروا بعده لا يلقون ملكا إلا خائفين فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين فظفر بهم فضرب عليهم الجزية وأخذ منهم التوراة فدعوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه وكان سبط النبوة عليهم الجزية يبق منهم غير امرأة حبلى فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها فولدت غلاما سمته اشمويل ومعناه سمع الله دعائي.
وسببت هذا التسمية أنها كانت عاقرا وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الأولاد فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولدا فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها فحملت فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاما فسمته اشمويل فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة وكفله شيخ من علمائهم وتبناه.
فلما بلغ أن يبعثه الله نبيا أتاه جبريل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ فجاء إليه فقال ما تريد فكره أن يقول لم أدعك فيفزع فقال ارجع فنم فرجع فعاد جبريل لمثلها فجاء إلى الشيخ فقال له:

217
يا بني عد فإذا دعوتك فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولا فدعاهم فكذبوه ثم أطاعوه وأقام يدبر أمرهم عشر سنين وقيل أربعين سنة.
وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني إسرائيل حتى كادوا يهلكونهم فلما رأى بنو إسرائيل ذلك (قالوا ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا).
فدعا الله فأرسل إليه عصا وقرنا فيه دهن وقيل له إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا وإذا دخل عليه رجل فنش الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن به رأسه به وملكه عليهم فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت دباغا وقيل كان سقاء يسقي الماء ويبيعه فضل حماره فانطلق يطلبه فلما اجتاز بالمكان الذي فيه اشمويل دخل يسأله أن يدعوا له ليرد حماره فلما دخل فنش الدهن فقاسوه بالعصا فكان مثلها فقال لهم نبيهم (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف بن يفتح بن أيش بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق. فقالوا له ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه.

218
فقال اشمويل: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) فقالوا إن كنت صادقا فأت بآية فقال (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة) والسكينة هو رأس هر وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء وقيل غير ذلك وفيه الألواح وهي من در وياقوت وزبرجد وأما البقية فهي عصا موسى ورضاضة الألواح فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت بين السماء والأرض والناس ينظرون فأخرجه طالوت إليهم فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين وهم ثمانون ألفا. فلما خرج قال لهم طالوت (إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني) وهو نهر
فلسطين وقيل الأردن فشربوا منه إلا قليلا وهم أربعة آلاف فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روى (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) لقيهم جالوت وكان ذا بأس شديد فلما رأوه رجع أكثرهم (وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر فلما رجع من رجع قالوا (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين).
وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابنا وكان داود أصغر بنيه وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام وكان قد قال لأبيه ذات

219
يوم: يا أبتاه ما أرمي بقذافي شيئا إلا صرعته ثم قال له لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبت عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه ثم أتاه يوما آخر فقال إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبح معي قال له أبشر فإن هذا خيرا أعطاكه الله.
فأرسل الله إلى النبي الذي مع طالوت قرنا فيه دهن وتنور من حديد فبعث به إلى طالوت وقال له إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الدهن على رأسه كهيئة الإكليل ويدخل في هذا التنور فيملؤه فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم فلم يوافقه منهم أحد فأحضر داود من رعيه فمر في طريقه بثلاثة أحجار فكلمته وقلن خذنا يا داود تقتل بنا جالوت فأخذهن فجعلهن في مخلاته وكان طالوت قد قال من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي.
فلما جاء داود وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه ولبس التنور فملأه وكان داود مسقاما أزرق مصفارا فلما دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه وفرح اشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدموا إلى جالوت وتصافوا للقتال وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت فوقع الحجر بين عينيه فثقب رأسه فقتله ولم يزل الحجر يقتل كل من أصابه ينفذ منه إلى غيره فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس

220
إلى داود وأحبوه.
فحسده طالوت وأراد قتله غيلة فعلم ذلك داود ففارقه وجعل في مضجعه زق خمر وسجاه ودخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة خرقه فوقعت قطرة من الخمر في فيه فقال يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئا فخاف داود أن يغتاله فشدد حجابه وحراسه.
ثم أن داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال يرحم الله داود وهو خير مني ظفرت به وأردت قتله وظفر بي فكف عني وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به.
وركب طالوت يوما فرأى داود فركض في أثره فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل فعمى الله أثره على طالوت. ثم إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها فرحمها وتركها وأخفى أمرها.
ثم إن طالوت ندم وأراد التوبة وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس فكان كل ليلة يخرج إلى القبور فيبكي ويقول أنشد الله عبدا علم لي توبة إلا أخبرني بها فلما أكثر ناداه مناد من القبور يا طالوت أما رضيت قتلتنا أحياء حتى لا تؤذينا أمواتا فازداد بكاء وحزنا فرحمه الرجل الذي أمره بقتل تلك المرأة فقال له إن دللتك على عالم لعلك تقتله قال لا فأخذ عليه العهود والمواثيق ثم أخبره بتلك المرأة فقال سلها هل لي من توبة فحضر عندها وسألها هل له من توبة فقالت ما أعلم له من توبة ولكن

221
هل تعلمون قبر نبي؟ قالوا نعم قبر يوشع بن نون فانطلقت وهم معها فدعت فخرج يوشع فلما رآهم قال ما لكم؟ قالوا جئنا نسألك هل لطالوت من توبة؟ قال ما أعلم له توبة إلا أن يتخلى من ملكه ويخرج هو وولده فيقاتلون في سبيل الله حتى تقتل أولاده ثم يقاتل هو حتى يقتل فعسى أن يكون له توبة ثم سقط ميتا ورجع طالوت أحزن مما كان يخاف أن لا يتابعه ولده فبكى حتى سقطت أشفار عينيه ونحل جسمه فسألوه بنوه عن حاله فأخبرهم فتجهزوا للغزو فقاتلوا بين يديه حتى قتلوا ثم قاتل هو بعدهم حتى قتل.
وقيل إن النبي الذي بعث لطالوت حتى أخبره بتوبته اليسع وقيل اشمويل والله أعلم.
وكانت مدة ملك طالوت إلى أن قتل أربعين سنة.

222
ذكر ملك داود
هو داود بن إيشى بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمي نوذب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق وكان قصيرا أزرق قليل الشعر فلما قتل طالوت أتى بنو إسرائيل داود فأعطوه خزائن طالوت وملكوه عليهم وقيل إن داود ملك قبل أن يقتل جالوت وسبب ملكه حينئذ أن الله أوصى إلى اشمويل ليأمر طالوت بغزو مدين وقتل من بها فسار إليها وقتل من بها إلا ملكهم فإنه أخذه أسيرا فأوحى الله إلى اشمويل قل لطالوت آمرك بأمر فتركته لأنزعن الملك منك ومن بنيك ثم لا يعود فيكم إلى يوم القيامة. وأمر اشمويل بتمليك داود فملكه وسار إلى جالوت فقتله والله أعلم.
فلما ملك بني إسرائيل جعله الله نبيا وملكا وأنزل عليه الزبور وعلمه صنعة الدروع وهو أول من عملها وألان له الحديد وأمر الجبال والطير يسبحون معه إذا سبح ولم يعط الله أحدا مثل صوته وكان شديد الاجتهاد كثير العبادة والبكاء وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر وكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف وكان يأكل من كسب يده.
وفي ملكه مسخ أهل أيلة قردة وسبب ذلك أنهم كانوا تأتيهم يوم السبت

223
حيتان البحر كثيرا فإذا كان غير يوم السبت لا يجيء إليهم منها شيء فعملوا على جانب البحر حياضا كبيرة وأجروا فيها الماء فإذا كان آخر نهار يوم الجمعة يتحول الماء إلى الحياض فتدخلها الحيتان ولا تقدر على الخروج عنها فيأخذونها يوم الأحد فنهاهم بعض أهلها فلم ينتهوا فمسخهم الله قردة وبقوا ثلاثة أيام وهلكوا.
ذكر فتنته بزوجة أوريا
ثم إن الله ابتلاه بزوجة أوريا.
وكان سبب ذلك أنه قد قسم زمانه ثلاثة أيام يوما يقضي فيه بين الناس ويوما يخلو فيه للعبادة ويوما يخلو فيه مع نسائه وكان له تسع وتسعون امرأة وكان يحسد فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال أي رب أرى الخير قد ذهب آبائي به فأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه إن آباءك ابتلوا ببلاء فصبروا ابتلى إبراهيم بذبح ابنه وابتلى إسحاق بذهاب بصره وابتلى يعقوب بحزنه على يوسف. فقال رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم فأوحى الله إليه إنك مبتل فاحترس.
وقيل: كان سبب البلية أنه حدث نفسه أنه يطيق أن يقطع يوما

224
بغير مقارفة سوء، فلما كان اليوم الذي يخلو فيه للعبادة عزم على أن يقطع ذلك اليوم بغير سوء وأغلق بابه وأقبل على العبادة فإذا هو بحمامة من ذهب فيها كل لون حسن قد وقعت بين يديه فأهوى ليأخذها فطارت غير بعيد من غير أن ييأس من أخذها فما زال يتبعها وهي تفر منه حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فاستترت به فزاده ذلك رغبة فسأل عنها فأخبر أن زوجها بثغر كذا فبعث إلى صاحب الثغر بأن يقدم أوريا بين يدي التابوت في الحرب وكان كل من يتقدم بين يدي التابوت لا ينهزم إما أن يظفر أو يقتل ففعل ذلك به فقتل.
وقيل: إن داود لما نظر إلى المرأة فأعجبته سأل عن زوجها فقيل انه في جيش كذا فكتب إلى صاحب الجيش أن يبعث في سرية إلى عدو كذا ففعل ذلك ففتح الله عليه فكتب إلى داود فأمر أن يرسل أيضا إلى عدو كذا أشد منه ففعل فظفر فأمر داود أن يرسل إلى عدو ثالث ففعل فقتل أوريا في المرة الثالثة فلما قتل تزوج داود امرأته وهي أم سليمان في قول قتادة.
وقيل إن خطيئة داود كانت أنه لما بلغه حسن امرأة أوريا فتمنى أن تكون له حلالا فاتفق أن أوريا سار إلى الجهاد فقتل فلم يجد له من الهم ما وجد لغيره فبينما داود في المحراب يوم عبادته وقد أغلق الباب إذ دخل عليه ملكان أرسلهما الله إليه من غير الباب فراعه ذلك فقالا لا تخف نحن (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا

225
أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب) أي قهرني وأخذ نعجتي فقال للآخر ما تقول؟ قال صدق، إني أردت أن أكمل نعاجي مائة فأخذت نعجته فقال داود إذا لا ندعك وذاك فقال الملك ما أنت بقادر عليه قال داود فإن لم ترد عليه ماله ضربنا منك هذا وهذا وأومأ إلى أنفه وجبهته قال يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة فلم تزل به حتى قتل وتزوجت امرأته ثم غابا عنه.
فعرف ما ابتلى به وما وقع فيه فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة لا بد منها وأدام البكاء حتى تبت من دموعه عشب غطى رأسه ثم نادى يا رب قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه في خطيئته بشيء فنودي أجائع فتطعم أم مريض فتشفى أم مظلوم فتنصر قال فنحب نحب هاج ما كان نبت فعند ذلك قبل الله توبته وأوحى إليه ارفع رأسك فقد غفرت لك قال يا رب كيف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذ رأسه بيمينه تشخب أوداجه دما قبل عرشك يقول يا رب سل هذا فيما قتلني. فأوحى الله إليه إذا كان ذلك دعوته وأستوهبك منه فيهبك لي فأهبه بذلك الجنة قال يا رب الآن علمت أنك قد غفرت لي.

226
قال فما استطاع داود بعدها أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض. ونقش خطيئته في يد فكان إذا رآها اضطربت يده وكان يؤتى بالشراب في الإناء ليشربه فكان يشرب نصفه أو ثلثيه فيذكر خطيئته فينتحب حتى تكاد مفاصله يزول بعضها من بعض ثم يملأ الإناء من دموعه وكان يقال إن دمعة داود تعدل دموع الخلائق وهو يجيء يوم القيامة وخطيئته مكتوبة بكفه فيقول يا رب ذنبي ذنبي قدمني فيقدم فلا يأمن فيقول يا رب أخرني فلا يأمن.
وأزالت الخطيئة طاعة داود عن بني إسرائيل واستخفوا بأمره ووثب عليه ابن يقال له إيشى وأمه ابنة طالوت فدعا إلى نفسه فكثر أتباعه من أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما تاب الله على داود اجتمع إليه طائفة من الناس فحارب ابنه حتى هزمه ووجه إليه بعض قواده وأمره بالرفق به والتلطف لعله يأسره ولا يقتله وطلبه القائد وهو منهزم فاضطره إلى شجرة فقتله فحزن داود حزنا شديدا وتنكر لذلك القائد.
ذكر بناء بيت المقدس ووفاة داود عليه السلام
قيل أصاب الناس في زمان داود طاعون جارف فخرج بهم إلى موضع بيت المقدس وكان يرى الملائكة تعرج منه إلى السماء فلهذا قصده ليدعو فيه فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون فاستجاب له ورفع الطاعون فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا وكان الشروع في بنائه لإحدى عشرة سنة مضت من ملكه وتوفي قبل أن يستتم بناءه وأوصى إلى سليمان باتمامه وقتل القائد الذي قتل أخاه إيشى بن داود.

227
فلما توفي داود ودفنه سليمان تقدم بانفاذ أمره فقتل القائد واستتم بناءه المسجد بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر وقوي على ذلك جميعه بالجن والشياطين فلما فرغ اتخذ ذلك اليوم عيدا عظيما وقرب قربانا فتقبله الله منه وكان ابتداؤه أولا ببناء المدينة فلما فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد وقد أكثر الناس في صفة البناء مما يستبعد ولا حاجة إلى ذكره.
وقيل إن سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد وكان داود أراد أن يبنيه فأوحى الله إليه أن هذا بيت مقدس وإنك قد صبغت يدك في الدماء فلست ببانيه ولكن ابنك سليمان يبنيه لسلامته من الدماء فلما ملك سليمان بناه.
ثم إن داود توفي وكان له جارية تغلق الأبواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم إلى عبادته فأغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلا فقالت من أدخلك الدار فقال أنا الذي أدخل على الملوك بغير إذن فسمع داود قوله فقال أنت ملك الموت قال نعم قال فهلا أرسلت إلى لأستعد للموت قال قد أرسلت إليك كثيرا قال من كان رسولك قال أين أبوك وأخوك وجارك ومعارفك قال ماتوا قال فهم كانوا رسلي إليك لأنك تموت كما ماتوا ثم قبضه.
فلما مات ورثه سليمان ملكه وعلمه ونبوته وكان له تسعة عشر ولدا فورثه سليمان دونهم.
وكان عمر داود لما توفي مائة سنة صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مدة ملكه أربعين سنة.

228
ذكر ملك سليمان بن داود عليه السلام
لما توفي داود ملك بعده ابنه سليمان على بني إسرائيل وكان ابن ثلاثة عشرة سنة وآتاه مع الملك النبوة وسأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فاستجاب له وسخر له الأنس والجن والشياطين والطير والريح فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الأنس والجن حتى يجلس.
وقيل إنما سخر له الريح والجن والشياطين والطير وغير ذلك بعد أن زال ملكه وأعاده الله سبحانه إليه على ما نذكره.
وكان أبيض جسيما كثير الشعر يلبس البياض وكان أبوه يستشيره في حياته ويرجع إلى قوله فمن ذلك ما قصه الله في كتابه في قوله (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الآية وكان خبره أن غنما دخلت كرما فأكلت عناقيده وأفسدته فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان أو غير ذلك أن يسلم الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها إلى أن يعود كرمه إلى حاله ثم يأخذ كرمه ويدفع الغنم إلى صاحبها فامضى داود

229
قوله، وقال الله تعالى: (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما).
قال بعض العلماء في هذا دليل على أن كل مجتهد في الأحكام الفرعية مصيب فإن أخطأ داود أخطأ الحكم الصحيح عند الله تعالى وأصابه سليمان فقال له الله تعالى (وكلا آتينا حكما وعلما).
وكان سليمان يأكل من كسب يده وكان كثير الغزو وكان إذا أراد الغزو أمر بعمل بساط من خشب يسع عسكره ويركبون عليه هم ودوابهم وما يحتاجون إليه ثم أمر الريح فحملته فسار في غدوه مسيرة شهر وفي روحته كذلك.
وكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة سرية وأعطاه الله أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا حملته الريح إليه فيعلم ما يقول.
ذكر ما جرى له مع بلقيس
نذكر أولا ما قيل في نسبها وملكها ثم ما جرى له معها فنقول قد اختلف العلماء في اسم آبائها فقيل إنها هي بلقمة ابنة ليشرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وقيل هي بلقمة ابنة هادد واسمه ليشرح بن تبع ذي الأذعار ذي المنار بن تبع الرائش،

230
وقيل في نسبها غير ذلك ولا حاجة إلى ذكره.
وقد اختلف الناس في التبابعة وتقديم بعضهم على بعض والزيادة في عددهم والنقصان اختلافا لا يحصل الناظر فيه على طائل وكذا أيضا اختلفوا في نسبها اختلافا كثيرا، وقال كثير من الرواة إن أمها جنية ابنة ملك الجن واسمها رواحة بنت السكر وقيل اسم أمها بلقمة بنت عمرو بن عمير الجني وإنما نكح أبوها إلى الجن لأنه قال ليس لي كفوة فخطب إلى الجن فزوجوه.
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم فقيل إنه كان لهجا بالصيد فربما اصطاد الجن على صورة الظباء فيخلي عنهن فظهر له ملك الجن وشكره واتخذه صديقا فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن وقيل إن أباها خرج يوما متصيدا فرأى حيتين تقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فأمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها ماء فأفاقت فأطلقها وعاد إلى داره وجلس منفردا فإذا معه شاب جميل فذعر منه فقال له لا تخف أنا الحية التي أنجيتني والأسود الذي قتلته غلام لنا تمرد علينا وقتل عدة من أهل بيتي وعرض عليه المال وعلم الطب فقال أما المال فلا حاجة لي به وأما الطب فهو قبيح بالملك ولكن إن كان لك بنت فزوجنيها فزوجه على شرط أن لا يغير عليها شيئا تعمله ومتى غير

231
فارقته، فأجابه إلى ذلك فحملت منه فولدت له غلاما فألقته في النار فجزع لذلك وسكت للشرط ثم حملت منه فولدت جارية فألقتها إلى كلبة فأخذتها فعظم ذلك عليه وصبر للشرط ثم إنه عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار إليه ليقاتله وهي معه فانتهى إلى مفازة فلما توسطها رأى جميع ما معهم من الزاد يخلط بالتراب وإذا الماء يصب من القرب والمزاود فأيقنوا بالهلاك وعلموا أنه من فعال الجن عن أمر زوجته فضاق ذرعا عن حمل ذلك فأتاها وجلس وأومأ إلى الأرض وقال يا أرض صبرت لك على إحراق ابني وإطعام الكلبة ابنتي ثم
أنت الآن قد فجعتنا بالزاد والماء وقد أشرفنا على الهلاك.
فقالت المرأة لو صبرت لكان خيرا لك وسأخبرك إن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الأزواد والمياه ليقتلك وأصحابك فمر وزيرك ليشرب ما بقي من الماء ويأكل من الزاد فأمره فامتنع فقتله ودلتهم على الماء والميرة من قريب وقالت أما ابنك فدفعته إلى حاضنة تربيه وقد مات وأما ابنتك فهي باقية وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس وفارقته امرأته وسار إلى عدوه فظفر به.
وقيل في سبب نكاحه إليهم غير ذلك. والجميع حديث خرافة لا أصل له ولا حقيقة.
وأما ملكها من اليمن فقيل إن أباها فوض إليها الملك فملكت بعده وقيل بل مات عن غير وصية بالملك لأحد فأقام الناس ابن أخ له وكان

232
فاحشا خبيثا فاسقا لا يبلغه عن بنت قيل ولا ملك ذات جمال إلا أحضرها وفضحها حتى انتهى إلى بلقيس بنت عمه فأراد ذلك منها فوعدته أن يحضر عندها إلى قصرها وأعدت له رجلين من أقاربها وأمرتهما بقتله إذا دخل عليها وانفرد بها فلما دخل إليها وثبا عليه فقتلاه فلما قتل أحضرت وزراءه فقرعتهم فقالت أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا وقالت اختاروا رجلا تملكونه فقالوا لا نرضى بغيرك فملكوها.
وقيل إن أباها لم يكن ملكا وإنما كان وزير الملك وكان الملك خبيثا قبيح السيرة يأخذ بنات الأقيال والأعيان والأشراف وأنها قتلته فملكها الناس عليهم.
وكذلك أيضا عظموا ملكها وكثرة جندها فقيل كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك منهم على كورة مع كل ملك منهم أربعة آلاف مقاتل وكان لها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها وكان لها اثنا عشر قائدا يقود كل قائد منهم اثني عشر ألف مقاتل.
وبالغ آخرون مبالغة تدل على سخف عقولهم وجهلهم قالوا كان لها اثنا عشر ألق قيل تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل مع كل مقاتل سبعون ألف جيش في كل جيش سبعون ألف مبارز ليس فيهم إلا أبناء خمس وعشرين سنة. وما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله ولو عرف مبلغ العدد لأقصر عن

233
إقدامه على هذا القول السخيف فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد فكيف أن يكونوا أبناء خمس وعشرين سنة فياليت شعري كم يكون غيرهم ممن ليس من أسنانهم وكم تكون الرعية وأراب الحرف والفلاحة وغير ذلك وإنما الجند بعض أهل البلاد وإن كان الحاصل من اليمن قد قل في زماننا فإن رقعة أرضه لم تصغر وهي لا تسع هذا العدد قياما كل واحد إلى جانب الآخر.
ثم إنهم قالوا أنفقت على كوة بيتها التي تدخل الشمس منها فتسجد لها ثلاثمائة ألف أوقية من الذهب وقالوا غير ذلك وذكروا من أمر عرشها ما يناسب كثرة جيشها فلا نطول بذكره. وقد تواطؤا على الكذب والتلاعب بعقول الجهال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم وإنما ذكرنا هذا على قبحه ليقف من كان يصدق به عليه فينتهي إلى الحق.
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها فإنه طلب الهدهد فلم يره وإنما طلبه لأن الهدهد يرى الماء من تحت الأرض فيعلم هل في تلك الأرض ماء أم لا وهل هو قريب أم بعيد فبينما سليمان في بعض مغازيه إذ احتاج إلى الماء فلم يعلم أحد ممن معه بعده فطلب الهدهد ليسأله عن ذلك فلم يره. وقيل بل الشمس إلى سليمان فنظر ليرى من أين نزلت لان الطير كانت تظله فرأى موضع الهدهد فارغا فقال (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين).

234
وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستانا لها خلف قصرها فمال إلى الخضرة فرأى فيه هدهدا فقال له أين أنت عن سليمان وما تصنع ههنا فقال له ومن سليمان فذكر له حاله وما سخر له من الطير وغيره فعجب من ذلك فقال له هدهد سليمان وأعجب من ذلك أن كثرة هؤلاء القوم تملكهم امرأة (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) وجعلوا الشكر لله أن سجدوا للشمس من دونه وكان عرشها سريرا من ذهب مكلل بالجواهر النفيسة من اليواقيت والزبرجد واللؤلؤ.
ثم إن الهدهد عاد إلى سليمان فأخبره بعذره في تأخيره فقال له اذهب بكتابي هذا فألقه إليها فوافاها وهي في قصرها فألقاه في حجرها فأخذته وقرأته وأحضرت قومها وقالت (إني ألقي إلى كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون).
(قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) قالت (إني مرسلة إليهم بهدية) فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى وإن لم يقبلها فهو نبي من الله.

235
فلما جاءت الهدية إلى سليمان قال للرسل (أتمدونني بمال فما أتاني الله خير مما آتاكم) إلى قوله (وهم صاغرون) فلما رجع الرسل إليها سارت إليه وأخذت معها الأقيال من قومها وهم القواد وقدمت عليه فلما قاربته وصارت منه على نحو فرسخ قال لأصحابه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) يعني قبل أن تقوم في الوقت الذي تقصد فيه بيتك للغذاء قال سليمان أريد أسرع من ذلك (فقال الذي عنده علم من الكتاب) وهو آصف بن برخيا وكان يعرف اسم الله الأعظم (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) وقال له انظر إلى السماء وأدم النظر فلا ترد طرفك حتى أحضره عندك وسجد ودعا فرأى سليمان العرش قد نبع من تحت سريره فقال (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر) إذ أتاني به قبل أن يرتد إلي طرفي (أم أكفر) إذ جعل تحت يدي من هو أقدر مني على إحضاره.
فلما جاءت قيل (أهكذا عرشك قالت كأنه هو) ولقد تركته في حصون وعند جنود تحفظه فكيف جاء إلى ههنا.

236
فقال سليمان للشياطين: ابنوا لي صرحا تدخل علي فيه بلقيس فقال بعضهم إن سليمان قد سخر له ما سخر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد غلاما فلا ننفك من العبودية أبدا وكانت امرأة شعراء الساقين فقال الشياطين ابنوا لي بنيانا يرى ذلك منها فلا يتزوجها فبنوا له صرحا من قوارير خضر وجعلوا له طوابق من قوارير بيض فبقي كأنه الماء وجعلوا تحت الطوابق صور دواب البحر من السمك وغيره وقعد سليمان على كرسي ثم أمر فأدخلت بلقيس عليه فلما أرادت أن تدخله ورأت صور السمك ودواب الماء حسبته لجة ماء فكشف عن ساقيها لتدخل فلما رآها سليمان صرف نظره عنها (وقال إنه صرح ممرد من قوارير) فقالت (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين).
فاستشار سليمان في شيء يزيل الشعر ولا يضر الجسد فعلم له الشياطين النورة فهي أول ما عملت النورة ونكحها سليمان وأحبها حبا شديدا وردها إلى ملكها باليمن فكان يزورها كل شهر مرة يقيم عندها ثلاثة أيام.
وقيل: إنه أمرها أن تنكح رجلا من قومها فامتنعت وأنفت من ذلك فقال لا يكون في الإسلام إلا ذلك فقالت إن كان ولا بد من ذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجه إياها ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا

237
تبع على الملك وأمر الجن من أهل اليمن بطاعته فاستعملهم ذو تبع فعملوا له عدة حصون باليمن منها سلحين ومراوح وفليون وهنيدة وغيرها فلما مات سليمان لم يطيعوا ذا تبع وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان.
وقيل بل بقيا وقيل إن بلقيس ماتت قبل سليمان بالشام وأنه دفنها بتدمر وأخفى قبرها.
ذكر غزوته أبا زوجته جرادة ونكاحها وعبادة الصنم
في داره وأخذ خاتمه وعوده إليه
قيل سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشده ملكه وعظم شأنه وأنه لم يكن للناس إليه سبيل فخرج سليمان إلى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها وغنم بنتا للملك لم ير الناس مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام فأسلمت على قلة رغبة فيه وأحبها حبا شديدا وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي فقال لها ويحك ما هذا الحزن والدمع الذي لا يرقأ. قالت: إني أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك قال فقد أبدلك الله ملكا خيرا من ملكه

238
وهداك إلى الإسلام فقالت إنه كذلك لكني إذا ذكرته أصابني ما ترى فلو أمرت الشياطين فصوروا صورته في
داري أراها بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني.
فأمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا ينكر منها شيئا وألبستها ثيابا مثل ثياب أبيا وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في جواريها فتسجد له ويسجدن معها وتروح عشية ويرحن فتفعل مثل ذلك ولا يعلم سليمان بشيء من أمرها أربعين صباحا.
وبلغ الخبر آصف بن برخيا وكان صديقا وكان لا يرد من منازل سليمان أي وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضرا أو غائبا فأتاه فقال يا نبي الله قد كبر سني ودق عظمي وقد حان مني ذهاب بصري وقد أحببت أن أقوم مقاما أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم وأعلم الناس بعض ما يجهلون قال افعل. فجمع له سليمان الناس فقام آصف خطيبا فيهم فذكر من مضى من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى إلى سليمان فقال ما كان أحلمك في صغرك وأبعدك عن كل ما يكره في صغرك ثم انصرف.
فملئ سليمان غضبا فأرسل إليه وقال له يا آصف لما ذكرتني جعلت تثني علي في صغري وسكت عما سوى ذلك فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ قال إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوما في هوى امرأة قال (إنا لله وإنا إليه راجعون) لقد علمت أنك ما قلت إلا عن

239
شيء بلغك، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها. ثم أمر بثياب الطهارة فأتي بها وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن لم تمسها امرأة ذات دم فلبسها وخرج إلى الصحراء وفرش الرماد ثم أقبل تائبا إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذللا لله تعالى وتضرعا وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد إلى داره.
وكانت أم ولد له لا يثق إلا بها يسلم خاتمه إليها وكان لا ينازعه إلا عند دخول الخلاء وأراد يصيب امرأة يسلمه إليها حتى يتطهر وكان ملكه في خاتمه فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها فأتاها شيطان اسمه صخر الجني في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان وهو في صورة سليمان فجلس عليه وعكفت عليه الأنس والجن والطير وخرج سليمان وقد تغيرت حاله وهيئته فقال خاتمي فقالت ومن أنت قال أنا سليمان قالت كذبت لست بسليمان قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني إسرائيل أنا سليمان فيحثون عليه التراب.
فلما رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى فبقي كذلك أربعين يوما.
ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم الشيطان المتشبه بسليمان فقال آصف يا بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت قالوا نعم قال أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهن هل أنكرن ما أنكرنا منه. فدخل عليهن وسألهن فذكرن أشد مما عنده فقال (إنا لله وإنا إليه راجعون)، (إن هذا لهو البلاء المبين).

240
ثم خرج إلى بني إسرائيل فأخبرهم، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمر بالبحر فألقى الخاتم فيه فبلعته سمكة واصطادها صياد وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين تلك السمكة إحداهما فأخذها فشقها ليصلحها ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها فأخذه وجعله في أصبعه وخر لله ساجدا وعكفت عليه الأنس والجن والطير وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم فأحضروه فنقب له صخرة وجعله فيها وسد النقب بالحديد والرصاص وألقاه في البحر.
وكان مقامه في الملك أربعين يوما بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان.
وقيل كان السبب في ذهاب ملكه أن امرأة له كانت أبر نسائه عنده تسمى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها فقالت له إن أخي بينه وبين فلان حكومة وأنا أحب أن تقضي له فقال أفعل ولم يفعل فابتلي وأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فأخذه وخرج سليمان بعد فطلب الخاتم فقالت له ألم تأخذه قال لا وخرج من مكانه تائها وبقي الشيطان أربعين يوما يحكم بين الناس ففطنوا له وأحقدوا به ونشروا التوراة قرأوها فطار من بين أيديهم وألقى الخاتم في البحر فابتلعه حوت ثم إن سليمان قصد صيادا وهو جائع فاستطعمه وقال أنا سليمان فكذبه وضربه فشجه فجعل يغسل الدم فلام الصيادون صاحبهم وأعطوه سمكتين إحداهما التي ابتلعت الخاتم فشق بطنها وأخذ الخاتم فرد الله إليه ملكه فاعتذروا إليه فقال لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم وسخر الله له الجن والشياطين والريح ولم يكن سخرها له قبل ذلك وهو أشبه بظاهر القرآن وهو قوله تعالى (قال رب اغفر لي وهب

241
لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص مقرنين في الأصفاد).
وقيل في سبب زوال ملكه غير ذلك والله أعلم.
ذكر وفاة سليمان
لما رد الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعا والجن تعمل له (ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) وغير ذلك ويعذب من الشياطين من شاء ويطلب من شاء حتى إذا دنا أجله وكان عادته إذا صلى كل يوم رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول ما اسمك فتقول كذا فيقول لأي شيء أنت فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو قد صلى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها ما اسمك فقالت الخرنوبة فقال لها لأي شيء أنت قالت لخراب هذا البيت يعني بيت المقدس فقال سليمان ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت وقلعها،

242
ثم قال: الله أعم الجن عن موتي حتى يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب.
وكان سليمان يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر يدخل طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها فبينما هو قائم يصلي متوكئا على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن وهم في ذلك يعملون خوفا منه فأكلت الأرض عصاه فانكسرت فسقط فعلموا أنه قد مات وعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا الغيب (ما لبثوا في العذاب المهين) ومقاساة الأعمال الشاقة.
ولما سقط أراد بنو إسرائيل أن يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا يوما وليلة فأكلت منها فحسبوا بنسبة فكان أكل تلك العصا في سنة. ثم إن الشياطين قالوا للأرضة لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب ولكنا سننقل لك الماء والطين فهم ينقلون إليها حيث كانت ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة فهو ما ينقلونه لها.
قيل إن الجن والشياطين شكوا ما يلحقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم وقيل كان إبليس فقال لهم ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال قالوا بلى قال فلكم في كل ذلك راحة فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان فأمر الموكلين به أنهم إذا جاؤوا بالأحمال والآلات التي يبني بها إلى موضع البناء والعمل يحملهم من هناك في عودتهم

243
ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشق عليهم وأسرع في العمل فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم فقال لهم انتظروا الفرج فإن الأمور إذا تناهت تغيرت فلم تطل مدة سليمان بعد ذلك حتى مات وكان مدة عمره ثلاثة وخمسين سنة وملكه أربعين سنة.

244
ذكر من ملك الفرس بعد كيقباذ
لما توفي كيقباذ ملك ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له، وكان يسكن بنواحي بلخ وولد له ولد سماه سياوخش وضمه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب وكان أصبهبذ سجستان وما يليها وجعله عنده ليربيه فأحسن تربيته وعلمه العلوم والفروسية والآداب وما يحتاج الملوك إليه فلما كمل ما أراد حمله إلى أبيه فلما رآه سربه صورة ومعنى وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة افراسياب ملك الترك وقيل إنها ابنة ملك اليمن فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها فامتنع فسعت به إلى أبيه حتى أفسدته عليه فسأل سياوخش رستم الشديد أن يخاطب أباه لينفذ إلى محاربه افراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقر بينهما وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته ففعل ذلك رستم فسيره أبوه وضم إليه جيشا كثيفا فسار إلى بلاد الترك للقاء افراسياب فلما سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين افراسياب من الصلح فكتب إليه والده يأمره بمناهضة افراسياب
ومحاربته وفسخ الصلح فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه فلم ينفذ ما أمره به ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبح فعله فراسل افراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه فأجابه افراسياب إلى ذلك وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان،

245
ودخل سياوخش إلى بلاد الترك فأكرمه افراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوجه بنتا له يقال لها وسفافريد وهي أم كيخسرو فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه وزاد الفساد بينهما بسعي ابني افراسياب وأخيه كيدر حسدا منهم لسياوخش فأمرهم افراسياب بقتله فقتلوه ومثلوا به وكانت زوجته ابنة افراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو فطلبوا الحيلة في اسقاط ما في بطنها فلم يسقط فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش على يده قتله وحذر عاقبته والأخذ بثأره من والده كيكاووس ومن رستم وأخذ زوجة سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله فلما وضعت رق قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ فسير كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه.
وحين بلغ خبر قتله إلى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزنا وهو أول من لبسه ودخل على كيكاووس فقال له ما هذا قال إن هذا اليوم يوم ظلام وسواد.
ثم إن كيكاووس لما علم بقتل ابنه سير الجيوش مع رستم الشديد وطوس اصبهبذ أصبهان لمحاربة افراسياب فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها وجرى لهما مع افراسياب حروب شديدة قتل فيها ابنا افراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش.
وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرة له وانها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سورا من صفر وسورا من شبه

246
وسورا من فضة وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وإن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث فيها ثم إن الله أرسل إلى المدينة من يخربها فعجزت الشياطين عن المنع عنها فقتل كيكاووس جماعة من رؤسائهم.
وقال بعض العلماء بأخبار المتقدمين: إنما سخر له فعل بأمر سليمان بن داود وكان مظفرا لا يناوئه أحد من الملوك إلا ظهر عليه فلم يزل كذلك حتى حدثته نفسه بالصعود إلى السماء فسار من خرسان إلى بابل وأعطاه الله تعالى قوة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب ثم سلبهم الله تلك القوة فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ.
وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة.
ثم إن كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزق ملكه وكثرت الخوارج عليه فصاروا يغزونه فيظفر مرة ويظفرون أخرى ثم غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار وكان قد أصابه الفالج فلم يكن يغزوا فلما وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه فسار رستم من سجستان إلى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثم خاف البوار فاصطلحا على أخذ كيكاووس والعودة إلى بلاد الفرس فأخذه وأعاده إلى ملكه فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان وهي أعمال غزنة وأزال عنه اسم العبودية ثم توفي كيكاووس وكان ملكه مائة وخمسين سنة.

247
ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس
لما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس وأمه وسفافريد ابنة افراسياب ملك الترك فلما ملك كتب إلى الأصبهبذين جميعهم أن يأتوا بعساكرهم جميعا فلما اجتمعوا جهز ثلاثين ألفا مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك وأن لا يمر بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عم له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وارساله مقيدا والقيام بأمر الجيش ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو افراسياب فسير افراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالا شديدا كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس إلى رؤوس الجبال وعادوا إلى كيخسرو فوبخ عمه ولامه واهتم بغزو الترك فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلف أحد فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان وهو العلم الأكبر الذي لهم وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لأمر عظيم وسير عسكرا آخر من ناحية الصين وسير عسكرا آخر مما يلي الخزر وعسكرا آخر بين هذين العسكرين فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها لا سيما جودرز فإنه قتل وأخرب وسبى وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه،

248
فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من أهل افراسياب وأثخن فيهم ورآه قد قتل خمسمائة ألف وستين ألفا وأسر ثلاثين ألفا وغنم ما لا يحد ولا يحصى وعرض عليه من قتل من أهل افراسياب وطراخنته فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه إلى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكرا بعد عسكر فكتب إليهم أن يجدوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سماه لهم.
فلما بلغ افراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده إلا ولده شيده فوجهه في جيش نحو كيخسرو فسار إليه واقتتلوا قتالا شديدا أربعة أيام ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون وأدركوا ابن افراسياب فقتلوه وسمع افراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله واشتد الأمر فانهزم افراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف وجد كيخسرو في طلب افراسياب ولم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر وظفر به وأتى به إلى كيخسرو فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه فلم يكن له حجة ولا عذر فأمر بقتله فذبح كما ذبح سياوخش ثم انصرف من أذربيجان مظفرا منصورا فرحا.
فلما قتل افراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف فلما توفي

249
ملك بعده ابنه جرزاسف وكان جبارا عاتيا.
فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقر في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسك واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل فقالوا له فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك فعهد إلى لهراسب وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم فلا يدري ما كان ولا أين مات وبعض يقول غير ذلك وكان ملكه ستين سنة وملك بعده لهراسب

250
ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمان
قيل ثم ملك بعد سليمان على بني إسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان وكان ملكه سبع عشرة سنة.
ثم افترقت ممالك بني إسرائيل بعد رحبعم فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط وذلك أن سائر الأسباط ملكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قربته في داره للصنم فتوعده الله تعالى أن ينزع بعض الملك عن ولده فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين ثم ملك آسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة وكان رجلا صالحا وكان أعرج.
ذكر محاربة آسا بن أبيا ورزح الهندي
قيل كان أسا بن أبيا رجلا صالحا وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس إلى عبادتها فلما ملك ابنه أسا أمر مناديا فنادى ألا إن الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله فليس كافر في بني إسرائيل يطلع رأسه

251
بكفر إلا قتلته فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك.
فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك وكانت تعبد الأصنام فشكوا إليها فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره فلم يصغ إلى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها فحينئذ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند وكان بالهند ملك يقال له (رزح) وكان جبارا عاتيا عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد وكان يدعو الناس إلى عبادته فوصل إليه أولئك النفر من بني إسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها.
فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار إلى الشام في البحر وقال له بنو إسرائيل إن لآسا صديقا ينصره ويعينه قال فأين آسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي!
وبلغ خبره إلى آسا فتضرع إلى الله تعالى وأظهر الضعف والعجز عن الهندي وسأل الله النصرة عليه فاستجاب الله له وأراه في المنام أني سأظهر من قدرتي في رزح الهندي وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يطاق وليه ولا ينهزم جنده.
ثم سار رزح حتى أرسى بالساحل وسار إلى بيت المقدس فلما صار

252
على مرحلتين منه فرق عساكره فامتلأت منهم تلك الأرض وملأت قلوب بني إسرائيل رعبا وبعث آسيا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يسمع بمثله وسمع الخبر بنو إسرائيل فصاحوا وبكوا وودع بعضهم بعضا وعزموا على أن يخرجوا إلى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له فقال لهم ملكهم إن ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده فعاودوا الدعاء والتضرع. ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرعوا فزعموا أن الله أوحى إليه يا آسا أن الحبيب لا يسلم حبيبه وأنا الذي أكفيك عدوك فإنه لا يهون من توكل علي ولا يضعف من تقوى بي وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدة وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي فاستبشر وأخبر بني إسرائيل فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه.
وأمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره فخرج في نفر يسير على رابية من الأرض ينظرون إلى عساكره فلما رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني إسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني إسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا أو أرسل إلى آسا يقول له أين صديقك الذي ينصرك ويخلصك من سطوتي فأجابه آسا يا شقي انك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلبك وهو معي في موقفي هذا ولن يغلب أحد كان الله معه وستعلم ما يحل بك.
فغضب رزح من قوله وصف عساكره وخرج إلى قتال آسا وأمر الرماة

253
فرموهم بالسهام فبعث الله من الملائكة مددا لبني إسرائيل فأخذوا السهام ورموا بها الهنود فقتلت كل إنسان منهم نشابته فقتل جميع الرماة فضج بنو إسرائيل بالتسبيح والدعاء وتراءت الملائكة للهنود فلما رآهم رزح ألقى الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم ففعلوا فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه فلما رأى ذلك ولى هاربا وهو يقول قتلني صديق آسا.
فلما رآه آسا مدبرا قال اللهم إنك لن تهلكه استنفر علينا نائبه وبلغ رزح ومن معه إلى البحر فركبوا السفن فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فغرقتهم أجمعين.
ثم ملك بعد آسا ابنه سافاط إلى أن ملك خمسا وعشرين سنة.
ثم ملكت عزليا بنت عموم أخت أخزيا وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا وهو ابن ابنها فإنه ستر عنها ثم قتلها يواش وأصحابه وكان ملكها سبع سنين.
ثم ملك يواش أربعين سنة ثم قتله أصحابه وهو الذي قتل جدته.
ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش ويقال له غوزيا إلى أن توفي اثنين وخمسين سنة.
ثم ملك يوثام بن عوزيا إلى أن توفي ست عشرة سنة ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي فيقال إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره فتضرع إلى ربه فزاده وأمر شعيا بإعلامه ذلك وقيل إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا على ما يرد ذكره.

254
ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل
ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيل
قيل: كان الله تعالى قد أوحى إلى موسى ما ذكر في القرآن (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا).
فكثر في بني إسرائيل الأحداث والذنوب وكان الله يتجاوز عنهم متعطفا عليهم، وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أن ملكا منهم يقال له صديقا وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبيا يرشده ويوحي إليه ما يريد ولم يكن لهم غير شريعة التوراة فلما ملك صدقيا بعث الله تعالى إليه شعيا وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني إسرائيل فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغص بها الفضاء فسار حتى نزل بيت المقدس وأحاط به وملك بني إسرائيل مريض في ساقه قرحة فأتاه النبي شعيا وقال له إن الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت فأقبل الملك على

255
الدعاء والتضرع، فاستجاب الله له، فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقيا خمسة عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنحاريب فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة.
ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكا صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم سنحاريب وخمسة من كتابه أحدهم بخت نصر في قول بعضهم فخرج صدقيا وبنو إسرائيل فوجدوه ومعه أصحابه فأخذوهم وقيدوهم وحملوهم إليه فقال لسنحاريب كيف رأيت صنع ربنا بك؟ فقال قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم فلم أسمع ذلك فطاف بهم حول بيت المقدس ثم سجنهم.
فأوحى الله إلى شعيا يأمر الملك بإطلاق سنحاريب ومن معه فأطلقهم فعادوا إلى بابل وأخبروا قومهم بما فعل الله بهم وبعساكرهم وبقي بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم أهل الكتاب أن بني إسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو وكان بختنصر ابن عمه وكاتبه وأن الله أرسل عليهم ريحا فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه وأن هذا البابلي قتله ابن له وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله وان سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوى وغزا مع ملك أذربيجان يومئذ مع بني إسرائيل فأوقع بهم ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما فخرج بنو إسرائيل وغنموا ما معهم.
وقيل كان ملك سنحاريب إلى أن توفي تسعا وعشرين سنة، وكان

256
ملك بني إسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقيا فلما توفي ملك بعده ابنه منشا خمسا وخمسين سنة. ثم ملك بعده أمون إلى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة. ثم ملك ابنه يوشيا إلى أن قتل فرعون مصر الأجدع إحدى وثلاثين سنة. ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجا يحمله إليه وكان ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم ملك بعده ابنه يوياحين فغزاه بختنصر وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه. وملك بعده يقونيا ابن عمه وسماه صدقيا وخالفه فغزاه وظفر به وحمله إلى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرب بيت المقدس والهيكل وسبى بني إسرائيل وحملهم إلى بابل فمكثوا إلى أن عادوا إليه على ما نذكره إن شاء الله وكان جميع ملك صدقيا إحدى عشرة سنة.
وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني إسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث ففعل فعدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخلها وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني إسرائيل فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتى قطعوه في وسطها.
وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك تركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به.

257
ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب
وظهور زرادشت
قد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد إلى ابن عمه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس فهو ابن كيكاووس فلما ملك اتخذ سريرا من ذهب وكلله بأنواع الجواهر وبنيت به بأرض خرسان مدينة بلخ وسماها الحسناء ودون الدواوين وقوى ملكه بانتخابه الجنود وعمر الأرض وجبى الخراج لأرزاق الجند.
واشتدت شوكة الترك في زمانه فنزل مدينة بلخ لقتالهم وكان محمودا عند أهل مملكته شديد القمع لأعدائه المجاورين له شديد التفقد لأصحابه بعيد الهمة عظيم البنيان وشق عدة أنهار وعمر البلاد وحمل إليه ملوك الهند والروم والمغرب الخراج وكاتبوه بالتمليك هيبة له وحذرا منه.
ثم انه تنسك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك وكان ملكه مائة وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بشتاسب وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادعى النبوة وتبعه المجوس وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة أرميا خاصة به فخانه وكذب عليه فدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنه من العجم. وصنف كتابا وطاف به الأرض فما عرف

258
أحد معناه وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها وسماه اشتا فسار من أذربيجان إلى فارس فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه فسار إلى الهند وعرضه على ملوكها ثم أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم وقصد فرغانة فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب فأمر بحبسه فحبس مدة سنة. وشرح زرادشت كتابه وسماه زند ومعناه التفسير ثم شرح الزند بكتاب سماه بازند يعني التفسير وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطب وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء وفي كتابه تمسكوا بما جئتكم به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر يعني محمدا وذلك على رأس ألف سنة وستمائة سنة وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أن من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول والله أعلم.
ثم إن بشتاسب أحضر زرادشت وهو ببلخ فلما قدم عليه شرع له دينه فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقا كثيرا حتى قبلوه ودانوا به.
وأما المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبة من نار يلعب بها ولا تحرقه وكل من أخذها من يده لم تحرقه وانه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النار فيزعمون أن النيران التي في بيوتهم عبادتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإن النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله

259
محمدا، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان ظهور زرادشت بعد مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسب وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى وكتب في جلده اثني عشر ألف بقرة حفرا ونقشا بالذهب فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون الصابئة وسيرد باقي أخباره.

260
ذكر مسير بختنصر إلى بني إسرائيل
قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بختنصر على بني إسرائيل فقيل كان في عهد أرميا النبي ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل. وقيل إنما أرسله الله على بني إسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكريا والأول أكثر.
وكان ابتداء أمر بختنصر ما ذكره سعيد بن جبير قال كان رجل من بني إسرائيل يقرأ الكتب فلما بلغ إلى قوله تعالى (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد) قال أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يده فأرى في المنام مسكينا يقال له بختنصر ببابل فسار على سبيل التجارة إلى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنه حتى دلوه على بختنصر فأرسل من يحضره فرآه صعلوكا مريضا فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ فلما برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر فقال له بختنصر وهو يبكي فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي بلى تقدر عليه تكتب لي كتابا إن ملكت أطلقتني فقال أتستهزئ بي فقال إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثم إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام فأرسل إنسانا يثق

261
به ليتعرف له أخباره وحال من فيه فسار إليه ومعه بختنصر فقير لم يخرج إلا للخدمة فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلا ورجالا وسلاحا ففت ذلك في ذرعه فلم يسأل عن شيء وجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم ما يمنعكم أن تغزوا بابل فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء فكلهم يقول له لا نحسن القتال ولا نراه فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل وأرسل بختنصر إلى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جلية الحال فأحضره فأخبره بما كان جميعه.
ثم إن الملك أراد أن يبعث عسكرا إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة واستشار فيمن يكون عليهم فأشاروا ببعض أصحابه فقال لا بل بختنصر فجعله عليهم فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم أن لهراسب استعمله أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غرب دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني إسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار إلى. الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس فعاد عنهم وأخذ رهائنهم فلما عاد من القدس إلى طبرية وثب بنو إسرائيل على ملكهم الذي صالح بختنصر فقتلوه وقالوا داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلما سمع بقتل الرهائن الذين معه عاد إلى القدس فأخربه.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب وكان بختنصر قد خدم جده وأباه وخدمه وعمر عمرا طويلا فأرسل بهمن رسلا إلى ملك بني إسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيلي فغضب

262
بهمن من ذلك واستعمل بختنصر على أقاليم بابل وسيره في جنوده الكثيرة فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة. وإنما السبب الكلي الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني إسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أوامره وكانت سنة الله تعالى في بني إسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكا أرسل الله معه نبيا يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة فلما كان قبل مسير بختنصر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم فبعث الله إليه أرميا قيل هو الخضر عليه السلام فأقام فيهم يدعوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب فلم يرعووا فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنهم إن لم يراجعوا الطاعة سلط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريهم ويخرب مدينته ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة فلم يراجعوها فأرسل الله إليهم لأقيضن لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل وعسكر مثل قطع السحاب يهلك بني إسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس.
فلما سمع أرميا ذلك صاح وبكى وشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وتضرع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيامه.
فأوحى الله إليه وعزتي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى

263
يكون الأمر من قبلك في ذلك. ففرح أرميا وقال لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق لا آمر بهلاك بني إسرائيل أبدا.
وأتى ملك بني إسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه فاستبشر وفرح ثم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكرون فقال لهم ملكهم يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا فألقى الله في قلب بختنصر أن يسير إلى بني إسرائيل ببيت المقدس فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني إسرائيل الخبر فاستدعى أرميا النبي فما حضر عنده قال له يا أرميا أين ما زعمت أن ربك أوحى إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك؟ فقال أرميا إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله لإهلاكهم أرسل الله ملكا في صورة آدمي إلى أرميا وقال له استفته فأتاه وقال له يا أرميا أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسنا وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إياهم ألا سخطا لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم فقال له أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله.
فأنصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام في تلك الصورة فقال له أرميا أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد فقال والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يؤتيها أحد من الناس إلى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذ 1 لك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة فقال ارجع إلى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا
سوء سيرة.

264
فقال: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم. فقام الملك من عنده فلبث أياما ونزل بختنصر على بيت المقدس بأكثر من الجراد ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا أين ما وعدك ربك فقال إني بربي واثق.
ثم أن الملك الذي أرسله الله يستفتي أرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له يا نبي الله كل شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأن ذلك كان فيه سخطي وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله فلو كانوا على ما كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتد عليهم غضبي وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا فقال أرميا يا ملك السماوات والأرض إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وأن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السماوات والأرض يا أرحم الراحمين! أين ميعادك، أيا رب الذي وعدتني به. فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم ألا بفتياك التي أفنيت رسولنا فاستيقن أنها فتياه وأن السائل كان من عند الله، وخرج أرميا حتى خالط الوحش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثم انصرف راجعا إلى بابل واخذ معه سبابا بني إسرائيل وأمرهم فجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبي فقسمهم على الملوك والقواد الذين كانوا معه وكان من أولئك الغلمان دانيال النبي وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقسم بني إسرائيل وقسم بني

265
إسرائيل ثلاث فرق فقتل ثلثا وأقر بالشام ثلثا وسبى ثلثا، ثم عمر الله بعد ذلك أرميا فهو الذي رؤي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم أن بختنصر عاد إلى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم ثم رأى رؤيا فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئا أنساه ما رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إياها فأعلمهم الذي سألهم عنه فجاؤوا إلى بختنصر فقالوا رأيت تمثالا قال صدقتم قالوا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته وهي التي أنستك الرؤيا. قال صدقتم فما تأويلها قالوا أريت ملك الملوك فبعضهم كان ألين ملكا من بعض وبعضهم كان أحسن ملكا من بعض وبعضهم أشد وكان أول الملك الفخار وهو أضعفه وألينه ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن ثم كان فوقها الذهب وهو أحسن من الفضة وأفضل ثم كان الحديد وهو ملكك فهو أشد الملك وأعز وكانت الصخرة التي رأيت أن أرسل الله ملكا من السماء فدق ذلك جميعه نبيا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه.
فلما عبر دانيال ومن معه رؤيا بختنصر قربهم وأدناهم واستشارهم

266
في أمره فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم فأمر فحفر لهم أخدودا وألقاهم فيه وهم ستة رجال وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم ثم قال أصحاب بختنصر انطلقوا فلنأكل ولنشرب فذهبوا فأكلوا وشربوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا لم يخدش منهم أحدا ووجدوا معهم رجلا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ووجدوا معهم رجلا سابعا فخرج إليهم السابع وكان ملكا من الملائكة فلطم بختنصر لطمة فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الانسان ثم ردوه الله إلى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه فلما عاد إلى ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فعاد الفرس وسعوا بهم إلى بختنصر وقالوا له في سعايتهم إن دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول وكان ذلك عندهم عارا فصنع لهم بختنصر طعاما وأحضره عنده وقال للبواب انظر أول من يخرج ليبول فاقتله وأن قال لك أنا بختنصر فقل له كذبت بختنصر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من الجمع بختنصر فقام مدلا أنه الملك لئلا يقدم أحد عليه وكان ذلك ليلا فلما رآه البواب شد عليه ليقتله فقال له أنا بختنصر فقال له كذبت إن بختنصر أمرني بقتلك وقتله.

267
وقيل في سبب قتله أن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه فكان لا يقر ولا يسكن حتى يدق رأسه فلما حضره الموت قال لأهله شقوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة بأم رأسه ليري الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بختنصر لما تجبر قتله بأضعف مخلوقاته تبارك الذي بيده ملكوت كل شيء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
و أما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس كان يحتضر قد مات فإن عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة في قول بعض أهل العلم وملك بعده ابن له يقال له أو لمردج فملك الناحية ثلاثة وعشرين سنة ثم هلك وملك ابن له يقال له بلتاصر سنة فلما ملك تخلط في أمره فعزله ملك الفرس حينئذ وهو مختلف فيه على ما ذكرناه واستعمل بعده داريوش على بابل والشام وبقي ثلاثة سنة ثم عزله واستعمله مكانه أخشويرش فبقي أربع عشرة سنة ثم ملك ابنه كيرش العلمي وهو ابن ثلاث عشر سنة وكان قد تعلم التوراة ودان باليهودية وفهم عن دانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما فسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فقال لو كان بقي منكم ألف نبي ما فارقتكم وولى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره وأمره أن يقسم ما غنمه بختنصر من بني إسرائيل

268
عليهم وأمرهم بعمارة بيت المقدس فعمر في أيامه وعاد إليه بنو إسرائيل.
وهذه المدة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة إلى بختنصر وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل إن الذي أمر بعود بني إسرائيل إلى الشام بشتاسب بن لهراسب وكان قد بلغه خراب بلاد الشام وأنها لم يبق بها من بني إسرائيل أحد فنادى في أرض بابل من شاء من بني إسرائيل أن يرجع إلى الشام فليرجع وملك عليهم رجلا من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس فرجعوا وعمروه.
وكان أرميا بن حزقيا من سبط هارون بن عمران فلما وطئ بختنصر الشام وخرب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل وسباهم وقد فارق البلاد واختلط بالوحش فلما عاد بختنصر إلى بابل أقبل أرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلة تين فرأى بيت المقدس خرابا فقال (أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون فلما عمر بيت المقدس أحيا الله من أرميا عينيه جسده وهو ينظر إليه وقيل له (كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم) قيل (بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) ويتغير (وانظر إلى حمارك) فنظر إلى عظام حماره وهي تجتمع بعضها إلى بعض ثم كسي لحما ثم

269
قام حيا بأذن الله ونظر إلى المدينة وهي تبنى وقد كثر فيها بنو إسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد وكان عهدها خرابا وأهلها ما بين قتيل وأسير فلما رآها عامرة (قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير).
وقيل: إن الذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كان عزيرا فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوز عمياء زمنة كانت جارية له ولها من العمر مائة وعشرون سنة فقال لها هذا منزل عزير. قالت: نعم وبكت وقالت: ما أرى أحدا يذكر عزيرا غيرك فقال أنا عزير فقالت إن عزيرا كان مجاب الدعوة فادعوا الله لي بالعافية فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت فلما رأته عرفته وكان لعزير ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة وله أولاد شيوخ فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به فجاؤوا فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره. وقيل إن عزيرا كان مع بني إسرائيل بالعراق فعاد إلى بيت المقدس فجدد لبني إسرائيل التوراة لأنهم عادوا إلى بيت المقدس ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت وكان عزير قد أخذ مع السبي فلما عاد عزير إلى بيت المقدس مع بني إسرائيل جعل يبكي ليلا ونهارا وانفرد عن الناس فبينما هو
كذلك في حزنه إذ أقبل إليه رجل وهو جالس فقال له يا عزيز ما يبكيك فقال أبكي لأن

270
كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا انعدم. قال فتريد أن يرده الله عليكم قال نعم قال فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غدا هذا المكان ففعل عزير ذلك وأتى المكان فانتظره وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله في صورة رجل فسقاه من ذلك الإناء فتمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها فأحبوه حبا شديدا لم يحبوا شيئا قط مثله وأصلح أمرهم وأقام عزير بينهم ثم قبضه الله إليه على ذلك وحدثت فيهم الأحداث حتى قال بعضهم عزير ابن الله ولم يزل بنو إسرائيل ببيت المقدس وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة وقد اختلف العلماء في أمر بختنصر وعمارة بيت المقدس اختلافا كثيرا تركنا ذكره اختصارا.
ذكر غزوة بختنصر العرب
قيل أوحى الله إلى برخيا بن حنانيا يأمره أن يقول لبخت نصر ليغزو العرب فيقتل مقاتلهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم. فقال برخيا لبخت نصر ما أمر به فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم وانتشر الخبر في العرب فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد

271
فابتنوا الأنبار وخلى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلا حياة بخت نصر.
فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار وسار إلى العرب بنجد والحجاز فأوحى الله إلى برخيا وأرميا يأمرهما أن يسيرا إلى معد بن عدنان فيأخذاه ويحملاه إلى حران وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد الذي يختم به الأنبياء؛ فسار تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بختنصر إلى معد فحملاه إلى حران في ساعتهما ولمعد حينئذ اثنتا عشرة سنة وسار بختنصر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبختنصر بذات عرق فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عدنان وتبعه بختنصر إلى حصون هناك واجتمع عليه العرب وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه فكمن بختنصر كمينا وهو أول كمين عمل وأخذتهم السيوف فنادوا بالويل ونهى عدنان عن بختنصر وبختنصر عن عدنان فافترقا فلما رجع بختنصر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكة فأقام أعلامها وحج وحج معه الأنبياء وخرج معد حتى أتى ريسوت وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي فقيل له بقي جوشم بن جلهمة فتزوج معد ابنته معانة فولدت له نزار بن معد.

272
ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه
وقتل أبيه لهراسب
لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كل واحد منهم مملكة على قدر مرتبته ثم أنه ارسل إلى ملك الترك واسمه خرزاسف وهو أخو افراسياب وصالحه واستقر الصلح على أن يكون لبشتاسب دابة واقفة على باب ملك الترك لا تزال على عادتها على أبواب الملوك فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك وقال أنا أعين لك طالعا تسير فيه إلى الحرب فتظفر وهذا أول وقت وضعت فيه الاختبارات للملوك بالنجوم وكان زرادشت عالما بالنجوم جيد المعرفة بها فاجابه بشتاسب إلى ذلك فأرسل إلى الدابة التي بباب ملك الترك وإلى الموكل بها فصرفها فغضب ملك الترك وأرسل إليه يتهدده وينكر عليه ويأمره بانقاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتابا غليظا يؤذنه فيه بالحرب وسار كل واحد منهما إلى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالا شديدا فكانت الهزيمة على الترك وقتلوا قتلا ذريعا ومروا منهزمين، وعاد بشتاسب إلى بلخ، وعظم أمر

273
زرادشت عند الفرس وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب اسفنديار بن بشتاسب فلما انجلت الحرب سعى الناس بين بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا يريد الملك لنفسه فندبه لحرب بعد حرب ثم أخذه وحبسه مقيدا.
ثم ان بشتاسب سار إلى ناحية كرمان وسجستان وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسك هناك وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخا قد أبطله الكبر وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف فلما تحققه جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد فقتلوا وسبوا وأخربوا وسبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خمانى وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان وسار متبعا لبشتاسب وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصن بتلك الجبال مما يلي فارس وضاق ذرعا بما نزل به.
فلما اشتد عليه الأمر أرسل إلى ابنه اسفنديار مع عامهم جاماسب فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعد أن يعهد إليه بالملك من بعده فلما سمع اسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولا بالتجهيز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم والتقوا

274
واقتتلوا والتحمت الحرب وحمى الوطيس وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثر فيه ووهنه وتابع الحملات وفشا في الترك أن اسفنديار هو المتولي لحربهم فانهزموا لا يلوون على شيء وانصرف اسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان.
فلما دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أخذت من بلادهم فسار اسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلها عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوخ البلاد وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك وإلى التبت وأقطع بلاد الترك وجعل كل ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن أمنهم ووظف عليهم خراجا يحملونه كل سنة إلى أبيه بشتاسب ثم عاد إلى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك وأسر ذلك في نفسه وأمره بالتجهيز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان وقال له هذا رستم متوسط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس أعتقه فأقطعه إياها وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاووس وكان غرض بشتاسب أن يقتله رستم أو يقتل هو رستم فإنه كان أيضا شديد الكراهية لرستم فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه فخرج إليه رستم وقاتله فقتل اسفنديار قتله رستم ومات بشتاسب وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة وقيل مائة وعشرين سنة وقيل مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني إسرائيل زعم أنه نبي أرسل إليه واجتمع به ببلخ فكان يتكلم بالعبري وزرادشت نبي المجوس يعبر عنه وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضا عن الإسرائيلي وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصائبة قبل زرادشت.

275
ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار
قد مضى ذكر الخبر عمن زعم ان كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح وصار الملك بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الأنعام قال أهل اليمن أنه سار غازيا نحو المغرب حتى بلغ واديا يقال له وادي الرمال ولم يبلغه أحد قبله فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازا لكثره الرمال فبينما هو مقيم عليه إذا انكشف الرمل فأمر رجلا يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يرجعوا فلما رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس فصنع ثم نصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند هذا الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلفن أحد ذلك فيعطب وقيل أن وراء ذلك الرمل قوما من أمه موسى وهم الذين عنى الله بقوله (ومن قوم موسى أمه يهدون بالحق وبه يعدلون) والله أعلم.
ثم ملك بعده تبع وهو تبان وهو أسعد وهو أبو كرب بن ملكيكرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ وكان يقال له الزائد وكان

276
تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب وانه شخص متوجها من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيئ ثم سار يريد الأنبار فلما انتهى إلى موضع الحيرة تحيره وكان ليلا فأقام
بمكانه فسمي ذلك المكان بالحيرة وخلف به قوما من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة فبنوا وأقاموا به ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد ثم وجه إلى الموصل ثم إلى أذربيجان فلقي الترك فهزمهم فقتل المقاتلة وسبى الذرية ثم عاد إلى اليمن فهابته الملوك وأهدوا إليه وقدمت عليه هدية ملك الهند وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند فرأى ما لم ير مثله فقال الرسول كل هذا في بلدكم فقال أكثره من بلد الصين ووصف له بلد الصين فحلف ليغزونها فسار بحمير حتى أتى إلى الركائك وأصحاب القلانس السود ووجه رجلا من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم فأصيب فسار تبع حتى دخل الصين فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين.
ثم انه خلف بالتبت اثني عشر ألف فارس من حمير فهم أهل التبت ويزعمون أنهم عرب وألوانهم ألوان العرب وخلقهم.
هكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ وكل واحد منهم خالف الآخر وقدم بعضهم من أخره فلم يحصل منهم كثير فائدة ولكن ننقل ما وجدنا مختصرا.

277
ذكر خبر اردشير بهمن وابنته خمانى
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه اردشير بن اسفنديار وكان مظفرا في مغازيه وملك أكثر من أبيه وقيل انه ابتنى بالسواد مدينة وسماها اياوان اردشير وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى وابتنى بكور دجلة الأبلة وسار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز وبهمن هو أبو دارا الأكبر أبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار اردشير بن بابك وولده وأم دارا خمانى ابنة بهمن فهي أخته وأمه وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل وكان ملوك الأرض يحملون اليه الأتاوة وكان أعظم ملوك الفرس شأنا وأفضلهم تدبيرا وكانت أم بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة وقيل ثمانين سنة وكان متواضعا مرضيا فيهم وكانت كتبه تخرج من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثم ملكت بعده ابنته خمانى ملكوها حبا لأبيها ولعقلها وفروسيتها وكانت تلقب بشهرزاد وقيل إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملا في بطنها وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك فلما رأى فعل أبيه لحق

278
بإصطخر وتزهد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنما وكان يتولاها بنفسه فاستبشعت العامة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه فملكوها ووضعته بعد أشهر من ملكها فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكر من إصطخر وقيل بنهر بلخ وسار التابوت إلى طحان من أهل إصطخر ففرح لما فيه من الجواهر فحضنته امرأته ثم ظهر أمره حين شب فأقرت خمانى بإساءتها فلما تكاملت امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك فحولت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر وكانت قد أوتيت ظفرا وأغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرق بلادها وخففت عن رعيتها الخراج وكان ملكها ثلاثين سنة وقيل إن خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلمت الملك إليه وعزلت نفسها فضبط الملك بشجاعة وحزم.
* * *
ونرجع إلى ذكر بني إسرائيل ومقابلة تاريخ أيامهم إلى حين تصرمها ومدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس.
قد ذكرنا فيما مضى سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذين كان بخت نصر سباهم وكان ذلك في أيام كيرش بن اخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خمانى وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر مائة سنة كل ذلك في أيام بهمن بعضه وفي أيام ابنته خمانى بعضه وقيل غير ذلك وقد تقدم ذكر الاختلاف.

279
وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفردا قط ولما عمر بيت المقدس ورجع إلى أهله كان فيهم عزير وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس أما رجل منهم وأما رجل من بني إسرائيل إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل دارا بن دارا وكان جملة مدة ذلك فيما قيل ثمانيا وثمانين سنة.

280
ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر
وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
وملك دارا بن بهمن بن اسفنديار وكان يلقب جهرازاد يعني كريم الطبع فنزل ببابل وكان ضابطا لملكه قاهرا لمن حوله من الملوك يؤدون إليه الخراج وبنى بفارس مدينة سماها دارا بجرد وحذف دواب البرد ورتبها وكان معجبا بابنه دارا ومن حبه له سماها باسم نفسه وصير له الملك بعده وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا وهي مشهورة إلى الآن واستوزر إنسانا لا يصلح لها فأفسد قلبه على أصحابه فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصة والعامة وكان شابا غرا جميلا حقودا جبارا سئ السيرة في رعيته وكان ملكه أربع عشرة سنة.

281
ذكر الإسكندر ذي القرنين
كان فيلفوس أبو الإسكندر اليوناني من أهل بلدة يقال لها مقدونية كان ملكا عليها وعلى بلاد أخرى فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الإسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئا وكان الخراج الذي يحمله بيضا من ذهب فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم وكتب إليه أنه صبي وأنه ينبغي له أن يلعب بالصولجان والكرة ويترك الملك وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق وإن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الإسكندر أنه قد فهم ما كتب به وقد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمن به لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان واحترازه إياها ويشبه الأرض بالكرة وأنه يجر ملك دارا إلى ملكه وتيمنه بالسمسم الذي بعث كتيمنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده

282
من المرارة والحرافة وبعث إليه بصرة فيها خردل وأعلمه في ذلك أن ما بعث به إليه قليل ولكنه مر حريف وأن جنوده مثله فلما وصل كتابه إلى دارا تأهب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأولين أن الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه وأن أباه الأكبر كان تزوج أم الإسكندر وهي ابنة ملك الروم فلما حملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها فأمر أن يحتال لذلك منها فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر فغسلت بمائها فأذهب بذلك كثير من نتنها ولم يذهب كله وانتهت نفسه عنها فردها إلى أهلها وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاما فسمته باسم الشجرة التي غسلت بمائها مضافا إلى اسمها وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده فمنع الخراج الذي كان يؤديه جده إلى دارا فأرسل يطلبه وكان بيضا من ذهب فأجابه إني قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها فإن أحببت وادعناك وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح فاستشار دارا أصحابه فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه فعند ذلك ناجزه دارا القتال فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكمها على الفتك بدارا فاحتكما شيئا ولم يشترطا أنفسهما. فلما التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة وكانت الحرب بينهما سنة فانهزم أصحاب دارا ولحقه الإسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبا للراحة من ظلمه وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه ولم يكن ذلك بأمر من

283
الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر مناديا ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يقتل فأخبره بقتله فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهم بقتلك قط ولقد كنت أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحر الأحرار عن هذا المصرع فأوص بما أحببت. فأوصاه دارا أن يتزوج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممن قتله ففعل
الإسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا وقال لهما إنكما لم تشترطا نفوسكما فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما. وقال ليس ينبغي أن يستبقى قاتل الملوك إلا بذمة لا تخفر. وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر وقيل ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الروم قبل الإسكندر متفرقا فاجتمع وملك فارس مجتمعا فتفرق. وحمل الإسكندر كتبا وعلوما لأهل فارس من علوم ونجوم وحكم ونقله إلى الرومية.
وقد ذكرنا قول من قال إن الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنه الإسكندر بن فيلفوس وقيل فيلبوس بن مطريوس وقيل ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن منطون بن رومي بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن الفيز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم.

284
فجمع بعد هلك دارا ملك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل ومن جند دارا ستمائة ألف رجل وتقدم بهم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة وأحرق كتبتهم واستعمل على مملكة فارس رجالا وسار قدما إلى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثم سار منها إلى الصين فلما وصل إليها أتاه حاجبه وقال هذا رسول ملك الصين فأحضره فسلم وطلب الخلوة ففتشوه فلم يروا معه شيئا فخرج من كان عند الإسكندر فقال أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب. فقال له الإسكندر ما الذي آمنك مني قال علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سببا لتسليم أهل الصين ملكي إليك ثم إنك تنسب إلى الغدر.
فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلا ونصف الارتفاع لكل سنة قال قد أجبتك ولكنك اسألني كيف حالي قال قل كيف حالك قال أكون أول قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس قال [فإن] قنعت منك بارتفاع سنتين قال يكون حالي أصلح قليلا قال [فإن] قنعت منك بارتفاع سنة قال يبقى ملكي وتذهب لذاتي قال وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكل سنة فكيف يكون حالك قال يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد والسدس لي والثلث للعسكر والثلث

285
لك. قال: قد قنعت منك بذلك فشكره وعاد وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلما كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر فركب الإسكندر والناس فظهر ملك الصين على فيل وعلى رأسه التاج فقال له الإسكندر: أغدرت؟ قال لا ولكني أردت أن تعلم إني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلوي مقبلا عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك.
فقال له الإسكندر لا يسام مثلك الجزية فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك فقال له ملك الصين فلست تخسر وبعث إليه بضعف ما كان قرره معه وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامة الأرضين في الشرق والغرب وملك التبت وغيرها.
فلما فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتصل بديار يأجوج ومأجوج وقد اختلفت الأقوال فيهم والصحيح أنهم نوع من الترك لتهم شوكة وفيهم شر وهم كثيرون وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم فلما رأى أهل تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرهم كما أخبر الله عنهم في قوله (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين) وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين (وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون

286
في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما). يقول ما مكني ربي فيه خير من خرجكم ولكن أعينوني بالقوة والقوة الفعلة والصناع والآلة التي يبنى بها فقال (آتوني زبر الحديد) أي قطع الحديد فأتوه بها فحفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل الحديث والحطب صفوفا بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصدفين) وهما جبلان أشعل النار في الحطب فحمى الحديد وأفرغ عليه القطر وهو النحاس المذاب فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد فبقي كأنه برد محبر من حمرة النحاس وسواد الحديد وجعل أعلاه شرفا من الحديد فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج إلى البلاد المجاورة لهم قال الله تعالى (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا).
فلما فرغ من أمر السد دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية فلهذا كانت ظلمة وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبدا فلما دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد فسار فيها ثمانية عشر يوما ثم خرج منها ولم يظفر بها وكان الخضر على مقدمته فظفر بها وسبح فيها وشرب منها والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهرزور بعلة الخوانيق وكان عمره ستا وثلاثين سنة في قول ودفن في تابوت من ذهب مرصع بالجواهر وطلي بالصبر لئلا يتغير وحمل إلى أمه بالإسكندرية.

287
وكان ملكه أربع عشرة سنة وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه وبنى اثنتي عشرة مدينة منها أصبهان وهي التي يقال لها جي ومدينة هراة ومرو وسمرقند وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا وبأرض اليونان مدينة وبمصر الإسكندرية.
فلما مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم فوقفوا عليه فقال كبيرهم ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون للخاصة معزيا وللعامة واعظا ووضع يده على التابوت وقال أصبح آسر الأسراء أسيرا وقال آخر هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبؤه وقال آخر ما أزهد الناس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت وقال آخر من أعجب العجب أن القوي قد غلب والضعفاء لاهون مغترون وقال آخر هذا الذي جعل أجله ضمارا أو جعل أمله عيانا هلا باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك بلا هلا خففت من أملك بالامتناع من وفور أجلك وقال آخر أيها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليك أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك واثمه عليك وقال آخر قد كنت لنا واعظا فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل ومن كان معتبرا فليعتبر وقال آخر رب هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك وقال آخر رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلم وقال آخر كم أماتت هذه النفس لئلا تموت وقد ماتت وقال آخر وكان صاحب كتب الحكمة قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنو منك وقال آخر هذا يوم عظيم أقبل من شره ما كان مدبرا وأدبر من خيره ما كان مقبلا فمن كان

288
باكيا على من زال ملكه فليبك وقال آخر يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحل ظل السحاب وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب وقال آخر يا من ضاقت عليه الأرض طولا وعرضا ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر اعجبوا ممن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد وقال آخر أيها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذته فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد وقال آخر انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى وظل الغمام كيف انجلى وقال آخر يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت وقال آخر قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي وقال آخر إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلم الآن كل ساكت وقال آخر سيلحق بك من سره موتك كما لحقت بمن سكر موته وقال آخر ما لك لا تقل عضوا من أعضائك وقد كنت تستقل بملك الأرض بل مالك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر إن دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها.
وقال صاحب مائدته قد فرشت النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم وقال صاحب بيت ماله قد كنت تأمرني بالادخار فإلى من أدفع ذخائرك؟
وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار

289
ولو كنت بذلك موقنا لم تحمل على نفسك في الطلب.
وقالت زوجته روشنك ما كنت أحسب أن غالب دارا يغلب فان الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة وقالت أمه حين بلغها موته لئن فقدت من ابني أمره لم يفقد من قلبي ذكره.
فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتها.
ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج إلى بين الصفين وأمر مناديا فنادى يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنه يرى منا الوفاء فاتهمت الفرس بعضها بعضا واضطربوا.
ومن حيله أنه تلقاه ملك الهند بالفيلة فنفرت خيل أصحابه عنها فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها ثم عاد إلى الهند فخرج إليهم ملك الهند فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه فلما نشبت الحرب أمر باشعال النار في تلك الفيلة فلما حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولت هاربة راجعة على الهند فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء فعاد عنها فأرسل إليها قوما على هيئة التجار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا.
ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرة بعد أخرى فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به فسار الإسكندر إليهم فلم يمتنعوا عليه.

290
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أن من خاصة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة وأنه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنة فكتب إليه أرسطاطاليس فهمت كتابك فإن ما ذكرت من بعد هممهم فإن الوفاء من بعد الهمة وكبر النفس والغدر من دناءة النفس وخبثها وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفهه في معيشته واخصصه بحسان النساء فإن رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبب السلامة وإياك والقتل فإنه زلة لا تستقال وذنب لا يغفر وعاقب بدون القتل تكن قادرا على العفو فما أحسن العفو من القادر وليحسن خلقك تخلص لك النيات بالمحبة ولا تؤثر نفسك على أصحابك فليس مع الاستئثار محبة ولا مع المواساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضا لما ملك بلاد فارس يذكر له أنه رأى بإيران شهر رجالا ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة وإنه إنما ملكهم بالحظ والإنفاق وإنه لا يأمن إن سافر عنهم ففارقهم وثوبهم وأنه لا يكفي شرهم إلا ببوارهم.
فكتب إليه قد فهمت كتابك في رجال فارس فأما قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته ولو قتلتهم لا ثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لأنك تكون قد وترتهم في غير حرب وأما إخراجك إياهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك ولكني أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلدهم البلدان وتجعل كل واحد منهم ملكا برأسه فتفرق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبة لك ويرون أنفسهم صنيعتك.
ففعل الإسكندر ذلك فهم ملوك الطوائف وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب ونحن نذكره إن شاء الله.

291
ذكر من ملك من قومه بعد الإسكندر
لما مات الإسكندر عرض الملك على ابنه الإسكندرون فأبى واختار العبادة فملكت اليونان فيما قيل بطليموس بن لاغوس وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة، ثم ملك بعده بطليموس فيلادلفوس وكان ملكه أربعين سنة ثم ملك بعده بطليموس اوراغاطس أربعا وعشرين سنة ثم ملك بطليموس فيلافطر إحدى وعشرين سنة ثم ملك بعده بطليموس أفيفانس اثنتين وعشرين سنة ثم ملك بعده بطليموس أوراغاطس تسعا وعشرين سنة ثم ملك بعده بطليموس ساطر سبع عشرة سنة ثم ملك بعده بطليموس الاخشندر إحدى عشرة سنة ثم ملك بعده بطليموس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين ثم ملكت بعده قالوبطرى سبع عشرة سنة وكانت من الحكماء وهؤلاء كلهم من اليونان، وكل من كان بعده الإسكندر كان يدعى بطليموس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أن بطليموس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك وإنما كان أيام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم ملك الشام فيما بعد قالوبطرى ملوك الروم فكان أول من ملك منهم جايوس يوليوس خمس سنين، ثم ملك بعده أغسطوس ستا وخمسين سنة فلما مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم عليه السلام وقيل كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة سنة وثلاث سنين.

292
ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف، لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف وقد تقدم ذكر السبب في تمليكهم وقيل كان السبب في ذلك أن الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل إلى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إني قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا وقد هممت أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم فما ترى؟
فكتب إليه إنك قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال والسفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا وما يخشى من معرتهم أكثر والرأي أن تجتمع أبناء الملوك فتملك كل واحد منهم بلدا واحدا وكورة واحدة فإن كل واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفا على ما بيده فتتولد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم وكان الإسكندر يصدر

293
عن رأيه وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها ومعناه رأس السباع وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس إلا أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدة مسائل فلما قيل له في ذلك قال أفلاطون صديق والحق صديق إلا أن الحق أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل فقال هشام بن الكلبي وغيره ملك بعد الإسكندر بلاقس سلبقس ثم أنطيخس وهو الذي بنى مدينة أنطاكية وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعا وخمسين سنة وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.
ذكر ملك أشك بن أشكان
ثم خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر وكان مولده ومنشأه بالري فجمع جمعا كبيرا وسار يريد أنطيخس وزحف إليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الري وأصبهان وعظمته سائر ملوك الطوائف لسنه وشرفه وفعله وبدأوا به في كتبهم، وسموه ملكا من غير أن يعزل أحدا منهم، ثم ملك بعده ابنه سابور بن أشك.

