الكتاب: الكامل في التاريخ
المؤلف: ابن الأثير
الجزء: 9
الوفاة: 630
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: 1386 - 1966م
المطبعة: دار صادر - دار بيروت
الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:
الكامل في التاريخ
9
1
الكامل في التاريخ
تأليف
الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف
بابن الأثير
المجلد التاسع
دار صادر
للطباعة والنشر
دار بيروت
للطباعة والنشر
بيروت
1385 ه _ 1965 م
3
بسم الله الرحمن الرحيم
370
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة
ذكر اقطاع مؤيد الدولة همذان
في هذه السنة أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولا من عند أخيه مؤيد الدولة همذان وغيرها وأقام عند عضد الدولة إلى ان عاد إلى بغداد فرده إلى مؤيد الدولة فأقطعه إقطاعا كثيرة وسير معه عسكرا يكون عند مؤيد الدولة في خدمته.
ذكر قتل أولاد حسنويه سوى بدر
لما خلع عضد الدولة على بدر وأخويه عاصم وعبد الملك وفضل بدرا عليهما وولاه الأكراد حسده أخواه فشقا العصا وخرجا عن الطاعة،
5
واستمال عاصم جماعة الأكراد المخالفين فاجتمعوا عليه فسير إليه عضد الدولة عسكرا فأوقعوا بعاصم ومن معه فانهزموا واسر عاصم وادخل همذان على جمل ولم يعرف له خبر بعد ذلك اليوم وقتل أولاد حسنويه إلا بدرا فإنه ترك على حاله وأقر على عمله وكان عاقلا لبيبا حازما كريما حليما وسيرد من أخباره ما يعلم به ذلك إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك عضد الدولة قلعة سندة وغيرها
وفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبد الله المري بنواحي الجبل وكان منزله بسندة وله فيها مساكن نفيسة وكان قديم البيت فقبض عليه وعلى أولاده واعتقلهم فبقوا كذلك إلى ان أطلقهم الصاحب من عباد فيما بعد واستخدم ابنه أبا طاهر واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ.
ذكر الحرب بين عسكر العزيز وابن جراح
وعزل قسام عن دمشق
في هذه السنة سيرت العساكر من مصر لقتال المفرج بن جراح.
وسبب ذلك ان ابن جراح عظم شانه بأرض فلسطين وكثر جمعه،
6
وقويت شوكته وبالغ هو في العيث والفساد وتخريب البلاد فجهز العزيز بالله العساكر وسيرها وجعل عليها القائد يلتكين التركي فسار إلى الرملة واجتمع إليها من العرب من قيس وغيرها جمع كثير وكان مع ابن جراح جمع يرمون بالنشاب ويقاتلون قتال الترك فالتقوا ونشبت الحرب بينهما وجعل يلتكين كمينا فخرج على عسكر ابن جراح من وراء ظهورهم عند اشتداد الحرب فانهزموا وأخذتهم سيوف المصريين ومضى ابن جراح منهزما إلى أنطاكية فاستجار بصاحبها فأجاره وصادف خروج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر عظيمة يريد بلاد الاسلام فخاف ابن جراح فكاتب بكجور بحمص والتجاء إليه.
واما عسكر مصر فإنهم نازلوا دمشق مخادعين لقسام لم يظهروا له إلا انهم جاؤوا لاصلاح البلد وكف الأيدي المتطرقة إلى الأذى؛ وكان القائد أبو محمود قد مات سنة سبعين [وثلاثمائة] وهو والي البلد ولا حكم له وانما الحكم لقسام فلما مات قام بعده في الولاية جيش بن الصمصامة وهو ابن أخت أبي محمود فخرج إلى يلتكين وهو يظن انه يريد اصلاح البلد فأمره ان يخرج هو ومن معه وينزلوا بظاهر البلد ففعلوا وحضر قسام وأمر من معه بمباشرة الحرب فقاتلوا دفعات عدة فقوي عسكر يلتكين
ودخلوا أطراف البلد وملكوا الشاغور وأحرقوا ونهبوا فاجتمع مشايخ البلد عند قسام وكلموه في ان يخرجوا إلى يلتكين ويأخذوا أمان لهم وله فانخذل وذل وخضع بعد تجبره وتكبره وقال افعلوا ما شئتم.
وعاد أصحاب قسام إليه فوجدوه خائفا ملقيا بيده فاخذ كل لنفسه وخرج شيوخ البلد البلد إلى يلتكين فطلبوا منه الأمان لهم ولقسام فأجابهم إليه
7
وقال: أريد [أن] أتسلم البلد اليوم فقالوا افعل ما تؤمر فأرسل واليا يقال له ابن خطلخ ومعه خيل رجل.
وكان مبدأ هذه الحرب والحصر في المحرم سنة سبعين [وثلاثمائة] لعشر بقين منه والدخول إلى البلد لثلاث بقين منه ولم يعرض لقسام ولا لاحد من أصحابه وأقام قسام في البلد يومين ثم استتر فاخذ كل ما في داره وما حولها من دور أصحابه وغيرهم ثم خرج إلى الخيام فقصد حاجب يلتكين وعرفه نفسه فاخذه وحمله إلى يلتكين فحمله يلتكين إلى مصر فاطلقه العزيز واستراح الناس من تحكمه عليهم وتغلبه بمن تبعه من الأحداث من أهل العيث والفساد.
ذكر عدة حوادث
وفيها توفي علي بن محمد الأحدب المزور وكان يكتب على خط كل واحد فلا يشك المكتوب عنه انه خطه وكان عضد الدولة إذا أراد الايقاع بين الملوك أمره ان يكتب على خط بعضهم إليه في الموافقة على من يريد افساد الحال بينهما ثم يتوصل ليصل المكتوب إليه فيفسد الحال وكان هذا الأحدب
8
ربما ختمت يده لهذا السبب.
وفيها زادت الفرات زيادة عظيمة جاوزت المألوف وغرق كثير من الغلات وتمردت الصراة وخربت قناطرها العتيقة والجديدة وأشفى أهل الجانب الغربي من بغداد على الغرق وبقيت الزيادة بها وبدجلة ثلاثة أشهر ثم نقصت.
وفيها زفت ابنة عضد الدولة إلى الخليفة الطائع ومعها من الجواهر شيء لا يحصى.
وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة [من] عنبر وزنها ستة وخمسون رطلا وحج بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوي وخطب بمكة والمدينة للعزيز بالله صاحب مصر العلوي.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن علي الرازي امام الفقهاء الحنفية في زمانه وطلب ليلي قضاء القضاة فامتنع وهو من أصحاب الكرخي.
وفيها توفي الزبير بن عبد الواحد بن موسى أبو يعلى البغدادي سمع البغوي وابن صاعد وسافر إلى أصبهان وخراسان وأذربيجان وغيرها وسمع فيها الكثير وتوفي بالموصل هذه السنة ومحمد بن جعفر بن الحسين بن محمد أبو بكر المفيد المعروف بغندر توفي بمفازة بخارى وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأبو محمد علي بن الحسن الأصبهاني والحسن بن بشر الآمدي.
وفيها توفي القائد أبو محمود إبراهيم بن جعفر والي دمشق للعزيز وقام بعده جيش الصمصامة.
9
371
ثم دخلت سنة احدى وسبعين وثلاثمائة
ذكر عزل ابن سيمجور عن خراسان
في هذه السنة عزل أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان واستعمل عوضه حسام الدولة أبو العباس تاش.
وكان سبب ذلك ان الأمير نوح بن منصور لما ملك خراسان وما وراء النهر وهو صبي استوزر أبا الحسين العتبي فقام في حفظ الدولة القيام المرضي وكان محمد بن سيمجور قد استوطن خراسان وطالت أيامه فيها فلا يطيع إلا فيما يريد فعزله أبو الحسين العتبي عنها واستعمل مكانه حسام الدولة أبا العباس تاش وسيره من بخارى إلى نيسابور في هذه السنة فاستقر بها ودبر خراسان ونظر في أمورها وأطاعه جندها.
ذكر استيلاء عضد الدولة على جرجان
في هذه السنة في جمادى الآخرة استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان واجل عنها صاحبها قابوس بن وشمكير.
10
وسبب ذلك ان عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة انهزم فخر الدولة فلحق بقابوس كما ذكرناه وبلغ ذلك عضد الدولة فأرسل إلى قابوس يبذل له الرغائب من البلاد والأموال والعهود وغير ذلك ليسلم ايه أخاه فخر الدولة فامتنع قابوس من ذلك ولم يجب إليه فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة وسيره ومعه العساكر والأموال والعدد إلى جرجان.
وبلغ الخبر قابوسا فسار إليه فلقيه بنواحي أستراباذ فاقتتلوا من بكرة إلى الظهر فانهزم قابوس وأصحابه في جمادى الأولى وقصد قابوس بعض قلاعه التي فيها ذخائره وأمواله فأخذ ما أراد وسار نحو نيسابور فلما وردها لحق به فخر الدولة وانضم إليهما من تفرق من أصحابهما.
وكان وصولهم إليها ولاية حسام الدولة أبي العباس تاش خراسان فكتب حسام الدولة إلى الأمير أبي القاسم نوح بن منصور يعرفه خبر وصولهما وكتبا أيضا إلى نوح يعرفانه حالهما ويستنصرانه على مؤيد الدولة فوردت كتب نوح على حسام الدولة يأمره باجلال محلهما وإكرامهما وجمع العساكر والمسير معهما وإعادتهما إلى ملكهما وكتب وزيره أبو الحسين بذلك أيضا.
ذكر مسير حسام الدولة وقابوس إلى جرجان
فلما وردت الكتب من الأمير نوح على حسام الدولة بالمسير بعساكر خراسان جميعها مع فخر الدولة وقابوس جمع العساكر وحشد فاجتمع بنيسابور عساكر سدت الفضاء وساروا نحو جرجان فنازلوها وحصروها،
11
وبها مؤيد الدولة ومعه من عساكره وعساكر أخيه عضد الدولة جمع كثير إلا انهم لا يقاربون عساكر خراسان فحصرهم حسام الدولة شهرين يغاديهم القتال ويراوحهم وضاقت الميرة على أهل جرجان حتى كانوا يأكلون نخالة الشعير معجونة بالطين فلما اشتد عليهم الأمر خرجوا من جرجان فس شهر رمضان على عزم صدق القتال اما لهم واما عليهم فلما رآهم خراسان ظنوها كما تقدم من الدفعات يكون قتال ثم تحاجز فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فرأوا الأمر خلاف [ما] ظنوه.
وكان مؤيد الدولة قد كاتب بعض قواد خراسان يسمى فائق الخاصة واطعمه ورغبه فأجابه إلى الانهزام عند اللقاء وسيرد من أخبار فائق هذا ما يعرف به من محله من الدولة فلما خرج مؤيد الدولة هذا اليوم حمل عسكره على فائق وأصحابه فانهزم هو ومن معه وتبعه الناس وثبت فخر الدولة وحسام الدولة في القلب واشتد القتال إلى اخر النهار فلما رأوا تلاحق الناس في الهزيمة لحقوا بهم وغنم أصحاب مؤيد الدولة منهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى واخذوا من الأقوات شيئا كثيرا.
وعاد حسام الدولة وفخر الدولة وقابوس إلى نيسابور وكتبوا إلى بخارى بالخبر فأتاهم الجواب يمنيهم ويعدهم بانفاذ العساكر والعود إلى جرجان والري وأمر الأمير نوح سائر العساكر بالمسير إلى نيسابور فاتوها من جذب ينسلون فاجتمع بظاهر نيسابور من العساكر أكثر من
12
المرة الأولى وحسام الدولة ينتظر تلاحق الامداد ليسير بهم فأتاهم الخبر بقتل الوزير أبي الحسين العتبي فتفرق ذلك الجمع وبطل ذلك التدبير.
وكان سبب قتله ان أبا الحسن بن سيمجور وضع جماعة من المماليك على قتله فوثبوا فقتلوه كتب الرضي نوح بن منصور إلى حسام الدولة يستدعيه إلى بخارى ليدير دولته ويجمع ما انتشر منها بقتل أبي الحسن فسار عن نيسابور إليها وقتل من ظفر به من قتلة أبي الحسين وكان قتله سنة اثنتين وسبعين [وثلاثمائة].
ذكر قتل الأمير أبي القاسم أمير صقلية وهزيمة الفرنج
في هذه السنة في ذي القعدة سار أبو القاسم أمير صقلية من المدينة يريد الجهاد.
وسبب ذلك ان ملكا من ملوك الفرنج يقال له بردويل خرج في جموع كثيرة من الفرنج إلى صقلية فحصرها قلعة مالطة فلما قاربها خاف وجبن فجمع وجوه أصحابه وقال لهم اني راجع من مكاني هذا فلا تكسروا على رأي فرجع هو وعساكره.
وكان أسطول الكفار يساير المسلمين في البحر فلما رأوا المسلمين راجعين أرسلوا إلى بردويل ملك الروم يعلمونه ويقولون له ان المسلمين خائفون منك فالحق بهم فإنك تظفر فجرد الفرنجي عسكره من أثقالهم، وسار
13
جريدة، وجد في السير، فأدركهم في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين [وثلاثمائة]، فتعبأ المسلمون للقتال واقتتلوا واشتدت الحرب بينهم فحمل طائفة من الفرنج على القلب والاعلام فشقوا العسكر ووصلوا إليها وقد تفرق كثير من المسلمين عن أميرهم واختل نظامهم فوصل الفرنج إليه فاصابته ضربه على أم رأسه فقتل معه جماعة من أعيان الناس وشجعانهم.
ثم إن المنهزمين من المسلمين رجعوا مصممين على القتال ليظفروا أو يموتوا واشتد حينئذ الأمر وعظم الخطب على الطائفتين فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل واسر من بطارقتهم كثير وتبعوهم إلى ان أدركهم الليل وغنموا من أموالهم كثيرا وأفلت ملك الفرنج هاربا ومعه رجل يهودي كان خصيصا به فوقف فرس الملك فقال له اليهودي اركب فرسي فان قتلت فأنت لولدي فركبه الملك وقتل اليهودي فنجا الملك إلى خيامه وبها زوجته وأصحابه فاخذهم وعاد إلى رومية.
ولما قتل الأمير أبو القاسم كان معه ابنه جابر فقام مقام أبيه ورحل المسلمين لوقتهم ولم يمكنهم من اتمام الغنيمة فتركوا كثيرا منها وسأله أصحابه ان يقيم إلى ان يجمع السلاح وغيره ويعمر به الخزائن فلم يفعل.
وكانت ولاية أبي القاسم على صقلية اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام وكان عادلا حسن السيرة كثير الشفقة على رعيته والاحسان
14
إليهم عظيم الصدقة ولم يخلف دينارا ولا درهما ولا عقارا فإنه كان قد وقف جميع املاكه على الفقراء وأبواب البر.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقع حريق بالكرخ ببغداد فاحترق فيها مواضع كثيرة هلك فيها خلق كثير من الناس وبقي الحريق أسبوعا.
وفيها قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي وألزمه منزله وعزله عن أعماله التي كان يتولاها وكان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه قاتله الله!
وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب وكان القبض عليه سنة سبع وستين [وثلاثمائة].
وكان سبب قبضه انه كان يكتب عن بختيار كتبا في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة فكان ينصح صاحبه فمما كتبه عن الخليفة الطائع إلى عضد الدولة في المعنى وقد لقب عز الدولة بشاهنشاه فتزحزح له عن سنن المساواة فنقم عليه عضد الدولة ذلك وهذا من أعجب الأشياء فإنه كان ينبغي ان يعظم في عينه لنصحه لصاحبه فلما أطلقه أمره بعمل كتاب يتضمن أخبارهم ومحاسنها فعمل التاجي في دولة الديلم.
15
وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه فلما وصل إلى الملك قيل له ليقبل الأرض بين يديه فلم يفعل فقيل لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض فأصر على الامتناع فعمل الملك بابا صغيرا يدخل منه القاضي منحنيا ليوهم الحاضرين انه قبل
الأرض فلما رأى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه فلما جاره استقبل الملك وهو قائم فعظم عندهم محله.
وفيها المارستان العضدي غربي بغداد ونقل إليه جميع ما يحتاج إليه من الأدوية.
وفي هذه السنة توفي الامام أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني الفقيه الشافعي وكان عالما بالحديث وغيره من العلوم والامام محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد أبو زيد المروزي الفقيه الشافعي الزاهد يروى صحيح البخاري عن الفربري وتوفي في رجب وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي شيخ الصوفية في وقته صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم الصوفي المعروف بالحصري.
16
372
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة
ذكر ولاية بكجور دمشق
قد ذكرنا سنة ست وستين [وثلاثمائة] ولاية بكجور حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان فلما وليها عمرها وكان بلد دمشق قد خربه العرب وأهل العيث والفساد مدة تحكم قسام عليها وانتقل أهله إلى أعمال حمص فعمرت وكثر أهلها والغلات فيها ووقع الغلاء والقحط بدمشق فحمل بكجور الأقوات من حمص إليه وتردد الناس في حمل الغلات وحفظ الطرق وحماها.
وكتب إلى العزيز بالله بمصر وتقرب إليه فوعده ولاية دمشق فبقي كذلك إلى هذه السنة.
ووقعت وحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وبين بكجور فأرسل سعد الدولة يأمره بان يفارق بلده فأرسل بكجور إلى العزيز بالله يطلب نجاز ما وعده من امارة دمشق وكان الوزير ابن كلس يمنع العزيز من ولايته إلى هذه الغاية.
وكان القائد يلتكين قد ولي دمشق بعد قسام كما ذكرناه وهو مقيم بها،
17
فاجتمع المغارب بمصر على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله فدعته الضرورة إلى ان يستحضر يلتكين من دمشق فأمره العزيز باحضاره وتسليم دمشق إلى بكجور فقال ان بكجور ان وليها عصا فيها فلم يصغ إلى قوله وأرسل إلى يلتكين يأمره بقصد مصر وتسليم دمشق إلى بكجور ففعل ذلك ودخلها في رجب من هذه السنة واليا عليها فأساء السيرة إلى أصحاب الوزير ابن كلس والمتعلقين به حتى انه صلب بعضهم وفعل مثل ذلك في أهل البلد وظلم الناس وكان لا يخلو من اخذ مال وقتل وصلب وعقوبة فبقي كذلك إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وسنذكر هناك عزله إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة عضد الدولة
في هذه السنة في شوال اشتدت علة عضد الدولة وهو ما كان يعتاده من الصرع فضعفت قوته عن دفعه فخنقه فمات منه ثامن شوال ببغداد وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن به.
وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفا ولما توفي جلس ابنه صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء فأتاه الطائع لله معزيا وكان عمر عضد الدولة سبعا وأربعين سنة وكان قد سير ولده شرف الدولة أبي الفوارس إلى كرمان مالكا لها قبل ان يشتد مرضه وقيل انه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة (^ ما اغنى عني ماليه هلك عني سلطانية).
18
وكان عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محبا للفضائل وأهلها باذلا في مواضع العطاء مانعا في أماكن الحزم ناظرا في عواقب الأمور.
قيل لما مات عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء وعنده جماعة من أعيان الفضلاء فتذاكروا الكلمات التي قالها الحكماء عند موت الإسكندر وقد ذكرتها في أخباره فقال بعضهم لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم فقال أحدهم: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها وأعطاها فوق قيمتا وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها.
وقال الثاني: من استيقظ للدنيا فهذا نومه ومن حلم فيها فهذا انتباهه.
وقال الثالث: ما رأيت عاقلا في عقله ولا غافلا في غفلته مثله، لقد كان ينقد جانبا وهو يظن انه مبرم ويغرم وهو يظن انه غانم.
وقال الرابع: من جد للدنيا هزلت به ومن هزل راغبا عنها جدت له.
وقال الخامس: ترك هذه الدنيا شاغرة ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال السادس: ان ماء أطفأ هذه النار لعظيم وان ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.
وقال السابع: انما سلبك من قدر عليك.
وقال الثامن: اما انه لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته.
وقال التاسع: الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال والنازل في دركاتها إذا تعال.
وقال العاشر: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك وهلا
19
اتخذت دونه جنة تقيك ان في ذلك لعبرة للمعتبرين وانك لآية للمستبصرين.
وبنى على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سورا وله شعر حسن فمن شعره لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته بختيار ويطلب الأمان، فقال عضد الدولة:
(أأفاق حين وطئت ضيق خناقه * يبغي الأمان وكان يبغي صارما)
(فلأركبن عزيمة عضدية * تاجية تدع الأنوف رواغما)
وقال أبياتا منها بيت لم يفلح بعده وهي هذه:
(ليس شرب الكاس إلا في المطر * وغناء من جوار في السحر)
(غانيات سالبات للنهي * ناغمات في تضاعيف الوتر)
(مبرزات الكاس من مطلعها * ساقيات الراح من فاق البشر)
(عضد الدولة وابن ركنها * ملك الاملاك غلاب القدر)
وهذا البيت هو المشار إليه.
وحكي عنه انه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة فأمر أبا نصر خواشاذه ان يتقدم إلى الخازن بان يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد يقي منه ثلاثة أيام قال أبو نصر فأنسيت ذلك أربعة أيام فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت أنسيته فاغلظ لي فقلت أمس استهل الشهر والساعة نحمل المال وما ههنا ما يوجب شغل القلب.
20
فقال: المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط إلا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم ما لهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم فإذا اخرنا ذلك عنهم حتى استهل الشهر الاخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثم يحضرونه في اليوم الثالث ويبسطون ألسنتهم فتضيع المنة وتحصل الجرأة ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.
وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاءة ولا يجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ولا فيما يتعلق به.
حكي عنه ان مقدم جيشه أسفار من كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله فقال ليس هذا من أشغالك انما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم واما الشهادة وقبولها فهي إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه ومتى عرف القضاة من انسان ما يجوز معه قبول شهادته فعلوا ذلك بغير شفاعة.
وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئا كثيرا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا.
وكان محبا للعلوم وأهلها مقربا لهم محسنا إليهم وكان يجلس معهم ويعارضهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتاب ومنها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في
21
التاريخ إلى غير ذلك وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر وغير ذلك من المصالح العامة إلا انه احدث في اخر أيامه رسوما جائرة في المساحة والضرائب على بيع الدواب وغيرها من الأمتعة وزاد على ما تقدم ومنع من عمل الثلج والقز وجعلهما متجرا للخاص وكان يتوصل إلى اخذ المال بكل طريق.
ولما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد فاخذ من كمه رقعة فيها:
(أيا واثقا بالدهر عند انصرافه! * رويدك اني بالزمان أخو خبر)
(ويا شامتا مهلا فكم ذي شماتة * تكون له العقبة بقاصمة الظهر)
ذكر ولاية صمصام الدولة العراق وملك أخيه شرف الدولة بلاد فارس
لما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولديه أبي كاليجار المرزبان فبايعوه وولوه الامارة ولقبه صمصام الدولة فلما وولي خلع على أخويه أبي الحسين أحمد وأبي طاهر فيروزشاه وأقطعهما فارس وأمرهم بالجد في السير ليسبقا أخوهما شرف الدولة أبا الفوارس شيرزيل إلى شيراز.
فلما وصلا إلى أرجان أتاهما خبر وصول شرف الدولة إلى شيراز، فعادا
22
إلى الأهواز وكان شرف الدولة بكرمان فلما بلغه خبر وفاة أبيه سار مجدا إلى فارس فملكها وقبض على نصر بن هارون النصراني وزير أبيه وقتله لأنه كان يسيء صحبته أيام أبيه وأصلح أمر البلاد وأطلق الشريف أبا الحسين محمد بن عمر العلوي والنقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والقاضي أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشاذه وكان عضد الدولة حبسهم واظهر مشاققة أخيه صمصام الدولة وقطع خطبته وخطب لنفسه وتلقب بتاج الدولة وفارق الأموال وجمع الرجال وملك البصرة وأقطعها اخوه أبا الحسين فبقي كذلك ثلاث سنين إلى ان قبض عليه شرف الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فلما سمع صمصام الدولة بما فعله شرف الدولة سير إليه جيشا واستعمل عليهم الأمير أبا الحسن ابن دبعش حاجب عضد الدولة فجهز تاج الدولة عسكرا واستعمل عليهم
الأمير أبا الأعز دبيس بن عفيف الأسدي فالتقيا بظاهر قرقوب واقتتلوا فانهزم عسكر صمصام الدولة واسر دبعش فاستولى حينئذ أبو الحسين بن عضد الدولة على الأهواز واخذ ما فيه وفي رامهرمز وطمع في الملك وكانت الوقعة في ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
ذكر قتل الحسين بن عمران بن شاهين
في هذه السنة قتل الحسين بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة قتله اخوه أبو الفرج واستولى على البطيحة.
23
وكان سبب قتله انه حسده على ولايته ومحبة الناس له فاتفق ان أخت لهما مرضت فقال أبو الفرج لأخيه الحسين ان أختنا مشفية فلوا عدتها ففعل وسار إليه ورتب أبو الفرج في الدار نفرا يساعدونه على قتله فلما دخل الحسين الدار تخلف عنه أصحابه ودخل أبو الفرج معه وبيده سيفه فلما خلا به قتله ووقعت الصيحة فصعد إلى السطح واعلم العسكر بقتله ووعدهم الاحسان فسكتوا وبذل لهم المال فأقروه في الأمر وكتب إلى بغداد يظهر الطاعة ويطلب تقليده الولاية وكان متهورا جاهلا.
ذكر عود ابن سيمجور إلى خراسان
لما عزل أبو الحسن بن سيمجور عن قيادة جيوش خراسان ووليها أبو العباس سار بن سيمجور إلى سجستان فأقام به فلما انهزم أبو العباس عن جرجان على ما ذكرناه ورأى الفتنة قد رفعت رأسها سار عن سجستان نحو خراسان وأقام بقهستان فلما سار أبو العباس إلى بخارى وخلت منه خراسان كاتب ابن سيمجور فائقا يطلب موافقته على الاستيلاء على خراسان فأجابه إلى ذلك واجتمعا بنيسابور واستوليا على تلك النواحي.