294
ذكر ملك جودرز
ثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان وهو الذي غزا بني إسرائيل في المرة الثانية.
وسبب تسليط الله إياه عليهم قتلهم يحيى بن زكريا فأكثر فيهم القتل فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى ورفع الله منهم النبوة وأنزل بهم الذل. وقيل: إن الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم فقتلهم وسباهم وخرب بيت المقدس وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس وملك بابل حينئذ بلاش أبو أردوان الذي قتله اردشير بن بابك فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعا.
فوجه كل ملك من الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل فولى عليهم صاحب الحضر وكان له ما بين السواد والجزيرة فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم وذلك الذي هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك وهو أول من تنصر من ملوك الروم وأجلى من بقي من بني إسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم وأخذ
الخشبة التي يزعمون أنهم صلبوا عليها المسيح فعظمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم ولم يزل ملك فارس متفرقا حتى ملك أردشير بن بابك ولم يبين هشام مدة ملكهم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس ملك بلادهم بعد الإسكندر

295
ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كل من ملك بلاد الجبل وهم الأشغانيون الذين يدعون ملوك الطوائف وكان ملكهم مائتي سنة وقيل كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة ثم ابنه سابور ستين سنة وفي احدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وأن تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك بيرن الأشغاني إحدى وعشرين سنة ثم ملك جودرز الأشغاني تسعا وثمانين سنة ثم ملك نرسي الأشغاني أربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة ثم ملك أردوان الأشغاني اثنتين وعشرين سنة ثم ملك كسرى الأشغاني أربعين سنة ثم ملك بلاش الأشغاني أربعا وعشرين سنة ثم ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة ثم ملك اردشير بن بابك.
وقال بعضهم ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرق الإسكندر المملكة بينهم وتفرد بكل ناحية من ملك عليها من حين ملكه عليها ما خلا السواد فإنه كان أربعا وخمسين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان ثم غلب ولده بعد ذلك على السواد وكانوا ملوكا عليها وعلى الماهات والجبال وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف لأن العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده ولذلك قصد لذكرهم في كتب سير الملوك فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم فكانت مدة ملوك الطوائف مائتي سنة وستين سنة وقيل ثلاثمائة وأربعا وأربعين سنة وقيل خمسمائة وثلاثا وعشرين سنة والله أعلم.

296
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه وهو من ولد اسفنديار بن بشتاسب في قول وبعض الفرس زعم أن أشك بن دارا قال بعضهم أشك بن أشكان الكبير هو من ولد كيكاووس وكان ملكه عشرين سنة.
ثم ملك بعده أشك ابنه احدى وعشرين سنة ثم ملك ابنه سابور ثلاثين سنة ثم ملك ابنه جودرز عشر سنين ثم ملك ابنه تيري إحدى وعشرين سنة ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة ثم ابنه نرسي أربعين سنة ثم ملك هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة ثم أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة ثم كسرى بن أشكان أربعين سنة ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة وكان أعظم ملوك الأشكانية وأظهرهم وأعزهم قهر للملوك ثم ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عد بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة إلى الإطالة بذكره وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.

297
ذكر الأحداث أيام ملوك الطوائف فمن ذلك ذكر
المسيح عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهم السلام
إنما جعلنا هذين الأمرين العظيمين في هذه الترجمة لتعلق أحدهما بالآخر، فنقول: كان عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود وكان آل ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وكان متزوجا بحنة بنت فاقور وكان زكريا بن برخيا متزوجا بأختها إيشاع وقيل كانت إيشاع أخت مريم بنت عمران وكانت حنة قد كبرت وعجزت ولم تلد ولدا فبينما هي في ظل شجرة أبصرت طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فدعت الله أن يهب لها ولدا ونذرت إن يرزقها ولدا أن تجعله من سدنة بيت المقدس وخدمته فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو وكان النذر المحرر عندهم أن يجعل للكنيسة يقوم بخدمتها ولا يبرح منها حتى يبلغ الحلم فإذا بلغ خير فإن أحب أن يقيم فيها أقام وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ولم يكن يحرر إلا للغلمان لأن الإناث لا يصلحن لذلك لما يصيبهن من الحيض والأذى.
ثم هلك عمران وحنة حامل بمريم فلما وضعت إذ هي أنثى فقالت عند ذلك: (رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس

298
الذكر كالأنثى) في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها (وإني سميتها مريم)، وهي بلغتهم العبادة ثم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يلون من بيت المقدس ما يلي بنو شيبة من الكعبة فقالت: دونكم هذه المنذورة فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالوا لكنا نقترع عليها فألقوا أقلامهم في نهر جار قيل هو نهر الأردن فألقوا فيه أقلامهم، التي كانوا يكتبون بها التوراة فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها حتى كبرت فبنى لها غرفة في المسجد لا يرقى إليها إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فيقول أنى لك هذا فتقول (هو من عند الله). فلما رأى زكريا ذلك منها دعا الله تعالى ورجا الولد حيث رأى فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فقال: إن الذي فعل هذا بمريم قادر على أن يصلح زوجتي حتى تلد. ف‍ (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء).
فبينما هو يصلي في المذبح الذي لهم فإذا برجل شاب هو جبريل ففزع زكريا منه فقال له (إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) يعني عيسى بن مريم عليه السلام ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وذلك أن أمه كانت حاملا به فاستقبلت مريم وهي حامل

299
بعيسى فقالت لها: يا مريم أحامل أنت؟ فقالت لماذا تسأليني؟ قالت: لما أني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك تصديقه.
وقيل: صدق المسيح عليه السلام وله ثلاث سنين وسماه الله تعالى يحيى ولم يكن قبله من تسمى هذا الاسم قال الله (لم نجعل له من قبل سميا) وقال تعالى (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) قيل أوحش ما يكون ابن آدم في هذه الأيام الثلاثة فسلمه الله تعالى من وحشتها وإنما ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين وقيل بستة أشهر وكان لا يأتي النساء ولا يلعب مع الصبيان.
(قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) وكان عمره اثنتين وتسعين سنة وقيل مائة وعشرين سنة وكانت امرأته ابنة ثمان وتسعين سنة فقيل له (كذلك الله يفعل ما يشاء) وإنما قال ذلك استخبارا هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم غيرها لا إنكارا لقدرة الله تعالى (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) قال أمسك الله لسانه عقوبة لسؤاله الآية والرمز الإشارة.
فلما ولد رآه أبوه حسن الصورة قليل الشعر قصير الأصابع مقرون الحاجبين دقيق الصوت قويا في طاعة الله مذ كان صبيا قال الله تعالى:

300
(وآتيناه الحكم صبيا) قيل إنه قال له يوما الصبيان أمثاله يا يحيى اذهب بنا نلعب فقال لهم ما للعب خلقت.
وكان يأكل العشب وأوراق الشجر وقيل كان يأكل خبز الشعير ومر به إبليس ومعه رغيف شعير فقال أنت تزعم أنك زاهد وقد ادخرت رغيف شعير فقال يحيى يا ملعون هو القوت فقال إبليس إن الأقل من القوت يكفي لمن يموت فأوحى الله إليه اعقل ما يقول لك.
ونبىء صغيرا فكان يدعو الناس إلى عبادة الله ولبس الشعر فلم يكن له دينار ولا درهم ولا مسكن يسكن إليه أينما جنه الليل أقام ولم يكن له عبد ولا أمة واجتهد في العبادة فنظر يوما إلى بدنه وقد نحل فبكى فأوحى الله إليه يا يحيى أتبكي لما نحل من جسمك وعزتي وجلالي لو اطلعت في النار اطلاعة لتدرعت الحديد عوض الشعر فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين. فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكريا ومعه الأحبار فقال يا بني ما يدعوك إلى هذا قال أنت أمرتني بذلك حيث قلت إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاؤن من خشية الله فقال فابك واجتهد إذن فصنعت له أمه قطعتي لبد على خديه تواري أضراسه فكان يبكي حتى يبلهما وكان زكريا إذا أراد أن يعظ الناس نظر فإن كان يحيى حاضرا لم يذكر جنة ولا نارا.
وبعث الله عيسى رسولا نسخ بعض أحكام التوراة فكان مما نسخه أنه حرم نكاح بنت الأخ وكان لملكهم واسمه هيرودس بنت أخ تعجبه

301
يريد أن يتزوجها فنهاه يحيى عنها وكان لها كل يوم حاجة يقضيها لها فلما بلغ ذلك أمها قالت لها إذا سألت الملك ما حاجتك فقولي أن تذبح يحيى بن زكريا. فلما دخلت عليه وسألها ما حاجتك قالت أريد أن تذبح يحيى بن زكريا فقال سلي غير هذا قالت ما أسألك غيره فلما أبت دعا بيحيى ودعا بطست فذبحه فلما رأت الرأس قالت اليوم قرت عيني فصعدت إلى سطح قصرها فسقطت منه إلى الأرض ولها كلاب ضارية تحته فوثبت الكلاب عليها فأكلتها وهي تنظر وكان آخر ما أكل منها عيناها لتعتبر فلما قتل بذرت قطره من دمه على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم فجاءته امرأة فدلته على ذلك الدم فألقى الله في قلبه أن يقتل منهم على ذلك الدم حتى يسكن فقتل منهم سبعين ألفا حتى سكن الدم.
وقال السدي نحو هذا غير أنه قال أراد الملك أن يتزوج امرأة له فنهاه يحيى عن ذلك فطلبت المرأة من الملك قتل يحيى فأرسل إليه فقتله وأحضر رأسه في طست وهو يقول له لا تحل لك فبقي دمه يغلي فطرح عليه تراب حتى بلغ سور المدينة فلم يسكن الدم فسلط الله عليهم بختنصر في جمع عظيم فحصرهم فلم يظفر بهم فأراد الرجوع فأتته امرأة من بني إسرائيل فقالت له بلغني أنك تريد العود قال نعم قد طال المقام وجاع الناس وقلت الميرة بهم وضاق عليهم فقالت إن فتحت لك المدينة أتقتل من آمرك بقتله وتكف إذا أمرتك.
قال نعم قالت اقسم جندك أربعة أقسام على نواحي المدينة ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء وقولوا اللهم إنا نستفتحك على دم يحيى بن زكريا ففعلوا فخرب سور المدينة فدخلوها

302
فأمرتهم العجوز أن يقتلوا على دم يحيى ين زكريا حتى يسكن فلم يزل يقتل حتى قتل سبعين ألف وسكن الدم فأمرته بالكف وكف.
وخرب بيت المقدس وأمر أن تلقى فيه الجيف وعاد ومعه دانيال وغيره من وجوه بني إسرائيل منهم عزريا وميشائيل ورأس الجالوت فكان دانيال أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس وسعوا بهم إلى بختنصر وذكر نحو ما تقدم من إلقائهم إلى السبع ونزول الملك عليهم ومسخ بختنصر ومقامه في الوحش سبع سنين.
وهذا القول وما لم نذكره من الروايات من أن بختنصر هو الذي خرب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا باطل عند أهل السير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين وذلك أنهم أجمعون مجمعون على أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا في عهد أرميا بن حلقيا وبين عهد أرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة عند اليهود والنصارى ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين وتوافقهم المجوس في مدة غزو بختنصر بني إسرائيل إلى موت الإسكندر وتخالفهم في مدة ما بين موت الإسكندر ومولد يحيى فيزعمون أن مدة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة.
وأما ابن إسحاق فإنه قال: الحق أن بني إسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثم عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه وتعالى عليهم ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكريا وابنه يحيى وعيسى بن مريم عليهم السلام فقتلوا

303
يحيى وزكريا فابتعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له جودرس فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام فلما دخل بيت المقدس قال لقائد عظيم من عسكره اسمه نبوزاذان وهو صاحب الفيل إني كنت قد حلفت لئن أنا طفرت ببني إسرائيل لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد من أقتله وأمره أن يدخل المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي يقربون فيها قربانهم فوجد دما يغلي فقال يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي فقالوا هذا دم قربان لنا لم يقبل فلذلك هو يغلي فقال ما صدقتموني الخبر فقالوا إنه قد انقطع منا الملك والنبوة فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤوسهم فلم يهدأ فأمر بسبعمائة من علمائهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ. فلما رأى الدم لا يبرد قال لهم يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أدع منكم نافخ نارا ولا ذكرا إلا قتلته.
فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر وقالوا هذا [دم] نبي كان ينهانا عن كثير (م) ما يسخط الله ويخبرنا بخبركم فلم نصدقه وقتلناه فهذا دمه. فقال: ما كان اسمه قالوا يحيى بن زكريا قال الآن صدقتموني لمثل هذا انتقم ربكم منكم وخر ساجدا وقال لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة واخرجوا من ههنا من جيش جودرس ففعلوا وخلا في بني إسرائيل

304
ثم قال للدم يا يحيى قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى من قومك أحد فسكن الدم ورفع نبوزاذان القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره. ثم قال لبني إسرائيل إن جودرس أمرني أن أقتل فيكم حتى تسيل دماؤكم في عسكره ولست أستطيع أن أعصيه قالوا افعل فأمرهم أن يحفروا حفيرة وأمر بالخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل فذبحها حتى كثر الدم وأجرى عليه ماء فسار الدم في العسكر فأمر بالقتلى الذين كان قد قتلهم فألقوا فوق المواشي فلما نظر جودرس إلى الدم قد بلغ عسكره أرسل إلى نبوزاذان أن ارفع القتل عنهم فقد انتقمت منهم بما فعلوا.
وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل بها الله ببني إسرائيل يقول الله تعالى لنبيه محمد (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مره وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). وعسى [وعد] من الله حق.
وكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده ثم رد الله سبحانه لهم انكرة،

305
ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس وجنوده، وكانت أعظم الوقعتين فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبي ذراريهم ونسائهم يقول الله تعالى (وليتبروا ما علوا تتبيرا).
وزعم بعض أهل العلم أن قتل يحيى كان أيام أردشير بن بابك وقيل كان قتله قبل رفع المسيح عليه السلام بسنه ونصف والله أعلم.
ذكر قتل زكريا
لما قتل يحيى وسمع أبوه بقتله فر هاربا فدخل بستانا عند بيت المقدس فيه أشجار فأرسل الملك في طلبه فمر زكريا بالشجرة فنادته هلم إلي يا نبي الله فلما أتاها أنشقت فدخلها فانطبقت عليه وبقي في وسطها فأتى عدو الله إبليس فأخذ هدب ردائه فأخرجه من الشجرة ليصدقوه إذا أخبرهم ثم لقي الطلب فأخبرهم فقال لهم ما تريدون فقالوا نلتمس زكريا فقال إنه سحر هذه الشجرة فانشقت له فدخلها قالوا لا نصدقك قال فإن لي علامة تصدقوني بها فأراهم طرف ردائه فأخذوا الفؤوس وقطعوا الشجرة اثنتين وشقوها بالمنشار فمات زكريا فيها فسلط الله عليهم أخبث أهل الأرض فانتقم به منهم وقيل إن السبب في قتله أن إبليس جاء إلى مجالس بني إسرائيل فقذف زكريا بمريم وقال لم ما أحبلها غيره وهو الذي كان يدخل عليها فطلبوه فهرب وذكر من دخوله إلى الشجرة نحو ما تقدم.

306
ذكر ولادة المسيح عليه السلام
ونبوته إلى أخر أمره
كانت ولادة المسيح أيام ملوك الطوائف. قالت المجوس: كان ذلك بعد خمس وستين من غلبة الإسكندر على أرض بابل وبعد إحدى وخمسين سنة مضت من ملك الأشكانيين. وقالت النصارى: إن ولادته كانت لمضي ثلاثمائة وثلاث وستين سنة من وقت غلبة الإسكندر على أرض بابل وزعموا أن مولد يحيى كان قبل مولد المسيح بستة أشهر وأن مريم عليها السلام حملت بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وقيل خمس عشة وقيل عشرين وأن عيسى عاش إلى أن رفع اثنتين وثلاثين سنة وأياما وأن مريم عاشت بعده ست سنين فكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة وأن يحيى قتل قبل أن يرفع المسيح وأتت المسيح النبوة والرسالة وعمره ثلاثون سنة.
وقد ذكرنا حال مريم في خدمة الكنيسة وكانت هي وابن عمها يوسف بن يعقوب بن ماثان النجار يليان خدمة الكنيسة وكان يوسف حكيما نجارا يعمل بيديه ويتصدق بذلك وقالت النصارى إن مريم كان قد تزوجها يوسف ابن
عمها إلا أنه لم يقربها إلا بعد أن رفع المسيح والله أعلم.
وكانت مريم إذا نفذ ماؤها وماء يوسف ابن عمها أخذ كل واحد منهما قلته وانطلق إلى المغارة التي فيها الماء يستعذبان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة،

307
فلما كان اليوم الذي لقيها فيه جبريل نفذ ماؤها فقالت ليوسف ليذهب معها إلى الماء فقال عندي من الماء ما يكفيني إلى غد فأخذت قلتها وانطلقت وحدها حتى دخلت المغارة فوجدت جبرائيل قد مثله الله لها بشرا سويا، فقال لها: يا مريم إن الله قد بعثني إليك (لأهب لك غلاما زكيا) قالت (أنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أي مطيعا لله وقيل هو اسم رجل بعينه وتحسبه رجلا (قال إنما أن رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) أي زانية (قال كذلك قال ربك) إلى قوله (أمرا مقضيا).
فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ في جيب درعها ثم انصرف عنها وقد حملت بالمسيح وملأت قلتها وعادت وكان لا يعلم في أهل زمانها أعبد منها ومن ابن عمها يوسف النجار وكان معها وهو أول من أنكر حملها فلما رأت الذي بها استعظمته ولم يدر على ماذا يضع ذلك منها فإذا أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وأنها لم تغب عنه ساعة قط وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي بها فلما اشتد ذلك عليه كلمها فكان أول كلامه لها أن قال لها إنه قد وقع من أمرك شيء قد حرصت على أن أميته وأكتمه فغلبني فقلت قل قولا جميلا فقال حدثيني هل ينبت زرع بغير بذر قالت نعم قال فهل ينبت شجر بغير غيث يصيبه قالت نعم قال فهل يكون

308
ولد بغير ذكر؟ قالت له: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه بغير بذر ألم تعلم أن الله خلق الشجر من غير مطر وأنه جعل بتلك الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كل واحدة منها وحده أو تقول لن يقدر الله على أن ينبت حتى يستعين بالبذر والمطر.
قال يوسف لا أقول هكذا ولكني أقول إن الله يقدر على ما يشاء أنما يقول لذلك كن فيكون قالت له ألم تعلم أن الله خلق آدم وحواء من غير ذكر ولا أنثى قال بلى فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله لا يسعه أن يسألها عنه لما رأى من كتمانها له.
وقيل: أنها خرجت إلى جانب الحجرات لحيض أصابها فاتخذت من دونهم حجابا من الجدران فلما طهرت إذا برجل معها وذكر الآيات فلما حملت أتتها خالتها امرأة زكريا ليلة تزورها فلما فتحت لها الباب التزمتها فقالت امرأة زكريا إني حبلى فقالت لها مريم وأنا أيضا حبلى قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك.
وولدت امرأة زكريا يحيى. وقد اختلفت في مدة حملها فقيل تسعة أشهر وهو قول النصارى وقيل ثمانية أشهر فكان ذلك آية أخرى لأنه لم يعش مولود لثمانية أشهر غيره وقيل ستة أشهر وقيل ثلاث ساعات وقيل ساعة واحدة وهو أشبه بظاهر القرآن العزيز لقوله تعالى (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) عقبه بالفاء.
فلما أحست مريم خرجت إلى جانب المحراب الشرقي فأتت أقصاه

309
(فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت) وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) تعني نسي ذكري وأثري فلا يرى لي أثر ولا عين. قالت مريم كنت إذا خلوت حدثني عيسى وحدثته فإذا كان عندنا إنسان سمعت تسبيحه في بطني فناداها جبرائيل من تحتها أي من أسفل الجبل (لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا) وهو النهر الصغير أجراه تحتها فمن قرأ من تحتها بكسر الميم جعل المنادى جبرائيل ومن فتحها قال إنه عيسى أنطقه الله (وهزي إليك بجذع النخلة) كان جذعا مقطوعا فهزته فإذا هو نخلة وقيل كان مقطوعا فلما أجهدها الطلق احتضنته فاستقام واخضر وأرطب فقيل لها (وهزي إليك بجذع النخلة) فهزته فتساقط الرطب فقال لها (فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم أنسيا) وكان من صام في ذلك الزمان لا يتكلم حتى يمسي.
فلما ولدته ذهب إبليس فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت فأقبلوا يشتدون بدعوتها (فأتت به قومها تحمله).
وقيل إن يوسف النجار تركها في مغارة أربعين يوما ثم جاء بها إلى

310
أهلها فلما رأوها قالوا لها (يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) فما بالك أنت وكانت من نسل هارون أخي موسى كذا قيل.
قلت إنها ليست من هارون إنما هي من سبط يهوذا بن يعقوب من نسل سليمان بن داود وإنما كانوا يدعون بالصالحين وهارون من ولد لاوي بن يعقوب.
قالت لهم ما أمرها الله به بعد ذلك فلما أرادوها بعد ذلك على الكلام (أشارت إليه) فغضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناها (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا)، فتكلم عيسى فقال (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) فكان أول ما تكلم به العبودية ليكون أبلغ في الحجة على من يعتقد أنه إله.
وكان قومها قد أخذوا الحجارة ليرجموها فلما تكلم ابنها تركوها ثم لم يتكلم بعدها حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
وقال بنو إسرائيل ما أحبلها غير زكريا فإنه هو الذي كان يدخل عليها ويخرج من عندها فطلبوه ليقتلوه ففر منهم ثم أدركوه فقتلوه.
وقيل في سبب قتله غير ذلك وقد تقدم ذكره.
وقيل: إنه لما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك

311
فإنهم إن ظفروا بك عيروك وقتلوك وولدك.
فاحتملها يوسف النجار بها إلى أرض مصر فلما وصلا إلى تخوم مصر أدركها المخاض فلما وضعت وهي محزونة قيل لها (لا تحزني) الآية إلى (إنسيا) فكان الرطب يتساقط عليها وذلك في الشتاء وأصبحت الأصنام منكوسة على رؤوسها وفزعت الشياطين فجاؤوا إلى إبليس فلما رأى جماعتهم سألهم فأخبروه فقال قد حدث في الأرض حادث فطار عند ذلك وغاب عنهم فمر بالمكان الذي ولد فيه عيسى فرأى الملائكة محدقين به فعلم أن الحدث فيه ولم تمكنه الملائكة من الدنو من عيسى فعاد إلى أصحابه وأعلمهم بذلك وقال لهم ما ولدت امرأة إلا وأنا حاضر وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي واحتملته مريم إلى أرض مصر فمكث اثنتي عشرة سنة تكتمه من الناس فكانت تلتقط السنبل والمهد في منكبيها.
قلت والقول الأول في ولادته بأرض قومها للقرآن أصح لقول الله تعالى (فأتت به قومها تحمله) وقوله (كيف نكلم من كان في المهد صبيا).
وقيل إن مريم حملت المسيح إلى مصر بعد ولادته ومعها يوسف النجار وهي الربوة التي ذكرها الله تعالى وقيل الربوة دمشق وقيل بيت المقدس وقيل غير ذلك فكان سبب ذلك الخوف من ملك بني إسرائيل وكان من الروم واسمه هيردوس فإن اليهود أغروه بقتله فساروا إلى مصر وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة إلى أن مات ذلك الملك وعادوا إلى الشام وقيل إن هيردوس لم يرد قتله ولم يسمع به إلا بعد رفعه وإنما خافوا اليهود عليه والله أعلم

312
ذكر نبوة المسيح وبعض معجزاته
لما كانت مريم بمصر نزلت على دهقان وكانت داره يأوي إليها الفقراء والمساكين فسرق له مال فلم يتهم المساكين فحزنت مريم فلما رأى عيسى حزن أمه قال أتريدين أن أدله على ماله قالت نعم قال إنه أخذه الأعمى والمقعد اشتركا فيه حمل الأعمى المقعد فأخذه فقيل للأعمى ليحمل المقعد فأظهر العجز فقال له المسيح كيف قويت على حمله البارحة لما أخذتما المال فاعترفا وأعاداه.
ونزل بالدهقان أضياف ولم يكن عنده شراب فاهتم لذلك فلما رآه عيسى دخل بيتا للدهقان فيه صفان من جرار فأمر عيسى بيده على أفواهها وهو يمشي فامتلأت شرابا وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة.
وكان في الكتاب يحدث الصبيان بما يصنع أهلوهم وبما كانوا يأكلون.
قال وهب: بينما عيسى يلعب مع الصبيان إذ وثب غلام على صبي فضربه على رجله فقتله فألقاه بين رجلي المسيح متلطخا بالدم فانطلقوا به إلى الحاكم في ذلك البلد فقالوا قتل صبيا فسأله الحاكم ما قتلته فأرادوا أن يبطشوا به فقال ائتوني بالصبي حتى أسأله من قتله فتعجبوا من قوله وأحضروا عنده القتيل فدعا الله فأحياه فقال من قتلك
فقال قتلني فلان يعني الذي قتله فقال بنو إسرائيل للقتيل من هذا؟ قال:

313
هذا عيسى بن مريم، ثم مات الغلام من ساعته.
وقال عطاء: سلمت مريم عيسى إلى الصباغ يتعلم عنده فاجتمع عند الصباغ ثياب وعرض له حاجة فقال للمسيح هذه ثياب مختلفة الألوان وقد جعلت في كل ثوب منها خيطا على اللون الذي يصبغ به فاصبغها حتى أعود من حاجتي هذه. فأخذها المسيح وألقاها في جب واحد فلما عاد الصباغ سأله عن الثياب فقال صبغتها فقال أين هي قال في هذا الجب قال كلها قال نعم قال لقد أفسدتها على أصحابها وتغيظ عليه فقال له المسيح لا تعجل وانظر إليها وقام وأخرجها كل ثوب منها على اللون الذي أراد صاحبه فتعجب الصباغ منه وعلم أن ذلك من الله تعالى.
ولما عاد عيسى وأمه إلى الشام نزلوا بقرية يقال لها (ناصرة) وبها سميت النصارى فأقام إلى أن بلغ ثلاثين سنة فأوحى الله إليه أن يبرز للناس ويدعوهم إلى الله تعالى ويداوي المرضى والزمنى والأكمه والأبرص وغيرهم من المرضى ففعل ما أمر به وأحبه الناس وكثر أتباعه وعلا ذكره.
وحضر يوما طعام بعض الملوك وكان دعا الناس إليه فقعد على قصعة يأكل منها ولا تنقص فقال الملك من أنت قال أنا عيسى بن مريم فنزل الملك عن ملكه واتبعه نفر من أصحابه فكانوا الحواريين.
وقيل إن الحواريين هم الصباغ الذي تقوم ذكره وأصحاب له وقيل كانوا صيادين وقيل قصارين وقيل ملاحين والله أعلم.

314
وكانت عدتهم اثني عشر رجلا وكانوا إذا جاعوا أو عطشوا قالوا يا روح الله قد جعنا وعطشنا فيضرب يده إلى الأرض فيخرج لكل انسان منهم رغيفان وما يشربون فقالوا من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا فقال أفضل منكم من يأكل من كسب يده فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة.
ولما أرسله الله أظهر من المعجزات أنه صور من الطين صورة طائر ثم نفخ فيه فيصير طائرا بإذن الله قيل هو الخفاش.
وكان غالب على زمانه الطب فأتاهم بما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى تعجيزا لهم فممن أحياه عازر وكان صديقا لعيسى فمرض فأرسلت أخته إلى عيسى أن عازر يموت فسار إليه وبينهما ثلاثة أيام فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام فأتى قبره فدعا له فعاش وبقي حتى ولد له.
وأحيا امرأة وعاشت وولد لها وأحيا سام بن نوح كان يوما مع الحواريين يذكر نوحا والغرق والسفينة فقالوا لو بعثت لنا من شهد ذلك فأتى تلا وقال هذا قبر سام بن نوح ثم دعا الله فعاش وقال قد قامت القيامة فقال المسيح لا ولكن دعوت الله فأحياك فسألوه فأخبرهم ثم عاد ميتا وأحيا عزيرا النبي قال له بنو إسرائيل أحي لنا عزيرا وإلا أحرقناك فدعا الله فعاش فقالوا ما تشهد لهذا الرجل قال أشهد أنه عبد الله ورسوله وأحيا يحيى بن زكريا وأحيا غير من ذكرناه وكان يمشي على الماء

315
ذكر نزول المائدة
وكان من المعجزات العظيمة نزول المائدة وسبب ذلك أن الحواريين قالوا له يا عيسى (هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) فدعا عيسى فقال (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا).
فأنزل الله المائدة عليها خبز ولحم يأكلون منها ولا تنفذ فقال لهم إنها مقيمة ما لم تدخروا منها فمضى يومهم حتى ادخروا وقيل أقبلت الملائكة تحمل المائدة عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم وقيل كان عليها من ثمار الجنة وقيل كانت تمد بكل طعام إلا اللحم وقيل كانت سمكة فيها طعم كل شيء فلما أكلوا منها وهم خمسة آلاف وزادت حتى بلغ الطعام ركبهم قالوا نشهد أنك رسول الله ثم تفرقوا فتحدثوا بذلك فكذب به من لم يشهده وقالوا سحر أعينكم فافتتن بعضهم وكفر فمسخوا خنازير ليس فيهم امرأة ولا صبي فبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا.
وقيل كانت المائدة سفرة حمراء تحتها غمامة وفوقها غمامة وهم ينظرون إليها تنزل حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى وقال اللهم اجعلني من الشاكرين! اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة ولا عقوبة واليهود ينظرون

316
إلى شيء لم يروا مثله ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحها. فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الجنة فقال المسيح لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة إنما هو شيء خلقه الله بقدرته فقال لهم كلوا مما سألتم فقالوا له كل أنت يا روح الله فقال معاذ الله أن آكل منها فلم يأكل ولم يأكلوا منها فدعا المرضى والزمنى والفقراء فأكلوا منها وهم ألف وثلاثمائة فشبعوا وهي بحالها لم تنقص فصح المرضى والزمنى واستغني الفقراء ثم صعدت وهم ينظرون إليها حتى توارت وندم الحواريون حيث لم يأكلوا منها.
وقيل إنها نزلت أربعين يوما كانت تنزل يوما وتنقطع يوما وأمر الله عيسى أن يدعو إليها الفقراء دون الأغنياء ففعل ذلك فاشتد على الأغنياء وجحدوا نزولها وشكوا في ذلك وشككوا غيرهم فيها فأوحى الله إلى عيسى إني شرطت أن أعذب المكذبين عذابا لا أعذب به أحد من العالمين فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين رجلا فأصبحوا خنازير فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى وبكوا وبكى عيسى على الممسوخين فلما أبصرت الخنازير عيسى بكوا وطافوا به وهو يدعوهم بأسمائهم ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.
ذكر رفع السيد المسيح إلى السماء ونزوله على أمه
وعوده إلى السماء
قيل إن عيسى استقبله ناس من اليهود فلما رأوه قالوا قد جاء الساحر ابن الساحرة الفاعل ابن الفاعلة وقذفوه وأمه فسمع ذلك ودعا عليهم

317
فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير فلما رأى ذلك رأس بني إسرائيل فزع وخاف وجمع كلمة اليهود على قتله فاجتمعوا عليه فسألوه فقال يا معشر اليهود إن الله يبغضكم فغضبوا من مقالته وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله إليه جبريل فأدخله في خوخة إلى بيت فيها روزنة في سقفها فرفعه إلى السماء من تلك الروزنة فأمر رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه قطيبانوس أن يدخل إليه فيقتله فدخل فلم ير أحدا وألقى الله عليه شبه المسيح فخرج إليهم فظنوه عيسى فقتلوه وصلبوه.
وقيل: إن عيسى قال لأصحابه أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: أنا يا روح الله. فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب.
وقيل: أن الذي شبه بعيسى وصلب رجل إسرائيلي اسمه يوشع أيضا.
وقيل: لما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع من الموت فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما فقال احضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا عشاهم وقام يخدمهم فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذلك وكرهوه فقال من يرد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني فأقروه حتى فرغ من ذلك ثم قال أما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن بي أسوة فلا يتعاظم بعضكم على بعض وأما حاجتي التي أستغيثكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي فلما نصبوا أنفسهم للدعاء أخذهم النوم حتى ما يستطيعون الدعاء فجعل يوقظهم ويقول سبحان الله ما تصبرون لي ليلة قالوا:

318
والله ما ندري ما لنا لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نقدر عليه الليلة وكلما نريد الدعاء حيل بيننا وبينه فقال يذهب بالراعي ويفترق الغنم وجعل ينعى نفسه ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني أحدكم بدارهم يسيرة وليأكلن ثمني.
فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا: هذا صاحبه.
واختلف العلماء في موته قبل رفعه إلى السماء فقيل رفع ولم يمت وقيل توفاه الله ثلاث ساعات ثم أحياه ورفعه ولما رفع إلى السماء قال الله له انزل فلما قالوا لشمعون عن المسيح جحد وقال ما أنا صاحبه فتركوه وفعلوا ذلك ثلاثا فلما سمع صياح الديك بكى وأحزنه ذلك. وأتى أحد الحواريين إلى اليهود فدلهم على المسيح وأعطوه ثلاثين درهما فأتى معهم إلى البيت الذي فيه المسيح فدخله فرفع الله المسيح وألقى شبهه على الذي دلهم عليه فأخذوه وأوثقوه وقادوه وهم يقولون له أنت كنت تحيي الموتى وتفعل كذا وكذا فهلا تنجي بنفسك وهو يقول أنا الذي دللتكم عليه فلم يصغوا إلى قوله ووصلوا به إلى الخشبة وصلبوه عليها.
وقيل إن اليهود لما دلهم عليه الحواري اتبعوه وأخذوه من البيت الذي كان فيه ليصلبوه فاظلمت الأرض وأرسل الله ملائكة فحالوا بينهم وبينه وألقى شبه المسيح على الذي دلهم عليه فأخذوه ليصلبوه فقال أنا الذي

319
دلكم عليه، فلم يلتفتوا إليه فقتلوه وصلبوه عليها. ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفاه ثلاث ساعات وقيل سبع ساعات ثم أحياه ورفعه ثم قال له: انزل إلى مريم فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها فنزل عليها بعد سبعة أيام فاشتعل الجبل حين هبط نورا وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك! قال: إني رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير وإن هذا شيء (شبه لهم) وأمرها فجمعت له الحواريين فبثهم الله في الأرض رسلا عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به ثم رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا.
فتفرق الحواريون حيث أمرهم فتلك الليلة التي أهبط الله فيها هي التي تدخن فيها النصارى.
وتعدى اليهود على بقية الحواريين يعذبوهم ويشتمونهم فسمع بذلك ملك الروم واسمه هيردوس وكانوا تحت يده وكان صاحب وثن فقيل له إن رجلا كان في بني إسرائيل وكان يفعل الآيات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين والإخبار عن الغيوب فعدوا عليه فقتلوه وكان يخبرهم أنه رسول الله فقال الملك ويحكم ما منعكم أن تذكروا هذا من أمره فوالله لو علمت ما خليت بينهم وبينه.
ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيدي اليهود وسألهم عن دين عيسى فأخبروه وتابعهم على دينهم واستنزل

320
المصلوب الذي شبه لهم فغيبه وأخذ الخشبة التي صلب عليها فأكرمها وصانها وعدا على بني إسرائيل فقتل منهم قتلى كثيرة فمن هناك كان أصل النصرانية في الروم.
وقيل كان هذا الملك هيردوس ينوب عن ملك الروم الأعظم الملقب قيصر واسمه طيباريوس وكان هذا يسمى ملكا وكان ملك طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة منها إلى ارتفاع المسيح ثماني عشرة سنة وأياما.

321
ذكر من ملك الروم بعد رفع المسيح
إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
زعموا أن ملك الشام جميعه صار بعد طيباريوس إلى ولده جايوس وكان ملكه أربع سنين، ثم ملك بعده ابن له آخر اسمه قلوديوس أربعة عشرة سنة ثم ملك بعده نيرون الذي قتل بطرس وبولس فصلبهما منكسين أربع عشرة ساعة ثم ملك بعده بوطلايس أربعة أشهر ثم ملك اسفسيانوس وهذا الذي وجه ابنه طيطوس إلى بيت المقدس فهدمه وقتل من بني إسرائيل غضبا للمسيح ثم ملك ابنه طيطوس ثم ملك أخوه دومطيانوس ست عشرة سنة ثم ملك بعده نارواس ست سنين ثم ملك من بعده طرايانوس تسعة عشرة سنة ثم ملك بعده هدريانوس إحدى وعشرين سنة ثم ملك من بعده أنطونينوس بن بطيانوس اثنتين وعشرين سنة ثم ملك من بعده فرطيناجوس ستة أشهر ثم ملك بعده سيواروش أربع عشرة سنة ثم ملك بعده انطينانوس سبع سنين ثم ملك من بعده مرقيانوس ست سنين ثم ملك من بعده انطينانوس أربع سنين وفي ملكه مات جالينوس الطبيب ثم ملك الخسندروس ثلاث عشرة سنة ثم ملك مكسيمانوس ثلاث سنين ثم ملك جورديانوس ست سنين ثم فيلفوس سبع سنين ثم ملك داقيوس ست سنين ثم ملك قالوس ست سنين ثم ملك والرييانوس وقالينوس خمس عشرة سنة ثم ملك قلوديوس سنة ثم ملك قريطاليوس شهرين ثم ملك أورليانوس

322
خمس سنين ثم ملك طيقطوس ستة أشهر ثم ملك فولورنوس خمسة وعشرين يوما ثم ملك فروبوس ست سنين ثم ملك دقلطيانوس ست سنين ثم ملك مخسيميانوس عشرين سنة ثم قسطنطين ثلاثين سنة ثم ملك يليانوس سنتين ثم ملك يويانوس سنة ثم ملك والنطيانوس وغرطيانوس عشر سنين ثم ملك خرطيانوس ووالنطيانوس الصغير سنة ثم ملك تيداسيس الأكبر سبع عشرة سنة ثم ارقاديوس وانوريوس عشرين سنة ثم ملك تيداسيس الأصغر ووالنطيانوس ست عشرة سنة ثم ملك مرقيانوس سبع سنين ثم ملك لاو ست عشر سنين ثم ملك زانون ثماني عشرة سنة ثم ملك أنسطاس سبعا وعشرين سنة ثم ملك يوسطنيانوس تسع سنين ثم ملك يوسطنيانوس الشيخ عشرين سنة ثم ملك يوسطينس اثنتي عشرة سنة ثم ملك طيباريوس ست سنين ثم مريقيش وتاداسيس ابنه عشرين سنة ثم ملك فوقا الذي قتل سبع سنين وستة أشهر ثم هرقل الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
فمن لدن عمر البيت المقدس بعد أن أخربه بختنصر إلى الهجرة على قولهم ألف سنة ونيف ومن ملك الإسكندر إليها تسعمائة ونيف وعشرون سنة فمن ذلك من وقت ظهوره إلى مولد عيسى عليه السلام ثلاثمائة سنة وثلاث سنين ومن مولده إلى ارتفاعه اثنتان وثلاثون سنة ومن وقت ارتفاعه إلى الهجرة خمسمائة وخمس وثمانون سنة وأشهر.
هذا الذي ذكره أبو جعفر من عدد ملوك الروم وقد أخلى عن شيء من الحوادث التي كانت في أيامهم وقد سطرها غيره من العلماء بالتاريخ وخالفه في كثير منها ووافقه في الباقي مع مخالفة الاسم وأضاف إلى أسمائهم ذكر شيء من الحوادث في أيامهم وأنا أذكره مختصرا إن شاء الله.

323
ذكر ملوك الروم وهم ثلاث طبقات،
فالطبقة الأولى الصابئون
ذكر غير واحد من علماء التاريخ أن الروم غلبت اليونان وهم ولد صوفير والإسرائيليون يدعون أن صوفير هو الأصعر بن نفر بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم وكانوا ينزلون رومية قبل غلبتهم على اليونان وكانوا يدينون قبل النصرانية بمذهب الصابئين ولهم أصنام يعبدونها على عادة الصابئين فكان أول ملوكهم برومية غاليوس وكان ملكه اثني عشرة سنة. وقيل كان ملكه قبل روملس وارمانوس وهما بنياها وإليهما نسبت وأضيفت الروم إليها وإنما غاليوس أول من يعد في التاريخ لشهرته.
ثم ملك بعده يوليوس أربع سنين وأربعة أشهر ثم ملك أوغسطس ومعناه الصباء وهو أول من سمي قيصر وتفسير ذلك أنه شق عن بطن أمه لأنها ماتت وهي حامل به فأخرج من بطنها ثم صار ذلك لقبا لملوكهم وكان ملكه ستا وخمسين سنة وخمسة أشهر وأكثر المؤرخين يبتدئون باسمه لأنه أول من خرج من رومية وسير الجنود برا وبحرا وغزا اليونانيين واستولى على ملكهم وقتل قلوبطرة آخر ملوكهم واستولى على الإسكندرية ونقل ما فيها إلى رومية وملك الشام واضمحل ملك اليونانيين ودخلوا في الروم واستخلف على بيت المقدس هيردوس بن انطيقوس ولاثنتين وأربعين سنة من ملكه كانت ولادة المسيح وهو الذي بني قيصارية.
ثم ملك بعده طيباريوس ثلاثا وعشرين سنة وهو الذي بني مدينة طبرية فأضيفت إليه وعربها العرب وفي ملكه رفع المسيح عليه السلام

324
وملك بعده رفعه ثلاث سنين.
ثم ملك بعده ابنه غايوس أربع سنين وهو الذي قتل اصطفنوس رئيس الشمامسة عند النصارى ويعقوب أخا يوحنا بن زبدى وهما من الحواريين وقتل خلقا من النصارى وهو أول الملوك من عباد الأصنام قتل النصارى.
ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة وفي ملكه حبس شمعون الصفا ثم خلص شمعون من الحبس وسار إلى أنطاكية فدعا إلى النصرانية ثم سار إلى رومية فدعا أهلها أيضا فأجابته زوجة الملك وسارت إلى بيت المقدس وأخرجت الخشبة وردتها إلى النصارى.
ثم ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكسين وفي أيامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف وهو أول الأساقفة بالبيت المقدس فقتلوه وأخذوا خشبة الصليب وفي أيامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض.
ثم ملك بعده غلباس سبعة أشهر ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر ثم ملك بيطاليس أحد عشرة شهرا ثم ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر فحصرهم وافتتح المدينة عنوة وقتل كثيرا من أهلها من اليهود والنصارى وعمهم الأذى في أيامه.
ثم ملك ابنه طيطوس سنتين وثلاثة أشهر وفي أيامه أظهر مرقبون مقالته بالاثنين وهما الخير والشر وبعد ثالث بينهما وإليه تنسب المرقونية وهو من أهل حران.
ثم ملك ذو مطيانش بن اسباسيانوس خمس عشرة سنة وعشرة أشهر،

325
ولتسع لسنين من ملكه نفى يوحنا الحواري كاتب الإنجيل إلى جزيرة في البحر ثم رده.
ثم ملك نرواس سنة وخمسة أشهر.
ثم ملك طرايانوس تسع عشرة سنة وفي السادسة من ملكه توفي حنا كاتب الإنجيل بمدينة أفسوس ثم ملك إيليا اندريانوس عشرين سنة وقتل من اليهود والنصارى خلقا كثيرا لخلاف كان منهم عليه وأخرب البيت المقدس وهو أخر خرابه فلما مضى من ملكه ثمان سنين عمره أيضا وسماه إيليا فبقي الاسم عليه فكان ذلك يسمى أورشليم وأسكن المدينة جماعة من الروم واليونان، وبنى هيكلا عظميا للزهرة وكان عالي البنيان فهدم من أعلاه كثير وهو باق إلى يومنا هذا وهو سنة ثلاث وستمائة وقد رأيته وهو محكم البناء ولا أدري كيف نسب إلى داود وقد بني بعده بدهر طويل على أنني سمعت بالبيت المقدس من جماعة يذكرون أن داود بناه وكان يتفرغ فيه لعبادته.
وفي أيام هذا الملك كان ساقيدس الفيلسوف الصامت.
ثم ملك أنطنينس بيوس اثنتين وعشرين سنة وفي أيامه كان بطليموس صاحب المجسطي والجغرافيا وغيرهما وقيل إنه من ولد قلوديوس ولهذا قيل له القلودي نسبة إليه وهو السادس من ملوك الروم.
ودليل كونه في هذا الزمان وليس من ملوك اليونان أنه ذكر في كتاب المجسطي أنه رصد الشمس الإسكندرية سنة ثمانمائة وثمانين لبخت نصر وكان من ملك بختنصر إلى قتل دارا أربعمائة وتسع وعشرين سنة وثلاثمائة وستة عشر يوما ومن قتل دارا إلى زوال ملك كليوباترا الملكة آخر ملوك اليونان على يد أوغسطس مائتا سنة وست وثمانون سنة ومدة غلبة أوغسطس إلى أنطنينوس مائة وسبع

326
وستون سنة فمذ ملك بختنصر إلى أدريانوس ثمانمائة وثلاث وثمانون سنة تقريبا وهذا موافق لما حكاه بطليموس.
قال ومن زعم أن ابن كليوباترا آخر ملوك اليونانيين فقد أبطل ذكر هذا بعض العلماء بالتاريخ وعد ملوك اليونان وذكر مدة ملكهم على ما قال وأما أبو جعفر الطبري فإنه ذكر في مدة ملكهم مائتي سنة وسبعا وعشرين سنة على ما تقدم ذكره.
ثم ملك بعده مرقس ويسمى أورليوس تسع عشرة سنة وفي ملكه أظهر ابن ديصان مقالته وكان أسقفا بالرهاء وهو من القائلين بالاثنين ونسب إلى نهر على باب الرها يسمى ديصان وجد عليه منبوذا وبنى على هذا النهر كنيسة.
ثم ملك قومودوس اثنتي عشرة سنة وفي أيامه كان جالينوس قد أدرك بطليموس القلودي وكان دين النصرانية قد ظهر في أيامه وذكرهم في كتابه في جوامع كتاب أفلاطون في السياسة.
ثم ملك برطينقش ثلاثة أشهر ثم ملك يوليانوس شهرين ثم ملك سيوارس سبع عشرة سنة وشمل اليهود والنصارى في أيامه القتل والتشريد وبنى بالإسكندرية هيكلا عظيما سماه هيكل الآلهة.
ثم ملك أنطونيوس ست سنين ثم ملك مقرونيوس سنة وشهرين ثم ملك أنطونيوس الثاني أربع سنين ثم ملك الاكصندروس ويلقب مامياس ثلاث عشرة سنة ثم ملك مقسميانوس ثلاث سنين ثم ملك مقسموس ثلاثة أشهر ثم ملك غرديانوس ست سنين ثم ملك فيلبوس ست سنين،

327
وتنصر وترك دين الصابئين وتبعه كثير من أهل مملكته واختلفوا لذلك وكان فيمن خالفه بطريق يقال له داقيوس فقتل فيلبوس واستولى على الملك ثم ملك بعده فيلبس داقيوس سنتين وتتبع النصارى فهرب منه أصحاب الكهف إلى غار في جبل شرقي مدينة أفسوس وقد خربت المدينة وكان لبثهم فيه مائة وخمسين سنة.
وهذا باطل لأنه على هذا السياق من حين رفع المسيح إلى الآن نحو مائتي سنة وخمس عشرة سنة وكان لبث أصحاب الكهف على ما نطق به القرآن المجيد ثلاثمائة سنة (وازدادوا تسعا) فلذلك خمسمائة سنة وأربع وعشرين سنة فعلى هذا يكون ظهورهم قبل الإسلام بنحو ستين سنة وقد ذكرنا أن من لدن ظهورهم إلى الهجرة زيادة على مائتي سنة فهذه الجملة أكثر من الفترة بين المسيح والنبي عليهما الصلاة والسلام إلا أن هذا الناقل قد ذكر أن غيبتهم كانت مائة وخمسين سنة على ما تراه مذكورا وفيه مخالفة للقرآن ولولا نص القرآن لكان استقام له ما يريد.
ثم ملك بعده غاليوس سنتين وكان شريكه في الملك يوليانوس ملك خمس عشرة سنة ثم ملك قلوديوس ثم ملك ابنه أورليانوس ست سنين ثم ملك طافسطوس وأخوه فورس تسعة أشهر ثم بروبس تسع سنين ثم ملك قاروس سنتين وخمسة أشهر ثم ملك دقلطيانوس سبع عشرة سنة ثم ملك مقسيمانوس وشاركه مقسمطيوس ثم اقتتلا فاقتسما الملك، فملك

328
الأب على الشام وبلاد الجزيرة وبعض الروم وملك الابن رومية وما اتصل بها من أرض الفرنج وملكا تسع سنين وتملك معهما قسطنطين أبو قسطنطين بلاد بورنطيا وما يليها وهي نواحي القسطنطينية ولم تكن بنيت حينئذ ثم مات قسطنس وملك بعده ابنه قسطنطين المعروف بأمه هيلانى وهو الذي تنصر.
قال ومن أول ملوك الروم إلى ههنا كانوا شبيهين بملوك الطوائف لا ينضبط عددهم وقد اختلف الناس فيهم كاختلافهم في ملوك الطوائف وإنما الذي يعول عليه من قسطنطين إلى هرقل الذي بعث محمد في أيامه ولقد صدق قائل هذا فإن فيه من الاختلاف والتناقض ما ذكرنا بعضه عند ذكر دقيوس وأصحاب الكهف ولهذه العلة لم يذكر الطبري أصحاب الكهف في زمان أي الملوك كانوا ذكرناه نحن لما في أيام الملوك من الحوادث.
الطبقة الثانية من ملوك الروم المتنصرة
ثم ملك قسطنطين المعروف بأمه هيلانى في جميع بلاد الروم وجرى بينه وبين مقسيمانوس وابنه حروب كثيرة فلما مات استولى على الملك وتفرد به وكان ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر وهو الذي تنصر من ملوك الروم وقاتل عليها حتى قبلها الناس ودانوا بها إلى هذا الوقت.
قد اختلفوا في سبب تنصره فقيل إنه كان به برص وأرادوا نزعه

329
فأشار عليه بعض وزراءه ممن كان يكتم النصرانية بإحداث دين يقاتل عليه ثم حسن له النصرانية يساعده من دان به ففعل ذلك فتبعه النصارى من الروم مع أصحابه وخاصته فقوي بهم وقهر من خالفه. وقيل إنه سير عساكر على أسماء أصنامهم فانهزمت العساكر وكان لهم سبعة أصنام على أسماء الكواكب السبعة على عادة الصابئين فقال له وزير له يكتم النصرانية في هذا وأزرى بالأصنام وأشار عليه بالنصرانية فأجابه فظفر ودام ملكه وقيل غير ذلك.
وهو الذي بنى مدينة القسطنطينية لثلاث سنين خلت من ملكه بمكانها الآن اختاره لحصانته وهي على الخليج الآخذ من البحر الأسود إلى بحر الروم والمدينة على البر المتصل برومية وبلاد الفرنج والأندلس والروم تسميها استنبول يعني مدينة الملك.
ولعشرين سنة مضت من ملكه كان السنهودس الأول بمدينة نيقية من بلاد الروم ومعناه الاجتماع فيه ألفان وثمانية وأربعون أسقفا فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا متفقين غير مختلفين فحرموا له أريوس الإسكندراني الذي يضاف إليه الآريوسية من النصارى ووضع شرائع النصرانية بعد ان لم تكن وكان رئيس هذا الجمع بطرق الإسكندرية.
وفي السنة السابعة من ملكه صارت أمه هيلانى الرهاوية كان أبوه سباها من الرها فأولدها هذا الملك فسارت إلى البيت المقدس وأخرجت الخشبة التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها وجعلت ذلك اليوم عيدا فهو عيد الصليب وبنت الكنيسة المعروفة بقمامة وتسمى القيامة وهي إلى وقتنا هذا يحجها أنواع النصارى وقيل كان مسيرها بعد ذلك لأن ابنها

330
دان بالنصرانية في قول بعضهم بعد عشرين سنة من ملكه وفي السنة الحادية والعشرين من ملكه طبق جميع ممالكه بالبيع هو وأمه منها كنيسة حمص وكنيسة الرها وهي من العجائب.
ثم ملك بعده قسطنطين أنطاكية أربعا وعشرين سنة بعهد من أبيه إليه وسلم إليه القسطنطينية وإلى أخيه قسطنس أنطاكية والشام ومصر والجزيرة وإلى أخيه قسطوس رومية وما يليها من بلاد الفرنج والصقالبة وأخذ عليهما المواثيق بالانقياد لأخيهما قسطنطين.
ثم ملك بعد يوليانوس ابن أخيه سنتين وكان يدين بمذهب الصابئين ويخفي ذلك فلما ملك أظهرها وخرب البيع وقتل النصارى وهو الذي سار إلى العراق أيام سابور بن اردشير فقتل بسهم غرب وقد ذكر أبو جعفر خبر هذا الملك مع سابور ذي الأكتاف وهو بعد سابور بن اردشير.
ثم ملك بعده يونيانوس سنة أظهر دين النصرانية ودان بها وعاد عن العراق.
ثم ملك بعده ولنطيوش اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر ثم ملك والنس ثلاث سنين وثلاثة أشهر ثم ملك والنطيانوس ثلاث سنين، ثم ملك تدوس الكبير ومعناه عطية الله تسع عشرة سنة وفي ملكه كان السنهودس الثاني بمدينة القسطنطينية اجتمع فيه مائة وخمسون أسقفا لعنوا مقدونس وأشياعه وكان فيه بطرق الإسكندرية وبطرق أنطاكية وبطرق البيت المقدس والمدن التي يكون فيها كراسي البطرق أربع إحداها رومية وهي لبطرس الحواري والثانية الإسكندرية وهي لمرقس أحد أصحاب الأناجيل الأربعة والثالثة

331
القسطنطينية والرابعة أنطاكية وهي لبطرس أيضا. ولثماني سنين من ملكه ظهر أصحاب الكهف.
ثم ملك بعده أرقاديوس بن تدوس ثلاث عشرة سنة ثم ملك تدوس الصغير بن تدوس الكبير اثنتين وأربعين سنة ولإحدى وعشرين سنة من ملكه كان السنهودس الثالث بمدينة أفسوس وحضر هذا المجمع مائة أسقف وكان سببه ما ظهر من نسطورس بطرق القسطنطينية وهو رأس النسطورية من النصارى من مخالفة مذهبهم فلعنوه ونفوه فسار إلى صعيد مصر فأقام ببلاد إخميم ومات بقرية يقال لها سيصلح وكثر اتباعه وصار بسبب ذلك بينهم وبين مخالفيهم حرب وقتال ثم دثرت مقالته إلى أن أحياها برصوما مطران نصيبين قديما.
ومن العجائب أن الشهرستاني مصنف كتاب نهاية الإقدام في الأصول ومصنف كتاب الملل والنحل في ذكر المذاهب والآراء القديمة والجديدة ذكر فيه أن نسطور كان أيام المأمون وهذا تفرد به ولا أعلم له في ذلك موافقا.
ثم ملك بعده مرقيان ست سنين وفي أول سنة من ملكه كان السنهودس الرابع على تسقرس بطرق القسطنطينية اجتمع فيه ثلاثمائة وثلاثون أسقفا وفي هذا المجمع خالفت اليعقوبية سائر النصارى.
ثم ملك ليون الكبير ست عشرة سنة ثم ملك ليون الصغير سنة وكان يعقوبي المذهب ثم ملك زينون سبع سنين وكان يعقوبيا فزهد في الملك فاستخلف ابنا له فهلك فعاد إلى الملك ثم ملك نسطاس سبعا وعشرين سنة وكان يعقوبي المذهب وهو الذي بنى عمورية، فلما حفر أساسها

332
أصاب فيه مالا وفي بالنفقة على بنائها وفضل منه شيء بنى به بيعا وأديرة.
ثم ملك يوسطين سبع سنين وأكثر القتل في اليعقوبية.
ثم ملك يوسطانوس تسعا وعشرين سنة وبنى بالرهاء كنيسة عجيبة وفي أيامه كان السنهودس الخامس بالقسطنطينية فحرموا أدريحا أسقف منبج لقوله بتناسخ الأرواح في أجساد الحيوان وأن الله يفعل ذلك جزاء لما ارتكبوه. وفي أيامه كان بين اليعاقبة والملكية ببلاد مصر فتن وفي أيامه ثار اليهود بالبيت المقدس وجبل الخليل على النصارى فقتلوا منهم خلقا كثيرا وبنى الملك من البيع والأديرة شيئا كثيرا ثم ملك يوسطينوس ثلاث عشرة سنة وفي أيامه كان كسرى أنوشروان ثم ملك طباريوس ثلاث سنين وثمانية أشهر وكان بينه وبين أنوشروان مراسلات ومهاداة وكان مغري بالبناء وتحسينه وتزويقه.
ثم ملك موريق عشرين سنة وأربعة أشهر وفي أيامه ظهر رجل من أهل مدينة حماة يعرف بمارون إليه تنسب المارونية من النصارى وأحدث رأيا يخالف من تقدمه وتبعه خلق كثير بالشام ثم إنهم انقرضوا ولم يعرف الآن منهم أحد.
وهذا موريق هو الذي قصده كسرى أبرويز حين انهزم من بهرام جوبين فزوجه ابنته وأمده بعساكره وأعاده إلى ملكه على ما نذكره إن شاء الله.
ثم ملك بعده فوقاس وكان من بطارقة موريق فوثب به فاغتاله فقتله

333
وملك الروم بعده وكان ملكه ثمان سنين وأربعة أشهر ولما ملك تتبع ولد موريق وحاشيته بالقتل فلما بلغ ذلك أبرويز غضب وسير الجنود إلى الشام ومصر فاحتوى عليهما وقتلوا من النصارى خلقا كثيرا وسيرد ذلك عند ذكر أبرويز ثم ملك هرقل وكان سبب ملكه أن عساكر الفرس لما فتكت في الروم ساروا حتى نزلوا على خليج القسطنطينية وحصروها وكان هرقل بحمل الميرة في البحر إلى أهلها فحسن موقع ذلك من الروم وبانت شهامته وشجاعته وأحبه الروم فحملهم على الفتك بفوقاس وذكرهم سوء آثاره ففعلوا ذلك وقتلوه وملكوا عليهم هرقل.
ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الروم بعد الهجرة
فأولهم هرقل قد ذكر سبب ملكه وكان مدة ملكه خمسا وعشرين سنة وقيل إحدى وثلاثين سنة وفي أيامه كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ملك المسلمون الشام.
ثم ملك بعده ابنه قسطنطين وقيل هو ابن أخيه قسطنطين وكان ملكه تسع سنين وستة أشهر وسيرد خبره عند ذكر غزاة الصواري إن شاء الله وفي أيامه كان السندس السادس على لعن رجل يقال له قورس الإسكندري

334
خالف المكية ووافق المارونية.
ثم ملك بعده ابنه قسطا خمس عشرة سنة في خلافة علي عليه السلام ومعاوية ثم ملك هرقل الأصغر بن قسطنطين أربع سنين وثلاثة أشهر ثم ملك قسطنطين بن قسطا ثلاث عشرة سنة بعض أيام معاوية وأيام يزيد وابنه معاوية ومروان بن الحكم وصدرا من أيام عبد الملك ثم ملك أسطينان المعروف بالأخرم تسع سنين أيام عبد الملك ثم خلعه الروم وخرموا أنفه وحمل إلى بعض الجزائر فهرب ولحق بملك الخزر واستنجده فلم ينجده فانتقل إلى ملك برجان ثم ملك بعده لونطش ثلاث سنين أيام عبد الملك ثم ترك الملك وترهب ثم ملك السمين المعروف بالطرسوسي سبع سنين فقصده أسطينان ومعه برجان وجرى بينهما حروب كثيرة وظفر به أسطينان وخلعه وعاد إلى ملكه فكان ذلك أيام الوليد بن عبد الملك واستقر أسطينان وكان قد شرط لملك برجان أن يحمل إليه خراجا كل سنة فعسف الروم وقتل بها خلقا كثيرا فاجتمعوا عليه وقتلوه فكان ملكه الثاني سنتين ونصفا وكان قتله أول دولة سليمان بن عبد الملك ثم ملك نسطاس بن فيلفوس وكان في أيامه اختلاف بين الروم فخلعوه ونفوه.
ثم ملك تيدوس المعروف بالأرمني في أيام سليمان بن عبد الملك أيضا وهو الذي حصره مسلمة بن عبد الملك ثم ملك بعده اليون بن قسطنطين لضعفه عن الملك وصمن أليون للروم رد المسلمين عن القسطنطينية فملكوه فكان ملكه ستا وعشرين سنة ومات في السنة التي بويع فيها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ثم ملك بعده ابنه قسطنطين إحدى وعشرين سنة وفي أيامه انقرضت

335
الدولة الأموية وتوفي لعشر سنين مضت من أيام المنصور ثم ملك بعده ابنه اليون تسع عشرة سنة وأربعة أشهر بقية أيام المنصور وتوفي في خلافة المهدي ثم ملك بعده ريني امرأة اليون بن قسطنطين ومعها ابنها قسطنطين بن اليون وهي تدبر الأمر بقية أيام المهدي والهادي وصدرا من خلاقة الرشيد فلما كبر ابنها أفسد ما بينه وبين الرشيد وكانت أمه مهادنة له فقصده الرشيد وجرى له معه وقعة فانهزم وكاد يؤخذ فكحلته أمه وانفردت بالملك بعده خمس سنين وهاذنت الرشيد.
ثم ملك بعدها نقفور، أخذ الملك منها، وكان ملكه سبع سنين وثلاثة أشهر، وهو نقفور بن استبراق وكنت قد رايته مضبوطا بكثير من الكتب بسكون القاف حتى رأيت رجلا يزعم ان اسمه نقفور اخذ الملك منها وكان ملكه بسكون القاف حتى رأيت رجلا يزعم أن أسمه نقفور بفتح القاف.
وعهد نقفور إلى ابنه استبراق بالملك بعده وهو أول من فعل ذلك في الروم ولم يكن يعرف قبله وكانت ملوك الروم قبل نقفور تحلق لحاها وكذلك الفرس فلم يفعله نقفور وكانت ملوك الروم قبلة تكتب من فلان ملك النصرانية فكتب نقفور من فلان ملك الروم وقال لست ملك النصرانية كلها وكانت الروم تسمي العرب سارقيوس يعني عبيد سارة بسبب هاجر أم إسماعيل فنهاهم عن ذلك وجرى بين نقفور وبين برجان حرب سنة ثلاث وتسعين ومائة فقتل فيها.
ثم ملك بعده ابنه استبراق بعهد من أبيه إليه وكان ملكه شهرين ثم ملك بعده ميخائيل بن جرجس وهو ابن عم نقفور وقيل ابن استبراق وكان ملكه سنتين في أيام الأمين وقيل أكثر من ذلك فوثب به اليون المعروف بالبطريق وغلب على الأمر وحبسه ثم ملك بعده اليون البطريق سبع سنين وثلاثة أشهر فوثب به أصحاب ميخائيل في خلاص صاحبهم وقتل

336
اليون ثم فتح لهم ذلك وعاد ميخائيل إلى الملك وقيل إنه كان قد ترهب أيام أليون وكان ملكه هذه الدفعة الثانية تسع سنين وقيل أكثر من ذلك.
ثم ملك بعده ابنه توفيل بن ميخائيل أربع عشرة سنة وهو الذي فتح زبطرة وسار المعتصم بسبب ذلك وفتح عمورية وكان موته أيام الواثق ثم ملك بعده ابنه ميخائيل ثمانيا وعشرين سنة وكانت أمه تدبر الملك معه وأراد قتلها فترهبت وخرج عليه رجل من أهل عمورية من أبناء الملوك السالفة يعرف بابن بقراط فلقيه ميخائيل فيمن عنده من أسارى المسلمين فظفر به ميخائيل فمثل به ثم خرج عليه بسيل الصقلبي فاستولى على الملك وقتل ميخائيل سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
ثم ملك بعده بسيل الصقلبي عشرين سنة أيام المعتز والمهتدي وصدرا من أيام المعتمد وكانت أمه صقلبية فنسب إليها.
وقد غلط حمزة الأصفهاني فيه فقال عند ذكر ميخائيل ثم انتقل الملك عن الروم وصار في الصقلب فقتله بسيل الصقلبي ظنا منه أن أباه كان صقلبيا.
ثم ملك بعده ابنه اليون بن بسيل ستا وعشرين سنة أيام المعتمد والمعتضد والمكتفي وصدرا من أيام المقتدر وقيل إن وفاته كانت سنة سبع وتسعين ومائتين.
ثم ملك أخوه الأكسندروس سنة وشهرين ومات بالدبيلة وقيل إنه اغتيل لسوء سيرته ثم ملك بعدته قسطنطين بين اليون وهو صبي وتولى الأمر له بطريق البحر واسمه ارمانوس وشرط على نفسه شروطا منها أنه لا يطلب الملك ولا يلبس التاج لا هو ولا أحد من أولاده فلم يمض غير سنتين حتى خوطب هو وأولاده بالملوك وجلس مع قسطنطين على السرير،

337
وكان له ثلاثة من الولد فخصى أحدهم وجعله بطرقا ليأمن من المنازعة فإن البطرق يحكم على الملك فبقي على حاله إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة فاتفق ابناه مع قسطنطين الملك على إزالة أبيهما فدخلا عليه وقبضاه وسيراه إلى دير له في جزيرة بالقرب من القسطنطينية وأقام ولداه مع قسطنطين نحو أربعين يوما وأرادا الفتك به فسبقهما إلى ذلك وقبض وسيرهما إلى جزيرتين في البحر فوثب أحدهما بالموكل به فقتله وأخذه أهل تلك الجزيرة فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى قسطنطين الملك فجزع لقتله وأما ارمانوس فإنه مات بعد أربع سنين من ترهبه ودام ملك قسطنطين أيام المقتدر والقاهر والراضي والمستكفي وبعض أيام المطيع ثم خرج على قسطنطين هذا قسطنطين بن أندرونقس وكان أبوه قد توجه إلى المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين وأسلم على يده وتوفي فهرب ابنه هذا على طريق أرمينية وأذربيجان إلى بلاد الروم فاجتمع عليه خلق كثير وكثر أتباعه فسار إلى القسطنطينية ونازع الملك قسطنطين في ملكه وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة فظفر به الملك فقتله وخرج عن طاعته أيضا صاحب رومية وهي كرسي ملك الإفرنج وتسمى بالملك ولبس ثياب الملوك وكان قبل ذلك يطبع ملوك الروم أصحاب القسطنطينية ويصدرون عن أمرهم فلما كان ستة أربعين وثلاثمائة قوي ملك رومية فخرج عن طاعته فأرسل اليه قسطنطين العساكر يقاتلونه ومن معه من الإفرنج فالتقوا واقتتلوا فانهزمت الروم وعادت إلى القسطنطينية منكوبة فكف حينئذ قسطنطين عن معارضته ورضي بالمسالمة وجرى بينهما مصاهرة فزوج قسطنطين ابنه أرمانوس بابنة ملك رومية ولم يزل أمر

338
الإفرنج بعد هذا يقوى ويزداد ويتسع ملكهم كالاستيلاء على بعض بلاد الأندلس على ما نذكر وكأخذهم جزيرة صقلية وبلاد ساحل الشام والبيت المقدس على ما نذكره وفي آخر الأمر ملكوا القسطنطينية سنة إحدى وستمائة على ما نذكره إن شاء الله.
ومما ينبغي أن يلحق بهذا أن الطوائف من الترك اجتمعت منهم البجناك والبختي وغيرهما وقصدوا مدينة للروم قديمة تسمى (وليدر) سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحصروها فبلغ خبرهم إلى أرمانوس فسير إليهم عسكر كثيفا فيهم من المتنصرة إثنا عشر ألفا اقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الروم واستولى الترك على المدينة وخربوها بعد أن أكثروا القتل فيها والسبي والنهب ثم ساروا إلى القسطنطينية وحصروها أربعين يوما وأغاروا على بلاد الروم واتصلت غاراتهم إلى بلاد الإفرنج ثم عادوا راجعين.

339
ذكر وصول قبائل العرب إلى العراق
ونزولهم الحيرة
قال ابن الكلبي: لما مات بختنصر انضم الذين أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار وبقيت الحيرة خرابا دهرا طويلا بالأنبار لا يطلع عليهم قادم من العرب فلما كثر أولاد معد بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزقتهم الحروب خرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام وأفلت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الأزد وكان الذين أقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معد بن عدنان في قبيص كلها ولحق بهم غطفان بن عمرو بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار بن معد بن عدنان وغيره من إياد فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب وتحالفوا على التنوخ وهو المقام وتعاقدوا على التناصر والتساعد فصاروا يدا واحدة وضم اسم (تنوخ) وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم، ودعا مالك بن زهير جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن أوس الأزدي إلى التنوخ معه وزوجه أخته لميس فتنخ جذيمة وكان اجتماعهم أيام ملوك

340
الطوائف، وإنما سموا ملوك الطوائف لأن كل ملك منهم كان ملكه على طائفة قليلة من الأرض.
قال ثم تطلعت أنفس من كان بالبحرين إلى ريف العراق فطمعوا في أن يغلبوا الأعاجم فيما يلي بلاد العرب أو مشاركتهم فيه لاختلاف بين ملوك الطوائف فأجمعوا على المسير إلى العراق فكان أول من تطلع منهم الحيقاد بن الحنق في جماعة من قومه وأخلاط من الناس فوجدوا الأرمانيين وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل يقاتلون الأردوانيين وهم ملوك الطوائف وهو ما بين نفز وهي قرية من سواد العراق إلى الأبلة فدفعوهم عن بلادهم والأرمانيون من بقايا إرم فلهذا سموا الأرمانيين وهم نبط السواد.
ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم الله وغيرهم من تنوخ إلى الأنبار على ملك الأرمانيين وطلع نمارة ومن معه إلى نفر على ملك الأردوانيين وكانوا لا يدينون للأعاجم حتى قدمها تبع وهو أسعد أبو كرب بن مليكيكرب في جيوشه فخلف بها من لم يكن فيه قوة من عسكره وسار تبع ثم رجع إليهم فأقرهم على حالهم ورجع إلى اليمن وفيهم من كل القبائل، ونزل تنوخ من الأنبار إلى الحيرة في الأخبية لا يسكنون بيوت المدر وكان أول من ملك منهم مالك بن فهم وكان منزله مما يلي الأنبار ثم مات مالك فملك بعده أخوه عمرو بن فهم بن

341
غانم بن دوس الأزدي ثم مات فملك بعده جذيمة الأبرش بن فهم.
وقيل إن جذيمة من العادية الأولى من بني دمار بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام والله أعلم.
ذكر جذيمة الأبرش
قال: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا وأبعدهم مغارا وأشدهم نكاية وأول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم إليه لعرب وغزا بالجيوش وكان به برص فكنت العرب عنه فقيل (الوضاح) و (الأبرش) إعظاما له وكان منازله ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين تمر وأطراف البر إلى العمير وخفية وتجبى إليه الأموال وتفد إليه الوفود وكان غزا طسما وجديسا في منازلهم من اليمامة فأصاب حسان بن تبع أسعد أبي كرب قد أغار عليهم فعاد بمن معه وأصاب حسان سرية لجذيمة فاجتاحها وكان له صنمان يقال لهما (الضيزنان). وكانت إياد بعين أباغ فذكر لجذيمة من لخم في أخواله من إياد يقال له عدي بن نصر بن ربيعة له جمال وظرف فغزاهم جذيمة فبعثت إياد من سرق صنمية وحملهما إلى إياد فأرسلت إليه أن صنميك أصبحا فينا زهدا فيك [ورغبة فينا]، فإن أوثقت لنا أن لا

342
تغزونا دفعناهما إليك. قال: وتدفعون معهما عدي بن نصر. فأجابوه إلى ذلك وأرسلوه مع الصنمين، فضمه إلى نفسه وولاه شرابه.
فأبصرته رقاش أخت جذيمة فعشقته وراسلته ليخطبها إلى جذيمة فقال لا أجترئ على ذلك ولا أطمع فيه قالت إذا جلس على شرابه فاسقه صرفا واسق القوم ممزوجا فإذا أخذت الخمر فيه فاخطبني إليه فلن يردك فإذا زوجك فأشهد القوم.
ففعل عدي ما أمرته فأجابه جذيمة وأملكه إياها فانصرف إليها فأعرس بها من ليلته وأصبح بالخلوق فقال له
جذيمة وأنكر ما رأى به ما هذه الآثار يا عدي قال آثار العرس قال أي عرس قال عرس رقاش قال ومن زوجكها ويحك قال الملك فندم جذيمة وأكب على الأرض متفكرا وهرب عدي فلم ير له أثر ولم يسمع له بذكر فأرسل إليها جذيمة:
(خبريني وأنت لا تكذبيني: * أبحر زنيت أم بهجين)
(أم بعد فأنت أهل لبعد * أن بدون فأنت أهل لدون)
فقالت لا بل أنت زوجتني امرءا عربيا حسيبا ولم يستأمرني في نفسي.
فكف عنها وعذرها ورجع عدي إلى إياد فكان فيهم فخرج يوما مع فتية متصيدين فرمى به فتى منهم بين جبلين فتنكس فمات.
فحملت رقاش فولدت غلاما فسمته عمرا، فلما ترعرع وشب ألبسته

343
وعطرته وأزارته خاله فلما رآه أحبه وجعله مع ولده وخرج جذيمة متبديا بأهله وولده في سنة خصيبة فأقام في روضة ذات زهر وغدر فخرج ولده وعمرو معهم يجتنون الكمأة فكانوا إذا أصابوا كمأة جيدة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها فانصرفوا إلى جذيمة يتعادون وعمر يقول:
(هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده في فيه)
فضمه جذيمة إليه والتزمه وسر بقوله وأمر فجعل له حلى من فضة وطوق فكان أول عربي ألبس طوقا فبينما هو على أحسن حالة إذا استطارته الجن فطلبه جذيمة في الآفاق زمانا فلم يقدر عليه ثم أقبل رجلان من بلقين قضاعة يقال لهما مالك وعقيل ابنا فارج بن مالك من الشام يريدان جذيمة وأهديا له طرفا فنزلا ومعهما قينة لهما تسمى أم عمرو فقدمت طعاما فبينما هما يأكلان إذ أقبل فتى عريان قد تلبد شعره وطابت أظافره وساءت حاله فجلس ناحية عنهما ومد يده يطلب الطعام فناولته القينة كراعا فأكلها ثم مد يده ثانية فقالت لا تعط العبد الكراع فيطمع في الذراع فذهبت مثلا ثم سقتهما من شراب معها وأوكت زقها فقال عمرو بن عدي:
(صددت الكأس عنا أم عمرو * وكان الكأس مجراها اليمينا)
(وما شر الثلاثة أم عمرو * بصاحبك الذي لا تصحبينا)

344
فسألاه عن نفسه فقال: إن تنكراني وتنكرا نسبي فإنني عمرو بن عدي بن تنوخية اللخمي وغدا ما ترياني في نمارة غير معصي.
فنهضا وغسلا رأسه وأصلحا حاله وألبساه ثيابا وقالا ما كنا لنهدي لجذيمة أنفس من ابن أخته فخرج به إلى جذيمة فسر به سرورا شديدا وقال لقد رأيته يوم ذهب وعليه طوق فما ذهب من عيني وقلبي إلى الساعة وأعادوا عليه الطوق فنظر إليه وقال كبر عمرو عن الطوق وأرسلها مثلا وقال لمالك وعقيل ما حكمكما قالا حكمنا منادمتك ما بقينا وبقيت فهما ندمانا جذيمة اللذان يضربان مثلا.
وكان ملك العرب بأرض الجزيرة ومشارف الشام عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة العمليقي من عاملة العمالقة فتحارب هو وجذيمة فقتل عمرو وانهزمت عساكره وعاد جذيمة سالما وملكت بعده عمرو ابنته الزباء واسمها نائلة وكان جنود الزباء بقايا العماليق وغيرهم وكان لها من الفرات إلى تدمر فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها واجتمعت لغزو جذيمة تطلب بثأر أبيها فقالت لها أختها ربيبة وكانت عاقلة إن غزوت جذمية فإنما هو يوم له ما بعده والحرب سجال وأشارت بترك الحرب وإعمال الحيلة.

345
فأجابتها إلى ذلك وكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكها وكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبيحا في السماع وضعفا في السلطان وأنها لم تجد لملكها ولا لنفسها كفؤا غيره.
فلما انتهى كتاب الزباء إليه استخف ما دعته إليه وجمع إليه ثقاته وهو ببقة من شاطئ الفرات فعرض عليهم ما دعته إليه واستشارهم فأجمع رأيهم على أن يسير إليها ويستولي على ملكها.
وكان فيهم رجل يقال له قصير بن سعد من لخم وكان سعد تزوج أمة لجذيمة فولدت له قصيرا وكان أديبا ناصحا لجذيمة قريبا منه فخالفهم فيما أشاروا به عليه وقال رأي فاتر وعدو حاضر فذهبت مثلا وقال لجذيمة اكتب إليها فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا لم تمكنها من نفسك وقد وترتها وقتلت أباها.
فلم يوافق جذيمة ما أشار به قصير وقال له: لا ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح؛ فذهبت مثلا.
ودعا جذيمة ابن أخته عمرو بن عدي فاستشاره فشجعه على المسير وقال إن نمارة قومي مع الزباء فلو رأوك صاروا معك، فأطاعه.
فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر. وقالت العرب: ببقة أبرم الأمر؛ فذهبتا مثلا.
واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وعمرو بن عبد الجن على

346
خيوله معه وسار في وجوه أصحابه فلما نزل الفرضة قال لقصير ما الرأي قال ببقة تركت الرأي فذهبت مثلا.
واستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال خطر يسير وخطب كبير فذهبت مثلا وستلقاك الخيول فإن سرت أمامك فإن المرأة صادقة وإن أخذت جنبيك وأحاطت بك فإن القوم غادرون فاركب العصا وكانت فرسا لجذيمة لا تجارى فإني راكبها ومسايرك عليها.
فلقيته الكتائب فحالت بينه وبين العصا فركبها قصير ونظر إليه جذيمة موليا على متنها فقال ويل أمه حزما على متن عصا فذهبت مثلا وقال ما ضل من تجري به العصا فذهبت مثلا وجرت إلى غروب الشمس ثم نفقت وقد قطعت أرضا بعيدة فبنى عليها برجا يقال له برج العصا وقالت العرب خير ما جاءت به العصا مثل تضربه.
وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيول حتى دخل على الزباء فلما رأته تكشفت فإذا هي مظفورة الأسب والأسب بالباء الموحدة هو الشعر الاست وقالت له يا جذيمة أدأب عروس ترى فذهبت مثلا فقال بلغ المدا وجف الثرى وأمر غدر أرى فذهبت مثلا فقالت له أما إلهي ما بنا من عدم مواس ولا قلة أواس ولكنها شيمة ما أناس فذهبت مثلا وقالت له أنبئت أن دماء الملوك شفاء من الكلب. ثم أجلسته

347
على نطع وأمرت بطست من ذهب فأعد له وسقته الخمر حتى أخذت منه مأخذها ثم أمرت براهشيه فقطعا وقدمت إليه الطست وقد قيل لها إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه وكانت الملوك لا تقتل بضرب الرقبة إلا في قتال تكرمة للملك فلما ضعفت يداه سقطتا فقطرت من دمه في غير الطست فقالت لا تضيعوا دم الملك فقال جذيمة دعوا دما ضيعه أهله فذهبت مثلا.
فهلك جذيمة وخرج قصير من الحي الذين هلكت العصابين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة فوجده قد اختلف هو وعمرو بن عبد الجن فأصلح بينهما وأطاع الناس عمرو بن عدي وقال له قصير تهيأ واستعد ولا تطل دم خالك فقال كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو فذهب مثلا وكانت الزباء سألت كهنة عن أمرها وهلاكها فقالوا لها نرى هلاكك بسبب عمرو بن عدي ولكن حتفك بيدك فحذرت عمرا واتخذت نفقا من مجلسها إلى حصن لها داخل مدينتها ثم قالت إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني ودعت رجلا مصورا حاذقا فأرسلته إلى عمرو بن عدي متنكرا وقالت له صوره جالسا وقائما ومنفصلا ومتنكرا ومتسلحا بهيئته ولبسه ولونه ثم أقبل إلي ففعل المصور ما أوصته به الزباء وعاد إليها وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته.
وقال قصير لعمرو اجدع أنفي واضرب ظهري ودعني وإياها. فقال

348
عمرو: ما أنا بفاعل فقال قصير خل عني إذا وخلاك ذم فذهبت مثلا فقال عمرو فأنت أبصر فجدع قصير أنفه ودق بظهره وخرج كأنه هارب وأظهر أن عمرا فعل ذلك به وسار حتى قدم على الزباء فقيل لها إن قصيرا بالباب فأمرت به فأدخل عليها فإذا أنفه قد جدع وظهر قد ضرب فقالت لامر ما جدع قصير أنفه فذهبت مثلا قالت ما الذي أرى بك يا قصير قال زعم عمرو أني غدرت خاله وزينت له المسير إليك ومالأتك عليه ففعل بي ما ترين فقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. فأكرمته وأصابت عنده بعض ما أرادت من الحزم والرأي والتجربة والمعرفة بأمور الملك.
فلما عرف أنها قد استرسلت إليه ووثقت به قال لها إن لي بالعراق أموالا كثيرا ولي بها طرائف وعطر فابعثيني لأحمل مالي وأحمل إليك من طرائفها وصنوف ما يكون بها من التجارات فتصيبين أرباحا وبعض مالا غنى للملوك عنه. فسرحته ودفعت إليه أموالا وجهزت معه عيرا فسار حتى قدم العراق وأتى عمرو بن عدي متخفيا
وأخبره الخبر وقال جهزني بالبر والطرف وغير ذلك لعل الله يمكنك من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك. فأعطاه حاجته، فرجع بذلك كله إلى الزباء فعرضه عليها فأعجبها وسرها وازدادت به ثقة ثم جهزته بعد ذلك بأكثر مما جهزته به في المرة الأولى فسار حتى قدم العراق وحمل من عند عمرو حاجته ولم يدع طرفة ولا متاعا قدر عليه ثم عاد الثالثة فأخبر عمرا الخبر وقال اجمع لي ثقات أصحابك وجندك وهيئ لهم الغرائر وهو أول من عملها وحمل كل رجلين

349
على بعير في غرارتين وجعل معقد رؤوسهما من باطنهما وقال له إذا دخلت مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة فمن قاتلهم قاتلوه وإن أقبلت الزباء تريد نفقتها قتلتها.
ففعل عمرو ذلك وساروا فلما كانوا قريبا من الزباء تقدم قصير إليها فبشرها وأعلمها كثرة ما حمل من الثياب والطرائف وسألها أن تخرج وتنظر إلى الإبل وما عليها وكان قصير يكمن النهار ويسير الليل وهو أول من فعل ذلك فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض فقالت يا قصير،
(ما للجمال مشيها وئيدا * أجندلا يحملن أم حديدا)
(أم صرفانا باردا شديدا * أم الرجال جثما قعودا)
ودخلت الإبل المدينة، فلما توسطتها أنيخت وخرج الرجال من الغرائر ودل قصير عمرا على باب النفق وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح وقام عمرو على باب النفق وأقبلت الزباء تريد الخروج من النفق فلما أبصرت عمرا قائما على باب النفق فعرفته بالصورة التي عملها المصور فمصت سما كان في خاتمها فقالت بيدي لا بيد عمرو فذهب مثلا وتلقاها بالسيف فقتلها وأصاب ما أصاب من المدينة ثم عاد إلى العراق. وصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم وهو أول من اتخذ الحيرة

350
منزلا من ملوك العرب فلم يزل ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل مائة وثماني عشرة سنة منها أيام ملوك الطوائف خمس وتسعون سنة وأيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وأشهر وأيام ابنه سابور بن اردشير ثمان سنين وشهران وكان منفردا بملكه يغزو المغازي ولا يدين لملوك الطوائف إلى أن ملك أردشير بن بابك أهل فارس ولم يزل الملك في ولده إلى أن كان آخرهم النعمان بن المنذر إلى أيام ملوك كندة على ما نذكره إن شاء الله وقيل في سبب مسير ولد نصر بن ربيعة إلى العراق غير ما تقدم وهو رؤيا رآها ربيعة وسيرد ذكرها عند أمر الحبشة إن شاء الله تعالى.
ذكر طسم وجديس وكانوا أيام ملوك الطوائف
كان طسم بن لوذ بن أزهر بن سام بن نوح وجديس بن عامر بن أزهر بن سام ابني عم وكانت مساكنهم موضع اليمامة وكان اسمها حينئذ (جوا) وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيرا وكان ملكهم أيام ملوك الطوائف عمليق وكان ظالما قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة الكثيرة القبح وإن امرأة من جديس يقال لها (هزيلة) طلقها زوجها وأراد أخذ ولدها

351
منها، فخاصمته إلى عمليق وقالت: أيها الملك حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شفعا حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله أراد أن يأخذه مني كرها ويتركني بعده ورها. فقال زوجها: أيها الملك إنها أعطت مهرها كاملا ولم أصب منها طائلا إلا وليدا خاملا فافعل ما كنت فاعلا فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تباع المرأة وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها فقالت هزيلة:
(أتينا أخا طسم ليحكم بيننا * فأنفذ حكما في هزيلة ظالما)
(لعمري لقد حكمت لا متورعا * ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما)
(ندمت ولم أندم وإني بعثرتي * وأصبح بعلي في الحكومة نادما)
فلما سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوج بكر من جديس وتهدي إلى زوجها حتى يفترعها فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا ولم يزل يفعل ذلك حتى زوجت الشموس وهي عفيرة بنت عباد أخت الأسود فلما أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله ومعها الفتيان فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها فخرجت إلى قومها في دمائها وقد شقت درعها من قبل ودبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول.
(لا أحد أذل من جديس * أهكذا يفعل بالعروس)
(يرضى بذا يا قوم بعل حر * أهدى وقد أعطى وثيق المهر)
وقالت أيضا لتحرض قومها:

352
(أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم * وأنتم رجال فيكم عدد النمل)
(وتصبح تمشي في الدماء عفيرة * جهارا وزفت في النساء إلى بعل)
(ولو أننا كنا رجالا وكنتم * نساءا لكنا لا نقر بذا الفعل)
(فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم * وذبوا لنار الحرب بالحطب الجزل)
(وإلا فخلوا بطنها وتحملوا * إلى بلد قفر وموتوا من الهزل)
(فللبين خير من مقام على الأذى * وللموت خير من مقام على الذل)
(وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه * فكونوا نساء لا تعاب من الكحل)
(ودونكم طيب النساء فإنما * خلقتم لأثواب العروس وللنسل)
(فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا * ويختال يمشي بيننا مشية الفحل)
فلما سمع أخوها الأسود قولها وكان سيدا مطاعا قال لقومه يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا لما كان له فضل علينا ولو امتنع لانتصفنا منه فأطيعوني فيما آمركم فإنه عز الدهر وقد حمى جديس لما سمعوا من قولها فقالوا نطيعك ولكن القوم أكثر منا قال فإني أصنع للملك طعاما وأدعوه وأهله إليه فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم فقالوا: افعل. فصنع طعاما فأكثر وجعله بظاهر البلد ودفن هو وقومه سيوفهم في الرمل ودعا الملك وقومه فجاؤوا

353
يرفلون في حللهم فلما أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم يأكلون أخذت جديس سيوفهم من الرمل وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة.
ثم إن بقية طسم قصدوا حسان بن تبع ملك اليمن فاستنصروه فسار إلى اليمامة فلما كان منها على مسيرة ثلاث قال له بعضهم إن لي أختا متزوجة في جديس يقال لها اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاث وإني أخاف أن تنذر القوم بك فمر أصحابك فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه.
فأمرهم حسان بذلك، فنظرت اليمامة فأبصرتهم فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير. قالوا: وما ترين؟ قالت: أرى رجلا في شجره معه كتف يتعرقها أو نعل يخصفها، وكان كذلك فكذبوها، فصبحهم حسان فأبادهم وأتى حسان باليمامة ففقأ عينها فإذا فيها عروق سود فقال ما هذا؟ قالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد وكانت أول من اكتحل به. وبهذه اليمامة سميت اليمامة، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ولما هلكت جديس هرب الأسود قالت عمليق إلى جبلي طيئ فأقام بهما وذلك قبل أن تنزلهما طيئ وكانت طيئ تنزل الجرف من اليمن وهو الآن لمراد وهمدان وكان يأتي إلى طيئ بعير أزمان الخريف عظيم السمن ويعود عنهم ولم يعلموا من أين يأتي ثم إنهم اتبعوه يسيرون بسيره حتى هبط بهم على أجا وسلمى جبلي طيئ وهما بقرب فيد فرأوا فيه النخل والمراعي الكثيرة ورأوا الأسود بن عفار فقتلوه وأقامت طيئ بالجبلين بعده فهم إلى الآن وهذا أول مخرجهم إليهما.

354
ذكر أصحاب الكهف،
وكانوا أيام ملوك الطوائف
كان أصحاب الكهف أيام ملك اسمه (دقيوس) ويقال دقيانوس وكانوا بمدينة للروم اسمها أفسوس وملكهم يعبد الأصنام وكانوا فتية آمنوا بربهم كما ذكر الله تعالى فقال (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) والرقيم خبرهم كتب في لوح وجعل على باب الكهف الذي أووا إليه وقيل كتبه بعض أهل زمانهم وجعله [في البناء] وفيه أسماءهم وفي أيام من كانوا وسبب وصولهم إلى الكهف.
وكانت عدتهم فيما ذكر ابن عباس سبعة وثامنهم كلبهم، وقال: أنا من القليل الذين يعلمونهم. وقال ابن إسحاق: كانوا ثمانية فعلى قوله يكون تاسعهم كلبهم وكانوا من الروم وكانوا يعبدون الأوثان فهداهم الله وكانت شريعتهم شريعة عيسى عليه السلام.
وزعم بعضهم أنهم كانوا قبل المسيح وأن المسيح أعلم قومه بهم وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح والأول أصح.
وكان سبب إيمانهم أنه جاء حواري من أصحاب عيسى إلى مدينتهم فأراد أن يدخلها فقيل له إن على بابها صنما لا يدخلها أحد حتى يسجد له فلم يدخلها وأتى حماما قريبا من المدينة فكان يعمل فيه فرأى صاحب

355
الحمام البركة وعلقه الفتية فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري فاستحيا ثم رجع مرة أخرى فعيره فسبه وانتهره ودخل الحمام ومعه المرأة فماتا في الحمام فقيل للملك إن الذي بالحمام قتلهما فطلب فلم يوجد فقيل من كان يصحبه فذكر الفتية فطلبوا فهربوا فمروا بصاحب لهم على حالهم في زرع له فذكروا له أمرهم فسار معهم وتبعهم الكلب الذي له حتى آواهم الليل إلى الكهف فقالوا نبيت ههنا حتى نصبح ثم نرى رأينا فدخلوه فرأوا عنده عين ماء وثمارا فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء فلما جنهم الليل ضرب الله على آذانهم ووكل بهم ملائكة يقلبونهم ذات اليمين وذات الشمال لئلا تأكل الأرض أجسادهم وكانت الشمس تطلع عليهم.
وسمع الملك دقيانوس خبرهم فخرج في أصحابه يتبعون أثرهم حتى وجدهم قد دخلوا الكهف وأمر أصحابه بالدخول إليهم وإخراجهم فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب فعاد فقال بعضهم أليس لو كنت ظفرت بهم قتلتهم قال بلى قال فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا ففعل فبقوا زمانا بعد زمان.
ثم إن راعيا أدركه المطر فقال لو فتحت باب هذا الكهف فأدخلت غنمي فيه ففتحه فرد الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا فبعثوا أحدهم بورق ليشتري لهم طعاما اسمه تمليخا فلما أتى باب المدينة رأى ما أنكره حتى دخل على رجل فقال بعني بهذه الدراهم طعاما فقال فمن أين لك هذه الدراهم؟ قال خرجت أنا وأصحاب لي أمس فلما أصبحوا

356
فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك الفلاني فرفعه إلى الملك وكان ملكا صالحا فسأله عنها فأعاد عليه حالهم فقال الملك وأين أصحابك قال انطلقوا معي فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف فقال دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم لئلا يسمعوا أصواتكم فيخافوا ظنا منهم أن دقيانوس قد علم بهم. فدخل عليهم وأخبرهم الخبر فسجدوا شكرا لله وسألوه أن يتوفاهم فاستجاب لهم فضرب على آذنه وآذانهم وأراد الملك الدخول عليهم فكانوا كلما دخل عليهم رجل أرعب فلم يقدروا أن يدخلوا عليهم فعاد عنهم فبنوا عليهم كنيسة يصلون فيها.
قال عكرمة لما بعثهم الله كان الملك حينئذ مؤمنا وكان قد اختلف أهل مملكته في الروح والجسد وبعثهما فقال قائل يبعث الله الروح دون الجسد وقال قائل يبعثان جميعا فشق ذلك على الملك فلبس المسوح وسأل الله أن يبين له الحق فبعث الله أصحاب الكهف بكرة فلما بزغت الشمس قال بعضهم لبعض قد أغفلنا هذه الليلة عن العبادة فقاموا إلى الماء وكان عند الكهف عين وشجرة فإذا العين قد غارت والأشجار قد يبست فقال بعضهم لبعض. إن أمرنا لعجب هذه العين غارت وهذه الأشجار يبست في ليلة واحدة وألقى الله عليهم الجوع فقالوا أيكم يذهب إلى المدينة (فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا).
فدخل أحدهم يشتري الطعام فلما رأى السوق عرف طرقها وأنكر الوجوه ورأى الإيمان ظاهرا بها فأتى رجلا يشتري منه فأنكر الدراهم،

357
فرفعه إلى الملك فقال الفتى أليس ملككم فلان فقال الرجل لا بل فلان فعجب لذلك فلما أحضر عند الملك أخبره بخبر أصحابه فجمع الملك الناس وقال لهم إنكم قد أختلفتم في الروح والجسد وإن الله قد بعث لكم آية هذا الرجل من قوم فلان يعني الملك الذي مضى فقال الفتى انطلقوا بي إلى أصحابي فركب الملك والناس معه فلما انتهى إلى الكهف قال الفتى للملك ذروني أسبقكم إلى أصحابي أعرفهم خبركم لئلا يخافوا إذا سمعوا وقع حوافر دوابكم وأصواتكم فيظنوكم دقيانوس فقال افعل فسبقهم إلى أصحابه ودخل على أصحابه فأخبرهم الخبر فعلموا حينئذ مقدار لبثهم في الكهف وبكوا فرحا ودعوا الله أن يميتهم ولا يراهم أحد ممن جاءهم فماتوا لساعتهم فضرب الله على آذانه وآذانهم معه.
فلما استبطأوه دخلوا إلى الفتية فإذا أجسادهم لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك هذه آية لكم ورأى الملك تابوتا من نحاس مختوما بخاتم ففتحه فرأى فيه لوحا من رصاص مكتوبا فيه أسماء الفتية وأنهم هربوا من دقيانوس الملك مخافة على نفوسهم ودينهم فدخلوا هذا الكهف فلما علم دقيانوس بمكانهم بالكهف سده عليهم فليعلم من يقرأ كتابنا هذا شأنهم.
فلما قرأوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم هذه الآية للبعث ورفعوا أصواتهم بالتحميد والتسبيح.
وقيل: إن الملك ومن معه دخلوا على الفتية فرأوهم أحياء مشرقة وجوهم وألوانهم لم تبل ثيابهم وأخبرهم الفتية بما لقوا من ملكهم دقيانوس واعتنقهم

358
الملك وقعدوا معه يسبحون الله ويذكرونه ثم قالوا له نستودعك الله ورجعوا إلى مضاجعهم كما كانوا فعمل الملك لكل رجل منهم تابوتا من الذهب فلما نام رآهم في منامه وقالوا إننا لم نخلق من الذهب إنما خلقنا من التراب وإليه نصير فعمل لهم حينئذ توابيت من خشب فحجبهم الله بالرعب وبنى الملك على باب الكهف مسجدا وجعل لهم عيدا عظيما وأسماء الفتية مكسلمينيا ويمليخا ومرطوس ونيرويس وكسطومس ودينموس وريطوفس وقالوس ومحسيلمينيا وهذه تسعة أسماء وهي أتم الروايات والله أعلم وكلبهم قطمير.

359
ذكر يونس بن متى
وكان أمره من الأحداث أيام ملوك الطوائف.
قيل لم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه إلا عيسى بن مريم ويونس بن متى وهي أمه وكان من قرية من قرى الموصل يقال لها نينوى وكان قومه يعبدون الأصنام فبعثه الله إليهم بالنهي عن عبادتها والأمر بالتوحيد فأقام فيهم ثلاثا وثلاثين سنة يدعوهم فلما يؤمن غير رجلين فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم فقيل له ما أسرع ما دعوت على عبادي ارجع إليهم فادعهم أربعين يوما فدعاهم سبعة وثلاثين يوما فلم يجيبوه فقال لهم إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام وآية ذلك أن ألوانكم تتغير. فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم فقالوا قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذبا فانظروا فإن يبت فيكم فأمنوا من العذاب وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب يصبحكم.
فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس بنزول العذاب فخرج من بين أظهرهم فلما كان الغد تغشاهم العذاب فوق رؤوسهم خرج عليهم غيم أسود هائل يدخن دخانا شديدا ثم نزل إلى المدينة فاسودت منه سطوحهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا يونس فلم يجدوه فألهمهم الله التوبة،

360
فأخلصوا النية في ذلك وقصدوا شيخا وقالوا له قد نزل بنا ما ترى فما نفعل. قال آمنوا بالله وتوبوا وقولوا يا حي يا قيوم يا حي حين لاحي ويا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت فخرجوا من القرية إلى مكان رفيع فيه براز من الأرض وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله واستقالوه وردوا المظالم جميعا حتى إن كان أحدهم ليقلع الحجر من بنائه فيرده إلى صاحبه.
فكشف الله عنهم العذاب وكان يوم عاشوراء يوم الأربعاء وقيل لنصف من شوال يوم الأربعاء وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال ما فعل أهل القرية فقال تابوا إلى الله فقبل منهم وأخر عنهم العذاب فغضب يونس عند ذلك فقال والله لا أرجع كذابا ولم تكن قرية رد الله عنهم العذاب بعدما غشيتهم إلا قوم يونس ومضى مغاضبا لربه وكان فيه حده وعجلة وقلة صبر ولذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مثله فقال الله تعالى (ولا تكن كصاحب الحوت).
ولما مضى ظن أن الله لا يقدر عليه أي يقضي عليه العقوبة، وقيل: يضيق عليه الحبس فسار حتى ركب في سفينة فأصاب أهلها عاصف من الريح وقيل بل وقفت فلم تسر فقال من فيها هذا بخطيئة أحدكم فقال يونس: هذا بخطيئتي فألقوني في البحر، فأبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم فساهم فكان من المدحضين فلم يلقوه وفعلوا ذلك ثلاثا ولم يلقوه فألقى نفسه في البحر وذلك تحت الليل فالتقمه الحوت فأوحى الله

361
إلى الحوت أن يأخذه ولا يخدش له لحما ولا يكسر له عظما فأخذه وعاد إلى مسكنه من البحر فلما انتهى إليه سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى الله إليه في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد له كل يوم عمل صالح فشفعوا له عند ذلك (فنادى في الظلمات) ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل (أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) وكان قد سبق له من العمل الصالح فأنزل الله فيه.
(فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) وذلك أن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) ألقي على جانب البحر وهو كالصبي المنفوس ومكث في بطن الحوت أربعين يوما وقيل عشرين يوما وقيل ثلاثة أيام وقيل سبعة أيام والله أعلم.
وأنبت [الله] عليه شجرة من يقطين وهو القرع يتقطر إليه من اللبن وقيل هيأ الله له أروية وحشية فكانت ترضعه بكرة وعشية حتى رجعت إليه قوته وصار يمشي فرجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها قد يبست فحزن وبكى عليها فعاتبه الله وقيل له أتبكي وتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف وزيادة أردت أن تهلكهم!
ثم إن الله أمره أن يأتي قومه فيخبرهم أن الله تاب عليهم فعمد إليهم

362
فلقي راعيا فسأله عن قوم يونس فأخبره أنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم قال فأخبرهم أنك قد لقيت يونس قال لا أستطيع إلا بشاهد فسمى له عنزا من غنمه والبقعة التي كانا فيها وشجرة هناك وقال كل هذه تشهد لك. فرجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه رأى يونس فهموا به فقال لا تعجلوا حتى أصبح فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس فاستنطقها فشهدت له وكذلك الشاه والشجرة وكان يونس قد اختفى هناك فلما شهدت الشاه قالت لهم إن أردتم نبي الله فهو بمكان كذا وكذا فأتوه فلما رأوه قبلوا يديه ورجليه وأدخلوه المدينة بعد امتناع فمكث مع أهله وولده أربعين يوما وخرج سائحا وخرج الملك معه يصحبه وسلم الملك إلى الراعي فأقام يدبر أمرهم أربعين سنة بعد ذلك ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.
وقال ابن عباس وشهر بن حوشب كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت وقالا كذلك أخبر الله تعالى في سورة الصافات فإنه قال (فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون). وقال شهر: إن جبريل أتى يونس فقال له انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم العذاب فإنه قد حضرهم قال ألتمس دابة قال الأمر أعجل من ذلك قال أتلمس حذاء قال الأمر أعجل من ذلك قال فغضب وانطلق إلى السفينة فركب فلما ركب احتبست قال فساهموا فسهم فجاءت الحوت فنودي الحوت إنا لم نجعل يونس من رزقك إنما جعلناك له حرزا فالتقمه الحوت وانطلق به من ذلك المكان حتى مر به على أبله ثم انطلق به على دجلة حتى ألقاه بنينوى.

363
و مما كان من الأحداث أيام ملوك الطوائف
إرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى مدينة أنطاكية وكانوا من الحواريين وأصحاب المسيح أرسل أولا اثنين وقد اختلف في أسمائهما فقدما أنطاكية فرأيا عندها شيخا يرعى غنما وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى قال معكما آية قالا نعم نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. قال حبيب إن لي ابنا مريضا مذ سنين وأتى بهما منزله فمسحا ابنه فقام في الوقت صحيحا ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام فبلغ إليه خبرهما فدعاهما فقال من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوك إلى الله تعالى قال فما آيتكما قالا نبرىء الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله. فقال قوما حتى ننظر في أمركما فقاما فضربهما العامة.
وقيل: إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك فخرج الملك يوما فكبرا وذكرا الله فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة. فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما فدخل البلد متنكرا وعاشر حاشية الملك فرفعوا خبره إلى الملك فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه فقال له يوما أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما. فقال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك قال فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون

364
من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له قال فصفاه وأوجزا قالا إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال شمعون فما آتيكما قالا ما تتمناه.
فأمر الملك فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر وأخذا بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فعجب الملك لذلك فقال إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا إن إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك إن ههنا ميت منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه فدعوا الله تعالى علانية وشمعون يدعو سرا فقام الميت فقال لقومه إني مت مشركا وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك ومن هم فقال هذا وأومأ إلى شمعون وهذان وأشار إليهما فعجب الملك فحينئذ دعا شمعون الملك إلى دينه فآمن قومه وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون. وقيل: بل كفر الملك وأجمع وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا النجار وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين فذلك قوله تعالى (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) وهو شمعون فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى.
فلما كذبهم أهل المدينة حبس الله عنهم المطر فقال أهلها للرسل:

365
(إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) بالحجارة وقيل لنقتلنكم (وليمسنكم منا عذاب أليم) فلما حضر حبيب وكان مؤمنا يكتم إيمانه وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه فقال (يا قوم اتبعوا المرسلين) فقال قومه وأنت مخالف لربنا ومؤمن بإله هؤلاء فقال (ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) فلما قال ذلك قتلوه فأوجب الله له الجنة فذلك قوله تعالى (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) وأرسل الله عليهم صيحة فماتوا.
ومما كان من الأحداث شمسون
وكان من قرية من قرى الروم قد آمن وكانوا يعبدون الأصنام وكان على أميال من المدينة وكان يغزوهم وحده ويقاتلهم بلحى جمل فكان إذا عطش انفجر له من الحجر الذي فيه ماء عذب فيشرب منه وكان قد أعطى قوة لا يوثقه حديد ولا غيره وكان على ذلك يجاهدهم ويصيب منهم ولا

366
يقدرون منه على شيء فجعلوا لامرأته جعلا لتوثقه لهم فأجابتهم إلى ذلك فأعطوها حبلا وثيقا فتركته حتى نام وشدت يديه فاستيقظ وجذبه فسقط الحبل من يديه فأرسلت إليهم فأعلمتهم فأرسلوا إليها بجامعة من حديد فتركتها في يديه وعنقه وهو نائم فاستيقظ وجذبها فسقطت من عنقه ويديه فقال لها في المرتين ما حملك على ما صنعت.
فقالت أريد أن أجرب قوتك وما رأيت مثلك في الدنيا فهل في الأرض شيء يغلبك قال نعم شيء واحد فلم تزل تسأله عنه حتى قال لها ويحك لا يضبطني إلا شعري فلما نام أوثقت يديه بشعر رأسه وكان كثيرا فأرسلت إليهم فجاؤوا فأخذوه فجدعوا أنفه وأذنيه وفقأوا عينيه وأقاموه للناس وجاء الملك لينظر إليه وكانت المدينة على أساطين فدعا الله شمسون عليهم فأمر أن يأخذ عمودين من عمد المدينة فيجذبهما ويرد إليه بصره وما أصابوا من جسده وجذب العمودين فوقعت المدينة بالملك والناس وهلك من فيها هدما وكان شمسون أيام ملوك الطوائف.
ومما كان من الأحداث أيضا جرجيس
قيل كان بالموصل ملك يقال له (دازانه) وكان جبارا عاتيا وكان جرجيس رجلا صالحا من أهل فلسطين يكتم إيمانه مع أصحاب له صالحين وكانوا قد أدركوا بقايا من الحواريين فأخذوا عنهم وكان جرجيس كثير

367
التجارة عظيم الصدقة وربما كان نفد ماله في الصدقة ثم يعود يكتسب مثله ولولا الصدقة لكان الفقر أحب إليه من الغنى وكان يخاف بالشام أن يفتتن عن دينه فقصد الموصل ومعه هدية لملكها لئلا يجعل لأحد عليه سبيلا فجاءه وحين قد جاءه أحضر عظماء قومه وأوقد نارا وأعد أصنافا من العذاب وأمر بصنم له يقال له (افلون) فنصب
فمن لم يسجد له عذبه وألقي في النار.
فلما رأى جرجيس ما يصنع استعظمه وحدث نفسه بجهاده فعمد إلى المال الذي معه فقسمه في أهل ملته وأقبل عليه وهو شديد الغضب فقال له اعلم أنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك شيئا وإن فوقك ربا هو الذي خلقك ورزقك فأخذ في ذكر عظمة الله تعالى وعيب صنمه فأجابه الملك بأن يسأل من هو ومن أين هو فقال جرجيس أنا عبد الله وابن أمته من التراب خلقت وإليه أعود. فدعاه الملك إلى عبادة صنمه وقال له لو كان ربك ملك الملوك لرؤي عليك أثره كما ترى على من حولي من ملوك قومي فأجابه جرجيس بتعظيم أمر الله وتمجيده وقال له تعبد افلون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى من رب العالمين أم تعبد الذي قامت بأمره السماوات والأرض أم تعبد طرقلينا عظيم قومك من الناس عليه السلام فإنه كان آدميا يأكل ويشرب فأكرمه الله بأن جعله إنسيا ملكيا،

368
أم تعبد عظيم قومك مخليطيس أيضا وما قال بولايتك [من] عيسى عليه السلام! وذكر من معجزاته وما خصه الله به من الكرامة.
فقال له الملك إنك أتيتنا بأشياء لا نعلمها ثم خيره بين العذاب والسجود للصنم فقال له جرجيس إن كان صنمك هو الذي رفع السماء وعدد أشياء من قدرة الله عز وجل فقد أصبت ونصحت وإلا فاخسأ أيها الملعون.
فلما سمع الملك أمر بحبسه ومشط جسده بأمشاط الحديد حتى تقطع لحمه وعروقه وينضح بالخل والخردل فلم يمت فلما رأى ذلك لم يقتله أرم بستة مسامير من حديد فأحميت حتى صارت نارا ثم سمر بها رأسه فسأل دماغه فحفظه الله تعالى فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس فأوقد عليه حتى جعله نارا ثم أدخله فيه وأطبق حتى برد فلما رأى ذلك لم يقتله دعاه وقال له ألم تجد ألم هذا العذاب قال إن إلهي حمل عني عذابك وصبرني ليحتج عليك.
فأيقن الملك بالشر وخافه على نفسه وملكه فأجمع رأيه على أن يخلده في السجن فقال الملأ من قومه إنك أن تركته في السجن طليقا يكلم الناس ويميل بهم عليك ولكن يعذب بعذاب يمنعه من الكلام فأمر به فبطح في السجن على وجهه أوتد في يده ورجليه أوتادا من حديد ثم أمر بأسطوان من رخام حمله ثمانية عشر رجلا فوضع على ظهره فظل يومه ذلك تحت الحجر فلما أدركه الليل أرسل الله إليه ملكا وذلك أول ما أيد بالملائكة فأول ما جاءه الوحي قلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وأسقاه وبشره

369
وعزاه، فلما أصبح أخرجه من السجن فقال له الحق بعدوك فجاهده فإني قد ابتليتك به سبع سنين يعذبك ويقتلك فيهن أربع مرات في كل ذلك أرد إليك روحك فإذا كانت القتلة الرابعة تقبلت روحك وأوفيتك أجرك.
فلم يشعر الملك إلا وقد وقف جرجيس على رأسه يدعوه إلى الله فقال له أجرجيس قال نعم قال من أخرجك من السجن قال أخرجني من سلطانه فوق سلطانك!
فملئ غيظا ودعا بأصناف العذاب ومدوه بين خشبتين ووضعوا على رأسه سيفا ثم شروه حتى سقط بين رجليه وصار جزلتين ثم قطعوهما قطعا وكان له سبعة أسد ضارية في جب فألقوا جسده إليها فلما رأته خضعت برؤوسها وقامت على براثنها لا تألوا أن تقيه الأذى الذي تحتها فظلت يومها تحته ميتا وكان أول ميتة ذاقها. فلما أدركه الليل جمع الله جسده وسواه ورد فيه الروح وأخرجه من قعر الجب فلما أصبحوا أقبل جرجيس وهم في عيد لهم صنعوه فرحا بموت جرجيس فلما نظروا إليه مقبلا قالوا ما أشبه هذا بجرجيس. قال الملك هو هو قال جرجيس أنا هو حقا بئس القوم أنتم قتلتم ومثلتم فرد الله روحي إلي هلموا إلى عذاب هذا الرب العظيم الذي أراكم قدرته فقالوا ساحر سحر أعينكم وأيديكم عنه،

370
فجمعوا من ببلادهم من السحرة فلما جاؤوا قال الملك لكبيرهم اعرض علي من سحرك ما يسري به عني فدعا بثور فنفخ في أذنيه فإذا هو ثوران ودعا ببذر فبذر وحرث وزرع وحصد ودق وذرى وطحن وخبر وأكل في ساعته فقال له الملك هل تقدر أن تمسخه كلبا قال ادع لي بقدح من ماء فأتي به فنفث فيه الساحر ثم قال لجرجيس اشربه فشربه جرجيس حتى أتى على آخره فقال له الساحر ماذا تجد قال ما أجد إلا خيرا كنت عطشانا فلطف الله بي فسقاني وأقبل الساحر على الملك وقال لو كنت تقاسي جبارا مثلك لغلبته إنما تقاسي جبار السماء والأرض.
وكانت أتت جرجيس امرأة من الشام وهو في أشد العذاب فقالت له إنه لم يكن لي مال إلا ثور أعيش به من حرثه فمات وجئتك لترحمني وتسأل الله أن يحيي ثوري فأعطاها عصا وقال إذهبي إلى ثورك فاضربيه بهذه العصا وقولي به أحيى بإذن الله فأخذت العصا وأتت مصرع الثور فرأت روقيه وشعر ذنبه فجمعتها ثم قرعتها بالعصا وقالت ما أمر هابه جرجيس فعاش ثورها وجاء الخبر بذلك.
فلما قال الساحر ما قال قال رحل من أصحاب الملك وكان أعظمهم بعد الملك اسمعوا مني قالوا نعم قال إنكم قد وضعتم أمره على السحر وإنه لم يعذب ولم يقتل فهل رأيتم ساحرا قط قدر على أن يدفع عن

371
نفسه الموت أو أحيا ميتا وذكر الثور وإحياءه؟ فقالوا له إن كلامك كلام رجل قد أصغى إليه فقال قد آمنت به وأشهد أني بريء مما تعبدون! فقال: إليه الملك وأصحابه بالخناجر فقطعوا لسانه بالخناجر فلم يلبث أن مات وقيل أصابه الطاعون فأعجله قبل أن يتكلم وكتموا شأنه فكشفه جرجيس للناس فاتبعه أربعة آلاف وهو ميت فقتلهم الملك بأنواع العذاب حتى أفناهم وقال له رجل من عظماء أصحاب الملك يا جرجيس إنك زعمت أن إلهك يبدأ الخلق ثم يعيده وإني سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت به وصدقتك وكفيتك قومي هذا تحتنا أربعة عشرة منبرا ومائدة وأقداح وصحاف من خشب يابس وهو من أشجار شتى فادع لنا ربك أن يعيدها خضرا كما بدأها يعرف كل عود بلونه وورقه وزهره وثمره قال جرجيس قد سألت أمرا عزيزا علي وعليك وإنه على الله يسير، ودعا الله فما برحوا حتى اخضرت وساخت عروقها وتشعبت ونبت ورقها وزهرها حتى عرفوا كل عود باسمه.
فقال الذي سأله هذا: أنا أتولى عذابه. فعمد إلى نحاس فصنع منه صورة ثور مجوف ثم حشاها نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا وأدخل جرجيس في وسطها ثم أوقد تحت الصورة النار حتى التهبت وذاب كل شيء فيها واختلط ومات جرجيس في جوفها. فلما مات أرسل الله ريحا عاصفا ورعدا وبرقا وسحابا مظلما وأظلم ما بين السماء والأرض وبقوا أياما متحيرين فأرسل الله ميكائيل فاحتمل تلك الصورة فلما أقلها ضرب بها الأرض ففزع من روعتها كل من سمعها وانكسرت وخرج منها جرجيس حيا. فلما وقف وكلمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض.

372
قال له عظيم من عظمائهم ادعوا الله بأن تحيي موتانا من هذه القبور.
فأمر جرجيس بالقبور فنبشت وهي عظام رفات ثم دعا فما برحوا حتى نظروا إلى سبعة عشرة إنسانا تسعة رجال وخمسة نسوة وثلاث صبية وفيهم شيخ كبير فقال له جرجيس متى مت فقال في زمان كذا وكذا فإذا هو أربع مائة عام.
فلما رأى ذلك الملك قال لم يبق من عذابكم شيء إلا وقد عذبتموه وأصحابه إلا الجوع والعطش فعذبوه به فعمدوا إلى بيت عجوز فقيرة وكان لها ابن أعمى أبكم مقعد فحصروه فيه فلا يصل إليه الطعام ولا الشراب فلما جاع قال للعجوز هل عندك طعام أو شراب قالت لا والذي يحلف به مالنا عهد بالطعام من كذا وكذا وسأخرج فالتمس لك شيئا فقال لها هل تعبدين الله قالت لا فدعاها فآمنت وانطلقت تطلب له شيئا وفي بيتها دعامة خشب يابسة تحمل خشب البيت فدعا الله فاخضرت تلك الدعامة وأنبتت كل فاكهة تؤكل وتعرف فظهر للدعامة فروع من فوق البيت تظله وما حوله وعادت العجوز وهو يأكل رغدا فلما رأت الذي في بيتها قالت آمنت بالذي أطعمك في بيت الجوع فادع هذا الرب العظيم أن يشفي ابني قال أدنيه مني فأدنته فبصق في عينيه فأبصر فنفث في أذنيه فسمع قالت له أطلق لسانه ورجليه قال لها أخريه فإن له يوما عظيما.

373
ورأى الملك الشجرة فقال أرى شجرة ما كنت أعهدها قالوا تلك العجوز نبتت لذلك الساحر الذي أردت أن تعذبه بالجوع وقد شبع منها وأشبع العجوز وشفى لها ابنها.
فأمر بالبيت فهدم وبالشجرة أن تقطع فلما هموا بقطعها أيبسها الله وتركوها وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأمر بعجل فأوقر أسطوانا وجعل في أسفل العجل خناجر وشفارا ثم دعا بأربعين ثورا فنهضت بالعجل نهضة واحدة وجرجيس تحتها فانقطع ثلاث قطع ثم أمر بقطعه فأحرقت حتى صارت رمادا وبعث الرماد من رجال فذروه في
البحر فلم يبرحوا حتى سمعوا صوتا من السماء يا بحر إن الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيب فإني أريد أن أعيده فأرسل الريح فجمعته كما كان قبل أن يذروه والذين ذروه قيام لم يبرحوا. وخرج جرجيس حيا مغبرا فرجعوا ورجع معهم وأخبروا خبر الصوت والرياح فقال له الملك هل لك فيما هو خير لي ولك ولولا أن يقال أنك غلبتني لآمنت بك ولكن اسجد لصنمي سجدة واحدة أو أذبح له شاة واحدة وأنا أفعل ما يسرك. فطمع جرجيس في إهلاك الصنم حين رآه وإيمان الملك عند ذلك فقال له أفعل خديعة منه وأدخلني على صنمك أسجد له وأذبح.
فرح الملك بذلك وقبل يديه ورجليه وطلب منه أن يكون يومه وليلته عنده ففعل فأخلى له الملك بيتا ودخله جرجيس فلما جاء الليل قام يصلي ويقرأ الزبور وكان حسن الصوت فلما سمعته امرأة الملك استجابت له وآمنت به وكتمت إيمانها. فلما أصبح غدا به إلى بيت الأصنام ليسجد لها.
وقيل للعجوز إن جرجيس قد افتتن وطمع في الملك بعد الملك فخرجت تحمل ابنها على عاتقها في أغراضها توبخ جرجيس فلما دخل بيت الأصنام

374
نظر فإذا العجوز وابنها أقرب الناس إليه فدعا ابنها فأجابه وما تكلم قبل ذلك قط ثم نزل عن عاتق أمه يمشي على قدميه سويتين وما وطئ الأرض قط فلما وقف بين يدي جرجيس قال له ادع لي هذه الأصنام وهي على منابر من ذهب واحد وسبعون صنما وهم يعبدون الشمس والقمر معها فدعاها فأقبلت تتدحرج إليه فلما انتهت إليه ركض برجله الأرض فخسف بها وبمنابرها فقال له الملك يا جرجيس خدعتني وأهلكت أصنامي فقال له فعلت ذلك عمدا لتعتبر وتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت مني.
فلما قال هذا قالت امرأة الملك وأظهرت إسلامها وعددت عليهم أفعال جرجيس وقالت ما تنتظرون من هذا الرجل إلا دعوة فتهلكون كما هلكت أصنامكم فقال الملك ما أسرع ما أضلك هذا الساحر.
ثم أمر فعلقت على خشبة ثم مشط لحمها بمشاط الحديد فلما آلمها العذاب قالت لجرجيس ادع الله أن يخفف عني الألم فقال انظري فوقك فنظرت فضحكت فقال لها الملك ما يضحكك قالت أرى على رأسي ملكين معهما تاج من حلي الجنة ينتظرون خروج روحي ليزيناني به ويصعدان بها إلى الجنة.
فلما ماتت أقبل جرجيس على الدعاء وقال اللهم أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني فضل منازل الشهداء وهذا آخر أيامي فأسألك أن تنزل بهؤلاء المنكرين من سطواتك وعقوبتك مالا قبل لهم به فأمطر الله عليهم النار فأحرقتهم فلما احترقوا بحرها عمدوا إليه فضربوه بالسيوف فقتلوه وهي القتلة الرابعة فلما احترقت المدينة بجميع ما فيها رفعت من الأرض وجعل عاليها سافلها فلبثت زمانا يخرج من تحتها دخان منتن وكان جميع من آمن به وقتل معه أربعة وثلاثين ألفا وامرأة الملك.

375
ذكر خالد بن سنان العبسي
وممن كان في الفترة خالد بن سنان العبسي قيل كان نبيا وكان من معجزاته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرقها وهو يقول بددا بددا كل هاد مؤد إلى الله الأعلى لأدخلنها وهي تلظى ولأخرجن منها وثيابي تندى ثم إنها طفئت وهو في وسطها.
فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا دفنت فإنه ستجيء عانة من حمير يقدمها عير أقمر فيضرب قبري بحافره فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع ما هو كائن. فلما مات ودفنوه رأوا ما قال فأرادوا نبشه فكره ذلك بعضهم وقالوا نخاف إن نبشناه أن تسبنا العرب بأنا نبشنا ميتا لنا فتركوه.
فقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال فيه: (ذلك نبي ضيعه قومه) وأتت ابنته النبي صلى الله عليه وسلم فآمنت به.
كذا قيل إنه آخر الحوادث أيام ملوك الطوائف ولا وجه له فإن من أدركت ابنته النبي يكون بعد اجتماع الملك لأردشير بن بابك بدهر طويل.
ونرجع إلى أخبار ملوك الفرس لسياق التاريخ ونقدم قبل ذكرهم عدد الملوك الأشغانية من ملوك الطوائف وطبقات ملوك الفرس لسياق التاريخ ونقدم قبل ذكرهم عدد الملوك الأشغانية من ملوك الطوائف وطبقات ملوك الفرس إن شاء الله تعالى.

376
ذكر طبقات ملوك الفرس
الطبقة الأولى الفيشداذية ملوك الأرض بعد جيومرث أوشهنج وملك فيشداذ أربعين سنة ومعنى فيشداذ أول حاكم.
ملك بعده طهمورث بن يوجهان ثلاثين سنة. ثم ملك أخوه جمشيد سبعمائة وست عشرة سنة ثم ملك بيوراسف بن أرونداسف ألف سنة ثم ملك أفريدون بن أثغيان خمسمائة سنة ثم ملك منوجهر مائة وعشرين سنة ثم ملك افراسياب التركي اثنتي عشرة سنة ثم ملك زو بن تهماسف ثلاث سنين ثم ملك كرشاسب تسع سنين.
الطبقة الثانية الكيانية
ثم ملك كيقباذ مائة وستا وعشرين سنة ثم ملك كيكاووس مائة وخمسين سنة ثم ملك كيخسرو ثمانين سنة ثم ملك كي لهراسب مائة وعشرين سنة ثم ملك كي بشتاسب مائة وعشرين سنة ثم ملك كي بهمن مائة واثنتي عشرة سنة ثم ملك خماني جهرازاد ثلاثين سنة ثم ملك أخوها دارا بن بهمن

377
اثنتي عشرة سنة ثم ملك ابنه دارا بن دارا أربع عشرة سنة، وهو الذي أخذ الإسكندر الملك منه. وكان ملك الإسكندر بعده أربع عشرة سنة.
الطبقة الثالثة الأشغانية
وهم الذين استولوا على العراق والجبال وكان سائر ملوك الطوائف يعظمونهم فأول ملوك الأشغانيين أيام ملوك الطوائف أشك ملك اثنتين وخمسين سنة. ثم ملك ابنه شابور بن أشك أربعا وعشرين سنة ثم ملك ابنه جوذرز بن شابور وهو الذي غزا بني إسرائيل بعد قتل يحيى بن زكريا خمسين سنة ثم ملك ابن أخيه ويجن بن بلاش احدى وعشرين سنة ثم ملك جوذرز بن ويجن تسع عشرة سنة ثم ملك أخوه نرسي ثلاثين سنة ثم ملك عمه هرمزان بن بلاش بن شابور تسع عشرة سنة ثم ملك ابنه فيروز بن هرمزان اثنتي عشرة سنة ثم ملك ابنه خسرو أربعين سنة ثم ملك أخوه بلاش بن فيروز أربعا وعشرين سنة ثم ملك أردوان بن بلاش خمسا وخمسين سنة. وقد ذكر بعضهم أن ملك بعد هرمزان بن بلاش أردوان الأكبر اثنتي عشرة سنة.

378
وقيل في عدد ملوك الطوائف وغير ذلك والفرس تعترف باضطراب التاريخ عليهم في أيام ملوك الطوائف وملك بيوراسف وملك افراسياب التركي لأنهم زال الملك عنهم ولم يمكن ضبطه.
الطبقة الرابعة الساسانية
فأولهم أردشير بن بابك.

379
ذكر أخبار أردشير بن بابك
وملوك الفرس
قيل لما مضى من لدن ملك الإسكندر أرض بابل في قول النصارى وأهل الكتاب الأول خمسمائة سنة وثلاث وعشرون سنة وفي قول المجوس مائتان وست وستون وثب أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن الملك بن اسفنديار بن بشتاسب وقيل في نسبه غير ذلك يريد الأخذ بثأر الملك دارا بن دارا ورد الملك إلى أهله وإلى ما لم يزل عليه أيام سلفه الذين مضوا قبل ملوك الطوائف وجمعه لرئيس واحد.
وذكر أن مولده كان بقرية من قرى إصطخر يقال لها طيزوده من رستاق إصطخر وكان جده ساسان شجاعا مغرى بالصيد وتزوج امرأة من نسل ملوك فارس يعرفون بالبادرنجيين وكان قيما على بيت نار بإصطخر يقال له بيت نارهيد فولدت له بابك فلما كبر قام بأمر الناس بعد أبيه ثم ولد له ابنه أردشير وكان ملك إصطخر يومئذ رجلا من الباذرنجيين يقال له جوزهر وكان له خصي اسمه تيري قد صيره ارجيدا بدارا بجرد. فلما

380
أتى لأردشير سبع سنين قدمه أبوه إلى جوزهر وسأله أن يضمه إلى تيري ليكون ربيبا له وارجيدا بعده في موضعه فأجابه وأرسله إلى تيري فقبله وتبناه. فلما هلك تقلد أردشير الأمر وحسن قيامه به وأعلمه قوم من
المنجمين صلاح مولده وأنه يملك فازداد في الخير ورأى في منامه ملكا جلس عند رأسه فقال له إن الله يملكك البلاد فقويت نفسه قوة لم يعهدها وكان أول ما فعل أنه سار إلى موضع من دارا بجرد يسمى خوبا بان فقتل ملكها واسمه فاسين ثم سار إلى موضع يقال له كوسن فقتل ملكها واسمه منوجهر ثم إلى موضع يقال له لزويز فقتل ملكها واسمه دارا وجعل في هذه المواضع قوما من قبله وكتب إلى أبيه بما كان منه وأمره بالوثوب بجوزهر وهو بالبيضاء ففعل ذلك وقتل جوزهر وأخذ تاجه وكتب إلى أردوان ملك الجبال وما يتصل بها يتضرع إليه ويسأله في تتويج ابنه سابور بتاج جوزهر فمنعه من ذلك وهدده فلم يحفل بابك بذلك وهلك في ثلاثة أيام فتوج سابور بن بابك بالتاج وملك مكان أبيه وكتب إلى أردشير يستدعيه فامتنع فغضب سابور وجمع جموعا وسار بهم نحوه ليحاربه وخرج من إصطخر وبها عدة من أصحابه وإخوانه وأقاربه وفيهم من هو أكبر سنا منه فأخذوا التاج وسريره وسلموه إلى أردشير فتتوج

381
وافتتح أمره بجد وقوة وجعل له وزيرا ورتب موبذان موبذ وأحس من اخوته وقوم كانوا معه بالفتك به فقتل جماعة كثيرة منهم وعصى عليه أهل دارا بجرد فعاد إليهم فافتتحها وقتل جماعة من أهلها ثم سار إلى كرمان وبها ملك يقال له بلاش فاقتتل قتالا شديدا وقاتل أردشير بنفسه وأسر بلاش فاستولى على المدينة وجعل فيها ابنا له اسمه أردشير أيضا.
وكان في سواحل بحر فارس ملك اسمه اسيون يعظم فسار إليه أردشير فقتله وقتل من معه واستخرج له أموالا عظيمة.
وكتب إلى جماعة من الملوك منهم مهرك صاحب ابرساس من أردشير خره يدعوهم إلى الطاعة فلم يفعلوا فسار إليهم فقتل مهرك ثم سار إلى جور فأسسها وبنى الجوسق المعروف بالطربال وبيت نار هناك.
فبينما هو كذلك إذ ورد عليه رسول أردوان بكتاب فجمع الناس فقرأه عليهم فإذا فيه أنك عدوت قدرك واجتلبت حتفك أيها الكردي من أذن لك في التاج والبلاد ومن أمرك ببناء المدينة وأعلمه أنه قد وجه إليه ملك الأهواز ليأتيه به في وثاق.
فكتب إليه إن الله حباني بالتاج وملكني البلاد وأنا أرجوا أن يمكنني منك فأبعث برأسك إلى بيت النار الذي أسسته.
وسار أردشير نحو إصطخر وخلف وزيره أبرسام بأردشير خره فلم

382
يلبث إلا قليلا حتى ورد عليه كتاب أبرسام بموافاة ملك الأهواز وعوده منكوبا ثم سار إلى أصبهان فملكها وقيل ملكها وعاد إلى فارس وتوجه إلى محاربة نير وفر صاحب الأهواز وسار إلى أرجان وإلى ميسان وطاسار ثم إلى سرق فوقف على شاطئ دجيل فظفر بالمدينة وابتنى مدينة سوق الأهواز وعاد إلى فارس بالغنائم ثم عاد من فارس إلى الأهواز على طريق خره وكازرون وقتل ملك ميسان وبنى هناك كرخ ميسان وعاد إلى فارس فأرسل إلى أردوان يؤذنه بالحرب ويقول له ليعين موضعا للقتال فكتب إليه أردوان إني أوافيك في صحراء هرمزجان لانسلاخ مهرماه فوافاه أردشير قبل الوقت وخندق على نفسه واحتوى على الماء ووافاه أردوان وملك الأرمانيين وكانا يتحاربان على الملك فاصطلحا على أردشير وحارباه وهما متساندان يقاتله هذا يوما وهذا يوما فإذا كان يوم بابا ملك الأرمانيين لم يقم له أردشير وإذا كان يوم أردوان لم يقم لأردشير فصالح أردشير بابا ملك الأرمانيين على أن يكف عنه ويفرغ أردشير لأردوان فلم يلبث أن قتله واستولى على ما كان به وأطاعه بابا وسمي أردشير شاهنشاه.
ثم سار إلى همذان فافتتحها وإلى الجبل وأذربيجان وأرمينية والموصل ففتحها عنوة وسار إلى السواد من الموصل فملكه وبنى على شاطئ دجلة قبالة طيسفون وهي المدينة التي في شرق المدائن مدينة غربية وسماها به

383
أردشير، وعاد من السواد إلى إصطخر وسار منها إلى سجستان ثم إلى جرجان ثم إلى نيسابور ومرو وبلخ وخوارزم وعاد إلى فارس ونزل جور فجاءه رسل من ملك كوسان وملك طوران وملك مكران بالطاعة.
ثم سار من جور إلى البحرين فاضطر ملكها إلى أن رمى نفسه من حصنه فهلك. وعاد إلى المدائن فتوج ابنه سابور بتاجه في حياته وبنى ثمان مدن منها مدينة الخط بالبحرين ومدينة بهرسير مقابل المدائن وكان اسمه به أردشير فعربت به سير وأردشير خره هي مدينة فيروز أباد سماها عضد الدولة بن بويه كذلك وبنى بكرمان مدينة أردشير أيضا فعربت بردشير وبنى بهمن أردشير على دجلة عند البصرة والبصريون يسمونها بهمن شير وفرات ميسان أيضا وبنى رامهرمز بخوزستان وبنى سوق الأهواز وبالموصل بودر أردشير وهي حرة.
ولم يزل محمود السيرة مظفرا منصورا لا ترد له راية ومدن المدن وكور الكور ورتب المراتب وعمر البلاد.
وكان ملكه من قتله أردوان إلى أن هلك أربعة عشرة سنة وقيل أربع عشرة سنة وعشرة أشهر ولما استولى اردشير على العراق كره كثير من تنوخ المقام في مملكته فخرج من كان منهم من قضاعة إلى الشام ودان له أهل الحيرة والأنبار وقد كانت الحيرة والأنبار بنيتا زمن بختنصر فخربت الحيرة لتحول أهلها إلى الأنبار وعمرت الأنبار خمسمائة سنة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة زمن عمرو بن عدي فعمرت خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها أهل الإسلام.

384
ذكر ملك سابور بن أردشير بن بابك
ولما هلك أردشير بن بابك قام بالملك بعده ابنه سابور وكان أردشير قد أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم بسبب أليته التي آلاها جده ساسان بن أردشير بن بهمن فإنه أقسم أنه إن ملك يوما من الدهر لم يستبق من نسل أشك بن حرة أحدا وأوجب ذلك على عقبة فكان أول من ملك من عقبة أردشير فقتلهم جميعا نساءهم ورجالهم غير أن جارية وجدها في دار المملكة فأعجبته وكانت ابنة للملك المقتول فسألها عن نسبها فذكرت انها خادم لبعض نساء الملك فسألها أبكر أم ثيب فأخبرته أنها بكر فاتخذها لنفسه وواقعها فعلقت منه فلما أمنت منه بحبلها أخبرته أنها من ولد أشك فنفر منها ودعا هرجد بن أسام وكان شيخا مسنا فأخبره الخبر وقال له ليقتلها ليبر قسم جده فأخذها الشيخ ليقتلها فأخبرته أنها حبلى فأتى بالقوابل فشهدن بحبلها فأدعها سربا من الأرض ثم قطع مذاكيره ووضعها في حق وختم عليه وحضر عند الملك فقال ما فعلت فقال استودعتها بطن الأرض ودفع الحق إليه وسأله أن يختمه بخاتمه ويودعه بعض خزائنه ففعل.
ثم وضعت الجارية غلاما فكره الشيخ أن يسمى ابن الملك دونه وخاف أن يعلمه به وهو صغير فاخذ له الطالع وسماه شاه بور ومعناه ابن الملك فيكون اسما وصفة وهو أول من تسمى بهذا الاسم.

385
وبقي أردشير لا يولد له فدخل عليه الشيخ الذي عنده الصبي يوما فوجده محزونا فقال له ما يحزن الملك فقال ضربت بسيفي ما بين المشرق والمغرب حتى ظفرت وصفى لي ملك آبائي ثم أهلك وليس لي عقب فيه فقال له الشيخ سرك الله أيها الملك وعمرك لك عندي ولد طيب نفيس فادع لي بالحق الذي استودعتك أرك برهان ذلك فدعا اردشير بالحق وفتحه فوجد فيه مذاكير الشيخ وكتابا فيه لما أخبرتني ابنة أشك التي علقت من ملك الملوك حين أمر بقتلها لم أستحل اتلاف زرع الملك الطيب فأودعتها بطن الأرض كما أمر وتبرأنا إليه من أنفسنا لئلا يجد عاضه [إلى عضهها] سبيلا.
فأمره أردشير أن يجعل مع سابور مائة غلام وقيل ألف غلام من أشباهه في الهيئة والقامة ثم يدخلهم عليه جميعا لا يفرق بينهم زي ففعل الشيخ فلما نظر إليهم أردشير قبلت نفسه ابنه من بينهم ثم أعطوا صوالجة وكرة فلعبوا بالكرة وهو في الإيوان فدخلت الكرة الإيوان فهاب الغلمان أن يدخلوه وأقدم سابور من بينهم ودخل فاستدل بإقدامه مع ما كان من قبوله له حين رآه أنه ابنه فقال له اردشير ما اسمك قال شاه بور.
فلما ثبت عنده أنه ابنه شهر أمره وعقد له التاج من بعده وكان عاقلا بليغا فاضلا فلما ملك ووضع التاج على رأسه فرق الأموال على الناس من قرب ومن بعد وأحسن إليهم فبان فضل سيرته وفاق جميع الملوك وبنى مدينة سابور ومدينة سابور بفارس وبنى فيروز سابور وهي الأنبار وبنى جند يسابور.
وقيل إنه حاصر الروم بنصيبين وفيها جمع من الروم مدة ثم أتاه من

386
ناحية خراسان ما احتاج إلى مشاهدته فسار إليها وأحكم أمرها ثم عاد إلى نصيبين فزعموا أن سورها تصدع وانفرجت منه فرجة دخل منها وقتل وسبى وغنم وتجاوزها إلى بلاد الشام فافتتح من مدائنها مدنا كثيرة منها فالوقية وقدوقية وحاصر ملكا للروم بأنطاكية فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه فأسكنهم مدينة جند يسابور.
ذكر مدينة الحضر
كانت بجبال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وكان بها ملك يقال له الساطرون وكان من الجرامقة والعرب تسميه الضيزن وهو من قضاعة وكان قد ملك الجزيرة وكثر جنده وأنه تطرق بعض السواد إذ كان سابور بخراسان فلما عاد سابور أخبره بما كان منه فسار إليه وحاصره أربع سنين وقيل سنتين لا يقدر على هدم حصنه ولا الوصول إليه.
وكان للضيزن بنت تسمى النضيرة فحاضت فأخرجت إلى ربض المدينة وكذلك كان يفعل بالنساء وكانت من أجمل النساء وكان سابور من أجمل الناس فرأى كل واحد منهما صاحبه فتعاشقا فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به سور المدينة؟ فقال: أحكمك وأرفعك على نسائي فقالت عليك بحمامة ورقاء مطوقة فاكتب على رجلها بحيض جارية بكر زرقاء ثم أرسلها فإنها تقع على سور المدينة فيخرب وكان ذلك طلسم ذلك البلد ففعل وتداعت المدينة فدخلها عنوة وقتل الضيزن وأصحابه،

387
فلم يبق منهم أحد يعرف اليوم وأخرب المدينة واحتمل النضيرة فأعرس بها بعين التمر فلم تزل ليلتها تتضور فالتمس ما يؤذيها فإذا ورقة آس ملتزقة بعكنة من عكن بطنها فقال لها ما كان يغذوك به أبوك؟ قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر فقال وأبيك لأنا أحدث عهدا [بك] وآثر لك من أبيك فأمر رجلا فركب فرسا جموحا ثم عصب غدائرها بذنبه ثم استركضها فقطعها قطعا وقد أكثر الشعراء ذكر الضيزن في أشعارهم.
وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق وادعى النبوة وتبعه خلق كثير وهم الذين يسمون المانوية.
وكان ملكه ثلاثين سنة وخمسة عشر يوما وقيل إحدى وثلاثين سنة وستة أشهر وتسعة أيام.
ذكر ملك ابنه هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك
وكان يشبه في خلقه بأردشير غير لاحق به في تدبيره وكان من البطش والجراءة على أمر عظيم وكانت أمه من بنات مهرك الملك الذي قتله أردشير وتتبع نسله فقتلهم لأن المنجمين أخبروه أنه يكون من نسله من يملك

388
فهربت أمه إلى البادية وأقامت عند بعض الرعاء وخرج سابور متصيدا فاشتد به العطش وارتفعت له الأخبية التي فيها أم هرمز فقصدها وطلب الماء فناولته المرأة فرأى منها جمالا فائقا فلم يلبث أن حضر الرعاء فسألهم سابور عنها فقال بعضهم إنها ابنته فتزوجها. وسار بها إلى منزله وكسيت ونظفت فأرادها فامتنعت عليه مدة فلما طال عليه سألها عن سبب ذلك فأخبرته أنها ابنة مهرك وانها تفعل ذلك ابقاء عليه من أردشير فعاهدها على ستر أمرها ووطئها فولدت له هرمز فستر أمره حتى صار له سنون.
فركب أردشير يوما إلى منزل ابنه سابور لشيء أراد ذكره له فدخل منزله مفاجأة فلما استقر خرج هرمز وبيده صولجان وهو يصيح في أثره الكرة. فلما رآه أردشير أنكره ووقف على المشابه التي فيه من حسن الوجه وعبالة الخلق وأمور غيرها فاستدناه أردشير وسأل عنه سابور فخرج مفكرا على سبيل الإقرار بالخطأ وأخبره أباه أردشير الخبر فسر وأخبره أنه قد تحقق الذي ذكره المنجمون في ولد مهرك وأن ذلك قد سلى ما كان في نفسه وأذهبه.
فلما ملك سابور ولى هرمز خراسان وسيره إليها فقهر الأعداء واستقل بالأمر فوشى به الوشاة إلى سابور أنه على عزم أن يأخذ الملك منه وسمع هرمز بذلك فقيل إنه قطع يده وأرسلها إلى أبيه فكتب إليه بما بلغه وأنه فعل ذلك إزالة للتهمة لأن رسمهم أنهم كانوا لا يملكون ذا عاهة فلما وصلت يده إلى سابور تقطع أسفا وأرسل إلى هرمز يعلمه ما ناله لذلك وعقد له على الملك وملكه ولما ملك عدل في رعيته وكان صادقا وسلك سبيل آبائه وكور كورة رامهرمز وكان ملكه سنة وعشرة أيام.

389
ذكر ملك ابنه بهرام بن هرمز بن سابور
وكان حليما متأنيا حسن السيرة وقتل ماني الزنديق وسلخه وحشا جلده تبنا وعلق على باب من أبواب جند يسابور يسمى باب ماني وكان ملكه ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام وكان عامل سابور بن أردشير وابنه هرمز وبهرام بن هرمز بعد مهلك عمرو بن عدي على ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة يومئذ ابن لعمرو بن عدي يقال له امرؤ القيس الكندي وهو أول من تنصر من آل نصر بن ربيعة وعمال الفرس وعاش مملكا في عمله مائة سنة وأربع عشرة سنة منها في زمن سابور بن أردشير ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام وفي زمن بهرام ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز ثماني عشرة سنة.
ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير
وكان ملكه حسنا وكان عالما بالأمور فلما عقد له التاج وعدهم بحسن السيرة واختلف في سني ملكه فقيل ثماني عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة والله أعلم.

390
ذكر ملك ابنه بهرام بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور
فلما عقد التاج على رأسه دعا العظماء فأحسن الرد وكان قبل أن يفضي إليه الأمر مملكا على سجستان وكان ملكه أربع سنين
ذكر ملك نرسي بن بهرام
وهو أخو بهرام الثالث فلما عقد التاج على رأسه دخل عليه الأشراف والعظماء فدعوا له فوعدهم خيرا وسار فيهم بأعدل السيرة وقال لن نضيع شكر ما أنعم الله به علينا وكان ملكه تسع سنين.
ذكر ملك هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز
وكان الناس قد وجلوا منه لفظاظته فأعلمهم أنه قد علم بما كانوا يخافون من شدة ولايته وأن الله قد أبدل ما كان فيه من الفظاظة رقة ورأفة وساسهم أرفق سياسة وكان حريصا على انتعاش الضعفاء وعمارة البلاد والعدل ثم هلك ولا ولد له فشق ذلك على الناس فسألوا عن نساءه فذكر لهم أن

391
بعضهن حبلى، وقيل إن هرمز كان أوصى بالملك لذلك الحمل وولدت المرأة سابور ذا الأكتاف.
وكان ملك هرمز ست سنين وخمسة أشهر وقيل سبع سنين وخمسة أشهر.
وأسماء الملوك من سابور بن أردشير إلى ها هنا لم يحذف منها شيء.
ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتاف
وهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك قيل ملك بوصية أبيه له فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق وتقلد الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه.
وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد فطمعت في مملكتهم الترك والعرب والروم وكانت العرب أقرب إلى بلاد فارس فسار جمع عظيم منهم في البحر من عبد القيس والبحرين إلى بلاد فارس وسواحل أردشير خره وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم وأكثروا الفساد وغلبت إياد على سواد العراق وأكثروا الفساد فيهم فمكثوا حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم.
فلما ترعرع سابور وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاة وأصواتا فسأل عن ذلك فقيل إن الناس يزدحمون في الجسر

392
الذي على دجلة مقبلين ومدبرين فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخر للمدبرين فاستبشر الناس بذلك. فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد فأبى واختار من عسكره ألف رجل فسألوه الازدياد فلم يفعل وسار بهم ونهاهم عن الإبقاء على أحد من العرب وقصد بلاد فارس فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من بالبحرين لم يلتفت إلى غنيمة وسار إلى هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض وأباد عبد القيس وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل وغور مياه العرب وقصد بكرا وتغلب فيما بين مناظر الشام والعراق فقتل وسبى وغور مياههم وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتل إلى أن هلك فسموه سابور ذا الأكتاف لهذا، وانتقلت إياد حينئذ إلى الجزيرة وصارت تغير على
السواد فجهز سابور إليهم الجيوش وكان لقيط الإيادي معهم فكتب إلى إياد:
(سلام في الصحيفة من لقيط * إلى من بالجزيرة من إياد)
(بأن الليث كسرى قد أتاكم * فلا يشغلكم سوق النفاد)
(أتاكم منهم سبعون ألفا * يزجون الكتائب كالجراد)

393
فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة فكتب إليهم أيضا:
أبلغ إيادا وخلل في سراتهم * إني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا.
وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب فلم يحذروا وأوقع بهم سابور وأبادهم قتلا إلا من لحق بأرض الروم فهذا فعله بالعرب.
وأما الروم فإن سابور كان هادن ملكهم وهو قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوك الروم ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر سابور إن شاء الله. ومات قسطنطين وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له فملكوا وملكت الروم عليهم رجلا من أهل بيت قسطنطين يقال له (اليانوس) وكان على ملة الروم الأولى ويكتم ذلك فلما ملك أظهر دينه وأعاد ملة الروم وأخرب البيع وقتل الأساقفة ثم جمع جموعا من الروم والخزر وسار نحو سابور واجتمعت العرب للانتقام من سابور فاجتمع في عسكر اليانوس منهم خلق كثير وعادت عيون سابور إليه فاختلفوا في الأخبار فسار سابور بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو الروم فلما قرب من يوسانوس وهو على مقدمة اليانوس اختفى وأرسل بعض من معه من الروم فأخذوا وأقر بعضهم على سابور فأرسل يوسانوس إليه سرا ينذره فارتحل سابور إلى عسكره وتحارب هو والعرب والروم فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة وملكت الروم مدينة طيسفون وهي المدائن الشرقية وملكوا أيضا أموال سابور وخزائنه.

394
وكتب سابور إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من الروم والعرب ويستحثهم على المسير إليه فاجتمعوا إليه وعاد واستنقذ مدينة طيسفون ونزل اليانوس مدينة بهرسير واختلف الرسل بينهما فبينما اليانوس جالس أصابه سهم لا يعرفه راميه فقتله فسقط في أيدي الروم ويئسوا من الخلاص من بلاد فارس فطلبوا من يوسانوس أن يملك عليهم فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية فأخبروه أنهم على ملته وإنما كتموا ذلك خوفا من اليانوس فملك عليهم وأرسل سابور إلى الروم يتهددهم ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به فسار إليه يوسانوس في ثمانين رجلا فتلقاه سابور وتساجدا وطعما وقوى سابور أمر يوسانوس بجهده وقال للروم إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها فأما أن تعطونا قيمة ما أهلكتم وإما أن تعوضونا نصيبين وكانت قديما للفرس فغلبت الروم عليها فدفعوها إليهم وتحول أهلها عنها فحول إليها سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصطخر وأصبهان وغيرها وعادت الروم إلى بلادها وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير.
وقيل: إن سابور سار إلى حد الروم وأعلم أصحابه أنه على قصد الروم مختفيا لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم وسار إليهم فجال فيهم حينا وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور وسار قيصر بجنوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحال فقتل وأخرب حتى بلغ جنديسابور فتحصن أهلها وحاصرها فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة سابور وكان بقربه قوم من سبي الأهواز فأمرهم أن يلقوا على القد الذي علينا زيتا كان بقربهم ففعلوا ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه فارتفعت أصوات أهلها فاستيقظ الروم وجمع سابور من بها وعبأهم وخرج إلى الروم سحر تلك الليلة فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله

395
ونساءه وأثقله بالحديد وأمره بعمارة ما أخرب وألزمه بنقل التراب من بلد الروم ليبني به ما هدم المنجنيق من جند يسابور وأن يغرس الزيتون مكان النخل ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار وقال هذا جزاؤك ببغيك علينا، فأقام مدة عمر غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية السوس سماها إيران شهر سابور وبنى مدينة نيسابور بخراسان في قول وبالعراق بزرج سابور.
وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة. وهلك في أيامه امرؤ القيس بن عمرو بن عدي عامله على العرب فاستعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس فبقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز وبعض أيام سابور بن سابور.
وكانت ولايته ثلاثين سنة.
[سبب تنصر قسطنطين]
وأما سبب تنصر قسطنطين فإنه كان قد كبر سنه وساء خلقه وظهر به وضح كبير فأرادت الروم خلعه وترك ماله عليه فشاور نصحاءه فقالوا له لا طاقة لك بهم فقد أجمعوا على خلعك وإنما تحتال عليهم بالدين وكانت النصرانية قد ظهرت وهي خفية وقالوا له استمهلهم حتى تزور البيت المقدس فإذا زرته دخلت في دين النصرانية وحملت الناس عليه فإنهم

396
يعترفون، فتقاتل من عصاك بمن أطاعك وما قاتل قوم على دين إلا نصروا. ففعل ذلك فأطاعه عالم عظيم وخالفه خلق كثير وأقاموا على دين اليونانية فقاتلهم وظفر بهم فقتلهم فأحرق كتبهم وحكمتهم وبنى القسطنطينية ونقل الناس إليها وكانت رومية دار ملكهم وبقي ملكه عليه وغلب على الشام وكان الأكاسرة قبل سابور ذي الأكتاف ينزلون طيسفون وهي المدينة الغربية من المدائن فلما نشأ سابور بنى الإيوان بالمدائن الشرقية وانتقل إليه وصار هو دار الملك وهو باق إلى الآن ونحن في سنة خمس وعشرين وستمائة.
ذكر ملك أردشير بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن
سابور بن أردشير بن بابك أخي سابور
فلما ملك واستقر له الملك عطف على العظماء وذوي الرئاسة فقتل منهم خلقا كثيرا، فخلعه الناس بعد أربع سنين من ملكه.
ذكر ملك سابور بن سابور ذي الأكتاف
فلما ملك بعد خلع عمه استبشر الناس بعود ملك أبيه إليه، وكتب إلى العمال بالعدل والرفق بالرعية وأمر بذلك وزراءه وحاشيته، وأطاعه عمه

397
المخلوع وأحبته رعيته ثم ان العظماء وأهل الشرف قطعوا أطناب خيمة كان فيها فسقطت عليه فقتلته.
وكان ملكه خمس سنين.
ذكر ملك أخيه بهرام بن سابور ذي الأكتاف
وكان يلقب كرمان شاه لأن أباه ملكه كرمان في حياته فكتب إلى القواد كتابا يحثهم على الطاعة وكان محمودا في أموره وبنى بكرمان مدينة وثار به ناس من الفتاك فقتله أحدهم بنشابة وكان ملكه احدى عشرة سنة
ذكر ملك يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور ذي الأكتاف
ومن أهل العلم من يقول إن يزدجرد هذا هو أخو بهرام كرمان شاه بن سابور لا ابنه وكان فظا غليظا ذا عيوب كثيرة يضع الشيء في غير مواضعه كثيرا الرؤية في الصغائر واستعمل كل ما عنده في المواربة والدهاء

398
والمخاتلة مع فطنة بجهات الشر وعجب به وكان علقا سئ الخلق لا يغفر الصغيرة من الزلات ولا يقبل شفاعة أحد من الناس وإن كان قريبا منه كثير التهمة ولا يأتمن أحدا على شيء ولم يكن يكافئ أحدا على حسن البلاء وإن هو أولى الخسيس من العرف استعظمه وإذا بلغه أن أحدا من أصحابه صافي أحدا من أهل صناعته نحاه عن خدمته وكان فيه مع ذلك ذكاء ذهن وحسن أدب وقد مهر في صنوف من العلم واستوزر نرسي حكيم زمانه وكان فاضلا قد كمل أدبه ولقبه هزار بيده فأمل الناس أن يصلح نرسي منه فكان ما أملوه بعيدا.
فلما استوى له الملك واشتدت شوكته هابته الأشراف والعظماء وحمل على الضعفاء فأكثر من سفك الدماء.
فلما ابتليت الرعية به شكوا ما نزل بهم منه إلى الله تعالى وسألوه تعجيل إنقاذهم منه فزعموا أنه كان بجرجان فرأى ذات يوم في قصره فرسا غائرا لم ير مثله فأخبر به فأمر أن يسرج ويلجم ويدخل عليه فلم يقدر أحد على ذلك فأعلم بذلك فخرج إليه بنفسه وألجمه بيده وأسرجه فلما رفع ذنبه ليثفره رمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه وملأ الفرس فروجه جريا ولم يعلم له خبر وكان ذلك من صنع الله ورأفته بهم.

399
وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة عشر يوما.
* * *
وأما العرب فقيل إنه لما هلك عمرو بن امرئ القيس البدء ابن عمرو بن عدي في عهد سابور استخلف سابور على عمله أوس بن قلام وهو من العماليق فملك خمس سنين وقتل في عهد بهرام بن سابور، فاستخلف بعده في عمله امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس البدء فبقي خمسا وعشرين سنة وهلك أيام يزدجرد الأثيم فاستخلف بعده في عمله ابنه النعمان وأمه شقيقة ابنة أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وهو صاحب الخورنق وسبب بنائه له أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد فسأل عن منزل برس صحيح فدل على ظاهر الحيرة فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا وأمره ببناء الخورنق مسكنا له وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب وكان الذي بنى الخورنق رجلا اسمه سنمار فلما فرغ من بناءه تعجبوا منه فقال لو علمت أنكم توفونني أجري لعملته يدور مع الشمس فقال وإنك لتقدر على ما هو أفضل منه ثم أمر به فألقي من رأس الخورنق فهلك. فضربت العرب بجزائه المثل وهو مذكور في أشعارها.
وغزا النعمان هذا الشام مرارا وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم وجعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ والأخرى الشهباء وهي لفارس فكان يغزو بهما الشام ومن لم يطعه من العرب.
ثم إنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق فأشرف منه على النجف وما

400
يليه من البساتين والأنهار في يوم من أيام الربيع فأعجبه ذلك فقال لوزيره هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ قال: لا لو كان يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال ذلك قال بتركك الدنيا وعبادة الله. فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح وخرج هاربا لا يعلم به فأصبح الناس فلم يروه.
وكان ملكه إلى أن ترك وساح تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر من ذلك في أيام يزدجرد خمس عشرة سنة وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة.
وأما علماء الفرس فإنهم يقولون غير هذا وسيرد ذكره.
ذكر ملك بهرام بن يزد جرد الأثيم
لما ولد يزدجرد بهرام جور اختار العرب لحضانته العرب فدعا بالمنذر بن النعمان واستحضنه بهرام وشرفه وكرمه وملكه على العرب فسار به المنذر واختار لرضاعه ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة من بنات الأشراف منهن عربيتان وعجمية فأرضعنه ثلاث سنين فلما بلغ خمس سنين أحضر له مؤدبين فعلموه الكتابة والرمي والفقه بطلب من بهرام بذلك وأحضر حكيما من حكماء الفرس فتعلم ووعى كل ما علمه بأدنى تعليم فلما بلغ اثنتي عشرة سنة تعلم كل ما أفيد وفاق معلميه فأمرهم المنذر بالانصراف وأحضر معلمي الفروسية فأخذ عنهم كل ما ينبغي له ثم صرفهم ثم أمر فأحضرت خيل العرب للسباق فسبقها فرس أشقر للمنذر وأقبل باقي الخيل بداد فقرب المنذر الفرس بيده إليه فقبله وركبه

401
يوما للصيد، فبصر بعانة حمر وحش فرمى عليها وقصدها وإذا هو بأسد قد أخذ عيرا منها فتناوله ظهره بفيه فرماه بهرام بسهم فنفذ في الأسد والعير ووصل إلى الأرض فساخ السهم إلى ثلثه فرآه من معه فعجبوا منه ثم أقبل على الصيد واللهو والتلذذ.
فمات أبوه وهو عند المنذر فتعاهد العظماء وأهل الشرف على أن لا يملكوا أحدا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته فاجتمعت الكلمة على صرف الملك عن بهرام لنشوئه في العرب وتخلقه بأخلاقهم ولأنه من ولد يزدجرد وملكوا رجلا من عقب أردشير بن بابك يقال له كسرى فانتهى هلاك يزدجرد وتمليك كسرى إلى بهرام فدعا بالمنذر وابنه النعمان وناس من أشراف العرب وعرفه إحسان والده إليهم وشدته على الفرس وأخبرهم الخبر فقال المنذر لا يهولنك ذلك حتى ألطف الحيلة فيه وجهز عشرة آلاف فارس ووجههم مع ابنه النعمان إلى طيسفون وبهرسير مدينتي الملك وأمره أن يعسكر قريبا منهما ويرسل طلائعه إليهما وأن يقاتل من قاتله ويغير على البلاد ففعل ذلك وأرسل عظماء فارس حوابي صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر يعلمه أمر النعمان فلما ورد حوابي قال له الق الملك بهرام فدخل عليه فراعه ما رأى منه فأغفل عن السجود دهشا فعرف بهرام ذلك فكلمه ووعده أحسن الوعد ورده إلى المنذر وقال له أجبه فقال له إن الملك بهرام أرسل النعمان إلى ناحيتكم حيث ملكه الله بعد أبيه. فلما سمع حوابي مقالة المنذر وتذكر ما رأى من بهرام علم أن جميع من تشاور في صرف الملك عن بهرام

402
محوج فقال للمنذر سر إلى مدينة الملوك وتجمع إليك الأشراف والعظماء وتشاوروا في ذلك فلن تخالفوا ما تشير به.
وسار المنذر بعد عود حوابي من عنده بيوم في ثلاثين ألفا من فرسان العرب إلى مدينتي الملك بهرام فجمع الناس وصعد بهرام على منبر من ذهب مكلل بالجواهر وتكلم عظماء الفرس فذكروا فظاظة يزدجرد أبي بهرام وسوء سيرته وكثرة قتله وإخراب البلاد وأنهم لهذا السبب صرفوا الملك عن ولده.
فقال بهرام: لست أكذبكم وما زلت زاريا عليه ذلك ولم أزل أسأل الله أن يملكني لأصلح ما أفسد ومع هذا فإذا أتى على ملكي سنة ولم أف بما أعد تبرأت من الملك طائعا وأنا راض بأن تجعلوا التاج وزينة الملك بين أسدين ضاريين فمن تناولهما كان الملك له فأجابوه إلى ذلك ووضعوا التاج والزينة بين أسدين وحضر موبذان موبذ فقال بهرام لكسرى دونك التاج والزينة فقال كسرى: أنت أولى لأنك تطلب الملك بوراثة وأنا فيه مغتصب فحمل بهرام جرزا وتوجه نحو التاج فبدر إليه أحد الأسدين فوثب بهرام فعلا ظهره وعصر جنبي الأسد بفخذيه وجعل يضرب رأسه بالجرز الذي معه ثم وثب على الأسد الآخر عليه فقبض أذنيه بيده ولم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الآخر الذي تحته حتى دمغهما ثم قتلهما بالجرز الذي معه وتناول بعد ذلك التاج والزينة فكان أول من أطاعه كسرى وقال جميع من حضر قد أذعنا لك ورضينا بك ملكا وإن العظماء والوزراء والأشراف سألوا المنذر ليكلم بهرام في العفو عنهم فسأل المنذر الملك بهرام ذلك فأجابه.

403
وملك بهرام وهو ابن عشرين سنة وأمر أن يلزم رعيته راحة ودعة وجلس للناس يعدهم بالخير ويأمرهم بتقوى الله ولم يزل مدة ملكه يؤثر اللهو على ما سواه حتى طمع فيه من حوله من الملوك في بلاده، وكان أول من سبق إلى قصده خاقان ملك الترك فإنه غزاه في مائتي ألف وخمسين ألفا من الترك فعظم ذلك على الفرس ودخل العظماء على بهرام وحذروه فتمادى في لهوه ثم تجهز وسار إلى أذربيجان ليتنسك في بيت نارها ويتصيد بأمنيته في سبعة رهط من العظماء وثلاثمائة من ذوي البأس والنجدة واستخلف أخاه نرسي فما شك الناس في أنه هرب من عدوه فاتفق رأي جمهورهم على الانقياد إلى خاقان وبذل الخراج له خوفا على نفوسهم وبلادهم.
فبلغ ذلك خاقان فأمن ناحيتهم وسار بهرام من أذربيجان إلى خاقان في تلك العدة فثبت للقتال وقتل خاقان بيده وقتل جنده وانهزم من سلم من القتل وأمعن بهرام في طلبهم يقتل ويأسر ويغنم ويسبي وعاد وجنده سالمون وظفر بتاج خاقان وإكليله وغلب على طرف من بلاده واستعمل عليها مرزبانا وأتاه رسل الترك خاضعين مطيعين وجعلوا بينهم حدا لا يعدونه وأرسل إلى ما وراء النهر قائدا من قواده فقتل وسبى وغنم وعاد بهرام إلى العراق وولى أخاه نرسي خراسان وأمره أن ينزل مدينة بلخ.
واتصل به أن بعض رؤساء الديلم جمع جمعا كثيرا وأغار على الري وأعمالها فغنم وسبى وخرب البلاد وقد عجز أصحابه في الثغر عن دفعه وقد قرروا عليهم أتاوة يدفعونها إليه فعظم ذلك عليه وسير مرزبانا إلى الري في عسكر كثيف وأمره أن يضع على الدليمي من يطمعه في البلاد ويغريه بقصدها،

404
ففعل ذلك فجمع الديلمي جموعه وسار إلى الري فأرسل المرزبان إلى بهرام جور يعلمه خبره فكتب إليه يأمره بالمسير نحو الديلمي والمقام سماه له ثم سار جريدة في نفر من خواصه فأدرك عسكره بذلك المكان والديلمي لا يعلم بوصوله وهو قد قوي طمعه لذلك فعبى بهرام أصحابه وسار نحو الديلم فلقيهم وباشر القتال بنفسه فأخذ رئيسهم أسيرا وانهزم عسكره فأمر بهرام بالنداء فيهم بالأمان لمن عاد إليه فعاد الديلم جميعهم فأمنهم ولم يقتل منهم أحدا وأحسن إليهم وعادوا إلى أحسن طاعة وأبقى على رئيسهم وصار من خواصه.
وقيل كانت هذه الحادثة قبل حرب الترك والله أعلم.
ولما ظفر بالديلم أمر ببناء مدينة سماها فيروز بهرام فبنيت له هي ورستاقها واستوزر نرسي فأعلمه أنه ماض إلى الهند متخفيا فسار إلى الهند وهو لا يعرفه أحد غير أن الهند يرون شجاعته وقتله السباع ثم إن فيلا ظهر وقطع السبيل وقتل خلقا كثيرا فاستدل عليه فسمع الملك خبره فأرسل معه من يأتيه بخبره فانتهى بهرام والهندي
معه إلى الأجمة فصعد الهندي شجرة ومضى بهرام فاستخرج الفيل وخرج له صوت شديد فلما قرب منه رماه بسهم بين عينيه كان يغيب ووقذه بالنشاب وأخذ مشفرة ولم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه فاحتز رأسه وأخرجه.
وأعلم الهندي ملكهم بما رأى فأكرمه أحسن إليه وسأله عن حاله فذكر أن ملك فارس سخط عليه فهرب إلى جواره وكان لهذا الملك عدو فقصده فاستسلم الملك وأراد أن يطيع ويبذل الخراج فنهاه بهرام وأشار بمحاربته فلما التقوا قال لأساورة الهندي احفظوا لي ظهري، ثم حمل

405
عليهم فجعل يضرب في أعراضهم ويرميهم بالشاب حتى انهزموا وغنم أصحاب بهرام ما كان في عسكر عدوه فأعطى بهرام الدبيل ومكران وأنكحه ابنته فأمر بتلك البلاد فضمت إلى بلاد فارس.
وعاد بهرام مسرورا وأغزى نرسي بلاد الروم في أربعين ألفا وأمره أن يطلب ملك الروم بالإتاوة فسار إلى القسطنطينية فهادنه ملك الروم فانصرف بكل ما أراد إلى بهرام. وقيل إنه لما فرغ من خاقان والروم سار بنفسه إلى بلاد اليمن ودخل بلاد السودان فقتل مقاتلهم وسبى منهم خلقا كثيرا وعاد إلى مملكته.
ثم إنه في آخر ملكه خرج إلى الصيد فشد على عنز فأمعن في طلبه فارتطم في جب فغرق فبلغ والدته ذلك فسارت إلى ذلك الموضع وأمرت بإخراجه فنقلوا من الجب طينا كثيرا حتى صار إكاما عظاما ولم يقدروا عليه.
وكان ملكه ثماني عشرة سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما وقيل ثلاثا وعشرين سنة.
هكذا ذكر أبو جعفر في اسم بهرام جور أن أباه أسلمه إلى المنذر بن نعمان كما تقدم وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم ابنه بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذلك إلا إنه لم ينسب كل قول إلى قائله.