وبلغ الخبر إلى أبي العباس فسار عن بخارى في جمع كثير إلى مرو وترددت الرسل بينهم فاصطلحوا على ان تكون نيسابور وقيادة الجيوش لأبي العباس وتكون بلخ لفائق وتكون هراة لأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وتفرقوا على ذلك وقصد كل واحد منهم ولايته.
24
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي نقيب النقباء أبو تمام الزينبي وولي النقابة بعده ابنه أبو الحسن وتوفي محمد بن جعفر المعروف بزوج الحرة في صفر ببغداد وتوفي في جمادى الأولى منصور بن أحمد بن هارون الزاهد وهو ابن خمس وستين سنة.
25
373
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة
ذكر موت مؤيد الدولة
وعود فخر الدولة إلى مملكته
في هذه السنة في شعبان توفي مؤيد الدولة أبو منصور بويه بن ركن الدلوة بجرجان وكان علته الخوانيق وقال له الصاحب بن عباد لو عهدت إلى أحد فقال أنا في شغل عن هذا ولم يعهد بالملك إلى أحد وكان عمره ثلاثا وأربعين سنة.
وجلس صمصام الدولة للعزاء ببغداد فأتاه الطائع لله معزيا فلقيه في طيارة ولما مات مؤيد الدولة يشاور أكابر دولته فيمن يقوم مقامه فأشار الصاحب إسماعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى مملكته إذ هو كبير البيت ومالك تلك البلاد قبل مؤيد الدولة ولما فيه من آيات الامارة والملك فكتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور وأرسل الصاحب إليه واستخلفه لنفسه وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة.
فلما وصلت الأخبار إلى فخر الدولة سار إلى جرجان فلقيه العساكر بالطاعة،
26
وجلس في دست ملكي في رمضان بغير منة لاحد فسبحان من إذ أراد أمرا كان.
ولما عاد إلى مملكته قال له الصاحب يا مولانا قد بلغك الله وبلغني فيك ما أملته ومن حقوق خدمتي لك إجابتي إلى ترك الجندية وملازمة داري والتوفر على أمر الله فقال لا تقل هذا فما أريد الملك إلا لك ولا يستقيم لي أمر إلا بك وإذا كرهت ملابسة الأمور كرهتها أنا أيضا وانصرفت.
فقبل الأرض وقال الأمر لك فاستوزره وأكرمه وعظمه وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها وسيرت الخلع من الخليفة إلى فخر الدولة والعهد واتفق فخر الدولة وصمصام الدولة فصارا يدا واحدة.
ذكر عزل أبي العباس عن خرسان وولاية ابن سيمجور
لما عاد أبو العباس عن بخارى إلى نيسابور كما ذكرناه استوزر الأمير نوح عبد الله بن عزيز وكان ضدا لأبي الحسين العتبي وأبي العباس فلما ولي الوزارة بدا بعزل أبي العباس عن خراسان وإعادة أبي الحسن بن سيمجور إليها فكتب من بخراسان من القواد إليه يسألونه ان يقر أبا العباس على عمله فلم يجبهم إلى ذلك فكتب أبو العباس إلى فخر الدولة بن بويه يستمده فأمده بمال كثير وعسكر فأقاموا بنيسابور وأتاهم أبو محمد عبد الله بن عبد الرزاق معاضدا لهم على ابن سيمجور.
وكان أبو العباس حينئذ بمرو فلما سمع أبو الحسن بن سيمجور وفائق
27
بوصول عسكر فخر الدولة إلى نيسابور قصدوهم فانحاز عسكر فخر الدولة وابن عبد الرزاق وأقاموا ينتظرون أبا العباس ونزل ابن سيمجور ومن معه بظاهر نيسابور ووصل أبو العباس فيمن معه واجتمع بعسكر الديلم ونزل بالجانب الاخر وجرى بينهم حروب عدة أيام وتحصن ابن سيمجور بالبلد وأنفذ فخر الدولة إلى أبي العباس عسكرا آخر أكثر من الفي فارس فلما رأى ابن سيمجور قوة أبي العباس انحاز عن نيسابور فسار عنها ليلا وتبعه عسكر أبي العباس فغنموا كثيرا من أموالهم ودوابهم
واستولى أبو العباس على نيسابور وراسل الأمير نوح بن منصور يستميله ويستعطفه ولج أنب العزيز غي عزله ووافقه على ذلك والدة الأمير نوح وكانت تحكم في دولة ولدها وكانوا يصدرون عن رأيها فقال بعض أهل العصر في ذلك:
(شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما * رأي النساء وأمرة الصبيان)
(اما النساء فميلهن إلى الهوى * وأخو الصبا يجري بغير عنان)
ذكر انهزام أبي العباس إلى جرجان ووفاته
لما انهزم ابن سيمجور أقام أبو العباس يستعطف الأمير نوحا ووزير ابن عزيز وترك اتباع ابن سيمجور واخراجه من خراسان فتراجع إلى ابن سيمجور أصحابه المنهزمون وعادت قوته واتته الامداد من بخارى وكاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة وهو بفارس يستمده فأمده بألفي فارس مراغمة لعمه فخر الدولة فلما كثف جمعه قصد أبا
28
العباس فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا إلى اخر النهار فانهزم أبو العباس وأصحابه وسر منهم جماعة كثيرة.
وقصد أبو العباس جرجان وبها فخر الدولة فأكرمه وعظمه وترك له جرجان ودهستان وأستراباذ صافية له ولمن معه وسار عنها إلى الري وأرسل إليه من الأموال والآلات ما يجل عن الوصف.
وأقام أبو العباس بجرجان هو وأصحابه وجمع العساكر وسار نحو خراسان فلم يصل إليها وعاد إلى جرجان وأقام بها ثلاث سنين، ثم وقع بها وباء شديد ومات فيه كثير من أصحابه ثم مات هو أيضا وكان موته سنة سبع وسبعين [وثلاثمائة]، وقيل انه مات مسموما.
وكان أصحابه قد أساؤوا السيرة مع أهل جرجان فلما مات ثار بهم أهلها ونهبوهم وجرت بينهم وقعة عظيمة أجلت عن هزيمة الجرجانية وقتل منهم خلق كثير وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم وطلب مشايخهم الأمان فكفوا عنهم وتفرق أصحابه فسار أكثرهم إلى خراسان واتصلوا بأبي علي بن أبي الحسن بن سيمجور وكان حينئذ صاحب الجيش مكان أبيه وكان والده قد توفي فجأة وهو بجامع بعض حظاياه فمات على صدرها فلما مات قام بالأمر بعده ابنه أبو علي واجتمع اخوته على طاعته منهم اخوه أبو القاسم وغيره فنازعه فائق الولاية وسنذكر ذلك سنة ثلاث وثمانين [وثلاثمائة] عند ملك الترك بخارى إن شاء الله تعالى.
29
ذكر قتل أبي الفرج محمد بن عمران
وملك أبي المعالي ابن أخيه الحسن
في هذه السنة قتل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين صاحب البطيحة وولي أبو المعالي ابن أخيه الحسن.
وسبب قتله ان أبا الفرج قدم الجماعة الذين ساعدوه على قتل أخيه وضع من حال مقدمي القواد فجمعهم المظفر بن علي الحاجب وهو أكبر قواد أبيه عمران وأخيه الحسن وحذرهم عاقبة أمرهم فاجتمعوا على قتل أبي الفرج فقتله المظفر واجلس أبا المعالي مكانه وتولى تدبيره بنفسه وقتل كل من كان يخافه من القواد ولم يترك معه إلا من يثق به وكان أبو المعالي صغيرا.
ذكر استيلاء المظفر على البطيحة
لما طالت أيام على المظفر بن علي الحاجب وقوي أمره طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فوضع كتابا عن لسان صمصام الدولة إليه يتضمن التعويل عليه في ولاية البطيحة وسلمه إلى ركابي غريب وأمره ان يأتيه إذا كان القواد والأجناد عنده ففعل ذلك وأتاه وعليه أثر الغبار وسلم إليه الكتاب فقبله وفتحه وقراه بمحضر من الأجناد وأجاب بالسمع والطاعة وعزل أبا المعالي وجعله مع والدته وأجرى عليهما جراية، ثم
30
أخرجهما إلى واسط وكان يصلهما بما ينفقانه واستبد بالأمر وأحسن السير وعدل الناس مدة.
ثم انه عهد إلى ابن أخته أبي الحسن علي بن نصر الملقب بمهذب الدولة وكان يلقب حينئذ بالأمير المختار وبعده إلى أبي الحسن علي بن جعفر وهو ابن أخته وانقرض بيت عمران بن شاهين وكذلك الدنيا دول وما أشبه حاله بحال باذ فإنه ملك وانتقل الملك إلى ابن أخته ممهد الدولة بن مروان.
ذكر عصيان محمد بن غانم
وفيها عصى محمد بن غانم البرزيكاني بناحية كوردر من أعمال قم على فخر الدولة واخذ بعض غلات السلطان وامتنع بحصن الهفتجان وجمع البرزيكاني إلى نفسه فسارت إليه العساكر في شوال لقتاله فهزمها وأعيدت إليه من الري مرة أخرى فهزمها.
فأرسل فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه ينكر ذلك عليه ويأمره باصلاح الحال معه ففعل وراسله فاصطلحوا أول سنة أربع وسبعين وبقي إلى خمس وسبعين فسار إليه جيش لفخر الدولة فقاتله فاصابه طعنة واخذ أسيرا فمات من طعنته.
31
ذكر انتقال بعض صنهاجة
من أفريقية إلى الأندلس وما فعلوه
في هذه السنة انتقل أولاد زيري بن مناد وهم زاوي وجلالة وماكسن اخوة بلكين إلى الأندلس.
وسبب ذلك انهم وقع بينهما وبين أخيهم حماد حروب وقتال على بلاد بينهم فغلبهم حماد فتوجهوا إلى طنجة ومنها إلى قرطبة فأنزلهم محمد بن أبي عامر وسر بهم وأجرى
عليهم الوظائف وأكرمهم وسألهم عن سبب انتقاله فأخبروه وقالوا له انما اخترنك على غيرك واحببنا ان نكون معك نجاهد في سبيل الله فاستحسن ذلك منهم ووعدهم ووصلهم فأقاموا أياما.
ثم دخلوا عليه وسألوه اتمام ما وعدهم به من الغزو فقال انظروا ما أردتم من الجند نعطيكم فقالوا ما يدخل معنا بلاد العدو غيرنا إلا الذين معنا من بني عمنا وصنهاجة وموالينا فأعطيهم الخيل والسلاح والأموال وبعث معهم دليل وكان الطريق ضيقا فاتوا أرض جليقية فدخلوها ليلا وكمنوا في بستان بالقرب من المدينة وقتلوا كل من به وقطعوا أشجاره فلما أصبحوا خرج جماعة عن البلد فضربوا عليهم واخذوهم وقتلوهم جميعا فرجوا.
وتسامع العدو فركبوا في أثرهم فلما أحسوا بذلك كمنوا وراء ربوة فلما جاوزهم العدو خرجوا عليهم من ورائهم وضربوا في ساقتهم وكبروا فلما سمع العدو تكبيرهم ظنوا ان العدد كثير فانهزموا وتبعهم صنهاجة فقتلوا خلقا كثيرا وغنموا دوابهم وسلاحهم وعادوا إلى قرطبة فعظم ذلك
32
عند ابن أبي عامر ورأى من شجاعتهم ما لم يره من جند الأندلس فأحسن إليهم وجعلهم بطانته.
ذكر غزوة ابن أبي عامر إلى الفرنج بالأندلس
لما رأى أهل الأندلس فعل صنهاجة حسدوهم ورغبوا في الجهاد وقالوا للمنصور بن أبي عامر لقد نشطنا هؤلاء للغزو فجمع الجيوش الكثيرة من سائر الأقطار وخروج إلى الجهاد وكان رأى في منامه تلك الليالي كان رجل أعطاه الأسبراج فاخذه من يده واكل منه فعبره على ابن أبي جمعة فقال له اخرج إلى بلد اليون فإنك ستفتحها فقال من اين اخذت هذا فقال لان الأسبراج يقال له في المشرق الهليون فملك الرؤيا قال لك هاليون.
فخرج إليها ونازلها وهي من أعظم مدائنهم واستمد أهلها الفرنج فأمدهم بجيوش كثيرة واقتتلوا ليلا ونهارا فكثر القتل فيهم وصبرت صنهاجة صبرا عظيما ثم خرج قومص كبير من الفرنج لم يكن لهم مثله فجال بين الصفوف وطلب البراز فبرز إليه جلالة بن زيري الصنهاجي فحمل كل واحد منهم على صاحبه فطعنه الفرنجي فمال عن الطعنة وضربه بالسيف على عاتقيه فأبان عاتقه فسقط الفرنجي على الأرض وحمل المسلمون على النصارى فانهزموا إلى بلادهم فقتل منهم ما لا يحصى وملك المدينة.
وغنما ابن أبي عامر غنيمة لم ير مثلها واجتمع من السبي ثلاثون الفا،
33
وأمر بالقتلى فنضدت بعضها على بعض وأمر مؤذن فاذن فوق القتلى المغرب وخرب مدينة قامونة ورجع سالما هو وعساكره.
ذكر وفاة يوسف بلكين وولاية ابنه المنصور
في هذه السنة لسبع يقين من ذي الحجة توفي يوسف بلكين بن زيري صاحب أفريقية بوارقلين.
وسبب مضيه إليها ان خزرون الزناتي دخل سجلماسة وطرد عنها نائب يوسف بلكين ونهبا ما فيها من الأموال والعدد وتغلب على فاس زيري بن عطية الزناتي فرحل يوسف فاعتل في الطرق بقولنج وقيل خرج في يده بثرة فمات منها فأوصى بولاية ابنه المنصور وكان المنصور بمدينة أشير فجلس للعزاء بأبيه وأتاه أهل القيروان وسائر البلاد يعزونه بأبيه ويهنونه بالولاية فأحسن إلى الناس وقال لهم ان أبي يوسف وجدي زيري كانا يأخذان الناس بالسيف وأنا إلا بالاحسان ولست ممن يولي كتاب ويعزل بكتاب يعني ان الخليفة بمصر لا يقدر على عزله بكاتب ثم سار إلى القيروان وسكن برقادة وولي الأعمال واستعمل الأمراء وأرسل هدية عظيمة إلى العزيز بالله بمصر قيل كانت قيمتها الف الف دينار ثم عاد إلى أشير واستخلف على جباية الأموال بالقيروان والمهدية وجميع أفريقية انسانا يقال له عبد الله بن الكاتب.
34
ذكر أمر باذ الكردي خال بني مروان وملكه الموصل
في هذه السنة قوي أمر باذ الكردي واسمه أبو عبد الله الحسين بن دوستك وهو من الأكراد الحميدية وكان ابتداء أمره انه كان يغزو بثغور ديار بكر كثيرا وكان عظيم الخلقة له باس وشدة فلما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده فلما رأى عضد الدولة خافه وقال ما أظنه يبقي علي فهرب حين خرج من عنده وطلبه عضد الدولة بعد خروجه ليقبض عليه وقال له باس وشدة وفيه شر ولا يجوز الابقاء على مثله فأخبر بهربه فكف عن طلبه.
وحصل بثغور ديار بكر وأقام بها إلى ان استفحل أمره وقوي وملك ميافارقين وكثيرا من ديار بكر بعد موت عضد الدولة ووصل بعد أصحابه إلى نصيبين فاستولى عليها فجهز صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعد بهرام بن اردشير فواقعه فانهزم بهرام واسر جماعة من أصحابه وقوي أمر باذ فأرسل صمصام الدولة إليه أبا القاسم سعد بن محمد الحاجب في عسكر كثير فالتقوا بباجلايا على خابور الحسينية من بلد كواشى واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم سعد وأصحابه واستولى باذ على كثير من الديلم فقتل واسر ثم قتل الاسرى صبرا وفي هذه الوقعة يقول أبو الحسين البشنوي:
(بباجلايا جلون عنه غمته * ونحن في الروع جلاؤون للكرب)
35
يعني باذ وسنذكر سببه سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة إن شاء الله تعالى.
ولما هزم باذ الديلم وسعدا وفعل بهم ما تقدم ذكره سبقه سعد فدخل الموصل وسار باذ في أثره فثار العامة بسعد لسوء سيرة الديلم فيهم فنجا منهم بنفسه ودخل باذ إلى الموصل واستولى عليها وقويت شوكته وحدث نفسه بالتغلب على بغداد وإزالة الديلم عنها وخرج من حد المتطرفين وسار في عداد أصحاب الأطراف فخافه صمصام الدولة وأهمه أمره وشغله عن غيره وجمع العساكر ليسيرها إليه فانقضت السنة.
وقد حدثنا بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية ممن يعتني بأخبار باذ ان باذا كنيته أبو شجاع واسمه باذ وان أبا عبد الله الحسين بن دوستك هو أخو باذ وكان ابتداء أمره انه كان يرعى الغنم وكان كريما جوادا وكان يذبح الغنم التي له ويطعم الناس فظهر عنه اسم الجود فاجتمع عليه الناس وصار يقطع الطريق وكلما حصل له شيء اخرجه
فكثر جمعه وصار يغزو ثم ناه دخل أرمينية فملك مدينة أرجيش وهو أول مدينة ملكها فقوي بها وسار منها إلى ديار بكر فملك مدينة آمد ثم ملك مدينة ميافارقين وغيرها من ديار بكر وسار إلى الموصل فملكها كما ذكرناه.
36
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة استعمل العزيز بالله الخليفة العلوي على دمشق وأعمالها بكجور التركي مولى قرغويه احدى غلمان سيف الدولة بن حمدان وكان له حمص فسار منها إلى دمشق وظلم أهلها وعسفهم وأساء السيرة فيهم وقد ذكرناه سن اثنتين وسبعين [وثلاثمائة] مستقصى.
وفيها وزر أبو محمد علي بن العباس بن فسانجس لشرف الدولة.
وفيها في ربيع الأول انقضى كوكب عظيم أضاءت له الدنيا وسمع له مثل دوي الرعد الشديد.
وفيها غلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد وعدمت الأقوات فمات كثير من الناس جوعا.
وفيها وزر أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان لصمصام الدولة وفيها ورد القرامطة إلى قريب بغداد وطمعوا في موت عضد الدولة فصولحوا على مال اخذوه وعادوا.
وفيها في جمادى الآخرة توفي سعيد بن سلام أبو عثمان المغربي بنيسابور ومولده بالقيروان ودخل الشام فصحب الشيوخ منهم أبو الخير الأقطع وغيره وكان من أرباب الأحوال.
37
374
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة
ذكر عود الديلم إلى الموصل وانهزام باذ
لما استولى باذ الكردي على الموصل اهتم صمصام الدولة وزيره ابن سعدان بأمره فوقع الاختيار على انفذ زيار بن شهراكويه وهو أكبر قوادهم فأمره بالمسير إلى قتاله وجهزه وبالغ في أمره وأكثر معهم الرجال والعدد والأموال وسار إلى باذ فخرج إليهم ولقيهم في صفر من هذه السنة فأجلت الوقعة عن هزيمة باذ واصابه واسر كثير من عسكره وأهله وحملوا إلى بغداد فشهروا بها وملك الديلم الموصل.
وأرسل زيار عسكرا مع سعد الحاجب في طلب باذ فسلكوا على جزيرة ابن عمر وأرسل عسكرا اخر إلى نصيبين فاختلفوا على مقدميهم فلم يطاوعوهم على المسير إليه وكان باذ بديار بكر قد جمع خلقا كثيرا فكتب وزير صمصام الدولة إلى سعد الدولة بين سيف الدولة بن حمدان وبذل لع تسليم ديار بكر إليه فسير إليه جيشا فلم يكن لهم قوة بأصحاب باذ فعادوا إلى حلب وكانوا قد حصروا ميافارقين فلم شاهد سعد ذلك من عسكره اعمل الحيلة في قتل باذ غيلة فوضع رجل على ذلك فدحل الرجل خيمة باذ ليلا وضربوه بالسيف وهو يظن انه يضرب رأسه فوقعت الضربة على ساقه،
38
فصاح وهرب ذلك الرجل فمرض باذ من تلك الضربة فأشفى على الموت وكان قد جمع معه من الرجال خلقا كثيرا فراسل زيار وسعدا يطلب الصفح فاستقر الحال بينهم واصطلحوا على ان تكون ديار بكر لباذ والنصف من طور عبدين أيضا وانحدر زيار إلى بغداد وأقام سعد بالموصل.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قلد أبو طريف عليان بن ثمال الخفاجي حماية الكوفة وهي أول امارة بني ثمال.
وفيها خطب أبو الحسين بن عضد الدولة بالأهواز لفخر الدولة وخطب له أبو طاهر بن عضد الدولة بالبصرة ونقشا اسمه على السكة.
وفيها خطب لصمصام الدولة بعمان وكانت لشرف الدولة، ونائبه بها أستاذ هرمز فصار مع صمصمام الدولة فلم بلغ الخبر إلى شرف الدولة أرسل إليه جيشا فانهزم أستاذ هرمز واخذ أسيرا وعادت عمان إلى شرف الدولة وحبس أستاذ هرمز في بعض القلاع وطولب بمال كثير.
وفيها توفي علي بن كأمة مقدم عسكر ركن الدولة.
وفيها أفرج شرف الدولة عن أبي منصور بن صالحان واستوزره وقبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس.
وفيها أرسل شرف الدولة رسولا إلى القرامطة فلما عاد قال ان القرامطة سألوني عن الملك فأخبرتهم بحسن سيرته فقالوا من ذلك انه استوزر
39
ثلاثة ففي سنة بغير سبب فلم يغير شرف الدولة بعد هذا على وزيره أبي منصور بن صالحان.
وفي هذه السنة توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ المشهور وقيل في سنة تسع وستين وكان ضعيفا في الحديث.
40
375
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة
ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة جرت فتنة بين الديلم وكان سببها ان أسفار بن كردويه وهو من أكابر القواد استنفر من صمصام الدولة واستمال كثيرا من العسكر إلى طاعة شرف الدولة واتفق رأيهم على ان يولوا الأمير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة العراق نيابة عن أخيه شرف الدولة.
وكان صمصام الدولة مريضا فتمكن أسفار من الذي عزم عليه واظهار ذلك وتأخر عن الدار وراسله صمصام الدولة يستميله ويسكنه فما زاده إلا تماديا فلما رأى ذلك من حاله راسل الطائع يطلب منه الركوب معه وكان صمصام الدولة قد إبل من مرضه فامتنع الطائع من ذلك فشرع صمصام الدولة واستمال فولاذ زماندار وكان موافقا لأسفار إلا انه كان يأنف من متابعته لكبر شانه فلما راسله صمصام الدولة أجابه واستحلفه على ما أراد وخرج من عنده وقاتل أسفار فهزمه فولاد واخذ الأمير أبو نصر أسيرا واحضر عند أخيه صمصام الدولة فرق له وعلم انه لا ذنب له،
41
فاعتقله مكرما وكان عمره حينئذ خمس عشرة سنة.
وثبت أمر صمصام الدولة وسعى إليها بابن سعدان الذي كان وزيره فعزله وقيل انه كان هواه معهم فقتل ومضى أسفار إلى الأهواز واتصل بالأمير أبي الحسن بن عضد الدولة وخدمه وسار باقي العسكر إلى شرف الدولة.
ذكر أخبار القرامطة
في هذه السنة ورد إسحاق وجعفر البحريان في جمع كثير وهما من الستة القرامطة الذين يلقبون بالسادة فملكا الكوفة وخطبا لشرف الدولة فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم وكان لهم من الهيبة ما ان عضد الدولة وبختيار أقطعاهم الكثير.
وكان نائبهم ببغداد الذي يعرف بأبي بكر بن شاهويه يتحكم تحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة فلم ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما ويسألهما عن سبب حركتهما فذكرا ان قبض نائبهم هو السبب في قصدهم بلاده وبثا أصحابهما وجبيا المال.
ووصل أبو قيس الحسن بن النذر إلى الجامعين وهو من أكابرهم فأرسل صمصام الدولة العساكر ومعهم العرب فعبروا الفرات إليه وقاتلوه فانهزم عنهم وأسر أبو قيس وجماعة من قوادهم فقتلوا فعاد القرامطة
42
وسيروا جيشا اخر في عدد كثير وعدة فالتقوا هم وعساكر صمصام الدولة بالجامعين أيضا فأجلت الوقعة عن هزيمة القرامطة وقتل مقدمهم وغيره واسر جماعة ونهب سوادهم فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفة رحل القرامطة وتبعهم العسكر إلى القادسية فلم يدركوهم وزال من حينئذ ناموسهم.
ذكر الافراج عن ورد الرومي وما صار أمره إليه
ودخول الروس في النصرانية
قي هذه السنة أفرج صمصام الدولة عن ورد الرومي وقد تقدم ذكر حبسه فلما كان الان أفرج وأطلقه وشرط عليها اطلاق عدد كثير من أسارى المسلمين وان يسلم إليه سبعة حصون من بلد الروم برساتيقها وان لا يقصد بلاد الاسلام لا هو ولا أحد من أصحابه ما عاش وجهزه بما يحتاج إليه من مال وغيره فسار إلى بلاد الروم واستمال في طريقه خلقا كثيرا من البوادي وغيرهم وأطمعهم في العطاء والغنيمة وسار حتى نزل بملطية فتسلمها وقوي بها وبما فيها من مال وغيره.
وقصد ورديس بن لاون فتراسلا واستقر الأمر بينهما على ان تكون قسطنطينية وما جورها من شمالي الخليج لورديس وهذا الجانب من الخليج لورد وتحالفا واجتمعا فقبض ورديس على ورد وحبسه ثم إنه ندم فاطلقه عن قريب وعبر ورديس الخليج وحصر القسطنطينية وبها الملكان ابنا أرمانوس وهما بسيل وقسطنطين وضيق عليهما فراسلا ملك الروسية واستنجداه وزوجاه بأخت لهما فامتنعت من تسليم نفسها إلى
43
من يخالفها في الدين فتنصر وكان هذا أول النصرانية بالروس وتزوجها وسار إلى لقاء ورديس فاقتتلوا وتحاربوا فقتل ورديس واستقر الملكان في ملكهما وراسلا وردا وأقراه على ما بيده فبقي مدة مديدة ومات قيل انه مات مسموما.
وتقدم بسيل في الملك وكان شجاعا عادلا حسن الرأي ودام ملكه وحارب البلغار خمسا وثلاثين سنة وظفر بهم واجلى كثيرا منهم من بلادهم وأسكنها الروم وكان كثير الاحسان إلى المسلمين والميل إليهم.
ذكر ملك شرف الدولة الأهواز
في هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس يطلب الأهواز وأرسل إلى أخيه أبي الحسن وهو بها يطيب نفسه ويعده الاحسان وان يقره على ما بيده من الأعمال واعلمه ان مقصده العراق وتخليص أخيه الأمير أبي نصر من محبسه فلم يصغ أبو الحسين إلى قوله وعزم على منعه وتجهز لذلك فأتاه الخبر بوصول شرف الدولة إلى أرجان ثم إلى رامهرمز فتسلل أجناده إلى شرف الدولة ونادوا بشعاره فهرب أبو الحسين نحو الري إلى عمه فخر الدولة فبلغ أصبهان وأقام بها واستنصر عمه فاطلق له مالا ووعده بنصره.
فلما طال عليه الأمر قصد التغلب على أصبهان ونادى بشعار أخيه شرف الدولة فثار به جندها وأخذوه أسيرا وسيروه إلى الري فحبسه عمه،
44
وبقي محبوسا إلى ان مرض عمه فخر الدولة مرض الموت فلما اشتد مرضه اشتد إليه من قتله وكان يقول شعرا فمن قوله:
(هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه * وأعقب بالحسنى وفك من الأسر)
(فمن لي بأيام الشباب التي مضت * ومن لي بما قد فات في الحبس من عمري)
واما شرف الدولة فإنه سار إلى الأهواز وملكها وأرسل إلى البصرة فملكها وقبض على أخيه أبي طاهر وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فراسله في الصلح فاستقر الأمر على ان يخطب لشرف الدولة بالعراق قبل صمصام الدولة ويكون صمصام الدولة نائبا عنه ويطلق أخاه الأمير بهاء الدولة أبا نصر ويسيره إليه وصلح الحال واستقر.
وكان قواد شرف الدولة يحبون الصلح لأجل العود إلى أوطانهم وخطب لشرف الدولة بالعراق وسيرت إليه الخلع والألقاب من الطائع لله إلى ان عادت الرسل إلى شرف الدولة ليحلفوه القت إليه البلاد مقاليدها كواسط وغيرها وكاتبه القواد بالطاعة فعاد عن الصلح وعزم على قصد بغداد والاستيلاء على الملك ولم يحلف لأخيه.
وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر يشير عليه بقصد العراق ويحثه عليه ويطمعه فيه فوفقه على ذلك وسنذكر باقي خبره سنة ست وسبعين [وثلاثمائة] إن شاء الله تعالى.
45
ذكر انهزام عساكر المنصور من صاحب سجلماسة
قد ذكرنا استيلاء خزرون وزيري الزناتيين على سجلماسة وفاس وموت يوسف بلكين لما قصدهما فلما مات تمكنا من تلك البلاد فلما استقر المنصور سير جيشا كثيفا إليهما ليردهما إلى طاعته فلما سار الجيش قريب فاس خرج إليهم صاحبها زيري بن عطية الزناتي المعروف بالقرطاس في عساكر فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم عسكر المنصور وقتل منهم خلق كثير واسر جماعة كثيرة وثبت قدمه في ولايته.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج بعمان طائر من البحر كبير أكبر من الفيل ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال ولسان فصيح قد قرب قد قرب قد قرب ثلاثا ثم غاص في البحر فعل ذلك ثلاثة أيام ثم غاب ولم ير بعد ذلك.
وفيها جدد صمصام الدولة ببغداد على الثياب الإبريسم والقطن المبيعة ضريبة مقدارها عشر الثمن فاجتمع الناس ففي جامع المنصور وعزموا على قطع الصلاة وكاد البلد يفتن فاعفوا من ذلك.
46
وفيها توفي ابن مؤيد الدولة بن بويه فجلس صمصام الدولة للعزاء فأتاه الطائع لله معزيا.
وفيها توفي أبو علي الحسين بن الحسين بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي المشهور وأبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي وكان رئيس أصحاب الشافعي بالعراق، وتوفي في شوال وله نيف وسبعون سنة وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الفقيه المالكي ومولده سنة سبع وثمانين ومائتين وسئل ان يلي قضاء القضاة فامتنع والوليد بن أحمد بن محمد بن الوليد أبو العباس الزوزني الصوفي المحدث كان من العلماء في الحقائق وله تصانيف حسنة.
47
376
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة
ذكر ملك شرف الدولة العراق وقبض صمصام الدولة
في هذه السنة سار شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من الأهواز إلى واسط فملكها فأرسل إليهم صمصام الدولة أخيه أبا نصر يستعطفه باطلاقه وكان محبوسا عندهم فلم يتعطف لهم واتسع الخرق على صمصام الدولة وشغب عليه جنده فاستشار أصحابه في قصد أخيه والدخول في طاعته فنهوه عند ذلك وقال بعضهم الرأي اننا نصعد إلى عكبرا لنعلم بذلك من هو لنا ممن هو علينا فان رأينا عدتنا كثيرة قاتلناهم وأخرجنا الأموال وان عجزنا سيرنا إلى الموصل فهي وسائر بلاد الجبل لنا فيقوى أمرنا ولابد ان الديلم والأتراك تجري بينهم منافسة ومحاسدة ويحدث اختلال فنبلغ الغرض.
وقال بعضهم الرأي اننا نسير إلى قرميسين تكاتب عمك فخر الدولة وتستنجده وتسير على طريق خراسان وأصبهان إلى فارس فتغلب عليها على خزائن شرف الدولة وذخائره فما هناك ممانع ولا مدافع فإذا فعلنا ذلك لا يقدر شرف الدولة على المقام بالعراق فيعود حينئذ فيقع الصلح.
48
فاعرض صمصام الدولة عن الجميع وسار في طيار إلى أخيه شرف الدولة في خواصه فوصل إلى أخيه شرف الدولة فلقيه وطيب قلبه فلما خرج من عنده قبض عليه وأرسل إلى بغداد من يحتاط على دار المملكة وسار فوصل إلى بغداد في شهر رمضان فنزل بالشفيعي واخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقال وكانت امارته بالعراق ثلاث سنين واحد عشر شهرا.
ذكر الفتنة بين الأتراك والديلم
في هذه السنة جرت فتنة بين الديلم والأتراك والذين مع شرف الدولة ببغداد وسبب ان الديلم اجتمعوا مع شرف الدولة في خلق كثير بلغت عدتهم خمسة عشر الف رجل وكان الأتراك في ثلاثة آلاف فاستطال عليهم الديلم فجرت منازعة بين بعضهم في دار واصطبل ثم صارت إلى المحاربة فاستظهر الديلم لكثرتهم وأرادوا اخراج صمصام الدولة واعادته إلى ملكه.
وبلغ شرف الدولة الخبر فوكل بصمصام الدولة من يقتله ان هم الديلم باخراجه ثم إن الديلم لما استظهروا على الأتراك تبعوهم فتشوشت صفوفهم فعادت الأتراك عليهم من امامهم وخلفهم فانهزموا وقتل منهم زيادة على ثلاثة الف ودخل الأتراك البلد فقتلوا من وجدوه منهم ونهبوا أموالهم وتفرق الديلم فبعضهم اعتصم بشرف الدولة وبعضهم سار عنه.
فلما كان الغد دخل شرف الدولة بغداد والديلم المعتصمون به معه فخرج الطائع لله ولقيهم وهناه بالسلامة وقبل شرف الدولة الأرض واخذ الديلم يذكرون صمصام الدولة فقيل لشرف الدولة اقتله والا ملكوه الأمر.
49
ثم إن شرف الدولة اصلح بين الطائفتين وحلف بعضهم لبعض وحمل صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل في قلعة هناك فرد شرف الدولة على الشريف محمد بن عمر جميع
املاكه وزاده عليها وكان خراج أملاكه كل سنة الفي الف وخمس مائة الف درهم ورد على النقيب أبي أحمد الموسوي املاكه وأقر الناس على مراتبهم ومنع الناس من السعايات ولم يقبلها فامنوا وسكنوا ووزر له أبو منصور بن صالحان.
ذكر ولاية مهذب الدولة البطيحة
في هذه السنة توفي المظفر بن علي ووالي بعده ابن أخته أبو الحسن علي بن نصر بالعهد المذكور وكتب إلى شرف الدولة يبذل له الطاعة ويطلب التقليد فأجيب إلى ذلك ولقب بمهذب الدولة فأحسن السيرة وبذل الخير والاحسان فقصدوه الناس وامنع عنده الخائف.
وصارت البطيحة معقلا لكل من قصدها واتخذها الأكابر وطنا وبنوا فيها الدور الحسنة ووسعهم بره واحسانه وكاتب ملوك الأطراف وكاتبوه وزجه بهاء الدولة ابنته وعظم شانه إلى ان قصده القادر بالله فحماه وبقي عنده إلى ان اتته الخلافة على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي المنجم لعضد الدولة وكان مولده بالري سنة احدى وتسعين ومائتين.
50
وفيها كان بالموصل زلزلة شديدة تهدم بها كثير من المنازل وهلك كثير من الناس.
وفيها قتل المنصور بن يوسف صاحب أفريقية عبد الله الكاتب وقام على ولاية الأعمال بأفريقية عوضه يوسف بن أبي محمد وكان والي قفصه قبل ذلك.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد جلا لشدته أكثر أهله.
وفيها توفي أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخي الأزرق الأنباري الكاتب وأحمد بن الحسين بن علي أبو حامد المروزي ويعرف بابن الطبري الفقيه الحنفي تفقه ببغداد على أبي الحسن الكرخي وولي قضاء القضاة بخراسان ومات في صفر وكان عابدا محدثا ثقة.
وإسحاق بن المقتدر بالله أبو محمد والد القادر ومولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة وصلى عليه ابنه القادر وهو حينئذ أمير.
وأبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي صاحب الإيضاح قيل كان معتزليا وقد جاوز تسعين سنة وأبو أحمد محمد بن أحمد بن الحسين بن الغطريف الجرجاني توفي في رجب وهو عالي الاسناد في الحديث.
51
377
ذكر دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة
ذكر الحرب بين بدر بن حسنويه وعسكر شرف الدولة
في هذه السنة جهز شرف الدولة عسكرا كثيفا مع قراتكين الجهشياري وهو مقدم عسكره وكبيرهم وأمرهم بالمسير إلى بدر حسنويه وقتاله.
وسبب ذلك ان شرف الدولة كان حنقا على بدر لانحرافه عنه وميله إلى عمه فخر الدولة فلما استقر ملكه ببغداد وإطاعة الناس شرع في أمر بدر وكان قراتكين قد جاوز الحد في التحكم والاذلال وحماية الناس على نواب شرف الدولة فرأى ان يخرجه في هذا الوجه فان ظفر ببدر شفى غيظه منه وان ظفر به بدر استراح منه.
فساروا نحو بدر وتجهز بدر وجمع العساكر وتلاقيا على الوادي بقرميسين فلما اقتتلوا انهزم بدر حتى توارى عنه وظن قراتكين وأصحابه انه مضى على وجهه فنزلوا عن خيولهم وتفرقوا ففي خيامهم فلم يلبثوا إلا ساعة حتى كر بدر راجعا إليهم واكب عليهم وأعجلهم عن الركوب وقتل منهم مقتلة عظيمة واحتوى على جميع ما في عسكرهم ونجا قراتكين في نفر من غلمانه فبلغ جسر النهروان وأقام به حتى اجتمع إليه المنهزمون ودخل بغداد.
52
واستولى بدر بعد ذلك على أعمال الجبل وما والاها وقويت شوكته.
واما قراتكين فإنه لما عاد من الهزيمة زاد اذلاله وتجنيه وأغرى العسكر بالشغب والتوثب على الوزير أبي منصور بن صالحان فلقوه بما يكره فلاطفهم ودفعهم وأصلح شرف الدولة بين الوزير وبين قراتكين وشرع في أعمال الحيلة على قراتكين فلم تمض غير أيام حتى قبض عليه وعلى جماعة من أصحابه وكتابه واخذ أموالهم وشغب الجند لأجله فقتله شرف الدولة فسكنوا وقدم عليهم طغان الحاجب فصلحت طاعته.
ذكر مسير المنصور بن يوسف لحرب كتامة
في هذه السنة جمع المنصور صاحب أفريقية عساكره وسار إلى كتامة قاصدا حربها.
وسبب ذلك ان العزيز بالله العلوي بمصر كان قد أرسل داعيا له إلى كتامة يقال له أبو الفهم واسمه حسن بن نصر يدعوهم إلى طاعته وغرضه ان تميل كتامة إليه ويرسل إليه جندا يقاتلون المنصور ويأخذون أفريقية منه لما رأى من قوته فدعاهم أبو الفهم فكثر تبعه وقاد الجيوش وعظم شانه وعزم المنصور على قصده فأرسل إلى العزيز بمصر يعرفه الحال فأرسل العزيز رسولين إلى المنصور ينهاه عن التعرض لأبي الفهم وكتامة وأمرهما ان يسيرا إلى كتامة بعد الفراغ من رسالة المنصور.
فلما وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالة العزيز أغلظ القول لهما وللعزيز
53
أيضا وأغلظا له فأمرهما بالمقام عنده بقية شعبان ورمضان ولم يتركهما يمضيان إلى كتامة فتجهز لحرب كتامة وأبي الفهم فسار بعد عيد الأضحى فقصد مدينة ميلة وأراد قتل أهلها وسبي نسائهم وذراريهم فخرجوا إليه يتضرعون ويبكون فعفا عنهم وخرب سورها وسار منها إلى كتامة والرسولان معه!
فكان لا يمر لقصر ولا منزل إلا هدمه حتى بلغ مدينة سطيف وهي كرسي عزمهم فاقتتلوا عندها قتالا عظيما فانهزمت كتامة وهرب أبو الفهم إلى جبل وعر فيه ناس من
كتامة قال لهم بنو إبراهيم فأرسل إليهم المنصور يتهددهم ان لم يسلموه فقالوا هو ضيفنا ولا نسلمه ولكن أرسل أنت إليه فخذه ونحن لا نمنعه فأرسل فاخذه وضربه ضربا شديدا ثم قتله وسلخه وأكلت صنهاجة وعبيد المنصور لحمه وقتل معه جماعة من الدعاة ووجوه كتامة وعاد إلى أشير، ورد الرسولين إلى العزيز فأخبراه بما فعل بأبي الفهم وقالا جئنا من عند شياطين يأكلون الناس فأرسل العزيز إلى المنصور يطيب قلبه وأرسل إليه هدية ولم يذكر له أبا الفهم.
ذكر معاودة باذ القتال
في هذه السنة تجدد لباذ الكردي طمع في بلاد الموصل وغيرها وسبب ذلك ان سعدا الحاجب الذي تقدو ذكره توفي بالموصل فسير إليه شرف الدولة أبا نصر خواشاذه وجهز إليه العساكر وكتب يستمد
54
من شرف الدولة العساكر والأموال فتأخر في الأموال عنه فاحضر العرب من بني عقيل وأقطعهم البلاد ليمنعوا عنها وانحدر باذ فاستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول إلى الصحراء وأرسل أخاه في عسكر فقاتلوا العرب فقتل اخوه وانهزم عسكره وأقام بعضهم مقابل بعض.
فبينما هم كذلك أتاهم الخبر بموت شرف الدولة فعاد خواشاذه إلى الموصل واظهر موته وأقامت العرب بالصحراء تمنع باذا من النزول إليها وباذ بالجبل وكان خواشاذه يصلح أمره ليعاود حرب باذ فأتاه إبراهيم وأبو الحسين أبناء ناصر الدولة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة جلس الطائع لله لشرف الدولة جلوسا عاما وحضره أعيان الدولة وخلع عليه وحلف كل واحد منهم بصاحبه.
وفيها ولد الأمير أبو علي الحسن بن فخر الدولة في رجب.
وفيها سار الصاحب بن عباد إلى طبرستان فأصلحها ونفى المتغلبين منها وفتح عدة حصون منها حصن قريم وعادا في سنته.
وفيها عصى الأمير أبو منصور بن كوريكنج صاحب قزوين على فخر
55
الدولة فلاطفه فخر الدولة وبذل له الأمان والاحسان فعاد إلى طاعته.
وفيها في رمضان حدثت فتنة شديدة بين الديلم والعامة بمدينة الموصل قتل فيها مقتلة عظيمة ثم اصلح الحال بين الطائفتين.
وفيها تأخر المطر حتى انتصف كانون الثاني وغلت الأسعار بالعراق وما يجاوره من البلاد واستسقى الناس مرتين فلم يسقوا حتى جاء المطر سابع عشر كانون الثاني وزال القنوط وتتابعت الأمطار.
56
378
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة
ذكر القبض على شكر الخادم
في هذه السنة قبض شرف الدولة على شكر الخادم وكان أخص الناس عند والده عضد الدولة وأقربهم إليه يرجع إلى قوله ويعول عليه.
وكان سبب قبضه انه كان أيام والده يقصد شرف الدولة ويؤديه وهو الذي تولى ابعاده إلى كرمان من بغداد وقام بأمر صمصام الدولة فحقد عليه شرف الدولة ذلك فلما ملك شرف الدولة العراق اختفى شكر فطلبه أشد الطلب فلم يوجد وكان له جارية حبشية قد تزوجها فطلبها إليه فأقامت عنده مدة تخدمه.
وكان قد علق بقلبها غيره فصارت تأخذ المأكول وغيره وتحمله إلى حيث شاءت فأحس بها شكر فلم يحتملها فضربها فخرجت غضبى إلى باب دار شرف الدولة فأخبرت بحال شكر فاخذه واحضر عند شرف الدولة فأراد قتله فشفع فيه تحرير الخادم فوهبه له واستأذنه في الحج فاذن له فسار إلى مكة ثم منها إلى مصر فنال هناك منزلة كبيرة وسيرد خبره إن شاء الله تعالى.
57
ذكر عزل بكجور عن دمشق
في هذه السنة عزل بكجور عن دمشق.
وسبب ذلك انه أساء السيرة في دمشق وفعل الأعمال الذميمة وكان الوزير يعقوب بن كلس منحرفا عنه يسيء الرأي فيه وانضاف إلى ذلك ما فعله بأصحابه بدمشق على ما ذكرناه فلما بلغه فعله بدمشق تحرك في عزله وقبح ذكره عند العزيز بالله فأجابه إلى ذلك فجهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم فساروا إلى الشام.
فجمع بكجور العرب وغيرها وخرج فلقي العسكر المصري عند داريا وقاتلهم فاشتد القتال بينهم فانهزم بكجور وعسكره وخاف من وصول نزال والي طرابلس وكان قد كوتب من مصر بمعاضدة منير فلما انهزم بكجور خاف ان يجيء نزال فيؤخذ فأرسل يطلب الأمان ليسلم البلد إليهم فأجابوه إلى ذلك فجمع ماله جميعه وسار وأخفى أثره لئلا يغدر المصريون به وتوجه إلى الرقة فاستولى عليها وتسلم منير البلد ففرح أهله وسرهم ولايته وسنذكر سنة احدى وثمانين باقي أخباره إن شاء الله تعالى.
ذكر ظفر الأصفر بالقرامطة
في هذه السنة جمع انسان يعرف بالأصفر من بني المنتفق جمعا كثيرا وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل فيها مقدم القرامطة وانهزم أصحابه
58
وقتل منهم وأسر كثير.
وسار الأصفر إلى الأحساء فتحصن منه القرامطة فعدل إلى القطيف فأخذ ما كان فيها من عبيدهم وأموالهم ومواشيهم وسار بها إلى البصرة.
ذكر نكتة حسنة
في هذه السنة اهدى الصاحب بن عباد أول المحرم إلى فخر الدولة دينارا وزنه الف مثقال وكان أحد جانبيه مكتوب:
(وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة * فأوصافه مشتقة من صفاته)
(فان قيل دينار فقد صدق اسمه * وان قيل الف كان بعض سماته)
(بديع ولم يطبع على الدهر مثله * ولا ضربت أضرابه لسراته)
(فقد أبرزته دولة فلكية * أقام بها الاقبال صدر قناته)
(وصار إلى شاهانشاه انتسابه * على انه مستصغر لعفاته)
(يخبر ان يبقى سنين كوزنه * لتستبشر الدنيا بطول حياته)
(تأنق فيه عبده وابن عبده * وغرس أياديه وكافي كفاته)
وكان على الجانب الاخر سورة الاخلاص ولقب الخليفة الطائع لله ولقب فخر الدولة واسم جرجان لأنه ضرب بها قوله دولة فلكية يعني ان لقب فخر الدولة كان فلك الأمة وقوله وكافي كفاته فان الصاحب كان لقبه كافي الكفاة.
59
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تتابعت الأمطار وكثرت البروق والرعود والبرد الكبار وسالت منه الأودية وامتلأت الأنهار والابار ببلاد الجبل وخربت المساكن وامتلأت الأقناء طينا وحجارة وانقطعت الطرق.
وفيها عصى نصر بن الحسن بن الفيرزان بالدامغان على فخر الدولة واجتاز به أحمد بن سعيد الشبيبي الخراساني مقبلا من الري ومعه عسكر الديلم لمحاربته فلما رأى الجد في أمره راسل فخر الدولة وعاود طاعته فأجابه إلى قبول ذلك منه وأقره على حاله وفيها توفي الأمير أبو علي بن فخر الدولة في رجب.
وفيها وقع الوباء بالبصرة والبطائح من شدة الحر فمات خلق كثير حتى امتلأت منهم الشوارع.
وفي شعبان كثرت الرياح العواصف وجاءت وقت العصر خامس شعبان ريح عظيمة بفم الصلح فهدمت قطعة من الجامع وأهلكت جماعة من الناس وغرقت كثيرا من السفن الكبار المملوءة واحتملت زورقا منحدرا فيه دواب وعدة من السفر وألقت الجميع على مسافة من موضعها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب المفيد كان محدثا مكثرا ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين وأبو أحمد محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق الحاكم النيسابوري في ربيع الأول وهو صاحب التصانيف المشهورة.
60
379
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة
ذكر سمل صمصام الدولة
كان نحرير الخادم يشير على شرف الدولة بقتل أخيه صمصام الدولة وشرف الدولة يعرض عن كلامه فلما اعتل شرف الدولة واشتدت علته ألح عليه نحرير وقال له الدولة معه على خطر فإن لم تقتله فاسمله فأرسل في ذلك محمدا الشيرازي الفراش فمات شرف الدولة قبل أن يصل الفراش إلى صمصام الدولة فلما وصل الفراش إلى القلعة التي بها صمصام الدولة لم يقدم على سمله فاستشار أبا القاسم العلاء بن الحسن الناظر هناك فأشار بذلك فسمله وكان صمصام الدولة يقول ما أعماني إلا العلاء لأنه أمضى في حكم سلطان قد مات.
ذكر وفاة شرف الدولة وملك بهاء الدولة
في هذه السنة مستهل جمادى الآخرة توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيل بن عضد الدولة مستسقيا وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن به وكانت إمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر،
61
وكان عمره ثمانيا وعشرين سنة وخمسة أشهر.
ولما اشتدت علته سير ولده أبا علي إلى بلاد فارس وأصحبه الخزائن والعدد وجماعة كثيرة من الأتراك فلما آيس أصحابه منه اجتمع إليه أعيانهم وسألوه أن يملك أحدا فقال انا في شغل عما تدعونني إليه فقالوا له ليأمر أخاه بهاء الدولة أبا نصر أن ينوب عنه إلى أن يعافى ليحفظ الناس لئلا تثور فتنة ففعل ذلك وتوقف بهاء الدولة ثم أجاب إليه.
فلما مات جلس بهاء الدولة في المملكة وقعد للعزاء وركب الطائع لله أمير المؤمنين إلى العزاء في الزبزب فتلقاه بهاء الدولة وقبل الأرض بين يديه وانحدر الطائع لله إلى داره وخلع على بهاء الدولة وخلع السلطنة وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته.
ذكر مسير الأمير أبا علي بن شرف الدولة
إلى فارس وما كان منه مع صمصام الدولة
لما اشتد مرض شرف الدولة جهز ولده الأمير أبا علي وسيره إلى فارس ومعه والدته وجواريه وسير معه من الأموال والجواهر والسلاح أكثرها فلما بلغ البصرة أتاهم الخبر بموت شرف الدولة فسير ما معه في البحر إلى أرجان وسار هو مجدا إلى أن وصل إليها واجتمع معه من بها من الأتراك وساروا نحو شيراز وكاتبهم متوليها وهو أبو القاسم العلاء بن الحسن بالوصول إليها ليسلمها إليهم وكان المرتبون في القلعة التي به صمصام
62
الدولة واخوه أبو طاهر قد أطلقوهما ومعهما فولاذ وساروا إلى سيراف واجتمع على صمصام الدولة كثير من الديلم وسار الأمير أبو علي إلى شيراز ووقعت الفتنة بها بين الأتراك والديلم وقصدوا ليأخذوه ويسلموه إلى صمصام الدولة فرأوه قد انتقل إلى الأتراك فكشفوا القناع ونابذوا الأتراك وجرى بينهم قتال عدة أيام.
ثم سار أبو علي والأتراك إلى فسا فاستولوا عليها وأخذوا ما بها من مال وقتلوا من بها من الديلم وأخذوا أموالهم وسلاحهم فقووا بذلك.
وسار أبو علي إلى أرجان وعاد الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة ومن معه من الديلم ونهبوا البلد وعادوا إلى أبي علي بأرجان وأقاموا معه مديدة.
ثم وصل رسول من بهاء الدولة إلى أبي علي وأدى الرسالة وطيب قلبه ووعده ثم إنه راسل الأتراك سرا واستمالهم إلى نفسه وأطمعهم فحسنوا لأبي علي المسير إلى بهاء الدولة فسار إليه فلقيه بواسط منتصف جمادى الآخرة سنة ثمانين وثلاثمائة فأنزله وأكرمه وتركه عدة أيام وقبض عليه ثم قتله بعد ذلك بيسير وتجهز بهاء الدولة للمسير إلى الأهواز لقصد بلاد فارس.