406
ذكر ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور
لما لبس التاج جلس للناس ووعدهم وذكر أباه ومناقبه وأعلمهم أنهم إن فقدوا منه طول جلوسه لهم فإن خلوته في مصالحهم وكيد أعدائهم وأنه قد استوزر نرسي صاحب أبيه وعدل في رعيته وقمع أعداءه وأحسن إلى جنده وكان له ابنان يقال لأحدهما هرمز وللآخر فيروز وكان لهرمز سجستان فغلب على الملك بعد هلاك أبيه يزدجرد فهرب فيروز ولحق ببلاد الهياطلة واستنجد ملكهم فأمده بعد أن دفع إليه الطالقان فاقبل بهم فقتل أخاه بالري وكانا من أم واحده وقيل لم يقتله وإنما أسره وأخذ الملك منه وكان الروم منعوا الخراج عن يزدجرد فوجه إليهم نرسي في العدة التي أنفذه أبوه فيها فبلغ أرادته.
وكان ملك يزدجرد ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر وقيل تسع عشرة سنة.
ذكر ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام
بعد أن قتل أخاه هرمز وثلاثة من أهل بيته
ولما ظفر فيروز بأخيه وملك أظهر العدل وأحسن السيرة وكان يتدين إلا أنه كان محدودا مشؤوما على رعيته وقحطت البلاد في زمانه سبع سنين

407
متوالية، وغارت الأنهار والقنى وقل ماء دجلة ومحلت الأشجار وهاجت عامة الزروع في السهل الجبل من بلاده وماتت الطيور والوحوش وعلم أهل البلاد الجوع والجهد الشديد فكتب إلى جميع رعيته [يعلمهم] أنه لا خراج عليهم ولا جزية ولا مؤنة وتقدم إليهم بأن كل من عنده طعام مذخور يواسي به الناس وأن يكون حال الغني والفقير واحدا وأخبرهم أنه إن بلغه أن إنسانا مات جوعا بمدينة أو قرية عاقبهم ونكل بهم. وساس الناس سياسة لم يعطب أحد جوعا ما خلا رجلا واحدا من رستاق أردشير خره وابتهل فيروز إلى الله بالدعاء فأزال ذلك القحط وعادت بلاده إلى ما كانت عليه.
فلما حيى الناس والبلاد وأثخن في أعدائه سار مريدا حرب حرب الهياطلة فلما سمع إخشنوار ملكهم خافه فقال له بعض أصحابه اقطع يدي ورجلي وألقني على الطريق وأحسن إلى عيالي لأحتال على فيروز. ففعل ذلك واجتاز به فيروز فسأله عن حاله فقال له إني قلت لإخشنوار لا طاقة لك بفيروز ففعل بي هذا وإني أدلك على طريق لم يسلكها ملك وهي أقرب. فاغتر فيروز بذلك وتبعه فسار به وبجنده حتى قطع بهم مفازة بعد مفازة حتى إذا علم أنهم لا يقدرون على الخلاص أعلمهم حاله فقال أصحاب فيروز لفيروز حذرناك فلم تحذر فليس إلا التقدم على كل حال فتقدموا أمامهم فوصلوا إلى عدوهم وهم هلكى عطشى وقتل العطش منهم كثيرا فلما أشرفوا على تلك الحال صالحوا إخشنوار على أن يخلي سبيلهم إلى بلادهم على أن يحلف له فيروز أنه لا يغزو بلاده فاصطلحا وكتب فيروز كتابا بالصلح وعاد.
فلما استقر في مملكته حملته الأنفة على معاودة إخشنوار فنهاه وزراؤه

408
عن نقض العهد فلم يقبل وسار نحوه فلما تقاربا أمر إخشنوار فحفر خلف عسكره خندقا عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا وغطاه بخشب ضعيف وتراب ثم عاد وراءه فلما سمع فيروز بذلك اعتقده هزيمة فتبعه ولا يعلم عسكر فيروز بالخندق فسقط هو وأصحابه فيه فهلكوا وعاد إخشنوار إلى عسكر فيروز وأخذ كل ما فيه وأسر نساءه وموبذان موبذ ثم استخرج جثة فيروز ومن سقط معه فجعلها في النواويس.
وقيل إن فيروز لما انتهى إلى الخندق الذي حفره إخشنوار ولم يكن مغطى عقد عليه قناطر وجعل عليها أعلاما له ولأصحابه يقصدونها في عودهم وجاز إلى القوم فلما التقى العسكران احتج عليه إخشنوار بالعهود التي بينهما وحذره عاقبة الغدر فلم يرجع فنهاه أصحابه فلم ينته فضعفت نياتهم في القتال فلما أبى إلا القتال رفع إخشنوار نسخة العهد على رمح وقال اللهم خذ بما في هذا الكتاب وقلده بغيه فقاتله فانهزم فيروز وعسكره فضلوا عن مواضع القناطر فسقطوا في الخندق فهلك فيروز وأكثر عسكره وغنم إخشنوار أموالهم ودوابهم وجميع ما معهم وغلب إخشنوار على عامة خراسان. فسار إليهم رجل من أهل فارس يقال له سوخرا وكان فيهم عظيما وخرج كالمحتسب وقيل بل كان فيروز استخلفه على ملكه لما سار وكان له سجستان فلقي صاحب الهياطلة فأخرجه من خراسان واستعاد منه كل ما أخذ من عسكر فيروز مما هو في عسكره موجودا من السبي وغيره وعاد إلى بلاده فعظمته الفرس إلى غاية لم يكن فوقه إلا الملك وكانت مملكة الهياطلة طخارستان فكان فيروز قد أعطى ملكهم لما ساعده على حرب أخيه الطالقان.
وكان ملك فيروز ستا وعشرين سنة وقيل إحدى وعشرين سنة.

409
ذكر الأحداث في العرب أيام يزدجرد وفيروز
كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير وغيرهم وكان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر الكندي سيد كندة فلما قتل عمرو بن تبع أخاه حسان بن تبع اصطنع عمرو بن حجر وزوجته ابنة أخيه حسان ولم يطمع في التزوج إلى ذلك البيت أحد من العرب فولدت الحارث بن عمرو.
وملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن مثوب وإنما ملكوه لأن أولاد عمرو كانوا صغارا وكان الجن قبل ذلك قد استهامت تبع بن حسان وكان عبد كلال على دين النصرانية الأولى ويكتم ذلك ورجع تبع بن حسان من استهامته وهو أعلم الناس بما كان قبله فملك اليمن وهابته حمير فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر في جيش إلى الحيرة فسار إلى النعمان بن امرئ القيس وهو ابن الشقيقة فقاتله فقتل النعمان وعدة من أهل بيته وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر وأمه ماء السماء امرأة من النمر بن قاسط فذهب ملك آل النعمان وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون؛ قال بعضهم.
وقال ابن الكلبي: ملك بعد النعمان المنذر بن النعمان بن المنذر بن النعمان أربعا وأربعين سنة من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة.
ثم ملك بعده الأسود بن المنذر عشرين سنة منها في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.

410
وهكذا ذكر أبو جعفر ها هنا أن الحارث بن عمرو قتل النعمان بن امرئ القيس وأخذ بلاده وانقرض ملك أهل بيته وذكر فيما تقدم أن المنذر بن النعمان أو النعمان على الاختلاف المذكور هو الذي جمع العساكر وملك بهرام جور على الفرس ثم ساق فيما بعد ملوك الحيرة من أولاد النعمان هذا إلى آخرهم ولم يقطع ملكهم بالحارث بن
عمرو، وسبب هذا أن أخبار العرب لم تكن مضبوطة على الحقيقة فقال كل واحد ما نقل إليه من غير تحقيق وقيل غير ذلك وسنذكره في مقتل حجر بن عمرو والد امرئ القيس في أيام العرب إن شاء الله.
والصحيح أن ملوك كندة عمرو والحارث كانوا بنجد على العرب وأما اللخميون ملوك الحيرة المناذرة فلم يزالوا عليها إلى أن ملك قباذ الفرس وأزالهم واستعمل الحارث بن عمرو الكندي على الحيرة ثم أعاد أنوشروان الحيرة إلى اللخميين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك بلاش بن فيروز بن يزدجرد
ثم ملك بعد فيروز ابنه بلاش وجرى بينه وبين أخيه قباذ منازعة استظهر فيها قباذ وملك فلما ملك بلاش أكرم سوخرا وأحسن إليه لما كان منه ولم يزل حسن السيرة حريصا على العمارة وكان لا يبلغه أن بيتا خرب وجلا أهله إلا عاقب صاحب تلك القرية على تركه سد فاقتهم حتى لا يضطروا إلى مفارقة أوطانهم وبنى مدينة ساباط بقرب المدائن وكان ملكه أربع سنين.

411
ذكر ملك قباذ بن فيروز بن يزدجرد
وكان قباذ قبل أن يصير الملك إليه قد سار إلى خاقان مستنصرا به على أخيه بلاش فمر في طريقه بحدود نيسابور ومعه جماعة من أصحابه متنكرين وفيهم زرمهر بن سوخرا فتاقت نفسه إلى النكاح فشكا ذلك إلى زرمهر وطلب منه امرأة فسار إلى امرأة صاحب المنزل وكانت من الأساورة وكان له بنت حسناء فخطبها منها وأطمعها وزوجها فزوجا [قباذ بها]، فدخل بها قباذ من ليلته، فحملت بأنوشروان وأمر لها بجائزة سنية وردها وسألتها أمها عن قباذ وحاله فذكرت أنها لا تعرف من حاله شيئا غير أن سراويله منسوجة بالذهب فعلمت أنه من أبناء الملوك. ومضى قباذ إلى خاقان واستنصره على أخيه فأقام عنده أربع سنين وهو يعده ثم أرسل معه جيشا فلما صار بالقرب من الناحية التي بها زوجته سأل عنها فأحضرت ومعها أنوشروان وأعلمته أنه ابنه. وورد الخبر إليه بذلك المكان أن أخاه بلاش قد هلك فتيمن بالمولود وحمله وأمه على مراكب نساء الملوك واستوثق له الملك وخص سوخرا وشكره لولده خدمته وتولى سوخار الأمر فمال الناس إليه وتهاونوا بقباذ فلم يحتمل ذلك فكتب إلى سابور الداري وهو أصبهبذ ديار الجبل ويقال للبيت الذي هو منه مهران فاستقدمه ومعه جنده فتقدم إليه فأعلمه عزمه على قتل سوخرا وأمره بكتمان ذلك فأتاه يوما سابور وسوخرا عند

412
قباذ فألقى في عنقه وهقا وأخذه وحبسه ثم خنقه قباذ وأرسله إلى أهله وقدم عوضه سابور الرازي.
وفي أيامه ظهر مزدك وابتدع ووافق زرادشت في بعض ما جاء به وزاد ونقص وزعم أنه يدعو إلى شريعة إبراهيم الخليل حسبما دعا إليه زرادشت واستحل المحارم والمنكرات وسوى بين الناس في الأموال والأملاك والنساء والعبيد والإماء حتى لا يكون لأحد فضل في شيء البتة فكثر اتباعه من السفلة والأغتام فصاروا عشرات ألوف فكان مزدك يأخذ امرأة هذا فيسلمها إلى الآخر وكذا في الأموال والعبيد والإماء وغيرها من الضياع والعقار فاستولى وعظم شأنه وتبعه الملك قباذ فقال يوما لقباذ اليوم نوبتي من امرأتك أم أنوشروان فأجابه إلى ذلك، فقام أنوشروان إليه ومزع خفيه بيده وقبل رجليه وشفع إليه حتى لا يتعرض لأمه وله حكمه في سائر ملكه فتركها.
وحرم ذباحة الحيوان وقال يكفي في طعام الإنسان ما تنبته الأرض وما يتولد من الحيوان كالبيض واللبن والسمن والجبن فعظمت البلية به على الناس فصار الرجل لا يعرف ولده والولد لا يعرف أباه.
فلما مضى عشر سنين من ملك قباذ اجتمع موبذان والعظماء وخلعوه وملكوا عليهم أخاه جامسب وقالوا له إنك قد أثمت باتباعك مزدك وبما عمل أصحابه بالناس وليس ينجيك إلا إباحة نفسك ونساءك وأرادوا على أن يسلم نفسه إليهم ليذبحوه ويقربوه إلى النار فامتنع من ذلك فحبسوه

413
وتركوه لا يصل إليه أحد فخرج زرمهر بن سوخرا فقتل من المزدكية خلقا وأعاد قباذ إلى ملكه وأزال أخاه جامسب ثم إن قباذ قتل بعد ذلك زرمهر.
وقيل لما حبس قباذ وتولى أخوه دخلت أخت لقباذ عليه كأنها تزوره ثم لفته في بساط وحمله غلام فلما خرج من السجن سأله السجان عما معه فقالت هو مرحل كنت أحيض فيه فلم يلمس البساط فمضى الغلام بقباذ وهرب قباذ فلحق بملك الهياطلة يستجيشه فلما صار بإيران شهر وهي نيسابور نزل برجل من أهلها له ابنة بكر حسناء جميلة فنكحها وهي أم كسرى أنوشروان فكان نكاحه إياها في هذه السفرة لا في تلك في قول بعضهم وعاد ومعه أنوشروان فغلب أخاه جامسب على الملك وكان ملك جامسب ست سنين. وغزا قباذ بعد ذلك اليوم ففتح مدينة آمد وبنى مدينة أرجان ومدينة حلوان ومات فملك ابنه كسرى أنوشروان بعده فكان ملك قباذ مع سني أخيه جامسب ثلاثا وأربعين سنة فتولى أنوشروان ما كان أبوه أمر له به.
وفي أيامه خرجت الخرز فأغارت على بلاده فبلغت الدينور فوجه قباذ قائدا من عظماء قواده في اثني عشر ألفا فوطئ بلاد أران وفتح ما بين النهر المعروف بالرس إلى شروان، ثم إن قباذ لحق به فبنى بأران مدينة البيلقان ومدينة البرذعة وهي مدينة الثغر كله وغيرهما وبقي الخزر ثم بنى سدا للان فيما بين أرض شروان وباب اللان وبنى على السد مدنا كثيرة خربت بعد بناء باب الأبواب.

414
ذكر حوادث العرب أيام قباذ
لما ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكندي العرب وقتل النعمان بن المنذر بن امرئ القيس كما ذكرناه بعث إليه قباذ أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وأحب لقاءك وكان قباذ زنديقا يظهر الخير كله ويكره الدماء ويداري أعداءه فخرج إليه الحارث والتقيا واصطلحا على أن لا يجوز الفرات أحد من العرب فطمع الحارث بالكندي فأمر أصحابه أن يقطعوا الفرات ويغيروا على السواد فسمع قباذ فعلم أنه من تحت يد الحارث فاستدعاه فحضر فقال له إن لصوصا من العرب صنعت كذا وكذا فقال ما علمت ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود وطلب منه شيئا من السواد فأعطاه ستة طساسيج، وأرسل الحارث بن عمرو إلى تبع وهو باليمن يطمعه في بلاد العجم فسار تبع حتى نزل الحيرة وأرسل ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ فحاربه فهزمه شمر حتى لحق بالري ثم أدركه بها فقتله، ثم وجه تبع شمرا إلى خرسان ووجه ابنه حسان إلى السغد وقال أيكما سبق إلى الصين فهو عليها وكان كل واحد منهما في جيش عظيم يقال كانا في ستمائة ألف وأربعين ألفا؛ وأرسل ابن أخيه يعفر إلى الروم فنزل على القسطنطينية فأعطوه الطاعة والإتاوة

415
ومضى إلى رومية فحاصرها فأصاب من معه الطاعون فوثب الروم عليهم فقتلوهم ولم يفلت منهم أحد.
وسار شمر ذو الجناح إلى سمرقند فحاصرها فلم يظفر بها وسمع أن ملكها أحمق وأن له ابنة وهي التي تقضي الأمور فأرسل إليها هدية عظيمة وقال لها إنني إنما قدمت لأتزوج بك ومعي أربعة آلاف تابوت مملوءة ذهبا وفضة أنا أدفعها إليك وأمضي إلى الصين فإن ملكت كنت امرأتي وإن هلكت كان المال لك.
فلما بلغها الرسالة قالت: قد أجبته فليبعث المال؛ فأرسل أربعة آلاف تابوت في كل تابوت رجلان ولسمرقند أربعة أبواب ولكل باب ألفا رجل وجعل العلامة بينهم أن يضرب بالجرس فلما دخلوا البلد صاح شمر في الناس وضرب بالجرس فخرجوا وملكوا الأبواب ودخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها وسار إلى الصين فهزم الترك ودخل بلادهم ولقي حسان بن تبع قد سبقه إليها بثلاث سنين فأقاما بها حتى ماتا وكان مقامهما فيما قيل احدى وعشرين سنة، وقيل: عادا في طريقهما حتى قدما على تبع بالغنائم والسبي والجواهر ثم انصرفوا [جميعا] إلى بلادهم، ومات تبع باليمن فلم يخرج أحد من اليمن غازيا بعده.
وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة وقيل تهود.
قال ابن اسحق: كان تبع الأخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها عازما على تخريبها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو بن الظلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله وكانوا

416
يقاتلونه نهارا ويقرونه ليلا. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان فقالا له قد سمعنا ما تريد أن تفعل وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال ولم ذلك فقالا إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما واسمهما كعب وأسد وكان
تبع قومه أصحاب أوثان وسار من المدينة إلى مكة وهي طريقه فكسا الكعبة الوصائل والملاء وكان أول من كساها وجعل لها بابا ومفتاحا وخرج متوجها إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم فقال لقومه أنصفتم. فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار فخرجت النار فغشيت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران تعرق جباههما لم يضرهما فأطبقت حمير على دينه.
وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي وكان كاهنا فقال له تبع هل تجد لقوم ملكا يوازي ملكي قال لا إلا الملك غسان قال هل تجد ملكا يزيد عليه قال أجده لبار مبرور ورائد بالقهور ووصف في الزبور وفضلت أمته في السفور يفرج الظلم بالنور أحمد النبي طوبى لأمته حين يجيئ أحد بني لؤي ثم أحد بني قصي! فنظر تبع في الزبور فإذا هو يجد صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

417
ثم ملك بعد تبع هذا، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب ربيعة بن نصر اللخمي فلما هلك ربيعة رجع الملك باليمن إلى حسان بن تبان أسعد.
فلما ملك ربيعة رأى رؤيا هالته فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا إلا أحضره وقال لهم رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بتأويلها فقالوا اقصصها علينا فقال إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها. فلما قال ذلك قال له رجل منهم إن كان الملك يريد ذلك فليبعث إلى سطيح وشق فهما يخبرانك عما سألت واسم سطيح ريبع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن غسان وكان يقال له الذئبي نسبة إلى ذئب بن عدي وشق بن مصعب بن يشكر بن أنمار.
فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق، فلما قدم عليه سطيح سأله عن رؤياه وتأويلها فقال رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض بهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة؟ قال له الملك: ما أخطأت منها شيئا فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من جيش ليهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش. قال الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لغائظ موجع، فمتى يكون أفي زماني أم بعده؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين. قال: هل يدوم من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل بعده بحين ستين سنة أو سبعين يمضين من السنين، ثم

418
يقتلون بها أجمعون ويخرجون منها هاربين قال الملك ومن الذي يلي ذلك قال يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحدا منهم باليمن قال فيدوم ذلك من سلطانه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع، يقطعه نبي زكي يأتيه الوحي من العلي وهو رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون قال أحق ما تخبرنا يا سطيح قال نعم والشفق والغسق والفلق إذا انشق إن ما نبأتك به لحق.
ثم قدم عليه شق فقال يا شق إني رأيت رؤيا هالتني فأخبرني عنها وعن تأويلها وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما سمع الملك ذلك قال ما أخطأت شيئا فما تأويلها قال أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان وليملكن ما بين أبين إلى نجران قال الملك وأبيك يا شق! إن هذا لغائظ فمتى هو كائن قال بعدك بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شأن ويذيقهم أشد الهوان وهو غلام ليس بدني ولا مزن يخرج من بيت ذي يزن قال:

419
فهل يدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال وما يوم الفصل قال يوم تجزى فيه الولاة ويدعى من السماء بدعوات ويسمع منها الأحياء والأموات ويجتمع فيه الناس للميقات.
فلما فرغ من مسألتهما جهز بينه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم فمن بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ذلك الملك.
فلما هلك ربيعة بن نصر واجتمع ملك اليمن إلى حسان بن تبان بن أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار كان مما هيج أمر الحبشة وتحول الملك عن حمير أن حسان سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب والعجم كما كانت التبابعة تفعل. فلما كان بالعراق كرهت قبائل العرب من اليمن المسير معه فكلموا أخاه عمرا في قتل حسان وتمليكه فأجابهم إلى ذلك إلا ما كان من ذي رعين الحميري فإنه نهاه عن ذلك فلم يقبل منه فعمد ذو رعين إلى صحيفة فكتب فيها:
(ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبت قرير عين)
(وأما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الاله لذي رعين)
ثم ختمها وأتى بها عمرا فقال ضع هذه عندك ففعل. فلما بلغ حسان ما أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو:
(يا عمرو لا تعجل علي منيتي * فالملك تأخذه بغير حشود)

420
فأبى إلا قتله فقتله بموضع رحبة مالك فكانت تسمى فرضة نعم فيما قيل، ثم عاد إلى اليمن فمنع اليوم منه فسأله الأطباء وغيرهم عما به وشكا إليهم السهر فقال له قائل منهم ما قتل أحد أخاه أو ذا رحم بغيا إلا منع منه النوم. فلما سمع ذلك قتل كل من أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين فلما أراد قتله قال إن لي عندك براءة قال وما هي قال أخرج الكتاب الذي استودعتك فأخرجه فإذا فيه البيتان فكف عن قتله ولم يلبث عمرو أن هلك فتفرقت حمير عند ذلك.
قلت: هذا الذي ذكره أبو جعفر من قتل قباذ بالري وملك تبع البلاد من بعد قتلته من النقل القبيح والغلط الفاحش وفساده أشهر من أن يذكر فلولا أننا شرطنا أن لا نترك ترجمة من تاريخه إلا ونأتي بمعناها من غير إخلال بشيء لكان الإعراض عنه أولى ووجه الغلط فيه أنه ذكر أن قباذ قتل بالري ولا خلاف بين أهل النقل من الفرس وغيرهم أن قباذ مات حتف أنفه في زمان معلوم وكان ملكه مدة معلومة كما ذكرناه قبل ولم ينقل أحد أنه قتل إلا في هذه الرواية ولما مات ملك ابنه كسرى أنوشروان بعده وهذا أشهر من قفانبك، ولو كان ملك الفرس انتقل بعد قباذ إلى حمير كيف كان يملك ابنه بعده وتمكن في الملك حتى أطاعه ملوك الأمم وحملت الروم إليه الخراج!
ثم ذكر أيضا أن تبعا وجه ابنه حسان إلى الصين وشمرا إلى سمرقند وابن أخيه إلى الروم وأنه ملك القسطنطينية وسار إلى رومية فحاصرها فيا ليت شعري ما هو اليمن وحضرموت حتى يكون بهما من الجنود وما يكون

421
بعضهم في بلادهم لحفظها وجيش مع تبع وجيش مع حسان يسير بهم إلى مثل الصين في كثرة عساكره ومقاتلته وجيش مع ابن أخيه تبع يلقى به مثل كسرى ويهزمه ويملك بلاده ويحاصر به مثل سمرقند في كبرها وعظمها وكثرة أهلها وجيش مع يعفر يسير بهم إلى ملك الروم ويملك القسطنطينية والمسلمون مع كثرة ممالكهم واتساعها وكثرة عددهم قد اجتهدوا ليأخذوا القسطنطينية أو ما يجاورها واليمن من أقل بلادهم عددا وجنودا فلم يقدروا على ذلك فكيف يقدر عليه بعض عساكر اليمن مع تبع هذا مما تأباه العقول وتمجه الأسماع.
ثم إنه قال: إن ملك تبع بلاد الفرس والروم والصين وغيرها كان بعد قتل قباذ يعني أيام ابنه أنوشروان ولا خلاف أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان في زمن أنوشروان وكان ملكه سبعا وأربعين سنة ولا خلاف أيضا أن الحبشة لما ملكت اليمن انقرضت ملوك حمير وكان آخر ملوكهم ذا نواس وكان ملك حمير قد اختل قبل ذي نواس وانقطع نظامه حتى طمعت الحبشة فيه وملكته وكان ملكهم اليمن أيام قباذ وكيف يمكن أن يكون ملك الحبشة الذي هو مقطوع به أيام قباذ ويكون تبع هو الذي ملك اليمن قد قتل قباذ وملك بلاده قبل أن تملك الحبشة اليمن هذا مردود محال وقوعه وكان ملك الحبشة اليمن سبعين سنة وقيل أكثر من ذلك وكان انقراض ملكهم في آخر ملك أنوشروان والخبر في ذلك مشهور وحديث سيف ذي يزن في ذلك ظاهر ولم تزل اليمن بعد الحبشة في يد الفرس إلى أن ملكه المسلمون فكيف يستقيم أن ينقضي ملك تبع الذي هو ملك بلاد فارس ومن بعده من ملوك حمير وملك الحبشة وهو سبعون سنة في ملك أنوشيروان وكان ملكه نيفا وأربعين سنة؟ وهذا أعجب أن مدة
بعضها سبعون

422
سنة تنقضي قبل مضي نيف وأربعين سنة، ولو فكر أبو جعفر في ذلك لاستحيا من نقله.
وأعجب من هذا أنه قال ثم ملك بعد تبع هذا ربيعة بن نصر اللخمي وهذا ربيعة هو جد عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة وكان ملك عمرو الحيرة بعد خاله جذيمة أيام ملوك الطوائف قبل ملك أردشير بن بابك بخمس وتسعين سنة وملك أيضا أيام أردشير وبين أردشير وقباذ ما يقارب عشرين ملكا وكيف يكون جد عمرو وقد ملك بعد قباذ وهو قبله بهذا الدهر الطويل. ولو لم يترجم أبو جعفر على هذه الحادثة بقوله ذكر الحوادث أيام قباذ لكان يحتمل تأويلا فيه ثم ما قنع بذلك حتى قال بعد أن قص مسير تبع وقتل قباذ وملك البلاد.
وأما ابن إسحاق فإنه قال إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة هو تبع الأخير ويعني بقوله تبع الأخير أنه آخر من سار إلى المشرق وملك البلاد فإن ابن إسحاق وغيره يقولون إن الذي ملك البلد المشرقية لما توفي ملك بعده عدة تبابعة ثم اختل أمرهم زمانا طويلا حتى طمعت الحبشة فيهم وخرجت إلى اليمن فليت شعري إذا كان هذا تبع في أيام قباذ فلا شك أن تبعا الأخير الذي أخذ منه اليمن يكون في زمن بني أمية ويكون ملك الحبشة اليمن بعد مدة من ملك بني العباس ويكون أول الإسلام من ثلاثمائة سنة من ملكهم أيضا مما بعدها حتى يستقيم هذا القول.
ثم إنه قال إن عمر بن طلحة الأنصاري خرج إلى تبع وعمرو هذا

423
قيل إنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم شيخا كبيرا ومات عند مرجعه من غزوة بدر. ومن الدليل على بطلانه أيضا أن المسلمين لما قصدوا بلاد الفرس ما زالت الفرس تقول لهم عند مراسلاتهم ومحاوراتهم في حروبهم كنتم أقل الأمم وأذلها وأحقرها والعرب تقر لهم بذلك فلو كان ملك تبع قريب العهد لقالت العرب إننا بالأمس قتلنا ملككم وملكنا بلادكم واستبحنا حريمكم وأموالكم فسكوت العرب عن ذلك وإقرارها للفرس دليل على بعد عهده أو عدمه على أن الفرس لا تقر بذلك لا في قديم الزمان ولا في حديثه فإنهم يزعمون أن ملكهم لم ينقطع من عهد جيومرث الذي هو آدم في قول بعضهم إلى أن جاء الإسلام إلا أيام ملوك الطوائف وكان لملوك الفرس طرف من البلاد في ذلك الزمان لم ينقطع انقطاعا كليا، على أن أصحاب السير قد اختلفوا في تبع الذي سار وملك البلاد اختلافا كثيرا فقيل شمر بن افريقش وقيل تبع أسعد وأنه بعث إلى سمرقند شمرا ذا الجناح إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا طائل فيها وهذا القدر كاف في كشف الخطأ فيه.
ذكر ملك لختيعة
فلما هلك عمرو وتفرقت حمير وثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة يقال له لختيعة تنوف ذو شناتر فملكهم في قول ابن إسحاق

424
فقتل خيارهم وعاث ببيوت أهل المملكة منهم وكان أمرأ فاسقا يزعمون أنه كان يعمل عمل قوم لوط فكان إذا سمع بغلام من أبناء الملوك أنه قد بلغ أرسل إليه فوقع عليه في مشربة لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع إلى حرسه وجنده قد أخذ سواكا في فيه يعلمهم أنه قد فرغ منه ثم يخلي سبيله فيفضحه.
ذكر ملك ذي النواس وقصة أصحاب الأخدود
كان من أبناء الملوك ذرعة ذو نواس بن تبان أسعد بن كرب وكان صغيرا حين أصيب أخوه حسان فشب غلاما جميلا ذا هيئة فبعث إليه لختيعة ليفعل به ما كان يفعل بغيره فأخذ سكينا لطيفا فجعله بين نعله وقدمه ثم انطلق إليه من رسوله فلما خلا به في المشربة قتله ذو نواس بالسكين ثم احتز رأسه فجعله في كوة مشربته التي يطلع منها ثم أخذ سواكه فجعله في فيه ثم خرج فقالوا له ذو نواس رطب أم يابس فقال سل نخماس استرطبان ذو نواس لا بأس.
فذهبوا ينظرون حين قال لهم ما قال فإذا رأس لختيعة مقطوع فخرجت

425
حمير والحرس في اثر ذي نواس حتى أدركوه فملكوه حيث أراحهم من لختيعة واجتمعوا عليه وكان يهوديا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم على استقامة لهم رئيس يقال له عبد الله بن الثامر وكان أصل النصرانية بنجران.
قال وهب بن منبه: إن رجلا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون وكان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة وكان سائحا لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها وكان لا يأكل إلا من كسب يده وكان يعمل الطين ويعظم الأحد لا يعمل فيه شيئا ويخرج إلى الصحراء يصلي جميع نهاره فنزل قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ففطن به رجل اسمه صالح فأحبه حبا شديدا وكان يتبعه حيث ذهب لا يفطن به فيميون حتى خرج مرة يوم الأحد إلى الصحراء واتبعه صالح وفيميون لا يعلم فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا وقام فيميون يصلي فبينما هو يصلي إذ أقبل نحوه تنين فلما رآه فيميون دعا عليه فمات ورآه صالح ولم يدر ما أصابه فخاف على فيميون فصاح يا فيميون التنين قد أقبل نحوك فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى أمسى وعرف أن صالحا عرفه فكلمه صالح وقال له يعلم الله إنني ما أحببت شيئا حبك قط وقد أردت صحبتك حيثما كنت قال افعل فلزمه صالح وكان إذا ما جاءه العبد به ضر شفي إذا دعا له وإذا دعي إلى أحد به ضر لم يأته وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير فجعل ابنه في حجرة ألقى عليه ثوبا ثم قال لفيميون قد أردت أن تعمل في بيتي عملا فانطلق إليه لأشارطك عليه فانطلق معه فلما دخل الحجرة ألقى الرجل الثوب عن ابنه وطلب إليه أن يدعو له فدعى فابصر.

426
وعرف فيميون أنه قد عرف بالقرية فخرج هو وصالح ومر بشجرة عظيمة بالشام فناده رجل وقال ما زلت أنتظرك لا تبرح حتى تقوم علي فإني ميت قال فمات فواراه فيميون وانصرف ومعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب وأخذهما بعض العرب فباعوهما بنجران وأهل نجران على دين العرب تعبد نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد كل سنة تعلق [إذا كان ذلك العيد علقوا] عليها كل ثوب حسن وحلى جميل، فعلقوا عليها يوما، فابتاع رجل من أشرافهم فيميون، وابتاع رجل [آخر] صالحا فكان فيميون إذا قام من الليل يصلي في بيته استسرج له البيت حتى يصبح من غير مصباح فلما رأى سيده ذلك أعجبه فسأله عن دينه فأخبره وعاب دين سيده وقال له لو دعوت إلهي الذي أعبد لأهلك النخلة فقال افعل فإنك إن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه. فصلى فيميون ودعا الله تعالى فأرسل الله عليها ريحا فجففتها وألقتها فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه فحملهم على شريعة من دين عيسى ودخل عليهم بعد ذلك الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
وقال محمد بن كعب القرظي كان أهل نجران يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها ساحر كان أهل نجران يرسلون أولادهم إليه يعلمهم السحر فلما نزلها فيميون [وهو رجل] كان يعبد الله [على دين عيسى بن مريم عليه السلام]، فإذا عرف في قرية خرج منها إلى غيرها وكان مجاب

427
الدعوة يبرئ المرضى، وله كرامات، فوصل نجران فسكن خيمة بين نجران وبين الساحر فأرسل الثامر ابنه عبد الله مع الغلمان إلى الساحر فاجتاز بفيميون فرأى ما أعجبه من صلاته فجعل يجلس إليه ويستمع منه فأسلم معه ووحد الله تعالى وعبده وجعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه وقال لن تحتمله والثامر يعتقد أن ابنه يختلف إلى الساحر مع الغلمان فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن عليه بالاسم الأعظم عمد إلى قداح فكتب عليها أسماء الله جميعها ثم ألقاها في النار واحدا واحدا حتى إذا ألقى القدح الذي عليه الاسم الأعظم وثب منها فلم تضره شيئا فأخذه وعاد إلى صاحبه فأخبره الخبر فقال له أمسك على نفسك وما أظن أن تفعل فكان عبد الله لا يلقى أحدا إذا أتى نجران به ضر إلا قال يا عبد الله أتدخل في ديني حتى أدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء فيقول نعم فيوحد الله ويسلم ويدعوا له عبد الله فيشفى حتى لم يبق أحد من أهل نجران ممن به ضر إلا أتاه واتبعه ودعا له فعوفي.
فرفع شأنه إلى ملكم نجران فدعاه فقال له أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني لأمثلن بك فقال لا تقدر على ذلك.
فجعله يرسله إلى الجبل الطويل فيلقى من رأسه فيقع على الأرض وليس به بأس فأرسله إلى مياه نجران وهي بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس فلما غلبه قال عبد الله بن تأمر إنك لا تقدر على قتلي حتى توحد الله وتؤمن كما آمنت فإنكم إذا فعلت قتلتني فوحد الله الملك

428
ثم ضربه بعصا بيده فشجه شجة غير كبيرة فقتله فهلك الملك مكانه واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر.
قال فسار إليهم ذو نواس بجنوده فجمعهم ثم دعاهم إلى اليهودية وخيرهم بينها وبين القتل فاختاروا القتل فخذلهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريبا من عشرين ألفا.
وقال ابن عباس: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له ذو نواس واسمه يوسف بن شرحبيل وكان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة وكان له ساحر حاذق فلما كبر قال للملك إني كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما اسمه عبد الله بن الثامر ليعلمه فجعل يختلف إلى الساحر وكان في طريقه راهب حسن القراءة فقعد إليه الغلام فأعجبه أمره فكان إذا جاء إلى المعلم يدخل إلى الراهب فيقعد عنده فإذا جاء من عنده المعلم ضربه وقال له ما الذي حبسك؟ وإذا انقلب إلى أبيه دخل إلى الراهب فيضربه أبوه ويقول ما الذي أبطأ بك؟ فشكا الغلام ذلك إلى الراهب فقال له إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل حبسني المعلم. وكان في ذلك البلد حية عظيمة قطعت طريق الناس فمر بها الغلام فرماها بحجر فقتلها، وأتى الراهب فأخبره.
فقال له الراهب إن لك لشأنا وإنك ستبتلي فإن ابتليت فلا تدلن علي.
وصار الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي الناس وكان للملك ابن عم أعمى فسمع بالغلام وقتل الحية فقال ادع الله يرد علي بصري فقال الغلام إن رد الله عليك بصرك تؤمن به؟ قال نعم قال اللهم إن كان

429
صادقا فاردد عليه بصره، فعاد بصره ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه وسأله فلم يخبره وألح عليه فدله على الغلام فجيء به فقال له لقد بلغ من سحرك ما أرى فقال أنا لا أشفي أحدا إنما يشفي الله من يشاء، فلم يزل يعذبه حتى دله على الراهب فجيء به فقيل ارجع عن دينك فأبى فأمر به فوضع المنشار على رأسه فشق نصفين ثم جيء بابن عم الملك فقال ارجع عن دينك فأبى فشقه قطعتين، ثم قال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فأرسله به إلى الجبل فقال: اللهم اكفنيهم! فرجف بهم الجبل وهلكوا ورجع الغلام إلى الملك، فسأله عن أصحابه، فقال: كفانيهم الله. فغاظه ذلك وأرسله في سفينة إلى البحر ليلقوه فيه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم! فغرقوا ونجا، وجاء إلى الملك فقال: اقتلوه في السيف، فضربوه فنبا عنه. وفشا خبره في اليمن، فأعظمه الناس وعلموا أنه على الحق، فقال الغلام للملك: إنك لن تقدر على قتلي إلا أن تجمع أهل مملكتك وترميني بسهم وتقول بسم الله رب الغلام ففعل ذلك فقتله. فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل للملك قد نزل بك ما تحذر فأغلق أبواب المدينة وخد أخدودا وملأه نارا وعرض الناس فمن رجع عن دينه تركه ومن لم يرجع ألقاه في الأخدود فأحرقه.
وكانت امرأة مؤمنة وكان لها ثلاثة بنين أحدهم رضيع فقال لها الملك ارجعي وإلا قتلتك أنت وأولادك فأبت فألقى ابنيها الكبيرين،

430
فأبت ثم أخذ الصغير ليلقيه فهمت بالرجوع قال لها الصغير: يا أماه لا ترجعي عن دينك لا بأس عليك! فألقاه وألقاها في أثره، وهذا الطفل أحد من تكلم صغيرا.
قيل: حفر رجل خربة بنجران في زمن عمر بن الخطاب فرأى عبد الله بن الثامر واضعا يده على ضربة في رأسه، فإذا رفعت عنها يده جرت دما، وإذا أرسلت يده ردها إليها وهو قاعد فكتب فيه إلى عمر فأمر بتركه على حاله.
ذكر ملك الحبشة اليمن
قيل لما قتل ذو نواس من قتل من أهل اليمن في الأخدود لأجل العود عن النصرانية أفلت منهم رجل يقال له دوس ذو ثعلبان حتى أعجز القوم فقدم على قيصر فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم فقال له قيصر بعدت بلادك عنا ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم. فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره فأرسل معه ملك الحبشة سبعين ألفا وأمر عليهم رجلا يقال له أرياط وفي جنوده أبرهة الأشرم فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن وجمع ذو نواس جنوده فاجتمعوا ولم يكن [له] حرب غير أنه ناوش شيئا من قتال ثم انهزموا ودخلها أرياط. فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه

431
اقتحم البحر بفرسه فغرق، ووطئ أرياط اليمن فقتل ثلث رجالها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم ثم أقام بها وأذل أهلها.
وقيل إن الحبشة لما خرجوا إلى المندب من أرض اليمن كتب ذو نواس إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى الاجتماع على عدوهم فلم يجيبوه وقالوا يقاتل كل رجل عن بلاده فصنع مفاتيح وحملها على عدة من الإبل ولقي الحبشة وقال هذه مفاتيح خزائن الأموال باليمن فهي لكم ولا تقتلوا الرجال والذرية، فأجابوه إلى ذلك وساروا معه إلى صنعاء فقال لكبيرهم وجه أصحابك لقبض الخزائن فتفرق أصحابه ودفع إليهم المفاتيح وكتب إلى الأقيال بقتل كل ثور أسود فقتلت الحبشة ولم ينج منهم إلا الشريد.
فلما سمع النجاشي جهز إليهم سبعين ألفا مع أرياط والأشرم فملك البلاد وأقام بها سنين ونازعه أبرهة الأشرم وكان في جنده فمال إليه طائفة منهم وبقي أرياط في طائفة وسار أحدهما إلى الآخر وأرسل أبرهة إنك لن تصنع بأن تلقي الحبشة بعضها على بعض شيئا فيهلكوا ولكن أبرز إلي فأينا قهر صاحبه استولى على جنده.
فتبارزا، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت على رأسه فشرمت أنفه وعينه فسمي الأشرم وحمل غلام لأبرهة يقال له عتودة كان قد تركه كمينا من خلف أرياط على أرياط فقتله واستولى أبرهة على الجند والبلاد وقال لعتودة: احتكم. فقال: لا تدخل عروس على زوجها من اليمن حتى

432
أصيبها قبله فأجابه إلى ذلك فبقي يفعل بهم هذا الفعل حينا ثم عدا عليه إنسان من اليمن فقتله فسر أبرهة بقتله وقال لو علمت أنه يحتكم هذا لم أحكمه.
ولما بلغ النجاشي قتل أرياط غضب غضبا شديدا وحلف لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته فبلغ ذلك أبرهة فأرسل إلى النجاشي من تراب اليمن وجز ناصيته وأرسلها أيضا وكتب إليه بالطاعة وإرسال شعره وترابه ليبر قسمه بوضع التراب تحت قدميه فرضي عنه وأقره على عمله.
فلما استقر باليمن بعث إلى أبي مرة ذي يزن فأخذ زوجته ريحانة بنت ذي جدن ونكحها فولدت له مسروقا وكانت قد ولدت لذي يزن ولدا اسمه معد يكرب وهو سيف فخرج ذو يزن من اليمن فقدم الحيرة على عمرو بن هند وسأله أن يكتب له إلى كسرى كتابا يعلمه محله وشرفة وحاجته فقال إني قد أفد إلى الملك كل سنة وهذا وقتها فأقام عنده حتى وفد معه ودخل إلى كسرى معه فأكرمه وعظمه وذكر حاجته وشكا ما يلقون من الحبشة واستنصره عليهم وأطمعه في اليمن وكثرة مالها، فقال له كسري أنوشروان إني لأحب أن اسعفك بحاجتك ولكن المسالك إليها صعبة وسأنظر وأمر بإنزاله فأقام عنده حتى هلك.
ونشأ ابنه معد يكرب بن ذي يزن في حجرة أبره وهو يحسب أنه أبوه فسبه ابن لأبره وسب أباه فسأل أمه عن أبيه فصدقته وأقام حتى مات أبره وابنه يكسوم وسار عن اليمين ففعل ما نذكره إن شاء الله.

433
ذكر ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن
يزد جرد بن بهرام جور بن يزد جرد الأثيم
لما لبس التاج خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم وأعلمهم أنه يصلح ذلك ثم أمر برؤوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة.
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان، كما ذكرنا، قد اتبع مزدك على دينه ما دعاه إليه وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها ذكرنا أيام قباذ وكان المنذر بن ماء السماء يومئذ عاملا على الحيرة ونواحيها فدعاه قباذ إلى ذلك فأبى فدعا الحارث بن عمرو الكندي فأجابه فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته وكانت أم أنوشروان يوما بين يدي قباذ فدخل عليه مزدك فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها فقال دونكها. فوثب إليه أنوشروان ولم يزل يسأله ويتضرع إليه حتى يهب له أمه حتى قبل رجله فتركها فكان ذلك في نفسه.
فهلك قباذ على تلك الحالة وملك أنوشروان فجلس للملك، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك فإن أنوشروان كان منكرا لهذا المذهب كارها له ثم إن أنوشروان أذن
للناس أذنا عاما ودخل عليه مزدك ثم دخل عليه المنذر فقال

434
أنوشروان: إني كنت تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله عز وجل قد جمعهما إلي فقال مزدك وما هي أيها الملك قال تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف يعني المنذر وأن أقتل هذه الزنادقة فقال مزدك أو تستطيع أن تقتل الناس كلهم فقال وإنك ههنا يا بن الزانية والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا وأمر به فقتل وصلب وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم وسمي يومئذ أنوشروان.
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو فبلغه ذلك وهو بالأنبار فخرج هاربا في صحابته وماله وولده فمر بالنوبة فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر فضرب رقابهم بحفر الأميال في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة فذلك قول عمرو بن كلثوم:
(فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وابنا بالملوك مصفدينا)
وفيهم يقول امرؤ القيس:
(ملوك من بني حجر بن عمرو * يساقون العشية يقتلونا)
(فلو في يوم معركة أصيبوا * ولكن في ديار بني مرينا)
(ولم تغسل جماجمهم بغسل * ولكن في الدماء مرملينا)
(تظل الطير عاكفة عليهم * وتنتزع الحواجب والعيونا)
ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس

435
في أموالهم ورد الأموال إلى أهلها وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه وأن يعطي نصيبا من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه.
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء وجهزهن من بيت المال وأنكح نساءهم من الأشراف واستعان بأبنائهم في أعمالهم وعمر الجسور والقناطر وأصلح الخراب وتفقد الأساورة وأعطاهم وبنى في الطرق القصور والحصون وتخير الولاة والعمال والحكام واقتدى بسيرة أردشير وارتجع بلادا كانت مملكة الفرس منها السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان وأعظم القتل في النازور وأجلى بقيتهم عن بلاده.
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها وكان الطريق سهلا فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنودا فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فاسكنوا أذربيجان.
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنو شزاد فبلغه عنه أنه زنديق فسيره إلى جند يسابور وجعل معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه. فبينما هم عنده إذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعا من الأشرار فأرسل إليه نائب أبيه بالمدائن عسكرا فحاصروه بجند يسابور وأرسل الخبر إلى كسرى فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيرا،

436
فاشتد الحصار حينئذ عليه ودخل العساكر المدينة عنوة فقتلوا بها خلقا كثيرا وأسروا أنو شزاد فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي فوثب بعامل سجستان وقاتله فهزمه العامل فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد ففعل وآمنه.
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده وبنى عليه ابنه قباذ زيادة فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيرا وحصونا حصن بها بلاده جميعها.
وأن سيجيور خاقان قصد بلاده وكان أعظم الترك واستمال الخزر وأبخز وبلنجر فأطاعوه فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده ان لم يفعل فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصين بلاده وأن ثغر أرمينية قد حصنه فصار يكتفي بالعدد اليسير فقصد خاقان بلاده فلم يقدر على شيء منها وعاد خائبا وهذا خاقان هو الذي قتل وزر ملك الهياطلة وأخذ كثيرا من بلادهم.
ذكر ملك كسرى بلاد الروم
كان بين كسرى أنوشروان وبين غطيانوس ملك الروم هدنة فوقع بين رجل من العرب كان ملكه غطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة،

437
وبين رجل لخم كان ملكه كسرى على عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز يقال له المنذر بن النعمان فتنة فأغار خالد على ابن النعمان فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وغنم أمواله فكتب كسرى إلى غطيانوس يذكره ما بينهما من العهد والصلح ويعلمه ما لقي المنذر من خالد وسأله أن يأمر خالدا برد ما غنم إلى المنذر ويدفع له دية من قتل من أصحابه وينصفه من خالد وأنه إن لم يفعل انتقض الصلح ووالى الكتب إلى غطيانوس في إنصاف المنذر فلم يحفل به.
فاستعد كسرى وغزا بلاد غطيانوس في بضعة وسبعين ألفا وكان طريقه على الجزيرة فأخذ مدينة دارا ومدينة الرها وعبر إلى الشام فملك منبج وحلب وأنطاكية وكانت أفضل مدائن الشام وفامية وحمص ومدنا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوة واحتوى على ما فيها من الأموال والعروض وسبى أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد وأمر فبنيت لهم مدينة إلى جانب مدينة طيسفون على بناء مدينة أنطاكية وأسكنهم إياها وهي التي تسمى الرومية وكور لها خمسة طساسيج طسوج النهروان الأعلى وطسوج النهروان الأوسط وطسوج النهروان الأسفل وطسوج بادرايا وطسوج باكسايا وأجرى على السبي الذين نقلهم إليها من أنطاكية الأرزاق وولى القيام بأمرهم رجلا من نصارى الأهواز ليستأنسوا به لموافقته في الدين؛ وأما سائر مدن الشام ومصر فإن غطيانوس ابتاعها من كسرى بأموال عظيمة حملها إليه وضمن له فدية يحملها إليه كل سنة على أن لا يغزو بلاده فكانوا يحملونها كل عام.
وسار أنوشروان من الروم إلى الخزر فقتل منهم وغنم وأخذ منهم بثأر

438
رعيته ثم قصد اليمن فقتل فيها وغنم وعاد إلى المدائن وقد ملك ما دون هرقلة وما بينه وبين البحرين وعمان وملك النعمان بن المنذر على الحيرة وأكرمه وسار نحو الهياطلة ليأخذ بثأر جده فيروز وكان أنوشروان قد صاهر خاقان قبل ذلك ودخل كسرى بلادهم فقتل ملكهم واستأصل أهل بيته وتجاوز بلخ وما وراء النهر وأنزل جنوده فرغانة ثم عاد إلى المدائن وغزا البرجان ثم رجع وأرسل جنوده إلى اليمن فقتلوا الحبشة وملكوا البلاد.
وكان ملكه ثمانيا وأربعين سنة وقيل سبعا وأربعين سنة.
وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر ملكه، وقيل ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين سنة مضت من ملك أنوشروان وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة اثنين وأربعين من ملكه.
قال هشام بن الكلبي: ملك العرب من قبل ملوك الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان سبع سنين، ثم ملك بعده النعمان بن الأسود أربع سنين، ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي اللخمي ثلاث سنين ثم ملك المنذر بن امرئ القيس البدء ولقب ذا القرنين لضفيرتين كانتا له وأمه ماء السماء وهي ماوية ابنة عمرو بن جشم بن النمر بن قاسط تسعا وأربعين سنة ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر ست عشرة سنة قال ولثماني سنين وثمانية أشهر من ولايته ولد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أيام أنوشروان عام الفيل.

439
فلما دات لكسرى بلاد اليمن وجه إلى سرنديب من بلاد الهند وهي أرض الجوهر قائدا من قواده في جند كثيف فقاتل ملكها فقتله واستولى عليها وحمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة وجواهر كثيرة ولم يكن ببلاد الفرس بنات آوى فجاءت إليها من بلاد الترك في ملك كسرى أنوشروان فشق عليه ذلك وأحضره موبذان وقال له قد بلغنا تساقط هذه السباع إلى بلادنا وقد تعاظمنا ذلك فأخبرنا برأيك فيها. فقال سمعت فقهاءنا يقولون متى لم يغلب العدل الجور في البلاد بل [جار] أهلها غزاهم أعداؤهم وأتاهم ما يكرهون. فلم يلبث كسرى أن أتاه أن فتيانا من الترك قد غزوا أقصى بلاده فأمر وزراءه وعماله أن لا يتعدوا فيما هم بسبيله العدل ولا يعلموا في شيء منها إلا به ففعلوا ما أمرهم فصرف الله ذلك عنهم من غير حرب.
ذكر ما فعله أنوشروان بأرمينية وأذربيجان
كانت أرمينية وأذربيجان بعضها للروم وبعضها للخزر فبنى قباذ سورا مما يلي بعض تلك الناحية فلما توفي وملك ابنه أنوشروان وقوى أمره وغزا فرغانة والبرجان وعاد بني مدينة الشابران ومدينة مسقط ومدينة الباب والأبواب وإنما سميت أبوابا لأنها بنيت على طريق في الجبل وأسكن المدن قوما سماهم السياسجين وبنى غير هذه المدن وبنى لكل باب قصرا من

440
حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة سغدبيل وأنزلها السغد وأبناء فارس وبنى باب اللان وفتح جميع ما كان بأيدي الروم من أرمينية وعمر مدينة أردبيل وعدة حصون وكتب إلى ملك الترك يسأله الموادعة والاتفاق ويخطب إليه ابنته ورغب في صهره وتزوج كل واحد بابنة الآخر.
فأما كسرى فإنه أرسل إلى خاقان ملك الترك بنتا كانت قد تبنتها بعض نسائه وذكر أنها ابنته وأرسل ملك الترك ابنته واجتمعا فأمر أنوشروان جماعة من ثقاته أن يكسبوا طرفا من عسكر الترك ويحرقوا فيه ففعلوا فلما أصبحوا شكاله ملك الترك ذلك فأنكر أن يكون له علم به ثم أمر بمثل ذلك بعد ليال فضج التركي فرفق به أنوشروان فاعتذر إليه ثم أمر أنوشروان أن تلقى النار في ناحية من عسكره فيها أكواخ من حشيش فلما أصبح شكا إلى التركي وقال كافأتني بالتهمة فحلف التركي إنه لم يعلم بشيء من ذلك، فقال أنوشروان له ان جندنا قد كرهوا صلحنا لانقطاع العطاء والغارات ولا آمن أن يحدثوا حدثا يفسد قلوبنا فنعود إلى العداوة والرأي ان تأذن لي في بناء سور يكون بيني وبينك نجعل عليه أبوابا فلا يدخل إليك إلا من تريده ولا يدخل إلينا إلا من نريده فأجابه إلى ذلك.
وبنى أنوشروان السور من البحر وألحقه برؤوس الجبال وعمل عليه أبواب الحديد ووكل به من يحرسه فقيل لملك الترك إنه خدعك وزوجك غير ابنته وتحصن منك فلم تقدر له على حيلة.
وملك أنوشروان ملوكا رتبهم على النواحي فمنهم صاحب السرير وفيلان شاه واللكز ومسقط وغيرها، ولم تزل أرمينية بأيدي الفرس حتى ظهر

441
الإسلام، فرفض كثير من السياسجين حصونهم ومدائنهم حتى خربت واستولى عليها الخزر والروم، وجاء الإسلام وهي كذلك.
ذكر أمر الفيل
لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بني القليس بصنعاء وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض ثم كتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب.
فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط ثم لحق بأهله فأخبر بذلك أبرهة وقيل له إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.
فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه وأمر الحبشة فتجهزت وخرج معه بالفيل واسمه محمود وقيل كان معه ثلاثة عشر فيلا وهي تتبع محمودا وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه عنى كبيرها محمودا وقيل في عددهم غير ذلك.

442
فلما سار سمعت العرب به فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له (ذو نفر) وقاتله فهزم ذو نفر وأخذ أسيرا فأراد قتله ثم تركه محبوسا عنده ثم مضى على وجهه فخرج عليه نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله فانهزم نفيل وأخذ أسيرا فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف (أبا رغال) يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره فهو القبر الذي يرجم.
وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم.
فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له والله ما نريد حربه هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وأن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا من دفع فقال له انطلق معي إلى الملك فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا فدل عليه وهو في محبسه فقال له هل عندك غناء فيما نزل بنا. فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله ولكن أنيس سائس الفيل صديق لي فأوصيه بك وأعظم حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما تريد ويشفع لك عنده إن قدر قال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس فحضره وأوصاه بعبد المطلب وأعلمه أنه سيد قريش فكلم أنيس أبرهة وقال هذا سيد قريش يستأذن فأذن له.

443
وكان عبد المطلب رجلا عظيما جليلا وسيما فلما رآه أبرهة اجله وأكرمه ونزل عن سريره إليه وجلس معه على بساط وأجلسه إلى جانبه وقال لترجمانه قل له ما حاجتك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي فقال أبرهة لترجمانه قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في إبلك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟ قال عبد المطلب أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه قال ما كان ليمنع مني وأمر برد إبله فلما أخذها قلدها وجعلها هديا وبثها في الحرم كي يصاب منها شيء فيغضب الله. وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج معه من مكة والتحرز في رؤوس الجبال خوفا من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
(يا رب لا أرجو لهم سواكا * يا رب فامنع منهم حماكا)
(إن عدو البيت من عاداكا * إمنعهم أن يخربوا فناكا)
وقال أيضا:
(لاهم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحالك)
(لا يغلبن صليبهم * ومحالهم عدوا محالك)

444
(ولأن فعلت فإنه * أمر تتم به فعالك)
(أنت الذي إن جاء باغ * نرتجيك له فذلك)
(ولوا ولم يحووا سوى * خزى وتهلكهم هنالك)
(لم أستمع يوما بارجس * منهم يبغوا قتالك)
(جروا جموع بلادهم * والفيل كي يسبوا عيالك)
(عمدوا حماك بكيدهم * جهلا وما رقبوا جلالك)
(إن كنت تاركهم * وكعبتنا فامر ما بدالك)
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وكان اسمه محمودا وأبرهة مجمع لهدم البيت والعود إلى اليمن فلما وجهوا الفيل أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي فمسك بأذنه وقال ارجع محمودا ارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام.
ثم أرسل أذنه فألقى الفيل نفسه إلى الأرض واشتد نفيل فصعد الجبل فضربوا الفيل فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل كذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض. وأرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك وليس كلهم أصابت وأرسل الله سيلا ألقاهم في البحر وخرج من سلم مع أبرهة هاربا يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين

445
رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
(أين المفر والإله الطالب * والأشرم المغلوب غير الغالب)
وقال أيضا:
(ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الأصباح عينا)
(أتانا قابس منكم عشاء * فلم يقدر لقابسكم لدينا)
(ردينة لو رأيت ولا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا)
(إذا لعذرتني وحمدت رأيي * ولم تأس لما قد فات بينا)
(حمدت الله إذ عاينت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا)
(وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا)
فخرجوا يتساقطون بكل منهل وأصيب أبرهة في جسده فسقطت أعضاؤه عضوا عضوا حتى قدموا به صنعاء وهو مثل الفرخ فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
فلما هلك ملك ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى وذلك حمير واليمن له ونكحت الحبشة نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب.
ولما أهلك الله الحبشة وعاد ملكهم ومعه من سلم منهم ونزل عبد المطلب من الغد إليهم لينظر ما يصنعون ومعه أبو مسعود الثقفي لم يسمعا حسا فدخل معسكرهم فرأيا القوم هلكى فاحتفر عبد المطلب حفرتين ملأهما

446
ذهبا وجوهرا له ولأبي مسعود ونادى في الناس فتراجعوا فأصابوا من فضلهما شيئا كثيرا فبقي عبد المطلب في غنى من ذلك المال حتى مات.
وبعث الله السيل فألقى الحبشة في البحر. ولما رد الله الحبشة عن الكعبة وأصابهم ما أصابهم عظمت العرب قريشا وقالوا أهل الله قاتل عنهم. ثم مات يكسوم وملك بعده أخوه مسروق.
ذكر عود اليمن إلى حمير وإخراج الحبشة عنه
لما هلك يكسوم ملك اليمن أخوه مسروق بن أبرهة وهو الذي قتله وهرز فلما اشتد البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن وكنيته أبو مرة وقيل كنية ذي يزن أبو مرة حتى قدم على قيصر وتنكب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه فإذا كان قصد كسرى أنوشروان لما أخذت زوجته يستنصره على الحبشة فوعده فأقام ذو يزن عنده فمات على بابه وكان ابنه سيف مع أمه في حجر أبرهة وهو يحسب أنه ابنه فسبه ولد لأبرهة وسب أباه فسأل أمه عن أبيه فأعلمته خبره بعد مراجعة بينهما فأقام حتى مات أبرهة وابنه يكسوم ثم سار إلى الروم فلم يجد عند ملكهم ما يحب لموافقته الحبشة في الدين فعاد إلى كسرى فاعترضه يوما وقد ركب فقال له: إن لي عندك

447
ميراثا فدعا به كسرى لما نزل فقال له من أنت وما ميراثك؟: قال أنا ابن الشيخ اليماني الذي وعدته النصرة فمات ببابك فتلك العدة حق لي وميراث فرق كسرى له وقال له بعدت بلادك عنا وقيل خيرها والمسلك إليها وعر ولست أغرر بجيشي وأمر له بمال فخرج وجعل ينثر الدراهم فانتهبها الناس فسمع كسرى فسأله ما حمله على ذلك فقال لم آتك للمال وإنما جئتك للرجال ولتمنعني من الذل والهوان وإن جبال بلادنا ذهب وفضة.
فأعجب كسرى بقوله وقال يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني؛ واستشار وزراءه في توجيه الجند معه فقال له موبذان موبذ أيها الملك إن لهذا الغلام حقا بنزوعه إليك وموت أبيه ببابك وما تقدم من عدته بالنصرة وفي سجونك رجال ذوو نجدة وبأس فلو أن الملك وجههم معه فإن أصابوا ظفرا كان للملك وإن هلكوا فقد استراح وأراح أهل مملكته منهم.
فقال كسرى: هذا الرأي فأمر بمن في السجون، فأحضروا فكانوا ثمانمائة فقود عليهم قائدا من أساورته يقال له وهرز وقيل بل كان من أهل السجون سخط عليه كسرى لحدث أحدثه فحبسه وكان يقيد بألف أسوار وأمر بحملهم في ثمان سفن فركبوا البحر فغرق سفينتان وخرجوا بساحل حضرموت ولحق بابن ذي يزن بشر كثير وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب وجعل وهرز البحر وراء ظهره وأحرق السفن لئلا يطمع أصحابه في النجاة وأحرق كل ما معهم من زاد وكسوة إلا

448
ما أكلوا وما على أبدانهم وقال لأصحابه إنما أحرقت ذلك لئلا يأخذه الحبشة إن ظفروا بكم وإن نحن ظفرنا بهم فسنأخذ أضعافه فإن كنتم تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي حتى يخرج من ظهري فانظروا ما حالكم إذا فعل رئيسكم هذا بنفسه قالوا بل نقاتل معك حتى نموت أو نظفر وقال لسيف بن ذي يزن ما عندك قال ما شئت من رجل عربي وسيف عربي ثم اجعل رجلي حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا قال: أنصفت.
فجمع إليه سيف من استطاع من قومه فكان أول من لحقه السكاسك من كندة وسمع بهم مسروق بن أبرهة فجمع إليه جنده فعبى وهرز أصحابه وأمرهم أن يوتروا قسيهم وقال إذا أمرتكم بالرمي فارموا رشقا.
وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه، وهو على فيل وعلى رأسه تاج وبين عينيه ياقوته حمراء مثل البيضة لا يرى دون الظفر شيئا. وكان وهرز كل بصره، فقال: أروني عظيمهم. فقالوا: هذا صاحب الفيل، ثم ركب فرسا فقالوا ركب فرسا ثم انتقل إلى بغلة فقالوا ركب بغلة فقال وهرز ارفعوا لي حاجبي وكانا قد سقطا على عينيه من الكبر فرفعوهما لها بعصابة ثم جعل نشابة في كبد قوسه وقال أشيروا إلى مسروق فأشاروا إليه فقال لهم سأرميه فإن رأيتم أصحابه وقوفا لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتموهم قد استداروا ولاذوا به فقد أصبته فاحملوا عليهم ثم رماه فأصاب السهم بين عينيه ورمى أصحابه فقتل مسروق وجماعة من أصحابه فاستدارت الحبشة بمسروق وقد سقط عن دابته وحملت الفرس عليهم فلم يكن دون الهزيمة شيء وغنم الفرس من عسكرهم مالا يحد ولا يحصى.

449
وقال وهرز: كفوا عن العرب واقتلوا السودان ولا تبقوا منهم أحدا. وهرب رجل من الأعراب يوما وليلة ثم التفت فرأى في جعبته نشابة فقال: لأمك الويل أبعد طول مسير وسار وهرز حتى دخل صنعاء وغلب على بلاد اليمن وأرسل عماله في المخاليف.
وكان مدة ملك الحبشة اليمن اثنتين وسبعين سنة توارثت ذلك منهم أربعة ملوك ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم مسروق بن أبرهة وقيل كان ملكهم نحو اثنين وثلاثين سنة وقيل غير ذلك والأول أصح.
فلما ملك وهرز اليمن أرسل إلى كسرى يعلمه بذلك وبعث إليه بأموال وكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن وبعضهم يقول معد بن يكرب بن سيف [بن ذي يزن] على اليمن وأرضها، وفرض عليه كسرى جزية وخراجا معلوما في كل عام فملكه وهرز وانصرف إلى كسرى وأقام سيف على اليمن ملكا يقتل الحبشة ويبقر بطون الحبالى عن الحمل ولم يترك منهم إلا القليل جعلهم خولا فاتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بالحراب فمكث غير كثير ثم إنه خرج يوما والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه بالحراب حتى قتلوه فكان ملكه خمس عشرة سنة ووثب بهم رجل من الحبشة فقتل باليمن وأفسد فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف فارس وأمره أن لا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود [إلا قتله، صغيرا أو كبيرا، ولا يدع رجلا جعدا قططا قد] شرك فيه السودان إلا قتله، وأقبل حتى دخل اليمن ففعل ما أمره وكتب إلى كسرى يخبره، فأقره

450
على ملك اليمن، فكان يجيبها لكسرى حتى هلك وأمر بعده كسرى ابنه المرزبان بن وهرز حتى هلك ثم أمر بعده كسرى التينجان بن المرزبان.
ثم أمر بعده خر خرة بن التينجان بن المرزبان ثم إن كسرى أبرويز غضب عليه فأحضره من اليمن فلما قدم تلقاه رجل من عظماء الفرس فألقى عليه سيفا كان لأبي كسرى فأجاره كسرى بذلك من القتل وعزله عن اليمن وبعث باذان إلى اليمن فلم يزل عليها حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن أنوشروان استعمل بعد وهرز زرين وكان مسرفا إذا أراد أن يركب قتل قتيلا ثم سار بين أوصاله فمات أنوشروان وهو على اليمن فعزله ابنه هرمز.
وقد اختلفوا في ولاة اليمن للأكاسرة اختلافا كثيرا لم أر لذكره فائدة.
ذكر ما أحدثه قريش بعد الفيل
لما كان من أمر أصحاب الفيل ما ذكرناه عظمت قريش عند العرب فقالوا لهم أهل الله وقطنه يحامي عنهم
فاجتمعت قريش بينها وقالوا نحن بنو إبراهيم عليه السلام وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنو مكة، فليس لأحد من العرب

451
مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئا من الحل كما يعظم الحرم فإننا إذا فعلنا ذلك استخفت العرب بنا وبحرمنا وقالوا قد عظمت قريش من الحل مثل ما عظمت من الحرم فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج دين إبراهيم ويرى سائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها وقالوا نحن أهل الحرم فلا نعظم غيره ونحن الحمس وأصل الحماسة الشدة أنهم تشددوا في دينهم وجعلوا لمن ولد واحدة من نسائهم من العرب ساكني الحل مثل مالهم بولادتهم ودخل معهم في ذلك كنانة وخزاعة وعامر لولادة لهم، ثم ابتدعوا فقالوا لا ينبغي للحمس أن يعملوا الأقط ولا يسلأ السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما وقالوا ولا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل في الحرم إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت طوافهم إذا قدموا إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة فإن أنف أحد من عظمائهم أن يطوف عريانا إذا لم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه ألقاها إذا فرغ من الطواف ولا يمسها هو ولا أحد غيره وكانوا يسمونها اللقى.
فدانت العرب لهم بذلك فكانوا يطوفون كما شرعوا لهم ويتركون أزوادهم التي جاؤوا بها من الحل ويشترون من طعام الحرم ويأكلونه.
هذا في الرجال وأما في النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجا ثم تطوف فيه وتقول:
(اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله)

452
فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا فنسخه فأفاض من عرفات وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل وأكلوا من طعام الحل في الحرم أيام الحج وأنزل الله تعالى في ذلك (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) أراد بالناس العرب أمر قريشا أن يفيضوا من عرفات وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا إلى قوله لقوم يعلمون).
ذكر حلف المطيبين والأحلاف
قد ذكرنا ما كان قصي أعطى ولده عبد الدار من الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء ثم إن هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفلا بني عبد المناف بن قصي رأوا أنهم أحق بذلك من بني عبد الدار لشرفهم عليه ولفضلهم في قومهم وأرادوا أخذ ذلك منهم فتفرقت عند ذلك قريش كانت طائفة مع بني عبد المناف وطائفة مع بني عبد الدار يرون أنه لا يجوز أن يؤخذ منهم ما كان قصي جعله لهم إذ كان أمر قصي فيهم شرعا متبعا معرفة منهم لفضله وتيمنا بأمره، وكان صاحب أمر بني عبد مناف بن قصي عبد شمس لأنه كان أكبرهم وكان صاحب بني عبد الدار الذي قام في المنع عنهم عامر بن هاشم

453
بن عبد مناف بن عبد الدار، فاجتمع بنو أسد بن عبد العزي بن قصي وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر مع بني عبد مناف واجتمع بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب مع بني عبد الدار وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر من ذلك فلم يكونوا مع أحد الفريقين، وعقد كل طائفة بينهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة فأخرجت بنو عبد مناف بن قصي جفنة مملوءة طيبا قيل إن بعض نساء عبد مناف أخرجتها لهم فوضعوها في المسجد وغمسوا أيديهم فيها وتعاهدوا وتعاقدوا ومسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا بذلك المطيبين.
وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم من القبائل عند الكعبة على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف ثم تصافوا للقتال وأجمعوا على الحرب فبينما هم على ذلك إذ تداعوا للصلح على أن يعطوا بني عبد المناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار فاصطلحوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك وتحاجزوا عن الحرب وثبت كل قوم مع من حالفوا حتى جاء الإسلام وهم على ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام.
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف لأن عبد شمس كان كثير الأسفار قليل المال كثير العيال وكان هاشم موسرا جوادا.
وكان ينبغي أن نذكر هذا قبل الفيل وما أحدثته قريش وإنما أخرناه للزوم تلك الحوادث بعضها ببعض.

454
ذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجند
كان ملوك الفرس يأخذون من غلات كورهم قبل ملك كسرى أنوشروان في خراجها من بعضها الثلث ومن بعضها الربع وكذلك الخمس والسدس على قدر شربها وعمارتها ومن الجزية شيئا معلوما فأمر الملك قباذ بمسح الأرضين ليصح الخراج عليها فمات قبل الفراغ من ذلك فلما ملك أنوشروان أمر باستتمام ذلك ووضع الخراج على الحنطة والشعير والكرم والرطب والنخل والزيتون والأرز على كل نوع من هذه الأنواع شيئا معلوما ويؤخذ في السنة ثلاثة أنجم (وهي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب) وكتب كسرى إلى القضاة في البلاد نسخة بالخراج ليمتنع العمال من الزيادة عليه وأمر أن يوضع عمن أصابت غلته جائحة بقدر جائحته وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والهرابذة والكتاب ومن في خدمة الملك كل إنسان على قدره اثني عشر درهما وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم وأسقطها [عمر] عمن لم يبلغ عشرين سنة أو جاوز خمسين سنة.
ثم إن كسرى ولى رجلا من الكتاب من الكفاة والنبلاء اسمه (بابك) عرض جيشه فطلب من كسرى التمكن من شغله إلى ذلك فتقدم ببناء مصطبة موضع عرض الجيش وفرشها ثم نادى أن يحضر الجند بسلاحهم وكراعهم للعرض فحضروا فحيث لم ير معهم كسرى أمرهم بالانصراف فعل ذلك يومين ثم أمر فنودي في اليوم الثالث أن لا يتخلف أحد ولا من أكرم بتاج فسمع كسرى فحضر وقد لبس التاج والسلاح ثم أتى بابك ليعرض عليه فرأى سلاحه تاما ما عدا وترين للقوس كان عادتهم أن يستظهروا

455
بهما فلم يرهما بابك معه فلم يجز على اسمه وقال له هلم كلما يلزمك فذكر كسرى الوترين فتعلقهما ثم نادى منادى بابك وقال للكمي السيد سيد الكماة أربعة آلاف درهم وأجاز على اسمه فلما قام عن مجلسه حضر عند كسرى يعتذر إليه من غلظته عليه وذكر له أن أمره لا يتم ألا بما فعل فقال كسرى ما غلظ علينا أمر نريد به إصلاح دولتنا.
ومن كلام كسرى الشكر والنعمة عدلان ككفتي الميزان أيهما رجح بصاحبه احتاج الأخف إلى أن يزاد فيه حتى يعادل صاحبه فإذا كانت النعم كثيرة والشكر قليلا انقطع الحمد فكثير النعم يحتاج إلى كثير من الشكر وكلما زيد في الشكر ازدادت النعم وجاوزته ونظرت في الشكر فوجدت بعضه بالقول وبعضه بالفعل ونظرت أحب الأعمال إلى الله فوجدته الشيء الذي أقام به السماوات والأرض وأرسى به الجبال وأجرى به الأنهار وبرأ به البرية وهو الحق والعدل فلزمته ورأيت ثمرة الحق والعدل عمارة البلدان التي بها قوام الحياة للناس والدواب والطير وجميع الحيوانات. ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتلة أجراء لأهل العمارة وأهل العمارة أجراء للمقاتلة فأما المقاتلة فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم من ورائهم فحق على أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم.
ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد

456
إلا بأهل الخراج والعمارة فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم ولم أجحف بواحدة من الجانبين ورأت المقاتلة وأهل الخراج كالعينين المبصرتين واليدين المتساعدتين والرجلين على أيهما دخل الضرر تعدى إلى الأخرى.
ونظرنا في سير آبائنا فلم نترك منها شيئا يقترن بالثواب من الله والذكر الجميل بين الناس والمصلحة الشاملة للجند والرعية إلا اعتمدناه ولا فسادا إلا أعرضنا عنه ولم يدعنا إلى حب ما لا خير فيه حب الآباء.
ونظرت في سير أهل الهند والروم وأخذنا محمودها ولم تنازعنا أنفسنا إلى ما تميل إليه أهواؤنا وكتبنا بذلك إلى
جميع أصحابنا ونوابنا في سائر البلدان.
فانظر إلى هذا الكلام الذي يدل على زيادة العلم وتوفر العقل والقدرة على منع النفس ومن كان هذا حاله استحق أن يضرب به المثل في العدل إلى أن تقوم الساعة.
وكان لكسرى أولاد متأدبون فجعل الملك من بعده لابنه هرمز.
وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملكه، وفي هذا العام كان يوم ذي جبلة، وهو يوم من أيام العرب المذكورة.

457
ذكر مولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال قيس بن مخرمة وقباث بن أشيم وابن عباس وابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل. قال ابن الكلبي: ولد عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين سنة مضت من سلطان كسرى أنوشروان وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة اثنتين وأربعين من سلطانه وأسله الله تعالى لمضى اثنتين وعشرين من ملك كسرى أبرويز بن كسرى هرمز بن كسرى أنوشروان وهاجر لاثنتين وثلاثين سنة مضت من ملك أبرويز.
قال ابن إسحاق ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وكان مولده بالدار التي تعرف بدار ابن يوسف قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها عقيل بن أبي طالب فلم تزل في يده حتى توفي فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف وادخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجدا يصلى فيه وقيل ولد لعشر خلون منه وقيل لليلتين خلتا منه.
قال ابن إسحاق: إن آمنة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحدث أنها أتيت في منامها لما حملت برسول الله صلى الله

458
عليه وسلم فقيل لها إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع بالأرض قولي أعيذ بالواحد، من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام فأته فانظر إليه فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه.
وقال عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة ابنة وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور وإني لأنظر [إلى] النجوم لتدنو حتى أني لأقول لتقعن علي.
وأول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن له يقال له مسروح وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي فكانت ثويبة تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر فيكرمها وتكرمها خديجة فأرسلت إلى أبي لهب أن يبيعها إياها لتعتقها فأبى فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بالصلة إلى أن بلغه خبر وفاتها منصرفة من خيبر فسأل عن ابنها مسروح فقيل توفي قبلها فسأل هل لها من قرابة فقيل لم يبق لها أحد.
ثم أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثويبة حليمة بنت أبي ذؤيب واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة من بني سعد بن بكر بن

459
هوازن واسم زوجها الذي أرضعته بلبنه الحارث بن عبد العزى واسم إخوته من الرضاعة عبد الله وأنيسة وجذامة وهي الشيماء عرفت بذلك وكانت الشيماء تحضنه مع أمها حليمة.
وقدمت حليمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج خديجة فأكرمها ووصلها وتوفيت قبل فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة، [فلما فتح مكة] قدمت عليها أخت لها فسألها عنها فأخبرته بموتها فذرفت عيناه فسألها عمن خلفت فأخبرته فسألته نحلة وحاجة فوصلها.
وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: كانت حليمة السعدية تحدث أنها خرجت من بلدها مع نسوة يلتمسن الرضعاء وذلك في سنة شهباء لم تبق شيئا قالت فخرجت على أتان لنا قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معي من بكائه من الجوع وما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذوه ولكنا نرجو الغيث والفرج فلقد أدمت أتاني بالركب حتى شق عليهم ضعفا وعجفا حتى قدمنا مكة فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم فما عسى أن تصنع أمه وجده فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي وكان معي إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال افعلي فعسى أن الله يجعل لنا فيه بركة قالت فذهبت فأخذته،

460
فلما أخذته ووضعته في حجري أقبل عليه ثدياي ما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما وما كان ابني ينام قبل ذلك وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا أنها حافل فحلب منها ثم شرب حتى روي ثم سقاني فشربت حتى شبعنا قالت ثم خرجنا يقول لي صاحبي تعلمين والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله لأرجو ذلك قالت ثم خرجنا فركبت أتاني وحملته عليها فلم يلحقني شيء من حميرهم حتى إن صواحبي يقلن لي يا ابنه أبي ذؤيب أربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول بلى والله لهي فيقلن إن لها شأنا ثم قدمنا منازلنا من بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا من بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع حتى إن كان الحاضر من قومنا ليقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة من لبن وتروح غنمي شباعا
لبنا.
فلم نزل نتعرف البركة من الله والزيادة في الخير حتى مضت سنتان وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه عندنا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه في تركه عندنا، فأجابت. قالت: فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر [مر] مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذلك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاه وشقا بطنه وهما يسوطانه ‍ قالت فخرجنا نشتد فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت: فالتزمته أنا وأبوه وقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا به شيئا لا أدري ما هو. قالت:

461
فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه والله لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك.
قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك يا ظئر به وقد كنت حريصة على مكثه عندك قالت قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين قالت ما هذا بشأنك فأصدقيني ولم تدعني حتى أخبرتها قالت فتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم. قالت كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وإن لابني لشأنا أفلا أخبرك قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر ثم وقع حين وضعته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانطلقي راشدة.
وكانت مدة رضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنتين وردته حليمة إلى أمه وجده عبد المطلب وهو ابن خمس سنين في قول.
وقال شداد بن أوس بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل شيخ من بني عامر وهو ملك قومه وسيدهم شيخ كبير متوكئا على عصا فمثل قائما وقال يا بن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ألا وإنك فهت بعظيم ألا وقد كانت الأنبياء من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان ومالك وللنبوة وإن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولك وبدو شأنك؟
فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمساءلته ثم قال: يا أخا بني عامر اجلس فجلس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن حقيقة قولي وبدو شأني أني دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى وكنت بكر

462
أمي وحملتني كأثقل ما تحمل النساء ثم رأت في منامها أن الذي في بطنها نور [قالت] فجعلت اتبع بصري النور وهو يسبق بصري حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها ثم إنها ولدتني فنشأت فلما نشأت بغضت إلي الأوثان والشعر فكنت مسترضعا في بني سعد بن بكر فبينا أنا ذات يوم منتبذا من أهلي مع أتراب من الصبيان إذ أتانا ثلاثة رهط معهم طست من ذهب مملوء ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم أقبلوا على الرهط فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس له أب وما يرد عليكم قتله؟ فلما رأى الصبيان الرهط لا يردون جوابا انطلقوا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم بي ويستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسا ثم أخرج أحشاء بطني فغسلها بالثلج فأنعم غسلها ثم أخرج قلبي فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئا فإذا [أنا] بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح فتنحى عني فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا ثم قال للأول الذي شق بطني زنه بعشرة من أمته فوزنوني بهم فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنوني بهم فرجحتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنوني بهم فرجحتهم فقال دعوه فلو وزنته بأمته كلهم لرجح بهم.