ذكر الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم
وفي هذه السنة أيضا وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك والديلم واشتد الأمر ودام القتال بينهم خمسة أيام وبهاء الدولة في داره يراسلهم في الصلح فلم
63
يسمعوا قوله وقتل بعض رسله.
ثم إنه خرج إلى الأتراك وحضر القتال معهم فاشتد حينئذ الأمر وعظم الشر ثم إنه شرع في الصلح ورفق بالأتراك وراسل الديلم فاستقر الحال بينهم وحلف بعضهم لبعض وكان مدة الحرب اثني عشر يوما.
ثم إن الديلم تفرقوا فمضى فريق بعد فريق وأخرج بعضهم وقبض على البعض فضعف أمرهم وقويت شوكة الأتراك واشتدت حالهم.
ذكر مسير فخر الدولة إلى العراق وما كان منه
وفي هذه السنة سار فخر الدولة من الري إلى همذان عازما على قصد العراق والاستيلاء عليها.
وكان سبب حركته أن صاحب بن عباد كان يحب العراق لا سيما بغداد ويؤثر التقدم بها ويرصد أوقات الفرصة فلما توفي شرف الدولة علم أن الفرصة قد أمكنت فوضع على فخر الدولة من يعظم عنده ملك العراق ويسهل أمرها عليه ولم يباشر هو ذلك خوفا من خطر العاقبة إلى أن قال له فخر الدولة ما عندك في هذا الأمر فأحال على أن سعادته تسهل كل صعب وعظم البلاد فتجهز وسار إلى همذان وأتاه بدر بن حسنويه وقصده دبيس بن عفيف الأسدي فاستقر الأمر على أن يسير الصاحب بن عباد وبدر إلى العراق على الجادة ويسير فخر الدولة على خوزستان فلما صار الصاحب حذر فخر الدولة من ناحيته وقيل له ربما استماله أولاد عضد الدولة فاستعاده إليه وأخذه معه إلى الأهواز فملكها وأساء السيرة مع جندها وضيق عليهم ولم يبذل المال فخابت ظنون الناس فيه واستشعر منه أيضا عسكره وقالوا
64
هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته فتخاذلوا.
وكان الصاحب قد أمسك نفسه تأثرا بما قيل عنه اتهامه فالأمور بسكوته غير مستقيمة. فلما سمع بهاء الدولة بوصولهم إلى الأهواز سير إليهم العساكر والتقوا هم وعساكر فخر الدولة.
فاتفق أن دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق منها فظنها عسكر فخر الدولة مكيدة فانهزموا فقلق فخر الدولة من ذلك وكان قد استبد برأيه فعاد حينئذ إلى رأي الصاحب فأشار ببذل المال واستصلاح الجند وقال له أن الرأي في مثل هذه الأوقات إخراج المال وترك مضايقة الجند فإن أطلقت المال ضمنت لك حصول أضعافه بعد سنة فلم يفعل ذلك وتفرق عنه كثير من عسكر الأهواز واتسع الخرق عليه وضاقت الأمور به فعاد إلى الري وقبض في طريقه على جماعة من القواد الرازيين وملك أصحاب بهاء الدولة الأهواز.
ذكر هرب القادر بالله إلى البطيحة
في هذه السنة هرب القادر بالله من الطائع لله إلى البطيحة فاحتمى فيها وكان سبب ذلك أن إسحاق بن المقتدر والد القادر لما توفي جرى بين القادر وبين أخت له منازعة في ضيعة وطال الأمر بينهما ثم إن الطائع لله مرض مرضا أشفى منه ثم أبل فسعت إليه بأخيه القادر وقالت له إنه شرع في طلب الخلافة عند مرضك فتغير رأيه فيه فأنفذ أبا الحسن بن النعمان وغيره
65
للقبض عليه وكان بالحريم الطاهري فأصعدوا في الماء إليه.
وكان القادر قد رأى في منامه كأن رجلا يقرأ عليه (^ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) فهو يحكي هذا المنام لأهله ويقول أنا خائف من طالب يطلبني؛ ووصل أصحاب الطائع لله إليه واستدعوه فأراد لبس ثيابه فلم يمكنوه من مفارقتهم فأخذه النساء منهم قهرا وخرج عن داره واستتر ثم سار إلى البطيحة فنزل على مهذب الدولة فأكرم نزله ووسع عليه وحفظه وبالغ في خدمته ولم يزل عنده إلى أن أتته الخلافة فلما وليها جعل علامته: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
ذكر عود بني حمدان إلى الموصل
في هذه السنة ملك أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان الموصل.
وسبب ذلك انهما كانا في خدمة شرف الدولة ببغداد فلما توفي وملك بهاء الدولة استأذنا في الإصعاد إلى الموصل فأذن لهما فأصعدا ثم علم القواد الغلط في ذلك فكتب بهاء الدولة إلى خواشاذه وهو يتولى الموصل يأمره بدفعهما عنها فأرسل اليهما خواشاذه يأمرهما بالعود عنه فأعادا جوابا جميلا وجدا في السير حتى نزلا بالدير الأعلى بظاهر الموصل.
66
وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك فنهبوهم وخرجوا إلى بني حمدان وخرج الديلم إلى قتالهم فهزمهم المواصلة وبنو حمدان وقتل منهم خلق كثير واعتصم الباقون بدار الإمارة وعزم أهل الموصل على قتلهم والاستراحة منهم فمنعهم بنو حمدان عن ذلك وسيروا خواشاذه ومن معه إلى بغداد وأقاموا بالموصل وكثر العرب عندهم.
ذكر خلاف كتامة على المنصور
وفي هذه السنة خرج إنسان آخر من كتامة يقال له أبو الفرج لا يعرف من أي موضع هو وزعم أن أباه ولد القائم العلوي جد المعز لدين الله فعمل أكثر مما عمله أبو الفهم واجتمعت إليه كتامة واتخذ البنود والطبول وضرب السكة وجرت بينه وبين نائب المنصور وعساكره بمدينة ميلة وسطيف حروب كثيرة ووقعات متعددة فسار المنصور إليه في عساكره وزحف هو إلى المنصور في عساكر كتامة فكان بينهما حرب شديدة فانهزم أبو الفرج وكتامة وقتل منهم مقتلة عظيمة واختفى أبو الفرج في غار في جبل فوثب عليه غلامان كانا له فأخذاه وأتيا به المنصور فسره ذلك وقتله شر قتلة.
وشحن المنصور بلاد كتامة العساكر وبث عماله فيها ولم يدخلها عامل قبل ذلك فجبوا أموالها وضيقوا على أهلها.
ورجع المنصور إلى مدينة أشير فأتاه سعيد بن خزرون الزناتي وكان أبوه قد تغلب على سجلماسة سنة خمس وستين وثلاثمائة وصار في طاعة المنصور واختص به وعلت منزلته عنده فقال له المنصور يوما يا سعيد هل تعرف أحدا أكرم مني؟ وكان قد وصله بمال كثير، فقال: نعم! انا
67
أكرم منك فقال المنصور وكيف ذلك قال لأنك جدت علي بالمال وأنا جدت عليك بنفسي فاستعمله المنصور على طبنة وزوج ابنه ببعض بنات سعيد فلامه على ذلك بعض أهله فقال كان أبي وجدي يستتبعانهم بالسيف و [أما] أنا فمن رماني برمح رميته بكيس حتى تكون مودتهم طبعا واختيارا.
ورجع سعيد إلى أهله وبقي إلى سنة إحدى وثمانين [وثلاثمائة] ثم عاد إلى المنصور زائرا فاعتل سعيد أياما وتوفي أول رجب ثم قدم فلفل بن سعيد على المنصور فأحسن إليه وحمل إليه مالا كثيرا فرده إلى طبنة ولاية أبيه.
ذكر خلاف عم المنصور عليه
في هذه السنة أيضا خالف أبو البهار عم المنصور بن يوسف بلكين صاحب أفريقية عليه لشيء جرى عليه من المنصور لم يحمله له لعزة نفسه فسار المنصور إليه بتاهرت ففارقها عمه إلى الغرب بمن معه من أهلها وأصحابه ودخل عسكر المنصور
تاهرت فانتهبوها ثم طلب أهلها الأمان فأمنهم ثم سار في طلب عمه حتى جاوز تاهرت بسبع عشرة مرحلة ولقي العسكر شدة وقصد عمه زيري بن عطية صاحب فاس فأكرمه وأعلى محله وبقي جنده يغيرون على نواحي المنصور.
وفي سنة احدى وثمانين وثلاثمائة قصدوا النواحي المجاورة لفاس فأوقعوا
68
بأصحاب المنصور بها واستولوا عليها ثم ندم أبو البهار فسار إلى المنصور معتذرا مما جرى منه فقبله المنصور فأحسن إليه وأكرمه وحمل إليه كل ما يحتاج من مال وغيره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي وكان قد عظم شأنه مع شرف الدولة واتسع جاهه وكثرت أمواله فلما ولي بهاء الدولة سعى به أبو الحسن المعلم إليه وأطعمه في أمواله وملكه وعظم ذلك عنده وقبض عليه.
وفيها أسقط بهاء الدولة ما كان يؤخذ من المراعي من سائر السواد.
وفيها ولد الأمير أبو طالب رستم بن فخر الدولة.
وفيها خرج ابن الجراح الطائي على الحجاج بين سميراء وفيد ونازلهم فصالحوه على ثلاثمائة ألف درهم وشئ من الثياب فأخذها وانصرف.
وفيها بني جامع القطيعة ببغداد.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن العباس بن أحمد بن جلاد أبو العباس السلمي النقاش كان من متكلمي الأشعرية وعنه أخذ أبو علي بن شاذان الكلام، وكان ثقة في الحديث.
69
380
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة
في هذه السنة قتل باذ الكري صاحب ديار بكر.
وكان سبب قتله أن أبا طاهر والحسين ابني حمدان لما ملكا بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك وكانوا كثيرا
ففي ذلك يقول الحسين البشنوي الشاعر لبني مروان يعتد عليهم بنجدتهم خالهم باذا من قصيدة:
(البشنوية أنصار لدولتكم * وليس في ذا خفا في العجم والعرب)
(أنصار باذ بأرجيش وشيعته * بظاهر الموصل الحدباء في العطب)
(بباجلايا جلونا عنه غمغمة * ونحن في الروع جلاؤون للكرب)
وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه وراسلا أبا الذواد محمد بن المسيب أمير بني
70
عقيل واستنصراه فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلدا وغير ذلك فأجاباه إلى ما طلب واتفقوا وسار إليه أبو عبد الله بن حمدان وأقام أبو طاهر بالموصل يحارب باذا.
فلما اجتمع أبو عبد الله وأبو الذواد سارا إلى بلد وعبرا دجلة وصارا مع باذ على أرض واحدة وهو لا يعلم فأتاه الخبر بعبورهما وقد قارباه فأراد الانتقال إلى الجبل لئلا يأتيه هؤلاء من خلفه وأبو طاهر من أمامه فاختلط أصحابه وأدركه الحمدانية فناوشوهم القتال وأراد باذ الانتقال من فرس إلى آخر فسقط واندقت ترقوته فأتاه ابن أخته أبو علي بن مروان وأراده على الركوب فلم يقدر فتركوه وانصرفوا واحتموا بالجبل.
ووقع باذ بين القتلى فعرفه بعض العرب فقتله وحمل رأسه إلى بني حمدان وأخذ جائزة سنية وصلت جثته على دار الإمارة فثار العامة وقالوا رجل غاز ولا يحل فعل هذا به وظهر منهم محبة كثيرة له وأنزلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه.
ذكر ابتداء دولة بني مروان
لما قتل باذ سار ابن أخته أبو علي بن مروان في طائفة من الجيش إلى حصن كيفا وهو على دجلة وهو من أحصن المعاقل وكان به امرأة باذ وأهله فلما بلغ الحصن قال لزوجة خاله قد أنفذني خالي إليك في مهم فظنته حقا فلما صعد إليها أعلمها بهلاكه وأطمعها في التزوج بها فوافقته على ملك الحصن وغيره ونزل وقصد حصنا حتى ملك ما كان لخاله وسار إلى ميافارقين وسار إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان طمعا فيه ومعهما رأس باذ فوجدا أبا علي قد أحكم أمره فتصافوا واقتتلوا وظفر أبو
71
علي وأسر أبا عبد الله بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه، ثم أطلقه فسار إلى أخيه أبي طاهر وهو بآمد يحصرها فأشار عليه بمصالحة ابن مروان فلم يفعل واضطر أبو عبد الله إلى موافقته وسار إلى ابن مروان فواقعاه فهزمهما وأسر أبا عبد الله أيضا فأساء إليه وضيق عليه إلى أن كاتبه صاحب مصر وشفع إليه فأطلقه ومضى إلى مصر وتقلد منها ولاية حلب وأقام بتلك الديار إلى أن توفي.
وأما أبو طاهر فإنه لما وصل إلى نصيبين قصده أبو الذواد فأسره وعليا لبنه والمزعفر أمير بني نمير وقتلهم صبرا.
وأقام ابن مروان بديار بكر وضبطها وأحسن إلى أهلها وألان جانبه لهم فطمع فيه أهل ميافارقين فاستطالوا على أصحابه فامسك عنهم إلى يوم العيد وقد خرجوا إلى المصلى فلما تكاملوا في الصحراء وافى إلى البلد وأخذ أبا الصقر شيخ البلد فألقاه على السور وقبض على من كان معه وأخذ الأكراد ثياب الناس خارج البلد وأغلق أبواب البلد وأمر أهله أن ينصرفوا حيث شاؤوا ولم يمكنهم من الدخول فذهبوا كل مذهب.
وكان قد تزوج ست الناس بنت سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان فأتته من حلب فعزم على زفافها بآمد فخاف شيخ البلد واسمه عبد البر أن يفعل بهم مثل فعله بأهل ميافارقين فأحضر ثقاته وحلفهم على كتمان سره وقال لهم قد صح عزم الأمير على أن يفعل بكم مثل فعله بأهل ميافارقين وهو يدخل من باب الماء ويخرج من باب الجهاد فقفوا له في الدركاه وانثروا عليه هذه الدراهم ثم اعتمدوا بها وجهه فإنه سيغطيه بكمه فاضربوه بالسكاكين في مقتله ففعلوا.
72
وجرت الحال كما وصف وتولى قتله إنسان يقال [له] ابن دمنة كان فيه إقدام وجراءة فاختبط الناس وماجوا فرمى برأسه إليهم فأسرعوا السير إلى ميافارقين.
وحدث جماعة من الأكراد نفوسهم بملك البلد فاستراب بهم مستحفظ ميافارقين لإسراعهم وقال أن كان الأمير حيا فأدخلوا معه وإن كان قتل فأخوه مستحق لموضعه فما كان بأسرع من أن وصل ممهد الدولة أبو المنصور بن مروان أخو أبي علي إلى ميافارقين ففتح له باب البلد فدخله وملكه ولم يكن له فيه إلا السكة والخطبة لما نذكره.
وأما عبد البر فاستولى على آمد، وزوج ابن دمنة الذي قتل أبا علي ابنته فعمل له ابن دمنة دعوة وقتله وملك آمد وعمر البلد وبنى لنفسه قصرا عند السور وأصلح أمره مع ممهد الدولة وهادى ملك الروم وصاحب مصر وغيرهما من الملوك وانتشر ذكره.
وأما ممهد الدولة فإنه كان معه إنسان من أصحابه يسمى شروة حاكما في مملكته وكان لشروة غلام قد ولاه الشرطة وكان ممهد الدولة يبغضه ويريد قتله ويتركه احتراما لصاحبه ففطن الغلام لذلك فأفسد ما بينهما فعمل شروة طعاما بقلعة الهتاخ وهي إقطاعه ودعا إليها ممهد الدولة فلما حضر عنده قتله وذلك سنة اثنتين وأربعمائة وخرج من الدار إلى بني عم ممهد الدولة فقبض عليهم وقيدهم وأظهر أن ممهد الدولة أمره بذلك ومضى إلى ميافارقين وبين يديه المشاعل ففتحوا له ظنا منهم أنه ممهد الدولة فملكها.
وكتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم وأنفذ إنسانا
73
إلى أرزن ليحضر متوليها ويعرف بخواجه أبي القاسم فسار خواجة نحو ميافارقين ولم يسلم القلعة إلى القاصد إليه.
فلما توسط الطريق سمع بقتل ممهد الدولة فعاد إلى أرزن وأرسل إلى أسعرد فأحضر أبا نصر بن مروان أخا ممهد الدولة وكان أخوه قد أبعده عنه وكان يبغضه لمنام رآه وهو أنه رأى كأن الشمس سقطت في حجره فنازعه أبو نصر عليها وأخذها فأبعده لهذا وتركه بأسعرد مضيقا عليه فلما استدعاه خواجة قال له دبير تفلح؟ قال: نعم.
وكان شروة قد أنفذ إلى أبي نصر فوجدوه قد سار إلى أرزن فعلم حينئذ انتقاص أمره وكان مروان والد ممهد الدولة قد أضر وهو بأرزن عند قبر ابنه أبي علي هو
وزوجته فأحضر خواجة أبا نصر عندهما وحلفه على القبول منه والعدل وأحضر القاضي الشهود على اليمين وملكه أرزن ثم ملك سائر بلاد ديار بكر فدامت أيامه وأحسن السيرة وكان مقصدا للعلماء من سائر الآفاق وكثروا ببلاده.
وممن قصده أبو عبد الله الكازروني وعنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر وقصده الشعراء وأكثروا مدحه وأجزل جوائزهم وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين فتوفي فيها وكان عمره نيفا وثمانين سنة وكانت الثغور معه آمنة وسيرته في رعيته أحسن سيرة فلما مات ملك بلاده ولده.
74
ذكر ملك آل المسيب الموصل
لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان كما ذكرناه سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا فطمع فيه أبو الذواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل وكان صاحب نصيبين حينئذ كما ذكرناه فثار بأبي طاهر فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولى الأمور فسير إليه قائدا من قواده.
وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذواد وسيرد من ذكره وذكر عقبة ما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى الأهواز
وما كان منه ومن صمصام الدولة
في هذه السنة سار بهاء الدولة عن بغداد إلى خوزستان عازما على قصد فارس واستخلف ببغداد أبا نصر خواشاذه ووصل إلى البصرة ودخلها وسار عنها إلى خوزستان فأتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس للعزاء به ودخل أرجان فاستولى عليها وأخذ ما فيها من الأموال فكان ألف ألف دينار وثمانية ألف ألف درهم ومن الثياب والجوهر ما لا يحصى فلما علم الجند
75
بذلك شغبوا شغبا متتابعا فأطلقت تلك الأموال كلها لهم ولم يبق منها إلا القليل. ثم سارت مقدمته وعليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان وبها عساكر صمصام الدولة فهزمهم وبث أصحابه في نواحي فارس فسير إليهم صمصام الدولة عسكرا وعليهم فولاذ زماندار فواقعهم فانهزم أبو العلاء وعاد مهزوما.
وكان سبب الهزيمة أنه كان بين العسكرين واد وعليه قنطرة وكان أصحاب أبي العلاء يعبرون القنطرة ويغيرون على أثقال الديلم عسكر صمصام الدولة فوضع فولاذ كمينا عند القنطرة فلما عبر أصحاب بهاء الدولة خرجوا عليهم فقتلوهم جميعهم وراسل فولاذ أبا العلاء وخدعه ثم سار إليه وكبسه فانهزم من بين يديه وعاد إلى أرجان مهزوما وغلت الأسعار بها.
ولما بلغ الخير إلى صمصام الدولة سار عن شيراز إلى فولاذ وترددت الرسل في الصلح فتم على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وأرجان ولبهاء الدولة خوزستان والعراق وأن يكون لكل واحد منهما أقطاع في بلد صاحبه وحلف كل واحد منهما لصاحبه وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز.
ولما سار بهاد الدولة عن بغداد ثار العيارون بجانبي بغداد ووقعت الفتن بين أهل السنة والشيعة وكثر القتل بينهم وزالت الطاعة وأحرق عدة محال ونهبت الأموال وأخربت المساكن ودام ذلك عدة شهور إلى أن عاد بهاء الدولة إلى بغداد.
76
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض بهاء الدولة على وزيره أبي منصور بن صالحان واستوزر أبا نصر سابور بن أردشير قبل مسيره إلى خوزستان وكان المدبر لدولة بهاء الدولة أبا الحسين المعلم وإليه الحكم.
وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس وزير العزيز صاحب مصر وكان كامل الأوصاف متمكنا من صاحبه فلما مرض عاده العزيز صاحب مصر وقال وددت أنك تباع فأبتاعك بملكي فهل من حاجة توصي بها فبكى وقبل يده ووضعها على عينه وقال أما فيما يخصني فإنك أرعى لحقي من أن أوصيك بمخلفي ولكن فيما يتعلق بدولتك سالم الحمدانية ما سالموك واقنع منهم بالدعة وان ظفرت بالمفرج فلا تبق عليه.
فلما مات حزن العزيز عليه وحضر جنازته وصلى عليه وألحده بيده في قصره وأغلق الدواوين عدة أيام واستوزر بعده أبا عبد الله الموصلي ثم صرفه وقلد عيسى بن نسطورس النصراني فمال إلى النصارى وولاهم واستناب بالشام يهوديا يعرف بمنشا بن إبراهيم ففعل مع اليهود مثل ما فعل عيسى بالنصارى وجرى على المسلمين تحامل عظيم.
وفيها في ربيع الأول قلد الشريف أبو أحمد والد الرضي نقابة العلويين
77
والمظالم وإمارة الحج وحج بالناس أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي نيابة عن النقيب أبي أحمد الموسوي.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن الفقيه الحنفي ومولده سنة عشرين وثلاثمائة.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري بالأندلس والد الإمام أبي عمر بن عبد البر.
78
381
ثم دخلت احدى وثمانين وثلاثمائة
ذكر القبض على الطائع لله
في هذه السنة قبض على الطائع لله قبض عليه بهاء الدولة وهو الطائع لله أبو بكر عبد الكريم بن الفضل المطيع لله ابن جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله بن أبي أحمد الموفق بن المتوكل.
وكان سبب ذلك أن الأمير بهاء الدولة قلت عنده الأموال فكثر شغب الجند فقبض على وزيره سابور فلم يغن عنه ذلك شيئا.
وكان أبو الحسن بن المعلم قد غلب على بهاء الدولة وحكم في مملكته فحسن له القبض على الطائع وأطمعه في ماله وهون عليه ذلك وسهله فأقدم عليها بهاء الدولة وأرسل إلى الطائع وسأله الاذن في الحضور في خدمته ليجدد العهد به فأذن له في ذلك وجلس له كما جرت العادة فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير فلما دخل قبل الأرض وأجلس على كرسي فدخل بعض الديلم كأنه يريد [أن] يقبل يد الخليفة فجذبه فأنزله عن سريره والخليفة يقول إنا لله وانا إليه راجعون وهو يستغيث ولا يلتفت إليه وأخذ ما في دار الخليفة من الذخائر فمشوا به [في] الحال ونهب الناس بعضهم بعض وكان
79
من جملتهم الشريف الرضي فبادر بالخروج وسلم وقال أبياتا من جملتها:
(من بعد ما كان رب الملك مبتسما * إلي أدنوه في النجوى ويدنيني)
(أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه * لقد تقارب بين العز والهون)
(ومنظر كان بالسراء يضحكني * يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني)
(هيهات أغتر بالسلطان ثانية * قد ضل ولاج أبواب السلاطين)
ولما حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة أشهد عليه بالخلع وكانت مدة خلافته سبع عشرة وثمانية شهور وستة أيام وحمل إلى القادر بالله لما ولي الخلافة فبقي عنده إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين [وثلاثمائة]، ليلة الفطر وصلى عليه القادر بالله وكبر عليه خمسا.
وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة وكان أبيض مربوعا حسن الجسم وكان أنفه كبيرا جدا وكان شديد القوة كثير الإقدام اسم أمه عتب وعاشت إلى أن أدركت أيامه ولم يكن له من الحكم في ولايته ما يعرف به حال يستدل به على سيرته.
ذكر خلافة القادر بالله
لما قبض على الطائع الله ذكر بهاء الدولة من يصلح للخلافة فاتفقوا على القادر بالله وهو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد وأمه أم ولد اسمها دمنة وقيل تمنى وكان بالبطيحة كما ذكرناه فأرسل إليه بهاء
80
الدولة خواص أصحابه ليحضروه إلى بغداد ليتولى الخلافة فانحدروا إليه وشغب الديلم ببغداد ومنعوا من الخطبة فقيل على المنبر اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله ولم يذكروا اسمه وأرضاهم بهاء الدولة.
ولما وصل الرسل إلى القادر بالله كان تلك الساعة يحكي مناما رآه تلك الليلة وهو ما حكاه هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال كنت أحضر عند عبد القادر بالله كل أسبوع مرتين فكان يكرمني فدخلت عليه يوما فوجدته قد تأهب تأهبا لم تجر به عادته ولم أر منه ما ألفته من إكرامه واختلفت بي الظنون فسألته عن سبب ذلك فإن كان لزلة مني اعتذرت عن نفسي فقال بل رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا نهر الصليق قد اتسع فصار مثل دجلة دفعات فسرت على حافته متعجبا منه ورأيت قنطرة عظيمة فقلت من قد حدث نفسه بعمل هذه القنطرة على هذا البحر العظيم ثم صعدتها وهي محكمة فبينا أنا عليها أتعجب منها إذ رأيت شخصا قد تأملني من ذلك الجانب فقال أتريد أن تعبر قلت نعم فمد يده حتى وصلت إلي فأخذني وعبرني فهالني وتعاظمني فعله قلت من أنت قال علي ابن أبي طالب وهذا الأمر صائر إليك ويطول عمرك فيه فأحسن إلى ولدي وشيعتي.
فما انتهى القادر إلى هذا القول حتى سمعنا صياح الملاحين وغيرهم وسألنا عن ذلك وإذا هم الواردون إليه لإصعاده ليتولى الخلافة فخاطبته بأمرة المؤمنين وبايعته وقام مهذب الدولة بخدمته أحسن قيام وحمل إليه من المال وغيره ما يحمله كبار الملوك للخلفاء وشيعه فسار القادر بالله إلى بغداد فلما دخل جبل انحدر بهاء الدولة وأعيان الناس لاستقباله وساروا في خدمته فدخل دار الخلافة ثاني عشر رمضان وبايعه بهاء الدولة والناس وخطب له ثالث عشر رمضان وجدد أمر الخلافة وعظم ناموسها وسيرد من
81
أخباره أن شاء الله تعالى ما يعلم به ذلك وحمل إليه بعض ما نهب من دار الخلافة وكانت مدة مقامه في البطيحة سنتين وأحد عشر شهرا ولم يخطب له في جميع خراسان كانت الخطبة فيها للطائع لله.
ذكر ملك خلف بن أحمد كرمان
في هذه السنة أنفذ خلف بن أحمد صاحب سجستان وهو ابن بانو بنت عمرو بن الليث الصفار ابنه عمرا إلى كرمان فملكها.
وكان سبب ذلك انه كان لما قوي أمره وجمع الأموال الكثيرة حدث نفسه بملك كرمان ولم يتهيأ له ذلك لهدنة كانت بينه وبين عضد الدولة فلما مات عضد الدولة وملك شرف الدولة واستقر أمره وانتظم وأمن ملكه لم يتحرك بشيء من ذلك فلما توفي شرف الدولة واضطرب ملوك بني بويه ووقع الخلف بين صمصام الدولة وبهاء الدولة قوي طمعه وانتهز الفرصة وجهز ولده عمرا وسيره في عسكر كثير إلى كرمان وبها قائد يقال له تمرتاش كان قد استعمله شرف الدولة فلم يشعر تمرتاش إلا وعمر وقد
قاربه فلم يكن له ولمن معه حيلة إلا الدخول إلى بردسير وصادر الناس وجبى الأموال.
82
فلما وصل الخبر إلى صمصام الدولة وهو صاحب فارس جهز العساكر وسيرها إلى تمرتاش وقدم عليهم قائدا يقال له أبو جعفر وأمره بالقبض على تمرتاش عند الاجتماع به لأنه اتهمه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة فسار أبو جعفر فلما اجتمع بتمرتاش أنزله عنده بعلة الاجتماع على ما يفعلانه وقبض عليه وحمله إلى شيراز فسار أبو جعفر بالعسكر جميعه يقصد عمرو بن خلف ليحاربه فالتقوا بدارزين واقتتلوا فانهزم أبو جعفر والديلم وعادوا على طريق جيرفت.
وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة وأصحابه فانزعجوا لذلك ثم أجمعوا أمرهم على إنفاذ العباس بن أحمد في عسكر أكثر من الأول فسيروه في عدد كثير وعدة ظاهرة فسار حتى بلغ عمرا فالتقوا بقرب السيرجان واقتتلوا فكانت الهزيمة على عمرو بن خلف وأسر جماعة من قواده وأصحابه وكان هذا في المحرم سنة اثنتين وثمانين [وثلاثمائة]، وعاد عمرو إلى أبيه بسجستان مهزوما فلما دخل عليه لامه ووبخه ثم حبسه أياما ثم قتله بين يديه وتولى غسله والصلاة عليه ودفنه في القلعة فسبحان الله ما كان أقسى قلب هذا الرجل مع علمه ومعرفته!
ثم إن صمصام الدولة عزل العباس عن كرمان واستعمل عليها أستاذ هرمز فلما وصل إلى كرمان خافه خلف بن أحمد فكاتبه في تجديد الصلح واعتذر عن فعله فاستقر الصلح فأنفذ خلف قاضيا كان بسجستان يعرف بأبي يوسف وكان له قبول عند العامة والخاصة ووضع عليه إنسانا يكون معه
83
وأمره أن يسقيه سما وإذا صار عند أستاذ هرمز ويعود مسرعا ويشيع بأن أستاذ هرمز قتله.
فسار أبو يوسف إلى كرمان فصنع له أستاذ هرمز طعاما فحضره وأكل منه فلما عاد إلى منزله سقاه ذلك الرجل سما فمات منه وركب جمازة وسار مجدا إلى خلف فجمع له وخلف وجوه الناس ليسمعوا له فذكر أن أستاذ هرمز قتل القاضي أبا يوسف وبكى خلف وأظهر الجزع عليه ونادى في الناس بغزو كرمان وأخذ بثأر أبي يوسف فاجتمع الناس واحتشدوا فسيرهم مع ولده طاهر فوصلوا إلى نرماسير وبها عسكر الديلم فهزموهم وأخذوا البلد منهم.
ولحق الديلم بجيرفت فاجتمعوا بها وجعلوا ببردسير من يحميها وهي أصل بلاد كرمان مصرها فقصدها وحصرها ثلاثة أشهر فضاق بأهلها وكتبوا إلى أستاذ هرمز يعلمونه حالهم وانه إن لم يدركهم سلموا البلد فركب الخطر وسار مجدا في مضايق وجبال وعرة حتى أتى بردسير فلما وصل إليها رحل طاهر ومن معه عنها وعادوا إلى سجستان واستقرت كرمان للديلم وكان ذلك سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
84
ذكر عصيان بكجور على سعد الدولة بن حمدان وقتله
لما وصل بكجور إلى الرقة منهزما من عساكر مصر بدمشق وأقام على ما ذكرناه واستولى على الرحبة وما يجاور الرقة راسل الملك بهاء الدولة بن بويه بالانضمام إليه وكاتب أيضا باذا الكردي المتغلب على ديار بكر والموصل بالمسير إليه وراسل سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب بأن يعود إلى طاعته على قاعدته الأولى ويقطعه منه مدينة حمص كما كانت له فليس فيهم من إجابة إلى شيء مما طلب فبقي في الرقة يراسل جماعة رفقاء من مماليك سعد الدولة ويستميلهم فأجابوه إلى الموافقة على قصد بلد سعد الدولة وأخبروه أنه مشغول بلذاته وشهواته عن تدبير الملك فأرسل حينئذ بكجور إلى العزيز بالله صاحب مصر يطمعه في حلب ويقول له إنها دهليز العراق ومتى أخذت كأم ما بعدها أسهل منها ويطلب الإنجاد بالعساكر فأجابه العزيز إلى ذلك وأرسل إلى نزال والي طرابلس والى ولاة غيرها من البلاد الشامية يأمرهم بتجهيز العساكر مع نزال إلى بكجور والتصرف على ما يأمرهم به من قتال سعد الدولة وقصد بلاده.
وكتب عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز إلى نزال يأمره بمدافعة بكجور وإطماعه في المسير إليه فإذا تورط في قصد سعد الدولة تخلى عنه.
85
وكان السبب في فعل عيسى هذا ببكجور أنه كان بينه وبين بكجور عداوة مستحكمه وولي الوزارة بعد وفاة ابن كلس فكتب إلى نزال ما ذكرناه.
فلما وصل أمر العزيز إلى نزال بإنجاد بكجور كتب إليه يعرفه ما أمر به من نجدته بنفسه وبالعساكر معه وقال له بكجور مسيرك عن الرقة يوم كذا ومسيري أنا عن طرابلس يوم كذا ويكون إجتماعنا على حلب يوم كذا وتابع رسله إليه بذلك فسار مغترا بقوله إلى بالس فامتنعت عليه فحصرها خمسة أيام فلم يظفر بها فسار عنها.
وبلغ الخبر بمسير بكجور إلى سعد الدولة فسار عن حلب ومعه لؤلؤ الكبير مولى أبيه سيف الدولة وكتب إلى بكجور يستميله ويدعوه إلى الموافقة ورعاية حق الرق والعبودية ويبذل له أن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل منه ذلك.
وكان سعد الدولة قد كاتب الوالي بأنطاكية لملك الروم يستنجده فسير إليه جيشا كثيرا من الروم وكاتب أيضا من مع بكجور من العرب يرغبهم في الإقطاع والعطاء الكثير والعفو عن مساعدتهم بكجور فمالوا إليه ووعدوه الهزيمة بين يديه فلما التقى العسكران اقتتلوا واشتد القتال فلما اختلط الناس في الحرب وشغل بعضهم ببعض عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه واستأمنوا إلى سعد الدولة فلما رأى بكجور ذلك اختار من شجعان أصحابه أربعمائة رجل وعزم على أن يقصد موقف سعد الدولة ويلقي نفسه عليه فإما له وإما عليه فهرب واحد ممن حضر الحال إلى لؤلؤ الكبير وعرفه ذلك فطلب لؤلؤ من سعد الدولة أن يتحرك من موقفه ويقف مكانه فأجابه إلى ذلك بعد امتناع فحمل بكجور ومن معه فوصلوا
86
إلى موقف لؤلؤ بعد قتال شديد عجب الناس منه واستعظموه كلهم فلما رأى لؤلؤا ألقى نفسه عليه وهو يظنه سعد الدولة وضربه على رأسه فسقط إلى الأرض فظهر حينئذ سعد الدولة وعاد إلى موقفه ففرح به أصحابه وقويت نفوسهم وأحاطوا ببكجور وصدقوه القتال فمضى منهزما هو وعامة أصحابه وتفرقوا وبقي منهم معه سبعة أنفس وكثر القتل والأسر في الباقين.
ولما طال الشوط ببكجور ألقى سلاحه وسار فوقف فرسه فنزل عنه وسار راجلا فلحقه نفر من العرب فأخذوا ما عليه وقصد بعض العرب فنزل عليه وعرفه نفسه
وضمن له حمل بغير ذهبا ليوصله إلى الرقة فلم يصدقه لبخله المشهور عنه فتركه في بيته وتوجه إلى سعد الدولة فعرفه أن بكجور عنده فحكمه سعد الدولة في مطالبه فطلب مائتي فدان ملكا ومائة ألف درهم ومائة جمل تحمل له حنطة وخمسين قطعة ثيابا فأعطاه ذلك أجمع وزيادة وسير معه سرية فتسلموا بكجور وأحضروه عند سعد الدولة فلما رآه أمر بقتله فقتل ولقي عاقبة بغيه وكفره وإحسان مولاه.
فلما قتله سعد الدولة سار إلى الرقة فنازلها وبها سلامة الرشيقي ومعه أولاد بكجور وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزير بكجور فسلموا البلد إليه بأمان وعهود أكدوها وأخذوها عليه لأولاد بكجور وأموالهم وللوزير المغربي ولسلامة الرشيقي ولأموالهم فلما خرج أولاد بكجور
87
بأموالهم رأى سعد الدولة ما معهم فاستعظمه واستكثره.
وكان عنده القاضي ابن أبي الحصين فقال سعد الدولة ما كنت أظن أن بكجور يملك هذا جميعه فقال له القاضي لم لا تأخذه فهو لك لأنه مملوك لا يملك شيئا ولا حرج عليك ولا حنث. فلما سمع هذا أخذ المال جميعه وقبض عليهم وهرب الوزير المغربي إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام وكتب أولاد بكجور إلى العزيز يسألونه الشفاعة فيهم فأرسل إليه يشفع فيهم ويأمره أن يسيرهم إلى مصر ويتهدده إن لم يفعل فأهان الرسول وقال له قل لصحابك أنا سائر إليه وسير مقدمته إلى حمص ليلحقهم.
ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدان
فلما برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه قولنج فعاد إلى حلب ليتداوى فزال ما به وعوفي وعزم على العود إلى معسكره وحضر عنده إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فلج وبطل نصفه فاستدعى الطبيب فقال له أعطني يدك لأخذ مجسك فأعطاه اليسرى فقال أعطني اليمين فقال لا تركت لي اليمين يمينا يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه وقد ذكر ذلك وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل ووصى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.
88
فلما توفي قام أبو الفضائل وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد وتراجعت العساكر إلى حلب.
وكان الوزير أبو الحسن المغربي قد سار من مشهد علي عليه السلام إلى العزيز بمصر وأطمعه في حلب فسير جيشا وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب فسار إليها في جيش كثيف فحصرها وبها أبو الفضائل ولؤلؤ فكتبا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه وهو يقاتل البلغار فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل فسار في خمسين ألفا حتى نزل على الجسر الجديد بالعاصي فلما سمع منجوتكين سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل وعبر إليهم العاصي وأوقعوا بالروم فهزموهم وولوا الإدبار إلى أنطاكية وكثر القتل فيهم.
وسار منجوتكين إلى أنطاكية فنهب بلدها وقراها وأحرقها وأنفذ أبو الفضائل إلى حلب فنقل ما فيه من الغلال وأحرق الباقي إضرارا بعساكر مصر وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي وغيره وبذل لهم مالا ليردوا منجوتكين عنهم هذه السنة بعلة تعذر الأقوات ففعلوا ذلك وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب وإبعاد المغربي وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس ومنها إلى العسكر فنازل العسكر حلب وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهرا فقلت الأقوات بحلب.
89
وعاد [إلى] مراسلة ملك الروم والاعتضاد به وقال له متى أخذت حلب أخذت أنطاكية وعظم عليك الخطب وكان قد توسط بلاد البلغار فعاد وجد في السير وكان الزمان ربيعا وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرفه الحال وأتته جواسيسه بمثل ذلك فأخرب ما كان بناه من سوق وحمام وغير ذلك وسار كالمنهزم عن حلب ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ وعادا إلى حلب ورحل بسيل إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبها وسار إلى طرابلس فنازلها فامتنعت عليه وأقام عليها نيفا وأربعين يوما فلما أيس منها عاد إلى بلاد الروم.
ولما بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم وبرز من القاهرة وحدث به أمراض منعته وأدركه الموت على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عزل المنصور، صاحب أفريقية، نائبه في البلاد يوسف واستعمل بعده على البلاد أبا عبد الله محمد بن أبي العرب.
وفيها توفي القائد جوهر بعد عزله وهذا جوهر هو الذي فتح مصر للمعز العلوي.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي نصر سابور بالأهواز واستوزر أبا
90
القاسم عبد العزيز بن يوسف.
وفيها أيضا قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه وأبي عبد الله بن طاهر بعد عوده من خوزستان وكان سبب قبضهما أن أبا نصر كان شحيحا فلم يواصل ابن المعلم بخدمه وهداياه فشرع في القبض عليه.
وفيها هرب فولاذ زماندار من عند صمصام الدولة إلى الري وكان سبب هربه انه تحكم على صمصام الدولة تحكما عظيما أنف منه فأراد القبض عليه فعلم به فهرب منه.
وفيها كتب أهل الرحبة إلى بهاء الدولة يطلبون إنفاذ من يسلمون إليه الرحبة فأنفذ خمارتكين الحفصي إلى الرحبة فتسلمها وسار منها إلى الرقة وبها بدر غلام سعد الدولة بن حمدان فجرت بينهما وقعات فلم يظفر بها وبلغه اختلاف ببغداد فعاد فخرج عليه بعض العرب فأخذوه أسيرا افتدى منهم بمال كثير.
وفيها حلف بهاء الدولة للقادر بالله على الطاعة والقيام بشروط البيعة وحلف له القادر والوفاء والخلوص وأشهد عليه أنه قلده ما وراء بابه وفيها كثرت الفتن بين العامة
ببغداد وزالت هيبة السلطنة وتكرر الحريق في المحال واستمر الفساد.
وفيها توفي قاضي القضاة عبيد الله بن أحمد بن معروف أبو محمد ومولده سنة ست وثلاثمائة وكان فاضلا عفيفا نزها وكان معتزليا ومحمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان أبو بكر المعروف بابن المقري الأصبهاني وله ست وتسعون سنة وهو راوي مسند أبي يعلى الموصلي عنه.
91
382
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود الديلم إلى الموصل
كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل فملكها آخر سنة إحدى وثمانين [وثلاثمائة]، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسيا بين الصفين ويجلس عليه فهابه العرب واستمد من بهاء الدولة عسكرا فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد وكان مسيره أول هذه السنة فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب فتراجع في أمره.
وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدوا له فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه وكان بهاء الدولة أذنا يسمع ما يقال له ويفعل به وعلم الوزير الخبر فشرع في صلح أبي الذواد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بابي الذواد فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قبض وقتل وكفي شره.
ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار فقال له خواصه:
92
ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك فقال إن ملكا قرب رجلا كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم ثم فعل به هذا لحقيق بان تخاف ملابسته.
وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولا إلى بلد أبي الذواد فأسره العرب ثم أطلقوه فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.
ذكر تسليم الطائع إلى القادر وما فعله معه
في هذه السنة في رجب سلم بهاء الدولة الطائع لله إلى القادر بالله فأنزله حجرة من خواص حجره ووكل به من ثقات خدمه من يقوم بخدمته وأحسن ضيافته وكان يطلب الزيادة في الخدمة كما كان أيام الخلافة فيؤمر له بذلك.
حكي عنه أن القادر بالله أرسل طيبا فقال من هذا يتطيب أبو العباس يعني القادر فقالوا نعم فقال قولوا له عني في الموضع الفلاني كندوج فيه مما كنت استعمله فليرسل إلي بعضه ويأخذ الباقي لنفسه ففعل ذلك وأرسل إليه يوما القادر بالله عدسية فقال ما هذا فقالوا عدس وسلق فقال أوقد أكل أبو العباس من هذا قالوا نعم قال قولوا له عني لما أردت أن تأكل عدسية لم اختفيت فما كانت العدسية تعوزك ولم تقلدت هذا الأمر فأمر حينئذ القادر أن يفرد له جارية من طباخاته تطبخ له ما يلتمسه كل يوم فأقام على هذا إلى أن توفي.
93
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض بهاء الدولة على أبي الحسن بن المعلم وكان قد استولى على الأمور كلها وخدمه الناس كلهم حتى الوزراء فأساء السيرة مع الناس فشغب الجند في هذا الوقت وشكوا منه وطلبوا منه تسليمه إليهم فراجعهم بهاء الدولة ووعدهم كف يده عنهم فلم يقبلوا منه فقبض عليه وعلى جميع أصحابه فظن أن الجند يرجعون فلم يرجعوا فسلمه إليهم فسقوه السم مرتين فلم يعلم فيه شيئا فخنقوه ودفنوه.
وفيها في شوال تجددت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم واشتد الحال، فركب أبو الفتح محمد بن الحسن الحاجب فقتل وصلب فسكن البلد.
وفيها غلت الأسعار ببغداد فبيع الرطل الخبز بأربعين درهما.
وفيها قبض بهاء الدولة على وزيره أبي القاسم علي بن أحمد المذكور وكان سبب قبضه أن بهاء الدولة اتهمه بمكاتبة الجند في أمر ابن المعلم واستوزر أبا نصر بن سابور وأبا منصور بن صالحان جمع بينهما في الوزارة.
وفيها قبض صمصام الدولة على وزيره أبي القاسم العلاء بن الحسن بشيراز وكان غالبا على أمره وبقي محبوسا إلى سنة ثلاث وثمانين [وثلاثمائة]، فأخرجه صمصام الدولة واستوزره وكان يدبر الأمر مدة حبسه أبو القاسم المدلجي.
وفيها نزل ملك الروم بأرمينية وحصر خلاط وملازكرد وأرجيش فضعفت نفوس الناس عنه ثم هادنه أبو علي الحسن بن مروان مدة عشر سنين،
94
وعاد ملك الروم وفيها في شوال ولد الأمير أبو الفضل بن القادر بالله.
وفيها سار بغراخان ايلك ملك الترك بعساكره إلى بخارى فسير إليه الأمير نوح بن منصور جيشا كثيرا ولقيهم ايلك وهزمهم فعادوا إلى بخارى مفلولين وهو في أثرهم فخرج نوح بنفسه وسائر عسكره ولقيه فاقتتلوا شديدا أجلت المعركة عن هزيمة ايلك فعاد منهزما إلى بلاساغون وهي كرسي مملكته.
وفيها توفي أبو عمرو محمد بن العباس بن حسنويه الخراز ومولده سنة خمس وتسعين ومائتين.
95
383
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
ذكر خروج أولاد بختيار
في هذه السنة ظهر أولاد بختيار من محبسهم واستولوا على القلعة التي كانوا معتقلين بها.
وكان سبب حبسهم أن شرف الدولة أحسن إليهم بعد والده وأطلقهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم فلما مات شرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس فاستمالوا مستحفظها ومن معه من الديلم فأفرجوا عنهم وأنفذوا إلى أهل تلك النواحي وأكثرهم رجالة فجمعوهم تحت القلعة.
وعرف صمصام الدولة الحال فسير أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر فلما قاربهم تفرق من معهم من الرجالة وتحصن بنو بختيار وكانوا ستة ومن معهم من الديلم بالقلعة وحصرهم أبو علي وراسل أحد وجوه الديلم وأطعمه في الإحسان فأصعدهم إلى القلعة سرا فملكوها وأخذوا أولاد بختيار أسرى فأمر صمصام الدولة بقتل اثنين منهم وحبس الباقين ففعل ذلك بهم.
96
ذكر ملك صمصام الدولة خوزستان
في هذه السنة ملك صمصام الدولة خوزستان.
وكان سبب نقض الصلح أن بهاء الدولة سير أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز وتقدم إليه بأن يكون مستعدا لقصد بلاد فارس وأعلمه أنه يسير إليه العساكر متفرقين فإذا اجتمعوا عنده سار بهم إلى بلاد فارس بغتة فلا يشعر صمصام الدولة إلا وهم معه في بلاده.
فسار أبو العلاء ولم يتهيأ لبهاء الدولة إمداده بالعساكر وظهر الخبر فجهز صمصام الدولة عسكره وسيرهم إلى خوزستان وكتب أبو العلاء إلى بهاء الدولة بالخبر ويطلب إمداده بالعساكر فسير إليه عسكرا كثيرا ووصلت فارس فلقيهم أبو العلاء فانهزم هو وأصحابه وأخذ أسيرا وحمل إلى صمصام الدولة فالبس ثيابا وطيف به وسألت فيه والدة صمصام الدولة فلم يقتله واعتقله.
ولما سمع بهاء الدولة بذلك أزعجه وأقلقه وكانت خزانته قد خلت من الأموال فأرسل وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط ليحصل ما أمكنه وأعطاه رهونا من الجواهر والأعلاق النفيسة ليقترض عليها من مهذب الدولة صاحب البطيحة فلما وصل إلى واسط تقرب منها إلى مهذب الدولة وترك ما معه الرهون بحاله وأرسل بهاء الدولة ورهنها واقترض عليها.
97
ذكر ملك الترك بخارى
في هذه السنة ملك مدينة بخارى شهاب الدولة هارون بن سليمان ايلك المعروف ببغراخان التركي وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حد الصين.
وكان سبب ذلك أن أبا الحسن بن سيمجور لما مات وولي ابنه أبو علي خراسان بعده كاتب الأمير الرضي نوح بن منصور يطلب أن يقر على ما كان أبوه يتولاه فأجيب إلى ذلك وحملت إليه الخلع وهو لا يشك انها له فلما بلغ الرسول طريق هراة عدل إليها وبها فائق فأوصل الخلع والعهد بخراسان إليه فعلم أبو علي انهم مكروا به وأن هذا دليل سوء يريدونه به فلبس فائق الخلع وسار عن هراة نحو أبي علي فبلغه الخبر فسار جريدة في نخبة أصحابه وطوى المنازل حتى سبق خبره فأوقع بفائق فيما بين بوشنج وهراة فهزم فائقا وأصحابه وقصدوا مرو الروذ.
وكتب أبو علي إلى الأمير نوح يجدد طلب ولاية خراسان فأجابه إلى ذلك وجمع له ولاية خراسان جميعها بعد أن كانت هراة لفائق فعاد أبو علي إلى نيسابور ظافرا وجبى أموال خراسان فكتب إليه نوح يستنزله عن بعضها ليصرفه في أرزاق جنده فاعتذر إليه ولم يفعل وخاف عاقبة المنع فكتب إلى بغراخان المذكور يدعوه إلى أن يقصد بخارى ويملكها على السامانية وأطمعه فيهم واستقر الحال بينهما على أن يملك بغراخان ما وراء النهر كله ويملك أبو علي خراسان فطمع بغراخان في البلاد وتجدد له إليها حركة.
98
وأما فائق فإنه أقام بمرو الروذ حتى انجبر كسره واجتمع إليه أصحابه وسار نحو بخارى وسار من غير إذن فارتاب الأمير نوح له فسير إليه الجيوش وأمرهم بمنعه فلما لقوه قاتلوه فانهزم فائق وأصحابه وعاد على عقبيه وقصد ترمذ. فكتب الأمير نوح إلى صاحب الجوزجان من قبله وهو أبو الحرث أحمد بن محمد الفريغوني وأمره بقصد فائق فجمع جمعا كثيرا وسار نحوه فأوقع بهم فائق فهزمهم وغنم أموالهم.
وكاتب أيضا بغراخان يطمعه في البلاد فسار نحو بخارى وقصد بلاد السامانية فاستولى عليها شيئا بعد شيء فسير إليه نوح جيشا كثيرا واستعمل عليهم قائدا كبيرا من قواده اسمه أنج فلقيهم بغراخان فهزمهم وأسر انج وجماعة من القواد فلما ظفر بهم قوي طمعه في البلاد وضعف نوح وأصحابه وكاتب الأمير نوح أبا علي بن سيمجور يستنصره ويأمره بالقدوم إليه بالعساكر فلم يجبه إلى ذلك ولا لبى دعوته وقوي طمعه في الاستيلاء على خراسان.
وسار بغراخان نحو بخارى فلقيه فائق واختص به وصار في جملته ونازلوا بخارى فاختفى الأمير نوح وملكها بغراخان ونزلها وخرج نوح منها مستخفيا فعبر النهر إلى آمل الشط وأقام بها ولحق به أصحابه فاجتمع عنده منهم جمع كثير وأقاموا هناك.
وتابع نوح كتبه إلى أبي علي ورسله يستنجده ويخضع له فلم يصغ إلى ذلك وأما فائق فإنه استأذن بغراخان في قصد بلخ والاستيلاء عليها فأمره بذلك فسار نحوها ونزلها.
99
ذكر عود نوح إلى بخارى وموت بغراخان
لما نزل بغراخان بخارى وأقام بها استوخمها فلقه مرض ثقيل عنها نحو بلاد الترك فلما فارقها ثار أهلها بساقة عسكره ففتكوا بهم وغنموا أموالهم ووافقهم الأتراك الغزية على النهب والقتل لعسكر بغراخان.