463
ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقربه عينك.
قال: فبينما نحن كذلك إذ أنا بالحي قد جاؤوا بحذافيرهم وإذا ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وهي تقول يا ضعيفاه قال فانكبوا علي يعني الرهط وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئري يا وحيداه فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا يا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد إن الله معك ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم وقبلوا ما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير! قال: فوصلوا إلى شفير الوادي فلما بصرت بي ظئري قالت يا بني ألا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها وإن يدي في يد بعضهم فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم يقول بعض القوم إن هذا الغلام أصابه لمم أو طائف من الجن انطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه فقلت ما هذا ليس بي شيء مما يذكر إن إرادتي سليمة وفؤادي صحيح ليس في قلبة فقال أبي من الرضاع ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن فذهبوا بي إليه فلما قصوا عليه قصتي قال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم فقصصت عليه

464
أمري من أوله إلى آخره فلما سع وثب إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته يا للعرب اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه فواللات والعزة لئن تركتموه فأدرك ليذلن دينكم ويخلفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط.
فانتزعتني ظئري منه وقالت لأنت أجن وأعته من ابني هذا فاطلب لنفسك من يقتلك فإنا غير قاتليه!
ثم ردوني إلى أهلي فأصبحت مفزعا مما فعل بي وأثر الشق مما بين صدري إلى عانتي كأنه الشراك فذلك حقيقة قولي وبدو شأني يا أخا بني عامر.
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو إن أمرك حق فأنبئني بأشياء أسألك عنها قال سل قال أخبرني ما يزيد في العلم؟ قال التعلم قال فما يدل على العلم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم السؤال قال فأخبرني ماذا يزيد في الشيء؟ قال التمادي قال فأخبرني هل ينفع البر مع الفجور؟ قال نعم التوبة تغسل الحوبة والحسنات يذهبن السيئات وإذا ذكر العبد الله عند الرخاء أعانه عند البلاء فقال العامري فكيف ذلك قال ذلك بأن الله عز وجل يقول (وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا أجمع له خوفين إن خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي في حظيرة القدس فيدوم له أمنه ولا أمحقه فيمن أمحق وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم فيدوم له خوفه).
قال: يا بن عبد المطلب أخبرني إلى م تدعو قال أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تخلع الأنداد وتكفر باللات والعزى وتقر بما جاء من عند الله من كتاب ورسول وتصلي الصلوات الخمس بحقائقهن وتصوم

465
شهرا من السنة، وتؤدي زكاة مالك يطهرك الله تعالى بها ويطيب لك مالك وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلا وتغتسل من الجنابة وتؤمن بالموت والبعث بعد الموت وبالجنة والنار قال يا بن عبد المطلب فإذا فعلت ذلك فما لي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى).
فقال: هل مع هذا من الدنيا شيء فإنه يعجبني الوطأة من العيش قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم النصر والتمكين في البلاد فأجاب وأناب.
قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة حامل به.
قال هشام بن محمد: توفي عبد الله أبو رسول الله بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرون يوما.
وقال الواقدي: الثبت عندنا أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش ونزل بالمدينة وهو مريض فأقام [بها] حتى توفي ودفن بدار النابغة، [الدار] الصغرى.
قال ابن إسحاق: وتوفيت أمه آمنة وله ست سنين بالأبواء بين مكة

466
والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بني النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة وقيل إنها أتت المدينة تزور قبر زوجها عبد الله ومعها رسول الله وأم أيمن حاضنة رسول الله فلما عادت ماتت بالأبواء وقيل إن عبد المطلب زار أخواله من بني النجار وحمل معه آمنة ورسول الله فلما رجع توفيت بمكة ودفنت في شعب أبي ذر والأول أصح.
ولما سارت قريش إلى أحد هموا باستخراجها من قبرها قال بعضهم إن النساء عورة وربما أصاب محمد من نسائكم فكفهم الله بهذا القول إكراما لأم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وتوفي عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنين وقيل ابن عشر سنين ولما مات عبد المطلب صار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر عمه أبي طالب بوصية من عبد المطلب إليه بذلك لما كان يرى من بره وشفقته وحنوه عليه فيصبح ولد أبي طالب غمصا رمسا ويصبح رسول الله صقيلا دهينا.

467
ذكر قتل تميم بالمشقر
قال هشام: أرسل وهرز بأموال وطرف من اليمن إلى كسرى فلما كانت ببلاد تميم دعا صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق الشاعر بني تميم إلى الوثوب عليها، فأبوا، فقال: كأني ببني بكر بن وائل وقد انتهبوا فاستعانوا بها على حربكم فلما سمعوا ذلك وثبوا عليها وأخذوها وأخذ رجل من بني صليت يقال له النطف خرجا فيه جوهر فكان يقال أصاب [فلان] كنز النطف، فصار مثلا، وصار أصحاب العير إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم وحملهم وصار معهم حتى دخل على كسرى فأعجب به ودعا بعقد من در فعقد على رأسه فمن ثم سمي هوذة ذا التاج وسأله كسرى عن تميم هل من قومه أو بينه وبينهم سلم فقال لا بيننا إلا الموت قال قد أدركت ثأرك وأراد إرسال الجنود إلى تميم فقيل له إن ماءهم قليل وبلادهم بلاد سوء وأشير عليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين وهو أزاد فيروز بن جشيش الذي سمته العرب المكعبر وإنما سمي بذلك لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل فأمره بقتل بني تميم ففعل ووجه إليه رسولا ودعا هوذة وجدد له كرامة وصلة وأمره بالمسير مع رسوله فأقبل إلى المكعبر أيام اللقاط وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة واللقاط فأمر المكعبر مناديا ينادي ليحضر من كان ها هنا بني تميم فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام فحضروا ودخلوا على المشقر وهو حصن فلما دخلوا

468
قتل المكعبر رجالهم واستبقى غلمانهم وقتل يومئذ قعنب الرياحي وكان فارس يربوع وجعل الغلمان في السفن وعبر بهم إلى فارس.
قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعد ما فتحت إصطخر عدة منهم وشد رجل من بني تميم يقال له عبيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج واستوهب هوذة من المكعبر مائة أسير منهم فاطلقهم.
(حدير بضم الحاء المهملة وفتح الدال).
ذكر ملك ابنه هرمز بن أنوشروان
وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر لما ملك كسرى أنوشروان كان ملكه ثمانية وأربعين سنة فملك بعده هرمز وكان هرمز بن كسرى أديبا ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والحمل على الأشراف فعادوه وأبغضوه وكان في نفسه مثل ذلك وكان عادلا بلغ من عدله أنه ركب ذات يوم إلى سباط المدائن فاجتاز بكروم فاطلع أسوار من أساورته في كرم وأخذ منه عناقيد حصرم فلزمه حافظ الكروم وصرخ فبلغ من خوف الأسوار من عقوبة كسرى هرمز أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب عوضا من الحصرم فتركه.
وقيل كان مظفرا منصورا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله وكان داهيا رديء النية قد نزع إلى أخواله الترك وأنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل ولم يكن له رأي ألا في تألف

469
السفلة. وحبس كثيرا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم وحرم الجنود ففسد عليه كثير ممن كان حوله وخرج عليه شايه ملك الترك في ثلاثمائة ألف مقاتل في سنة ست عشرة من ملكه فوصل هراة وباذغيس وأرسل إلى هرمز والفرس يأمرهم بإصلاح الطرق ليجوز إلى بلاد الروم ووصل ملك الروم في ثمانين ألفا إلى الضواحي قاصدا له ووصل ملك الخزر إلى الباب والأبواب في جمع عظيم فإن جمعا من العرب شنوا الغارة على السواد فأرسل هرمز بهرام خشنش ويعرف بجوبين في اثني عشر ألفا من المقاتلة اختارهم من عسكره فسار مجدا وواقع شايه ملك الترك فقتله برمية رماها واستباح عسكره ثم وافاه برمودة بن شايه فهزمه أيضا وحصره في بعض الحصون حتى استسلم فأرسله إلى هرمز أسيرا وغنم ما في الحصن فكان عظيما.
ثم خاف بهرام ومن معه هرمز فخلعوه وساروا نحو المدائن وأظهروا أن ابنه أبرويز أصلح للملك منه وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز وكان غرض بهرام أن يستوحش هرمز من ابنه أبرويز ويستوحش ابنه منه فيختلفا فإن ظفر أبرويز بأبيه كان أمره على بهرام سهلا وإن ظفر أبوه نجا بهرام والكلمة مختلفة فينال من هرمز غرضه وكان يحدث نفسه بالاستقلال بالملك فلما علم أبرويز ذلك خاف أباه فهرب إلى أذربيجان فاجتمع عليه عدة من المرازبة والأصبهبذين ووثب العظماء بالمدائن وفيهم بندويه

470
وبسطام خالا أبرويز فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجا من قتله وبلغ أبرويز الخبر فأقبل من أذربيجان إلى دار الملك.
وكان ملك هرمز إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وقيل اثنتي عشرة سنة ولم يسلم من ملوك الفرس غيره ولا قبله ولا بعده.
ومن محاسن السير ما حكي عنه أنه لما فرغ من بناء داره التي تشرف على دجلة مقابل المدائن عمل وليمة عظيمة وأحضر الناس من الأطراف فأكلوا ثم قال لهم هل رأيتم في هذه الدار عيبا فكلهم قال لا عيب فيها فقام رجل وقال فيها ثلاثة عيوب فاحشة أحدها أن الناس يجعلون دورهم في الدنيا وأنت جعلت الدنيا في دارك فقد أفرطت في توسيع صحونها وبيوتها فتتمكن الشمس في الصيف والسموم فيؤذي ذلك أهلها ويكثر فيها في الشتاء البرد والثاني أن الملوك يتوصلون في البناء على الأنهار لتزول همومهم وأفكارهم بالنظر إلى المياه ويترطب الهواء وتضئ أبصارهم وأنت قد تركت دجلة وبنيتها في القفر والثالث أنك جعلت حجرة النساء مما يلي الشمال من مساكن الرجال وهو أدوم هبوبا فلا يزال الهواء يجيء بأصوات النساء وريح طيبهن وهذا ما تمنعه الغيرة والحمية.
فقال هرمز: أما سعة الصحون والمجالس فخير المساكن ما سفر فيه البصر وشدة الحر والبرد يدفعان بالخيش والملابس والنيران وأما مجاورة الماء فكنت عند أبي وهو يشرف على دجلة فغرقت سفينة تحته فاستغاث من بها إليه وأبي يتأسف عليهم ويصيح بالسفن التي تحت داره ليلحقوهم فإلى أن

471
لحقوهم غرق جميعهم فجعلت في نفسي أنني لا أجاور سلطانا هو أقوى مني وأما عمل حجرة النساء في جهة الشمال فقصدنا به أن الشمال أرق هواء وأقل وخامة والنساء يلازمن البيوت فعمل لذلك وأما الغيرة فإن الرجال لا يخلون بالنساء وكل من يدخل هذه الدار إنما هو مملوك وعبد لقيم وأما أنت فما أخرج هذا منك إلا بغض لي فأخبرني عن سببه.
فقال الرجل: لي قرية ملك كنت أنفق حاصلها على عيالي فغلبني المرزبان فأخذها مني فقصدتك أتظلم منذ سنتين فلم أصل إليك فقصدت وزيرك وتظلمت إليه فلم ينصفني وأنا أؤدي خراج القرية حتى لا يزول اسمي عنها وهذا غاية الظلم أن يكون غيري يأخذ دخلها وأنا أؤدي خراجها.
فسأل هرمز وزيره فصدقه وقال خفت أعلمك فيؤذيني المرزبان فأمر هرمز أن يؤخذ من المرزبان ضعف ما أخذ وأن يستخدمه صاحب القرية في أي شيء شاء سنتين وعزل وزيره وقال في نفسه إذا كان الوزير يراقب الظلم فالحري أن غيره يراقبه فأمر باتخاذ صندوق وكان يقفله ويختمه بخاتم ويترك على باب داره وفيه خرق يلقى فيه رقاع المتظلمين وكان يفتحه كل أسبوع ويكشف المظالم فأفكر وقال أريد أعرف ظلم الرعية ساعة فساعة فاتخذ سلسلة طرفها في مجلسه في السقف والطرف الآخر خارج الدار في روزنة وفيها جرس وكان المتظلم يحرك السلسة فيحرك الجرس فيحضره ويكشف ظلامته.
ذكر مملكة كسرى أبرويز بن هرمز
وكان من أشد ملوكهم بطشا وأنفذهم رأيا وبلغ من البأس والنجدة وجمع الأموال ومساعدة الأقدار ما لم يبلغه ملك قبله ولذلك لقب أبرويز ومعناه

472
المظفر، وكان في حياة أبيه قد سعى به بهرام جوبين إلى أبيه أنه يريد الملك لنفسه فلما علم ذلك سار إلى أذربيجان سرا وقيل غير ذلك وقد تقدم فلما وصل بايعه من كان [بها] من العظماء واجتمع من بالمدائن على خلع أبيه فلما سمع أبرويز بادر الوصول إلى المدائن قبل بهرام جوبين فدخلها قبله ولبس التاج وجلس على السرير ثم دخل إلى أبيه وكان سمل فأعلمه أنه بريء مما فعل به وإنما كان هربه للخوف منه فصدقه وسأله أن يرسل إليه كل يوم من يؤنسه وأن ينتقم ممن خلعه وسمل عينيه فاعتذر بقرب بهرام منه في العساكر وأنه لا يقدر على أن ينتقم ممن فعل به ذلك بعد الظفر ببهرام.
وسار بهرام إلى النهروان وسار أبرويز إليه فالتقيا هناك ورأى أبرويز من أصحابه فتورا في القتال فانهزم ودخل على أبيه وعرفه الحال فاستشاره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم وجهز ثانيا وسار في عدة يسيرة فيهم خالاه بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام فلما خرجوا من المدائن خاف من معه أن بهرام يرد هرمز إلى الملك ويرسل إلى ملك الروم في ردهم فيردهم إليه فاستأذنوا أبرويز في قتل أبيه هرمز فلم يحر جوابا فانصرف بندويه وبسطام وبعض من معهم إلى هرمز فقتلوه خنقا ثم رجعوا إلى أبرويز وساروا مجدين إلى أن جاوزوا الفرات ودخلوا ديرا يستريحون فيه فلما دخلوا غشيتهم خيل بهرام جوبين ومقدمها رجل اسمه بهرام بن سياوش فقال بندويه لأبرويز احتل لنفسك قال ما عندي حيلة قال بندويه أنا أبذل نفسي دونك وطلب منه بزته فلبسها، وخرج أبرويز ومن معه من الدير وتواروا بالجبل ووافى بهرام الدير فرأى بندويه فوق الدير عليه بزة أبرويز،

473
فاعتقده هو وسأله أن ينظره إلى غد ليصير إليه سلما ففعل ثم ظهر من الغد على حيلته فحمله إلى بهرام جوبين فحبسه ودخل بهرام جوبين دار الملك وقعد على السرير ولبس التاج فانصرفت الوجوه عنه لكن الناس أطاعوه خوفا وواطأ بهرام بن سياوش بندويه على الفتك ببهرام جوبين فعلم بهرام جوبين بذلك فقتل بهرام وأفلت بندويه فلحق بأذربيجان وسار أبرويز إلى أنطاكية وأرسل أصحابه إلى الملك فوعده النصرة وتزوج أبرويز ابنة الملك موريق واسمها مريم وجهز معه العساكر الكثيرة فبلغت عدتهم سبعين ألفا فيهم رجل يعد بألف مقاتل فرتبهم أبرويز وسار بهم إلى أذربيجان فوافاه بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في أربعين ألف فارس من أصبهان وفارس وخراسان وسار إلى المدائن وخرج بهرام جوبين نحوه فجرى بينهما حرب شديدة فقتل فيها الفارس
الرومي الذي يعد بألف فارس ثم انهزم جوبين وسار إلى الترك، وسار أبرويز من المعركة ودخل المدائن وفرق الأموال في الروم فبلغت جملتها عشرين ألف ألف فأعادهم إلى بلادهم.
وأقام بهرام جوبين عند الترك مكرما فأرسل أبرويز إلى زوجة الملك وأجزل لها الهدية من الجواهر وغيرها وطلب منها قتل بهرام فوضعت عليه من قتله فاشتد قتله على ملك الترك ثم علم أن زوجته قتلته فطلقها ثم أن أبرويز قتل بندويه وأراد قتل بسطام فهرب منه إلى طبرستان لحصانتها فوضع أبرويز عليه فقتله.
وأما الروم فإنهم خلعوا ملكهم موريق بعد أربع عشرة سنة من ملك أبرويز وقتلوه وملكوا عليهم بطريقا اسمه فوقاس فأباد ذرية موريق سوى ابن له هرب إلى كسرى أبرويز فأرسل معه العساكر وتوجه وملكه على الروم وجعل على عساكره ثلاثة نفر من قواده وأساورته أما أحدهم فكان

474
يقال له بوران وجهه في جيش منها إلى الشام فدخلها حتى انتهى إلى بيت المقدس فأخذ خشبة الصليب التي تزعم النصارى أن المسيح عليه السلام صلب عليها فأرسلها كسرى أبرويز وأما القائد الثاني فكان يقال له شاهين فسيره في جيش آخر إلى مصر فافتتحها وأرسل مفاتيح الإسكندرية إلى أبرويز وأما القائد الثالث وهو أعظمهم فكان يقال له فرخان وتدعى مرتبته شهربراز وجعل مرجع القائدين الأولين إليه وكانت والدته منجبة لا تلد إلا نجيبا فأحضرها أبرويز وقال لها إني أريد أن أوجه جيشا إلى الروم أستعمل عليه بعض بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل فقال أما فلان فأروغ من ثعلب وأحذر من صقر وأما فرخان فهو أنفذ من سنان وأما شهربراز فهو أحلم من كدي فقال قد استعملت الحليم فولاه أمر الجيش فسار إلى الروم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع أشجارهم وسار في بلادهم إلى القسطنطينة حتى نزل على خليجها القريب منها ينهب ويغير ويخرب فلم يخضع لابن موريق أحد ولا أطاعه غير أن الروم قتلوا فوقاس لفساده وملكوا عليهم بعده هرقل وهو الذي أخذ المسلمون الشام منه.
فلما رأى هرقل ما أهم الروم من النهب والقتل والبلاء تضرع إلى الله تعالى ودعاه فرأى في منامه رجلا كث اللحية رفيع المجلس عليه بزة حسنة فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل من مجلسه وقال لهرقل إني قد أسلمته

475
في يدك؛ فاستيقظ، فلم يقص رؤياه فرأى في الليلة الثانية ذلك الرجل جالسا في مجلسه وقد دخل الرجل الثالث وبيده سلسلة فألقاها في عنق ذلك الرجل وسلمه إلى هرقل وقال قد دفعت إليك كسرى برمته فاغزه فإنك مدال عليهم وبالغ أمنيتك في أعدائك. فقص حينئذ هذه الرؤيا على عظماء الروم فأشاروا عليه أن يغزوه فاستعد هرقل واستخلف ابنا له على القسطنطينية وسلك غير الطريق الذي عليه شهربراز وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية وقصد الجزيرة فنزل نصيبين فأرسل إليه كسرى جندا وأمرهم بالمقام بالموصل وأرسل إلى شهربراز يستحثه على القدوم عليه ليتضافرا على قتال هرقل.
وقيل في مسيره غير هذا وهو أن شهربراز سار إلى بلاد الروم فوطئ الشام حتى وصل إلى أذرعات ولقي جيوش الروم بها فهزمها وظفر بها وسبى وغنم وعظم شأنه.
ثم إن فرخان أخا شهربراز شرب الخمر يوما وقال لقد رأيت في المنام كأني جالس على سرير كسرى فبلغ الخبر كسرى فكتب إلى أخيه شهربراز يأمره بقتله فعاود وأعلمه شجاعته ونكايته في العدو فعاد كسرى وكتب إليه بقتله فراجعه فكتب إليه الثالثة فلم يفعل فكتب كسرى بعزل شهربراز وولاية فرخان العسكر فأطاع شهربراز [فلما جلس على سرير الإمارة ألقى إليه القاصد بولايته كتابا صغيرا من كسرى يأمر بقتل شهربراز] فعزم على قتله، فقال له شهربراز: أمهلني حتى أكتب وصيتي فأمهله فأحضر درجا وأخرج منه كتب كسرى الثلاثة وأطلعه عليها وقال أنا راجعت

476
فيك ثلاث مرات ولم أقتلك وأنت تقتلني في مرة واحدة، فاعتذر أخوه إليه وأعاده إلى الامارة واتفقا على موافقة ملك الروم على كسرى فأرسل شهربراز إلى هرقل إن لي إليك حاجة لا يبلغها البريد ولا تسعها الصحف فالقني في خمسين روميا فإني ألقاك في خمسين فارسيا، فأقبل قيصر في جيوشه جميعا ووضع عيونه تأتيه بخبر شهرابرز وخاف أن يكون مكيدة فأتته عيونه فأخبروه أنه في خمسين فارسا فحضر عنده في مثلها واجتمعا وبينهما ترجمان فقال له أنا وأخي خربنا بلادك وفعلنا ما علمت وقد حسدنا كسرى وأراد قتلنا وقد خلعناه ونحن نقاتل معك. ففرح هرقل بذلك واتفقا عليه وقتلا الترجمان لئلا يفشي سرهما وسار هرقل في جيشه إلى نصيبين.
وبلغ كسرى أبرويز الخبر فأرسل لمحاربة هرقل قائدا من قواده اسمه راهزار في اثني عشر ألفا وأمره أن يقيم بنينوى من أرض الموصل على دجلة يمنع هرقل من أن يجوزها وأقام هو بدسكرة الملك فأرسل راهزار العيون فأخبروه أن هرقل في سبعين ألف مقاتل فأرسل إلى كسرى يعرفه ذلك وأنه يعجز عن قتال هذا الجمع الكثير فلم يعذره وأمر بقتاله فأطاع وعبى جنده وسار هرقل نحو جنود كسرى وقطع دجلة من غير الموضع الذي فيه راهزار فقصده راهزار ولقيه فاقتتلوا فقتل راهزار وستة آلاف من أصحابه وانهزم الباقون.
وبلغ الخبر أبرويز وهو بدسكرة الملك فهاله ذلك وعاد إلى المدائن وتحصن بها لعجزه عن محاربة هرقل وكتب إلى قواد الجند الذين انهزموا يتهددهم

477
بالعقوبة فأحوجهم إلى الخلاف عليه على ما نذكره إن شاء الله وسار هرقل حتى قارب المدائن ثم عاد إلى بلاده.
وكان سبب عوده أن كسرى لما عجز عن هرقل أعمل الحيلة فكتب كتابا إلى شهربراز يشكره ويثني عليه ويقول له أحسنت في فعل ما أمرتك به من مواصلة ملك الروم وتمكينه من البلاد والآن فقد أوغل وأمكن من نفسه فتجيء أنت من خلفه وأنا من بين يديه ويكون اجتماعنا عليه يوم كذا فلا يفلت منهم أحد ثم جعل الكتاب في عكاز أبنوس وأحضر راهبا [كان] في دير عند المدائن وقال له لي إليك حاجة فقال الراهب الملك أكبر من أن يكون له إلي حاجة ولكنني عبده قال إن الروم قد نزلوا قريبا منا وقد حفظوا الطرق عنا ولي إلى أصحابي الذين بالشام حاجة وأنت نصراني إذا جزت على الروم لا ينكرونك وقد كتبت كتابا وهو في هذه العكازة فتوصله إلى شهربراز وأعطاه مائتي دينار. فأخذ الكتاب وفتحه وقرأه ثم أعاده وسار فلما صار بالعسكر ورأى الروم والرهبان والنواقيس رق قلبه وقال أنا شر الناس إن أهلكت النصرانية فأقبل إلى سرادق الملك وأنهى حاله وأوصل الكتاب إليه فقرأه ثم أحضر أصحابه رجلا قد أخذوه من طريق الشام قد واطأه كسرى ومعه كتاب قد افتعله على لسان شهربراز إلى كسرى يقول إني ما زلت أخادع ملك الروم حتى اطمأن إلي وجاز إلى البلاد كما أمرتني فيعرفني الملك في أي يوم يكون لقاؤه حتى أهجم أنا عليه من ورائه والملك من بين يديه فلا يسلم هو ولا أصحابه وأمره أن يتعمد طريقا يؤخذ فيها.
فلما قرأ ملك الروم الكتاب الثاني تحقق الخبر فعاد شبه المنهزم مبادرا إلى

478
بلاده، ووصل خبر عودة ملك الروم إلى شهربراز فأراد أن يستدرك ما فرط منه فعارض الروم فقتل منهم قتلا ذريعا وكتب إلى كسرى إنني عملت الحيلة على الروم حتى صاروا في العراق وأنفذ من رؤوسهم شيئا كبيرا وفي هذه الحادثة أنزل الله تعالى (آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)؛ يعني بأدنى الأرض أذرعات وهي أدنى أرض الروم إلى العرب وكانت الروم قد هزمت بها في بعض حروبها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد ساءهم ظفر الفرس أولا بالروم لأن الروم أهل كتاب وفرح الكفار لأن المجوس أميون مثلهم فلما نزلت هذه الآيات راهن أبو بكر الصديق أبي بن خلف على أن الظفر يكون للروم إلى تسع سنين والرهن مائة بعير فغلبه أبو بكر ولم يكن الرهن ذلك الوقت حراما فلما ظفرت الروم أتى الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.

479
ذكر ما رأى كسرى من الآيات
بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمن ذلك أن كسرى أبرويز سكر دجلة العوراء وأنفق عليها من الأموال ما لا يحصى كثرة وكان طاق مجلسه قد بني بنيانا لم ير مثله وكان عنده ثلاثمائة وستون رجلا من الحزاة من بين كاهن وساحر ومنجم وكان فيهم رجل من العرب اسمه السائب بعث به باذان من اليمن وكان كسرى إذا أحزنه أمر جمعهم فقال انظروا في هذا ما هو.
فلما بعث الله محمدا أصبح كسرى وقد انفصم طاق ملكه من غير ثقل وانخرقت دجلة العوراء فلما رأى ذلك أحزنه وقال انفصم طاق ملكي وانخرقت دجلة العوراء شاه بشكست يقول الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه وفيهم السائب فقال لهم أنظروا في هذا الأمر فنظروا في أمره فأخذت عليهم أقطار السماء وأظلمت الأرض فلم يمض لهم ما راموه وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض ينظر فرأى برقا من قبل
الحجاز استطار فبلغ المشرق فلما أصبح رأى تحت قدميه روضة خضراء فقال فيما يعتاف إن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق تخصب عليه الأرض كأفضل ما أخصبت على ملك.
فلما خلص الكهان والمنجمون والسحار بعضهم إلى بعض ورأوا ما أصابهم ورأى السائب ما رأى قال بعضهم لبعض والله ما حال بينكم وبين علمكم إلا أمر من السماء، وإنه لنبي بعث أو هو مبعوث يسلب

480
هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فاتفقوا على أن يكتموه الأمر وقالوا له: قد نظرنا فوجدنا أن وضع دجلة العوراء وطاق الملك قد وضع على النحوس فلما اختلف الليل والنهار وقعت النحوس مواقعها فزال كل ما وضع عليها وإنا نحسب لك حسابا تضع عليه بنيانك فلا يزول فحسبوا وأمروه بالبناء فبنى دجلة العوراء في ثمانية أشهر فأنفق عليه أموالا جليلة حتى فرغ فقال لهم أجلس على سورها قالوا نعم فجلس في أساورته فبينما هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته فلم يخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه جمع كهانه وسحاره ومنجميه فقتل منهم قريبا من مائة وقال قربتكم وأجريت عليكم الأرزاق ثم أنتم تلعبون بي فقالوا أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا ثم حسبوا له وبناه وفرغ منه وأمروه بالجلوس عليه فخاف فركب فرسا وسار على البناء فبينما هو يسير انتسفت دجلة فلم يدرك إلا بآخر رمق فدعاهم وقال لأقتلنكم أجمعين أو لتصدقونني فصدقوه الأمر فقال ويحكم هلا بينتم لي فأرى فيه رأيي قالوا منعنا الخوف فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته وكان ذلك سبب البطائح ولم تكن قبل ذلك وكانت الأرض كلها عامرة.
فلما كانت سنة ست من الهجرة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى فزاد الفرات والدجلة زيادة عظيمة لم ير قبلها ولا بعدها مثل فانبثقت البثوق وانتسفت ما كان بناه كسرى واجتهد أن يسكرها فغلبه الماء كما بينا ومال إلى موضع البطائح فطما الماء على الزروع وغرق عدة طساسيج ثم دخلت العرب أرض الفرس وشغلتهم عن عملها بالحروب واتسع الخرق. فلما كان زمن الحجاج تفجرت بثوق

481
أخر فلم يسدها مضارة للدهاقين لأنه اتهمهم بممالأة ابن الأشعث فعظم الخطب فيها وعجز الناس عن عملها فبقيت على ذلك إلى الآن.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف بعث الله إلى كسرى ملكا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه فلم يرعه إلا قائما على رأسه في يده عصا بالهاجرة في ساعته التي يقيل فيها فقال يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا فقال بهل بهل وانصرف عنه فدعا بحراسه وحجابه فتغيظ عليهم وقال من أدخل هذا الرجل فقالوا ما دخل علينا أحد ولا رأيناه حتى إذا كان العام المقبل أتاه في تلك الساعة وقال له أتسلم أو أكسر العصا فقال بهل بهل وتغيظ على حجابه وحراسه فلما كان العام الثالث أتاه فقال له أتسلم أو أكسر العصا فقال بهل بهل فكسر العصا ثم خرج فلم يكن إلا تهور ملكه وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه.
وقال الحسن البصري قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [له]: يا رسول الله ما حجة الله على كسرى فيك قال بعث الله إليه ملكا فأخرج يده إليه من جدار بيته تلألأ نورا فلما رآها فزع فقال له لم ترع يا كسرى إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك قال سأنظر.
ذكر وقعة ذي قار وسببه
ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما بلغه ما كان من ظفر ربيعة بجيش كسرى (هذا أول يوم انتصفت العرب [فيه] من العجم

482
وبي نصروا) فحفظ ذلك منه ذلك منه وكان يوم الوقعة.
قال هشام بن محمد كان عدي بن زيد التميمي وأخوه عمار وهو أبي وعمرو وهو سمي يكونون مع الأكاسرة ولهم إليهم انقطاع وكان المنذر بن المنذر لما ملك ابنه النعمان في حجر عدي بن زيد وكان له غير النعمان أحد عشر ولدا وكانوا يسمون الأشاهب لجمالهم فلما مات المنذر بن المنذر وخلف أولاده أراد كسرى بن هرمز أن يملك على العرب من يختاره فأحضر عدي بن زيد وسأله عن أولاد المنذر فقال هم رجال فأمره بإحضارهم فكتب عدي فأحضرهم وأنزلهم وكان يفضل إخوة النعمان عليه ويريهم أنه لا يرجو النعمان ويخلو بواحد واحد ويقول له إذا سألك الملك أتكفونني العرب فقولوا نكفيكم إلا النعمان وقال النعمان إذا سألك الملك عن أخوتك فقل له إذا عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز.
وكان من بني مرينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا وكان داهيا شاعرا وكان يقول للأسود بن المنذر قد عرفت أني أرجوك وعيني إليك وإنني أريد أن تخالف عدي بن زيد فإنه والله لا ينصح لك أبدا فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يحضرهم أحضرهم رجلا رجلا وسألهم كسرى أتكفونني العرب فقالوا نعم إلا النعمان فلما دخل عليه النعمان رأى رجلا دميم أحمر أبرش قصيرا فقال له أتكفيني أخوتك والعرب قال نعم وإن عجزت عن إخوتي فأنا عن غيرهم أعجز فملكه وكساه وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم فقال عدي [بن] مرينا للأسود دونك فقد خالفت الرأي.
ثم صنع عدي بن زيد طعاما ودعا عدي بن مرينا إليه وقال إني عرفت

483
أن صاحبك الأسود كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان فلا تلمني على شيء كنت على مثله وإني أحب أن لا تحقد علي وإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك وحلف لابن مرينا أن لا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا فقام ابن مرينا وحلف أنه لا يزال يهجوه ويبغيه الغوائل. وسار النعمان حتى نزل الحيرة وقال ابن مرينا للأسود إذا فاتك الملك فلا تعجز أن تطلب بثأرك من عدي فإن معدا لا ينام مكرها وأمرتك بمعصية فخالفتني وأريد أن لا يأتيك من مالك شيء إلا عرضته علي ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال وكان لا يخلى النعمان يوما من هدية وطرفة فصار من أكرم الناس عليه وكان إذا ذكر عدي بن زيد وصفه وقال ألا إنه فيه مكر وخديعة واستمال أصحاب النعمان فمالوا إليه ووضعهم على أن قالوا للنعمان إن عدي بن زيد يقول إنك عامله ولم يزالوا بالنعمان حتى أضغنوه عليه فأرسل إلى عدي يستزيره فأستأذن عدي كسرى في ذلك فأذن له فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه ومنع من الدخول عليه فجعل عدي يقول الشعر وهو في السجن وبلغ النعمان قوله فندم على حبسه إياه وخاف منه إذا أطلقه.
فكتب عدي إلى أخيه أبي أبياتا يعلمه بحاله فلما قرأ أبياته وكتابه كلم كسرى فيه فكتب إلى النعمان وأرسل رجلا في إطلاق عدي وتقدم أخو عدي إلى الرسول بالدخول إلى عدي قبل النعمان ففعل ودخل على عدي وأعلمه أنه أرسل لإطلاقه.
فقال له عدي لا تخرج من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله فإنك إن خرجت من عندي قتلتني فلم يفعل ودخل أعداء عدي على النعمان فأعلموه الحال وخوفوه من إطلاقه فأرسلهم إليه فخنقوه ثم دفنوه.

484
وجاء الرسول فدخل على النعمان بالكتاب فقال: نعم وكرامة، وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية وقال: إذا أصبحت ادخل إليه فخذه فلما أصبح الرسول غدا إلى السجن فلم ير عديا وقال له الحرس إنه مات منذ أيام فرجع إلى النعمان وأخبره أنه رآه بالأمس ولم يره اليوم فقال كذبت وزاده رشوة واستوثق منه أن لا يخبر كسرى إلا أنه مات قبل وصوله إلى النعمان.
وقال وندم النعمان على قتله واجترأ أعداء عدي على النعمان وهابهم هيبة شديدة فخرج النعمان في بعض صيده فرأى ابنا لعدي يقال له زيد فكلمه وفرح به فرحا شديدا واعتذر إليه من أمر أبيه وسيره إلى كسرى ووصفه له وطلب إليه أن يجعله مكان أبيه ففعل كسرى وكان يلي ما يكتب إلى العرب خاصة وسأله كسرى عن النعمان فأحسن الثناء عليه وأقام عند الملك سنوات بمنزلة أبيه وكان يكثر الدخول على كسرى.
وكان لملوك الأعاجم صفة للنساء مكتوبة عندهم وكانوا يبعثون في طلب من يكون على هذه الصفة من النساء ولا يقصدون العرب فقال له زيد بن عدي إني أعرف عند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة.
قال فتكتب فيهن قال أيها الملك إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون بأنفسهم عن العجم فأنا أكره أن تعنتهن وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك فابعثني وابعث معي رجلا يفقه العربية فبعث معه رجلا جلدا فخرجا حتى بلغا الحيرة ودخلا على النعمان قال له زيد إن الملك احتاج إلى نساء لأهله وولده وأراد كرامتك
فبعث إليك قال وما هؤلاء النسوة قال هذه صفتهن قد جئنا بها.
وكانت الصفة أن المنذر أهدى [إلى] أنوشروان جارية أصابها عند الغارة على الحارث بن أبي شمر الغساني وكتب يصفها أنها معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، وطفاء، قمراء، دعجاء، حوراء، عيناء،

485
قنواء، شماء، شمراء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جئيلة الشعر، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المنكبين، عظيمة الركبة، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموع للسيد، ليست بحلساء ولا سفعاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تفد في بؤس، حيية، رزينة، زكية، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت وتشين العدو، أن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، [ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست].
فقبلها كسرى وأمر بإثبات هذه الصفة فبقيت إلى أيام كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان فشق ذلك عليه وقال لزيد، والرسول

486
يسمع: ما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد ما العين؟ قال: البقر.
وأنزلهما يومين وكتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد اعذرني عنده.
فلما عاد إلى كسرى قال لزيد أين ما كنت أخبرتني [به]؟ قال: قد قلت للملك وعرفته بخلهم بنسائهم على غيرهم وإن ذلك لشقائهم وسوء اختيارهم وسل هذا الرسول عن الذي قال فإني أكرم الملك عن ذلك فسأل الرسول فقال إنه قال ما في بقر السواد [فارس] ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا فعرف الغضب في وجهه ووقع في قلبه وقال رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا فصار أمره إلى التباب.
وبلغ هذا الكلام النعمان وسكت كسرى على ذلك أشهرا والنعمان يستعد حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه فحين وصل الكتاب أخذ سلاحه وما قوي عليه ثم لحق بجبلي طيء وكان متزوجا إليهم وطلب منهم أن يمنعوه فأبوا عليه خوفا من كسرى فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل في ذي قار في بني شيبان سرا فلقي هانئ بن مسعود بن عمرو الشيباني وكان سيدا منيعا والبيت من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين وكان كسرى قد أطعمه الأبلة فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك وعلم أن هانئا يمنعه مما يمنه منه أهله فأودعه أهله وماله وفيه أربعمائة درع وقيل ثمانمائة درع.
وتوجه النعمان إلى كسرى فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط،

487
فقال: أنج نعيم فقال أنت يا زيد فعلت هذا أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك فقال [له] زيد: امض نعيم فقد والله وضعت لك [عنده] أخية لا يقطعها المهر الأرن.
فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه فقيده وبعث به إلى خانقين حتى وقع في الطاعون فمات فيه قال والناس يظنون أنه مات بساباط ببيت الأعشى وهو يقول:
(فداك وما ينجى من الموت ربه * بساباط حتى مات وهو محرزق)
وكان موته قبل الإسلام.
فلما مات استعمل كسرى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان وكان كسرى اجتاز به لما سار إلى ملك الروم فأهدى له هدية فشكر ذلك له وأرسل إليه فبعث كسرى بأن يجمع ما خلفه النعمان ويرسله إليه فبعث إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره بإرسال ما استودعه النعمان فأبى هانئ أن يسلم ما عنده فلما أبى هانئ غضب كسرى وعنده النعمان بن زرعة التغلبي وهو يحب هلاك بكر بن وائل فقال لكسرى أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار فتأخذهم كيف شئت فصبر كسرى حتى جاؤوا نحو ذي قار فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة يخيرهم واحدة من ثلاث إما أن يعطوا بأيديهم وإما أن يتركوا ديارهم وإما أن يحاربوا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة العجلي فأشار بالحرب فآذنوا الملك بالحرب فأرسل كسرى إياس بن قبيصة الطائي

488
أمير الجيش ومعه مرازبة الفرس والهامرز النسوي وغيره من العرب تغلب وأياد وقيس بن مسعود بن قيس بن ذي الجدين وكان على طف سفوان فأرسل الفيول وكان قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقسم هانئ بن مسعود دروع النعمان وسلاحه.
فلما دنت الفرس من بني شيبان قال هانئ بن مسعود يا معشر بكر لا طاقة لكم في قتال كسرى فاركنوا إلى الفلاة فسارع الناس إلى ذلك فوثب حنظلة بن ثعلبه العجلي وقال: يا هانئ أردت نجاتنا فألقيتنا في الهلكة ورد الناس وقطع وضن الهوادج وهي الحزم للرحال فسمي (مقطع الوضن) وضرب على نفسه قبة وأقسم أن لا يفر حتى تفر القبة فرجع الناس واستقوا ماء لنصف شهر فأتتهم العجم فقاتلهم بالجنود فانهزمت العجم خوفا من العطش إلى الجبايات فتبعتهم بكر وعجل وأبلت يومئذ بلاء حسنا اصطفت عليهم جنود العجم فقال الناس هلكت عجل ثم حملت بكر فوجدت عجلا تقاتل وامرأة منهم تقول:
(إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل * إيها فداء لكم بني عجل)
فقاتلوهم ذلك اليوم ومالت العجم إلى بطحاء ذي قار خوفا من العطش فأرسلت إياد إلى بكر وكانوا مع الفرس وقالوا لهم إن شئتم هربنا الليلة وإن شئتم أقمنا ونفر حين تلاقون الناس فقال بل تقيمون وتنهزمون إذا التقينا وقال زيد بن حسان السكوني وكان حليفا لبني شيبان: أطيعوني

489
واكمنوا لهم ففعلوا ثم تقاتلوا وحرض بعضهم بعضا وقالت ابنة القرين الشيبانية:
(إيها بني شيبان صفا بعد صف * أن تهزموا يصبغوا فينا القلف)
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من مناكبهم لتخف أيديهم لضرب السيوف فجالدوهم وبارزا لها مرز فبرز إليه برد بن حارثة اليشكري فقله برد ثم حملت ميسرة بكر وميمنتها وخرج الكمين فشدوا على قلب الجيش وفيهم إياس بن قبيصة الطائي وولت إياد منهم منهزمة كما وعدتهم فانهزمت الفرس واتبعتهم بكر تقتل ولا تلتفت إلى سلب وغنيمة وقال الشعراء في وقعة ذي قار فأكثروا.

490
ذكر ملوك الحيرة بعد عمرو بن هند
قد ذكرنا من ملك من آل نصر بن ربيعة إلى هلال بن عمرو بن هند فلما هلك عمرو ملك موضعه أخوه قابوس بن المنذر أربع سنين من ذلك أيام أنوشروان ثمانية أشهر وفي أيام هرمز ثلاث سنين وأربعة أشهر ثم ولي بعد قابوس السهرب ثم ملك بعده المنذر بن النعمان أربع سنين ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة من ذلك في زمان هرمز سبع سنين وثمانية أشهر وفي زمان ابنه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخير خان في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة ولثمانية أشهر من ولاية إياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم ولي ازادبه بن مابيان الهمذاني سبع عشرة سنة من ذلك في زمان كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر وفي زمان شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر وفي زمن أردشير ابن شيرويه سنة وسبعة أشهر وفي زمن بوران دخت ابنة كسرى شهرا.
ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر وهو الذي تسميه العرب (المغرور) الذي قتل بالبحرين يوم جواثاء وكانت ولايته إلى أن قدم عليه خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر وكان آخر من بقي من آل نصر وانقرض ملكهم مع انقراض ملك فارس فجميع ملوك آل نصر فيما زعم هشام عشرون ملكا ملكوا خمسمائة سنة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر.

491
ذكر المروزان وولايته اليمن من قبل هرمز
قال هشام استعمل كسرى هرمز المروزان بعد عزل زرين عن اليمن وأقام باليمن حتى ولد له فيها ثم إن أهل جبل يقال له المضايع منعوه من الخراج فقصدهم فرأى جبلهم لا يقدر عليه لحصانته وله طريق واحد يحميه رجل واحد وكان يحاذي ذلك الجبل جبل آخر وقد قارب هذا الجبل فأجرى فرسه فعبر به ذلك المضيق فلما رأته
حمير قالوا هذا شيطان وملك حصنهم وأدوا الخراج وأرسل إلى كسرى يعلمه فاستدعاه إليه فاستخلف ابنه خر خرسه على اليمن وسار إليه فمات في الطريق وعزل كسرى خرخسره عن اليمن وولى باذان وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم.
ذكر قتل كسرى أبرويز
كان كسرى قد طغى لكثرة ماله وما فتحه من بلاد العدو ومساعدة الأقدار وشره على أموال الناس ففسدت قلوبهم وقيل كانت له اثنتا عشر ألف امرأة وقيل ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن وألوف جوار وكان له خمسون ألف دابة وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك، وقيل إنه أمر أن يحصى ما جبى من خراج بلاده في سنة ثمان عشرة من ملكه فكان من الورق مائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال وأنه احتقر

492
الناس وأمر رجلا اسمه زاذان بقتل كل مقيد في سجونه فبلغوا ستة وثلاثين ألفا فلم يقدم زاذان على قتلهم فصاروا أعداء له وكان أمر بقتل المنهزمين من الروم فصاروا أيضا أعداء له واستعمل رجلا على استخلاص بواقي الخراج فعسف الناس فظلمهم ففسدت نياتهم ومضى ناس من العظماء إلى بابل فأحضروا ولده شيرويه بن أبرويز فإن كسرى كان قد ترك أولاده بها ومنعهم من التصرف وجعل عندهم من يؤدبهم فوصل إلى بهرسير فدخلها ليلا فأخرج من كان في سجونها واجتمع إليه أيضا الذين كان كسرى أمر بقتلهم فنادوا قباذ شاهنشاه وساروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى فهرب حرسه وخرج كسرى إلى بستان قريب من قصره هاربا فأخذ أسيرا وملكوا ابنه فأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه ثم قتله الفرس وساعدهم ابنه، وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة.
ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.
قيل: وكان لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولدا وكان أكبرهم شهريار وكانت شيرين قد تبنته فقال المنجمون لكسرى إنه سيولد لبعض ولدك غلام يكون خراب هذا المجلس وذهاب الملك على يديه وعلامته نقص في بعض بدنه فمنع ولده عن النساء لذلك حتى شكا شهريار إلى شيرين الشبق فأرسلت إليه جارية كانت تحجمها وكانت تظن أنها لا تلد فلما وطئها علقت بيزدجرد فكتمته خمس سنين ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر فقالت أيسرك أن ترى لبعض بنيك ولدا قال نعم فأتته بيزدجرد فأحبه وقربه فبينما هو يلعب ذات يوم ذكر ما قيل فأمر به فجرد من ثيابه فرأى النقص في أحد وركيه فأراد قتله فمنعته شيرين وقالت إن كان الأمر في الملك قد حضر فلا مرد له فأمرت به فحمل إلى

493
سجستان، وقيل: بل تركته في السواد في قرية يقال لها خمانية ولما قتل كسرى أبرويز بن هرمز ملك ابنه شيرويه.
ذكر ملك كسرى شيرويه بن أبرويز
ابن هرمز بن أنوشروان
لما ملك شيرويه بن أبرويز وأمه مريم ابنة موريق ملك الروم واسمه قباذ دخل عليه العظماء والأشراف فقالوا لا يستقيم أن يكون لنا ملكان فإما أن تقتل كسرى ونحن عبيدك وإما أن نخلعك ونطيعه فانكسر شيرويه من هذه المقالة ونقل أباه من دار الملك إلى موضع آخر حبسه فيه ثم جمع العظماء وقال قد رأينا الإرسال إلى كسرى بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها فأرسل إليه رجلا يقال له أسباد خشنش كان يلي تدبير المملكة وقال له قل لأبينا الملك عن رسالتنا إن سوء أعمالك فعل بك ما ترى منها جرأتك على أبيك وسملك عينيه وقتلك إياه ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في منعنا من مجالسة الناس وكل ما لنا فيه دعة ومنها إساءتك إلى من خلدت في السجون ومنها إساءتك إلى النساء تأخذهن لنفسك وتركك العطف عليهن ومنعهن ممن يعاشرهن ويرزقن منه الولد ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة من العنف والغلظة والفظاظة ومنها جمع الأموال في شدة وعنف من أربابها ومنها تجميرك الجنود في ثغور الروم وغيرها وتفريقك بينهم وبين أهليهم ومنها غدرك بموريق ملك الروم مع إحسانه إليك وحسن بلائه عندك وتزويجه إياك بابنته ومنعك إياه خشية الصليب التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة فإن كان

494
لك حجة تذكرها فافعل وإن لم يكن لك حجة فتب إلى الله تعالى حتى يأمر فيك بأمره.
قال فجاء الرسول إلى كسرى أبرويز فأدى إليه الرسالة فقال أبرويز قل عني لشيرويه القصير العمر لا ينبغي لأحد أن يتوب من أجل الصغير من الذنب إلا بعد أن يتيقنه فضلا عن عظيمه ما ذكرت وكثرت منا ولو كنا كما تقول لم يكن لك أيها الجاهل أن تنشر عنا مثل هذا العظيم الذي يوجب علينا القتل لما يلزمك في ذلك من العيوب فإن قضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه وينفونه من مضامة الأخيار ومجالستهم فضلا عن أن يملك مع أنه قد بلغ منا بحمد الله من إصلاحنا أنفسنا وأبناءنا ورعيتنا ما ليس في شيء منه تقصير ونحن نشرح الحال فيما لزمنا من الذنوب لتزداد علما بجهلك فمن جوابنا: أن الأشرار أغروا كسرى هرمز والدنا بنا حتى اتهمنا فرأيناه من سوء رأيه فينا ما يخوفنا منه فاعتزلنا بابه إلى أذربيجان وقد استفاض ذلك فلما انتهك منه ما انتهك شخصنا إلى بابه فهجم المنافق بهرام علينا فأجلانا عن المملكة فسرنا إلى الروم وعدنا إلى ملكنا واستحكم أمرنا فبدأنا بأخذ الثأر ممن قتل أبانا أو شرك في دمه.
وأما ما ذكرت في أبنائنا فإننا وكلنا بكم من يكفيكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم فتتأذى بكم الرعية والبلاد وكنا أقمنا لكم النفقات الواسعة وجميع ما تحتاجون إليه وأما أنت خاصة فإن المنجمين قضوا في مولدك أنك مثرب علينا وأن يكون ذلك بسبيلك وأن ملك الهند كتب إليك

495
كتابا وأهدى لك هدية فقرأنا الكتاب فإذا هو يبشرك بالملك بعد ثمان وثلاثين سنة من ملكنا وقد ختمنا على الكتاب وعلى مولدك وهما عند شيرين فإن أحببت أن تقرأهما فافعل فلم يمنعنا ذلك عن برك والإحسان إليك فضلا عن قتلك.
وأما ما ذكرت عمن خلدناه في السجون فجوابنا أننا لم نحبس إلا من وجب عليه القتل أو قطع بعض الأطراف وقد كان الموكلون بهم والوزراء يأمروننا بقتل من وجب قتله قبل أن يحتالوا لأنفسهم فكنا بحبنا الاستبقاء وكراهتنا لسفك الدماء نتأنى بهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى فإن أخرجتهم من محبسهم عصيت ربك ولتجدن غب ذلك.
وأما قولك إنا جمعنا الأموال وأنواع الجواهر والأمتعة بأعنف جمع وأشد إلحاح فاعلم أيها الجاهل أنه إنما يقيم الملك بعد الله تعالى الأموال والجنود وخاصة ملك فارس الذي قد اكنتفه الأعداء ولا يقدر على كفهم وردعهم عما يريدونه إلا بالجنود والأسلحة والعدد ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمال وقد كان أسلافنا جمعوا الأموال والسلاح وغير ذلك فأغار المنافق بهرام ومن معه على ذلك إلا اليسير فلما جمعوا الأموال ملكنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة أرسلنا إلى نواحي بلادنا أصبهبدين وقامر وسانين فكفوا الأعداء وأغاروا على بلادهم ووصل إلينا غنائم بلادهم من أصناف الأموال والأمتعة مالا يعلمه إلا الله تعالى وقد بلغنا أنك هممت بتفريق هذه الأموال على رأي الأشرار المستوجبين للقتل ونحن نعلمك أن هذه الأموال لم تجتمع إلا بعد الكد والتعب والمخاطرة بالنفوس فلا تفعل ذلك فإنها كهف ملكك وبلادك وقوة على عدوك.

496
فلما انصرف أستاذ خشنش إلى شيرويه قص عليه جواب أبيه ثم إن عظماء الفرس عادوا إلى شيرويه فقالوا إما أن تأمر بقتل أبيك وإما أن نطيعه ونخلعك فأمر بقتله على كره منه وانتدب لقتله رجالا ممن وترهم كسرى أبرويز وكان الذي باشر قتله شاب يقال له مهر هرمز بن مردانشاه من ناحية نيمروذ.
فلما قتل شق شيرويه ثيابه وبكى ولطم وجهه وحملت جنازته وتبعها العظماء وأشراف الناس، فلما دفن أمر شيرويه بقتل مهر هرمز قاتل أبيه وكان ملكه ثمانيا وثلاثين سنة.
ثم إن شيرويه قتل إخوته فهلك منهم سبعة عشر أخا ذوي شجاعة وأدب بمشورة وزيره فيروز.
وابتلى شيرويه بالأمراض ولم يلتذ بشيء من الدنيا وكان هلاكه بدسكرة الملك وجزع بعد قتل إخوته جزعا شديدا، ويقال أنه لما كان اليوم الثاني من قتل إخوته دخلت عليه بوران وازرميدخت أختاه فأغلظتا له وقالتا حملك الحرص على الملك الذي لا يتم لك على قتل أبيك وإخوتك فلما سمع ذلك بكى بكاء بكاءا شديدا ورمى التاج عن رأسه ولم يزل مهموما مدنفا ويقال إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته وفشا الطاعون في أيامه فهلك من الفرس أكثرهم ثم هلك هو وكان ملكه ثمانية أشهر.

497
ذكر ملك أردشير
وكان عمره سبع سنين.
فلما توفي شيرويه ملك الفرس عليهم ابنه اردشير وحضنه رجل يقال له بهادر جسنس مرتبته رياسة أصحاب المائدة فأحسن سياسة الملك فبلغ من أحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير وكان شهربراز بثغر الروم في جند ضمهم إليه كسرى أبرويز وكان قد صلح له بعده ما فعل بالروم مما ذكرناه وكان ينفذ له الخلع والهدايا وكان أبرويز وشيرويه يكاتبانه ويستشيرانه فلما لم يشاوره عظماء الفرس في تمليك اردشير اتخذ ذلك ذريعة إلى التعنت وبسط يده في القتل وجعله سببا للطمع في الملك احتقارا لأردشير لصغر سنه فأقبل بجنده نحو المدائن فتحول اردشير وبهادر جسنس ومن بقي من نسل الملك إلى مدينة طيسفون فحاصرهم شهربراز ونصب عليهم المجانيق فلم يظفر بشيء فأتاها من قبل المكيدة فلم يزل يخدع رئيس الحرس واصبهبذ نيمروذ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها وقتل جماعة من الرؤساء وأخذ أموالهم وقتل بعض أصحابه اردشير في إيوان خسرو شاه قباذ بأمر شهربراز.
وكان ملكه سنة وستة أشهر.

498
ذكر ملك شهربراز
ولم يكن من بيت الملك لما قتل أردشير جلس شهربراز واسمه فرخان على تخت المملكة فحسن جلس ضرب عليه بطنه فاشتد ذلك ثم عوفي وتعاهد ثلاثة إخوة من أهل إصطخر على قتله غضبا لقتل أردشير وكانوا في حرسه وكان الحرس يقفون سماطين إذا ركب الملك عليهم السلاح وبأيديهم السيوف والرماح فإذا حاذى الملك بعضهم وضع جبهته على ترسه فوق الترس كهيئة السجود فركب شهربراز يوما فوقف الأخوة الثلاثة بعضم قريب من بعض فلما حاذاهم طعنوه فسقط ميتا فشدوا في رجله حبلا وجروه وساعدهم بعض العلماء وتساعدوا على قتل جماعة قتلوا أردشير وكان جميع ملكه أربعين يوما.
ذكر ملك بوران ابنة أبرويز بن هرمز بن أنو شروان
لما قتل شهربراز ملكت الفرس بوران لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلا يملكونه فلما أحسنت السيرة في رعيتها وعدلت فيهم فأصلحت القناطر ووضعت ما بقي من الخراج وردت خشبة الصليب على ملك الروم وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر، ثم ملك بعدها رجل يقال له خشنشبندة من بني عم أبرويز الأبعدين وكان ملكه أقل من شهر وقتله الجند لأنهم أنكروا سيرته

499
ذكر ملك آرزميدخت ابنة أبرويز
لما قتل خشنشبنده ملكت الفرس آرزميدخت ابنة أبرويز وكانت من أجمل النساء وكان عظيم الفرس يومئذ فرخهرمز أصبهبذ خرسان فأرسل إليها يختطبها فقالت إن التزوج للملكة غير جائز وغرضك قضاء حاجتك مني فصر إلى وقت كذا ففعل وسار إليها تلك الليلة فتقدمت إلى صاحب حرسها أن يقتله فقتله وطرح في رحبة دار المملكة فلما أصبحوا رأوه قتيلا فغيبوه وكان ابنه رستم وهو الذي قاتل المسلمين بالقادسية خليفة أبيه بخراسان فسار في عسكر حتى نزل بالمدائن وسمل عيني آرزميدخت وقتلها وقيل بل سمت وكان ملكها ستة أشهر.
قيل ثم أتى رجل يقال له كسرى بن مهرجسنس من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز فملكه العظماء ولبس التاج وقتل بعد أيام وقيل إن الذي ملك بعد آرزميدخت خرزاد خسرو من ولد أبرويز وأمه كردية أخت بسطام قيل وجد بحصن الحجارة بقرب نصيبين فمكث أياما يسيرة ثم خلعوه وقتلوه وكان ملكه ستة أشهر وقال الذين قالوا ملك كسرى بن مهرجسنس أنه لما طلب عظماء الفرس من له نسب ببيت المملكة ولو من النساء فأتوا برجل كان يسكن ميسان يقال له فيروز بن مهران جسنس ويسمى أيضا جسنسنده أمه صهار بخت ابنة يزدانزان بن أنوشروان فملكوه وكان ضخم الرأس فلما توج قال ما أضيق هذا التاج فتطيروا من كلامه فقتلوه في الحال وقيل كان قتله بعد أيام

500
ذكر ملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز
ثم إن الفرس اضطرب أمرهم ودخل المسلمون بلادهم فطلبوا أحدا من بيت المملكة ليملكوه ويقاتلوا بين يديه ويحفظوا بلادهم فظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز بإصطخر فأخذوه وساروا به إلى المدائن فملكوه واستقر في الملك غير أن ملكه كان كالخيال عند ملك أهل بيته وكان الوزراء والعظماء يدبرون ملكه لحداثة سنة وضعف أمر مملكة فارس واجترأ عليهم الأعداء وتطرقوا بلادهم وغزت العرب بلاده بعد أن مضى من ملكه سنتان وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانيا وعشرين سنة وبقي من أخباره ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه من فتوح المسلمين.
* * *
هذا آخر ملوك الفرس ونذكر بعده التواريخ الإسلامية على سياقة سني الهجرة ونقدم قبل ذلك الأيام المشهورة للعرب في الجاهلية ثم نأتي بعدها بالحوادث الإسلامية إن شاء الله تعالى.

501
ذكر أيام العرب في الجاهلية
لم يذكر أبو جعفر من أيامها غير يوم ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطسم وجديس وما ذكر ذلك إلا حيث أنهم ملوك فأغفل ما سوى ذلك ونحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي اشتملت على جمع كثير وقتال شديد ولم أعرج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير لأنه يكثر ويخرج عن الحصر فنقول وبالله التوفيق:
ذكر حرب زهير بن جناب الكلبي مع غطفان
وبكر وتغلب وبني القين
كان زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة الكلبي أحد من اجتمعت عليه قضاعة وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه وعاش مائتين وخمسين سنة أوقع فيها مائتي وقعة وقيل:

502
عاش أربعمائة وخمسين سنة وكان شجاعا مظفرا ميمون النقيبة.
وكان سبب غزاته غطفان أن بني بغيض بن ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج فقاتلوهم وبنوا بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم فقاتلوهم على حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم فعزت بغيض بذلك وأثرت وكثرت أموالها فلما رأوا ذلك قالوا والله لنتخذن حرما مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه فبنوا حرما ووليه بنو مرة بن عوف فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب قال والله لا يكون ذلك أبدا وأنا حي ولا أخلي غطفان تتخذ حرما أبدا فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنهم وقال إن أعظم مأثرة يدخرها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك، فأجابوه فغزا بهم غطفان وقاتلهم أبرح قتال وأشده وظفر بهم زهير وأصاب حاجته منهم وأخذ فارسا منهم في حرمهم فقتله وعطل ذلك الحرم ثم من على غطفان ورد النساء وأخذ الأموال وقال زهير في ذلك:
(فلم تصبر لنا غطفان لما * تلاقينا وأحرزت النساء)
(فلولا الفضل منا ما رجعتم * إلى عذراء شيمتها الحياء)
(فدونكم ديونا فاطلبوها * وأوتارا ودونكم اللقاء)
(فأنا حيث لا يخفى عليكم * ليوث حين يحتضر اللواء)
(فقد أضحى لحي بني جناب * فضاء الأرض والماء الرواء)

503
(نفينا نخوة الأعداء عنا * بأرماح أسنتها ظماء)
(ولولا صبرنا يوم التقينا * لقينا مثل ما لقيت صداء)
(غداة تضرعوا لبني بغيض * وصدق الطعن للنوكى شفاء)
وأما حربه مع بكر وتغلب ابني وائل فكان سببها أن أبرهة حين طلع إلى نجد أتاه زهير فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب ثم أمره على بكر وتغلب ابني وائل فوليهم حتى أصابهم سنة فاشتد عليهم ما يطلب منهم من الخراج فأقام بهم زهير في الحرب ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وكان فاتكا أتى زهيرا وهو نائم فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير فمر فيها حتى خرج من ظهره مارقا بين الصفاق وسلمت أمعاؤه وما في بطنه وظن التيمي أنه قد قتله وعلم زهير أنه
قد سلم فلم يتحرك لئلا يجهز عليه فسكت فانصرف التيمي إلى قومه فأعلمهم أنه قتل زهيرا فسرهم ذلك ولم يكن مع زهير إلا نفر من قومه فأمرهم أن يظهروا أنه ميت وأن يستأذنوا بكرا وتغلب في دفنه فإذا أذنوا دفنوا ثيابا ملفوفة وساروا به مجدين إلى قومهم ففعلوا ذلك فأذنت لهم بكر وتغلب في دفنه فحفروا وعمقوا ودفنوا ثيابا ملفوفة لم يشك من رآها أن فيها ميتا ثم ساروا مجدين إلى قومهم فجمع لهم زهير الجموع وبلغهم الخبر فقال ابن زيابة:
(طعنة في غبش الليل * زهيرا وقد توافى الخصوم)
(حين يحمي له المواسم بكر * أين بكر وأين منها الحلوم)

504
(خانني السيف إذ طعنت زهيرا * وهو سيف مضلل مشؤوم)
وجمع زهير من قدر عليه من أهل اليمن وغزا بكرا وتغلب وكانوا علموا به فقاتلهم قتالا شديدا انهزمت [به] بكر، وقاتلت تغلب بعدها فانهزمت أيضا وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة وأخذت الأموال وكثرت القتلى في بني تغلب وأسر جماعة من فرسانهم ووجوههم فقال زهير في ذلك من قصيدة:
(أين أين الفرار من حذر الموت * إذ يتقون بالأسلاب)
(إذ أسرنا مهلهلا وأخاه * وابن عمرو في القيد وابن شهاب)
(وسبينا من تغلب كل بيضاء * رقود الضحى برود الرضاب)
(حين تدعو مهلهلا يال بكر * ها أهذي حفيظة الأحساب)
(ويحكم ويحكم أبيح حماكم * يا بني تغلب أنا ابن رضاب)
(وهم هاربون في كل فج * كشريد النعام فوق الروابي)
(واستدارت رحى المنايا عليهم * بليوث من عامر وجناب)
(فهم بين هارب ليس يألو * وقتيل معفر في التراب)
(فضل العز عزنا حين نسمو * مثل فضل السماء فوق السحاب)
وأما حربه مع بني القين بن جسر فكان سببها أن أختا لزهير كانت متزوجة فيهم فجاء رسولها إلى زهير ومعه صرة فيها رمل وصرة فيها شوك قتاد فقال زهير إنها تخبركم أنه يأتيكم عدو كثير ذو شوكة شديدة،

505
فاحتملوا. فقال الجلاح بن عوف السحمي: لا نحتمل لقول امرأة، فظعن زهير وأقام الجلاح وصبحه الجيش فقتلوا عامة قوم الجلاح وذهبوا بأموالهم وماله ومضى زهير فاجتمع مع عشيرته من بني جناب وبلغ الجيش خبره فقصدوه فقاتلهم وصبر لهم فهزمهم وقتل رئيسهم فانصرفوا عنه خائبين ولما طال عمر زهير وكبر سنه استخلف ابن أخيه عبد الله بن عليم فقال زهير يوما ألا إن الحي ظاعن فقال عبد الله ألا إن الحي مقيم فقال زهير من هذا المخالف علي؟ فقالوا ابن أخيك عبد الله بن عليم فقال أعدى الناس للمرء ابن أخيه ثم شرب الخمر صرفا حتى مات.
ممن شرب الخمر صرفا حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري.
ذكر يوم البردان
فكان من حديثه أن زياد بن الهبولة ملك الشام وكان من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي ملك عرب بنجد ونواحي العراق وهو يلقب آكل المرار وكان حجر قد أغار في كندة وربيعة على البحرين فبلغ زيادا خبرهم فسار إلى أهل حجر وربيعة وأموالهم وهم خلوف ورجالهم في غزاتهم المذكورة فأخذ الحريم والأموال وسبى منهم هند بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية.

506
وسمع حجر وكندة وربيعة بغارة زياد فعادوا عن غزوهم في طلب ابن الهبولة ومع حجر أشراف ربيعة عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما فأدركوا عمرا بالبردان دون عين أباغ وقد أمن الطلب فنزل حجر في سفح جبل ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له حفير فتعجل عوف بن محلم وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وقالا لحجر إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا فسار إليه وكان بينه وبين عوف إخاء فدخل عليه وقال له يا خير الفتيان أردد علي امرأتي أمامة فردها عليه وهي حامل فولدت بنتا أراد عوف أن يئدها فاستوهبها منه عمرو بن أبي ربيعة وقال لعلها تلد أناسا فسميت أم أناس فتزوجها الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار فولدت عمرا ويعرف بابن أم
أناس.
ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد يا خير الفتيان أردد علي ما أخذت من إبلي فردها عليه وفيها فحلها فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو. فقال له زياد يا عمرو لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم فقال له عمرو لقد أعطيت قليلا وسميت جليلا، وجررت على نفسك ويلا طويلا ولتجدن منه ولا والله لا تبرح حتى أروي سناني من دمك.
ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجر فلم يوضح له الخبر فأرسل سدوس بن شيبان بن ذهل وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر ويعلمان علم العسكر فخرجا حتى هجما على عسكره

507
ليلا وقد قسم الغنيمة وجئ بالشمع فأطعم الناس تمرا وسمنا، فلما أكل الناس نادى: من جاء بحزمة حطب فله قدره تمر فجاء سدوس وصليع بحطب وأخذا قدرتين من تمر وجلسا قريبا من قبته. ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد وأراه التمر.
وأما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي. وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون، وهند امرأة حجر خلف زياد. فقالت لزياد: إن هذا التمر أهدى إلى حجر من هجر والسمن من دومة الجندل ثم تفرق أصحاب زياد عنه فضرب سدوس يده إلى جليس له وقال له من أنت مخافة أن يستنكره الرجل فقال أنا فلان بن فلان ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه ودنا زياد من امرأة حجر فقبلها وداعبها وقال لها ما ظنك الآن بحجر فقالت ما هو ظن ولكنه يقين إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر يعني قصور الشام وكأني به في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه وهو شديد الكلب تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارا فالنجاء فالنجاء فإن وراءك طالبا حثيثا وجمعا كثيفا وكيدا متينا ورأيا صليبا.
فرفع يده فلطمها ثم قال لها ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له.
فقالت والله ما أبغضت أحدا بغضي له ولا رأيت رجلا أحزم منه نائما ومستيقظا إن كان لتنام عيناه فبعض أعضائه مستيقظ وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا من لبن فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه فمال إلى يديه فقبضها فمال إلى رجله فقبضها فمال إلى العس فشربه ثم مجه فقلت يستيقظ فيشربه فيموت فاستريح منه فانتبه من نومه فقال علي بالإناء فناولته فشمه ثم ألقاه فهريق فقال أين ذهب الأسود فقلت وما رأيته فقال كذبت والله

508
وذلك كله يسمعه سدوس فسار حتى أتى حجرا فلما دخل عليه قال:
(أتاك المرجفون بأمر غيب * على دهش وجئتك باليقين)
(فمن يك قد أتاك بأمر لبس * فقد آتى بأمر مستبين)
ثم قص عليه ما سمع فجعل حجر يعبث بالمرار ويأكل منه غضبا وأسفا ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب فلما فرغ سدوس من حديثه وجد حجر المرار فسمي يومئذ آكل المرار والمرار نبت شديد المرارة لا تأكله دابة إلا قتلها.
ثم أمر حجر فنودي في الناس وركب وسار إلى زياد فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم زياد وأهل الشام وقتلوا قتلا ذريعا واسنتقذت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم والسبي وعرف سدوس زيادا فحمل عليه فاعتنقه وصرعه وأخذه أسيرا فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زيادا فقتله فغضب سدوس وقال قتلت أسيري وديته دية ملك.
فتحاكما إلى حجر فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك وأعانهم من ماله وأخذ حجر زوجته هندا فربطها
في فرسين ثم ركضهما حتى قطعاها ويقال بل أحرقها وقال فيها:
(إن من غره الناس بشيء * بعد هند لجاهل مغرور)
(حلوة العين والحديث ومر * كل شيء أجن منها الضمير)
(كل أنثى وإن بدى لك منها * آية الحب حبها خيتعور)

509
ثم عاد إلى الحيرة،
قلت: هكذا قال بعض العلماء أن زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجرا وهذا غير صحيح لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم ومنهم أخذت غسان هذه البلاد وكلهم كانوا عمالا لملوك الروم كما كان ملوك الحيرة عمالا لملوك الفرس على البر والعرب ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام ولا بشبر واحد على سبيل التفرد والاستقلال.
وقولهم: ملك الشام، غير صحيح وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل لأن حجرا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنوشروان وبين ملك قباذ والهجرة نحو مائة وثلاثين سنة وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة وقيل خمسمائة سنة وأقل ما سمعت فيه ثلاثمائة سنة وست عشرة سنة وكانوا بعد سليح ولم يكن زياد آخر ملوك سليح فتزيد المدة زيادة أخرى وهذا تفاوت كثيرا فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه.
ويحث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة فلا بد من توجيهها وأصلح ما قيل فيه.
إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسا على قوم أو متغلبا على بعض أطراف الشام حتى يستقيم هذا القول والله أعلم.
وقولهم أيضا إن حجر عاد إلى الحيرة لا يستقيم أيضا لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار كما ذكرناه قبل فلما ولي

510
أنوشروان عزل الحارث وأعاد اللخميين ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبا والله أعلم.
إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح بل قال هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان ولم يذكر عوده إلى الحيرة فزال هذا الوهم.
(وسليح بفتح السين المهملة وكسر اللام وآخره حاء مهملة).
ذكر مقتل حجر أبي امرئ القيس والحروب الحادثة
بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس
نذكر أولا سبب ملكهم العرب بنجد ونسوق الحادثة إلى قتله وما يتصل به فنقول:
كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائها وغلبوهم على الأمر وأكل القوي الضعيف فنظر العقلاء في أمرهم فرأوا أن يملكوا عليهم ملكا يأخذ للضعيف من القوي فنهاهم العرب وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم لأنه يطيعه القوم ويخالفه آخرون فساروا إلى بعض تبابعة اليمن، وكانوا للعرب

511
بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطلبوا منه أن يملك عليهم ملكا فملك عليهم حجر بن عمرو آكل المرار فقدم عليهم ونزل ببطن عاقل وأغار ببكر فانتزع عامة ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر وبقي كذلك إلى أن مات فدفن ببطن عاقل.
فلما مات صار عمرو بن حجر آكل المرار وهو المقصور ملكا بعد أبيه وإنما قيل له المقصور لأنه قصر على ملك أبيه وكان أخوه معاوية وهو الجون على اليمامة فلما مات عمرو ملك بعده ابنه الحارث وكان شديد الملك بعيد الصوت فلما ملك قباذ بن فيروز الفرس خرج في أيامه مزدك فدعا الناس إلى الزندقة كما ذكرناه فأجابه قباذ إلى ذلك وكان المنذر بن ماء السماء عاملا للأكاسرة على الحيرة ونواحيها فدعاه قباذ إلى الدخول معه فامتنع فدعا الحارث بن عمرو إلى ذلك فأجابه فاستعمله على الحيرة وطرد المنذر عن مملكته.
وقيل في تمليكه غير ذلك وقد ذكرناه أيام قباذ.
فبقوا كذلك إلى أن ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بعد أبيه فقتل مزدك وأصحابه وأعاد المنذر بن ماء السماء إلى ولاية الحيرة وطلب الحارث بن عمرو وكان بالأنبار وبها منزله فهرب بأولاده وماله وهجانته وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء فلحق بأرض كلب فنجا وانتهبوا ماله وهجانته وأخذت تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار فيهم عمرو

512
ومالك ابنا الحارث فقدموا بهم على المنذر فقتلهم في ديار بني مرينا وفيهم يقول عمرو بن كلثوم:
(فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وابنا بالملوك مصفدينا)
وفيهم يقول امرؤ القيس:
(ملوك من بني حجر بن عمرو * يساقون العشية يقتلونا)
(فلو في يوم معركة أصيبوا * ولكن في ديار بني مرينا)
(ولم تغسل جماجمهم بغسل * ولكن في الدماء مرملينا)
(تظل الطير عاكفة عليهم * وتنتزع الحواجب والعيونا)
وأقام الحارث بديار كلب فتزعم كلب أنهم قتلوه وعلماء كندة تزعم أنه خرج يتصيد فتبع تيسا من الظباء فأعجزه فأقسم أن لا يأكل شيئا إلا من كبده فطلبته الخيل فأتى به بعد ثلاثة وقد كاد يهلك جوعا فشوى له بطنه فأكل فلذه من كبده حارة فمات.
ولما كان الحارث بالحيرة أتاه أشراف عدة قبائل من نزار فقالوا إنا في طاعتك وقد وقع بيننا من الشر بالقتل ما تعلم ونخاف الفناء فوجه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض ففرق أولاده في قبائل العرب فملك ابنه حجرا على بني أسد بن خزيمة وغطفان وملك ابنه شرحبيل وهو الذي قتل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وعلى غيرها وملك ابنه معد يكرب وهو غلفاء وإنما قيل له غلفاء لأنه كان يغلف رأسه بالطيب على قيس عيلان وطوائف غيرهم وملك ابنه سلمة على تغلب

513
والنمر بن قاسط وبنى سعد بن زيد مناة من تميم.
فبقي حجر في بني أسد وله عليهم جائزة وأتاوة كل سنة لما يحتاج إليه فبقي كذلك دهرا ثم بعث إليهم من يجبي ذلك منهم وكانوا بتهامة وطردوا رسله وضربوهم فبلغ ذلك حجرا فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة فأتاهم فأخذ سرواتهم وخيارهم وجعل يقتلهم بالعصا وأباح الأموال وسيرهم إلى تهامة وحبس منهم جماعة من أشرافهم منهم عبيد بن الأرض الشاعر فقال شعرا يستعطفه لهم فرق لهم وأرسل من يردهم، فلما صاروا على يوم منه تكهن كاهنهم وهو عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي فقال لهم من الملك الصلهب الغلاب غير المغلب في الإبل كأنها الربرب هذا دمه يتثعب وهو غدا أول من يستلب؟ قالوا ومن هو قال لولا بجيش نفس خاشيه لأخبرتكم أنه حجر ضاحية فركبوا كل صعب وذلول حتى بلغوا إلى عسكر حجر فهجموا عليه في قبته فقتلوه وطعنه علباء بن الحارث الكاهلي فقتله وكان حجر قتل أباه فلما قتل قالت بنو أسد يا معشر كنانة وقيس أنتم إخواننا وبنو عمنا والرجل بعيد النسب منا ومنكم وقد رأيتم سيرته وما كان يصنع بكم هو وقومه فانتهبوهم فشدوا على هجانه فانتهبوها ولفوه في ربطة بيضاء وألقوه على الطريق فلما رأته قيس وكنانة انتهبوا أسلابه وأجار عمرو بن مسعود عياله.
وقيل: إن حجرا لما رأى اجتماع بني أسد عليه خافهم فاستجار عويمر بن شجنة أحد بني عطارد بن كعب بن زيد مناة بن تميم لبنته هند بنت حجر

514
وعياله وقال لبني أسد إن كان هذا شأنكم فإني مرتحل عنكم ومخليكم وشأنكم فودعوه على ذلك وسار عنهم وأقام في قومه مدة ثم جمع لهم جمعا عظيما وأقبل إليهم مدلا بمن معه فتآمرت بنو أسد وقالوا والله لئن قهركم ليحكمن عليكم حكم الصبي فما خير العيش حينئذ فموتوا كراما. فاجتمعوا وساروا إلى حجر فلقوه فاقتتلوا قتالا شديدا وكان صاحب أمرهم علباء بن الحارث فحمل على حجر فطعنه فقتله وانهزمت كندة ومن معهم وأسر بنو أسد من أهل بيت حجر وغنموا حتى ملأوا أيديهم من الغنائم وأخذوا جواريه ونساءه وما معهم فاقتسموه بينهم.
وقيل إن حجرا أخذ أسيرا في المعركة وجعل في قبة فوثب عليه ابن أخت علباء فضربه بحديدة كانت معه لأن
حجرا كان قتل أباه فلما جرحه لم يقض عليه فأوصى حجر ودفع كتابه إلى رجل وقال له انطلق إلى ابني نافع وكان أكبر أولاده فإن بكى وجزع فاتركه واستقرهم واحدا واحدا حتى تأتي امرأ القيس وكان أصغرهم فأيهم لم يجزع فادفع إليه خيلي وسلاحي ووصيتي وقد كان بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره.
فانطلق الرجل بوصيته إلى ابنه نافع فوضع التراب على رأسه ثم أتاهم كلهم ففعلوا مثله حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلعب معه بالنرد فقال قتل حجر فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه فقال له امرؤ القيس اضرب فضرب حتى إذا فرغ قال ما كنت لأفسد دستك، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله فأخبره فقال له الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأطلق مائة.
وكان حجر قد طرد امرأ القيس لقوله الشعر وكان يأنف منه وكانت

515
أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب بن وائل وكان يسير في أحياء العرب يشرب الخمر على الغدران ويتصيد فأتاه خبر قتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن فلما سمع الخبر قال:
(تطاول الليل علينا دمون * دمون إنا معشر يمانون * وإننا لقومنا محبون)
ثم قال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا لا صحو اليوم ولا سكر غدا اليوم خمر وغدا أمر فذهبت مثلا. ثم ارتحل حتى نزل ببكر وتغلب فسألهم النصر على بني أسد فأجابوه فبعث العيون إلى بني أسد فنذروا به فلجأوا إلى بني كنانة وعيون امرئ القيس معهم فقال لهم علباء بن الحارث اعلموا أن عيون امرئ القيس قد عادوا إليه بخبركم وإنكم عند بني كنانة فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة. فارتحلوا وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب وغيرهم حتى انتهى إلى بني كنانة وهو يظنهم بني أسد فوضع السلاح فيهم وقال يا لثارات الملك يا لثارات الهمام فقيل له أبيت اللعنة لسنا لك بثأر نحن بنو كنانة فدونك ثارك فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم فقال في ذلك:
(أيا يل لهف هند اثر قوم * هموا كانوا الشفاء فلم يصابوا)
(وقاهم جدهم ببني أبيهم * وبالأشقين ما كان العقاب)
(وأفلتهن علباء جريضا * ولو أدركته صفر الوطاب)

516
يعني ببني أبيهم كنانة فإن أسدا وكنانة ابني خزيمة هما أخوان. وقوله ولو أدركته صفر الوطاب قيل كانوا قتلوه واستاقوا إبله فصفرت وطابه من اللبن أي خلت وقيل كانوا قتلوه فخلا جلده وهو وطابه من دمه بقتله.
فسار امرؤ القيس في آثار بني أسد فأدركهم ظهرا وقد تقطعت خيله وهلكوا عطشا وبنو أسد نازلون على الماء فقاتلهم حتى كثرت القتلى بينهم وهربت بنو أسد فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم وقالوا قد أصبت ثارك. فقال لا والله فقالوا بلى ولكنك رجل مشؤوم وكرهوا قتلهم بني كنانة فانصرفوا عنه، ومضى إلى أزد شنوءة يستنصرهم فأبوا أن ينصروه وقالوا إخواننا وجيراننا فسار عنهم ونزل بقيل يدعى مرثد الخير بن ذي جدن الحميري وكان بينهما قرابة فاستنصره على بني أسد فأمده بخمسمائة رجل من حمير ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس وملك بعده رجل من حمير يقال له قرمل فزود امرأ القيس ثم سير معه ذلك الجيش وتبعه شذاذ من العرب واستأجر غيرهم من قبائل اليمن فسار بهم إلى بني أسد وظفر بهم.
ثم إن المنذر طلب امرأ القيس ولج في طلبه ووجه الجيوش إليه فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة وتفرق عنه من كان معه من حمير وغيرهم فنجا في جماعة من أهله ونزل بالحارث بن شهاب اليربوعي وهو أبو عتيبة بن الحارث فأرسل إليه المنذر يتوعده بالقتال إن لم يسلمهم إليه فسلمهم ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وابنته هند ابنة امرئ القيس

517
وأدراعه وسلاحه وماله فخرج ونزل على سعد بن الضباب الأيادي سيد قومه فأجاره ومدحه امرؤ القيس ثم تحول عنه ونزل على المعلى بن تيم الطائي فأقام عنده واتخذ إبلا هناك فعدا قوم من جديلة يقال لهم بنو زيد عليها فأخذوها فأعطاه بنو نبهان معزى يحلبها فقال:
(إذا لم تكن إبل فمعزى * كأن قرون جلتها العصي)
الأبيات.
ثم رحل عنهم ونزل بعامر بن جوين فأراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله فعلم امرؤ القيس بذلك فانتقل إلى رجل من بني ثعل يقال له حارثة بن مر فاستجاره فأجاره فوقعت بين عامر بن جوين والثعلي حرب وكانت أمور كبيرة فلما رأى امرؤ القيس أن الحرب قد وقعت بين طيئ بسببه خرج من عندهم فقصد السموأل ابن عادياء اليهودي فأكرمه وأنزله فأقام عند امرؤ القيس ما شاء الله ثم طلب منه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ليوصله إلى قيصر ففعل ذلك وسار إلى الحارث وأودعه أهله وأدراعه عند السموأل فلما وصل إلى قيصر أكرمه فبلغ ذلك بني أسد فأرسلوا رجلا منهم يقال له الطماح كان امرؤ القيس قتل أخا له فوصل الأسدي وقد سير قيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا فيهم جماعة من أبناء الملوك فلما سار امرؤ القيس قال الطماح لقيصر إن امرأ القيس غوي عاهر وقد ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها وقال فيها أشعارا أشهرها بها في العرب.
فبعث إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب مسمومة وكتب إليه إني أرسلت بحلتي

518
التي كنت ألبسها تكرمة لك فالبسها واكتب إلى بخبرك من منزل منزل فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك فاسرع فيه السم وسقط جلده فلذلك سمي ذا القروح فقال امرؤ القيس في ذلك:
(لقد طمح الطماح من نحو أرضه * ليلبسني مما يلبس أبؤسا)
(فلو أنها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا)
فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له (أنقرة) احتضر بها فقال رب خطبة مسحنفره وطعنه مثعنجره وجفنه مستحيرة حلت بأرض أنقرة. ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب وهو جبل فقال:
(أجارتنا أن الخطوب تنوب * وإني مقيم ما أقام عسيب)
(أجارتنا إنا غريبان ههنا * وكل غريب للغريب نسيب)
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة فقبره هناك.
ولما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء وطالبه بأدراع امرئ القيس وكانت مائة درع وبما له عنده فلم يعطه فأخذ الحارث ابنا للسموأل فقال إما أن تسلم الدرع وإما قتلت ابنك فأبى السموأل أن يسلم إليه شيئا فقتل ابنه فقال السموأل في ذلك:
(وفيت بأدرع الكندي إني * إذا ما ذم أقوام وفيت)
(وأوصى عاديا يوما بأن لا * تهدم يا سموأل ما بنيت)
(بنى لي عاديا حصنا حصينا * وماء كلما شئت استقيت)

519
وقد ذكر الأعشى هذه الحادثة فقال:
(كن كالسموأل إذ طاف الهمام به * في جحفل كسواد الليل جرار)
(إذ سامه خطتي خسف فقال له * قل ما تشاء فإني سامع حار)
(فقال غدر وثكل أنت بينهما * فاختر فما فيهما حظ لمختار)
(فشك غير طويل ثم قال له * اقتل أسيرك إني مانع جاري)
وهي أكثر من هذا.
يوم خزاز
وكان من حديثه أن ملكا من ملوك اليمن كان في يديه أسارى من مضر وربيعة وقضاعة فوفد عليه وفد من وجوه بني معد منهم سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان وعوف بن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان وجشم بن ذهل بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان فلقيهم رجل من بهراء يقال له عبيد بن قراد وكان في الأسارى وكان شاعرا فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون فيه فكلموا الملك فيه وفي الأسارى فوهبهم لهم فقال عبيد بن قراد البهراوي:
(نفسي الفداء الفعال * وعوف ولابن هلال جشم)

520
(تداركني بعد ما قد هويت * مستمسكا بعراقي الوذم)
(ولولا سدوس وقد شمرت * بي الحرب زلت بنعلي القدم)
(وناديت بهراء كي يسمعوا * وليس بآذانهم من صمم)
(ومن قبلها عصمت قاسط * معدا إذا ما عزيز أزم)
فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينة وقال للباقين: ائتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي وإلا قتلت أصحابكم. فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم الخبر فبعث كليب وائل إلى ربيعة فجمعهم واجتمعت معد عليه وهو أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد على ما نذكره في مقتل كليب فلما اجتمعوا عليه سار بهم وجعل على مقدمته السفاح التغلبي وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب وأمرهم أن يوقدوا على خزاز نارا ليهتدوا بها وخزاز جبل بطخفة ما بين البصرة إلى مكة وهو قريب من سالع وهو جبل أيضا وقال له إن غشيك العدو فأوقد نارين فبلغ مذحجا اجتماع ربيعة ومسيرها فأقلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم فلما سمع أهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة.
ووصل مذحج إلى خزاز ليلا فرفع السفاح نارين فلما رأى كليب النارين أقبل إليهم بجموع فصبحهم فالتقوا بخزاز فاقتتلوا قتالا شديدا أكثروا فيه القتل فانهزمت مذحج وانفضت جموعها فقال السفاح في ذلك:
(وليلة بت أوقد في خزاز * هديت كتائبا متحيرات)
(ضللن من السهاد وكن لولا * سهاد القوم أحسب هاديات)
وقال الفرزدق يخاطب جريرا ويهجوه:

521
(لولا فوارس تغلب ابنة وائل * دخل العدو عليك كل مكان)
(ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا * نارين أشرفتا على النيران)
وقيل إنه لم يعلم أحد من كان الرئيس يوم خزاز لأن عمرو بن كلثوم وهو ابن ابنة كليب يقول:
(ونحن غداة أوقد في خزاز * رفدنا فوق رفد الرافدينا)
فلو كان جده الرئيس لذكره ولم يفتخر بأنه رفد ثم جعل من شهد خزازا متساندين فقال:
(فكنا الأيمنين إذا التقينا * وكان الأيسرين بنو أبينا)
(فصالوا صولة فيمن يليهم * وصلنا صولة فيمن يلينا)
فقالوا له استأثرت على إخوتك يعني مضر ولما ذكر جده في القصيدة قال:
(ومنا قبله الساعي كليب فأي المجد الا قد ولينا)
فلم يدع به الرياسة يوم خزاز وهي أشرف ما كان يفتخر له به.
(حبيب بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره باء أخرى موحدة).

522
ذكر مقتل كليب والأيام بين بكر وتغلب
وكان من حديث الحرب التي وقعت بين بكر وتغلب ابني وائل بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بسبب قتل كليب واسمه وائل بن ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب وإنما لقب كليبا لأنه كان إذا سار أخذ معه جرو كلب فإذا مر بروضة أو موضع يعجبه ضربه ثم ألقاه في ذلك المكان وهو يصيح ويعوي فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه ولم يقربه وكان يقال [له] كليب وائل ثم اختصروا فقالوا كليب فغلب عليه. وكان لواء ربيعة بن نزار للأكبر فالأكبر من ولده فكان اللواء في عنزة بن بن أسد بن ربيعة وكانت سنتهم أنهم يوفرون لحاهم ويقصون شواربهم فلا يفعل ذلك من ربيعة إلا من يخالفهم ويريد حربهم، ثم تحول اللواء في عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وكانت سنتهم إذا شتموا لطموا من شتمهم وإذا لطموا قتلوا من لطمهم ثم تحول اللواء في النمر بن قاسط بن هنب وكان لهم غير سنة من تقدمهم ثم تحول اللواء إلى بكر بن وائل فساءوا غيرهم في فرخ طائر كانوا يوثقون الفرخ بقارعة الطريقة فإذا علم بمكانه لم يسلك أحد ذلك الطريق ويسلك من يريد الذهاب والمجيء عن يمينه ويساره ثم تحول اللواء إلى تغلب فوليه وائل بن ربيعة وكانت سنته ما ذكرناه من جرو الكلب.
ولم تجتمع معد إلا على ثلاثة نفر، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحرث وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان،

523
وهو الناس بن مضر، بالنون، وهو أخو الياس بن مضر وكان قائد معد حين تمذحجت مذحج وسارت إلى تهامة وهي أول وقعة كانت بين تهامة واليمن؛ والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن؛ والثالث وائل بن ربيعة وكان قائد معد يوم خزاز ففض جموع اليمن وهزمهم وجعلت له معد قسم الملك وتاجه وطاعته وبقي زمانا من الدهر ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه وكان يقول وحش أرض كذا في جواري فلا يصاد ولا يورد أحد مع إبله ولا يوقد نارا مع ناره ولا يمر أحد بين بيوته ولا يحتبى في مجلسه.
وكانت بنو جشم وبنو شيبان أخلاطا في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن شيبان بن ثعلبة وهي أخت جساس بن مرة وحمى كليب أرضا من العالية في أول الربيع وكان لا يقربها إلا محارب ثم إن رجلا يقال له سعد بن شميس بن طوق الجرمي نزل بالبسوس بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة وكان للجرمي ناقة اسمها سراب ترعى مع نوق جساس وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالت أشأم من سراب وأشأم من البسوس.
فخرج كليب يوما يتعهد الإبل ومراعيها فأتاها وتردد فيها وكانت إبله وإبل جساس مختلطة فنظر كليب إلى سراب فأنكرها فقال له جساس،

524
وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي فقال لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى فقال جساس لا ترعى إبلي مرعى إلا وهذه معها. فقال كليب لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك. ثم تفرقا وقال كليب لامرأته أترين أن في العرب رجلا مانعا مني جاره قالت لا أعلمه إلا جساسا فحدثها الحديث وكان بعد ذلك إذا أراد الخروج إلى الحمى منعته وناشدته الله أن [لا] يقطع رحمه وكانت تنهى أخاها جساسا أن يسرح إبله.
ثم إن كليبا خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل فرأى ناقة الجرمي فرمى ضرعها فأنفذه فولت ولها عجيج حتى بكرت بفناء صاحبها فلما رأى ما بها صرخ بالذل وسمعت البسوس صراخ جارها فخرجت إليه فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها ثم صاحت واذلاه وجساس يراها ويسمع فخرج إليها فقال لها اسكتي ولا تراعي وسكن الجرمي وقال لهما إني سأقتل جملا أعظم من هذه الناقة سأقتل غلالا وكان غلال فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله وإنما أراد جساس بمقالته كليبا وكان لكليب عين يسمع ما يقولون فأعاد الكلام على كليب فقال لقد اقتصر من يمينه على غلال ولم يزل جساس يطلب غرة كليب فخرج كليب يوما آمنا فلما بعد عن البيوت ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليبا فوقف كليب فقال له جساس يا كليب الرمح وراءك.
فقال إن كنت صادقا فأقبل إلي من أمامي ولم يلتفت إليه فطعنه فأرداه عن فرسه فقال يا جساس أغثني بشربة من ماء فلم يأتيه بشيء وقضى كليب نحبه. فأمر جساس رجلا كان معه اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان فجعل عليه أحجارا لئلا تأكله السباع وفي ذلك يقول مهلهل بن

525
ربيعة، أخو كليب:
(قتيل ما قتيل المرء عمرو * وجساس بن مرة ذي صريم)
(أصاب فؤاده بأصم لدن * فلم يعطف هناك على حميم)
(فإن غدا وبعد غد لرهن * لأمر ما يقام له عظيم)
(جسيما ما بكيت به كليبا * إذا ذكر الفعال من الجسيم)
(سأشرب كأسها صرفا وأسقى * بكأس غير منطقة مليم)
ولما قتل جساس كليبا انصرف على فرسه يركضه وقد بدت ركبتاه فلما نظر أبوه مرة إلى ذلك قال لقد أتاكم
جساس بداهية ما رأيته قط بادي الركبتين إلى اليوم! فلما وقف على أبيه قال مالك يا جساس قال طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غدا لها رقصا قال ومن طعنت لأمك الثكل قال قتلت كليبا قال أفعلت قال نعم قال بئس والله ما جئت به قومك فقال جساس:
(تأهب عنك أهبة ذي امتناع * فإن الأمر جل عن التلاحي)
(فإني قد جنيت عليك حربا * تغص الشيخ بالماء القراح)
فلما سمع أبوه قوله خاف خذلان قومه لما كان من لائمته إياه فقال يجيبه:
(فإن تك قد جنيت علي حربا * تغص الشيخ بالماء القراح)
(جمعت بها يديك على كليب * فلا وكل ولا رث السلاح)
(سألبس ثوبها وأذود عني * بها عار المذلة والفضاح)

526
ثم إن مرة دعا قومه إلى نصرته فأجابوه وجلوا الأسنة وشحذوا السيوف وقوموا الرماح وتهيأوا للرحلة إلى جماعة قومهم.
وكان همام بن مرة أخو جساس ومهلهل أخو كليب في ذلك الوقت يشربان فبعث جساس إلى همام جارية لهم تخبره الخبر فانتهت إليهما وأشارت إلى همام فقام إليه فأخبرته فقال له المهلهل ما قالت لك الجارية وكان بينهما عهد أن لا يكتم أحدهما صاحبه شيئا فذكر له ما قالت الجارية وأحب أن يعلمه ذلك في مداعبة وهزل فقال له المهلهل أست أخيك أضيق من ذلك فأقبلا على شربهما، فقال له المهلهل اشرب فاليوم خمر وغدا أمر فشرب همام وهو حذر خائف.
فلما سكر مهلهل عاد همام أهله فساروا من ساعتهم إلى جماعة قومهم وظهر أمر كليب فذهبوا إليه فدفنوه فلما دفن شقت الجيوب وخمشت الوجوه وخرجت الأبكار وذات الخدور العواتق إليه وقمن للمأتم فقال النساء لأخت كليب أخرجي جليلة أخت جساس عنا فإن قيامها فيه شماته وعار علينا وكانت امرأة كليب كما ذكرنا، فقالت لها أخت كليب أخرجي عن مأتمنا فأت أخت قاتلنا وشقيقة واترنا فخرجت تجر عطافها فلقيها أبوها مرة فقال لها ما وراءك يا جليلة فقالت ثكل العدد وحزن الأبد وفقد الخليل وقتل أخ عن قليل وبين هذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد فقال لها أويكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات فقالت أمنية مخدوع ورب الكعبة ألبدن تدع لك تغلب دم ربها!
ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غدا لآل مرة من الكرة بعد الكرة. فبلغ قولها جليلة فقالت وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها أسعد الله أختي ألا قالت: نفرة

527
الحياء وخوف الأعداء ثم أنشأت تقول:
(يا ابنة الأقوام إن شئت فلا * تعجلي باللوم حتى تسألي)
(فإذا ما أنت تبينت الذي * يوجب اللوم فلومي واعذلي)
(إن تكن أخت امرئ ليمت على * شفق منها عليه فافعلي)
(جل عندي فعل جساس فيا * حسرتا فيما انجلت أو تنجلي)
(فعل جساس على وجدي به * قاطع ظهري ومدن أجلي)
(لو بعين فقئت عين سوى * أختها فانفقأت لم أحفل)
(تحمل العين قذى العين كما * تحمل الأم أذى ما تفتلي)
(يا قتيلا قوض الدهر به * سقف بيتي جميعا من عل)
(هدم البيت الذي استحدثته * وانثنى في هدم بيتي الأول)
(ورماني قتله من كثب * رمية المصمى به المستأصل)
(يا نسائي دونكن اليوم قد * خصني الدهر برزء معضل)
(خصني قتل كليب بلظى * من ورائي ولظى مستقبل)
(ليس من يبكي ليوميه كمن * إنما يبكي ليوم مقبل)
(يشتفي المدرك بالثأر وفي * دركي ثأري ثكل المثكل)

528
(ليته كان دما فاحتلبوا * دررا منه دمي من أكحل)
(إنني قابلة مقتولة * ولعل الله أن يرتاح لي)
و أما مهلهل واسمه عدي وقيل امرؤ القيس وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي وإنما لقب مهلهلا لأنه أول من هلهل الشعر وقصدت القصائد وأول من كذب في شعره فإنه لما صحا لم يرعه إلا النساء يصرخن ألا إن كليبا قتل فقال وهو أول شعر قيل في هذه الحادثة:
(كنا نغار على العواتق أن ترى * بالأمس خارجة عن الأوطان)
(فخرجن حين توى كليب حسرا * مستيقنات بعده بهوان)
(فترى الكواعب كالظباء عواطلا * إذ حان مصرعه من الأكفان)
(يخمشن من أدم الوجوه حواسرا * من بعده ويعدن بالأزمان)
(متسلبات نكدهن وقد ورى * أجوافهن بحرقة ووراني)
(ويقلن من للمستضيف إذا دعا * أم من لخضب عوالي المران)
(أم لا تسار بالجزور إذا غدا * ريح يقطع معقد الأشطان)
(أم من لا سباق الديات وجمعها * ولفادحات نوائب الحدثان)
(كان الذخيرة للزمان فقد أتى * فقدانه وأخل ركن مكاني)
(يا لهف نفسي من زمان فاجع * ألقى علي بكلكل وجران)

529
(بمصيبة لا تستقال جليلة * غلبت عزاء القوم والنسوان)
(هدت حصونا كن قبلا ملاوذا * لذوي الكهول معا وللشبان)
(أضحت وأضحى سورها من بعده * متهدم الأركان والبنيان)
(فابكين سيد قومه واندبنه * شدت عليه قباطي الأكفان)
(وابكين للأيتام لما أقحطوا * وابكين عند تخاذل الجيران)
(وابكين مصرع جيده متزملا * بدمائه فلذاك ما أبكاني)
(فلأتركن به قبائل تغلب * قتلى بكل قرارة ومكان)
(قتلى تعاورها النسور أكفها * ينهشنها وحواجل الغربان)
ثم انطلق إلى المكان الذي قتل فيه كليب فرأى دمه وأتى قبره فوقف عليه ثم قال:
(إن تحت التراب حزما وعزما * وخصيما ألد ذا معلاق)
(حية في الوجار أربد لا ينفع * منه السليم نفث الراقي)
ثم جز شعره وقصر ثوبه وهجر النساء وترك الغزل وحرم القمار والشراب وجمع إليه قومه وأرسل رجالا منهم إلى بني شيبان، فأتوا مرة بن ذهل بن شيبان وهو في نادي قومه فقالوا له إنكم أتيتم عظيما بقتلكم كليبا بناقة وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة وإنا نعرض عليك خلالا أربعا لكم فيها مخرج ولنا فيها مقنع. إما أن تحيي لنا كليبا أو تدفع إلينا قاتله جساسا فنقتله به أو هماما فإنه كفء له أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه.

530
فقال لهم أما إحيائي كليبا فلست قادرا عليه وأما دفعي جساسا إليكم فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه فلا أدري أي بلاد قصد وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل فما أتعجل الموت ولكن لكم عندي خصلتان أما إحداهما فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم فاقتلوه بصاحبكم وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر.
فغضب القوم وقالوا قد أسأت ببذل هؤلاء وتسومنا اللبن من دم كليب؟ ونشبت الحرب بينهم ولحقت جليلة زوجة كليب بأبيها وقومها واعتزلت قبائل بكر الحرب وكرهوا مساعدة بني شيبان على القتال وأعظموا قتل كليب
فتحولت لجيم ويشكر وكف الحارث بن عباد عن نصرهم ومعه أهل بيته وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليبا منها:
(كليب لا خير في الدنيا ومن فيها * إذ أنت خليتها فيمن يخليها)
(كليب أي فتى عز ومكرمة * تحت السقائف إذ يعلوك سافيها)
(نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم * مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها)
(الحزم والعزم كانا من صنيعته * ما كل آلائه يا قوم أحصيها)
(القائد الخيل تردى في أعنتها * رهوا إذا الخيل لجت في تعاديها)
(من خيل تغلب ما تلقى أسنتها * إلا وقد خضبوها من أعاديها)
(يهزهزون من الخطي مدمجة * صما أنابيبها زرقا عواليها)
(ليت السماء على من تحتها وقعت * وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها)

531
(لا أصلح الله منا من يصالحكم * ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها)
فالتقوا أول قتال كان بينهم في قول يوم عنيزة وهي عند فلج وكانا على السواء فقال مهلهل:
(كأنا غدوة وبني أبينا * بجنب عنيزة رحيا مدير)
(ولولا الريح أسمع أهل حجر * صليل البيض تقرع بالذكور)
فتفرقوا ثم بقوا زمانا، ثم إنهم التقوا بماء يقال له النهي كانت بنو شيبان نازلة عليه ويروى إنها أول وقعة كانت بينهم وكان رئيس تغلب مهلهل ورئيس شيبان الحارث بن مرة وكانت الدائرة لبني تغلب وكانت الشوكة في بني شيبان واستحر القتال فيهم إلا إنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.
ثم التقوا بالذنائب وهي أعظم وقعة كانت لهم فظفرت بنو تغلب وقتلت بكرا مقتلة عظيمة وقال فيها شراحيل بن مرة بن همام بن ذهل بن شيبان وهو جد الحوفزان وجد معن بن زائدة وقتل الحارث بن مرة بن ذهل بن شيبان وقتل من بني ذهل بن ثعلبة عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل وغيرهم من رؤساء بكر.
ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالا شديدا فظفرت تغلب أيضا وكثر القتل في بكر فقتل همام بن مرة بن شيبان أخو جساس لأبيه وأمه فمر مهلهل فلما رآه قتيلا قال والله ما قتل بعد كليب أعز علي منك وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبدا.
وقيل أنما قتل يوم القصيبات وقيل يوم قضة قتله ناشرة وكان همام قد التقطه ورباه وسماه

532
ناشرة، وكان عنده. فلما شب علم أنه تغلبي فلما كان هذا اليوم جعل همام يقاتل فإذا عطش جاء إلى قرية له يشرب منها فتغفله ناشرة فقتله ولحق بقومه تغلب وكاد جساس يؤخذ فسلم فقال مهلهل:
(لو أن خيلي أدركتك وجدتهم * مثل الليوث بستر غب عرين)
ويقول فيها:
(ولأوردن الخيل بطن أراكة * ولأقضين بفعل ذاك ديوني)
(ولأقتلن جحاجحا من بكركم * ولأبكين بها جفون عيون)
(حتى تظل الحاملات مخافة * من وقعنا يقذفن كل جنين)
وقيل في ترتيب الأيام غير ما ذكرنا وسنذكره أن شاء الله تعالى.
وكان أبو نويرة التغلبي وغيره طلائع قومه وكان جساس وغيره طلائع قومهم. والتقى بعض الليالي جساس وأبو نويرة فقال له أبو نويرة اختر إما الصراع أو الطعان أو المسايفة فاختار جساس الصراع فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه وطلبهما فأصابوهما وهما يصطرعان وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما.
وجعلت تغلب تطلب جساسا أشد الطلب فقال له أبوه مرة الحق بأخوالك بالشام فامتنع فألح عليه أبوه فسيره سرا في خمسة نفر وبلغ الخبر إلى مهلهل فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلا من شجعان أصحابه فساروا مجدين فأدركوا جساسا فقاتلهم فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق

533
منهم غير رجلين وجرح جساس جرحا شديدا مات منه وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضا فعادت كل واحد من السالمين إلى أصحابه فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال إنما يحزنني إن كان لم يقتل منهم أحدا. فقيل له إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلا ما شركه منا أحد في قتلهم وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.
وقيل إن جساسا آخر من قتل في حرب بكر وتغلب وكان سبب قتله أن أخته جليلة كانت تحت كليب وائل فلما قتل كليب عادت إلى أبيها وهي حامل وقعت الحرب وكان من الفريقين ما كان ثم عادوا إلى الموادعة بعد ما كادت الفئتان تتفانى فولدت أخت جساس غلاما فسمته هجرسا ورباه جساس وكان لا يعرف أبا غيره فزوجه ابنته فوقع بين هجرس وبين رجل من بكر كلام فقال له البكري ما أنت بمنته حتى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه ودخل إلى أمه كئيبا حزينا فأخبرها الخبر فلما نام إلى جنب امرأته رأت من همه وفكره ما أنكرته فقصت على أبيها جساس قصته فقال تأثر ورب الكعبة وبات على مثل الرضف حتى أصبح فاحضر الهجرس فقال له إنما أنت ولدي وأنت مني بالمكان الذي تعلم وزوجتك ابنتي وقد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا وقد اصطلحنا وتحاجزنا وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق معي حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا.
فقال الهجرس أنا فاعل فحمله جساس على فرس فركبه ولبس لأمته وقال: مثلي لا يأتي

534
أهله بغير سلاحه، فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما فقص عليهم جساس القصة وأعلمهم أن الهجرس يدخل في الذي فيه جماعتهم وقد حضر ليعقد ما عقدتم فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بواسط رمحه ثم قال وفرسي وأذنيه ورمحي وتصليه وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر ألية ثم طعن جساسا فقتلة ولحق بقومه وكان آخر قتيل في بكر والأول أكثر.
ونرجع إلى سياقة الحديث.
فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل إنك قد أدركت ثارك وقتلت جساسا فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح لحيين وأنكأ لعدوهم فلم يجب إلى ذلك. وكان الحارث بن عباد قد اعتزل الحرب فلم يشهدها فلما قتل جساس وهمام ابنا مرة حمل ابنه بجيرا وهو ابن عمرو بن عباد أخي الحرث بن عباد فلما حمله على الناقة كتب معه إلى مهلهل إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثارك سوى ما قتلت من بكر وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم. فلما وقف على كتابه أخذ بعيرا فقتله وقال بؤ بشسع نعل كليب. فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين فقال نعم القتيل قتيلا أصلح من بني وائل! فقيل إنه قال بؤ بشسع نعل كليب فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال:

535
(قربا مربط النعامة مني * لقحت حرب وائل عن حيال)
(قربا مربط النعامة مني * شاب رأسي وأنكرتني رجالي)
(لم أكن من جناتها علم الله * وإني بحرها اليوم صالي)
فأتوه بفرسه النعامة ولم يكن في زمانها مثلها فركبها وولى أمر بكر وشهد حربهم وكان أول يوم شهده يوم قضة وهو يوم تحلاق اللمم وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكرا حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضا إلا جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم أنا قصير فلا تشينوني وأنا أشتري لمتي منكم بأول فارس يطلع عليكم فطلع ابن عناق فشد عليه وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول:
(ردوا علي الخيل أن ألمت * ان لم أقاتلهم فجزوا لمتي)
وقاتل يومئذ الحارث بن عباد قتالا شديدا فقتل في تغلب مقتله عظيمة وفيه يقول طرفة:
(سائلوا عنا الذي يعرفنا * بقوانا يوم تحلاق اللمم)
(يوم تبدي البيض عن أسواقها * وتلف الخيل أفواج النعم)
وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد مهلهلا واسمه عدي وهو لا يعرفه فقال له دلني على عدي وأنا أخلي عنك. فقال المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم، قال فأنا عدي فجز ناصيته وتركه وقال في ذلك:
(لهف نفسي على عدي ولم أعرف * عديا إذ أمكنتني اليدان)

536
وكانت الأيام التي اشتدت فيها الحرب بين الطائفتين خمسة أيام: يوم عنيزة تكافؤا فيه وتناصفوا؛ ثم اليوم الثاني يوم واردات، كان لتغلب على بكر ثم اليوم الثالث الحنو كان لبكر على تغلب ثم اليوم الرابع يوم القصيبات أصيب بكر حتى ظنوا أنهم لن يستقيلوا ثم اليوم الخامس يوم قضة وهو يوم التحالق وشهده الحارث بن عباد؛ ثم كان بعد ذلك أيام دون هذه منها يوم النقية ويوم الفصيل لبكر على تغلب ثم لم يكن بينهما مزاحفة إنما كان مغاورات ودامت الحرب بينهما أربعين سنة.
ثم إن مهلهلا قال لقومه قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها فكيف وقد فنى الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترقأ وأجساد لا تدفن وسيوف مشهورة ورماح مشرعة وإن القوم سيرجعون إليكم غدا بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قتال القتل فكان كما قال.
ثم قال مهلهل أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل في جنب وهي حي من مذحج فخطبوا إليه ابنته فمنعهم فأجبروه على تزويجها وساقوا إليه صداقها جلودا من أدم فقال في
ذلك:

537
(أعزز على تغلب بما لقيت * أخت بني الأكرمين من جشم)
(انكحها فقدها الأراقم في * جنب وكان الحباء من أدم)
(لو بأبانين جاء يخطبها * ضرج ما انف خاطب بدم)
الأراقم بطن من جشم بن تغلب يعني حيث فقدت الأراقم وهم عشيرتها تزوجها رجل من جنب بأدم.
ثم إن مهلهلا عاد إلى ديار قومه فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيرا بنواحي هجر فأحسن إساره فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل فأهدى إليه وهو أسير زقا من خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو فلما أخذ فيهم الشراب تغني مهلهل بما كان يقوله من الشعر ينوح على أخيه كليب فسمع منه عمرو ذلك فقال إنه يريد لريان والله لا يشرب عندي ماء حتى يرد زبيب وهو فحل كان له لا يراد إلا خمسا في حمارة القيظ فطلب بنو مالك زبيبا وهم حراص على أن لا يهلك مهلهل فلم يقدروا عليه حتى مات مهلهل عطشا.
وقيل إن ابنة خال المهلهل وهي ابنة المجلل التغلبي كانت امرأة عمرو وأرادت أن تأتي مهلهلا وهو أسير فقال يذكرها:
(طفلة ما ابنة المجلل بيضاء * لعوب لذيذة في العناق)

538
(فاذهبي ما إليك غير بعيد * لا يؤاتي العناق من في الوثاق)
(ضربت على صدرها إلي وقالت * يا عدي لقد وقتك الأواقي)
وهي أبيات ذوات عدد فنقل شعره إلى عمرو بن مالك فحلف عمرو أن لا يسقيه الماء حتى يرد زبيب فسأله الناس أن يورد زبيبا قبل وروده ففعل وأورده وسقاه حتى يتحلل من يمينه ثم إنه سقى مهلهلا من ماء هناك هو أوخم المياه فمات مهلهل.
(عباد بضم العين وفتح الباء الموحدة وتخفيفها).
ذكر الحرب بين الحارث الأعرج وبني تغلب
قال أبو عبيدة إن بكرا وتغلب ابني وائل اجتمعت للمنذر بن ماء السماء وذلك بعد حربهم وكان الذي أصلح بينهم قيس بن شراحيل بن مرة بن همام فغزا بهم المنذر بني آكل المرار وجعل على بني بكر وتغلب ابنه عمرو بن هند وقال اغز أخوالك فغزاهم فاقتتلوا فانهزم بنو آكل المرار وأسروا وجاؤوا بهم إلى المنذر فقتلهم.
ثم انتفضت تغلب على المنذر ولحقت بالشام ونحن نذكر سبب ذلك في أخبار شيبان إن شاء الله، وعادت الحرب بينهم وبين بكر فخرج ملك غسان بالشام وهو الحارث بن أبي شمر الغساني فمر بأفاريق من تغلب فلم يستقبلوه وركب عمرو بن كلثوم التغلبي فلقيه فقال له ما

539
منع قومك ان يتلقوني؟ فقال: لم يعلموا بمرورك فقال لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم ايقاظا لقدومي فقال عمرو ما استيقظ قط إلا نبل رأيهم وعزت جماعتهم فلا توقظن نائمهم فقال كأنك تتوعدني بهم أما والله لتعلمن إذا نالت غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها تجتث أصولهم وتنفي فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد.
ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:
(ألا فاعلم أبيت اللعن أنا * أبيت اللعن نأبى ما تريد)
(تعلم أن محملنا ثقيل * وأن دبار كبتنا شديد)
(وإنا ليس حي من معد * يقاومنا إذا لبس الحديد)
فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب فاقتتلوا واشتد القتال بينهم ثم انهزم الحارث وبنو غسان وقتل أخو الحارث عدد كثير فقال عمرو بن كلثوم:
(هلا عطفت على أخيك إذا دعا * بالثكل ويل أبيك يا بن أبي شمر)
(فذق الذي جشمت نفسك واعترف * فيها أخاك وعامر بن أبي حجر)
يوم عين أباغ
وهو بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث بن الأعرج أبي شمر جبلة وقيل: أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحرث بن حجر بن النعمان بن الحارث

540
الأيهم بن الحرث بن مارية الغساني وقيل في نسبه غير هذا وقيل هو أزدي تغلب على غسان والأول أكثر وأصح وهو الذي طلب أدراع امرئ القيس من السمو أل بن عادياء وقتل ابنه وقيل غيره والله أعلم.
وسبب ذلك أن المنذر بن ماء السماء ملك العرب سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ بذات الخيار وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر الغساني ملك العرب بالشام إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي وإما أن تأذن بحرب.
فأرسل إليه الحارث انظرنا ننظر في أمرنا فجمع عساكره وسار نحو المنذر وأرسل إليه يقول له إنا شيخان فلا تهلك جنودي وجنودك ولكن يخرج رجل من ولدي ويخرج رجل من ولدك فمن قتل خرج عوضه آخر وإذا فني أولادنا خرجت أنا إليك فمن قتل صاحبه ذهب بالملك فتعاهدا على ذلك فعمد المنذر إلى رجل من شجعان أصحابه فأمره أن يخرج فيقف بين الصفين ويظهر أنه ابن المنذر فلما خرج أخرج إليه الحارث ابنه أبا كرب فلما رآه رجع إلى أبيه وقال إن هذا ليس بابن المنذر إنما هو عبده أو بعض شجعان أصحابه، فقال يا بني أجزعت من الموت ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه وقاتله فقتله الفارس وألقى رأسه بين يدي المنذر وعاد فأمر الحارث ابنا له آخر بقتاله والطلب بثأر أخيه فخرج إليه فلما واقفه رجع إلى أبيه وقال يا أبت هذا والله عبد المنذر. فقال يا بني ما كان الشيخ ليغدر. فعاد إليه فشد عليه فقتله.
لما رأى ذلك شمر بن عمرو الحنفي وكانت أمه غسانية وهو

541
مع المنذر، قال: أيها الملك إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك دفعتين فغضب المنذر وأمر بإخراجه فلحق بعسكر الحارث فأخبره فقال له سل حاجتك. فقال له: حلتك وخلتك. فلما كان الغد عبى الحارث أصحابه وحرضهم وكان في أربعين ألفا واصطفوا للقتال فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل المنذر وهزمت جيوشه فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير بمنزلة العدلين وجعل المنذر فوقهما فردا وقال يا لعلاوة دون العدلين فذهبت مثلا؛ وسار إلى الحيرة فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها وبنى الغربين عليهما في قول بعضهم وفي ذلك اليوم يقول ابن الرعلاء الضبابي:
(كم تركنا بالعين عين أباغ * من ملوك وسوقة أكفاء)
(أمطرتهم سحائب الموت تترى * إن في الموت راحة الأشقياء)
(ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء)
يوم مرج حليمة وقتل المنذر بن المنذر بن ماء السماء
لما قتل المنذر بن ماء السماء على ما تقدم ملك بعده ابنه المنذر وتلقب الأسود فلما استقر وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالبا بثأر أبيه عنده وبعث إليه إنني قد أعددت لك الكهول على الفحول.

542
فأجابه الحارث: قد أعددت لك المرد على الجرد. فسار المنذر حتى نزل بمرج حليمة فتركه من به من غسان للأسود وإنما سمي مرج حليمة بحليمة ابنة الحارث الغساني وسنذكر خبرها عند الفراغ من هذا اليوم.
ثم إن الحارث سار فنزل بالمرج أيضا فأمر أهل القرى التي في المرج فكان يصنعوا الطعام لعسكره ففعلوا ذلك وحملوه في الجفان وتركوه في العسكر فكان الرجل يقاتل فإذا أراد الطعام جاء إلى تلك الجفان فأكل منها فأقامت الحرب بين الأسود والحارث أياما [لم] ينتصف بعضهم من بعض فلما رأى الحارث ذلك قعد في قصره ودعا ابنته هند وأمرها فاتخذت طيبا كثيرا في الجفان وطيبت به أصحابه ثم نادى يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هند.
فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه يا أبت أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول دونه لا محالة ولست أرضى فرسي فأعطني فرسك الزيتية فأعطاه فرسه. فلما زحف الناس واقتتلوا ساعة شد لبيد على الأسود فضربه ضربه فألقاه عن فرسه وانهزم أصحابه في كل وجه ونزل فاحتز رأسه وأقبل به إلى الحارث وهو على قصره ينظر إليهم فألقى الرأس بين يديه فقال له الحارث شأنك بابنة عمك فقد زوجتكها. فقال بل أنصرف فأولى أصحابي بنفسي فإذا انصرف الناس انصرفت. فرجع فصادف أخا الأسود قد رجع إليه الناس وهو يقاتل وقد اشتدت نكايته فتقدم لبيد فقاتل فقتل ولم يقتل في هذه الحروب بعد تلك الهزيمة غيره وانهزمت لخم هزيمة ثانية وقتلوا في كل وجه وانصرفت غسان بأحسن ظفر.
وذكر أن الغبار في هذا اليوم اشتد وكثر حتى ستر الشمس وحتى ظهرت الكواكب المتباعدة عن مطالع الشمس لكثرة العساكر لأن الأسود سار بعرب العراق أجمع وسار الحارث بعرب الشام أجمع، وهذا اليوم من

543
أشهر أيام العرب وقد فخر به بعض شعراء غسان فقال:
(يوم وادي حليمة وازدلفنا * بالعناجيج والرماح الظماء)
(إذ شحنا أكفنا من رقاق * رق من وقعها سنا الحسناء)
(وأتت هند بالخلوق إلى من * كان ذا نجدة وفضل غناء)
(ونصبنا الجفان في ساحة المرج * فملنا إلى جفان ملاء)
وقيل في قتله غير ما تقدم ونحن نذكره.
قال بعض العلماء: وكان سببه أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج الغساني خطب إلى المنذر بن المنذر اللخمي ابنته وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان فزوجه المنذر ابنته هندا وكانت لا تريد الرجال فصنعت بجلدها شبيها بالبرص وقالت لأبيها أنا على هذه الحالة وتهديني لملك غسان، فندم على تزويجها فأمسكها ثم إن الحارث أرسل يطلبها فمنعها أبوها واعتل عليه ثم إن المنذر خرج غازيا فبعث الحارث بن أبي شمر جيشا إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها فانصرف المنذر من غزاته لما بلغه من الخبر فسار يريد غسان وبلغ الخبر الحارث فجمع أصحابه وقومه فسار بهم فتوافقوا بعين أباغ فاصطفوا للقتال فاقتتلوا واشتد الأمر بين الطائفتين فحملت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث وفيها ابنه فقتلوه وانهزمت الميسرة وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر فانهزم من بها وقتل مقدمها فروة بن مسعود بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه وانهزم أصحابه في كل وجه فقتل منهم بشر كثير وأسر

544
خلق كثير، منهم من بني تميم ثم من بني حنظلة مائة أسير منهم شأس بن عبدة فوفد أخوه علقمة بن عبدة الشاعرة على الحارث يطلب إليه أن يطلق أخاه ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
(طحابك قلب في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب)
(تكلفني ليلى وقد شط أهلها * وعادت عواد بيننا وخطوب)
يقول فيها:
(فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب)
(إذا شاب رأس المرء أو قل ماله * فليس له في ودهن نصيب)
(يردن ثراء المال حيث وجدنه * وشرخ الشباب عندهن عجيب)
(وخالد من غسان أهلها حفاظها * وهند وناس ما صنعت يشيب)
(فلم ينج إلا شطبة بلجامها * وإلا طمر كالقناة نجيب)
(وإلا كمي ذو حفاظ كأنه * بما ابتل من حد الظبات خضيب)
(وفي كل حي قد خبطت بنعمة * فحق لشأس من نداك ذنوب)
(فلا تحرمني نائلا عن جناية * فإني امرؤ وسط القباب غريب)

545
فلما بلغ إلى قوله فحق لشأس من نداك ذنوب قال الملك أي والله وأذنبة ثم أطلق شأسا وقال له إن شئت الحباء وإن شئت أسراء قومك وقال لجلسائه إن اختار الحباء على قومه فلا خير فيه. فقال: أيها الملك ما كنت لأختار على قومي شيئا.
فأطلق له الأسرى من تميم وكساه وحباه وفعل ذلك بالأسرى جميعهم وزودهم زادا كثيرا فلما بلغوا بلادهم أعطوا جميع ذلك لشأس وقالوا أنت كنت السبب في إطلاقنا فاستعن بهذا على دهرك فحصل له مال كثير من إبل وكسوة وغير ذلك.
(عبدة بفتح العين والباء الموحدة).
وقيل في قتله أنه جمع عسكرا ضخما وسار حتى نزل الشام وسار ملك الشام وهو عند الأكثر الحارث بن أبي شمر فنزل مرج حليمة وهو ينسب إلى حليمة بنت الملك ونزل الملك اللخمي في مرج الصفر فسير الحارث فارسين طليعة أحدهما فارس خصاف وكانت فرسه تجري على ثلاث فلا تلحق فسارا حتى خالطا القوم وقربا من الملك وأمامه شمعة فقتلا حاملها ففزع القوم فاضطربوا بأسيافهم فقتل بعضهم بعضا حتى أصبحوا وأتاهم رسل الحارث ملك غسان بذل الصلح والإتاوة وقال إني باعث رؤوس القبائل لتقرير الحال وندب أصحابه فانتدب له مائة غلام وقيل ثمانون غلاما فألبسهم السلاح وأمر ابنته حليمة أن تطيبهم وتلبسهم ففعلت فلما أمر بها لبيد بن عمرو فارس الزيتية قبلها فأتت أباها باكية فقال هو أسد القوم ولئن سلم لأنكحنه إياك وأمره على القوم وساروا فلما قاربوا العسكر العراقي جمع الملك رؤوس أصحابه وجاءت الغسانيون وعليهم السلاح وقد لبسوا فوقها الثياب والبرانس فلما تتاموا عند الملك أبدوا السلاح فقتلوا من وجدوا وقتل لبيد بن عمرو ملك العراقيين وأحيط بالغسانيين فقتلوا إلا لبيد بن عمرو فإن فرسه لم تبرح، فاستوى

546
عليها، وعاد فأخبر الملك، فقال له: قد أنكحتك ابنتي حليمة فقال لا يتحدث الناس أني فل مائة، ثم عاد إلى القوم فقاتل فقتل وتفقد أهل العراق أشرافهم وإذا بهم قد قتلوا فضعفت نفوسهم لذلك وزحفت إليهم غسان فانهزموا.
قلت: قد اختلف النسابون وأهل السير في مدة الأيام وتقديم بعضها على بعض واختلفوا أيضا في المقتول فيها فمنهم من يقول إن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر ومنهم من يقول بضد ذلك ومنهم من يجعل اليومين واحدا فيقول لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة وقيل إن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما فالصحيح أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء لا شك فيه وأما ابنه ففيه خلاف كثير والأصح أنه لم يقتل ومن أثبت قتله اختلفوا في سببه على ما ذكرناه.
وإنما ذكرت اختلافهم والحادثة واحدة لأن كل سبب منها قد ذكره بعض العلماء فمتي تركنا أحدهما ظن من ليس له معرفة أن كل سبب منها حادث مستقل وقد أهملناه فاتينا بهما جميعا لذلك ونبهنا عليه.
ذكر مقتل مضرط الحجارة
وهو عمرو بن المنذر بن ماء السماء اللخمي صاحب الحيرة وكان يلقب مضرط الحجارة لشدة ملكه وقوة سياسته وأمه هند بنت الحارث بن عمرو

547
المقصور بن آكل المرار وهي عمة امرئ القيس بن حجر بن الحارث.
وكان سبب قتله أنه قال يوما لجلسائه هل تعلمون أن أحدا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل وزوجها كلثوم وابنها عمرو. فسكت مضرط الحجارة على ما في نفسه وبعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند بنت الحارث فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان من بني تغلب ومعه أنه ليلى فنزل على شاطئ الفرات وبلغ عمرو بن هند قدومه فأمر فضربت خيامه بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فصنع لهم طعاما ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق وجلس هو وعمرو بن كلثوم وخواص أصحابه في السرادق ولأمه هند قبة في جانب السرادق وليلى أم عمرو بن كلثوم معها في القبة وقد قال مضرط الحجارة لأمه إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء.
ففعلت هند ما أمرها به ابنها فلما استدعى الطرف فقالت هند لليلى ناوليني ذلك الطبق قالت لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فألحت عليها فقالت ليلى واذلاه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون فعرف عمرو بن هند الشر في وجهه وثار ابن كلثوم إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق وليس هناك سيف غيره فأخذه ثم ضرب به رأس مضرط الحجارة فقتله وخرج فنادى يا آل تغلب فانتبهوا ماله وخيله وسبوا النساء وساروا فلحقوا بالحيرة فقال أفنون التغلبي:

548
(لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا * لتخدم ليلى أمه بموفق)
(فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا * وأمسك من ندمانه بالمخنق)
يوم الكلاب الأول
قال ابن الكلبي أول من اشتد ملكه من كندة حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي فلما هلك ملك بعد أبيه عمرو ومثل ملك أبيه فسمي المقصور لأنه قصر على ملك أبيه فتزوج عمرو أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني فولدت له الحارث فملك بعد أربعين سنة وقيل ستين سنة فخرج يتصيد فرأى عانة وهي حمر الوحش فشد عليها فانفرد منها حمار فتتبعه وأقسم أن لا يأكل شيئا قبل كبده وهو بمسحلان فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته فأتى به وقد كاد يموت من الجوع فشوى على النار وأطعم من كبده وهي حارة فمات وكان الحارث فرق بنيه في القبائل معد فجعل حجرا في بني أسد وكنانة وهو أكبر ولده وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني أسيد بن عمرو بن تميم والرباب وجعل سلمة وهو أصغرهم في بني تغلب والنمر بن قاسط وبني سعد بن زيد مناة بن تميم وجعل ابنه معد يكرب ويعرف بغلفاء في قيس عيلان وقد تقدم هذا في قتل حجر أبي امرئ القيس وإنما أعدناه ههنا للحاجة إليه.

549
فلما هلك الحارث تشتت أمر أولاده وتفرقت كلمتهم ومشى بينهم الرجال وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش فسار شرحبيل فيمن معه وفي الصنائع أيضا وهم قوم كانوا مع الملوك من شذاذ العرب فأقبلوا إلى كلاب وعلى تغلب السفاح بن خالد بن كعب بن زهير فاقتتلوا قتالا شديدا وثبت بعضهم لبعض فلما كان آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل وانهزموا وثبتت بكر وانصرفت بنو سعد ومن معها عن تغلب وصبرت تغلب ونادى منادي شرحبيل من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل ونادى منادي سلمة من أتاني برأس شرحبيل فله مائة من الإبل فكانت الغلبة آخر النهار لتغلب وسلمة ومضى شرحبيل منهزما فتبعه ذو السنينة التغلبي فالتفت إليه شرحبيل فضربه على ركبته فأطن رجله وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه فقال لأخيه قتلني الرجل وهلك ذو السنينة فقال أبو حنش لشرحبيل قتلني الله ان لم أقتلك وحمل عليه فأدركه، فقال: يا أبا حنش اللبن اللبن! يعني الدية. فقال: قد هرقت لبنا كثيرا! فقال: يا أبا حنش أملكا بسوقة؟ فقال: إن أخي ملكي فطعنه فألقاه عن فرسه ونزل إليه فأخذ رأسه وبعث به إلى سلمة مع ابن عم له فأتاه به وألقاه بين يديه فقال سلمة لو كنت ألقيته أرفق من هذا وعرفت الندامة في وجه سلمة والجزع عليه فهرب أبو حنش

550
منه فقال سلمة:
(ألا أبلغ أبا حنش رسولا * فمالك لا تجيء إلى الثواب)
(لتعلم أن خير الناس طرا * قتيل بين أحجار الكلاب)
(تداعت حوله جشم بن بكر * وأسلمه جعاسيس الرباب)
فأجابه أبو حنش فقال:
(أحاذر أن أجيئك ثم تحبو * حباء أبيك يوم صنيبعات)
(وكانت غدرة شنعاء تهفو * تقلدها أبوك إلى الممات)
وكان سبب يوم صنيبعات ان ابنا للحارث كان مسترضعا في تميم وبكر ولدغته حية فمات فأخذ خمسين رجلا من تميم وخمسين رجلا من بكر فقتلهم به ولما قتل شرحبيل قام بنو زيد مناة من تميم دون أهله وعياله فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم ولما بلغ خبر قتله أخاه معد يكرب وهو غلفاء قال يرثيه:
(ان جنبي عن الفراش لنابي * كتجافي الأسر فوق الظراب)
(من حديث نمى إلى فما ترقأ * عيني ولا أسبغ شرابي)
(مرة كالذعاف أكتمها الناس * على حر ملة كالشهاب)

551
(من شرحبيل إذ تعاوره الأرماح * من بعد لذة وشباب)
(يا بن أمي ولو شهدك إذ تدعوا * تميما وأنت غير مجاب)
(ثم طاعنت من ورائك حتى * يبلغ الرحب أو تبز ثيابي)
(أحسنت وائل وعادتها الإحسان * بالحنو يوم ضرب الرقاب)
(يوم فرت بنو تميم وولت * خيلهم يتقين بالأذناب)
وهي طويلة ثم إن تغلب أخرجوا سلمة من بينهم فلجأ إلى بكر بن وائل وانضم إليهم ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس اللخمي.
(الكلاب بضم الكاف. أسيد بن عمرو بضم الهمزة وفتح السين المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت.
وذو السنينة بضم السين المهملة تصغير سن. والرباب بكسر الراء وتخفيف الباء الأولى الموحدة).
يوم أوارة الأول
وهو يوم كان بين المنذر بن امرئ القيس وبين بكر بن وائل وكان سببه أن تغلب لما أخرجت سلمة بن الحارث عنها التجأ إلى بكر بن وائل كما ذكرناه آنفا فلما صار عند بكر أذعنت له وحشدت عليه وقالوا لا يملكنا غيرك فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته فأبوا ذلك فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض.

552
وسار إليهم في جموعه فالتقوا بأوارة فاقتتلوا قتالا شديدا وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر يزيد بن شرحبيل الكندي فأمر المنذر بقتله فقتل وقتل في المعركة بشر كثير وأسر المنذر من بكر أسرى كثيرة فأمر بهم فذبحوا على جبل أوارة فجعل الدم يجمد فقيل له أبيت اللعن لو ذبحت كل بكري على وجه الأرض لم تبلغ دماؤهم الحضيض ولكن لو صببت عليه الماء ففعل فسال الدم إلى الحضيض وأمر بالنساء أن يحرقن بالنار.
وكان رجل من قيس بن ثعلبة منقطعا إلى المنذر فكلمه في سبي بكر بن وائل فأطلقهن المنذر فقال الأعشى يفتخر بشفاعة القيسي إلى المنذر في بكر:
(ومنا الذي أعطاه بالجمع ربه * على فاقة وللملوك هباتها)
(سبايا بني شيبان يوم أوارة * على النار إذ تجلى به فتيانها)
يوم أوارة الثاني
كان عمرو بن المنذر اللخمي قد ترك ابنا له اسمه أسعد عند زرارة بن عدس التميمي فلما ترعرع مرت به ناقة سمينة فبعث بها فرمى ضرعها فشد عليه ربها سويد أحد بني عبد الله بن دارم التميمي فقتله وهرب فلحق بمكة فحالف قريشا وكان عمرو بن المنذر غزا قبل ذلك ومعه زرارة.

553
فأخفق فلما كان حيال جبلي طيء قال له زرارة أي ملك إذا غزا لم يرجع ولم يصب فمل على طيء فإنك بحيالها فمال إليهم فأسر وقتل وغنم فكانت في صدور طيء على زرارة فلما قتل سويد أسعد وزرارة يومئذ عند عمرو فقال له عمرو بن ملقط الطائي يحرض عمرا على زرارة:
(من مبلغ عمرا بأن * المرء لم يخلق صباره)
(ها أن عجزة أمع * بالسفح أسفل من أواره)
(فاقتل زرارة لا أرى * في القوم أوفى من زراره)
فقال عمرو: يا زرارة ما تقول؟ قال كذب قد علمت عداوتهم فيك قال: صدقت. فلما جن الليل سار زرارة إلى قومه ولم يلبث أن مرض فلما حضرته الوفاة قال لابنه يا حاجب ضم إليك غلمتي في بني نهشل وقال لابن أخيه عمرو بن عمرو عليك بعمرو بن ملقط فإنه حرض علي الملك فقال له يا عماه لقد أسندت إلي أبعدهما شقة وأشدهما شوكة.
فلما مات زرارة تهيأ عمرو بن عمرو في جمع وغزا طيئا فأصاب الطريفين طريف بن مالك وطريف بن عمرو وقتل الملاقط فقال علقمة بن عبدة في ذلك:
(ونحن جلبنا من ضرية خيلنا * نجنبها حد الأكام قطاقطا)
(أصبنا الطريف والطريف بن مالك * وكان شفاء الواصبين الملاقطا)

554
فلما بلغ عمرو بن المنذر وفاة زرارة غزا بني دارم وقد كان حلف ليقتلن منهم مائة فسار يطلبهم حتى بلغ أوارة وقد أنذروا به فتفرقوا فأقام مكانه وبث سراياه فيهم فأتوه بتسعة وتسعين رجلا سوى من قتلوه في غاراتهم فقتلهم فجاء رجل من البراجم شاعر ليمدحه فاخذه ليقتله ليتم مائة ثم قال إن الشقي وافد البراجم فذهبت مثلا.
وقيل إنه نذر أن يحرقهم فلذلك سمي محرقا فأحرق منهم تسعة وتسعين رجلا واجتاز رجل من البراجم فشم قتار اللجم فظن أن الملك يتخذ طعاما فقصده فقال من أنت فقال أبيت اللعن أنا وافد البراجم فقال إن الشقي وافد البراجم ثم أمر به فقذف في النار فقال جرير للفرزدق:
(أين الذين بنار عمرو أحرقوا * أم أين أسعد فيكم المسترضع)
وصار تميم بعد ذلك يعيرون بحب الأكل لطمع البرجمي في الأكل فقال بعضم:
(إذا ما مات ميت من تميم * فسرك أن يعيش فجئ بزاد)
(بخبز أو بلحم أو بتمر * أو الشيء الملفف في البجاد)
(تراه ينقب البطحاء حولا * ليأكل رأس لقمان بن عاد)
قيل: دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية ما الشيء الملفف في البجاد يا أبا بحر؟ قال السخينة يا أمير المؤمنين: والسخينة طعام تعير به قريش كما كانت تعير تميم بالملفف في البجاد قال فلم ير متمازحان أوقر منهما.

555
ذكر قتل زهير بن جذيمة وخالد بن جعفر بن كلاب
والحارث بن ظالم المري وذكر يوم الرحرحان
كان زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس العبسي هو والد قيس بن زهير صاحب حرب داحس والغبراء سيد قيس عيلان فتزوج إليه ملك الحيرة وهو النعمان بن امرئ القيس جد النعمان بن المنذر لشرفه وسؤدده فأرسل النعمان إلى زهير يستزيره بعض أولاده فأرسل ابنه شأسا وكأن أصغر ولده فأكرمه وحباه فلما انصرف إلى أبيه كساه حللا وأعطاه مالا طيبا فخرج شأس يريد قومه فبلغ ماء من مياه غني بن أعصر فقتله رباح بن الأشل الغنوي وأخذ ما كان معه وهو لا يعرفه وقيل لزهير إن شأسا أقبل من عند الملك وكان آخر العهد به بماء من مياه غني فسار زهير إلى ديار غني وهم حلفاء في بني عامر بن صعصعة فاجتمعوا عنده فسألهم عن ابنه فحلفوا أنهم لم يعلموا خبره قال لكني أعلمه فقال له أبو عامر فما الذي يرضيك منا قال واحدة من ثلاث إما تحيون ولدي وإما تسلمون إلي غنيا حتى أقتلهم بولدي وإما الحرب بيننا وبينكم ما بقينا وبقيتم. فقالوا: ما جعلت لنا في هذه مخرجا أما إحياء ولدك فلا يقدر عليه إلا الله وأما تسليم غني إليك فهم يمتنعون مما يمتنع منه الأحرار وأما الحرب بيننا فوالله إننا لنحب رضاك ونكره سخطك ولكن إن شئت الدية وإن شئت تطلب قاتل ابنك فنسلمه إليك أو تهب دمه فإنه لا يضيع في القرابة والجوار.
فقال ما أفعل إلا ما ذكرت فلما رأى خالد بن جعفر بن كلاب تعدي

556
زهير على أخواله من غني قال والله ما رأينا كاليوم تعدي رجل على قومه. فقال له زهير: فهل لك أن تكون طلبتني عندك وأترك غنيا؟ قال: نعم؛ قال: فانصرف زهير وهو يقول:
(فلولا كلاب قد أخذت قرينتي * برد غني أعبدا ومواليا)
(ولكن حمتهم عصبة عامرية * يهزون في الأرض القصار العواليا)
(مساعير في الهيجا مصاليت في الوغى * أخوهم عزيز لا يخاف الأعاديا)
(يقيمون في دار الحفاظ تكرما * إذا افني القوم أضحت خواليا)
ثم إنه أرسل امرأة وأمرها أن تكتم نسبها وأعطاها لحم جزور سمينة وسيرها إلى غني لتبيع اللحم بطيب وتسأله عن حال ولده فانطلقت المرأة إلى غني وفعلت ما أمرها فانتهت إلى امرأة رباح بن الأشل وقالت لها قد زوجت بنتا لي وأبغي الطيب بهذا اللحم فأعطتها طيبا وحدثتها بقتل زوجها شأسا فعادت المرأة إلى زهير وأخبرته فجمع خيله وجعل يغير على غني حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ووقعت الحرب بين بني عبس وبني عامر وعظم الشر.
ثم إن زهير أخرج في بنيته وأهل بيته في الشهر الحرام إلى عكاظ. فالتقى هو وخالد بن جعفر بن كلاب فقال له خالد لقد طال شرنا منك يا زهير فقال زهير أما والله ما دامت لي قوة أدرك بها ثارا فلا انصرام له وكانت هوازن تؤتي زهير بن جذيمة الأتاوة كل سنة بعكاظ وهو يسومها الخسف وفي أنفسها منه غيظ وحقد ثم عاد خالد وزهير إلى قومهما فسبق خالد إلى بلاد هوازن فجمع إليه قومه وندبهم إلى قتال زهير فأجابوه وتأهبوا

557
للحرب وخرجوا يريدون زهيرا وهم على طريقه وسار زهير حتى نزل على أطراف بلاد هوازن فقال له ابنه قيس انج بنا من هذه الأرض فإنا قريب من عدونا. فقال له: يا عاجز وما الذي تخوفني به من هوازن وتتقي شرها فأنا أعلم الناس بها. فقال ابنه دع عنك اللجاج وأطعني وسر بنا فإني خائف عاديتهم.
وكانت تماضر بنت الشريد بن رباح بن يقظة بن عصية السلمية أم ولد زهير وقد أصاب بعض اخوتها دما فلحقت ببني عامر وكان فيهم فأرسله خالدا عينا ليأتيه بخبر زهير فخرج حتى أتاهم في منزلهم فعلم قيس بن زهير حاله وأراد هو وأبوه أن يوثقوه ويأخذوه معهم إلى أن يخرجوا من أرض هوازن فمنعت أخته فأخذوا عليه العهود أن لا يخبر بهم وأطلقوه فسار إلى خالد ووقف إلى شجرة يخبرها الخبر فركب خالد ومن معه إلى زهير وهو غير بعيد منهم فاقتتلوا قتالا شديدا والتقى خالد وزهير فاقتتلا طويلا ثم تعانقا فسقطا على الأرض وشد ورقاء بن زهير على خالد وضربه بسيفه فلم يصنع شيئا لأنه قد ظاهر بين درعين وحمل جندح بن البكاء وهو ابن امرأة خالد على زهير فقتله وهو وخالد يعتركان فثار خالد عنه وعادت هوازن إلى منازلها وحمل بنو زهير أباهم إلى بلادهم فقال ورقاء بن زهير في ذلك:
(رأيت زهيرا تحت كلكل خالد * فأقبلت أسعى كالعجول أبادر)
(إلى بطلين يعتران كلاهما * يريد رياش السيف والسيف نادر)
(فشلت يميني يوم أضرب خالدا * ويمنعه مني الحديد المظاهر)

558
(فياليت أين قبل أيام خالد * وقبل زهير لم تلدني تماضر)
(لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني * فماذا الذي ردت عليك البشائر)
(فلا يدعني قومي صريحا بحرة * لأن كنت مقتولا ويسلم عامر)
(فطر خالد إن كنت تستطيع طيرة * ولا تقعا إلا وقلبك حاذر)
(أتتك المنايا إن بقيت بضربة * تفارق منها العيش والموت حاضر)
وقال خالد يمن على هوازن بقتله زهيرا:
(أبلغ هوازن كيف تكفر بعدما * أعتقتهم فتوالدوا أحرارا)
(وقتلت ربهم زهيرا بعدما * جدع الأنوف وأكثر الأوتارا)
(وجعلت مهر نسائهم ودياتهم * عقل الملوك هجائنا وبكارا)
وكان زهير سيد غطفان فعلم خالد أن غطفان ستطلبه بسيدها فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بالحيرة فاستجاره فأجاره فضرب له قبة وجمع بنو زهير لهوازن. فقال الحارث بن ظالم المري: اكفوني حرب هوازن فأنا أكفيكم خالد بن جعفر.
وسار الحارث حتى قدم على النعمان فدخل عليه وعنده خالد وهما يأكلان تمرا فأقبل النعمان يسائله فحسده خالد فقال النعمان أبيت اللعن هذا رجل لي عنده يد عظيمة قتلت زهيرا وهو سيد غطفان فصار هو سيدها فقال الحارث سأجزيك على يدك عندي وجعل الحارث يتناول التمر ليأكله فيقع من بين أصابعه من الغضب فقال عروة لأخيه خالد ما أردت بكلامه وقد عرفته فتاكا فقال خالد وما يخوفني منه فوالله لو رآني نائما ما أيقظني.
ثم خرج خالد وأخوه إلى قبتهما فشرجاها عليهما ونام خالد وعروة عند رأسه يحرسه فلما أظلم الليل انطلق الحارث إلى خالد فقطع شرج

559
القبة ودخلها وقال لعروة لئن تكلمت قتلتك ثم أيقظ خالدا فلما استيقظ قال أتعرفني قال أنت الحارث قال خذ جزاء يدك عندي وضربه بسيف المعلوب فقتله ثم خرج من القبة وركب راحلته وسار وخرج عروة من القبة يستغيث وأتى باب النعمان فدخل عليه وأخبره الخبر فبث الرجال في طلب الحارث.
قال الحارث: فلما سرت قليلا خفت أن أكون لم أقتله فعدت متنكرا واختلطت بالناس ودخلت عليه فضربته بالسيف حتى تيقنت أنه مقتول وعدت فلحقت بقومي فقال عبد الله بن جعدة الكلابي:
(يا حار لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعشا ولا معزالا)
(شقت عليه الجعفرية جيبها * جزعا وما تبكي هناك ضلالا)
(فانعوا أبا بحر بكل مجرب * حران يحسب في القناة هلالا)
(فليقتلن بخالد سرواتكم * وليجعلن لظالم تمثالا)
فأجابه الحارث:
(تالله قد نبهته فوجدته * رخو اليدين مواكلا عسقالا)
(فعلوته بالسيف أضرب رأسه * حتى أضل بسلحه السربالا)
فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد فلحق بتميم فاستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم فأجاره على النعمان وهوازن فلما علم النعمان ذلك جهز جيشا إلى بني دارم عليهم ابن الحمس التغلبي وكان يطلب الحرث بدم أبيه لأنه كان قتله.

560
ثم ان الأحوص بن جعفر أخا خالد جمع بني عامر وسار بهم فاجتمعوا هم وعسكر النعمان على بني دارم وساروا فلما صاروا بأدنى مياه بني دارم رأوا امرأة تجني الكمأة ومعها جمل لها فأخذها رجل من غني وتركها عنده فلما كان الليل نام فقامت إلى جملها فركبته وسارت حتى صبحت بني دارم وقصدت سيدهم زرارة بن عدس فأخبرته الخبر وقالت أخذني أمس قوم لا يريدون غيرك ولا أعرفهم. قال فصفيهم لي. قالت رأيت رجلا قد سقط حاجباه فهو يرفعهما بخرقة صغير العينين وعن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص وهو سيد القوم قالت ورأيت رجلا قليل المنطق إذا تكلم اجتمع القوم كما تجتمع الإبل لفحلها أحسن الناس وجها ومعه ابنان له يلازمانه قال ذاك مالك بن جعفر وابناه عامر وطفيل قالت ورأيت رجلا جسيما كأن لحيته محمرة معصفرة قال ذاك عوف بن الأحوص قالت ورأيت رجلا هلقاما جسيما قال ذاك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. قالت: ورأيت رجلا أسود أخنس قصيرا قال ذاك ربيعة بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر قالت ورأيت رجلا أقرن الحاجبين كثير شعر السبلة يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم قال ذاك جندح بن البكاء قالت ورأيت رجلا صغير العينين ضيق الجبهة يقود فرسا له معه جفير لا يفارق يده قال ذاك ربيعة بن عقيل بن كعب قالت ورأيت رجلا معه ابنان أصبهان إذا أقبلا رماهما الناس بأبصارهم فإذا أدبرا كانا كذلك قال ذاك الصعق بن عمرو بن خويلد بن نفيل وابناه يزيد وزرعة قالت ورأيت رجلا لا يقول كلمة إلا وهي أحد من شفرة قال ذاك عبد الله بن جعدة بن كعب.
وأمرها زرارة فدخلت بيتها وأرسل زرارة إلى الرعاء يأمرهم بإحضار

561
الإبل ففعلوا وأمرهم فحملوا الأهل والأثقال وساروا نحو بلاد بغيض وفرق الرسل في بني مالك ين حنظلة فأتوه فأخبرهم الغنوي حال الظعينة وهربها فسقط في أيديهم واجتمعوا يريدون الرأي فقال بعضهم كأني بالظعينة قد أتت قومها فأخبرتهم الخبر فحذروا وأرسلوا أهليهم وأموالهم إلى بلاد بغيض وباتوا معدين لكم في السلاح فاركبوا بنا في طلب نعمهم وأموالهم فإنهم لا يشعرون حتى نصيب حاجتنا وننصرف فركبوا يطلبون ظعن بني دارم فلما أبطأ القوم عن زرارة قال لقومه إن القوم قد توجهوا إلى ظعنكم وأموالكم فسيروا إليهم فساروا مجدين فلحقوهم قبل أن يصلوا إلى الظعن والنعم فاقتتلوا قتالا شديدا فقتلت بنو مالك بن حنظلة بن الحمس التغلبي رئيس جيش النعمان وأسرت بنو عامر معبد بن زرارة وصبر بنو دارم حتى انتصف النهار وأقبل قيس بن زهير فيمن معه من ناحية أخرى فانهزمت بنو عامر وجيش النعمان وعادوا إلى بلادهم ومعبد أسير مع بني عامر فبقي معهم حتى مات.
وفي تلك الأيام أيضا مات زرارة بن عدس.
وقيل في استجارة الحارث ببني تميم غير ذلك وهو أن النعمان طلب شيئا يغيظ به الحارث بعد قتل خالد وهربه فقيل له كان قصد الحيرة ونزل على عياض بن وهب التميمي وهو صديق له فبعث إليه النعمان فأخذ إبلا له فركب الحارث وأتى الحيرة متخفيا واستنقذ ماله من الرعاة ورده عليه وطلب شيئا يغيظ به النعمان فرأى ابنه غضبان فضرب رأسه بالسيف

562
فقتله وبلغ النعمان الخبر فبعث في طلبه فلم يدركه فقال الحارث في ذلك:
(أخصى حمار بات يكدم نجمة * أتؤكل جاراتي وجارك سالم)
(فإن تك أذوادا أصبت ونسوة * فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم)
(علوت بذي الحيات مفرق رأسه * ولا يركب المكروه الا الأكارم)
(فتكت به كما فتكت بخالد * وكان سلاحي تحتويه الجماجم)
(بدأت بتلك وانشنيت بهذه * وثالثة تبيض منها المقادم)
(حسبت أبا قابوس أنك مخفري * ولما تذق ثكلا وأنفك راغم)
كذا قال بعضهم وقيل إن المقتول كان شرحبيل بن الأسود بن المنذر وكان الأسود قد ترك ابنه شرحبيل عند سنان بن أبي حارثة المري ترضعه زوجته فمن هناك كان لسنان مال كثير وكان ابنه هرم يعطى منه فجاء الحارث متخفيا فاستعار سرج سنان وسنان لا يعلم ثم أتى امرأة سنان فقال يقول بعلك ابعثي بشرحبيل بن الملك من الحارث بن ظالم حتى يستأمن به ويتخفر به وهذا سرجه علامة فزينته ودفعته إليه فأخذه وقتله وهرب فغزا الأسود بني ذبيان وبني أسد بشط أربل فقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى واستأصل الأموال وأقسم ليقتلن الحارث فسار الحارث متخفيا إلى الحيرة ليفتك بالأسود فبينما هو في منزله إذ سمع صارخة تقول أنا في جوار الحارث بن ظالم وعرف حالها وكان الأسود قد أخذ لها صرمة من الإبل فقال لها انطلقي غدا إلى مكان كذا وأتاه الحارث فلما وردت إبل النعمان أخذ مالها فسلمه إليها وفيها ناقة تسمى اللقاع فقال الحارث في ذلك:

563
(إذا سمعت حنة اللقاع * فادعي أبا ليلى فنعم الداعي)
(يمشي بعضب صارم قطاع * يفري به مجامع الصداع)
ثم أقبل يطلب مجيرا فلم يجره أحد من الناس وقالوا من يجيرك على هوازن والنعمان وقد قتلت ولده؟ فأتى زرارة بن عدس وضمرة بن ضمرة فأجاراه على جيمع الناس.
ثم إن عمرو بن الأطنابة الخزرجي لما بلغه قتل خالد بن جعفر وكان صديقا له قال والله لو وجده يقظان ما أقدم عليه ولوددت أني لقيته. وبلغ الحارث قوله وقال والله لآتينه في رحله ولا ألقاه إلا ومعه سلاحه فبلغ ذلك ابن الإطنابة فقال أبياتا منها:
(أبلغ الحارث بن ظالم الموعد * والناذر النذور عليا)
(إنما تقتل النيام ولا تقتل * يقظان ذا سلاح كميا)
فبلغ الحارث شعره فسار إلى المدينة وسأل عن منزل ابن الإطنابة فلما دنا منه نادى يا بن الإطنابة أغثني فأتاه عمرو فقال من أنت قال رجل من بني فلان خرجت أريد بني فلان فعرض لي قوم قريبا منك فأخذوا ما كان معي فاركب معي حتى نستنقذه فركب معه ولبس سلاحه ومضى معه فلما أبعد عن منزله عطف عليه وقال أنائم أنت أم يقظان فقال يقظان فقال أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب فألقى ابن الإطنابة سيفه وقيل رمحه وقال قد أعجلتني فأمهلني حتى آخذ سيفي فقال خذه قال أخاف أن تعجلني عن أخذه قال لك ذمة ظالم لا أعجلك عن أخذه

564
قال: فوذمة الأطنابة لا آخذه فانصرف الحارث وهو يقول أبياتا منها:
(بلغتنا مقالة المرء عمرو * فالتقينا وكان ذاك بديا)
(فهممنا بقتله إذ برزنا * ووجدناه ذا سلاح كميا)
(غير ما نائم يروع بالفتك * ولكن مقلدا مشرفيا)
(فمننا عليه بعد علو * بوفاء وكنت قدما وفيا)
ثم إن الحارث لما علم أن النعمان قد جد في طلبه وهوازن لا تقعد عن الطلب بثأر خالد خرج متنكرا إلى الشام واستجار بيزيد بن عمرو فأكرمه وأجاره وكان ليزيد ناقة محماة في عنقها مدية وزناد وملح ليمتحن بذلك رعيته فوحمت زوجة الحارث واشتهت شحما ولحما فأخذ الحارث الناقة فأدخلها شعبا فذبحها وحمل إلى امرأته من شحمها ولحمها ورفع منه وفقدت الناقة فطلبت فوجدت عقيرة بالوادي فأرسل الملك إلى كاهن فسأله عنها فذكر له الحارث نحرها فأرسل امرأة بطيب تشتري من لحمها من امرأة الحارث فأدركها الحارث وقد اشترت اللحم فقتلها ودفنها في البيت فسأل الملك الكاهن عن المرأة فقال قتلها من نحر الناقة وإذا كرهت أن تفتش بيته فتأمر الرجل بالرحيل فإذا رحل فتشت بيته ففعل ذلك فلما رحل الحارث فتش الكاهن بيته فوجد المرأة وأحس الحارث بالشر فعاد إلى الكاهن فقتله فأخذ الحارث وأحضر عند الملك فأمر بقتله فقال إنك قد أجرتني فلا تغدر بي. فقال إن غدرت بك مرة واحدة فقد غدرت بي مرارا فقتله

565
أيام داحس والغبراء وهي بين عبس وذبيان
وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر والأخذ بثأر أبيه فأتى أحيحة بن الجلاح يشتري منه درعا موصوفة فقال له لا أبيعها ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك ولكن اشترها بابن لبون ففعل ذلك وأخذ الدرع وتسمى ذات الحواشي ووهبه أحيحة أيضا أدراعا وعاد إلى قومه وقد فرغ من جهازه فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره فأجابه إلى ذلك فلما أراد فراقه نظر الربيع إلى عيبته فقال ما في حقيبتك؟ قال: متاع عجيب لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته. فأخرج الدرع من الحقيبة فأبصرها الربيع فأعجبته ولبسها فكانت في طوله فمنعها من قيس ولم يعطه إياها وترددت الرسل بينهما في ذلك ولج قيس في طلبها ولج الربيع في منعها فلما طالت الأيام على ذلك سير قيس أهله إلى مكة وأقام ينتظر غرة الربيع ثم إن الربيع سير إبله وأمواله إلى مرعى كثير الكلأ وأمر أهله فظعنوا وركب فرسه وسار إلى المنزل فبلغ الخبر قيسا فسار في أهله وإخوته فعارض ظعائن الربيع وأخذ زمام أمه فاطمة بنت الخرشب وزمام زوجته فقالت فاطمة أم الربيع ما تريد يا قيس قال أذهب بكن إلى مكة فأبيعكن بسبب درعي قالت وهي من ضماني وخل عنا ففعل فلما جاءت إلى ابنها قالت له في معنى الدرع فحلف أنه لا يرد الدرع فأرسلت إلى قيس

566
أعلمته بما قال الربيع فأغار على نعم الربيع فاستاق منها أربعمائة بعير وسار بها إلى مكة فباعها واشترى بها خيلا وتبعه الربيع فلم يلحقه فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.
وقيل إن داحسا كان من خيل بني يربوع وإن أباه كان أخذ فرسا لرجل من بني ضبة يقال له أنيف بن جبلة وكان الفرس يسمى السبط وكانت أم داحس لليربوعي فطلب اليربوعي من الضبي أن ينزي فرسه على حجره فلم يفعل فلما كان الليل عمد اليربوعي إلى فرس الضبي فأخذه فأنزاه على فرسه فاستيقظ الضبي فلم ير فرسه فنادى في قومه فأجابوه وقد تعلق باليربوعي فأخبرهم الخبر فغضبت ضبة من ذلك فقال لهم لا تعجلوا دونكم نطفة فرسكم فخذوها. فقال القوم قد أنصف فسطا عليها رجل من القوم فدس يده في رحمها فأخذ ما فيها فلم تزد الفرس إلا لقاحا فنتجت مهرا فسمي داحسا بهذا السبب.
فكان عند اليربوعي ابنان له وأغار قيس بن زهير على بني يربوع فنهب وسبى ورأى الغلامين أحدهما على داحس والآخر على الغبراء فطلبهما فلم يلحقهما فرجع وفي السبي أم الغلامين وأختان لهما وقد وقع داحس والغبراء في قلبه وكان ذلك قبل أن يقع بينه وبين الربيع ما وقع ثم جاء وفد بني يربوع في فداء الأسرى والسبي فأطلق الجميع إلا أم الغلامين وأختيهما وقال إن أتاني الغلامان بالمهر والفرس الغبراء وإلا فلا فامتنع الغلامان من ذلك فقال شيخ من بني يربوع كان أسيرا عند قيس أبياتا وبعث بها إلى الغلامين وهي:
(إن مهرا فدا الرباب وحملا * وسعاد الخير مهر أناس)

567
(ادفعوا داحسا بهن سراعا * إنها من فعالها الأكياس)
(دونها والذي يحج له الناس * سبايا يبعن بالأفراس)
(إن قيسا يرى الجواد من الخيل * حياة في متلف الأنفاس)
(يشتري الطرف بالجراجرة الجلة * يعطي عفوا بغير مكاس)
فلما انتهت الأبيات إلى بني يربوع قادوا الفرسين إلى قيس وأخذوا النساء.
وقيل: إن قيسا أنزى داحسا على فرس له فجاءت بمهرة فسماها الغبراء ثم إن قيسا أقام بمكة فكان أهلها يفاخرونه وكان فخورا فقال لهم نحوا كعبتكم عنا وحرمكم عنا وهاتوا ما شئتم فقال له عبد الله بن جدعان إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور وبالحرم الآمن فيم نفاخرك فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة عنهم وسر ذلك قريشا لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته فقال لأخوته ارحلوا بنا من عندهم أولا وإلا تفاقم الشر بنا وبينهم والحقوا ببني بدر فإنهم أكفاؤنا في الحسب وبنو عمنا في النسب وأشراف قومنا في الكرم ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم فلحق قيس وإخوته ببني بدر وقال في مسيره إليهم:
(أسير إلى بني بدر بأمر * هم فيه علينا بالخيار)
(فإن قبلوا الجوار فخير قوم * وإن كرهوا الجوار فغير عار)
(أتينا الحرث الخير بن كعب * بنجران وأي لجا بجار)
(فجاورنا الذين إذا أتاهم * غريب حل في سعة القرار)
(فيأمن فيهم ويكون منهم * بمنزلة الشعار من الدثار)

568
(وإن نفرد بحرب بني أبينا * بلا جار فإن الله جاري)
ثم نزل ببني بدر فنزل بحذيفة فأجاره هو وأخوه حمل بن بدر وأقام فيهم وكان معه أفراس له ولإخوته لم يكن في العرب مثلها وكان حذيفة يغدو ويروح إلى قيس فينظر إلى خيله فيحسده عليها ويكتم ذلك في نفسه وأقام قيس فيهم زمانا يكرمونه وإخوته فغضب الربيع ونقم ذلك عليهم وبعث إليهم بهذه الأبيات:
(ألا أبلغ بني بدر رسولا * على ما كان من شنأ ووتر)
(بأني لم أزل لكم صديقا * أدافع عن فزارة كل أمر)
(أسالم سلمكم وأرد عنكم * فوارس أهل نجران وحجر)
(وكان أبي ابن عمكم زياد * صفي أبيكم بدر بن عمرو)
(فألجأتم أخا الغدرات قيسا * فقد أفعمتم إيغار صدري)
(فحسبي من حذيفة ضم قيس * وكان البدء من حمل بن بدر)
(فاما ترجعوا أرجع إليكم * وإن تابوا فقد أوسعت عذري)
فلم يتغيروا عن جوار قيس فغضب الربيع وغضبت عبس لغضبه ثم إن حذيفة كره قيسا وأراد إخراجه عنهم فلم يجد حجة وعزم قيس على العمرة فقال لأصحابه إني قد عزمت على العمرة فإياكم أن تلابسوا حذيفة بشيء واحتملوا كل ما يكون منه حتى أرجع فإني قد عرفت الشر في وجهه وليس يقدر على حاجته منكم إلا [أن] تراهنوه على الخيل وكان ذا رأي لا يخطأ فيما يريده وسار إلى مكة ثم إن فتى من عبس يقال له ورد بن مالك أتى حذيفة فجلس إليه فقال له ورد لو اتخذت من خيل قيس فحلا يكون أصلا لخيلك فقال حذيفة: خيلي خير من خيل قيس ولجأ في ذلك إلى أن تراهنا على فرسين من خيل قيس وفرسين من خيل حذيفة،

569
والرهن عشرة أذواد.
وسار ورد فقدم قيس بمكة فأعلمه الحال فقال له أراك قد أوقعتني في بني بدر ووقعت معي وحذيفة ظلوم لا تطيب نفسه بحق ونحن لا نقر له بضيم. ورجع قيس من العمرة فجمع قومه وركب إلى حذيفة وسأله أن يفك الرهن فلم يفعل فسأله جماعة فزارة وعبس فلم يجب إلى ذلك وقال إن أقر قيس أن السبق لي وإلا فلا فقال أبو جعدة الفزاري:
(آل بدر دعوا الرهان فإنا * قد مللنا اللجاج عند الرهان)
(ودعوا المرء في فزارة جارا * إن ما غاب عنكم كالعيان)
(ليت شعري عن هاشم وحصين * وابن عوف وحارث وسنان)
(حين يأتيهم لجاجك قيسا * وأي صاح أتيت أم نشوان)
وسأل حذيفة اخوته وسادات أصحابه في ترك الرهان ولج فيه وقال قيس: علام تراهني؟ قال: على فرسيك داحس والغبراء وفرسي الخطار والحنفاء وقيل كان الرهن على فرسي داحس والغبراء قال قيس داحس أسرع، وقال حذيفة: الغبراء أسرع وقال لقيس أريد أن أعلمك أن بصري بالخيل أثقب من بصرك والأول أصح. فقال له قيس: نفس في الغاية وارفع في السبق فقال حذيفة الغاية من إبلي إلى ذات الإصاد وهو قدر مائة وعشرين غلوة والسبق مائة بعير وضمروا الخيل فلما فرغوا قادوا الخيل إلى الغاية وحشدوا ولبسوا السلاح وتركوا السبق على يد عقال بن مروان بن الحكم القيسي وأعدوا الأمناء على إرسال الخيل.