فلما سار بغراخان عن بخارى أدركه أجله فمات ولما سمع الأمير نوح بمسيره عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه فدخلها وعاد إلى دار ملكه وملك آبائه وفرح أهلها به وتباشروا بقدومه.
وأما بغراخان فإنه لما مات عاد أصحابه إلى بلادهم وكان دينا خيرا عادلا حسن السيرة محبا للعلماء وأهل الدين مكرما لهم وكان يحب أن يكتب عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أمر الترك بعده ايلك خان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كثر شغب الديلم على بهاء الدولة ونهبوا دار الوزير أبي نصر بن سابور واختفى منهم واستعفى ابن صالحان من الانفراد بالوزارة فأعفي واستوزر أبا القاسم علي بن أحمد ثم هرب وعاد سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم.
وفيها جلس القادر بالله لأهل خراسان بعد عودهم من الحج وقال لهم
100
في معنى الخطبة له وحملوا رسالة وكتبا إلى صاحب خراسان في المعنى.
وفيها عقد النكاح للقادر على بنت بهاء الدولة بصداق مائة ألف دينار وكان بحضرته والولي النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى والد الرضي وماتت قبل النقلة.
وفيها كان بالعراق غلاء شديد بيعت الكارة الدقيق بمائتين وستين درهما والكر الحنطة بستة آلاف وستمائة درهم غياثية.
وفيها بنى أبو نصر سابور بن اردشير ببغداد دارا للعلم ووقف فيها كتبا كثيرة على المسلمين المنتفعين بها.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرجسي الفقيه الشافعي شيخ أبي الطيب الطبري بنيسابور وأبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر وأبو طالب عبد السلام الحسن المأموني وهو من أولاد المأمون وكان فاضلا حسن الشعر.
101
384
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
ذكر ولاية محمود بن سبكتكين
خراسان وإجلاء أبي علي عنها
في هذه السنة ولي الأمير نوح محمود بن سبكتكين خراسان.
وكان سبب ذلك أن نوحا لما عاد إلى بخارى على ما تقدم ذكره سقط في يد أبي علي وندم على ما فرط فيه من ترك معونته عند حاجته إليه.
وأما فائق فإنه لما استقر نوح ببخارى حدث نفه بالمسير إليه والاستيلاء عليه والحكم في دولته فسار عن بلخ إلى بخارى فلما علم نوح بذلك سير إليه الجيوش لترده عن ذلك فلقوه واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم فائق وأصحابه ولحقوا بابي علي ففرح بهم وقوي جنانه بقربهم واتفقوا على مكاشفة الأمير نوح بالعصيان فلما فعلوا ذلك كتب الأمير نوح إلى سبكتكين وهو حينئذ بغزنة بعرفه الحال ويأمره بالمسير إليه لنجده وولاه خراسان.
وكان سبكتكين في هذه الفتن مشغولا بالغزو غير ملتفت إلى ما هم فيه فلما أتاه كتاب نوح ورسوله أجابه إلى ما أراد وسار نحوه جريدة واجتمع به وقررا بينهما ما يفعلانه وعاد سبكتكين فجمع العساكر وحشد فلما
102
بلغ أبا علي وفائقا الخبر جمعا وراسلا فخر الدولة بن بويه يستنجدانه ويطلبان منه عسكرا فأجابهما إلى ذلك وسير إليهما عسكرا كثيرا وكان وزيره الصاحب بن عباد هو الذي قرر القاعدة في ذلك.
وسار سبكتكين من غزنة ومعه ولده محمود نحو خراسان وسار نوح فاجتمع هو وسبكتكين فقصدوا أبا علي وفائقا فالتقوا بنواحي هراة واقتتلوا فانحاز دارا بن قابوس بن وشمكير من عسكر أبي علي إلى نوح ومعه أصحابه فانهزم أصحاب أبي علي وركبهم أصحاب سبكتكين يأسرون ويقتلون ويغنمون وعاد أبو علي وفائق نحو نيسابور وأقام سبكتكين ونوح بظاهر هراة حتى استراحوا وساروا نحو نيسابور فلما علم بهم أبو علي سار هو وفائق نحو جرجان وكتبا إلى فخر الدولة بخبرهما. فأرسل اليهما الهدايا والتحف والأموال وأنزلهما بجرجان.
واستولى نوح على نيسابور واستعمل عليها جيوش خراسان محمود بن سبكتكين ولقبه سيف الدولة ولقب أباه سبكتكين ناصر الدولة فأحسنا السيرة وعاد نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وأقام محمود بنيسابور
ذكر عود الأهواز إلى بهاء الدولة
في هذه السنة ملك بهاء الدولة الأهواز.
وكان سببه أنه أنفذ عسكرا إليها عدتهم سبعمائة رجل وقدم عليهم
103
طغان التركي فلما بلغوا السوس رحل عنها أصحاب صمصام الدولة فدخلها عسكر بهاء الدولة وانتشروا في أعمال خوزستان وكان أكثرهم من الترك فعلت كلمتهم على الديلم وتوجه صمصام الدولة إلى الأهواز ومعه عساكر الديلم وتميم وأسد فلما بلغ تستر رحل ليلا ليكبس الأتراك من عسكر بهاء الدولة فضل الادلاء في الطريق فأصبح على بعد منهم ورآهم طلائع الأتراك فعادوا بالخبر فحذروا واجتمعوا واصطفوا وجعل مقدمهم واسمه طغان كمينا فلما التقوا واقتتلوا خرج الكمين على الديلم فكانت الهزيمة
وانهزم صمصام الدولة ومن معه من الديلم وكانوا ألوفا كثيرة استأمن منهم أكثر من ألفي رجل وغنم الأتراك من أثقالهم شيئا كثيرا.
وضرب طفان للمستأمنة خيما يسكنونها فلما نزلوا اجتمع الأتراك وتشاوروا وقالوا هؤلاء أكثر من عدتنا ونحن نخاف أن يثوروا بنا واستقر رأيهم على قتلهم فلم يشعر الديلم إلا وقد ألقيت الخيام عليهم ووقع الأتراك فيهم بالعمد حتى أتوا عليهم فقتلوا كلهم وورد الخبر على بهاء الدولة وهو بواسط قد اقترض مالا من مهذب الدولة فلما سمع ذلك سار إلى الأهواز وكان طغان والأتراك قد ملكوها قبل وصوله إليها.
وأما صمصام الدولة فإنه لبس السواد وسار إلى شيراز فدخلها فغيرت والدته ما عليه من السواد وأقام يتجهز للعود إلى أخيه بهاء الدولة بخوزستان.
104
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عقد النكاح لمهذب الدولة على ابنة بهاء الدولة وللأمير أبي منصور بن بهاء الدولة على ابنة مهذب الدولة وكان الصداق من كل جانب مائة ألف دينار.
وفيها قبض بهاء الدولة على أبي نصر خواشاذه.
وفيها عاد الحجاج من الثعلبية ولم يحج من العراق والشام أحد وسبب عودهم أن الأصيفر أمير العرب اعترضهم وقال إن الدراهم التي أرسلها السلطان عام أول كانت نقرة مطلية وأريد العوض فطالت المخاطبة والمراسلة وضاق الوقت على الحجاج فراجعوا.
وفيها توفي أبو القاسم النقيب الزينبي وولي النقابة بعده ابنه أبو الحسن.
وفيها توفي ولي نقابة الطالبيين أبو الحسن النهرسابسي وعزل عنها أبو أحمد الموسوي وكان ينوب عنه فيها ابناه المرتضى والرضي.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد وكان من الصالحين حج من نيسابور ماشيا وبقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إلى مخدة وعلي بن الحسين بن حمويه بن زيد أبو الحسين الصوفي سمع الحديث وحدث وصحب أبا الخير الأقطع وغيره؛ وعلي
105
ابن عيسى بن علي بن عبد الله أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني ومولده سنة ست وتسعين ومائتين روى عن ابن دريد وغيره وله تفسير كبير ومحمد بن العباس بن أحمد بن القزاز أبو الحسن سمع الكثير وكتب الكثير وخطه حجة في صحة النقل وجودة الضبط وأبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني الكاتب والمحسن بن علي بن علي بن محمد بن أبي الفهم أبو علي التنوخي القاضي ومولده سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وكان فاضلا.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب المشهور وكان عمره إحدى وتسعين سنة وكان قد زمن وضاقت به الأمور وقلت عليه الأموال.
وفيها اشتد أمر العيارين ببغداد ووقعت الفتنة بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة واحترق كثير من المحال ثم اصطلحوا.
106
385
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود أبي علي إلى خراسان
لما عاد الأمير نوح إلى بخارى وسبكتكين إلى هراة وبقي محمود بنيسابور وطمع أبو علي وفائق في خراسان فسار محمود عن جرجان إلى نيسابور في ربيع الأول فلما بلغ محمودا خبرهما كتب إلى أبيه بذلك وبرز هو فنزل بظاهر نيسابور وأقام ينتظر المدد فأعجلاه فصبر لهما فقاتلاه وكان في قلة من الرجال فانهزم عنهما نحو أبيه وغنم أصحابهما منه شيئا كثيرا وأشار أصحاب أبي علي عليه باتباعه وإعجاله ووالده عن الجمع والاحتشاد فلم يفعل وأقام بنيسابور وكاتب الأمير نوحا يستميله ويستقيل من عثرته وزلته وكذلك كاتب سبكتكين مثل ذلك وأحال بما جرى على فائق فلم يجيباه إلى ما أراد.
وجمع سبكتكين العساكر فأتوه على كل صعب وذلول وسار نحو أبي علي فالتقوا بطوس في جمادى الآخرة فاقتتلوا عامة يومهم وأتاهم محمود بن سبكتكين في عسكر ضخم من ورائهم فانهزموا وقتل من أصحابهم خلق كثير ونجا أبو علي وفائق فقصدا أبيورد فتبعهم سبكتكين واستخلف ابنه محمودا بنيسابور فقصدا مرو ثم آمل الشط وراسلا الأمير نوحا يستعطفانه فأجاب أبا علي إلى ما طلب من قبول عذره إن فارق فائقا ونزل بالجرجانية،
107
ففعل ذلك فحذره فائق وخوفه من مكيدتهم به ومكرهم فلم يلتفت لأمر يريده الله عز وجل ففارق فائقا وسار نحو الجرجانية فنزل بقرية بقرب خوارزم تسمى هزار أسف فأرسل إليه أبو عبد الله خوارزمشاه من أقام له ضيافة ووعده أنه يقصده ليجتمع به فسكن إلى ذلك.
فلما كان الليل أرسل إليه خوارزمشاه جمعا من عسكره فأحاطوا به وأخذوه أسيرا في رمضان من هذه السنة فاعتقله في بعض دوره وطلب أصحابه فأسر أعيانهم وتفرق الباقون.
وأما فائق فإنه سار إلى ايلك خان بما وراء النهر فأكرمه وعظمه ووعده أن يعيده إلى قاعدته وكتب إلى نوح يشفع في فائق وأن يتولى سمرقند فأجابه إلى ذلك وأقام بها.
ذكر خلاص أبي علي وقتل خوارزمشاه
لما أسر أبو علي بلغ خبره إلى مأمون بن محمد والي الجرجانية فقلق لذلك وعظم عليه وجمع عساكره وسار نحو خوارزمشاه وعبر إلى كاث وهي مدينة خوارزمشاه فحصروها وقاتلوها وفتحوها عنوة وأسروا أبا عبد الله خوارزمشاه وأحضروا أبا علي ففكوا عنه قيده وأخذوه وعادوا إلى الجرجانية واستخلف مأمون بخوارزم بعض أصحابه وصارت [في] جملة ما بيده وأحضر خوارزمشاه وقتله بين يدي أبي علي سيمجور.
108
ذكر قبض أبي علي بن سيمجور وموته
لما حصل أبو علي عند مأمون بن محمد بالجرجانية كتب إلى الأمير نوح يشفع فيه ويسأل الصفح عنه فأجيب إلى ذلك وأمر أبا علي بالمسير إلى بخارى فسار إليها فيمن بقي معه من أهله وأصحابه فلما بلغوا بخارى لقيهم الأمراء والعساكر فلما دخلوا على الأمير نوح أمر بالقبض عليهم.
وبلغ سبكتكين أن ابن عزيز وزير الأمير نوح يسعى في خلاص أبي علي فأرسل إليه يطلب أبا علي إليه فحبسه فمات في حبسه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان ذلك خاتمة أمره وآخر حال بيت سيمجور جزاء لكفران إحسان مولاهم فتبارك الحي الدائم الباقي الذي لا يزول ملكه.
وكان ابنه أبو الحسن قد لحق بفخر الدولة بن بويه فأحسن إليه وأكرمه فسار عنه سرا إلى خراسان لهوى كان له بها وظن أن أمره يخفى فظهر حاله فأخذ أسيرا وسجن عند والده.
وأما أبو القاسم أخو أبي علي فإنه أقام في خدمة سبكتكين مدة يسيرة ثم ظهر منه خلاف الطاعة وقصد نيسابور فلم يتم له ما أراد وعاد محمود بن سبكتكين إليه فهرب منه وقصد فخر الدولة وبقي عنده وسيرد أخباره إن شاء الله تعالى.
109
ذكر وفاة الصاحب بن عباد
في هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد وزير فخر الدولة بالري وكان واحد زمانه علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأي وكرما عالما بأنواع العلوم عارفا بالكتابة وموادها ورسائله مشهورة مدونة وجمع من الكتاب ما لم يجمعه غيره حتى أنه كان يحتاج في نقلها إلى أربعمائة جمل.
ولما مات وزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي.
ولما حضره الموت قال لفخر الدولة قد خدمتك خدمة استفرغت فيها وسعي وسرت سيرة جلبت لك حسن الذكر فأن أجريت الأمور على ما كانت عليه نسب ذلك الجميل إليك وتركت أنا وإن عدلت عنه كنت أنا المشكور ونسبت الطريقة الثانية إليك وقدح ذلك في دولتك فكان هذا نصحه له إلى أن مات.
فلما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره ونقل جميع ما فيها إليه فقبح الله خدمة الملوك هذا فعلهم مع من نصح لهم فكيف مع غيره!
ونقل الصاحب بعد ذلك إلى أصبهان وكثير ما بين فعل فخر الدولة مع ابن عباد وبين العزيز بالله العلوي مع وزيره يعقوب بن كلس وقد تقدم.
110
وكان الصاحب بن عباد قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار المعتزلي وقدمه وولاه قضاء الري وأعمالها فلما توفي قال عبد الجبار لا أرى الترحم عليه لأنه مات عن غير توبة ظهرت منه فنسب عبد الجبار إلى قلة الوفاء.
ثم إن فخر الدولة قبض على عبد الجبار وصادره فباع في جملة ما باع الف طيلسان وألف ثوب صوف رفيع فلم لا نظر لنفسه وتاب عن أخذ مثل هذا وادخاره من غير حله؟
ثم إن فخر الدولة قبض على أصحاب ابن عباد وأبطل كل مسامحة كانت منه وقرر هو ووزراؤه المصادرات في البلاد فاجتمع له منها شيء كثير ثم تمزق بعد وفاته في أقرب مدة وحصل بالوزر وسوء الذكر.
ذكر إيقاع صمصام الدولة بالأتراك
في هذه السنة أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك فقتل منهم جماعة وهرب الباقون فعاثوا في البلاد وانصرفوا إلى كرمان ثم منها إلى بلاد السند واستأذنوا ملكها في دخول بلادهم فاذن لهم وخرج إلى تلقيهم ورافق أصحابه على الإيقاع بهم فلما رآهم جعل أصحابه صفين فلما حصل الأتراك في وسطهم اطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل.
111
ذكر وفاة خواشاذه
في هذه السنة توفي أبو نصر خواشاذه بالبطائح وكان قد هرب إليها بعد أن قبض وكاتبه بهاء الدولة وفخر الدولة وصمصام الدولة وبدر بن حسنويه كل منهم يستدعه ويبذل له ما يريده وقال له فخر الدولة لعلك تسيء الظن بما قدمته في خدمة عضد الدولة وما كنا لنؤاخذك بطاعة من قدمك ومناصحته وقد علمت ما عملته مع الصاحب بن عباد وتركنا ما فعله معنا فعزم على قصده فأدركه أجله قبل ذلك وتوفي وكان من أعيان قواد عضد الدولة.
ذكر عود عسكر صمصام الدولة إلى الأهواز
في هذه السنة جهز صمصام الدولة عسكره من الديلم وردهم إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن واتفق أن طغان نائب بهاء الدولة بالأهواز توفي وعزم من معه من الأتراك على العود إلى بغداد وكتب من هناك إلى بهاء الدولة بالخبر فأقلقه ذلك وأزعجه فسير أبا كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز نائبا عنه وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى الفتكين وهو برامهرمز قد عاد من بين يدي عسكر صمصام الدولة إليها يأمره بالمقام بموضعه فلم يفعل وعاد إلى الأهواز فكتب إلى أبي محمد بن مكرم بالنظر في الأعمال وسار بعدهم بهاء الدولة نحو خوزستان فكاتبه العلاء وسلك طريق اللين والخداع.
ثم سار على نهر المسرقان إلى أن حصل بخان طوق ووقعت الحرب بينه
112
وبين أبي محمد بن مكرم والفتكين وزحف الديلم بين البساتين حتى دخلوا البلد وانزاح عنه ابن مكرم والفتكين وكتبا إلى بهاء الدولة يشيران عليه بالعبور إليها فتوقف عن ذلك ووعدهما به وسير إليهما ثمانين غلاما من الأتراك فعبروا وحملوا على الديلم من خلفهم فأفرج لهم الديلم فلما توسطوا بينهم اطبقوا عليهم فقتلوهم.
فلما عرف بهاء الدولة ذلك ضعفت نفسه وعزم على العود ولم يظهر ذلك فأمر بإسراج الخيل وحمل السلام ففعل ذلك وسار نحو الأهواز يسيرا ثم عاد إلى البصرة فنزل
بظاهرها فلما عرف ابن مكرم خبر بهاء الدولة عاد إلى عسكر مكرم وتبعهم العلاء والديلم فأجلوهم عنها فنزلوا براملان بين عسكر مكرم وتستر وتكررت الوقائع بين الفريقين مدة.
وكان بيد الأتراك أصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز ومع الديلم منها إلى أرجان وأقاموا ستة أشهر ثم رجعوا إلى الأهواز ثم عبر بهم النهر إلى الديلم واقتتلوا نحو شهرين ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فكف عنهم وأقام بعسكر مكرم.
ذكر حادثة غريبة بالأندلس
في هذه السنة سير المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس لهشام المؤيد عسكرا إلى بلاد الفرنج للغزاة فنالوا منهم وغنموا وأوغلوا في ديارهم وأسروا غرسية وهو ملك للفرنج ابن ملك من ملوكهم يقال له
113
شانجة وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم وكان من القدر أن شاعرا للمنصور يقال له أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي قد قصده من بلاد الموصل وأقام عنده وامتدحه قبل هذا التاريخ فلما كان الآن أهدى أبو العلاء إلى المنصور أيلا وكتب معه أبياتا منها:
(يا حرز كل مخوف وأمان كل * مشرد ومعز كل مذلل)
(جدواك أن تخصص به فلأهله * وتعم بالإحسان كل مؤمل)
يقول فيها:
(مولاي مؤنس غربتي متخطفي * من ظفر أيامي ممنع معقلي)
(عبد رفعت بضبعه وغرسته * في نعمة أهدي إليك بايل)
(سميته غرسية وبعثته * في حبله ليتاح فيه تفاؤلي)
(فلئن قبلت فتلك أسنى نعمة * أسدى بها ذو نعمة وتطول)
فسمي هذا الشاعر الأيل غرسية تفاؤلا بأسر ذلك غرسية فكان أسره في اليوم الذي أهدي فيه الأيل فانظر إلى هذا الاتفاق ما أعجبه.
114
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ورد الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي من البطيحة إلى بهاء الدين بعد عوده من خوزستان وكان قد التجأ إلى مهذب الدولة فأرسل بهاء الدولة يطلبه ليستوزره فحضر عنده فلم يتم له ذلك فعاد إلى البطيحة وكان الفاضل وزير بهاء الدولة معه بواسط فلما علم الحال استأذن في الإصعاد إلى بغداد فأذن له فأصعد فعاد بهاء الدولة وطلبه ليرجع إليه فغالطه ولم يعد.
وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن شاهين الواعظ مولده في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين وكان مكثرا من الحديث ثقة.
وفيها في ذي القعدة توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي المعروف بالدارقطني الإمام المشهور وفيها في ربيع الأول توفي محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بالله وكان منحرفا عن علي بن أبي طالب عليه السلام وكان خبيث اللسان يتقى سفهه ومن جيد شعره:
(في وجه إنسانة كلفت بها * أربعة ما اجتمعن في أحد)
(الوجه بدر والصدغ غالية * والريق خمر والثغر من برد)
وفيها توفي يوسف بن عمر بن مسروق أبو الفتح القواس الزاهد في ربيع الأول وله خمس وخمسون سنة.
115
386
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة
ذكر وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم وما كان
من الحروب إلى أن استقر أمره
في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزار بن المعز أبي تميم معد العلوي صاحب مصر لليلتين بقيتا من رمضان وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف بمدينة بلبيس وكان برز إليها لغزو الروم فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصار والقولنج فاتصلت به إلى أن مات.
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا ومولده بالمهدية من أفريقية.
وكان أسمر طويلا أصهب الشعر عريض المنكبين عارفا بالخيل والجوهر قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا فاعتز بهما النصارى واليهود وآذوا المسلمين فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس، فيها بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك الا كشفت ظلامتي وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز والرقعة بيدها فلما رآها أمر بأخذها فلما قرأ ما فيها ورأى الصورة من قراطيس
116
علم ما أريد بذلك فقبض عليهما وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار ومن اليهودي شيئا كثيرا.
وكان بحب العفو ويستعمله فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي وكان كثير الهجاء فهجا يعقوب بن كلس وزير العزيز وكاتب الإنشاء أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني فقال:
(قل لأبي نصر حاجب القصر * والمتأتي لنقض ذا الأمر)
(انقض عرا الملك للوزير تفز * منه بحسن الثناء والذكر)
(وأعطى أو امنع ولا تخف أحدا * فصاحب القصر ليس في القصر)
(وليس يدري ماذا يراد به * وهو إذا ما درى فما يدري)
فشكاه ابن كلس إلى العزيز وأنشده الشعر فقال له هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه ثم قال هذا الشاعر أيضا وعرض بالفضل القائد:
(تنصر فالتنصر دين حق * عليه زماننا هذا يدل)
(وقل بثلاثة عزوا وجلوا * وعطلوا ما سواهم فهو عطل)
(فيعقوب الوزير أب وهذا العزيز * ابن وروح القدس فضل)
فشكاه أيضا إلى العزيز فامتعض منه إلا أنه قال اعف عنه فعفا عنه ثم دخل الوزير على العزيز فقال لما يبق للعفو عن هذا معنى وفيه غض
117
من السياسة ونقض لهيبة الملك فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك وسبك بقوله:
(زبارجي نديم وكلسي وزير * نعم على قدر الكلب يصلح الساجور)
فغضب العزيز وأمر بالقبض عليه فقبض عليه لوقته ثم بدا للعزيز إطلاقه فأرسل إليه يستدعيه وكان للوزير عين في القصر فأخبره بذلك فأمر بقتله فقتل.
فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعا فعاد إليه فأخبره فاغتم له.
ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي منصور ولقب الحاكم بأمر الله بعهد من أبيه فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم وكان يتولى أمر داره وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم فقام بأمره وبايع له وأخذ له البيعة على الناس وتقدم الحسن بن عمار شيخ كتامة وسيدها وحكم في دولته واستولى عليها وتلقب بأمين الدولة وهو أول من تلقب في دولة العلويين المصريين فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم وقالوا لا حاجة [بنا] إلى من يتعبدنا فلم يفعل احتقارا له واستصغارا لسنه.
وانبسطت كتامة في البلاد وحكموا فيها ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه واتفق معه شكر الخادم عضد الدولة وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر فلما
118
اتفقا، وصارت كلمتهما واحدة وكتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما يتم عليه من ابن عمار فتجهز وسار من دمشق نحو مصر فوصل الخبر إلى ابن عمار فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وندب العساكر إلى قتاله وسير إليه جيشا كثيرا وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي فساروا إليه فلقوه بعسقلان فانهزم منجوتكين وأصحابه وقتل منهم ألفا رجل وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر فأبقى عليه ابن عمار وأطلقه استمالة للمشارقة بذلك.
واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي واسمه سليمان بن جعفر فسار إلى طبرية فاستعمل على دمشق أخاه عليا فامتنع أهلها عليه فكاتبهم أبو تميم يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة واعتذروا من فعل سفهائهم وأخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى معسكره.
وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم وأطلق المحبسين ونظر في أمر الساحل واستعمل أخاه عليا على طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي فمضى إلى مصر واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم وبابن عمار معهم.
فبلغ ذلك ابن عمار فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين وثارت الفتنة واجتمعت المشارقة ففرق فيهم المال وواقعوا ابن عمار
119
ومن معه فانهزم واختفى.
فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم وأجلسه وجدد له البيعة وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه فخرج هاربا وقتلوا من كان عنده من كتامة وعادت الفتنة بدمشق واستولى الأحداث.
ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره وأجراه على أقطاعه وأمره بإغلاق بابه.