570
وأقام حذيفة رجلا من بني أسد في الطريق وأمره أن يلقى داحسا في وادي ذات الإصاد إن مر به سابقا فيرمي به إلى أسفل الوادي.
فلما أرسلت الخيل سبقها داحس سبقا بينا والناس ينظرون إليه وقيس وحذيفة على رأس الغاية في جميع قومهما فلما هبط داحس في الوادي عارضه الأسدي فلطم وجهه فألقاه في الماء فكاد يغرق هو وراكبه ولم يخرج إلا وقد فاتته الخيل وأما راكب الغبراء فإنه خالف طريق داحس لما رآه قد أبطأ وعاد إلى الطريق واجتمع مع فرسي حذيفة ثم سقطت الحنفاء وبقي الغبراء والخطار فكانا إذا أحزنا سبق الخطار وإذا أسهلا سبقت الغبراء فلما قربا من الناس وهما في وعث من الأرض تقدم الخطار فقال حذيفة سبقتك يا قيس فقال رويدك يعلون الجدد فذهبت مثلا فلما استوت بهما الأرض قال حذيفة خدع والله صاحبنا فقال قيس ترك الخداع من أجرى من مائة وعشرين فذهبت مثلا.
ثم إن الغبراء جاءت سابقة وتبعها الخطار فرس حذيفة ثم الحنفاء له أيضا ثم جاء داحس بعد ذلك والغلام يسير به على رسله فأخبر الغلام قيسا بما صنع بفرسه فأنكر حذيفة ذلك وادعى السبق ظلما وقال جاء فرساي متتابعتين ومضى قيس وأصحابه حتى نظروا إلى القوم الذين حبسوا داحسا واختلفوا.
وبلغ الربيع بن زياد خبرهم فسره ذلك وقال لأصحابه هلك والله قيس وكأني به إن لم يقتله حذيفة وقد أتاكم يطلب منكم الجوار أما والله لئن فعل ما لنا من ضمه من بد.
ثم إن الأسدي ندم على حبس داحس فجاء إلى قيس واعترف بما

571
صنع، فسبه حذيفة.
ثم أن بني بدر قصروا بقيس وإخوته وآذوهم بالكلام فعاتبهم قيس فلم يزدادوا إلا بغيا عليه وبذاء له.
ثم إن قيسا وحذيفة تناكرا في السبق حتى هما بالمؤاخذة فمنعهما الناس وظهر لهم بغي حذيفة وظلمه ولج في طلب السبق فأرسل ابنه ندبة إلى قيس يطالبه به فلما أبلغه الرسالة طعنه فقتله وعادت فرسه إلى أبيه. ونادى قيس يا بني عبس الرحيل فرحلوا كلهم ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل فصاح في الناس وركب فيمن معه وأتى منازل عبس فرآها خالية ورأى ابنه قتيلا فنزل إليه وقبله بين عينيه ودفنوه.
وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجا في فزارة وهو نازل فيهم فأرسل إليه قيس إني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت فالحق بنا وإلا قتلت فقال إنما ذنب قيس عليه ولم يرحل فأرسل قيس إلى الربيع بن زياد يطلب منه العود إليه والمقام معه إذ هم عشيرة وأهل فلم يجبه ولم يمنعه وكان مفكرا في ذلك.
ثم أن بني بدر قتلوا مالك بن زهير أخا قيس وكان نازلا فيهم فبلغه مقتله بني عبس والربيع بن زياد فاشتد ذلك عليهم وأرسل الربيع إلى قيس عينا يأتيه بخبره فسمعه يقول:
(أينجو بنو بدر بمقتل مالك * ويخذلنا في النائبات ربيع)
(وكان زياد قبله يتقي به * من الدهر أن يوم ألم فظيع)
(فقل لربيع يحتذي فعل شيخه * وما الناس إلا حافظ ومضيع)
(وإلا فما لي في البلاد إقامة * وأمر بني بدر علي جميع)

572
فرجع الرجل إلى الربيع فأخبره فبكى الربيع على مالك وقال:
(منع الرقاد فما أغمض ساعة * جزعا من الخبر العظيم الساري)
(أفبعد مقتل مالك بن زهير * يرجو نسوتنا عواقب الأطهار)
(من كان محزونا بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار)
(يجد النساء حواسرا يندبنه * ويقمن قبل تبلج الأسحار)
(يضربن حر وجوههن على فتى * ضخم الدسيعة غير ما خوار)
(قد كن يكنن الوجوه تسترا * فاليوم حين برزن للنظار)
وهي طويلة:
فسمعها قيس فركب هو وأهله وقصدوا الربيع بن زياد وهو يصلح سلاحه فنزل إليه قيس وقام الربيع فاعتنقا وبكيا وأظهرا الجزع لمصاب مالك ولقي القوم بعضم بعضا فنزلوا فقال قيس للربيع إنه لم يهرب منك من لجأ إليك ولم يستغن عنك من استعان بك وقد كان لك شر يومي فليكن لي خير يوميك وإنما أنا بقومي وقومي بك وقد أصاب القوم مالكا لست أهم بسوء لأني إن حاربت بني بدر نصرتهم بنو ذبيان وإن حاربتني خذلني بنو عبس إلا أن تجمعهم علي وأنا والقوم في الدماء سواء قتلت ابنهم وقتلوا أخي فإن نصرتني طمعت فيهم وإن خذلتني طمعوا في. فقال الربيع يا قيس إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل ما لا أراه لي،

573
ولا ينفعك أن ترى لي مالا أراه لك وقد مال علي قتل مالك وأنت ظالم ومظلوم ظلموك في جوادك وظلمتهم في دمائهم وقتلوا أخاك بابنهم فإن يبؤ الدم بالدم فعسى أن تلقح الحرب أقم معك وأحب الأمرين إلى مسالمتهم ونخلو بحرب هوازن وبعث قيس إلى أهله وأصحابه فجاؤوا ونزلوا مع الربيع وأنشدهم عنترة بن شداد مرثية في مالك:
(فلله عينا من رأى مثل مالك * عقيرة قوم إن جرى فرسان)
(فليتهما لم يطعما الدهر بعدها * وليتهما لم يجمعا لرهان)
(وليتهما ماتا جميعا ببلدة * وأخطاهما قيس فلا يريان)
(لقد جلبا جلبا لمصرع مالك * وكان كريما ماجدا لهجان)
(وكان إذا ما كان يوم كريهة * فقد علموا أني وهو فتيان)
(وكنا لدى الهيجاء نحمي نساءنا * ونضرب عند الكرب كل بنان)
(فسوف ترى إن كنت بعدك باقيا * وأمكنني دهري وطول زماني)
(فاقسم حقا لو بقيت لنظرة * لقرت بها العينان حين تراني)
وقد بلغ حذيفة أن الربيع وقيسا اتفقا فشق ذلك عليه واستعد للبلاء وقيل أن بلاد عبس كانت قد أجدبت فانتجع أهلها بلاد فزارة وأخذ الربيع جورا من حذيفة وأقام عندهم فلما بلغه مقتل مالك قال لحذيفة لي ذمتي ثلاث أيام. فقال حذيفة: ذلك لك. فانتقل الربيع من بني فزارة.

574
فبلغ ذلك حمل بن بدر فقال لحذيفة أخيه: بئس الرأي رأيت! قتلت مالكا وخليت سبيل الربيع! والله ليضرمنها عليك نارا! فركبا في طلب الربيع ففاتهم فعلما أنه قد أضمر الشر.
واتفق الربيع وقيس وجمع حذيفة قومه وتعاقدوا على عبس وجمع الربيع وقيس قومهما واستعدوا للحرب فأغارت فزارة على بني عبس فأصابوا نعما ورجالا، فحميت عبس واجتمعت للغارة فنذرت بهم فزارة فخرجوا إليهم فالتقوا على ماء يقال له العذق وهي أول وقعة كانت بينهم فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل عوف بن يزيد قتله جندب بن خلف العبسي وانهزمت فزارة وقتلوا قتلا ذريعا وأسر الربيع بن زياد حذيفة بن ندبة وكان حر بن الحارث العبسي قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف وله سيف قاطع يسمى الأصرم فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره فأرسل الربيع إلى امرأته فغيبت سيفه ونهوه عن قتله وحذروه عاقبة ذلك فأبى إلا ضربه فوضعوا عليه الرجال فضربه فلم يصنع السيف شيئا وبقي حذيفة أسيرا.
فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح فاصطلحوا على أن يهدروا دم بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير ويعقلوا عوف بن بدر ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل وأن يجعلوها عشارا كلها وأربعة أعبد وأهدر حذيفة دماء من قتل من فزارة في الوقعة وأطلق من الأسر فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك وساءت مقالته في بني عبس وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه فأجابهما إلى الاتفاق وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما وكانت توالدت عنده فبينما

575
هم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حارثة المري فقبح رأي حذيفة في الصلح وقال إن كنت لا بد فاعلا فاعطهم إبلا عجافا مكان إبلهم واحبس أولادها فوافق ذلك رأي حذيفة فأبى قيس وعمارة ذلك.
وقيل: إن الإبل التي طلبوها منه هي إبل كان قد أخذها سبقا من قيس وقيل أيضا إن مالك بن زهير قتل بعد هذه الوقعة المذكورة قال حميد بن بدر في ذلك:
(قتلنا بعوف مالكا وهو ثارنا * ومن يبتدع شيئا سوى الحق يظلم)
وجعل سنان يحث حذيفة على الحرب فتيسروا لها.
ثم إن الأنصار بلغهم ما عزموا عليه فاتفق جماعة من رؤسائهم وهم عمرو بن الأطنابة ومالك بن عجلان وأحيحة بن الجلاح وقيس بن الخطيم وغيرهم وساروا ليصلحوا بينهم فوصلوا إليهم وترددوا في الاتفاق فلم يجب حذيفة إلى ذلك وظهر لهم بغيه فحذروه عاقبته وعادوا عنه وأغار حذيفة على عبس وأغارت عبس على فزارة وتفاقم الشر وأرسل حذيفة أخاه حملا فأغار وأسر ريان بن الأسلع بن سفيان وشده وثاقا وحمله إلى حذيفة فأطلقه ليرهنه ابنيه وجير ابن أخيه عمرو بن الأسلع ففعل ريان ذلك ثم سار قيس إلى فزارة فلقي منهم جمعا فيهم مالك بن بدر فقتله قيس وانهزمت فزارة فأخذ حينئذ حذيفة ولدي ريان فقتلهما وهما يستغيثان يا أبتاه حتى ماتا وأما ابن أخيه فمنعه أخواله.

576
ولما قتل مالك والغلامان اشتدت الحرب بين الفريقين وأكثرهما في فزارة ومن معها ففي بعض الأيام التقوا واقتتلوا قتالا شديدا دامت الحرب بينهم إلى آخر النهار وأبصر ريان بن الأسلع زيد بن حذيفة فحمل عليه فقتله وانهزمت فزارة وذبيان وأدرك الحارث بن بدر فقتل ورجعت عبس سالمة لم يصب منها أحد فلما قتل زيد والحارث جمع حذيفة جميع بني ذبيان وبعث إلى أشجع وأسد بن خزيمة فجمعهم فبلغ ذلك بني عبس فضموا أطرافهم وأشار قيس بن زهير بالسبق إلى ماء العقيقة ففعلوا ذلك وسار حذيفة في جموع إلى عبس ومشى السفراء بينهم فحلف حذيفة أنه لا يصلح حتى يشرب من ماء العقيقة فأرسل إليه قيس منه في سقاء وقال لا أترك حذيفة يخدعني واصطلحوا على أن تعطي بنو عبس حذيفة ديات من قتل له ووضعوا الرهائن عنده إلى أن يجمعوا الديات وهي عشر وكانت الرهائن ابنا لقيس بن زهير وابنا للربيع بن زياد فوضعوا أحدهما عند قطبة بن سنان والآخر عند رجل من بكر بن وائل أعمى فعير بعض الناس حذيفة بقبول الدية فحضر هو وأخوه حمل عند قطبة بن سنان والبكري وقال ادفعا إلينا الغلامين لنكسوهما ونسرحهما إلى أهلهما فأما قطبة فدفع إليهما الغلام الذي عنده وهو ابن قيس وأما البكري فامتنع من تسليم من عنده فلما أخذا ابن قيس عادا فلقيا في الطريق ابنا لعمارة بن زياد العبسي وابن عم له فأخذاهما وقتلاهما مع ابن قيس.
فلما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح ثم خرج قيس في جماعة فلقوا ابنا لحذيفة ومعه

577
فوارس من ذبيان فقتلوهم فجمع حذيفة وسار إلى عبس وهم على ماء يقال له عرعر فاقتتلوا فكان الظفر لفزارة ورجعت سالمة وجد حذيفة في الحرب وكرهها أخوه حمل وندم على ما كان وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك وجمع الجموع من أسد وذبيان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس فاجتمعت عبس وتشاوروا في أمرهم فقال لهم قيس بن زهير إنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به وليس لبني بدر إلا دماؤكم والزيادة عليكم وأما من سواهم فلا يريدون غير الأموال والغنيمة والرأي أننا نترك الأموال بمكانها ونترك معها فارسين على داحس وعلى فرس آخر جواد ونرحل نحن ونكون على مرحلة من المال فإذا جاء القوم إلى الأموال سار إلينا الفارسان فأعلمانا وصولهم فإن القوم يشتغلون بالنهب وحيازة الأموال وإن نهاهم ذووا الرأي عن ذلك فإن العامة تخالفهم وتنتقض تعبيتهم ويشتغل كل إنسان بحفظ ما غنم ويعلقون أسلحتهم على ظهور الإبل ويأمنون فنعود نحن إليهم عند وصول الفارسين فندركهم وهم على حال تفرق وتشتت فلا يكون لأحدهم همة إلا نفسه ففعلوا ذلك وجاء حذيفة ومن معه فاشتغلوا بالنهب فنهاهم حذيفة وغيره فلم يقبلوا منه وكانوا على الحال التي وصف قيس وعادت بنو عبس وقد تفرقت أسد وغيرهم وبقي بنو فزارة في آخر الناس فحملوا عليهم من جوانبهم فقتل مالك بن سبيع التغلبي سيد غطفان وانهزمت فزارة وحذيفة معهم وانفرد في خمسة فوارس وجد في الهرب وبلغ خبره بني عبس فتبعه قيس بن زهير والربيع بن زياد وقرواش بن عمرو بن الأسلع وريان بن الأسلع الذي قتل حذيفة ابنيه وتبعوا أثرهم في الليل وقال قسي كأني بالقوم وقد وردوا جفر الهباءة ونزلوا فيه فساروا ليلتهم كلها حتى

578
أدركوهم مع طلوع الشمس في جفر الهباءة في الماء وقد أرسلوا خيولهم فأخذوا بجمعها فحال قيس وأصحابه بينهم وبينها وكان مع حذيفة في الجفر أخوه حمل بن بدر وابنه حصن بن حذيفة وغيرهم فهجم عليهم قيس والربيع ومن معهما وهم ينادون ليبكم لبيكم يعني أنهم يجيبون نداء الصبيان لما قتلوا ينادون يا أبتاه فقال لهم قيس يا بني بكر كيف رأيتم عاقبة البغي فناشدوهم الله والرحم فلم يقبلوا منهم ودار قرواش بن عمرو حتى وقف خلف ظهر حذيفة فضربه فدق صلبه وكان قرواش قد رباه حذيفة حتى كبر عنده في بيته وقتلوا حملا أخاه وقطعوا رأسيهما واستبقوا حصن ابن حذيفة لصباه وكان عدد من قتل في هذه الوقعة من فزارة وأسد وغطفان ما يزيد على أربعمائة قتيل وقتل من عبس ما يزيد على عشرين قتيلا وكانت فزارة تسمي هذه الوقعة البوار وقال قيس بن زهير:
(أقام على الهباءة خير ميت * وأكرمه حذيفة لا يريم)
(لقد فجعت به قيس جميعا * موالي القوم والقوم الصميم)
(وعم به لمقتله بعيد * وخص به لمقتله حميم)
وهي طويلة وقال أيضا:
(ألم تر أن خير الناس أمسى * على جفر الهباءة لا يريم)
(فلولا ظلمه ما زلت أبكي * عليه الدهر ما طلع النجوم)
(ولكن الفتى حمل بن بدر * بغى والبغي مرتعه وخيم)
وأكثروا القول في يوم الهباءة.

579
ثم إن عبسا ندمت على ما فعلت يوم الهباءة ولام بعضهم بعضا فاجتمعت فزارة إلى سنان بن أبي حارثة المري وشكوا إليه ما نزل بهم فأعظمه وذم عبسا وعزم على أن يجمع العرب ويأخذ بثار بني بدر وفزارة وبث رسله فاجتمع من العرب خلق كثير لا يحصون ونهى أصحابه عن التعرض إلى الأموال والغنيمة وأمرهم بالصبر
وساروا إلى بني عبس فلما بلغهم مسيرهم إليهم قال قيس الرأي أننا لا نلقاهم فإننا قد وترناهم فهم يطالبوننا بالذحول والطوائل وقد رأوا ما نالهم بالأمس باشتغالهم بالنهب والمال فهم لا يتعرضون إليه الآن والذي ينبغي أن نفعله أننا نرسل الظعائن والأموال إلى بني عامر فإن الدم لنا قبلهم فهم لا يتعرضون لكم ويبقى أولو القوة والجلد على ظهور الخيل ونماطلهم القتال فإن أبوا إلا القتال كنا قد أحرزنا أهلينا وأموالنا وقاتلناهم وصبرنا لهم فإن ظفرنا فهو الذي نريد وإن كانت الأخرى كنا قد احترزنا ولحقنا بأموالنا ونحن على حامية.
ففعلوا ذلك، وسارت ذبيان ومن معها فلحقوا بني عبس على ذات الجراجر فاقتتلوا قتالا شديدا يومهم ذلك وافترقوا. فلما كان الغد عادوا إلى اللقاء فاقتتلوا أشد من اليوم الأول وظهرت في هذه الأيام شجاعة عنترة بن شداد فلما رأى الناس شدة القتال وكثرة القتلى لاموا سنان بن أبي حارثة على منعه حذيفة عن الصلح وتطيروا منه وأشاروا عليه بحقن الدماء ومراجعة السلم فلم يفعل وأراد مراجعة الحرب في اليوم الثالث فلما رأى فتور أصحابه وركونهم إلى السلم رحل عائدا فلما عاد عنهم رحل قيس وبنو عبس إلى بني شيبان بن بكر وجاوروهم وبقوا معهم مدة فرأى قيس من غلمان شيبان ما يكرهه من التعرض لأخذ أموالهم فرحلوا عنهم فتبعهم جمع من شيبان فلقيتهم بنو عبس واقتتلوا فانهزمت شيبان وسارت عبس

580
إلى هجر ليحالفوا ملكهم وهو معاوية بن الحارث الكندي فعزم معاوية على الغارة عليهم ليلا فبلغهم الخبر فساروا عنه مجدين وسار معاوية مجدا في أثرهم فتاه بهم الدليل على عمد لئلا يدركوا عبسا إلا وهم قد لحقهم ودوابهم النصب فأدركوهم بالفروق فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم معاوية وأهل هجر وتبعتهم عبس فأخذت من أموالهم وقتلوا منهم ما أرادوا ورجعوا سائرين فنزلوا بماء يقال له عرعر عليه حي من كلب فركبوا ليقاتلوا بني عبس فبرز الربيع وطلب رئيسهم فبرز إليه واسمه مسعود بن مصاد فاقتتلا حتى سقطا إلى الأرض وأراد مسعود قتل الربيع فانحسرت البيضة عن رقبته فرماه رجل من بني عبس بسهم فقتله فثار به الربيع فقطع رأسه وحملت عبس على كلب والرأس على رمح فانهزمت كلب وغنمت عبس أموالهم وذراريهم فساروا إلى اليمامة فحالفوا أهلها من بني حنيفة وأقاموا ثلاث سنين فلم يحسنوا جوارهم وضيقوا عليهم فساروا عنهم وقد تفرق كثير منهم وقتل منهم وهلكت دوابهم ووترهم العرب فراسلتهم بنو ضبة وعرضوا عليهم المقام عندهم ليستعينوا بهم على حرب تميم ففعلوا وجاوروهم.
فلما انقضى الأمر بين ضبة وتميم تغيرت ضبة لعبس وأرادوا اقتطاعهم فحاربتهم عبس فظفرت وغنمت من أموال ضبة وسارت إلى بني عامر وحالفوا الأحوص بن جعفر بن كلاب فسر بهم ليقوى بهم على حرب بني تميم لأنه كان بلغه أن لقيط بن زرارة يريد غزو بني عامر والأخذ بثأر أخيه معبد فأقامت عبس عند بني عامر فقصدتهم تميم وكانت وقعة شعب جبلة وسنذكره إن شاء الله.

581
ثم إن ذبيان غزوا بني عامر بن صعصعة وفيهم بنو عبس فاقتتلوا فهزمت عامر وأسر قرواش بن هنى العبسي ولم يعرف فلما قدموا به الحي عرفته امرأة منهم فلما عرفوه سلموه إلى حصن بن حذيفة فقتله ثم رحلت عبس عن عامر ونزلت بتيم الرباب فبغت تيم عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا وتكاثرت عليهم تيم فقتلوا من عبس المواشي فقال لهم قيس ما ترون قالوا نرجع إلى إخواننا من ذبيان فالموت معهم خير من البقاء مع غيرهم. فساروا حتى قدموا على الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري وقيل على هرم بن سنان بن أبي حارثة ليلا وكان عنده حصن بن حذيفة بن بدر فلما عاد ورآهم رحب بهم وقال من القوم؟ قالوا: إخوانك بنو عبس وذكروا حاجتهم فقال نعم وكرامة أعلم حصن بن حذيفة فعاد إليه وقال طرقت في حاجة قال أعطيتها قال بنو عبس وجدت وفودهم في منزلي قال حصن صالحوا قومكم أما أنا فلا أدي ولا أتدي قد قتل آبائي وعمومتي عشرين من عبس فعاد إلى عبس وأخبرهم بقول حصن وأخذهم إليه فلما رآهم قال قيس والربيع بن زياد نحن ركبان الموت قال بل ركبان السلم إن تكونوا اختللتم إلى قومكم فقد اختل قومكم إليكم ثم خرج معهم حتى أتوا سنانا فقالوا له قم بأمر عشيرتك وأصلح بينهم فإني سأعينك ففعل ذلك وتم الصلح بينهم وعادت عبس.
وقيل: إن قيس بن زهير لم يسر مع عبس إلى ذبيان وقال لا تراني غطفانية أبدا وقد قتلت أخاها أو زوجها أو ولدها أو ابن عمها ولكني سأتوب إلى ربي، فتنصر وساح في الأرض حتى انتهى إلى عمان فترهب

582
بها زمانا فلقيه حوج بن مالك العبدي فعرفه فقتله وقال لا رحمني الله إن رحمتك.
وقيل: إن قيسا تزوج في النمير بن قاسط لما عادت عبس إلى ذبيان وولد له ولد اسمه فضالة فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له على من معه من قومه وكانوا تسعة وهم عاشرهم.
انقضى حرب داحس والغبراء والحمد لله.
يوم شعب جبلة
كان لقيط بن زرارة قد عزم على غزو بني عامر بن صعصعة للأخذ بثأر أخيه معبد بن زرارة وقد ذكرنا موته عندهم أسيرا فبينما هو يتجهز أتاه الخبر بحلف بني عبس وبني عامر فلم يطمع في القوم وأرسل إلى كل من كان بينه وبين عبس ذحل يسأله الحلف والتظافر على غزو عبس وعامر فاجتمعت إليه أسد وغطفان وعمرو بن الجون ومعاوية بن الجون واستوثقوا واستكثروا وساروا فعقد معاوية بن الجون الألوية فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون وعقد لعمرو بن تميم مع حاجب بن زرارة وعقد للرباب مع حسان بن همام وعقد لجماعة من بطون تميم مع عمرو بن عدس وعقد لحنظلة بأسرها مع لقيط بن زرارة وكان مع لقيط ابنته دختنوس وكان يغزو بها معه ويرجع إلى رأيها.

583
وساروا في جمع عظيم لا يشكون في قتل عبس وعامر وإدراك ثأرهم فلقي لقيط في طريقه كرب بن صفوان بن الحباب السعدي وكان شريفا فقال ما منعك أن تسير معنا في غزاتنا؟ قال: أنا مشغول في طلب إبل لي قال لا بل تريد أن تنذر بنا القوم ولا أتركك حتى تحلف أنك لا تخبرهم. فحلف لهم ثم سار عنهم وهو مغضوب فلما دنا من عامر أخذ خرقة فصر فيها حنظلة وشوكا وترابا وخرقتين من يمانية وخرقة حمراء وعشرة أحجار سود ثم رمى بها حيث يسقون ولم يتكلم فأخذها معاوية بن قشير فأتى بها الأحوص بن جعفر وأخبره أن رجلا ألقاها وهم يسقون. فقال الأحوص لقيس بن زهير العبسي ما ترى في هذا الأمر قال هذا من صنع الله لنا هذا رجل قد أخذ عليه عهد على أن لا يكلمكم فأخبركم أن أعداءكم قد غزوكم عدد التراب وأن شوكتهم شديدة وأما الحنظلة فهي رؤساء القوم وأما الخرقتان اليمانيتان فهما حيان من اليمن معهم وأما الخرقة الحمراء فهي حاجب بن زرارة وأما الأحجار فهي عشر ليال يأتيكم القوم إليها قد أنذرتكم فكونوا أحرارا فاصبروا كما يصبر الأحرار منكم.
قال الأحوص فإنا فاعلون وآخذون برأيك فإنه لم تنزل بك شدة إلا رأيت المخرج منها قال فإذا قد رجعتم إلى رأيي فأدخلوا نعمكم شعب جبلة ثم اظمئوها هذه الأيام ولا توردوها الماء فإذا جاء القوم أخرجوا عليهم الإبل وانخسوها بالسيوف والرماح فتخرج مذاعير عطاشا فتشغلهم وتفرق جمعهم واخرجوا أنتم في آثارها واشفوا نفوسكم. ففعلوا ما أشار به.
وعاد كرب بن صفوان فلقي لقيطا فقال له: أنذرت القوم فأعاد الحلف

584
له أنه لم يكلم أحدا منهم، فخلى عنه. فقالت دختنوس ابنة لقيط لأبيها ردني إلى أهلي ولا تعرضني لعبس وعامر فقد أنذرهم لا محالة. فاستحمقها وساءه كلامها وردها وسار حتى نزل على فم الشعب بعساكر جرارة كثيرة الصواهل وليس لهم هم إلا الماء فقصدوه فقال لهم قيس أخرجوا عليهم الآن الإبل ففعلوا ذلك فخرجت الإبل مذاعير عطاشا وهم في أعراضها وأدبارها فخبطت تميما ومن معها وقطعتهم وكانوا في الشعب وأبرزتهم إلى الصحراء على غير تغبية وشغلوا عن الاجتماع إلى ألويتهم وحملت عليهم عبس وعامر فاقتتلوا قتالا شديدا وكثرت القتلى في تميم وكان أول من قتل من رؤسائهم عمرو بن الجون وأسر معاوية بن الجون وعمرو بن عمرو بن عدس زوج دختنوس بنت لقيط وأسر حاجب بن زرارة وانحاز لقيط بن زرارة فدعا قومه وقد تفرقوا عنه فاجتمع إليه نفر يسير فتحرز برايته فوق جرف ثم حمل فقتل فيهم ورجع وصاح أنا لقيط وحمل ثانية فقتل وجرح وعاد فكثر جمعه فانحط الجرف بفرسه وحمل عليه عنترة فطعنه طعنه قصم بها صلبه وضربه قيس بالسيف فألقاه متشحطا في دمه فذكر ابنته دختنوس فقال:
(يا ليت شعري عنك دختنوس * إذا أتاها الخبر المرموس)
(أتحلق القرون أم تميس * لا بل تميس إنها عروس)
ثم مات وتمت الهزيمة على تميم وغطفان ثم فدوا حاجبا بخمسمائة من الإبل وفدوا عمر بن عمرو بمائتين من الإبل وعاد من سلم إلى أهله وقالت دختنوس ترثي أباها قصائد منها:
(عثر الأغر بخير خندف * كهلها وشبابها)

585
(وأضرها لعدوها * وأفكها لرقابها)
(وقريعها ونجيبها * في المطبقات ونابها)
(ورئيسها عند الملوك * وزين يوم خطابها)
(وأتمها نسبا إذا * رجعت إلى أنسابها)
(فرعى عمودا للعشيرة * رافعا لنصابها)
(ويعولها ويحوطها * ويذب عن أحسابها)
(ويطأ مواطن للعدو * وكان لا يمشي بها)
(فعل المدل من الأسود * لحينها وتبابها)
(كالكوكب الدري في * سيماء لا يخفى بها)
(عبث الأغر به وكل * منية لكتابها)
(فرت بنو أسد فرار * الطير عن أربابها)
(وهوازن أصحابهم * كالفأر في أذنابها)
وذكر محمد بن إسحاق في يوم جبلة غير ما ذكرنا قال كان سببه أن بني خندف كان لهم على قيس أكل تأكله القعدد من خندف فكان ينتقل فيهم حتى انتهى إلى تميم ثم من تميم إلى بني عمرو بن تميم وهم أقل بطنا منهم وأذله فأبت قيس أن تعطي الأكل وامتنعت منه فجمعت تميم وحالفت غيرها من العرب وساروا إلى قيس فذكر القصة نحو ما تقدم وخالف في البعض فلا حاجة إلى ذكره.

586
وفي هذا اليوم ولد عامر بن الطفيل العامري.
وقد قال بعض العلماء إن المجوسية كان يدين بها بعض العرب بالبحرين وكان زرارة بن عدس وابناه حاجب ولقيط والأقرع بن حابس وغيرهم مجوسا وأن لقيطا تزوج ابنته دختنوس وسماها بهذا الاسم الفارسي وأنه قتل وهي تحته فقال في ذلك:
(يا ليت شعري عنك دختنوس *)
الأبيات. والأول أصح والله أعلم.
يوم ذات نكيف
كان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة مبغضين لقريش مضطغنين عليهم ما كان من قصي حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعا وخططا بين قريش فلما كانوا على عهد عبد المطلب هموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه وعدت بنو بكر على نعم لبني الهون بن خزيمة فاطردوها ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش جموعهم واستعدت وعقد عبد المطلب للحلف بين قريش والأحابيش وهم بنو الحرث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة وبنو المصطلق من خزاعة فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم وعلى الناس عبد المطلب فاقتتلوا بذات نكيف فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلا ذريعا فلم يعودوا لحرب قريش قال ابن شعلة الفهري:

587
(فلله عينا من رأى من عصابة * غوت غي بكر يوم ذات نكيف)
(أناخوا إلى أبنائنا ونسائنا * فكانوا لنا ضيفا بشر مضيف)
فقتل يومئذ عبد بن السفاح القارئ من القارة قتادة بن قيس أخا بلعاء بن قيس واسم بلعاء مساحق ويومئذ قيل قد أنصف القارة من راماها والقارة من ولد الهون بن خزيمة وهو من ولد عضل بن الديش قال رجل منهم:
(دعونا قارة لا تنفرونا * فنجفل مثل أجفال الظليم)
وقيل بهذا البيت سموا قارة وكان يقال للقارة رماة الحدق.
ذكر الفجار الأول والثاني
أما الفجار الأول فلم يكن فيه كثير امر ليذكر وإنما ذكرناه لئلا يرى ذكر الفجار الثاني وما كان [فيه] من الأمور العظيمة فيظن أن الأول مثله وقد أهملناه فلهذا ذكرناه.
قال ابن إسحاق: كان الفجار الأول بين قريش ومن معها من كنانة كلها وبين قيس عيلان. وسببه أن رجلا من كنانة كان عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن فأعدم الكناني فوافى النصري سوق عكاظ بقرد وقال من يبيعني مثل هذا بما لي على فلان الكناني فعل ذلك تعييرا

588
للكناني وقومه فمر به رجل من كنانة فضرب القرد بالسيف فقتله أنفة مما قال النصري فصرخ النصري في قيس وصرخ الكناني في كنانة فاجتمع الناس وتحاوروا حتى كاد يكون بينهم القتال ثم اصطلحوا.
وقيل كان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى امرأة من بني عامر وهي وضيئة عليها برقع فقالوا لها اسفري لننظر وجهك فلم تفعل فقام غلام منهم فشق ذيل إلى ظهرها ولم تشعر فلما قامت انكشفت دبرها فضحكوا وقالوا متعتنا النظر إلى وجهك فقد نظرنا إلى دبرك فصاحت المرأة يا بني عامر فضحت! فأتاها الناس واشتجروا حتى كان يكون قتال ثم رأوا أن الأمير يسير فاصطلحوا. وقيل بل قعد رجل من بني غفار يقال له أبو معشر بن مكرز وكان غازيا منيعا في نفسه وكان بسوق عكاظ فمد رجله ثم قال:
(نحن بنو مدركة بن خندف * من يطعنوا في عينه لا يطرف)
(ومن يكونوا قومه يغطرف * كأنه لجة بحر مسرف)
أنا والله أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف فقام رجل من قيس يقال له أحمر بن مازن فضربها بالسيف فخرشها خدشا غير كثير فاختصم الناس ثم اصطلحوا (بنو نصر بن بالنون).
وأما الفجار الثاني وكان بعد الفيل بعشرين سنة وبعد موت عبد المطلب باثني عشرة سنة ولم يكن في أيام العرب أشهر منه ولا أعظم،

589
فإنما سمي الفجار لما استحل الحيان كنانة وقيس فيه من المحارم وكان قبله يوم جبلة وهو مذكور من أيام العرب والفجار أعظم منه.
وكان سببه أن البراض بن قيس بن رافع الكناني ثم الضمري وكان رجلا فاتكا خليعا قد خلعه قومه لكثرة شره وكان يضرب المثل بفتكه فيقال أفتك من البراض قال بعضهم:
(والفتى من تعرفته الليالي * فهو فيها كالحية النضناض)
(كل يوم له بصرف الليالي * فتكه مثل فتكة البراض)
خرج حتى قدم على النعمان بن المنذر وكان النعمان يبعث كل عام بلطيمة للتجارة إلى عكاظ تباع له هناك وكان عكاظ وذو المجاز ومجنة أسواقا تجتمع بها العرب كل عام إذا حضر الموسم فيؤمن بعضهم بعضها حتى تنقضي أيامها وكانت مجنة بالظهران وكان عكاظ بين نخلة والطائف وكان ذو المجاز بالجانب الأيسر إذا وقفت على الموقف فقال النعمان وعنده البراض وعروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب المعروف بالرحال وإنما قيل له ذلك لكثرة رحلته إلى الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يبلغها عكاظ؟ فقال البراض: أبيت اللعن أنا أجيزها على كنانة فقال النعمان إنما أريد من يجيزها على كنانة وقيس فقال عروة أكلب خليع يجيزها لك أبيت اللعن أنا أجيزها على أهل الشيخ والقيصوم من أهل تهامة وأهل نجد فقال البراض وغضب وعلى كنانة تجيزها يا عروة قال عروة وعلى الناس كلهم.
فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال وأمره بالمسير بها وخرج البراض يتبع أثره وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه حتى إذا كان [عروة] بني ظهري

590
قومه بواد يقال له تيمن بنواحي فدك أدركه البراض بن قيس فأخرج قداحه يستقسم بها في قتل عروة فمر بها عروة فقال ما تصنع يا براض فقال استقسم في قتلك أيؤذن لي أم لا فقال عروة استك أضيق من ذلك فوثب إليه البراض بالسيف فقتله فلما رآه الذين يقومون على العير والأحمال قتيلا انهزموا فاستاق البراض العير وسار على
وجهه إلى خيبر وتبعه رجلان من قيس ليأخذاه أحدهما غنوي والآخر غطفاني اسم الغنوي أسد بن جوين واسم الغطفاني مساور بن مالك فلقيهما البراض بخيبر أول الناس فقال لهما من الرجلان قالا من قيس قدمنا لنقتل البراض فأنزلهما وعقل راحلتيهما ثم قال أيكما أجرأ عليه وأجود سيفا قال الغطفاني أنا فأخذه ومشى معه ليدله بزعمه على البراض فقال للغنوي احفظ راحلتيكما ففعل وانطلق البراض بالغطفاني حتى أخرجه إلى خربة في جانب خيبر خارجا من البيوت فقال الغطفاني هو في هذه الخربة إليها يأوي فأمهلني حتى أنظر أهو فيها فوقف ودخل البراض ثم خرج فقال هو فيها وهو نائم فأرني سيفك حتى أنظر إليه أضارب هو أم لا.
فأعطاه سيفه فضربه به حتى قتله ثم أخفى السيف وعاد إلى الغنوي فقال له لم أر رجلا أجبن من صاحبك تركته في البيت الذي فيه البراض وهو نائم فلم يقدم عليه فقال انظر لي من يحفظ الراحلتين حتى أمضي إليه فأقتله فقال دعهما وهما علي ثم انطلقا إلى الخربة فقتله وسار بالعير إلى مكة فلقي رجل من بني أسد بن خزيمة فقال له البراض هل لك إلى أن أجعل لك جعلا على أن تنطلق إلى حرب بن أمية وقومي فإنهم قومي وقومك لأن أسد بن خزيمة من خندف أيضا فتخبرهم أن البراض بن قيس قتل عروة الرحال فليحذروا قيسا وجعل له عشرا من الإبل فخرج الأسدي

591
حتى أتى عكاظ وبها جماعة الناس فأتى حرب بن أمية فأخبره الخبر فبعث إلى عبد الله بن جدعان التيمي وإلى هشام بن المغيرة المخزومي وهو والد أبي جهل وهما من أشراف قريش وذوي السن منهم وإلى كل قبيلة من قريش أحضر منها رجلا وإلى الحليس بن يزيد الحرثي وهو سيد الأحابيش فأخبرهم أيضا فتشاوروا وقالوا نخشى من قيس أن يطلبوا ثأر صاحبهم منا فإنهم لا يرضون أن يقتلوا به خليعا من بني ضمرة. فاتفق رأيهم على أن يأتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة وهو يومئذ سيد قيس وشريفها فيقولوا له إنه قد كان حدث بين نجد وتهامة وأنه لم يأتنا علمه فأجز بين الناس حتى تعلم وتعلم.
فأتوه وقالوا له ذلك فأجاز بين الناس وأعلم قومه ما قيل له ثم قام نفر من قريش فقالوا يا أهل عكاظ إنه قد حدث في قومنا بمكة حدث أتانا خبره ونخشى إن تخلفنا عنهم تفاقم الشر فلا يروعنكم تحملنا ثم ركبوا على الصعب والذلول إلى مكلة فلما كان آخر اليوم أتى عامر بن مالك ملاعب الأسنة الخبر فقال غدرت قريش وخدعني حرب بن أمية والله لا تنزل كنانة عكاظ أبدا ثم ركبوا في طلبهم حتى أدركوهم بنخلة فاقتتل القوم فاشتعلت قيس فكادت قريش تنهزم إلا إنها على حاميتها تبادر دخول الحرم ليأمنوا به فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا الحرم مع الليل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وعمره عشرون سنة.
وقال الزهري لم يكن معهم ولو كان معهم لم ينهزموا. وهذه العلة

592
ليست بشيء لأنه قد كان بعد الوحي والرسالة ينهزم أصحابه ويقتلون وإذا كان في جمع قبل الرسالة وانهزموا فغير بعيد.
ولما دخلت قريش الحرم عادت عنهم قيس وقالوا لهم يا معشر قريش إنا لا نترك دم عروة وميعادنا عكاظ في العام المقبل وانصرفت إلى بلادها يحرص بعضها بعضا ويبكون عروة الرحال.
ثم إن قيسا جمعت جموعها ومعها ثقيف وغيرها وجمعت قريش جموعها منهم كنانة جميعا والأحابيش وأسد بن خزيمة، وفرقت قريش السلاح في الناس فأعطى عبد الله بن جدعان مائة رجل سلاحا تاما، وفعل الباقون مثله.
وخرجت قريش للموعد على كل بطن منها رئيس فكان على بني هاشم الزبير بن عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوته أبو طالب وحمزة والعباس بنو عبد المطلب وعلى بني أمية وأحلافها حرب بن أمية وعلى بني عبد الدار عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وعلى بني أسد بن عبد العزى خويلد بن أسد وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة أبو أبي جهل وعلى بني تيم عبد الله بن جدعان وعلى بني جمح معمر بن خبيب بن وهب وعلى بني سهم العاص بن وائل وعلى بني عدي زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد وعلى بني عامر بن لؤي عمرو بن عبد شمس والد سهيل بن عمرو وعلى بني فهر عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد وسفيان بن عويف هما قائداهم، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة وعضل والقارة والديش من بني الهون بن خزيمة والمصطلق بن خزاعة سموا بذلك لحلفهم بني

593
الحارث، والتحبش والتجمع، وعلى بني بكر بلعاء بن قيس وعلى بني فراس بن غنم من كنانة عمير بن قيس بن جذل الطعان وعلى بني أسد بن خزيمة بشر بن أبي حازم وكان على جماعة الناس حرب بن أمية لمكانه من عبد مناف سنا ومنزلة.
وكانت قيس قد تقدمت إلى عكاظ قبل قريش فعلى بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء وعلى بني نصر وسعد ثقيف سبيع بن ربيع بن معاوية وعلى بني جشم الصمة والد دريد وعلى غطفان عوف بن أبي حارثة المري وعلى بني سليم عباس بن زعل بن هنى بن أنس وعلى فهم وعدوان كدام بن عمرو.
وسارت قريش حتى نزلت عكاظ وبها قيس وكان مع حرب بن أمية اخوته سفيان وأبو سفيان والعاص وأبو العاص بنو أمية فعقل حرب نفسه وقيد سفيان وأبو العاص نفسيهما وقالوا لن يبرح رجل منا مكانه حتى نموت أو نظفر فيومئذ سموا العنابس والعنبس الأسد واقتتل الناس قتالا شديدا فكان الظفر أول النهار لقيس وانهزم كثير من بني كنانة وقريش فانهزم بنو زهرة وبنو عدي وقتل معمر بن خبيب الجمحي وانهزمت طائفة من بني فراس وثبت حرب بن أمية وبنو عبد مناف وسائر قبائل قريش ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار ثم عاد الظفر لقريش ولم يزل الظفر لقيس على قريش وكنانة إلى أن انتصف النهار ثم عاد الظفر لقريش وكنانة فقتلوا من قيس فأكثروا وحمي القتال واشتد الأمر فقتل يومئذ تحت راية بني الحرث بن عبد مناة بن كنانة مائة رجل وهم صابرون فانهزمت قيس وقتل من أشرافهم عباس بن زعل السلمي وغيره فلما رأى أبو السيد عم مالك بن عوف النصري ما تصنع كنانة من القتل نادى يا معشر بني كنانة أسرفتم في القتل فقال ابن

594
جدعان: أنا معشر يسرف.
ولما رأى سبيع بن ربيع بن معاوية هزيمة قبائل قيس عقل نفسه واضطجع وقال يا معشر بني نصر قاتلوا عني أو ذروا فعطفت عليه بنو نصر وجشم وسعد بن بكر وفهم وعدان وانهزم باقي قبائل قيس فقاتل هؤلاء أشد قتال رآه الناس ثم انهم تداعوا إلى الصلح فاصطلحوا على أن يعدوا القتلى فأي الفريقين فضل له قتلى أخذ ديتهم من الفريق الآخر فتعادوا القتلى فوجدوا قريشا وبني كنانة قد أفضلوا على قيس عشرين رجلا فرهن حرب بن أمية يومئذ ابنه أبا سفيان في ديات القوم حتى يؤديها ورهن غيره من الرؤساء وانصرف الناس بعضهم عن بعض ووضعوا الحرب وهدموا ما بينهم من العداوة والشر وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضا فيما كان من أمر البراض وعروة.
يوم ذي نجب
وكان من حديث يوم ذي نجب أن بني عامر لما أصابوا من تميم ما أصابوا يوم جبلة رجوا أن يستأصلوهم فكاتبوا حسان بن كبشة الكندي وكان ملكا من ملوك كندة وهو حسان بن معاوية بن حجر فدعوه إلى أن يغزو معهم بني حنظلة من تميم فأخبروه أنهم قد قتلوا فرسانهم ورؤسائهم فأقبل معهم بصنائعه ومن كان معه فلما أتى بني حنظلة خبر مسيرهم قال لهم عمرو بن عمرو يا بني مالك إنه لا طاقة لكم بهذا الملك

595
وما معه من العدد فانتقلوا من مكانكم.
وكانوا في أعالي الوادي مما يلي مجيء القوم وكانت بنو يربوع بأسفله فتحولت بنو مالك حتى نزل خلف بني يربوع وصارت بنو يربوع تلي الملك فلما رأوا ما صنع بنو مالك استعدوا وتقدموا إلى طريق الملك فلما كان وجه الصبح وصل ابن كبشة فيمن معه وقد استعد القوم فاقتتلوا مليا فضرب جشيش بن نمران الرياحي بن كبشة الملك على رأسه فصرعه فمات وقتل عبيدة بن مالك بن جعفر وانهزم طفيل بن مالك على فرسه قرزل وقتل عمرو بن الأحوص بن جعفر وكان رئيس عامر وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة قال جرير في الاسلام يذكر اليوم بذي نجب:
(بذي نجب ذدنا وواكل مالك * أخا لم يكن عند الطعان بواكل)
وكان يوم ذي نجيب بعد يوم جبلة بسنة وبقي الأحوص بعد ابنه عمرو يسيرا وهلك أسفا عليه.
يوم نعف قشاوة
وهو يوم لشيبان على تميم.
قال أبو عبيدة أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم

596
بنعف قشاوة فأتاهم ضحى وهو يوم ريح ومطر فوافق النعم حين سرح فأخذه كله ثم كر راجعا وتداعت عليه بنو يربوع فلحقوه وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب فكر عليه بسطام فقتله ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله وأتاهم أيضا بجير بن أبي مليل فقتله بسطام وقتلوا من يربوع جمعا وأسروا آخرين منهم مليل بن أبي مليل وسلموا وعادوا غانمين فقال بعض الأسرى لبسطام أيسرك أن أبا مليل مكاني قال نعم قال فإن دللتك عليه أتطلقني الآن قال نعم قال فإن ابنه بجيرا كان أحب خلق الله إليه وستجده الآن مكبا عليه يقبله فخذه أسيرا فعاد بسطام فرآه كما قال فأخذه أسيرا وأطلق اليربوعي فقال له أبو مليل قتلت بجيرا وأسرتني وابني مليلا والله لا أطعم الطعام أبدا وأنا موثق فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلا وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبدا وعاهده على ذلك فأطلقه وجز ناصيته فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره فحذره وقال متمم بن نويرة:
(أبلغ شهاب بني بكر وسيدها * عنى بذاك أبا الصهباء بسطاما)
(أروي الأسنة من قومي فأنهلها * فأصبحوا في بقيع الأرض نواما)
(لا يطبقون إذا هب النيام ولا * في مرقد يحلمون الدهر أحلاما)

597
(أشجى تميم بن مر لا مكايدة * حتى استعادوا له اسرى وأنعاما)
(هلا أسيرا فدتك النفس تطعمه * مما أراد وقدما كنت مطعاما)
وهي أبيات عدة.
يوم الغبيط
وهو يوم كانت الحرب فيه بين شيبان وتميم أسر فيه بسطام بن قيس الشيباني.
وسبب ذلك أن بسطام بن قيس والحوفزان بن شريك وفروق بن عمر وساروا في جمع من بني شيبان إلى بلاد تميم فأغاروا على ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة وثعلبة بن عدي وثعلبة بن سعد بن ذبيان وكانوا متجاورين بصحراء فلج فاقتتلوا فانهزمت الثعالبة وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم بنو شيبان أموالهم ومروا على بني حنظلة من تميم وهم بين صحراء فلج وغبيط المدرة فاستاقوا إبلهم فركبت إليهم بنو مالك يقدمهم عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي وفرسان بني يربوع وساروا في أثر بني شيبان ومعه من رؤساء تميم الأحيمر بن عبد الله وأسيد بن جباة وحر بن سعد ومالك بن نويرة فأدركوهم بغبيط المدرة فقاتلوهم وصبر الفريقان ثم انهزمت شيبان واستعادت تميم ما كانوا غنموه من أموالهم وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ربيعة بن حصية وألح عتيبة بن الحارث على بسطام بن قيس فأدركه فقال له استأسر أبا

598
الصهباء فأنا خير لك من الفلاة والعطش فاستأسر له بسطام بن قيس فقال بنو ثعلبة لعتيبة إن أبا مرحب قد قتل وقد أسرت بسطاما وهو قاتل مليل وبجير ابني أبي مليل ومالك بن حطان وغيرهم فاقتله قال إني معيل وأنا أحب اللبن قالوا إنك تفاديه فيعود فيحربنا ما لنا فأبى عليهم وسار إلى بني عامر بن صعصعة لئلا يؤخذ فيقتل وإنما قصد عامرا لأن عمته خولة بنت شهاب كانت ناكحا فيهم فقال ملك بن نويرة في ذلك:
(لله عتاب بن مية إذ رأى * إلى ثأرنا في كفه يتلدد)
(أتحيي امرءا أردى بجيرا ومالكا * وأتوى حريثا بعدما كان يقصد)
(ونحن ثأرنا قبل ذاك ابن أمه * غداة الكلابيين والجمع يشهد)
فلما توسط عتيبة بيوت بني عامر صاح بسطام واشيباناه ولا شيبان لي اليوم فبعث إليه عامر بن الطفيل إن استطعت أن تلجأ إلى قبتي فافعل فإني سأمنعك وإن لم تستطع فاقذف نفسك في الركا فإني عتيبة تابعه من الجن فأخبره بذلك فأمر ببيته فقوض فركب فرسه وأخذ سلامه ثم أتى مجلس بني جعفر وفيه عامر بن الطفيل الغنوي فحياهم وقال يا عامر قد بلغني الذي أرسلت به إلى بسطام فأنا مخيرك فيه خصالا ثلاثا فقال عامر وما هي؟ قال: إن شئت فاعطني خلعتك وخلعة أهل بيتك حتى أطلقه لك، فليست خلعتك وخلعة أهل بيتك بشر من خلعته وخلعة أهل بيته. فقال:

599
عامر هذا لا سبيل إليه قال عتيبة ضع رجلك مكان رجله فليست عندي بشر منه فقال ما كنت لأفعل قال عتيبة تتبعني إذا جاوزت هذه الرابية فتقارعني عنه على الموت فقال عامر هذه أبغضهن إلي فانصرف به عتيبة إلى بني عبيد بن ثعلبة فرأى بسطام مركب أم عتيبة رثا فقال يا عتيبة هذا رحل أمك قال نعم قال ما رأيت رحل أم سيد قط مثل هذا فقال عتيبة واللات والعزى لا أطلقك حتى تأتيني أمك بحدجها وكان كبيرا ذا ثمن كثير وهذا الذي أراد بسطام ليرغب فيه فلا يقتله فأرسل بسطام فأحضر هودج أمه وفادى نفسه بأربعمائة بعير وقيل بألف بعير وثلاثين فرسا وهودج أمه وحدجها وخلص من الأسر فلما خلص من الأسر أذكى العيون على عتيبة وإبله فعادت إليه عيونه فأخبروه أنها على أراب فأغار عليها وأخذ الإبل كلها ومالهم معها.
(عتيبة بالتاء فوقها نقطتان والياء تحتها نقطتان ساكنة وفي آخرها باء موحدة).
يوم لشيبان على بني تميم
قال أبو عبيدة خرج الأقرع بن حابس وأخوه فراس التميميان وهما الأقرعان في بني مجاشع من تميم وهما يريدان الغارة على بكر بن وائل ومعهما البروك أبو جعل فلقيهم بسطام بن قيس الشيباني وعمران

600
ابن مرة في بني بكر بن وائل بزبالة فاقتتلوا قتالا شديدا ظفرت فيه بكر وانهزمت تميم وأسر الأقرعان وأبو جعفر وناس كثير وافتدى الأقرعان نفسيهما من بسطام وعاهداه على إرسال الفداء فأطلقهما فبعدا ولم يرسلا شيئا وكان في الأسرى إنسان من يربوع فسمع بسطام بن قيس في الليل يقول:
(فدى بوالدة علي شفيقة * فكأنها حرض على الأسقام)
(لو أنها علمت فيسكن جأشها * أني سقط العشاء به على بسطام)
(سقط العشاء به على متنعم * سمح اليدين معاود الأقدام)
فلما سمع بسطام ذلك منه قال له وأبيك لا يخبر أمك عنه غيرك وأطلقه وقال ابن رميض العنزي:
(جاءت هدايا من الرحمن من مرسلة * حتى أنيخت لدى أبيات بسطام)
(جيش الهذيل وجيش الأقرعين معا * وكبة الخيل والأذواد في عام)
(مسوم خيله تعدوا مقانبه * على الذوائب من أولاد همام)
وقال أوس بن حجر:
(وصبحنا عار طويل بناؤه * نسب به ما لاح في الأفق كوكب)
(فلم أر يوما كان أكثر باكيا * ووجها ترى فيه الكآبة تجنب)
(أصابوا البروك وابن حابس عنوة * فظل لهم بالقاع يوم عصبصب)
(وإن أبا الصهباء في حومة الوغى * إذا ازورت الأبطال ليث مجرب)

601
وأبو الصهباء هو بسطام بن قيس وأكثر الشعراء في هذا اليوم وفي مدح بسطام بن قيس تركنا ذكره اختصار.
(حجر بفتح الحاء والجيم).
يوم مبائض
وهو لشيبان على بني تميم قال أبو عبيدة حج طريف بن تميم العنبري التميمي وكان رجلا جسيما يلقب مجدعا وهو فارس قومه ولقيه حميصة بن جندل الشيباني من بني أبي ربيعة وهو شاب قوي وشجاع وهو يطوف بالبيت فأطال النظر إليه فقال له طريف لم تشد نظرك إلي قال حميصة أريد أن أثبتك لعلي أن ألقاك في جيش فأقتلك فقال طريف اللهم لا تحول الحول حتى ألقاه ودعا حميصة مثله فقال طريف:
(أو كلما وردت عكاظ قبيلة * بعثوا إلي عريفهم يتوسم)
(لا تنكروني إنني داء لكم * شاكي السلاح في الحوادث معلم)
(حولي فوارس من أسيد جمة * وبني الهجيم وحول بيتي خضم)
(تحتي الأغر وفوق جلدي نثرة * زعنف ترد السيف وهو مثلم)
في أبيات:

602
ثم إن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وبني مرة بن ذهل بن شيبان كان بينهم شر وخصام فاقتتلوا شيئا من قتال ولم يكن بينهم دم فقال هانئ بن مسعود رئيس بني أبي ربيعة لقومه إني أكره أن يتفاقم الشر بيننا فارتحل بهم فنزل على ماء يقال له مبائض وهو قريب من مياه بني تميم فأقاموا عليه أشهرا وبلغ خبرهم بني تميم فأرسل بعضهم إلى بعض وقالوا هذا حي منفرد وإن اصطلمتموهم أوهنتم بكر بن وائل واجتمعوا وساروا على ثلاثة رؤساء أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة وابن فدكي المنقري على بني سعد وطريف بن تميم على بني عمرو بن تميم فلما قاربوا بني أبي ربيعة بلغهم الخبر فاستعدوا للقتال فخطبهم هانئ بن مسعود وحثهم على القتال فقال إذا أتوكم فقاتلوهم شيئا من قتال ثم انحازوا عنهم فإذا اشتغلوا بالنهب فعودوا إليهم فإنكم تصيبون منهم حاجتكم.
وصبحهم بنو تميم والقوم حذرون فاقتتلوا قتالا شديدا وفعلت بنو شيبان ما أمرهم هانئ فاشتغلت تميم بالغنيمة وسار به وبقيت تميم مع الغنيمة والسبي فعادت شيبان عليهم فهزموهم وقتلوهم وأسروهم كيف شاؤوا ولم تصب تميم بمثلها لم يفلت منهم إلا القليل ولم يلو أحد على أحد وانهزم طريف فاتبعه حميصة فقتله واستردت شيبان الأهل والمال وأخذوا مع ذلك ما كان معهم وفادى هانئ بن مسعود ابنه بمائة بعير وقال بعض شيبان في هذا اليوم:
(ولقد دعوت طريف دعوة جاهل * غر وأنت بمنظر لا تعلم)
(وأتيت حيا في الحروب محلهم * والجيش باسم أبيهم يستهزم)

603
(فوجدتهم يرعون حول ديارهم * بسلا إذا حام الفوارس أقدموا)
(وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا * بكتيبة مثل النجوم تلملم)
(ساموك درعك والأغر كليهما * وبنو أسيد أسلموك وخضم)
وقال عمرو بن سواد يرثي طريفا:
(لا تبعدن يا خير عمرو بن جندب * لعمري لمن زار القبور ليبعدا)
(عظيم رماد النار لا متعبس * ولا مؤيسا منها إذا هو أوقدا)
(وما كان وقافا إذا الخيل أحجمت * وما كان مبطانا إذا ما تجردا)
يوم الزويرين
قال أبو عبيدة: كانت بكر بن وائل قد أجدبت بلادهم فانتجعوا بلاد تميم بين اليمامة وهجر فلما تدانوا جعلوا لا يلقون بكري تميميا إلا قتله ولا يلقى تميمي بكريا إلا قتله إذا أصاب أحدهما مال الآخر حتى تفاقم الشر وعظم فخرج الحوفزان بن شريك والوادك بن الحرث الشيبانيان ليغيرا على بني دارم فاتفق أن تميما في تلك الحال اجتمعت في جمع كثير من عمرو بن حنظلة والرباب وسعد وغيرها وسارت إلى بكر بن وائل وعلى تميم أبو الرئيس الحنظلي فبلغ خبرهم بكر بن وائل فتقدموا وعليهم الأصم

604
عمرو بن قيس بن مسعود أبوة مفروق وحنظلة بن سيار العجلي وحمران بن عب عمرو العبسي فلما تلقوا جعلت تميم والرباب بعيرين وجللوهما وجعلوا عندهما من يحفظهما وتركوهما بين الصفين معقولين وسموهما زويرين يعني إلهين وقالوا لا نفر حتى يفر هذان البعيران فلما رأى أبو مفروق البعيرين سأل عنهما فأعلم حالهما فقال أنا زويركم وبرك بين الصفين وقال قاتلوا عني ولا تفروا حتى أفر. فاقتتل الناس قتالا شديدا فوصلت شيبان إلى البعيرين فأخذوهما فذبحوهما واشتد القتال عليهما فانهزمت تميم وقتل أبو الرئيس مقدمهم ومعه بشر كثير واجترفت بكر أموالهم ونساءهم وأسروا أسرى كثيرة ووصل الحوفزان إلى النساء والأموال وقد سار الرجل عنها للقتال فأخذ جميع ما خلفوه من النساء والأموال وعاد إلى أصحابه سالما وقال الأعشى في ذلك اليوم:
(يا سلم لا تسألي عنا فلا كشف * عند اللقاء ولا سود مقاريف)
(نحن الذين هزمنا يوم صبحنا * يوم الزويرين في جمع الأحاليف)
(ظلوا وظلت تكر الخيل وسطهم * بالشيب منا وبالمرد الغطاريف)
(تستأنس الشرف الأعلى بأعينها * لمح الصقور علت فوق الأظاليف)
(انسل عنها نسيل الصيف فانجردت * تحت اللبون متون كالزحاليف)
وقد أكثر الشعراء في هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي فمن ذلك أرجوزته التي أولها:
(إن سرك العز فجحجح بحشم *)

605
يقول فيها:
(جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم * شيخ لنا كالليث من باقي إرم)
(شيخ لنا معاود ضرب إليهم * يضرب بالسيف إذا الرمح انقصم)
(هل غير غار صك غارا فانهزم *)
الغاران بكر وتميم وله الأرجوزة التي أولها يا ربت حرب ثرة الأخلاف يذكر فيها هذا اليوم
ذكر أسر حاتم طيء
قال أبو عبيدة أغار حاتم طيء بجيش من قومه على بكر بن وائل فقاتلوهم وانهزمت طيء وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة فكان في الأسرى حاتم بن عبد الله الطائي فبقي موثقا عند رجل من عنيزة فأتته امرأة منهم اسمها عالية بناقة فقالت له افصد هذه فنحرها فلما رأتها منحورة صرخت فقال حاتم:
(عالي لا تلد من عالية * إن الذي أهلكت من ماليه)

606
(إن ابن أسماء لكم ضامن * حتى يؤدي أنس ناويه)
(لا أفصد الناقة في أنفها * لكنني أوجرها العالية)
(إني عن الفصد لفي مفخر * يكره مني المفصد الآليه)
(والخيل إن شمص فرسانها * تذكر عند الموت أمثاليه)
وقال رميض العنزي يفتخر:
(نحن أسرنا حاتما وابن ظالم * فكل ثوى في قيدنا وهو يخشع)
(وكعب إياد قد أسرنا وبعده * أسرنا أبا حسان والخيل تطمع)
(وريان غادرنا بوج كأنه * وأشياعه فيها صريم مصرع)
وقال يحيى بن منصور الذهلي قصيدة يفتخر بأيام قومه وهي طويلة وفيها آداب حسنة تركناها كراهية التطويل وأولها:
(أمن عرفان منزلة ودار * تعاورها البوارح والسواري)
وقال أبو عبيدة جاء الإسلام وليس في العرب أحد أعز دارا ولا أمنع جارا ولا أكثر حليفا من شيبان كانت عنينة من لخم في الأحلاف وكانت در مكة بن كندة في بني هند وكانت عكرمة من طيئ وحوتكة من عذرة وبنانة كل هؤلاء في بني الحرث بن همام وكانت عائذة من قريش وضبة وحواس من كندة هؤلاء في بني أبي ربيعة وكانت سليمة من بني عبد القيس في بني أسعد بن همام وكانت وثيلة من ثعلبة

607
وبنو خيبري من طيئ في بني تميم بن شيبان وكانت عوف بن حارث من كندة في بني محلم كل هذه قبائل وبطون جاورت شيبان فعزت بها وكثرت.
يوم مسحلان
قال أبو عبيدة غزا ربيعة بن زياد الكلبي في جيش من قومه فلقي جيشا لبني شيبان عامتهم بنو أبي ربيعة فاقتتلوا قتالا شديدا فظفرت بهم بنو شيبان وهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذلك يوم مسحلان وأسروا ناسا كثيرا وأخذوا ما كان معهم وكان رئيس شيبان يومئذ حيان بن عبد الله بن قيس المحلمي وقيل كان رئيسهم زياد بن مرثد من بني أبي ربيعة فقال شاعرهم:
(ربيعة سائل حيث حل بجيشه * مع الحي كلب حيث نبت فوارسه)
(عشية ولى جمعهم فتتابعوا * فصار إلينا نهبه وعوانسه)
ثم إن الربيع بن زياد الكلبي نافر قومه وحاربهم فهزموه فاعتزلهم وسار حتى حل ببني شيبان فاستجار برجل اسمه زياد من بني أبي ربيعة فقتلهم بنو أسعد بن همام ثم إن شيبان حملوا ديته إلى كلب مائتي بعير فرضوا.

608
حرب لسليم وشيبان
قال أبو عبيدة خرج جيش لبني سليم عليهم النصيب السلمي وهم يريدون الغارة على بكر بن وائل فلقيهم رجل من بني شيبان اسمه صليع بن عبد غنم وهو محرم على فرس له يسمى البحراء فقال لهم أين تذهبون قالوا نريد الغارة على بني شيبان فقال لهم مهلا فإني لكم ناصح إياكم وبني شيبان فإني أقسم لكم بالله لتأتينكم على ثلاثمائة فرس خصي سوى الفحول والإناث.
فأبوا إلا الغارة عليهم فدفع صليع فرسه ركضا حتى أتى قومه فأنذرهم فركبت شيبان واستعدوا فأتاهم بنو سليم وهم معدون فاقتتلوا قتالا شديدا فظفرت شيبان وانهزمت سليم وقتل منهم مقتلة كثيرة وأسر منهم ناس كثير ولم ينج إلا القليل وأسر النصيب رئيسهم اسره عمران بن مرة الشيباني فضرب رقبته فقال صليع:
(نهيت بني زعل غداة لقيتهم * وجيش نصيب والظنون تطاع)
(وقلت لهم إن الحريب وراكسا * به نعم ترعى المرار رتاع)
(ولكن فيه الموت يرتع سربه * وحق لهم أن يقبلوا ويطاعوا)
(متى تأته تلقى على الماء حارثا * وجيشا له يوفى بكل بقاع)

609
يوم جدود
وهو يوم بين بكر بن وائل وبني منقر من تميم.
وكان من حديثه أن الحوفزان واسمه الحارث بن شريك الشيباني كانت بينه وبين بني سليط بن يربوع موادعة فهم بالغدر بهم وجمع بني شيبان وذهلا واللهازم وعليم حمران بن عبد عمرو بن بشر بن عمرو ثم غزا وهو يرجو أن يصيب غرة من بني يربوع فلما انتهى إلى بني يربوع نذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب فنادى في قومه فحالوا بين الحوفزان وبين الماء وقال: لعتيبة إني لا أرى معك إلا رهطك وأنا في طوائف من بني بكر فلئن ظفرت بكم قل عددكم وطمع فيكم عدوكم ولئن ظفرتم بي ما تقتلون إلا أقاصي عشيرتي وما إياكم أردت فهل لكم أن تسالمونا وتأخذوا ما معنا من التمر ووالله لا نروع يربوعا أبدا.
فأخذا ما معهم من التمر وخلى سبيلهم فسارت بكر حتى أغاروا على بني ربيع بن الحارث وهو مقاعس بجدود وإنما سمي مقاعسا لأنه تقاعس عن حلف بني سعد فأغار عليهم وهم خلوف فأصاب سببا ونعما فبعث بنو ريبع صريخهم إلى بني كليب فلم يجيبوهم فأتى الصريخ بني منقر بن عبيد فركبوا في الطلب فلحقوا بكر بن وائل وهم مقاتلون فما شعر الحوفزان وهو في ظل شجرة إلا بالأهتم بن سمي بن سنان المنقري واقفا على رأسه فركب فرسه فنادى الأهتم يا آل سعد ونادى الحوفزان يا آل وائل ولحق بنو منقر فقاتلوا قتالا شديدا فهزمت بكر وخلوا السبي والأموال وتبعتهم منقر فمن قتل أسير وأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو ولم يكن لقيس بن عاصم المنقري همة إلا الحوفزان فتبعه على مهر،

610
والحوفزان على فرس فارج فلم يلحقه وقد قاربه فلما خاف أن يفوته حفزه بالرمح في ظهره فاحتفز بالطعنة ونجا فسمي يومئذ الحوفزان وقيل غير هذا وقال الأهتم في أسره حمران:
(نيطت بحمران المنية بعد ما * حشاه سنان من شراعة أزرق)
(دعا يا ل قيس واعتزيت لمنقر * وكنت إذا لاقيت في الخيل أصدق)
وقال سوار بن حيان المنقري يفتخر على رجل من بكر:
(ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة * كسته نجيعا من دم البطن أشكلا)
(وحمران قسرا أنزلته رماحنا * فعالج غلا في ذراعيه مثقلا)
(فيا لك من أيام صدق نعدها * كيوم جواثا والنباج ونبتلا)
(قضى الله أنا يوم تقتسم العلى * أحق بها منكم فأعطى فأجزلا)
(فلست بمسطيع السماء ولم تجد * لعز بناه الله فوقك منقلا)
(منقر بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف وربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة).

611
يوم الإياد وهو يوم أعشاش ويوم العظالى
وإنما سمي يوم العظالى لأن بسطام بن قيس وهانئ بن قبيصة ومفروق بن عمرو تعاظلوا على الرياسة وكانت بكر تحت يدي كسرى وفارس وكانوا يقرونهم ويجهزونهم فأقبلوا من عند عامل عين التمر في ثلاثمائة متساندين وهم يتوقعون انحدار بني يربوع في الحزن فاجتمع بنو عتيبة وبنو عبيد وبنو زبيد في الحزن فحلت بنو زبيد الحديقة وحلت بنو عتيبة وبنو عبيد روضة الثمد فاقبل جيش بكر حتى نزلوا حضبة الحصى فرأى بسطام السواد بالحديقة وثم غلام عرفه بسطام وكان قد عرف غلمان بني ثعلبة حين أسره عتيبة فسأله بسطام عن السواد الذي بالحديقة فقال هم بنو زبيد قال كم هم من بيت قال خمسون بيتا قال فأين بنو عتيبة وبنو عبيد قال هم بروضة الثمد وسائر الناس بخفاف وهو موضع فقال بسطام أتطيعونني يا بني بكر قالوا نعم قال أرى لكم أن تغنموا هذا الحي المتفرد بني زبيد وتعودوا سالمين قالوا وما يغني بنو زبيد عنا قال إن في السلامة إحدى الغنيمتين قالوا إن عتيبة بن الحارث قد مات وقال مفروق قد انتفخ سحرك يا أبا الصهباء قال هانئ اخسأ فقال إن أسيد بن جباة لا يفارق فرسه الشقراء ليلا ونهارا فإذا أحس بكم ركبها حتى يشرف على مليحة فينادي يا آل ثعلبة فيلقاكم طعن ينسيكم الغنيمة ولم يبصر أحد منكم مصرع صاحبه وقد عصيتموني وأنا تابعكم وستعلمون فأغاروا على بني زبيد وأقبلوا نحو بني أسيد وتوجه نحو بني يربوع بمليحة ونادى يا سوء صباحاه يا آل ثعلبة بن يربوع فما ارتفع

612
الضحى حتى تلاحقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت شيبان بعد أن قتلت من تميم جماعة من فرسانهم وقتل من شيبان أيضا وأسر جماعة منهم هانئ بن قبيصة ففدى نفسه ونجا فقال متمم بن نويرة في هذا اليوم:
(لعمري لنعم الحي أسمع غدوة * أسيد وقد جد الصراخ)
(وأسمع فتيانا كجنة عبقر * لم ريق عند الطعان ومصدق)
(أخذن بهم جنبي أفاق وبطنها * فما رجعوا حتى أرقوا وأعتقوا)
وقال العوام في هذا اليوم:
(فبح الاله عصابة من وائل * يوم الأفاقة أسلموا بسطاما)
(ورأى أبو الصهباء دون سوامهم * طعنا يسلي نفسه وزحاما)
(كنتم أسودا في الوغا فوجدتم * يوم الأفاقة في الغبيط نعاما)
وأكثر العوام الشعر في هذا اليوم فلما ألح فيه أخذ بسطام إبله فقالت أمه:
(أرى كل ذي شعر أصاب شعره * خلا أن عواما بما قال عيلا)
(فلا ينطقن شعرا يكون جوازه * كما شعر عوام أعام وأرجلا)
يوم الشقيقة وقتل بسطام بن قيس
هذا يوم بني شيبان وضبة بن أد قتل فيه بسطام بن قيس سيد شيبان.

613
وكان سببه أن بسطام بن قيس بن مسعود بن خالد بن عبد الله ذي الجدين غزا بني ضبة ومعه أخوه السليل بن قيس ومعه رجل يزجر الطير من بني أسد بن خزيمة يسمى نقيدا فلما كان بسطام في بعض الطريق رأى في منامه كأن آتيا أتاه فقال له الدلو تأتي الغرب المزلة فقص رؤياه على نقيد فتطير وقال ألا قلت ثم تعود باديا مبتله فتفرط عنك النحوس ومضى بسطام على وجهه فلما دنا من نقا يقال له الحسن في بلاد ضبة صعده ليراه فإذا هو بنعم قد ملأ الأرض فيه ألف ناقة لمالك بن المنتفق الضبي من بني ثعلبة بن سعد بن ضبة قد فقأ عين فحلها وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية إذا بلغت إبل أحدهم ألف بعير فقأوا عين فحلها لترد عنها العين وهي إبل مرتبعة ومالك بن المنتفق فيها على فرس له جواد.
فلما أشرف بسطام على النقا تخوف أن يروه فينذروا به فاضطجع وتدهدى حتى بلغ الأرض وقال يا بني شيبان لم أر كاليوم قط في الغرة وكثرة النعم ونظر إلى نقيد إلى لحية بسطان معفرة بالتراب لما تدهدى فتطير له أيضا وقال إن صدقت الطير فهو أول من يقتل وعزم الأسدي على فراقه فأخذته رعدة تهيبا لفراقه والانصراف عنه
وقال له ارجع يا أبا الصهباء فإني أتخوف عليك أن تقتل فعصاه ففارقه نقيد.
وركب بسطام وأصحابه وأغاروا على الإبل واطردوها وفيها فحل لمالك يقال له أبو شاعر وكان أعور فنجا مالك على فرسه إلى قومه من ضبة حتى إذا أشرف على تعشار نادى يا صباحاه وعاد راجعا وأدرك الفوارس القوم وهم يطردون النعم، فجعل فحله أبو شاعر يشذ من النعم

614
ليرجع وتتبعه الإبل، فكلما تبعته ناقة عقرها بسطام فلما رأى مالك ما يصنع بسطام وأصحابه قال ماذا السفه يا بسطام لا تعقرها فإما لنا وإما لك فأبى بسطام وكان في آخريات الناس على فرس أدهم يقال له الزعفران يحمي أصحابه فلما لحقت خيل ضبة قال لهم مالك ارموا روايا القوم فجعلوا يرمونها فيشقونها فلحقت بنو ثعلبة وفي أوائلهم عاصم بن خليفة الصباحي وكان ضعيف القتل وكان قبل ذلك يعقب قناة له فيقال له ما تصنع بهم يا عاصم فيقول أقتل عليها بسطاما فيهرعون منه.
فلما جاء الصريخ ركب فرس أبيه ومر بغير أمره ولحقه الخيل فقال لرجل من ضبة أيهم الرئيس قال صاحب الفرس الأدهم فعارضه عاصم حتى حاذاه ثم حمل عليه فطعنه بالرمح في صماخ أذنه أنفذ الطعنة إلى الجانب الآخر وخر بسطام على شجرة يقال لها الألاءة فلما رأت ذلك شيبان خلوا سبيل النعم وولوا الأدبار فمن قتيل وأسير وأسر بنو ثعلبة نجاد بن قيس أخا بسطام في سبعين من بني شيبان وكان عبد الله بن عنمة الضبي مجاورا في شيبان فخاف أن يقتل فقال يرثي بسطاما:
(لأم الأرض ويل ما أجنت * غداة أضر بالحسن السبيل)
(يقسم ماله فينا وندعو * أبا الصهباء إذ جنح الأصيل)
(أجدك لن تريه ولن نراه * تخب به عذافرة ذمول)
(حقيبة بطنها بدن وسرج * تعارضها مزببة دؤل)
(إلى ميعاد أرعن مكفهر * تضمر في جوانبه الخيول)
(لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول)

615
(لقد صمت بنو زيد بن عمرو * ولا يوفي ببسطام قتيل)
(فخر على الألاءة لم يوسد * كأن جبينه سيف صقيل)
(فان يجزع عليه بنو أبيه * فقد فجعوا وفاتهم جليل)
(بمطعام إذا الأشوال راحت * إلى الحجرات ليس لها فصيل)
فلم يبق في بكر إلا وائل بيت إلا وألقى لقتله لعلو محله؛ وقال شمعلة بن الأخضر بن هبيرة الضبي يذكره:
(ويوم شقيقة الحسنين لاقت * بنو شيبان آجالا قصارا)
(شككنا بالرماح وهن زور * صماخي كبشهم حتى استدارا)
(وأوجزناه أسمر ذا كعوب * يشبه طوله مسدا مغارا)
(الشقيقة) أرض صلبة بين جبلي رمل (والحسنان) نقوا رمل كانت الوقعة عندهما وقالت أم بسطام بن قيس ترثيه.
(لبيك ابن ذي الجدين بكر بن وائل * فقد بان منها زينها وجمالها)
(إذا ما غدا فيهم غدوا وكأنهم * نجوم سماء بينهن هلالها)
(فلله عينا من رأى مثله فتى * إذا الخيل يوم الروع هب نزالها)
(عزيز المكر لا يهد جناحه * وليث إذا الفتيان زلت نعالها)
(وحمال أثقال وعائد محجر * تحل إليه كل ذاك رحالها)
(سيبكيك عان طالما لم يجد من يفكه * ويبكيك فرسان الوغى ورجالها)
(وتبكيك أسرى طالما قد فككتهم * وأرملة ضاعت وضاع عيالها)
(مفرج حومات الخطوب ومدرك الحروب * إذا صالت وعز صيالها)

616
(تغشى بها حينا كذاك ففجعت * تميم به أرماحها ونبالها)
(فقد ظفرت منا تميم بعثرة * تلك لعمري عثرة لا تقالها)
(أصيبت به شيبان والحي يشكر * وطير يرى إرسالها وحبالها)
(عنمة بفتح العين المهملة والنون).
يوم النسار
النسار: أجبل متجاورة وعندها كانت الوقعة وهو موضع معروف عندهم.
وكان سبب ذلك اليوم أن بني تميم بن مر بن أد كانوا يأكلون عمومتهم ضبة بن أد وبني عبد مناة بن أد فأصابت ضبة رهطا من تميم فطلبتهم تميم فانزاحت جماعة الرباب وهم تيم وعدي وثور وأطحل وعكل بنو عبد مناة بن أد وضبة بن أد وإنما سمو الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في الرب حتى تحالفوا فلحقت ببني أسد وهم يومئذ حلفاء لبني ذبيان بعن بغيض فنادى صارخ بني ضبة يا آل خندف فأصرختهم بنو أسد وهو أول يوم تخندفت فيه ضبة واستمدوا حليفهم ظبيا وغطفان فكان رئيس أسد يوم النسار عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة بن نصر بن قعين وقيل خالد بن نضلة وكان رئيس الرباب حذيفة بن بدر؛ وفيه

617
يقول زهير بن أبي سلمى:
(ومن مثل حصن في الحروب ومثله * لإنداد ضيم أو لأمر يحاوله)
(إذا حل أحياء الأحاليف حوله * بذي نجب هداته وصواهله)
فلما بلغ بني تميم ذلك استمدوا بني عامر بن صعصعة فأمدوهم وكان حاجب بن زرارة على بني تميم وكان عامر بن صعصعة جوابا وهو لقب مالك بن كعب من بني أبي بكر بن كلاب لأن بني جعفر كان جواب قد أخرجهم إلى بني الحارث بن كعب فحالفوهم وقيل كان رئيس عامر شريح بن مالك القشيري وسار الجمعان فالتقوا بالنسار واقتتلوا فصبرت عامر واستحر بهم القتل وانفضت تميم فنجت ولم يصب منهم كثير وقتل شريح القشيري رأس بني عامر وقتل عبيد بن معاوية بن عبد الله بن كلاب وغيرهما وأخذ عدة أشراف نساء بني عامر منهن سلمى بنت المخلف والعنقاء بنت همام وغيرهما فقالت سلمى تعير جوابا والطفيل:
(لحي الاله أبا ليلى بفرته * يوم النسار وقنب العير جوابا)
(كيف الفخار وقد كانت بمعترك * يوم النسار بنو ذبيان أربابا)
(لم تمنعوا القوم إذا أشلوا سوامكم * ولا النساء وكان القوم أحرابا)
وقال رجل يعير جوابا والطفيل بفراره عن امرأتيه:
(وفر عن ضرتيه وجه خارئة * ومالك فر قنب العير جواب)

618
(القنب) غلاف الذكر وجواب لقب لأنه كان يجوب الآثار واسمه ملك وقال بشر بن أبي خازم في هزيمة حاجب.
(وأفلت حاجب جوب العوالي * على شقراء تلمع في السراب)
(ولو أدركن رأس بني تميم * عفرن الوجه منه بالتراب)
وكان يوم النسار بعد يوم جبلة وقتل لقيط بن زرارة:
(جواب بفتح الجيم وتشديد الواو وآخره باء موحدة؛ وخازم بالخاء المعجمة والزاي).
يوم الجفار
لما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار وكان رؤساؤهم بالجفار الرؤساء الذين كانوا يوم النسار إلا أن بني عامر قيل كان رئيسهم بالجفار عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة فالتقوا بالجفار واقتتلوا وصبرت تميم فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو بن تميم وكان يوم الجفار يسمى (الصيلم) لكثرة من قتل به وقال بشر بن أبي خازم في عصبة تميم لبني عامر:
(عصبت تميم أن يقتل عامر * يوم النسار فأعقبوا بالصيلم)
(كنا إذا نفروا لحرب نفرة * نشفي صداعهم برأس صلدم)

619
(نعلو الفوارس بالسيوف ونعتزي * والخيل مشعلة النحور من الدم)
(يخرجن من خلل الغبار عوابسا * خبب السباع بكل ليث ضيغم)
وهي عدة أبيات وقال أيضا:
(يوم الجفار ويوم النسار كانا عذابا وكانا غراما)
(فاما تميم تميم بن مر * فألفاهم القوم روبى نياما)
(وأما بنو عامر بالجفار * ويوم النسار فكانوا نعاما)
فلما أكثر بشر على تميم قيل له مالك ولتميم وهم أقرب الناس منك أرحاما فقال إذا فرغت منهم فرغت من الناس ولم يبق أحد.
يوم الصفقة والكلاب الثاني
أما يوم الصفقة وسببه فإن باذان، نائب كسرى أبرويز بن هرمز باليمن أرسل إليه حملا من اليمن فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض نجد أغارت تميم عليه وانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته فقدموا على هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مسلوبين فأحسن إليهم وكساهم وقد كان قبل

620
هذا إذا أرسل كسرى لطيمة تباع باليمن يجهز رسله ويخفرهم ويحسن جوارهم وكان كسرى يشتهي أن يراه ليجازيه على فعله فلما أحسن أخيرا إلى هؤلاء الرسل الذين أخذتهم تميم قالوا له إن الملك لا يزال يذكرك ويؤثر أن تقدم عليه. فسار معهم إليه فلما قدم عليه أكرمه وأحسن إليه وجعل يحادثه لينظر عقله فرأى ما سره فأمر له بمال كثير وتوجه بتاج من تيجانه وأقطعه أموالا بهجر.
وكان هوذة نصرانيا وأمره كسرى ان يغزو هو المكعبر مع عساكر كسرى بني تميم فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر وخاف المكعبر وهوذة إن يدخلا بلاد تميم لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون فبعثا رجالا من تميم يدعونهم إلى الميرة وكانت شديدة فأقبلوا على كل صعب وذلول فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر يدخلهم من باب على أنه يخرجهم من آخر فكل من دخل ضرب عنقه فلما طال ذلك عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالا يستعلمون الخبر فشد رجل من عبس فضرب السلسلة فقطعها وخرج من كان بالباب فأمر المكعبر بغلق الباب وقتل كل من كان بالمدينة وكان يوم الفصح فاستوهب هوذة منه مائة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح فقال الأعشى من قصيدة يمدح هوذة.
(بهم يقرب يوم الفصح ضاحية * يرجو الاله بما أسدى وما صنعا)
فصار يوم المشقر مثلا وهو يوم صفقة لا صفاق الباب وهو إغلاقه وكان يوم الصفقة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة بعد لم يهاجر.

621
وأما يوم الكلاب الثاني فإن رجلا من بني قيس بن ثعلبة قدم أرض نجران على بني الحارث بن كعب وهم أخواله فسألوه عن الناس خلفه فحدثهم أنه أصفق على بني تميم باب المشقر وقتلت المقاتلة وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها فاجتمعت بنو الحرث من مذحج وأحلافها من نهد وجرم بن زبان فاجتمعوا في عسكر عظيم بلغوا ثمانية آلاف ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة وساروا يريدون بني تميم أعيانا وتغزون أحيانا سعدا وريانا وتردون مياهها جيابا فتلقون عليها ضرابا وتكون غنيمتكم ترابا فأطيعوا أمري ولا تغزو تميما فعصوه وساروا إلى عروة فبلغ الخبر تميما فاجتمع ذوو الرأي منهم إلى أكثم بن صيفي وله يومئذ مائة وتسعون سنة فقالوا له يا أبا حيدة حقق هذا الأمر فانا قد رضيناك رئيسا. فقال لهم:
(وإن امرأ قد عاش تسعين حجة * إلى مائة لم يسأم العيش جاهل)
(مضت مائتان غير عشر وفاؤها * وذلك من عد الليالي قلائل)
ثم قال لهم: لا حاجة لي في الرياسة ولكني أشير عليكم لينزل حنظلة بن مالك بالدهناء ولينزل سعد بن زيد مناة والرباب وهم ضبة بن أد وثور وعكل وعدي بنو عبد مناة بن أد الكلاب فأي الطريقين أخذ القوم كفى أحدهما صاحبه ثم قال لهم احفظوا وصيتي لا تحضروا النساء

622
الصفوف فإن نجاة اللئيم في نفسه ترك الحريم، وأقلوا الخلاف على أمرائكم، ودعوا كثرة الصياح في الحرب فإنه من الفشل والمرء يعجز لا محالة فإن أحمق الحمق الفجور وأكيس الكيس التقى كونوا جميعا في الرأي فإن الجميع معزز للجميع إياكم والخلاف فإنه لا جماعة لمن اختلف ولا تلبثوا ولا تسرعوا فإن أحزم الفريقين الركين ورب عجلة تهب ريثا وإذا عز أخوك فيهن البسوا جلود النمور وأبرزوا للحرب وادرعوا الليل واتخذوه جملا فإن الليل أخفى للويل والثبات أفضل من القوة وأهنأ الظفر كثرة الأسرى وخير الغنيمة المال ولا ترهبوا الموت عند الحرب فإن الموت من ورائكم وحب الحياة لدى الحرب زلل ومن خير أمرائكم النعمان بن مالك بن حارث بن جساس وهو من بني تميم بن عبد مناة بن أد فقبلوا مشورته. ونزلت عمرو بن حنظلة الدهناء ونزلت سعد والرباب الكلاب وأقبلت مذحج ومن معها من قضاعة فقصدوا الكلاب وبلغ سعدا والرباب الخبر فلما دنت مذحج نذرهم شميت بن زنباع اليربوعي فركب جمله وقصد سعدا ونادى يا آل تميم يا صباحاه! فثار الناس، وانتهت مذحج إلى النعم فانتهبها الناس وراجزهم يقول:
(في كل عام نعم ننتبابه * على الكلاب غيب أصحابه * يسقط في آثاره غلابه)

623
فلحق قيس بن عاصم المنقري والنعمان بن جساس ومالك بن المنتفق في سرعان الناس فاجابه قيس يقول:
(عما قليل تلتحق أربابه * مثل النجوم حسرا سحابه)
(ليمنعن النعم اغتصابه * سعد وفرسان الوغى أربابه)
ثم حمل عليهم قيس وهو يقول:
(في كل عام نعم تحوونه * يلحقه قوم وينتجونه)
(أربابه نوكى فلا يحمونه * ولا يلاقون طعانا دونه)
(أنعم الأبناء تحسبونه * هيهات هيهات لما ترجونه)
فاقتتل القوم قتالا شديدا يومهم أجمع فحمل يزيد بن شداد بن قنان الحارثي على النعمان بن مالك بن جساس فرماه بسهم فقتله وصارت الرياسة لقيس بن عاصم واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل وباتوا يتحارسون فلما أصبحوا غدوا على القتال وركب قيس بن عاصم وركبت مذحج واقتتلوا أشد من القتال الأول فكان أول من انهزم من مذحج مدرج الرياح وهو عامر بن الجون بن عبد الله الجرمي وكان صاحب لوائهم فالقى اللواء وهرب فلحقه رجل من بني سعد فعقر به دابته فنزل يهرب ماشيا ونادى قيس عاصم يا آل تميم عليكم الفرسان ودعوا الرجالة فإنها لكم وجعل يلتقط الأسارى وأسر عبد يغوث بن الحارث بن وقاص الحارثي

624
رئيس مذحج فقتل بالنعمان بن مالك بن جساس وكان عبد يغوث شاعرا فشدوا لسانه قبل قتله لئلا يهجوهم فأشار إليهم ليحلوا لسانه ولا يهجوهم فحلوه فقال شعرا:
(ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا * فما لكما في اللوم نفع ولا ليا)
(ألم تعلما أن الملامة نفعها * قليل وما لومي أخي من شماليا)
(فيا راكبا إما عرضت فبلغن * نداماي من نجران أن لا تلاقيا)
(أبا كرب والأيهمين كليهما * وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا)
(أقول وقد شدوا لساني بنسعة * معاشر تيم أطلقوا من لسانيا)
(كأني لم أركب جوادا ولم أقل * لخيلي كرى كرة من ورائيا)
(ولم أسبإ الزق الروى ولم أقل * لإيسار صدق عظموا ضوء ناريا)
(وقد علمت عرسي مليكة أنني * أنا الليث معدوا عليه وعاديا)
(لحى الله قوما بالكلاب شهدتهم * صميمهم والتابعين والمواليا)
(ولو شئت نجتني من القوم شطبة * ترى خلفها الكمت العتاق تواليا)
(وكنت إذا ما لخيل شمصها القنا * لبيقا بتصريف القناة بنانيا)
(فيا عاص فك القيد عني فإنني * صبور على مر الحوادث ناكيا)
(فإن تقتلوني تقتلوا بي سيدا * وإن تطلقوني تحربوني ماليا)
(أبو كرب) بشر بن علقمة بن الحارث. (والأيهمان) الأسود بن علقمة بن الحرث والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض وقيس بن معد كرب،

625
فزعموا أن قيسا قال لو جعلتني أول القوم لافتديته بكل ما أملك ثم قتل ولم يقبل له فدية.
(رباب بالراء والباء الموحدة).
يوم ظهر الدهناء
هو يوم بين طيء وأسد بن خزيمة وسبب ذلك أن أوس بن حارثة بن لأم الطائي كان سيدا مطاعا في قومه وجوادا مقداما فوفد هو وحاتم الطائي على عمرو بن هند فدعا عمرو أوسا فقال له أنت أفضل أم حاتم فقال أبيت اللعن إن حاتما أوحدها وأنا أحدها ولو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة ثم دعا عمرو حاتما فقال له أنت أفضل أم أوس فقال أبيت اللعن إنما ذكرت أوسا ولأحد ولده أفضل مني فاستحسن ذلك منهما وحباهما وأكرمهما ثم إن وفود العرب من كل حي اجتمعت عند النعمان بن المنذر وفيهم أوس فدعا بحلة الملوك من حلل الملوك وقال للوفود احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم فلما كان الغد حضر القوم إلا أوسا فقيل له لم تتخلف فقال إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي أن لا أكون

626
حاضرا، وإن كنت المراد فسأطلب فلما جلس النعمان ولم ير أوسا قال اذهبوا إلى أوس فقولوا له احضر آمنا مما خفت فحضر فالبس الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة أهجه ولك ثلاثمائة ناقة فقال كيف أهجو رجلا لا أرى في بيتي أثاثا ولا مالا إلا منه! ثم قال:
(كيف الهجاء وما تنفعك صالحة * من أهل لأم بظهر الغيب تأتيني)
فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا أهجوه لكم فأعطوه النوق وهجاه فأفحش في هجائه وذكر أمه سعدى فلما عرف أوس ذلك أغار على النوق فاكتسحها وطلبه فهرب منه والتجأ إلى بني أسد عشيرته فمنعوه منه ورأوا تسليمه إليه عارا فجمع أوس جديلة طيئ وسار بهم إلى أسد فالتقوا بظهر الدهناء تلقاء تيم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو أسد وقتلوا قتلا ذريعا وهرب بشر فجعل لا يأتي حيا يطلب جوارهم ألا امتنع من إجارته على أوس ثم نزل على جندب بن حصن الكلابي بأعلى الصمان فأرسل إليه أوس يطلب منه بشرا. فأرسله إليه. فلما قدم به على أوس أشار عليه قومه بقتله فدخل على أمه سعدى فاستشارها فأشارت أن يرد عليه ماله ويعفو عنه ويحبوه فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه فقبل ما أشارت به وخرج إليه وقال: يا بشر ما ترى إني اصنع بك؟ فقال:
(إني لأرجو منك يا أوس نعمة * وإني لأخرى منك يا أوس راهب)
(وإني لأمحو بالذي أنا صادق * به كل ما قد قلت إذ أنا كاذب)
(فهل نافعي في اليوم عندك أنني * سأشكر إن أنعمت والشكر واجب)
(فدى لابن سعدي اليوم كل عشيرتي * بني أسد أقصاهم والأقارب)
(تداركني أوس بن سعدي بنعمة * وقد أمكنته من يدي العواقب)
فمن عليه أوس وحمله على فرس جواده ورد عليه ما كان أخذ منه وأعطاه

627
من ماله مائة من الإبل فقال بشر لا جرم مدحت أحدا حتى أموت غيرك ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
(أتعرف من هنيدة رسم دار * بحرجي ذروة فإلى لواها)
(ومنها منزل ببراق خبت * عفت حقبا وغيرها بلاها)
وهي طويلة.
يوم لقيط
وكان من حديثه أن اللهازم تجمعت وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعهما عجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار لتغير على بني تميم وهم غارون فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري وكان أسيرا في قيس بن ثعلبة فقال لهم أعطوني رجلا أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجاتي فقالوا له ترسله ونحن حضور قال نعم فاتوه بغلام مولد فقال أتيتموني بأحمق فقال الغلام والله ما أنا بأحمق فقال إني أراك مجنونا قال والله ما بي جنون قال أتعقل قال نعم إني لعاقل قال فالنيران أكثر أم الكواكب قال الكواكب ولك كثيرة فملأ كفه رملا وقال كم في كفي قال لا أدري فإنه لكثير فأومأ إلى الشمس بيده وقال ما تلك قال الشمس قال ما أراك إلا عاقلا فأبلغهم السلام وقل لهم ليحسنوا

628
إلى أسيرهم فإني عند قوم يحسنون إلي ويكرموني وقل لهم فليعروا جملي الأحمر ويركبوا ناقتي العيساء وليرعوا حاجتي في بني مالك وأخبرهم أن العوسج قد أورق وأن النساء قد اشتكت وليعصوا همام بن بشامة فإنه مشؤوم مجدود وليطيعوا هذيل بن الأخنس فإنه حازم ميمون واسألوا الحرث عن خبري.
وسار الرسول فأتى قومه فأبلغهم فلم يدروا ما أراد فأحضروا الحارث وقصوا عليه خبر الرسول فقال للرسول أقصص علي أول قصتك فقص عليه أول ما كلمه حتى أتى على آخره فقال أبلغه التحية والسلام وأخبره أنا نستوصي بما أوصى به فعاد الرسول ثم قال لبني العنبر صاحبكم قد بين لكم أما الرمل الذي جعله في كفه فإنه يخبركم أنه قد أتاكم عدد لا يحصى وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول ذلك أوضح من الشمس وأما جمله الأحمر فالصمان فإنه يأمركم أن تعروه يعني ترتحلوا عنه وأما ناقته العيساء فإنه يأمركم أن تحترزوا في الدهناء وأما بنو مالك فإنه يأمركم أن تنذروهم معكم وأما إيراق العوسج فإن القوم قد لبسوا السلاح وأما اشتكاء النساء فإنه يريد أن النساء قد خرزن الشكاء وهي أسقية الماء للغزو.
فحذر بنو العنبر وركبوا الدهناء وأنذروا بني مالك فلم يقبلوا منهم.
ثم إن اللهازم وعجلا وعنزة أتوا بني حنظلة فوجدوا عمرا قد أجلت فأوقعوا ببني دارم بالوقيط فاقتتلوا قتالا شديدا وعظمت الحرب بينهم فأسرت ربيعة جماعة من رؤساء بني تميم منهم ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فجزوا ناصيته وأطلقوه وأسروا عثجل بن المأمون بن زرارة وجويرة بن بدر بن عبد الله بن دارم ولم يزل في الوثاق حتى رآهم يوما

629
يشربون فأنشأ يتغنى يسمعهم ما يقول:
(وقائلة ما غاله أن يزورنا * وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل)
(وقد أدركتني والحوادث جمة * مخالب قوم لا ضعاف ولا عزل)
(سراع إلى الجلى بطاء عن الخنا * رزان لدى الباذين في غير ما جهل)
(لعلهم أن يمطروني بنعمة * كما صاب ماء المزن في البلد المحل)
(فقد ينعش الله الفتى بعد ذلة * وقد تبتني الحسنى سراة بني عجل)
فلما سمعوا الأبيات أطلقوه
وأسر أيضا نعيم وعوف ابنا القعقاع بن معبد بن زرارة وغيرهما من سادات بني تميم وقتل حكيم بن
جذيمة بن الأصيلع النهشلي ولم يشهدها من نهشل غيره وعادت بكر فمرت بطريقها بعد الوقعة بثلاثة نفر من بني العنبر لم يكونوا ارتحلوا مع قومهم فلما رأوهم طردوا إبلهم فأحرزوها من بكر وأكثر الشعراء في هذا اليوم فمن ذلك قول أبي مهوش الفقعسي يعير تميما بيوم الوقيط.
(فما قاتلت يوم الوقيطين نهشل * ولا الأنكد الشؤمي فقيم بن دارم)
(ولا قضبت عوف رجال مجاشع * ولا قشر الأستاه غير البراجم)
وقال أبو الطفيل عمرو بن خالد بن محمود بن عمرو بن مرثد:

630
(حكت تميم بركها لما التقت * راياتنا ككواسر العقبان)
(دهموا الوقيط بجحفل جم الوغى * ورماحها كنوازع الأشطان)
يوم المروت
وهو يوم بني تميم وعامر بن صعصعة.
وكان سببه أنه التقى قعنب بن عتاب الرياحي وبحير بن عبد الله بن سلمة العامري بعكاظ فقال بحير لقعنب ما فعلت فرسك البيضاء؟ قال: هي عندي وما سؤالك عنها؟ قال لأنها نجتك مني يوم كذا وكذا فأنكر قعنب ذلك وتلاعنا وتداعيا أن يجعل الله ميته الكاذب بيد الصادق فمكثا ما شاء الله وجمع بحير بني عامر وسار بهم فأغار
على بني العنبر بن عمرو بن تميم بارم الكلبة وهم خلوف فاستاق السبي والنعم ولم يلق قتالا شديدا وأتى الصريخ بني العنبر بن عمرو بن تميم وبني مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني يربوع بن حنظلة فركبوا في الطلب فتقدمت عمرو بن تميم فلما انتهى بحير إلى المروت قال يا بني عامر انظروا هل ترون شيئا قالوا نرى خيلا عارضة رماحها على كواهل خيلها قال هذه عمرو بن تميم وليست بشيء فلحق بهم بنو عمرو فقاتلوهم شيئا من القتال ثم صدروا عنهم ومضى بحير ثم قال:

631
يا بني عامر انظروا هل ترون شيئا قالوا نرى خيلا ناصبة رماحها قال هذه مالك بن حنظلة وليست بشيء فلحقوا فقاتلوا شيئا من قتال ثم صدروا عنهم ومضى بحير وقال يا بني عامر انظروا هل ترون شيئا قالوا نرى خيلا ليست معها رماح كأنما عليها الصبيان قال هذه يربوع رماحها بين آذان خيلها إياكم والموت الزؤام فاصبروا ولا أرى أن تنجوا.
فكان أول من لحق من بني يربوع الواقعة وهو نعيم بن عتاب وكان يسمى الواقعة لبليته فحمل على المثلم القشيري فأسره وحملت قشير على دوكس بن واقد بن حوط فقتلوه وأسر نعيم المصفى القشيري فقتله وحمل كدام بن بجيلة المازني على بحير فعانقه ولم يكن لقعنب همة إلا بحير فنظر إليه وإلى كدام قد تعانقا فاقبل نحوهما فقال كدام: يا قعنب أسيري فقال قعنب ماز رأسك والسيف يريد يا مازني فخلى عنه كدام وشد عليه قعنب فضربه فقتله وحمل قعنب أيضا على صهبان وأم صهبان مازنية فأسره فقالت بنو مازن يا قعنب قتلت أسيرنا فاعطنا ابن أخينا مكانه فدفع إليهم صهبان في بحير فرضوا بذلك واستنقذت بنو يربوع أموال بني العنبر وسبيهم من بني عامر وعادوا.
(بحير بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة).
يوم فيف الريح
وهو بين عامر بن صعصعة والحرث بن كعب وكان خبره ان بني عامر كانت تطلب بني الحرث بن كعب بأوتار كثيرة فجمع لهم الحصين

632
ابن يزيد بن شداد بن قنان الحارثي وهو ذو الغصة واستعان بجعفي زبيد وقبائل سعد العشيرة ومراد وصداء ونهد وخثعم وشهران وناهس ثم أقبلوا يريدون بني عامر وهم منتجعون مكانا يقال له فيف الريح ومع مذحج النساء والذراري حتى لا يفروا فاجتمعت بنو عامر فقال لهم عامر بن الطفيل أغيروا بنا على القوم فإني أرجو أن نأخذ غنائمهم ونسبي نساءهم ولا تدعوهم يدخلون عليكم فأجابوه إلى ذلك وساروا إليهم فلما دنوا من بني الحرث ومذحج ومن معهم أخبرتهم عيونهم وعادت إليهم مشايخهم فحذروا فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام يغادونهم القتال بفيف الريح فالتقى الصميل بن الأعور الكلابي وعمرو بن صبيح النهدي فطعنه عمرو فاعتنق الصميل فرسه.
وعاد فلقيه رجل من خثعم فقتله وأخذ درعه وفرسه وشهدت بنو نمير يومئذ مع عامر بن الطفيل فأبلوا بلاء حسنا وسموا ذلك اليوم حريجة الطعان لأنهم اجتمعوا برماحهم فصاروا بمنزلة الحرجة وهي شجر مجتمع.
وسبب اجتماعهم أن بني عامر جالوا جولة إلى موضع يقال له العرقوب والتفت عامر بن الطفيل فسأل عن بني نمير فوجدهم قد تخلفوا في المعركة فرجع وهو يصيح يا صباحاه يا نميراه ولا نمير لي بعد اليوم حتى اقتحم فرسه وسط القوم فقويت نفوسهم وعادت بنو عامر وقد طعن عامر بن الطفيل ما بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنه وكان عامر في ذلك اليوم يتعهد الناس فيقول يا فلان ما رأيتك فعلت شيئا فمن أبلى فليرني سيفه

633
أو رمحه ومن لم يبل شيئا تقدم فأبلى فكان كل من أبلى بلاء حسنا أتاه فأراه الدم على سنان رمحه أو سيفه فأتاه رجل من الحارثيين اسمه مسهر فقال له يا أبا علي أنظر ما صنعت بالقوم انظر إلى رمحي فلما أقبل عليه عامر لينظر وجأه بالرمح في وجنته ففلقها وفقأ عينه وترك رمحه وعاد إلى قومه وإنما دعاه إلى ذلك ما رآه يفعل بقومه فقال هذا والله مبير قومي فقال عامر بن الطفيل:
(أتونا بشهران العريضة كلها * وأكلب طرا في جياد النسور)
(لعمري وما عمري علي بهين * لقد شان حر الوجه طعنه مسهر)
(فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا * جبانا وما أغنى لدى كل محضر)
وأسرت بنو عامر يومئذ سيد مراد جريحا فلما برأ من جراحته أطلق وممن أبلى يومئذ أريد بن قيس بن حر بن خالد بن جعفر وعبيد بن شريح بن الأحوص بن جعفر وقال لبيد بن ربيعة ويقال انها لعامر بن الطفيل:
(أتونا بشهران العريضة كلها * وأكلها في مثل بكر بن وائل)
(فبتنا ومن ينزل به مثل ضيفنا * يبت عن قرى أضيافه غير غافل)
(أعاذل لو كان البداد لقوبلوا * ولكن أتانا كل جن وخابل)
(وخثعم حي يعدلون بمذحج * فهل نحن إلا مثل احدى القبائل)

634
يوم اليحاميم ويعرف أيضا بقارات حوق
وهو بين قبائل طيء بعضها في بعض وكان سبب ذلك أن الحرث بن جبلة الغساني كان قد أصلح بين طيء فلما هلك عادت إلى حربها فالتقت جديلة والغوث بموضع يقال له غرثان فقتل قائد بني جديلة وهو أسبع بن عمرو بن لأم عم أوس بن خالد بن حارثة بن لأم وأخذ رجل من سنبس يقال له مصعب أذنيه فخصف بهما نعليه وفي ذلك يقول أبو سروة السنبسي:
(نخصف بالآذان منكم نعالنا * ونشرب كرها منكم في الجماجم)
وتناقل الحيان في ذلك اشعارا كثيرة وعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم وعزم على لقاء الحرب بنفسه وكان لم يشهد الحروب المتقدمة هو ولا أحد من رؤساء طيء كحاتم بن عبد الله وزيد الخيل وغيرهم من الرؤساء فلما تجهز أوس للحرب وأخذ في جمع جديلة ولفها قال أبو جابر:
(أقيموا علينا القصد يا آل طيء * وإلا فإن العلم عند التحاسب)
(فمن مثلنا يوما إذا الحرب شمرت * ومن مثلنا يوما إذا لم نحاسب)
(فإن تقطعيني أو تريدي مساءتي * فقد قطع الخوف المخوف ركائبي)
وبلغ الغوث جمع أوس لها وأوقدت النار على مناع وهي ذروة أجأ،

635
وذلك أول يوم توقد عليه النار فأقبلت قبائل الغوث كل قبيلة وعليها رئيسها منهم زيد الخيل وحاتم وأقبلت جديلة مجتمعة على أوس بن حارثة بن لأم وحلف أوس أن لا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى وتجبى له أهلها وتزاحفوا والتقوا بقارات حوق على راياتهم فاقتتلوا قتالا شديدا ودارت الحرب على بني كباد بن جندب فأبيروا قال عدي بن حاتم إني لواقف يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذا نظرت إلى زيد الخيل قد حضر ابنيه مكنفا وحريثا في شعب لا منفذ له وهو يقول أي بني أبقيا على قومكما فإن اليوم يوم التفاني فإن يكن هؤلاء أعماما فهؤلاء أخوال فقلت كأنك كرهت قتال أخوالك قال فاحمرت عيناه غضبا وتطاول إلي حتى نظرت إلى ما تحته من سرجه فخفته فضربت فرسى وتنحيت عنه واشتغل بنظره إلي عن ابنيه فخرجا كالصقرين وحمل قيس بن عازب على بحير بن زيد الخيل بن حارثة بن لأم فضرب على رأسه ضربة عنق لها بحير فرسه وولى فانهزمت جديلة عند ذلك وقتل فيها قتل ذريع فقال زيد الخيل.
(يجيء بني لأم جياد كأنها * عصائب طير يوم طل وحاصب)
(فإن تنج منها لا يزل بك شامة * إناء حيا بين الشجا والترائب)
(وفر ابن لأم واتقانا بظهره * يردعه بالرمح قيس بن عازب)
(وجاءت بنو معن كأن سيوفهم * مصابيح من سقف فليس بآيب)
(وما فر حتى أسلم بن حمارس * لوقعة مصقول من البيض قاضب)
فلم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم فدخلوا بلاد كعب فحالفوهم وأقاموا معهم.

636
يوم ذي طلوح
وهو يوم الصمد ويوم أود أيضا وهو بين بكر وتميم وكان من حديثه أن عميرة بن طارق بن أرقم اليربوعي التميمي تزوج مرية بنت جابر العجلي أخت أبجر وسار إلى عجل ليبتني بأهله وكان له في بني تميم امرأة أخرى
تعرف بابنة النطف من بني تميم فاتى أبجر أخته يزورها وزوجها عندها فقال لها أبجر إني لأرجو أن آتيك بابنة النطف امرأة عميرة فقال له ما أراك تبقي علي حين تسلبني أهلي فندم أبجر وقال له ما كنت لأغزو قومك ولكنني مستأسر في هذا الحي من تميم وجمع أبجر والحوفزان بن شريك الشيباني الحوفزان على شيبان وأبجر على اللهازم ووكلا بعميرة من يحرسه لئلا يأتي قومه فينذرهم فسار الجيش فاحتال عميرة على الموكل بحفظه وهرب منه وجد السير إلى أن وصل إلى بني يربوع فقال لهم قد غزاكم الجيش من بكر بن وائل فاعلموا بني ثعلبة بطنا منهم فأرسلوا طليعة منهم فبقوا ثلاثة أيام ووصلت بكر فركبت يربوع والتقوا بذي طلوح فركب عميرة ولقي أبجر فعرفه نفسه والتقى القوم واقتتلوا فكان الظفر ليربوع وانهزمت بكر واسر الحوفزان وابنه شريك وابن عنمة الشاعر وكان مع بني شيبان فافتكه متمم بن نويرة وأسر أكثر الجيش البكري وقال ابن عنمة يشكر متمما:

637
(جزى الله رب الناس عني متمما * بخير الجزاء ما أعف وأجودا)
(أجيرت به أبناءنا ودماؤنا * وشارك في اطلاقنا وتفردا)
(أبا نهشل إني لكم غير كافر * ولا جاعل من دونك المال سرمدا)
يوم أقرن
قال أبو عبيدة غزا عمرو بن عمرو بن عدس التميمي بني عبس فأخذ إبلهم واستاق سبيهم وعاد حتى إذا كان أسفل ثنية أقرن نزل وابتنى بجارية من السبي ولحقه الطلب فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل أنس الفوارس بن زياد العبسي عمرا وابنه حنظلة واستردوا الغنيمة والسبي فنعى جرير على بني دارم ذلك فقال:
(أتنسون عمرا يوم برقة أقرن * وحنظلة المقتول إذ هو يافعا)
وكان عمرو أسلع أبرص وكان هو ومن معه قد أخطأوا ثنية الطريق في عودهم وسلكوا غير الطريق فسقطوا من الجبل الذي سلكوه فلقوا شدة ففي ذلك يقول عنترة:
(كأن السرايا يوم نيق وصارة * عصائب طير ينتحين لمشرب)
(شفى النفس مني أو دنا لشفائها * تهورهم من حالق متصوب)
(وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم * مراتب عمرو وسط نوح مسلب)
وكانت أم سماعة بن عمرو بن عمرو من عبس فزاره خاله فقتل بابيه،

638
فقال في ذلك مسكين الدارمي:
(وقاتل خاله بابيه منا * سماعة لم يبغ نسبا بخال)
يوم السلان
قال أبو عبيدة كان بنو عامر بن صعصعة حمسا والحمس قريش ومن له فيهم ولادة والحمس متشددون في دينهم وكانت عامر أيضا لقاحا لا يدينون للملوك فلما ملك النعمان بن المنذر ملكه كسرى أبرويز وكان يجهز كل عام لطيمة وهي التجارة لتباع بعكاظ عرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه وهو وبرة بن رومانس الكلبي وبعث إلى صنائعه ووضائعه والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزيه والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم فأجابوه فأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه حبيش بن دلف وكان فارسا شجاعا فاجتمعوا في جيش عظيم فجهز النعمان معهم عيرا وأمرهم بتسييرها وقال لهم إذا فرغتم من عكاظ وانسلخت الحرب ورجع كل قوم إلى بلادهم فاقصدوا بني عامر فإنهم قريب بنواحي السلان فخرجوا وكتموا أمرهم وقالوا خرجنا لئلا يعرض أحد للطيمة الملك.
فلما فرغ الناس من عكاظ علمت قريش بحالهم فأرسل عبد الله بن

639
جدعان قاصدا إلى بني عامر يعلمهم الخبر فسار إليهم وأخبرهم خبرهم فحذروا وتهيأوا للحرب وتحرزوا ووضعوا العيون وعاد عامر عليهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة وأقبل الجيش فالتقوا بالسلان فاقتتلوا قتالا شديدا فبينما هم يقتتلون إذ نظر يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق إلى وبرة بن رومانس أخي النعمان فأعجبه هيئته فحمل عليه فأسره فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة فناهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فقاتل هو وبنوه قتالا شديدا فلما رآه أبو براء عامر بن مالك وما يصنع ببني عامر هو وبنوه حمل عليه وكان أبو براء رجلا شديد الساعد فلما حمل على ضرار اقتتلا فسقط ضرار إلى الأرض وقاتل عليه بنوه حتى خلصوه وركب وكان شيخا فملا ركب قال من سره بنوه ساءته نفسه فذهبت مثلا يعني من سره بنوه إذا صاروا رجالا كبر وضعف فساءه ذلك وجعل أبو براء يلح على ضرار طمعا في فدائه وجعل بنوه يحمونه فلما رأى ذلك أبو براء قال له لتموتن أو لأموتن دونك فأحلني على رجل له فداء فأومأ ضرار إلى حبيش بن دلف وكان سيدا فحمل عليه أبو براء فأسره وكان حبيش أسود نحيفا دميما فلما رآه كذلك ظنه عبدا وأن ضرار خدعه فقال له إنا لله أعزز سائر القوم ألا في الشؤم وقعت فلما سمعها حبيش منه خاف أن يقتله فقال أيها الرجل أن كنت تريد اللبن يعني الإبل فقد أصبته فافتدى نفسه بأربعمائة بعير وهزم جيش النعمان فلما رجع الفل اليه أخبروه بأسر أخيه وبقيام ضرار بأمر الناس وما جرى له مع أبي براء وافتدى وبرة بن رومانس نفسه بألف بعير وفرس من يزيد الصعق فاستغنى يزيد وكان قبله خفيف الحال وقال لبيد يذكر أيام قومه:
(إني امرؤ منعت أرومة عامر * ضيمي وقد حنقت علي خصوم)

640
يقول فيها:
(وغداة قاع القريتين أتاهم * رهوا يلوح خلالها التسويم)
(بكتائب رجح تعود كبشها * نطح الكباش كأنهن نجوم)
قوله قاع القريتين يعني يوم السلان.
(حبيس بن دلف بضم الحاء المهملة وبالباء الموحدة وبالياء المثناة من تحتها نقطتان وآخره شين معجمة).
يوم ذي علق
وهو يوم التقى فيه بنو عامر بن صعصعة وبنو أسد بذي علق فاقتتلوا قتالا عظيما قتل في المعركة ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري أبو لبيد الشاعر وانهزمت عامر فتبعهم خالد بن نضلة الأسدي وابنه حبيب والحرث بن خالد بن المضلل وأمعنوا في الطلب فلم يشعروا الا وقد خرج عليهم أبو براء عامر بن مالك من وراء ظهورهم في نفر من أصحابه فقال لخالد يا أبا معقل إن شئت أجزتنا وأجزناك حتى نحمل جرحانا وندفن قتلانا قال قد فعلت فتواقفوا فقال له أبو براء هل علمت ما فعل ربيعة قال نعم تركته قتيلا قال ومن قتله قال ضربته أنا وأجهز عليه صامت بن الأفقم فلما سمع أبو براء بقتل ربيعة حمل على خالد هو ومن معه فمانعهم خالد وصاحباه وأخذوا سلاح حبيب بن خالد ولحقهم بنو أسد فمنعوا

641
أصحابهم وحموهم فقال الجميح.
(سائل معدا عن الفوارس * لا أوفوا بجيرانهم ولا سلموا)
(يسعى بهم قرزل ويستمع الناس * إليهم وتخفق اللمم)
(ركضا وقد غادروا ربيعة في الآثار * لما تقارب النسم)
(في صدره صعدة ويخلجه بالرمح حران باسلا أضم)
[قرزل] فرس الطفيل والد عامر بن الطفيل وقال لبيد من قصيدة يذكر أباه:
(ولا من ربيعة المقترين وريته * بذي علق فاقني حياءك واصبري)
يوم الرقم
قال أبو عبيدة غزت عامر بن صعصعة غطفان ومع بني عامر يومئذ عامر بن الطفيل شابا لم يرأس بعد فبلغوا وادي الرقم وبه بنو مرة بن عوف بن سعد ومعهم قوم من أشجع بن ذئب بن غطفان وناس من فزارة ابن ذبيان فنذروا ببني عامر وهجمت عليهم بنو عامر بالرقم وهو واد بقرب تضرع فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فأقبل عامر بن الطفيل فرأى

642
امرأة من فزارة فسألها فقالت أنا أسماء بنت نوفل الفزاري وقيل كانت أسماء بنت حصن بن حذيفة فبينا عامر
يسألها خرج عليه المنهزمون من قومه وبنو مرة في أعقابهم فلما رأى ذلك عامر ألقى درعه إلى أسماء وولى منهزما فأدتها إليه بعد ذلك وتبعتهم مرة وعليهم سنان بن حارثة بن أبي حارثة المري وجعل الأشجعيون يذبحون كل من أسروه من بني عامر لوقعة كانت أوقعتها بهم بنو عامر فذلك البطن من بني أشجع يسمون بني مذحج فذبحوا سبعين رجلا منهم فقال عامر بن طفيل يذكر غطفان ويعرض بأسماء:
(قد ساءلت أسماء وهي خفية * لضحائها أطردت أم لم أطرد)
(فلأبغينكم القنا وعوارضا * ولأقبلن الخيل لابة ضرغد)
(ولأبرزن بمالك وبمالك * وأخي المرورات الذي لم يسند)
في أبيات عدة فلما بلغ شعره غطفان هجاه منهم جماعة وكان نابغة بن ذبيان حينئذ غائبا عند ملوك غسان قد هرب من النعمان فلما آمنه النعمان وعاد سأل قومه عما هجوا به عامر بن الطفيل فأنشدوه ما قالوا فيه وما قاله فيهم فقال لقد أفحشتم وليس مثل عامر يهجي بمثل هذا ثم قال يخطئ عامرا في ذكره امرأة من عقائلهم.
(فإن يك عامر قد قال جهلا * فإن مطية الجهل الشباب)
(فإنك سوف تحلم أو تباهي * إذا ما شبت أو شاب الغراب)
(فكن كأبيك أو كأبي براء * توفقك الحكومة والصواب)
(فلا تذهب بحلمك طاميات * من الخيلاء ليس لهن باب)
إلى أخرها فلما سمعها عامر قال ما هجيت قبلها.

643
يوم ساحوق
قال أبو عبيدة غزت بنو ذبيان بني عامر وهم بساحوق وعلى ذبيان سنان بن أبي حارثة المري وقد جهزهم وأعطاهم الخيل والإبل وزودهم فأصابوا نعما كثيرة وعادوا فلحقتهم بنو عامر واقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت بنو عامر وأصيب منهم رجال وركبوا الفلاة فهلك أكثرهم عطشا وكان الحر شديدا وجعلت ذبيان تدرك الرجل منهم فيقولون له قف ولك نفسك وضع سلاحك فيفعل وكان يوما عظيما على عامر وانهزم عامر بن الطفيل وأخوه الحكم ثم أن الحكم ضعف وخاف أن يؤسر فجعل في عنقه حبلا وصعد إلى شجرة وشده ودلى نفسه فاختنق وفعل مثله رجل من بني غني فلما ألقى نفسه ندم فاضطرب فأدركوه وخلصوه وعيروه بجزعه وقال عروة بن الورد العبسي في ذلك:
(ونحن صبحنا عامرا في ديارها * علالة أرماح وضربا مذكرا)
(بكل رقاق الشفرتين مهند * ولدن من الخطي قد طرا سمرا)
(عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم * ومقتلهم إذ يلتقي كان أجدرا)

644
يوم أعيار ويوم النقيعة
كان المثلم بن المشجر العائذي ثم الضبي مجاورا لبني عبس فتقامر هو وعمارة بن زياد هو أحد الكملة فقمره عمارة حتى اجتمع عليه عشرة أبكر فطلب منه المثلم أن يخلي عنه حتى يأتي أهله فيرسل إليه بالذي له فأبى ذلك فرهنه ابنه شرحاف بن المثلم وخرج المثلم فاتى قومه فأخذ البكارة فأتى بها عمارة وافتك ابنه فلما انطلق بابنه قال له في الطريق يا أبتاه من معضال قال ذلك رجل من بني عمك ذهب فلم يوجد إلى الساعة قال شرحاف فإني قد عرفت قاتله قال أبوه ومن هو قال عمارة بن زياد سمعته يقول للقوم يوما وقد أخذ فيه الشراب أنه قتله لم يلق له طالبا ولبثوا بعد ذلك حينا وشب شرحاف ثم أن عمارة جمع جمعا عظيما من عبس وأغار بهم على بني ضبة فأخذوا إبلهم وركبت بنو ضبة فأدركوهم في المرعى فلما نظر شرحاف إلى عمارة قال يا عمارة أتعرفني قال من أنت قال أنا شرحاف أد إلي ابن عمي معضالا لا مثله يوم قتلته وحمل عليه فقتله واقتتلت ضبة وعبس قتالا شديدا واستنقذت ضبة الإبل وقال شرحاف:
(ألا أبلغ سراة بني بغيض * بما لاقت سراة بني زياد)
(وما لاقت جذيمة إذ تحامي * وما لاقى الفوارس من بجاد)
(تركنا بالنقيعة آل عبس * شعاعا يقتلون بكل واد)
(وما إن فاتنا إلا شريد * يؤم الفقر في تيه البلاد)

645
(فسل عنا عمارة آل عبس * وسل وردا وما كان بداد)
(تركتهم بوادي البطن رهنا * لسيدان القرارة والجلاد)
يوم النباة
قال أبو عبيدة خرجت بنو عامر تريد غطفان لتدرك بثأرها يوم الرقم ويوم ساحوق فصادفت بني عبس وليس معهم أحد من غطفان وكانت عبس لم تشهد يوم الرقم ولا يوم ساحوق مع غطفان ولم يعينوهم على بني عامر وقيل بل شهدها أشجع وفزارة وغيرهما من بين غطفان على ما نذكره قال وأغارت بنو عامر على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها وعادا متوجهين إلى بلادهم فضلوا في الطريق فسلكوا وادي النباة فأمعنوا فيه ولا طريق لهم ولا مطلع حتى قاربوا آخره وكاد الجبلان يلتقيان إذا هم بامرأة من بني عبس تخبط الشجر لهم في قلة الجبل فسألوها عن المطلع فقالت لهم الفوارس المطلع وكانت قد رأت الخيل قد أقبلت وهي على الجبل ولم يرها بنو عامر لأنهم في الوادي فأرسلوا رجلا إلى قلة الجبل ينظر فقال لهم أرى قوما كأنهم الصبيان على متون الخيل أسنة رماحهم

646
عند آذان خيلهم قالوا تلك فزارة قال وأرى قوما بيضا جعادا كأن عليهم ثيابا حمرا قالوا تلك أشجع قال وأرى قوما نسورا قد قلعوا خيولهم بسوادهم كأنما يحملونها حملا بأفخاذهم آخذين بعوامل رماحهم يجرونها قالوا تلك عبس أتاكم الموت الزؤام ولحقهم الطلب بالوادي فكان عامر بن الطفيل أول من سبق على فرسه الورد ففات القوم وأعيا فرسه الورد وهو المربوق أيضا فعقره لئلا تفتحله فزارة واقتتل الناس ودام القتال بينهم وانهزمت عامر فقتل منهم مقتلة كبيرة قتل فيها من أشرافهم البراء بن عامر بن مالك وبه يكنى أبوه وقتل نهشل وأنس وهزار بنو مرة بن أنس بن خالد بن جعفر وقتلوا عبد الله بن الطفيل أخا عامر قتله الربيع بن زياد العبسي وغيرهم كثير وتمت الهزيمة على بني عامر.
يوم الفرات
قال أبو عبيدة أغار المثنى بن حارثة الشيباني وهو ابن أخت عمران بن مرة على بني تغلب وهم عند الفرات وذلك قبيل الإسلام فظفر بهم فقتل من أخذ من مقاتلتهم وغرق منهم ناس كثير في الفرات وأخذ أموالهم وقسمها بين أصحابه فقال شاعرهم في ذلك:

647
(ومنا الذي غشى الدليكة سيفه * على حين أن أعيا الفرات كتائبه)
(ومنا الذي شد الركي ليستقي * ويسقي محضا غير ضاف جوانبه)
(ومنا غريب الشام لم ير مثله * أفك لعان قد تناءى أقاربه)
(الدليكة) فرس المثنى بن حارثة والذي شد الركي مرة بن همام وغريب الشام ابن القلوص بن النعمان بن ثعلبة.
يوم بارق
قال المفضل الضبي إن بني تغلب والنمر بن قاسط وناسا من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق وهي أرض السواد وأرسلوا وفدا منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح فاجتمعت شيبان ومن معهم وأرادوا قصد تغلب ومن معهم فقال زيد بن شريك الشيباني إني قد اجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط فامضوا جواره وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم فقتلوا منهم مقتله عظيمة لم تصب تغلب بمثلها واقتسموا الأسرى والأموال وكان من أعظم الأيام عليهم قتل الرجال ونهب الأموال وسبى الحريم فقال أبو كلبة الشيباني:
(وليلة بسعادى لم تدع سندا * لتغلبي ولا أنفا ولا حسبا)
(والنمريون لولا سر من ولدوا * من آل مرة شاع الحي منتهبا)

648
يوم طخفة
وهو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر.
قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الردافة وهي بمنزلة الوزارة وكان الرديف يجلس عن يمين الملك
كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيرا عن كبير فلما كان أيام النعمان وقيل أيام ابنه المنذر سألها حاجب بن زرارة الدارمي التميمي النعمان أن يجعلها للحرث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي فقال النعمان لبني يربوع في هذا وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك فامتنعوا وكان منزلهم أسفل طخفة فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحسانا أخاه ابني المنذر قابوس على الناس وحسان على المقدمة وضم إليهما جيشا كثيفا منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا وصبرت يربوع وانهزم قابوس ومن معه وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره وأراد أن يجز ناصيته فقال إن الملوك لا تجز نواصيها فأرسله وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله فعاد المنهزمون إلى النعمان وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك فقال له يا شهاب أدرك ابني وأخي فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم وأرد عليهم ردافتهم وأترك لهم من قتلوا وما غنموا وأعطيهم الفي بعير فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما ووفى الملك لبني يربوع بما قال ولم يعرض لهم في ردافتهم وقال مالك بن نويرة:

649
(ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما * رأى القوم منه الموت والخيل تلحب)
(عليه دلاص ذات نسج وسيفه * جران من الهندي أبيض مقضب)
(طلبنا بها إنا مداريك نيلها * إذا طلب الشأو البعيد المغرب)
يوم النباج وثيتل
قال أبو عبيدة غزا قيس بن عاصم المنقري ثم التميمي مقاعس وهم بطون من تميم وهم صريم وربيع وعبيد بنو الحرث بن عمرو بن كعب بن سعد وغزا معه سلامة بن ظرب الحماني في الأحارث وهم بطون من تميم أيضا وهم حمان وربيعة ومالك والأعرج بنو كعب بن سعد فغزوا بكر بن وائل فوجدوا اللهازم وهم بنو قيس وتيم اللات أبناء ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعهم بنو ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بالنباج وثيتل وبينهما روحة فأغار قيس على النباج ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها فلما بلغ قيس إلى النباح سقى خيله ثم أراق ما معهم من الماء وقال لمن معه قاتلوا فالموت بين أيديكم والفلاة من ورائكم فأغار على من به من بكر صبحا فقاتلوهم قتالا شديدا وانهزمت بكر وأصيب من غنائمهم مالا يحد

650
كثرة. فلما فرغ قيس من النهب عاد مسرعا إلى سلامة ومن معه نحو ثيتل فأدركوهم ولم يغر سلامة على من به فأغار عليه قيس أيضا فقاتلوه وانهزموا وأصاب من الغنائم نحو ما أصاب بالنباج وجاء سلامة فقال أغرتم على من كان لي فتنازعوا حتى كاد الشر يقع بينهم ثم اتفقوا على تسليم الغنائم إليه ففي ذلك يقول ربيعة بن طريف.
(فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم * فأنت لنا عز عزيز ومعقل)
(وأنت الذي خويت بكر بن وائل * وقد عضلت بها النباج وثيتل)
وقال قرة بن زيد بن عاصم:
(أنا ابن الذي شق المرار وقد رأى * بثيتل أحياء اللهازم حضرا)
(فصبحهم بالجيش قيس بن عاصم * فلم يجدوا إلا الأسنة مصدرا)
(سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم * وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا)
(على الجرد يعلكن الشكيم عوابسا * إذا الماء من أعطافهن تحدرا)
(فلم يرها الراؤن إلا فجاءة * نثرن عجاجا كالدواخن أكدرا)
(وحمران أدته إلينا رماحنا * فنازع غلافي ذراعيه أسمرا)
(ثيتل بالثاء المثلثة المفتوحة والياء المسكنة المثناة من تحتها والتاء المثناة من فوقها).

651
يوم فلج
قال أبو عبيدة: هذا يوم لبكر بن وائل على تميم.
وسببه أن جمعا من بكر ساروا إلى الصعاب فشتوا بها فلما انقضى الربيع انصرفوا فمروا بالدو فلقوا ناسا من بني تميم من بني عمرو وحنظلة فأغاروا على نعم كثير لها ومضوا واتى بني عمرو وحنظلة الصريخ فاستجاشوا لقومهم فاقبلوا في آثار بكر بن وائل فساروا يومين وليلتين حتى جهدهم السير وانحدروا في بطن فلج وكانوا قد خلفوا رجلين على فرسين سابقين ربيئة ليخبراهم بخبرهم إن ساروا إليه فلما وصلت تميم إلى الرجلين أجريا فرسيهما وسارا مجدين فأنذرا قومهما فأتاهم الصريخ بمسير تميم عند وصولهم إلى فلج فضرب حنظلة بن يسار العجلي قبته ونزل فنزل الناس معه وتهيأوا للقتال معه ولحقت بنو تميم فقاتلهم بكر بن وائل قتالا شديدا وحمل عرفجة بن بجير العجلي على خالد بن مالك بن سلمة التميمي فطعنه وأخذه أسيرا وقتل في المعركة ربعي بن مالك بن سلمة فانهزمت تميم وبلغت بكر بن وائل منها ما أرادت ثم أن عرفجة أطلق خالد بن مالك وجز ناصيته فقال خالد:
(وجدنا الرفد رفد بني لجيم * إذا ما قلت الأرفاد زادا)

652
(همو ضربوا القباب ببطن فلج * وذادوا عن محارمهم ذيادا)
(وهم منوا علي وأطلقوني * وقد طاوعت في الجنب القيادا)
(أليسوا خير من ركب المطايا * وأعظمهم إذا اجتمعوا رمادا)
(أليس همو عماد الحي بكرا * إذا نزلت مجللة شدادا)
وقال قيس بن عاصم يعير خالدا:
(لو كنت حريا يا بن سلمى بن جندل * نهضت ولم تقصد لسلمى بن جندل)
(فما بال أصداء بفلج غريبة * تنادي مع الأطلال يا لابن حنظل)
(صوادي لا مولى عزيز يجيبها * ولا أسرة تستقي صداها بمنهل)
(وغادرت ربعيا ملحبا * وأقبلت في أولى الرعيل المعجل)
(توائل من خوف الردي ولا وقيته * كما نالت الكدراء من حين أجدل)
يعيره حيث لم يأخذ بثار أخيه ربعي ومن قتل معه يوم فلج ويقول إن أصداءهم تنادي ولا يسقيها أحد على مذهب الجاهلية ولولا التطويل لشرحناه أبين من هذا.

653
يوم الشيطين
قال أبو عبيدة: كان الشيطان لبكر بن وائل فلما ظهر الإسلام في نجد سارت بكر قبل السواد وبقي مقايس بن عمرو العائذي بن عائذة من قريش حليف بني شيبان بالشيطين فلما أقامت بكر في السواد لحقهم الوباء والطاعون الذي كان أيام كسرى شيرويه فعادوا هاربين فنزلوا لعلع وهي مجدبة وقد أخصب الشيطان فسارت تميم فنزلوا بها وبلغت أخبار خصب الشيطين إلى بكر فاجتمعوا وقالوا نغير على تميم فإن في دين ابن عبد المطلب يعنون النبي ان من قتل نفسا بها فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها فارتحلوا مت لعلع بالذراري والأموال ورئيسهم بشر بن مسعود بن قيس بن خالد فأتوا الشيطين في أربع ليال والذي بينهما ميسرة ثمان ليال فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم لا يشعرون فقاتلوهم قتالا شديدا وصبرت تميم ثم انهزمت فقال رشيد بن رميض العنبري يفتخر بذلك:
(وما كان بين الشيطين ولعلع * لنسوتنا إلا مناقل أربع)
(فجئنا بجمع لم ير الناس مثله * يكاد له ظهر الوديعة يطلع)
(بأرعن دهم تنسل البلق وسطه * له عارض فيه المنية تلمع)
(صبحنا به سعدا وعمرا ومالكا * فظل لهم يوم من الشر أشنع)
(وذا حسب من آل ضبة غادروا * يجري كما يجري الفصيل المفزع)
(تقصع يربوع بسرة أرضنا * وليس ليربوع بها متقصع)

654
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى بكر بن وائل على ما بأيديهم.
(الشيطين بالشين المعجمة والياء المشددة المثناة من تحتها وبالطاء المهملة أخره نون).
أيام الأنصار وهم الأوس والخزرج
التي جرت بينهم
الأنصار لقب قبيلتي الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لقبهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد ولذلك يقال لهم أبناء قيلة وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حلة لئلا يلبسها أحد بعده ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذله كأنه ناب مناب المطر وقيل لشرفه ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس فبطرقه رحبعم بن سليمان بن داود عليه السلام فقيل له البطريق وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبة لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم فلما علم ذلك عمرو وباع ماله من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن

655
تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام.
ولما سارا ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة وكانت تسمى يثرب فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما وكان فيها قرى وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم وقد بنوا لهم حصونا يجتمعون بها إذا خافوا فنزل عليهم الأوس والخزرج فابتنوا المساكن والحصون إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك بن العجلان ما نذكره إن شاء الله تعالى فعادت الغلبة للأوس والخزرج ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سيمر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غلبة الأنصار على المدينة وضعف أمر
اليهود بها وقتل الفطيون
قد ذكرنا أن الاستيلاء كان لليهود على المدينة لما نزلها الأنصار، ولم يزل الأمر كذلك حتى إلى أن ملك عليهم الفطيون اليهودي وهو من بني إسرائيل ثم من بني ثعلبة وكان رجل سوء فاجرا، وكانت اليهود تدين له بأن لا تزوج

656
امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها وقيل إنه يفعل ذلك بالأوس والخزرج أيضا ثم أن أختا لمالك بن العلاج السالمي الخزرجي تزوجت فلما كان زفافها خرجت عن مجلس قومها وفيه أخوها مالك وقد كشفت عن ساقيها فقال لها مالك لقد جئت بسوء قالت الذي يراد بي الليلة أشد من هذا ادخل على غير زوجي ثم عادت فدخل عليها أخوها فقال لها هل عندك من خبر قالت نعم فما عندك قال أدخل مع النساء فإذا خرجن ودخل عليك قتلته قالت افعل فلما ذهب بها النساء إلى الفطيون انطلق مالك معهن في زي امرأة ومعه سيفه فلما خرج النساء من عندها ودخل عليها الفطيون قتله مالك وخرج هاربا فقال بعضهم في ذلك من أبيات:
(هل كان للفطيون عقر نسائكم * حكم النصيب فبئس حكم الحاكم)
(حتى حباه مالك بمرشة * حمراء تضحك عن نجيع قاتم)
ثم خرج مالك بن العجلان هاربا حتى دخل الشام فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم وهو أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج وكان قد ملكهم وشرف فيهم وقيل إنه لم يكن ملكا وإنما كان عظيما عند ملك غسان وهو الصحيح لأن ملوك غسان لم يعرف فيهم هذا وهو أيضا من الخزرج على ما ذكر.
فلما دخل عليه مالك شكا إليه ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع فعاهد الله أبو جبيلة أن لا يمس طيبا ولا يأتي النساء حتى

657
يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها.
ثم سار من الشام في جمع كثير وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض وأعلم الأوس والخزرج ما عزم عليه ثم أرسل إلى وجوه اليهود يستدعيهم إليه وأظهر لهم أنه يريد الاحسان إليهم فأتاه أشرافهم في حشمهم وخاصتهم فلما اجتمعوا ببابه أمر بهم فأدخلوا رجلا رجلا وقتلهم عن آخرهم فلما فعل بهم ذلك صارت الأوس والخزرج أعز أهل المدينة فشاركوا اليهود في النخل والدور ومدح الرمق بن زيد الخزرجي أبا جبيلة بقصيدة، منها:
(وأبو جبيلة خير من * يمشي وأوفاه يمينا)
(وأبرهم برا وأعلمهم * بهدى الصالحينا)
(أبقت لنا الأيام والحرب * المهمة تعترينا)
(كبشا له قرن يعض * حسامه الذكر السنينا)
فقال له أبو جبلة عسل طيب في وعاء سوء وكان الرمق رجلا ضئيلا فقال الرمق إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه ورجع أبو جبيلة إلى الشام.
(حرض بضم الحاء والراء المهملتين وآخره ضاد معجمة).
حرب سمير
ولم يزل الأنصار على حال اتفاق واجتماع وكان أول اختلاف وقع بينهم حرب كانت لهم حرب سمير.
وكان سببها أن رجلا من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان يقال له كعب بن

658
[العجلان نزل على مالك بن] العجلان السالمي فحالفه وأقام معه فخرج كعب يوما إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلا من غطفان معه فرس وهو يقول ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب فقال رجل فلان وقال رجل آخر أحيحة بن الجلاح الأوسي وقال غيرهما فلان بن فلان اليهودي أفضل أهلها فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان فقال كعب ألم أقل لكم أن حليفي مالكا أفضلكم فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير وشتمه وافترقا وبقي كعب ما شاء الله.
ثم قصد سوقا لهم بقباء فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله وأخبر مالك بن العجلان بقتله فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله فأرسلوا أنا لا ندري من قتله وترددت الرسل بينهم هو يطلب سميرا وهم ينكرون قتله ثم عرضوا عليه الدية فقبلها وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة وامتنعوا من ذلك وقالوا نعطي دية الحليف وهي النصف ولج الأمر بينهم حتى أتى إلى المحاربة فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر يومئذ للأوس.
فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر بن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر فأجابهم إلى ذلك فأتوا المنذر فحكم بينهم المنذر بان يدوا كعبا حليف مالك دية الصريح ثم يعودون إلى سنتهم القديمة فرضوا بذلك وحملوا الدية وافترقوا وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم.

659
ذكر حرب كعب بن عمرو المازني
ثم إن بني جحجبا من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وقع بينهم حرب كان سببها ان كعب بن عمرو المازني تزوج امرأة من بني سالم فكان يختلف إليها فأمر أحيحة بن الجلاح سيد بني جحجبا جماعة فرصدوه حتى ظفروا به فقتلوه فبلغ ذلك أخاه عاصم بن عمر فأمر قومه فاستعدوا للقتال وأرسل إلى بني جحجبا يؤذنهم بالحرب التقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو جحجبا ومن معهم وانهزم معهم أحيحة فطلبه عاصم بن عمرو فأدركه وقد دخل حصنه فرماه بسهم فوقع في باب الحصن فقتل عاصم أخا لأحيحة فمكثوا بعد ذلك ليالي فبلغ أحيحة أن عاصما يتطلبه ليجد له غرة فيقتله فقال أحيحة:
(نبئت أنك جئت تسري * بين داري والقبابه)
(فلق وجدت بجانب الضحيان * شبانا مهابه)
(فتيان حرب في الحديد وشامرين كأسد غابه)
(هم نكبوك عن الطريق * فبت تركب كل لابه)
(أعصيتم لا تجزع فان الحرب * ليست بالدعابه)
(فانا الذي صبحتكم * بالقوم إذ دخلوا الرحابه)
(وقتلت كعبا قبلها * وعلوت بالسيف الذؤابه)
فأجابه عاصم:

660
(أبلغ أحيحة أن عرضت * بداره عني جوابه)
(وأنا الذي أعجلته * عن مقعد ألهي كلابه)
(ورميته سهما فأخطأه * وأغلق ثم بابه)
في أبيات ثم أن أحيحة أجمع أن يبيت بني النجار وعنده سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية وهي أم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم فما رضيت فلما جنا الليل وقد سهر معها أحيحة فنام فلما نام سارت إلى بني النجار فأعلمتهم ثم رجعت فحذروا وغدا أحيحة بقومه مع الفجر فلقيهم بنو النجار في السلاح فكان بينهم شيء من قتال وانحاز أحيحة وبلغه أن سلمى أخبرتهم فضربها حتى كسر يدها وأطلقها وقال أبياتا منها:
(لعمر أبيك ما يغني مكاني * من الحلفاء آكلة غفول)
(تؤوم لا تقلص مشمعلا * مع الفتيان مضجعه ثقيل)
(تنزع للجليلة حيث كانت * كما يعتاد لقحته الفصيل)
(وقد أعددت للحدثان حصنا * لو أن المرء ينفعه العقول)
(جلاء القين ثمت لم تخنه * مضاربه ولاطته فلول)
(فهل من كاهن آوى إليه * إذا ما حان من آل نزول)
(يراهنني ويرهنني بنيه * وأرهنه بني بما أقول)
(فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل)
(وما تدري وإن أجمعت أمرا * بأي الأرض يدركك المقيل)

661
(وما تدري وإن أنتجت سقيا * لغيرك أم يكون لك الفصيل)
(وما أن أخوة كبروا وطابوا * بباقية وأمهم هبول)
(ستثكل أو يفارقها بنوها * بموت أو يجيء لهم قتول)
ذكر الحرب بين بني عمرو بن عوف وبني الحارث،
وهو يوم السرارة
ثم أن بني عمرو بن عوف من الأوس وبني الحرث من الخزرج كان بينهما حرب شديدة.
وكان سببها أن رجلا من بني عمرو قتله رجل من بني الحرث فعدا بنو عمرو على القاتل فقتلوه غيله فاستكشف أهله فعلموا كيف قتل فتهيئوا للقتال وأرسلوا إلى بني عمرو بن عوف يؤذنونهم بالحرب فالتقوا بالسرارة وعلى الأوس حضير بن سماك والد أسيد بن حضير وعلى الخزرج عبد الله بن سلول أبو الحباب الذي كان رأس المنافقين فاقتتلوا قتالا شديدا صبر بعضهم لبعض أربعة أيام ثم انصرفت الأوس إلى دورها ففخرت الخزرج بذلك وقال حسان بن ثابت في ذلك:
(فدى لبني النجار أمي وخالتي * غداة لقومهم بالمثقفة السمر)
(وصرم من الأحياء عمرو بن مالك * إذا ما دعوا كانت لهم دعوة النصر)
(فوالله لا أنسى حياتي بلاءهم * غداة رموا عمرا بقاصمة الظهر)

662
وقال حسان أيضا:
(لعمر أبيك الخير بالحق مانبا * علي لساني في الخطوب ولا يدي)
(لساني وسيفي صارمان كلاهما * ويبلغ مالا يبلغ السيف مذودي)
(فلا الجهد ينسيني حياتي وحفظتي * ولا وقعات الدهر يفللن مبردي)
(أكثر أهلي من عيال سواهم * وأطوي على الماء القراح المبرد)
ومنها:
(وإني لمنجاء المطي على الوجى * وإني لنزال لما لم أعود)
(وإني لقوال لذي اللوث مرحبا * وأهلا إذا ما ريع من كل مرصد)
(وإني ليدعوني الندى فأجيبه * وأضرب بيض العارض المتوقد)
(فلا تعجلن يا قيس وأربع فإنما * قصاراك أن تلقى بكل مهند)
(حسام وأرماح بأيدي أعزة * متى ترهم يا بن الخطيم تلبد)
(أسود لدى الأشبال يحمي عرينها * مداعيس بالخطى في كل مشهد)
وهي أبيات كثيرة فأجابه قيس بن الخطيم:
(تروح عن الحسناء أم أنت مغتدي * وكيف انطلاق عاشق لم يزود)
(تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي * بملتف من السدر مفرد)
(وجيد كجيد الريم حال يزينه * على النحر ياقوت وفص زبرجد)
(كأن الثريا فوق ثغرة نحرها * توقد في الظلماء أي توقد)

663
(إلا أن بين الشرعبي وراتج * ضرابا كتجذيم السيال المعضد)
(لنا حائطان الموت أسفل منهما * وجمع متى يصرخ بيثرب يصعد)
(ترى اللابة السوداء يحمر لونها * ويسهل منها كل ربع وفدفد)
(فاني لأغني الناس عن متكلف * يرى الناس ضلالا وليس بمهتد)
(نشا غمرا بورا شقيا ملعنا * ألد كأن رأسه رأس أصيد)
(كثير المني بالزاد لا صبر عنده * إذا جاع يوما يشتكيه ضحى الغد)
(وذي شيمة عسراء خالف شيمتي * فقلت له دعني ونفسك أرشد)
(فما المال والاخلاق إلا معارة * فما اسطعت من معروفها فتزود)
(متى ما تقد بالباطل الحق يأبه * فإن قدت بالحق الرواسي تنقد)
(إذا ما أتيت الأمر من غير بابه * ضللت تدخل من الباب تهتد)
وهي طويلة وقال عبيد بن ناقد:
(لمن الديار كأنهن المذهب * بليت وغيرها الدهور تقلب)
يقول فيها في ذكر الوقعة:
(لكن فرار أبي الحباب بنفسه * يوم السرارة سئ منه الأقرب)

664
(ولي وألقى يوم ذلك درعه * إذ قيل جاء الموت خلفك يطلب)
(نجاك منا بعد ما قد أشرعت * فيك الرماح هناك شد المذهب)
وهي طويلة أيضا وأبو الحباب هو عبد الله بن سلول.
حرب الحصين بن الأسلت
ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلا من بني مازن فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم فتهيئوا للقتال ولم يختلف من الأوس والخزرج أحد فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال لا يزال منهزم من الخزرج فقال أبو قيس لأخيه ويكنى أبا حصين:
(أبلغ أبا حصن وبعض * القول عندي ذو كباره)
(أن ابن أم المرء ليس * من الحديد ولا الحجارة)
(ماذا عليكم أن يكون * لكم بها رحلا عماره)

665
(يحمي ذمار كم وبعض * القوم لا يحمي ذماره)
(يبني لكم خيرا وبنيان * الكريم له أثاره)
في أبيات.
حرب ربيع الظفري
ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النجار من الخزرج وكان سببها أن ربيعا الظفري كان يمر في مال لرجل من بني النجار إلى ملك له فمنعه النجاري فتنازعا فقتله ربيع فجمع قومهما فاقتتلوا قتالا شديدا كان أشد قتال بينهم فانهزمت بنو مالك بن النجار فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك:
(أجد بعمرة غنيانها * فتهجر أم شاننا شانها)
(فان تمس شطت بها دارها * وباح لك اليوم هجرانها)
(فما روضة من رياض القطا * كأن المصابيح حوذانها)
(بأحسن منها ولا نزهة * ولوج تكشف أدجانها)
(وعمرة من سروات النساء * ينفخ بالمسك أردانها)

666
منها:
(ونحن الفوارس يوم الربيع * قد علموا كيف أبدانها)
(جنونا لحرب وراء الصريخ * حتى تقصد مرانها)
(تراهن يخلجن خلج الدلا * يبادر بالنزع أشطانها)
وهي طويلة فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها:
(لقد هاج نفسك أشجانها * وغادرها اليوم أديانها)
ومنها:
(ويثرب تعلم أنا بها * إذا التبس الحق ميزانها)
(ويثرب تعلم أنا بها * إذا أقحط القطر نوآنها)
(ويثرب تعلم إذ حاربت * بأنا لدى الحرب فرسانها)
(ويثرب تعلم أن المبيت * عند الهزاهز ذلانها)
ومنها:
(متى ترنا الأوس في بيضنا * نهز القنا تخب نيرانها)
(وتعط المقاد على رغمها * وتنزل من الهام عصيانها)
(فلا تفخرن والتمس ملجأ * فقد عاود الأوس أديانها)

667
حرب فارع بسبب الغلام القضاعي
ومن أيامهم يوم فارع وسببه أن رجلا من بني النجار أصاب غلاما من قضاعة ثم من بلى وكان عم الغلام جارا لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري فأرسل معاذ إلى بني النجار أن ادفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إلي بقاتله أرى فيه رأيي فأبوا أن يفعلوا فقال رجل من بني عبد الأشهل والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة وعامر من أشراف الخزرج فبلغ ذلك عامرا فقال:
(ألا من مبلغ الأكفاء عني * وقد تهدى النصيحة للنصيح)
(فإنكم وما ترجون شطري * من القول المزجى والصريح)
(سيندم بعضكم عجلا عليه * وما أثر اللسان إلى الجروح)
(أبت لي عزتي وأبى بلائي * وأخذي الحمد بالثمن الربيح)
(وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة البطل المشيح)
(وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي)
(لأدفع عن مآثر صالحات * وأحمي بعد عن عرض صحيح)
(بذي شطب كلون الملح صاف * ونفس لا تقر على القبيح)
فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الأطنابة:
(ألا من مبلغ الأكفاء عني * فلا ظلم لدي ولا افتراء)

668
(فلست بغائظ الأكفاء ظلما * وعندي للملامات اجتزاء)
(فلم أر مثل من يدنو لخسف * له في الأرض سير واستواء)
(وما بعض الإقامة في ديار * يهان بها الفتى إلا عناء)
(وبعض القول ليس له علاج * كمحض الماء ليس له إناء)
(وبعض خلائق الأقوام داء * كداء الشح ليس به دواء)
(وبعض الداء ملتمس شفاه * وداء النوك ليس له شفاء)
(يحب المرء أن يلقى نعيما * ويأبى الله إلا ما يشاء)
(ومن يك عاقلا لم يلق بؤسا * ينخ يوما بساحته القضاء)
(تعاوره بنات الدهر حتى * تثلمه كما ثلم الإناء)
(وكل شدائد نزلت بحي * سيأتي بعد شدتها رخاء)
(فقل للمتقي عرض المنايا * توق فليس ينفعك اتقاء)
(فما يعطي الحريص غنى بحرص * وقد ينمي لدى الجود الثراء)
(وليس بنافع ذا البخل مال * ولا مزر بصاحبه الحباء)
(غني النفس ما استغنى بشيء * وفقر النفس ما عمرت شقاء)
(يود المرء ما تفد الليالي * وكان فناءهن له فناء)
فلما رأى معاذ بن العمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل

669
إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتتلوا عند فارع وهو أطم حسان بن ثابت واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك:
(صرمت ظليمة خلتي ومراسلي * وتباعدت ضنا بزاد الراحل)
(جهلا وما تدري ظليمة أنني * قد أستقل بصرم غير الواصل)
(ذلل ركابي حيث شئت مشيعي * إني أروع قطا المكان العاقل)
(أظليم ما يدريك ربه خلة * حسن مرغمها كظبي الحائل)
(قد بت مالكها وشارب قهوة * درياقة رويت منها واغلي)
(بيضاء صافية يرى من دونها * قعر الإناء يضيء وجه الناهل)
(وسراب هاجرة قطعت إذا جرى * فوق الآكام بذات لون باذل)
(أجد مراحلها كأن عفاءها * سقطان من كتفي ظليم جافل)
(فلنأكلن بنا جز من مالنا * ولنشربن بدين عام قابل)
(إني من القوم الذين إذا انتدوا * بدأوا ببر الله ثم النائل)
(المانعين من الخنى جيرانهم * والحاشدين على طعام النازل)
(والخالطين غنيهم بفقيرهم * والباذلين عطاءهم للسائل)
(والضاربين الكبش يبرق بيضه * ضرب المهند عن حياض الناهل)
(والعاطفين على المصاف خيولهم * والملحقين رماحهم بالقاتل)

670
(والمدركين عدوهم بذحولهم * والنازلين لضرب كل منازل)
(والقائلين معا خذوا أقرانكم * إن المنية من وراء الوائل)
(خزر عيونهم إلى أعدائهم * يمشون مشي الأسد تحت الوابل)
(ليسوا بأنكاس ولا ميل إذا * ما الحرب شبت أشعلوا بالشاعل)
(لا يطبعون وهم على أحسابهم * يشفون بالأحلام داء الجاهل)
(والقائلين فلا يعاب خطيبهم * يوم المقالة بالكلام الفاصل)
وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها.
حرب حاطب
ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب وهو حاطب بن قيس من بني أمية بن يزيد بن مالك بن عوف الأوسي وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة وكان بينما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام.
وكان سبب هذه الحرب إن حاطبا كان رجلا شريفا سيدا فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه ثم أنه غدا يوما إلى سوق بني قينقاع فرآه يزيد بن الحرث المعروف باسم فسحم وهي أمه وهو من بني الحرث بن الخزرج فقال يزيد لرجل يهودي لك ردائي أن كسعت

671
هذا الثعلبي. فاخذ رداءه وكسعه كسعة سمعها من بالسوق فنادى الثعلبي يا لحاطب كسع ضيفك وفضح وأخبر حاطب بذلك فجاء إليه فسأله من كسعه فأشار إلى اليهودي فضربه حاطب بالسيف فلق هامته فأخبر ابن فسحم الخبر وقيل له اليهودي قتله حاطب فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله فلقي رجلا من بني معاوية فقتله فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحرث بن الخزرج وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب فسار إليهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بن مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض فأبوا ووقعت الحرب عند الجسر وشهدها عيينة وخيار فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الاصلاح بينهم فكان الظفر يومئذ للخزرج وهذا اليوم من أشهر أيامهم وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب فمنها:
يوم الربيع
ثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع وهو حائط في ناحية السفح فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كاد يفني بعضهم بعضا فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين

672
فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم فما تبعر الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح فامتنعت بنو النجار من الخزرج عن إجابتهم فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام وهي الحصون ثم كفت عنهم الخزرج فقال صخر بن سليمان البياضي:
(ألا أبلغا عني سويد بن صامت * ورهط سويد بلغا وابن الأسلت)
(بأنا قتلنا بالربيع سراتكم * وأفلت مجروحا به كل مفلت)
(فلولا حقوق في العشيرة إنها * أدلت بحق واجب إن أدلت)
(لنالهم منا كما كان نالهم * مقانب خيل أهلكت حين حلت)
فأجابه سويد بن الصامت
(ألا أبلغا عني صخيرا رسالة * فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الأسلت)
(قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا * وليس الذي ينجو إليكم بمفلت)
ومنها:
يوم البقيع
ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالا شديدا فكان الظفر يومئذ للأوس فقال عبيد بن ناقد الأوسي:

673
(لما رأيت بني عوف وجمعهم * جاؤوا وجمع بني النجار قد حفلوا)
(دعوت قومي وسهلت الطريق لهم * إلى المكان الذي أصحابه حللوا)
(جادت بأنفسها من مالك عصب * يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا)
(وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا * شطر النهار وحتى أدبر الأصل)
(حتى استقاموا وقد طال المراس بهم * فكلهم من دماء القوم قد نهلوا)
(تكشف البيض عن قتلى أولى رحم * لولا المسالم والأرحام ما نقلوا)
(تقول كل فتاة غاب قيمها * أكل من خلفنا من قومنا قتلوا)
(لقد قتلتم كريما ذا محافظة * قد كان حالفه القينات والحلل)
(جزل نوافله حلو شمائله * ريان واغله تشقى به الإبل)
والواغل الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
(لما رأيت بني عوف وأخوتهم * كعبا وجمع بني النجار قد حفلوا)
(قدما أباحوا حماكم بالسيوف ولم * يفعل بكم أحد مثل الذي فعلوا)
وكان رئيس الأوس يومئذ في رحب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي فقام في حربهم وهجر الراحة فشحب وتغير وجاء يوما إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه فقالت له لقد أنكرتك حتى تكلمت فقال:

674
(قالت ولم تقصد لقيل الخنى * مهلا فقد أبلغت أسماعي)
(واستنكرت لونا له شاحبا * والحرب غول ذات أوجاع)
(من يذق الحرب يجد طعمها * مرا وتتركه بجعجاع)
(قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع)
(أسعى على جل بني مالك * كل امرئ في شأنه ساعي)
(أعددت للأعداء موضونة * فضفاضة كالنهي بالقاع)
(أحفزها عني بذي رونق * مهند كاللمع قطاع)
(صدق حسام وادق حده * ومنحن أسمر قراع)
وهي طويلة ثم إن قيسا بن أسلت جمع الأوس وقال لهم ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا فرئسوا عليكم من أحببتم فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبة وهو بدري فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس فكان الظفر للأوس ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية فأضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهنا بالديات فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.

675
حرب الفجار الأول للأنصار
وليس بفجار كنانة وقيس فلما قتلت الأوس الغلمان جمعت الخرزج وحشدوا والتقوا بالحدائق وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كان بعضهم يفني بعضا وسمي ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغلمان وهو الفجار الأول فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسنا وجرح جراحة شديدة فمكث حينا يتداوى منها وأمر أن يحتمي عن الماء فذلك يقول عبد الله بن رواحة:
(رميناك أيام الفجار فلم تزل * حميا فمن يشرب فلست بشارب)
يوم معبس ومضرس
ثم التقوا عند معبس ومضرس وهما جداران فكانت الخزرج وراء مضرس وكانت الأوس وراء معبس فأقاموا
أياما يقتتلون قتالا شديدا ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمر بن عوف وأوس بن مناة، فعزمت

676
الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة فأغارت بنو سلمة على مال لبني الأشهل يقال له الرعل فقاتلوهم عليه فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على ما نذكره إن شاء الله.
ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشا على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشا وأبو جهل غائب فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش أما سمعتم قول الأول ويل للأهل من النازل أنهم لأهل عدد وجلد ولقلما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلادهم وغلبوهم عليه قالوا فما المخرج من حلفهم قال أنا أكفيكموهم ثم خرج حتى جاء الأوس فقال إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم واذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده على رأس أمركم أنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا حالفناكم وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا فقالوا لا نقر بهذا وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
(ألا أبلغ أبا قيس رسولا * إذا ألقى له سمع مبين)

677
(فلست بحاضر إن لم تزركم * خلال الدار مسبلة طحون)
(يدين لها العزيز إذا رآها * ويسقط من مخافتها الجنين)
(تشيب الناهد العذراء منها * ويهرب من مخافتها القطين)
(يطوف بها من النجار أسد كأسد الغيل مسكنها العرين)
(يظل الليث فيها مستكينا * له في كل ملتفت أنين)
(كأن بهاءها للناظريها * من الأثلات والبيض الفتين)
(كأنهم من الماذي عليهم * جمال حين يجتلدون جون)
(فقد لاقاك قبل بعاث قتل * وبعد بعاث ذل مستكين)
وهي طويلة أيضا.
يوم الفجار الثاني للأنصار
كانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب فقالت اليهود: أنا لا

678
نريد ذلك فأخذت الخزرج رهنهم على الوفاء وهم أربعون غلاما من قريظة والنضير ثم أن يزيد بن فسحم شرب يوما فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
(هلم إلى الاحلاف إذ رق عظمهم * وإذا أصلحوا مالا لجذمان ضائعا)
(إذا ما امرؤ منهم أساء عمارة * بعثنا عليهم من بني العير جادعا)
(فأما الصريخ منهم فتحملوا * وأما اليهود فاتخذنا بضائعا)
(أخذنا من الأولى اليهود عصابة * لغدرهم كانوا لدينا ودائعا)
(فذلوا لرهن عندنا في حبالنا * مصانعة يخشون منا القوارعا)
(وذاك بانا حين نلقى عدونا * نصول بضرب يترك العز خاشعا)
فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا وقال كعب بن أسد نحن كما قال إن لم نغر فحالف الأوس على الخزرج فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد بني قريظة والنضير فأطلقوا نفرا منهم سليم بن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو أن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بين بياضة إن أباكم أنزلكم منزلة سوء والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع فأرسل إلى قريظة والنضير أما أن تخلوا بيننا

679
وبين دياركم، وأما أن نقتل الرهن فهموا بأن يخرجوا من ديارهم فقال لهم كعب بن أسيد القرظي يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم فأرسلوا إليهم أنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا فعدا عمرو بن النعمان على رهنهم فقتلهم وخالفه عبد الله بن أبي سلول فقال هذا بغي واثم ونهاه عن قتلهم وقتال قومهم من الأوس وقال له كأني بك وقد حملت قتيلا في عباءة يحملك أربعة رجال فلم يقتل هو ومن أطاعه أحدا من الغلمان وأطلقوهم ومنهم سليم بن أسد جد محمد بن كعب وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجارا وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاءا للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجارا لغدر اليهود.
يوم بعاث
ثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخل معهم قبائل من اليهود غير ما ذكرنا فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا ببعاث وهي من أعمال قريظة وعلى الأوس

680
حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وتخلف عبد الله بن أبي سلوك في من تبعه عن الخزرج وتخلف بنو حارثة بن الحرث عن الأوس فما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا وصبروا جميعا.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل! والله لا أعود حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا وأقبل سهم لا يدري من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقال فبين عبد الله بن أبي سلول يتردد راكبا قريبا من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان قتيلا في عباءة يحمله أربعة رجال كما كان قال له فلما رآه قال ذق وبال البغي وانهزمت الخزرج ووضعت فيهم الأوس السلاح فصاح صائح يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم وإنما سلبهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا مجروحا فمات وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أمول بني سلمة ونخليهم ودورهم جزاءا بما فعلوا له في الرعل وقد تقدم ذكره ونجى يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي أخذه فجز ناصيته وأطلقه وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء الإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.

681
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
(أتعرف رسما كالطراز المذهب * لعمرة ركبا غير موقف راكب)
(ديار التي كانت ونحن على مني * تحل بنا لولا رجاء الركائب)
(تبدت لنا كالشمس تحت غمامة * بدا حاجب منها وضنت بحاجب)
ومنها:
(وكنت أمرأ لا أبعث الحرب ظالما * فلما أبوا شعلتها كل جانب)
(أذنت بدفع الحرب حتى رأيتها * عن الدفع لا تزداد غير تقارب)
(فلما رأيت الحرب حربا تجردت * لبست من البردين ثوب المحارب)
(مضعفة يغشى الأنامل ريعها * كان قتيرتها عيون الجنادب)
(ترى قصد المران تلقى كأنها * تذرع خرصان بأيدي الشواطب)
(وسامحني ملكا هنين ومالك * وثعلبة الأخيار رهط المصائب)
(رجال متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا * كمشي الجمال المشعلات المصائب)
(إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا * صدود الخدود وازورار المناكب)
(صدود الخدود والقنا متشاجر * ولا تبرح الأقدام عند التضارب)
(ظأرناكم بالبيض حتى لأنتم * أذل من السقبان بين الحلائب)

682
(يجردن بيضا كل يوم كريهة * ويرجعن حمرا جارحات المضارب)
(لقيتكم يوم الحدائق حاسرا * كأن يدي بالسيف مخراق لاعب)
(ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا * إلى حسب في جذم غسان ثاقب)
(قتلناكم يوم الفجار وقبله * ويوم بعاث كان يوم التغالب)
(أتت عصب للأوس تخطر بالقنا * كمشي الأسود في رشاش الأهاضب)
فأجابه عبد الله بن رواحة:
(أشاقتك ليلى في الخليط المجانب * نعم فرشاش الدمع في الصدر غالب)
(بكى أثر من شطت نواه ولم يقم * لحاجة مخزون شكا الحب ناصب)
(لدن غدوة حتى إذا الشمس عارضت * أراحت له من لبه كل غارب)
(نحامي على أحسابنا بتلادنا * لمفتقر أو سائل الحق واجب)
(وأعمى هدته للسبيل سيوفنا * وخصم أقمنا بعدما ثج ثاعب)
(ومعترك ضنك برى الموت وسطه * مشينا له مشي الجمال المصاعب)
(برجل ترى الماذي فوق جلودهم * وبيضا نقيا مثل لون الكواكب)
(وهم في حسر لا في الدروع تخالهم * أسودا متى تنشأ الرماح تضارب)
(معاقلهم في كل يوم كريهة * مع الصدق منسوب السيوف القواضب)

683
وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
(بعاث بضم الباء الموحدة وبالعين المهملة وقال صاحب كتاب العين وحده وهو بالغين المعجمة).
ذكر غلبة ثقيف على الطائف والحرب بين
الأحلاف وبني مالك
كانت أرض الطائف قديما لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد وكان بنو عامر يصيفون بالطائف ويشتون بأرضهم من نجد وكانت مساكن ثقيف حول الطائف وقد اختلف الناس فيهم فمنهم من جعلهم من إياد فقال ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد من معد ومنهم من جعلهم من هوازن فقال هو قيس بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها فقالوا لبني عامر: إن هذه الأرض لا تصلح للزرع وإنما هي أرض ضرع ونراكم على أن آثرتم

684
الماشية على الغراس نحن أناس ليست لنا مواش فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤنة تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطوار ولا نكلفكم مؤنة نحن نكفيكم المؤنة والعمل فإذا كنت وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملا ولنا النصف بما عملنا.
فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعناب والثمار ووفوا بم شرطوا لبني عامر حينا من الدهر وكان بنو عامر يمنعون ثقيفا ممن أرادهم من العرب.
فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا سورا على الطائف وحصنوه ومنعوا عامرا مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا وكانت ثقيف بطنين الأحلاف وبني مالك وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم ولم يزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك.
ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم فحموا لها حمى من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه ولجت الحرب بينهم وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف بن عباد النصري ثم اليربوعي ورأس الأحلاف مسعود بن معتب فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب بن عوف بن الحرث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف فحالفوا بني يربوع على الأحلاف.
فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا، وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من بني نصر يوم الطائف واقتتلوا قتالا شديدا، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى واد من وراء الطائف يقال له لحب،

685
وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان ثم اقتتلوا بعد ذلك أياما مسميات منهن يوم عمر ذي كندة من نحو نخلة ومنهن يوم كروبا من نحو حلوان وصاح عفيف بن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرهما على الأحلاف وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو بن عوف من الأوس أشرف الأنصار في زمانه فطلب منه الحلف، فقال له أحيحة: والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه فقال له مسعود إني أخوك وكان صديقا له فقال أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه وصالحه ولو بجدع أنفك وأذنك فإن أحدا لن يبر لك في قومك إذ خالفته فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاما كان يبني الآطام يعني الحصون بالمدينة، فبنى لمسعود بن معتب أطما، فكان أول أطم بني بالطائف، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف. ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر.
وقالوا في حربهم أشعارا كثيرة فمن ذلك قول محبر وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف:
(وما كنت ممن أرث الشر بينهم * ولكن مسعودا جناها وجندبا)
(قريعي ثقيف أنشبا الشر بينهم * فلم يك عنها منزع حين أنشبا)

686
(عناقا ضروسا بين عوف ومالك * شديدا لظاها مترك الطفل أشيبا)
(مضرمة شبا أشا وقودها * بأيديهما ما أورياها وأثقبا)
(أصابت براء من طوائف مالك * وعوف بما جرا عليها وأجلبا)
(كجمثورة جاؤوا تخطوا بنا مآبنا * إليهم وتدعوا في اللقاء معتبا)
(وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى * وتدعو علاجا والحليف المطيبا)
(حبيبا وحيا من رباب كتائبا * وسعدا إذا الداعي إلى الموت ثوبا)
(وقوما بمكر وثاء شنت معتب * بغارتها فكان يوما عصبصبا)
(فاسقط أحبال النساء بصوته * عفيف إذا نادى بنصر فطربا)
(عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء).

687