وعصى أهل صور وأمروا عليهم رجلا ملاحا يعرف بالعلاقة وعصى أيضا المفرج بن دغفل بن الجراح ونزل على الرملة وعاث في البلاد واتفق أن الدوقس صاحب الروم نزل على حصن أفامية فأخرج أرجوان جيش ابن الصمصامة في عسكر ضخم فسار حتى نزل الرملة فأطاعه وإليها وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه وسير عسكرا إلى صور وعليهم أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان فغزاها برا وبحرا فأرسل العلاقة إلى ملك الروم يستنجده فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال فالتقوا بمراكب المسلمين على صور فاقتتلوا وظفر المسلمون وانهزم الروم وقتل منهم جمع فلما انهزموا انخذل أهل صور وضعفت نفوسهم فملك البلد أبو عبد الله بن حمدان
ونهبه وأخذت الأموال وقتل كثير من جنده وكان أول فتح كان على يد أرجوان وأخذ العلاقة أسيرا فسيره إلى مصر،
120
فسلخ وصلب بها، وأقام بصور وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج بن دغفل، فهرب من بين يديه، وأرسل يطلب العفو فأمنه.
وسار جيش أيضا إلى عسكر الروم فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين فأحسن إلى رؤساء الأحداث وأطلق المؤن وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها فاطمأنوا إليه.
وسار إلى أفامية فصاف الروم عندها فانهزم هو وأصحابه ما عدا بشارة الإخشيدي فإنه ثبت في خمسائة فارس ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه والدوقس واقف على رايته وبين يديه ولده وعدة غلمان فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك من أصحاب بشارة ومعه خشت فظنه الدوقس مستأمنا فلم يحترز منه فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فظنه فقتله فصاح المسلمون قتل عدو الله وعادوا ونزل النصر عليهم فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وسار جيش إلى باب أنطاكية يغنم ويسبي ويحرق وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها وكان الزمان شتاء فسأله أهل دمشق ليدخل البلد فلم يفعل ونزل ببيت لهيا وأحسن السيرة في أهل دمشق واستخص رؤساء الأحداث واستحجب جماعة منهم وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها فعبر على ذلك برهة من الزمان فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم أن يغلقوا باب الحجرة عليهم ويضعوا السيف في أصحابهم فلما كان الغد حضروا الطعام وقام الرؤساء إلى الحجرة،
121
فأغلقت الأبواب عليهم وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل ودخل دمشق فطافها فاستغاث الناس وسألوه العفو فعفا عنهم وأحضر أشراف أهلها وقتل رؤساء الاحداث بين أيديهم وسير الأشراف إلى مصر وأخذ أموالهم ونعمهم ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات.
وولي بعده ابنه محمد وكانت ولايته هذه تسعة أشهر. ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم وهادنه عشر سنين واستقامت الأمور على يد أرجوان وسير أيضا جيشا إلى برقة وطرابلس الغرب ففتحها واستعمل عليها انسا الصقلبي ونصح الحاكم وبالغ في ذلك ولازم خدمته فثقل مكانه على الحاكم فقتله سنة تسع وثمانين [وثلاثمائة].
وكان خصيا أبيض وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم فاستوزره الحاكم ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسين بن عمار المقدم ذكره ثم قتل الحسين بن جوهر ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم. ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب وحصرها وسير معه العساكر الكثيرة فسار عنها فخافه حسان بن المفرج الطائي فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده وأوقعا به وبمن معه وأسراه وقتلاه وقتل من الفريقين قتلى كثيرة وحصرا الرملة، ونهبوا النواحي وكثر جمعهما وملكوا الرملة
122
وما والاها فعظم ذلك على الحاكم وأرسل يعاتبهما وسبق السيف العذل فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسيني أمير مكة وخاطباه بأمير المؤمنين وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة فحضر واستناب بمكة وخوطب بالخلافة.
ثم إن الحاكم راسل حسانا وأباه وضمن لهما الأقطاع الكثيرة والعطاء الجزيل واستمالهما فعدلا عن أبي الفتوح ورداه إلى مكة وعادا إلى طاعة الحاكم.
ثم إن الحاكم جهز عسكرا إلى الشام واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن المفرج وعشيرته عن تلك الأرض وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة واستولى على أمواله وذخائره وسار إلى دمشق واليا عليها فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة.
وأما حسان فإنه بقي شريدا نحو سنتين ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه فسار حسان إليه بمصر فأكرمه وأحسن إليه وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموما وضع الحاكم عليه من سمه فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه.
ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرة
في هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة اسمه لشكرستان إلى البصرة فأجلى عنها نواب بهاء الدولة.
123
وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء كما ذكرناه كان هذا لشكرستان مع العلاء فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين فأخذهم لشكرستان وسار بهم وبمن معه إلى البصرة فكثر جمعه فنزلوا قريب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة ومال إليهم بعض أهل البصرة، ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي وكانوا يحملون إليهم الميرة.
وعلم بهاء الدولة بذلك فأنفذ من يقبض عليهم فهرب كثير منهم إلى لشكرستان فقوي بهم وجمعوا السفن وحملوه فيها ونزلوا إلى البصرة فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها وأخرجوهم عنها وملك لشكرستان البصرة وقتل من أهلها كثيرا وهرب كثير منهم وأخذ كثيرا من أموالهم.
فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة يقول أنت أحق بالبصرة فسير إليه جيشا مع عبد الله بن مرزوق فأجلى لشكرستان عن البصرة وقيل إنه سار عن البصرة بغير حرب ودخلها ابن مرزوق وقيل إنما فارقها بعد أن حارب فيها وضعف عن المقام بين يديه وصفت البصرة لمهذب الدولة.
ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة فهجم عليها في السفن ونزل أصحابه بسوق الطعام واقتتلوا فاستظهر لشكرستان وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة ويبذل الطاعة ويخطب له بالبصرة فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك وأخذ ابنه رهينة.
وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة
124
وعسف أهل البصرة مدة فتفرقوا ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم فعادوا.
ذكر ولاية المقلد الموصل
في هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل.
وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة فطمع المقلد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك وقلدوا أخاه عليا لأنه أكبر منه فشرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا معه مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال إليه بعضهم وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه وواعدهم يوما يخرج إليهم فيه.
ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم فلما يشعروا به إلا بعد انحداره فتبعوه فلما ينالوا منه شيئا ونجا بما له منهم وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلد البلد واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبى المال واشتركا في البلد والولاية وسار علي
125
إلى البر وأقام المقلد وجرى الأمر على ذلك مديدة ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله.
وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق وكان له ببغداد نائب فيه تهور فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة فكتب إلى المقلد يشكو فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها.
وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره.
وكان بهاء الدولة مشغولا بمن يقاتله من عسكر أخيه فاضطر إلى المغالطة ومد المقلد يده فأخذ الأموال فبرز نائب نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل وخرج إلى حرب المقلد فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلا فاقتتلوا وعادوا إلى المقلد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل فسار إلى بغداد في أخر ذي الحجة فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية ويلقب بحسام الدولة ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين واستقر الأمر على ذلك وجلس القادر بالله له.
ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره وقبض أبو جعفر
126
على أبي علي ثم هرب أبو علي نائب بهاء الدولة واستتر وسار إلى البطيحة مستترا ملتجئا إلى مهذب الدولة.
ذكر وفاة المنصور بن يوسف وولاية ابنه باديس
في هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير أفريقية أوائل ربيع الأول خارج صبرة ودفن بقصره.
وكان ملكا كريما شجاعا حازما ولم يزل مظفرا منصورا حسن السيرة محبا للعدل والرعية أوسعهم عدلا وأسقط البقايا عن أهل أفريقية وكانت مالا جليلا.
ولما توفي ولي بعده ابنه باديس ويكنى أبا مناد فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه.
وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر فقرئ العهد وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد.
وفيها ثار على باديس رجل صنهاجي اسمه خليفة بن مبارك فأخذ وحمل إلى باديس فأركب حمارا وجعل خلفه رجل أسود يصفعه وطيف به ولم يقتل احتقارا به وسجن.
127
وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير وأقطعه إياها وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئا كثيرا فخرج إليها وهذا حماد هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك أفريقية والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بأفريقية ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض بهاء الدولة على الفاضل وزيره وأخذ ماله واستوزر بهاء الدولة سابور ابن أردشير فأقام نحو شهرين وفرق الأموال ووقع بها للقواد قصدا ليضعف بهاء الدولة ثم هرب إلى البطيحة وبقي منصب الوزارة فارغا واستوزر أبو العباس بن سرجس.
وفيها استكتب القادر بالله أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق أبو حامد بن أبي إسحاق المزكي النيسابوري في شعبان وكان إماما ومولده سنة ثلاث وعشرين [وثلاثمائة].
وفيها توفي علي بن عمر بن محمد بن الحسن أبو إسحاق الحميري المعروف بالسكري وبالحربي وبالكيال ومولده سنة ست وتسعين ومائتين.
وفيها توفي أبو الأغر دبيس بن عفيف الأسدي بخوزستان وأبو طالب محمد بن علي عطية المكي صاحب قوت القلوب روي أنه صنف قوت القلوب وكان قوته عروق البردي.
128
387
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
ذكر موت الأمير نوح بن
منصور وولاية ابنه منصور
في هذه السنة توفي الأمير الرضا نوح بن منصور الساماني في رجب واختل بموته ملك آل سامان وضعف أمرهم ضعفا ظاهرا وطمع فيهم أصحاب الأطراف فزال ملكهم بعد مدة يسيرة.
ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور بن نوح وبايعه الأمراء والقواد وسائر الناس وفرق فيهم بقايا الأموال فاتفقوا على طاعته وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون ولما بلغ خبر موته إلى ايلك خان سار إلى سمرقند وانضم إليه فائق الخاصة فسيره جريدة إلى بخارى فلم سمع بمسيره الأمير منصور تحير في أمره وأعجله عن التجهز فسار عن بخارى وقطع النهر ودخل فائق بخارى وأظهر أنه إنما قصد المقام بخدمة الأمير منصور رعاية لحق أسلافه عليه إذ هو مولاهم وأرسل إليه مشايخ بخارى ومقدمهم في العود إلى بلده وملكه وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق فعاد إليها ودخلها وولي فائق أمره وحكم في دولته وولي بكتوزون أمرة الجيوش بخراسان.
وكان محمود بن سبكتكين حينئذ مشغولا بمحاربة أخيه إسماعيل، على
129
ما نذكره إن شاء الله تعالى وسار بكتوزون إلى خراسان فوليها واستقر القواعد بها.
ذكر موت سبكتكين وملك ولده إسماعيل
وفي هذه السنة توفي ناصر الدولة سبكتكين في شعبان وكان مقامه ببلخ وقد ابتنى بها دورا ومساكن فمرض وطال مرضه وانزاح إلى هواء غزنة فسار عن بلخ إليها فمات في الطريق فنقل ميتا إلى غزنة ودفن فيها وكان مدة ملكه نحو عشرين سنة.
وكان عادلا خيرا كثير الجهاد وحسن الاعتقاد ذا مروءة تامة وحسن العهد ووفاء لا جرم بارك الله في بيته ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم.
وكان ابنه محمود أول من لقب بالسلطان ولم يلقب به أحد قبله ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك بعده فلما مات بايع الجند لإسماعيل وحلفوا له وأطلق لهم الأموال وكان أصغر من أخيه محمود فاستضعفه الجند فاشتطوا في الطلب حتى أفنى الخزائن التي خلفها أبوه.
ذكر استيلاء أخيه محمود بن سبكتكين على الملك
لما توفي سبكتكين وبلغ الخبر إلى ولده يمين الدولة محمود بنيسابور جلس للعزاء ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزيه بأبيه ويعرفه أن أباه إنما
130
عهد إليه لبعده عنه ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير ويطلب منه الوفاق وإنفاذ ما يخصه من تركة أبيه فلم يفعل وترددت الرسل بينهما فلم تستقر القاعدة فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازما على قصد أخيه بغزنة واجتمع بعمه بغراجق بهراة فساعده على أخيه إسماعيل وسار نحو بست وبها أخوه نصر فتبعه وأعانه وسار معه إلى غزنة.
وبلغ الخبر إلى إسماعيل وهو ببلخ فسار عنها مجدا فسبق أخاه محمودا إليها وكان الأمراء الذين مع إسماعيل كاتبوا أخاه محمودا يستدعونه ووعدوه الميل إليه فجد المسير والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنة واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم إسماعيل وصعد إلى قلعة غزنة فاعتصم بها فحصره أخوه محمود واستنزله بأمان فلما نزل إليه أكرمه وأحسن إليه وأعلى منزلته وشركه في ملكه وعاد إلى بلخ واستقامت الممالك له.
وكانت مدة ملك إسماعيل سبعة أشهر وهو فاضل حسن المعرفة له نظم ونثر وخطب في بعض الجمعات فكان يقول بعد الخطبة للخليفة: (^ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
ذكر وفاة فخر الدولة بن بويه وملك ابنه مجد الدولة
في هذه السنة توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بقلعة طبرق في شعبان.
131
وكان سبب ذلك أنه أكل لحما مشويا وأكل بعده عنبا فأخذه المغس ثم اشتد مرضه فمات منه فلما مات كانت مفاتيح الخزائن بالري عند أم ولده مجد الدولة فطلبوا له كفنا فلم يجدوه وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب الديلم فاشتروا له من قيم الجامع ثوبا كفنوه فيه وزاد شغب الجند فلم يمكنهم دفنه فبقي حتى أنتن ثم دفنوه.
وحين توفي قام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين أجلسه الأمراء في الملك وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق وكان المرجع إلى والدة أبي طالب ففي تدبير الملك وعن رأيها يصدرون وبين يديها في مباشرة الأعمال صاحب فخر الدولة وأبو العباس الضبي الكافي.
ذكر وفاة مأمون بن محمد وولاية ابنه علي
وفيها توفي مأمون بن محمد صاحب خوارزم والجرجانية فلما توفي اجتمع أصحابه على ولده علي وبايعوه واستقر ما كان لأبيه وراسل يمين الدولة محمود بن سبكتكين وخطب إليه أخته فزوجه واتفقت كلمتهما وصارا يدا واحدة إلى أن مات علي وقام بعده أخوه أبو العباس مأمون بن مأمون واستقر في الملك فأرسل إلى يمين الدولة يخطب أخته أيضا فأجابه إلى ذلك وزوجه فداما أيضا على الاتفاق والاتحاد مدة.
وسيرد من أخباره معه سنة سبع وأربعمائة إن شاء الله تعالى ما تقف عليه.
132
ذكر وفاة العلاء بن الحسن وما كان بعده
في هذه السنة توفي أبو القاسم بن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان وكان موته بعسكر مكرم وكان شهما شجاعا حسن التدبير ونفذ صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز ومعه المال ففرقه في الديلم وسار إلى جنديسابور فدفع أصحاب بهاء الدولة عنها وجرت له معهم وقائع كثيرة كان الظفر فيها له وأزاح الأتراك عن خوزستان وعادوا إلى واسط وخلت لأبي علي البلاد ورتب العمال وجبى الأموال وكاتب أتراك بهاء الدولة واستمالهم فأتاه بعضهم فأحسن إليهم واستمر حال أبي علي في أعمال خوزستان.
ثم إن أبا محمد بن مكرم والأتراك عادوا من واسط واستعد أبو علي للحرب وجرى بينهم وقائع ولم يكن للأتراك قوة على الديلم فعزموا على العود إلى واسط ثانيا واتفق مسير بهاء الدولة من البصرة إلى القنطرة البيضاء وكان ما نذكره إن شاء الله.
ذكر القبض على علي بن المسيب وما كان بعد ذلك
في هذه السنة قبض المقلد على أخيه علي.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من الاختلاف الواقع بين أصحابهما بالموصل واشتغل المقلد بما ذكرناه بالعراق فلما خلا وجهة وعاد إلى الموصل عزم
133
على الانتقام من أصحاب أخيه ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه فأحضر عسكره من الديلم والأكراد وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلفهم على الطاعة وكانت داره ملاصقة دار أخيه فنقب في الحائط ودخل إليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر ففعلت ذلك وخلصت وكانت في الحلة التي له على أربعة فراسخ من تكريت.
وسمع الحسن الخبر فبادر إلى الحلة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم وأقام المقلد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم واجتمع عنده زهاء ألفي فارس وسار الحسن في حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلد واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلد يؤذنه بالحرب فسار عن الموصل وبقي بينهم منزل واحد ونزل بإزاء العلث فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن وتنازع هو وأخوه.
فبينما هم في ذلك قيل لمقلد أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك فركب وخرج إليها فلم تزل معه حتى أطلق أخاه عليا ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له فسر الناس بذلك وتحالفا وعاد علي إلى حلته.
وعاد المقلد إلى الموصل وتجهز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلد بالأذى فسار إليه.
134
ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلد فسار إلى الموصل وبها أصحاب المقلد وامتنعوا عليه فافتتحها فسمع المقلد بذلك فعاد إليه واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن فخرج إليه ورأى كثرة عسكره فخاف على أخيه علي منه فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر وسار إلى أخيه علي وقال له إن الأعور يعني المقلد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل وأمر بإفساد عسكر المقلد فكتب إليهم فظفر المقلد بالكتب فأخذها وسار مجدا إلى الموصل فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه.
ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلا وتبعه الحسن وترددت الرسل بينهم فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر وبقوا كذلك إلى سنة تسع وثمانين [وثلاثمائة].
ومات علي سنة تسعين [وثلاثمائة] وقام الحسن مقامه فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلد فلم يدركه فعاد.
ولما استقر أمر المقلد بعد أخيه علي وسار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذب الدولة فتوسط ما بينه وبين المقلد وأصلح الأمر معه وسار المقلد إلى دقوقا فملكها.
135
ذكر ملك جبرئيل دقوقا
في هذه السنة ملك جبرئيل بن محمد دقوقا وهذا جبرئيل كان من الرجالة الفرس ببغداد وخدم مهذب الدولة بالبطيحة فهم بالغزو وجمع جمعا كثيرا واشتروا السلاح وسار فاجتاز في طريقه بدقوقا فوجد المقلد بن المسيب يحاصرها فاستغاث أهلها بجبرئيل فحماهم ومنع عنهم.
وكان بدقوقا رجلان نصرانيان قد تمكنا في البلد وحكما فيه واستعبدا أهله فاجتمع جماعة من المسلمين إلى جبرئيل وقالوا له إنك تريد الغزو ولست تدري أتبلغ غرضا أم لا وعندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا وحكم علينا فلو أقمت عندنا وكفيتنا أمرهما ساعدناك على ذلك فأقام وقبض عليهما وأخذ مالهما وقوي أمره فملك البلد في شهر ربيع الأول وثبت قدمه وأحسن معاملة أهل البلد وعدل فيهم وبقي مدة على اختلاف الأحوال.
ثم ملكها المقلد وملكها بعده محمد بن عناز ثم أخذها بعده قرواش ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب فعاد هذا جبرئيل حينئذ إلى دقوقا واجتمع مع أمير من الأكراد يقال له موصك بن جكويه ودفعا عمال فخر الدولة عنها وأخذاها فقصدها بدران بن المقلد وغلبهما وأخذها منهما.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج أبو الحسن علي بن مزيد عن طاعة بهاء الدولة فسير إليه عسكرا فهرب من بين يديهم إلى مكان لا يقدرون على الوصول إليه فيه،
136
ثم أرسل بهاء الدولة وأصلح حاله معه وعاد إلى طاعته.
وفيها توفي أبو الوفاء محمد بن المهندسي الحاسب.
وفيها في المحرم توفي عبيد الله بن محمد بن حمران أبو عبد الله العكبري المعروف بابن بطة الحنبلي وكان مولده في شوال سنة أربع وثلاثمائة وكان زاهدا عابدا عالما ضعيفا في الرواية.
وفيها في ذي القعدة توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سمعون الواعظ الزاهد له كرامات وكان مولده سنة ثلاثمائة.
وفيها في تاسع ذي الحجة توفي الحسن بن عبد الله بن سعيد أبو أحمد العسكري الراوية العلامة صاحب التصانيف الكثيرة في الأدب واللغة والأمثال وغيرها.
137
388
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة
ذكر عود أبي القاسم السيمجوري إلى نيسابور
قد ذكرنا مسير أبي القاسم بن سيمجور أخي أبي علي إلى جرجان ومقامه بها فلما مات فخر الدولة أقام عند ولده مجد الدولة واجتمع عنده جماعة كثيرة من أصحاب أخيه وكان قد أرسل إلى شمس المعالي يستدعيه من نيسابور ليسلمها إليه فسار إليه حتى وافى جرجان فلما بلغها رأى أبا القاسم قد سار عنها فعاد شمس المعالي إلى نيسابور.
فكتب فائق من بخارى إلى أبي القاسم يغريه ببكتوزون ويأمره بقصد خراسان وإخراج بكتوزون عنها لعداوة بينهما فسار أبو القاسم عن جرجان نحو نيسابور وسير سرية إلى أسفرايين وبها عسكر لبكتوزون فقاتلوهم وأجلوهم عن أسفرايين واستولى أصحاب أبي القاسم عليها وسار أبو القاسم إلى نيسابور فالتقى هو وبكتوزون بظاهرها في ربيع الأول واقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم أبو القاسم وقتل من أصحابه وأسر خلق كثير.
وسار أبو القاسم إلى قهستان وأقام بها حتى اجتمع إليه أصحابه وسار إلى بوشنج واحتوى عليها وتصرف فيها وسار إليه بكتوزون وترددت الرسل بينهما حتى اصطلحا وتصاهرا وعاد بكتوزون إلى نيسابور.
138
ذكر استيلاء محمود بن سبكتكين على نيسابور وعودهم عنها
لما فرغ محمود من أخيه وملك غزنة وعاد إلى بلخ رأى بكتوزون قد ولي خراسان على ما ذكرناه فأرسل إلى الأمير منصور بن نوح يذكر طاعته والمحاماة عن دولته ويطلب خراسان فأعاد الجواب يعتذر عن خراسان ويأمره بأخذ ترمد وبلخ وما وراءها من أعمال بست وحراة فلم يقنع بذلك وأعاد الطلب فلم يجبه إلى ذلك فلما تيقن المنع سار إلى نيسابور وبها بكتوزون فلما بلغه خبر مسيره نحوه رحل عنها فدخلها محمود وملكها فلما سمع الأمير منصور بن نوح سار عن بخارى نحو نيسابور فلما علم محمود بذلك سار عن نيسابور إلى مرو الروذ ونزل عند قنطرة راعول ينتظر ما يكون منهم.
ذكر عود قابوس إلى جرجان
في هذه السنة عاد شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان وملكها ولما ملك فخر الدولة بن بويه جرجان والري أراد أن يسلم جرجان إلى قابوس فرده عن ذلك الصاحب بن عباد وعظمها في عينه فأعرض عن الذي أراده ونسي ما كان بينهما من الصحبة بخراسان وأنه بسببه خرجت البلاد عن يد قابوس والملك عقيم.
وقد ذكرنا كيف أخذت منه ومقامه بخراسان وإنفاذ ملوك السامانية الجيوش في نصرته مرة بعد أخرى فلم يقدر الله تعالى عود ملك إليه.
ولما ولي سبكتكين خراسان اجتمع به ووعده أن يسير معه الجيوش ليرده
139
إلى مملكته فمضى إلى بلخ ومرض ومات.
فلما كانت هذه السنة بعد موت فخر الدولة سير شمس المعالي قابوس الأصبهبذ شهريار بن شروين إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة بن فخر الدولة فاقتتلا فانهزم رستم واستولى أصبهبذ على الجبل وخطب لشمس المعالي وكان باتي بن سعيد بناحية الإستندارية وله ميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمل وبها عسكر لمجد الدولة فطردهم عنها واستولى عليها وخطب لقابوس وكتب إليه بذلك.
ثم إن أهل جرجان كتبوا إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور وسار أصبهبذ وباتي بن سعيد إلى جرجان وبها عسكر لمجد الدولة فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر مجد الدولة إلى جرجان فلما بلغوها صادفوا مقدمة قابوس قد بلغتها فأيقنوا بالهلاك وانهزموا من أصحاب قابوس هزيمة ثانية وكانت قرحا على قرح، ودخل شمس المعالي جرجان في شعبان من هذه السنة.
وبلغ المنهزمون الري فجهزت العساكر من الري نحو جرجان فساروا وحصروها فغلت الأسعار بالبلد وضاقت الأمور بالعسكر أيضا وتوالت عليهم الأمطار والرياح فاضطروا إلى الرحيل فتبعهم شمس المعالي فلحقهم وواقعهم فاقتتلوا وانهزم عسكر الري وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة وقتل أكثر منهم فأطلق شمس المعالي الأسرى واستولوا على تلك الأعمال ما بين جرجان وأستراباذ.
ثم أن الأصبهبذ حدث نفسه بالاستقلال والتفرد عن قابوس واغتر بما اجتمع عنده من الأموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الري وعليها
140
المرزبان خال مجد الدولة فهزموا أصبهبذ وأسروه ونادوا بشعار شمس المعالي لوحشة كانت عند المرزبان من مجد الدولة وكتب إلى شمس المعالي بذلك وانضافت مملكة الجبل جميعها إلى ممالك جرجان وطبرستان فولاها شمس المعالي ولده منوجهر ففتح الرويان وسالوس وراسل قابوس يمين الدولة محمودا وهاداه وصالحه واتفقا على
ذلك.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى واسط وما كان منه
في هذه السنة عاد أبو علي بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة وهو بواسط فوزر له ودبر أمره وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمد بن مكرم ومن معه من الجند ومساعدتهم ففعل ذلك وسار على كره وضيق فنزل بالقنطرة البيضاء وثبت أبو علي بن أستاذ هرمز وعسكره وجرى لهم معه وقائع كثيرة.
وضاق الأمر ببهاء الدولة وتعذرت عليه الأقوات فاستمد بدر بن حسنويه فأنفذ إليه شيئا قام ببعض نا يريده وأشرف بهاء الدولة على الخطر وسعى أعداء أبي علي بن إسماعيل به حتى كاد يبطش به فتجدد من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتي ذكره وأتاه الفرج من حيث لم يحتسب وصلح أمر أبي علي عنده واجتمعت الكلمة عليه وسيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى.
141
ذكر قتل صمصام الدولة
في هذه السنة في ذي الحجة قتل صمصام الدولة بن عضد الدولة وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لأنه أمر بعرضهم وإسقاط من ليس بصحيح النسب فأسقط منهم مقدار ألف رجل فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون.
واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين فخدعا الموكلين بهما في القلعة فأفرجوا عنهما فجمعا لفيفا من الأكراد واتصل خبرهما بالذين أسقطوا من الديلم فأتوهم وقصدوا إلى أرجان فاجتمعت عليها العساكر وتحير صمصام الدولة ولم يكن عنده من يدبره.
وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما بنسا فأشار عليه بعض من عنده بتفريق ما نعده من المال في الرجال والمسير إلى صمصام الدولة وأخذه إلى عسكره بالأهواز وخوف إن لم يفعل ذلك فشح بالمال فثار به الجند ونهبوا داره وهربوا فاختفى فأخذ وأتي به إلى ابني بختيار فحبس ثم احتال فنجا.
وأما صمصام الدولة فإنه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز والامتناع بها إلى أن يأتي عسكره ومن يمنعه فأراد الصعود إليها فلم يمكنه المستحفظ بها وكان معه ثلاثمائة رجل فقالوا له الرأي أننا
142
نأخذك ووالدتك ونسير إلى أبي علي ابن أستاذ هرمز؛ وأشار بعضهم بقصد الأكراد وأخذهم والتقوي بهم ففعل ذلك وخرج معهم بخزائنه وأمواله فنهبوه وأرادوا أخذه فهرب وسار إلى الدودمان على مرحلتين من شيراز.
وعرف أبو نصر بن بختيار الخبر فبادر إلى شيراز ووثب رئيس الدودمان، واسمه طاهر بصمصام الدولة فأخذه وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجة، فلما حمل رأسه إليه قال هذه سنة سنها أبوك يعني ما كان من قتل عضد الدولة بختيار.
وكان عمر صمصام الدولة خمسا وثلاثين سنة وسبعة أشهر ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام وكان كريما حليما واما والدته فسلمت إلى بعض قواد الديلم، فقتلها وبنى عليها دكة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها فدفنها في تربة بين بويه.
ذكر هرب ابن الوثاب
في هذه السنة هرب أبو عبد الله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال في دار الخلافة.
وكان هذا الرجل يقرب بالنسب من الطائع وكان مقيما في داره فلما خلع الطائع هرب هذا وصار عند مهذب الدولة فأرسل القادر بالله في أمره فأخرجه فسار إلى
143
المدائن وأتى خبره إلى القادر فأخذه وحبسه فهرب هذه السنة ومضى إلى كيلان وادعى أنه هو الطائع لله وذكر من أمور الخلافة ما كان يعرفه وزوجه محمد بن العباس مقدم كيلان وشد منه وأقام له الدعوة وأطاعه أهل نواح أخر وأدوا إليه العشر على عادتهم.
وورد من هؤلاء القوم جماعة يحجون فأحضرهم القادر وكشف لهم حاله وكتب على أيديهم كتبا في المعنى فلم يقدح ذلك فيه وكان أهل كيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كج فكوتب من بغداد في المعنى فكشف لهم الأمر فأخرجوا أبا عبد الله عنهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه وعلا شأنه ولقب من ديوان الخليفة ناصر الدين والدولة وكان كثير الصدقات بالحرمين ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى الحجاج ومنع أصحابه من الفساد وقطع الطريق فعظم محله وسار ذكره.
وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط.
وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار.
144
389
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة
ذكر القبض على الأمير منصور بن نوح
وملك أخيه عبد الملك
في هذه السنة قبض على الأمير منصور بن نوح بن منصور الساماني صاحب بخارى وما وراء النهر وملك أخوه عبد الملك.
وسبب قبضه ما ذكرناه من قصد محمود بن سبكتكين بكتوزون بخراسان وعوده عن نيسابور إلى مرو الروذ فلما نزلها سار بكتوزون إلى الأمير منصور وهو بسرخس فاجتمع به فلم ير من إكرامه وبره ما كان يؤمله فشكا ذلك إلى فائق فقابله فائق بأضعاف شكواه فاتفقا على خلعه من الملك وإقامة أخيه مقامه وأجابهما إلى ذلك جماعة من أعيان العسكر، فاستحضره بكتوزون بعلة الاجتماع لتدبير ما هم بصدده من أمر محمود فلما اجتمعوا به قبضوا عليه وأمر بكتوزون من سلمه فأعماه ولم يراقب الله ولا إحسان مواليه وأقاموا أخاه عبد الملك مقامه في الملك وهو صبي صغير.
وكانت مدة ولاية منصور سنة وسبعة أشهر، وماج الناس بعضهم في بعض، وأرسل محمود إلى فائق وبكتوزون يلومهما ويقبح فعلهما وقويت نفسه على لقائهما وطمع في الاستقلال بالملك فسار عنهما عازما على القتال.
145
ذكر استيلاء يمين الدولة محمود بن سبكتكين
على خراسان
لما قبض الأمير منصور سار محمود نحو فائق وبكتوزون ومعهما عبد الملك بن نوح فلما سمعوا بميسرة ساروا إليه فالتقوا بمرو آخر جمادى الأولى واقتتلوا أشد قتال رآه الناس إلى الليل فانهزم بكتوزون وفائق ومن معهما.
فأما عبد الملك وفائق فإنهما لحقا ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور وقصد أبو القاسم بن سيمجور قهستان، فرأى محمود أن يقصد بكتوزون وأبا القاسم ويعجلهما عن الاجتماع والإحتشاد فسار إلى طوس فهرب منه بكتوزون إلى نواحي جرجان فأرسل محمود خلفه أكبر قواده وأمرائه وهو أرسلان الجاذب في عسكر جرار فاتبعه حتى ألحقه بجرجان وعاد فاستخلفه محمود على طوس وسار إلى هراة.
فلما علم بكتوزون بميسر محمود عن نيسابور عاد إليهما فملكها فقصده محمود فأجفل من بين يديه إجفال الظليم واجتاز بمرو فنهبها وسار عنها إلى بخارى، واستقر ملك محمود بخراسان فأزال عنها اسم السامانية وخطب فيها للقادر بالله وكان إلى هذا الوقت لا يخطب للطائع لله واستقل بملكها منفردا وتلك سنة الله تعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصرا وجعله بنيسابور على ما كان يليه آل سيمجور للسامانية، وسار هو إلى بلخ مستقر والده فاتخذها دار ملك واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون،
146
أصحاب الجوزجان، ونحن نذكرهم إن شاء الله تعالى وكالشار الشاه صاحب غرشستان ونحن نذكر ههنا أخبار هذا الشار فاعلم أن هذا اللقب وهو الشار لقب كل من يملك بلاد غرشستان ككسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وكان الشار أبو نصر قد اعتزل الملك وسلمه إلى ولده الشاه وفيه لوثة وهوج واشتغل والده أبو نصر بالعلوم ومجالسة العلماء.
ولما عصا أبو علي بن سيمجور على الأمير نوح أرسل إلى غرشستان من حصرها وأجلى عنها الشاه الشار ووالده أبا نصر فقصدا حصنا منيعا في آخر ولايتهما فتحصنا به إلى أن جاء سبكتكين إلى نصره الأمير نوح فنزلا إليه وأعاناه على أبي علي وعاد إلى ملكهما فلما ملك الآن يمين محمود خراسان أطاعاه وخطبا له.
ثم إن يمين الدولة بعد هذا أراد الغزوة إلى الهند فجمع لها وتجهز وكتب إلى الشاه الشار يستدعيه ليشهد معه غزوته فامتنع وعصى، فلما فرغ من غزوته سير إليه الجيوش ليملكوا بلاده فلما دخلوا البلاد طلب والده أبو نصر الأمان فأجيب إلى ذلك وحمل إلى يمين الدولة فأكرمه واعتذر أبو نصر بعقوق ولده وخلافه عليه فأمره بالمقام بهراة متوسعا عليه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعمائة.
وأما ولده الشاه فإنه قصد ذلك الحصن الذي احتمى به على أبي علي فأقام به ومعه أمواله وأصحابه فحصره عسكر يمين الدولة في حصنه ونصبوا
147
عليه المجانيق وألحوا عليه بالقتال ليلا ونهارا فانهدمت أسوار حصنه وتسلق العسكر إليه فلما أيقن بالعطب طلب الأمان والعسكر يقاتله فلم يزل كذلك حتى أخذ أسيرا وحمل إلى يمين الدولة فضرب تأديبا له ثم أودع السجن إلى أن مات وكان موته قبل موت والده.
ورأيت عدة مجلدات من كتاب التهذيب للأزهري في اللغة بخطه وعليه ما هذه نسخته يقول محمد بن أحمد بن الأزهري قرأ على الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره وكتبه بيده صح فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية فإن من يصحب مثل الأزهري ويقرأ كتابه التهذيب يكون فاضلا.
ذكر انقراض دولة السامانية
وملك الترك وما وراء النهر
في هذه السنة انقرضت دولة آل سامان على يد محمود بن سبكتكين وايلك الخان التركي واسمه أبو نصر أحمد بن علي ولقبه شمس الدولة.
فأما محمود فإنه ملك خراسان كما ذكرناه وبقي بيد عبد الملك بن نوح ما وراء النهر فلما انهزم من محمود قصد بخارى واجتمع بها هو وفائق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر فقويت نفوسهم وشرعوا في جمع العساكر وعزموا على العود إلى خراسان فاتفق أن مات فائق وكان
148
موته في شعبان من هذه السنة فلما مات ضعفت نفوسهم ووهنت قوتهم فإنه كان هو المشار إليه من بينهم وكان خصيا من موالي نوح بن نصر.
وبلغ خبرهم إلى ايلك الخان فسار في جمع الأتراك إلى بخارى وأظهر لعبد الملك المودة والموالاة والحمية له فظنوه صادقا ولم يحترسوا منه وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقواد فلما اجتمعوا قبض عليهم وسار حتى دخل بخارى يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلة عدده فاختفى ونزل ايلك
الخان دار الإمارة وبث الطلب والعيون على عبد الملك حتى ظفر به فأودعه بأفكند فمات بها وكان آخر ملوك السامانية وانقضت دولتهم على يده كأن لم تغن بالأمس كدأب الدول قبلها إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وحبس معه أخوه أبو الحرث منصور بن نوح الذي كان في الملك قبله وأخواه أبو إبراهيم إسماعيل وأبو يعقوب أبناء نوح وأعمامه أبو زكريا وأبو سليمان وغيرهم من آل سامان وأفراد كل واحد منهم في حجرة.
وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيرا من الأرض من حدود جلوان إلى بلاد الترك بما وراء النهر وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلا وهذا عبد الملك هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل كلهم ملكوا، وكان منهم من ليس مذكورا وكان من ليس مذكورا في هذا النسب عبد الملك بن نوح المذكور، وكان منهم أيضا منصور بن نوح بن منصور أخو عبد الملك هذا الأخير الذي زال الملك في ولايته ولي قبله.
149
ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوزستان
في هذه السنة دخل الديلم الذين مع أبي علي بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة.
وكان سبب ذلك أن ابني بختيار لما قتلا صمصام الدولة كما تقدم وملكا بلاد فارس كتبا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز بالخبر ويذكران تعويلهما عليه و اعتضادهما به ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على من معه من الديلم والمقام بمكانه والجد بمحاربة بهاء الدولة فخافهما أبو علي لما كان أسلفه إليهما من قبل أخويهما وأسرهما فجمع الديلم الذين معه و أخبرهم الحال و استشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار و مقاتلة بهاء الدولة فلم يوافقهم على ذلك ورأى أن يراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم فقالوا إنا نخاف الأتراك وقد عرفت ما بيننا وبينهم فسكت عنهم وتفرقوا.
وراسله بهاء الدولة يستميله ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان وترددت الرسل، وقال بهاء الدولة: إن ثأري وثأركم عند من قتل أخي فلا عذر لكم في التخلف عن الأخذ بثأره؛ واستمال الديلم فأجابوه إلى الدخول في طاعته وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه وكتبوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال.
وركب بهاء الدولة من الغد إلى باب السوس وجاء أن يخرج من فيه إلى طاعته فخرجوا إليه في السلاح وقاتلوه قتالا شديدا لم يقاتلوا مثله فضاق صدره فقيل له إن هذه عادة الديلم أن يشتد قتالهم عند الصلح لئلا ينظر بهم أنهم سلموا عن عجز أو ضعف ثم كفوا عن القتال و أرسلوا من يحلف لهم ونزلوا إلى خدمته واختلط العسكران وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو علي بن إسماعيل أمورها وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى
150
أرجان وغيرها من بلاد خوزستان.
وسار أبو علي بن إسماعيل إلى شيراز فنزل بظاهرها فخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما فحاربوه فلما اشتدت الحرب مال بعض من معهما إليه ودخل بعض أصحابه البلد ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولا من بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلما قتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلما سمع النداء بشعار بهاء الدولة ظن أن الفتح قد تم فقصد الجامع وكان يوم الجمعة وأقام الخطبة لبهاء الدولة.
ثم عاد ابنا بختيار واجتمع إليهما أصحابهما فخاف النقيب فاختفى وحمل في سلة إلى أبي علي بن إسماعيل؛ ثم إن أصحاب ابني بختيار قصدوا أبا علي و أطاعوه فاستولى على شيراز وهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الديلم وأما الثاني وهو أبو القاسم فلحق ببدر بن حسنويه ثم قصد البطيحة.
ولما ملك أبو علي شيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح فسار إليها ونزلها، فلما استقر بها أمر بنهب قرية الدودمان وإحراقها وقتل كل من كان بها من أهلهم فاستأصلهم و أخرج أخاه صمصام الدولة وجدد أكفانه وحمل إليه التربة بشيراز فدفن بها وسير عسكرا مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان فملكهما و أقام بها نائبا عن بهاء الدولة إلى ههنا آخر من في ذيل الوزير أبي شجاع رحمه الله.
151
ذكر ميسر باديس إلى زناته
في هذه السنة منتصف صفر أمر باديس بن المنصور صاحب أفريقية نائبه محمد بن أبي العرب بالتجهز والاستكثار من العساكر والعدد والميسر إلى زناته.
وسبب ذلك أن عمه يطوفت كتب إليه يعلمه أن زيري بن عطية الملقب بالقرطاس وقد تقدم ذكره نزل عليه بتاهرت محاربا.
فأمر محمدا بالتجهز إليه فسار في عساكر كثيرة حتى وصل إلى أشير وبها حماد بن يوسف عم باديس كان قد أقطعه إياها باديس فرحل حماد معه فوصل إلى تاهرت واجتمعا بيطوفت وبينهم وبين زيري بن عطية مرحلتان، فزحفوا إليه فكانت بينهما حروب عظيمة.
وكان أكثر عسكر حماد يكرهونه لقلة عطائه، فلما اشتد القتال انهزموا فتبعهم جميع العسكر فأراد محمد بن أبي العرب أن يرد الناس فلم يقدر على ذلك وتمت الهزيمة، وملك زيري بن عطية مالهم وعددهم ورجعت العساكر إلى أشير.
وبلغ خبر الهزيمة إلى باديس فرحل، فلما قارب طبنة بعث في طلب فلفل بن سعيد فخاف فأرسل يتعذر إليه وطلب عهدا بإقطاع مدينة طبنة فكتب له وسار باديس، فلما أبعد قصد فلفل مدينة طبنة وغلب على ما حولها، وقصد باغية فحصرها وباديس سائر إلى أشير. فلما سمع زيري بن عطية بأنه قد قرب منه رحل إلى تاهرت فقصده باديس فسار زيري إلى العرب.
فلما سمع باديس برحيله استعمل عمه يطوفت على أشير و أعطاه
152
أموالا وعددا، وعاد إلى أشير فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد فأرسل إليه العساكر وبقي يطوفت على أشير وأعطاه أموالا وعددا وعاد إلى أشير فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد
فأرسل إليه العساكر وبقي يطوفت ومعه أعمامه وأولاد أعمامه، فلما أبعد عنهم باديس عصوا وخالفوا عليه منهم ماكسن وزاوي وغيرهما، وقبضوا على يطوفت و أخذوا جميع ما معه من المال فهرب من أيديهم وعاد إلى باديس.
وأما فلفل بن سعيد فإنه لما وصل إليه العسكر المسيرة إلى قتاله لقيهم وقاتلهم وهزمهم وقتل فيهم وسار يطلب القيروان فسار عند ذلك باديس إلى باغاية فلقيه أهلها فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل وأنه حصرهم خمسة وأربعين يوما فشكرهم ووعدهم الإحسان وسار يطلب فلفلا فوصل إلى مرمجنة وسار فلفل إليه في جمع كثير من البربر وزناتة ومعه كل من في نفسه حقد على باديس وأهل بيته فالتقوا بوادي أغلان، وكان بينهم حرب عظيمة لم يسمع بمثلها وطال القتال بينهم وصبر الفريقان ثم أنزل الله نصره على باديس وصنهاجة وانهزم البربر وزناتة هزيمة قبيحة وانهزم فلفل فأبعد في الهزيمة وقتل من زويلة تسعة آلاف قتيل سوى من قتل من البربر وعاد باديس إلى قصره وفرح أهل القيروان لأنهم خافوا أن يأتيهم فلفل.
ثم إن عمومة باديس اتصلوا بفلفل وصاروا معه على باديس، فلما سمع باديس بذلك سار إليهم، فلما وصل قصر الأفريقي وصله أن عمومته فارقوا فلفلا ولم يبق معه سوى ماكسن بن زيري وذلك أول سنة تسعين وثلاثمائة.
153
ذكر ملك الحاكم طرابلس الغرب وعودها إلى باديس
كان لباديس نائب بطرابلس الغرب فكاتب الحاكم بأمر الله بمصر وطلب أن يسلم إليه طرابلس ويلتحق به فأرسل إليه الحاكم يأنس الصقلي وكان خصيصا بالحاكم وهو المتولي لبلاد برقة فوصل يأنس وتسلم طرابلس وأقام بها وذلك سنة تسعين [وثلاثمائة].
فأرسل باديس إلى يأنس يسأله عن سبب وصوله إلى طرابلس وقال له إن كان الحاكم استعملك عليها فأرسل العهد لأقف عليه فقال يأنس إنما أرسلني معينا ونجدة إن احتيج إلي ومثلي لا يطلب منه عهدا بولاية لمحلي من دولة الحاكم. فسير إليه جيشا فلقيهم يأنس خارج طرابلس فقتل في المعركة وانهزم أصحابه ودخلوا طرابلس فتحصنوا بها.
وكان قد قتل منهم في المعركة كثير، ونزل عليهم الجيش وحصرهم وأرسلوا إلى الحاكم يستمدونه فجهز جيشا عليهم يحيى بن علي الأندلسي وسيرهم إلى طرابلس وأطلق لهم مالا على برقة فلم يجد يحيى فيها مالا فاختلفت حاله، فسار إلى فلفل وكان قد دخل إلى طرابلس واستولى عليها فأقام معه فيها واستوطنها من ذلك الوقت. وسنذكر باقي خبرهم سنة ثلاث وتسعين [وثلاثمائة].
وفي سنة إحدى وتسعين [وثلاثمائة] سار ماكسن بن زيري عم أبي باديس إلى أشير وبهاء ابن أخيه حماد بن يوسف بلكين فكان بينهما
154
حرب شديدة قتل فيها ماكسن وأولاده محسن وباديس وحباسة، وتوفي زيري بن عطية بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة عاشر ربيع الأول انقض كوكب عظيم ضحوة نهار.
وفيها عمل أهل باب البصرة يوم لسادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحا كثيرا وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب وتعلق الثياب للزينة اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء من المأتم والنوح وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك بعد يوم الغدير بثمانية أيام مثلهم وقالوا هو يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه الغار، وعملوا بعدة عاشورا بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء وقالوا هو يوم قتل مصعب بن الزبير.
وتوفي هذه السنة أحمد بن محمد بن عيسى أبو محمد السرخسي المقري الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي إسحاق المروزي وله رواية للحديث أيضا، وكان شيخ خراسان في زمانه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد والأدب على ابن الأنباري، ومات وله ست وتسعون سنة وعبد الله بن محمد بن إسحاق بن سليمان أبو القاسم البزاز، المعروف بابن حبابة وكان شيخ الحنابلة في زمانه.
155
390
ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة
ذكر خروج إسماعيل بن نوح وما جرى له بخراسان
في هذه السنة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان قد حبسه ايلك الخان لما ملك بخارى مع جماعة من أهله.
وسبب خلاصه أنه كان تأتيه جارية تخدمه وتتعرف أحواله فلبس ما كان عليها وخرج فظنه الموكلون الجارية، فلما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، فلما سكن الطلب عنه سار من بخارى إلى خوارزم وتلقب المنتصر واجتمع إليه بقايا القواد السامانية والأجناد فكثف جمعه وسير قائدا من أصحابه في عسكر إلى بخارى فبيت من بها من أصحاب ايلك الخان فهزمهم وقتل منهم، وكبس جماعة من أعيانهم مثل جعفر تكين وغيره وتبع المنهزمين نحو ايلك الخان إلى حدود سمرقند فلقي هناك عسكرا جرارا جعلهم ايلك الخان يحفظون سمرقند، فانضاف إليهم المنهزمون ولقوا عسكر المنتصر فانهزم أيضا عسكر ايلك الخان وتبعهم المنتصر فغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم بها وعادوا إلى بخارى فاستبشر أهلها بعود السامانية.
ثم إن ايلك جمع الترك وقصد بخارى فانحاز من بها من السامانية
156
وعبروا النهر إلى آمل الشط فضاقت عليهم فساروا هم والمنتصر نحو أبيورد فملكها وجبوا أموالها، وساروا نحو نيسابور وبها منصور بن سبكتكين نائبا عن أخيه محمود فالتقوا قريب نيسابور في ربيع الآخر فاقتتلوا فانهزم منصور وأصحابه وقصدوا هراة، وملك المنتصر نيسابور وكثر جمعه، وبلغ يمين الدولة الخبر فسار مجدا نحو نيسابور، فلما قاربها سار عنها المنتصر إلى أسفراين فلما أزعجه الطلب سار نحو شمس المعالي قابوس بن وشمكير ملتجئا إليه ومتكثرا به، فأكرم مورده وحمل إليه شيئا كثيرا، وأشار على المنتصر بقصد الري إذ كانت ليس بهما من يذب عنها لاشتغال أصحابها باختلافهم ووعده بأن ينجده بعسكر جرار مع أولاده فقبل مشورته وسار نحو الري فنازلها فضعف من بها عن مقاومته إلا أنهم حفظوا البلد منه ودسوا إلى أعيان عسكره كأبي القاسم بن سيمجور وغيره وبذلوا لهم الأموال ليردوه عنهم ففعلوا ذلك، وصغروا أمر الري عنده وحسنوا له العود إلى خراسان فسار نحو الدامغان وعاد عنه عسكر قابوس.
ووصل المنتصر إلى نيسابور في آخر شوال سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة فجبى له الأموال بها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشا فلقوه فانهزم المنتصر، وسار نحو أبيورد وقصد جرجان فرده شمس المعالي عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها فسار إليه منصور بن سبكتكين من نيسابور فالتقوا بظاهر سرخس واقتتلوا، فانهزم المنتصر وأصحابه و أسر أبو القاسم علي بن محمد بن سيمجور وجماعة من أعيان عسكره وحملوا إلى المنصور،
157
فسيرهم إلى غزنة وذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين [وثلاثمائة].
وسار المنتصر تائها حتى وافى الأتراك الغزية ولهم ميل إلى آل سامان فحركتهم الحمية واجتمعوا معه وسار بهم نحو ايلك الخان وكان ذلك في شوال سنة ثلاث وتسعين [وثلاثمائة]، فلقيهم ايلك بنواحي سمرقند فهزموه واستولوا على أمواله وسواده وأسروا جماعة من قواده وعادوا إلى أوطانهم واجتمعوا على إطلاق الأسرى تقربا إلى ايلك الخان بذلك، فعلم المنتصر فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم وسار بهم فعبر النهر ونزل بآمل الشط فلم يقبله مكان وكلما قصد مكانا رده أهله خوفا من معرته فعاد وعبر النهر إلى بخارى وطلب واليها لايلك الخان فلقيه واقتتلوا، فانهزم المنتصر إلى دبوسية وجمع بها، ثم عاودهم فهزمهم وخرج إليه خلق كثير من فتيان سمرقند وصاروا في جملته وحمل له أهلها مالا وغيره والآلات والثياب والدواب وغير ذلك.
فلما سمع ايلك الخان بحاله جمع الأتراك وسار إليه في قضه وقضيضه والتقوا بنواحي سمرقند واشتدت الحرب بينهم فانهزم ايلك الخان وكان ذلك في شعبان سنة أربع وتسعين [وثلاثمائة] وغنموا أمواله ودوابه. وعاد ايلك الخان إلى بلاد الترك فجمع وحشد وعاد إلى المنتصر، فوافق عوده تراجع الغزية الذين كانوا مع المنتصر إلى أوطانهم، وقد زحف جمعه فاقتتلوا بنواحي أسروشنة فانهزم المنتصر وأكثر الترك في أصحابه القتل.
وسار المنتصر منهزما حتى عبر النهر وسار إلى الجوزجان فنهب أموالها وسار يطلب مرو فسير يمين الدولة العساكر ففارق مكانه وسار وهم في أثره حتى أتى بسطام فأرسل إليه قابوس عسكرا أزعجه عنها، فلما
158
ضاقت عليه المذاهب عاد إلى ما وراء النهر فعبر أصحابه وقد ضجروا وسئموا من السهر والتعب والخوف ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب ايلك الخان فأعلموهم بمكانه فلم يشعر المنتصر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب فطاردهم ساعة ثم ولاهم الدبر وسار فنزل بحلة من العرب في طاعة يمين الدولة وكان يمين الدولة قد أوصاهم بطلبه، فلما رأوه أمهلوه حتى أظلم الليل ثم وثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمة أمره، وإنما أوردت حادثة هذه السنة لترد متتابعة فلو تفرقت في السنين لم تعلم على هذه الصورة لقتلها.
ذكر محاصرة يمين الدولة سجستان
في هذه السنة سار يمين الدولة إلى سجستان وصاحبها خلف بن أحمد فحصره بها.
وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما اشتغل بالحروب التي ذكرناها سير خلف بن أحمد ابنه طاهرا إلى قهستان فملكها ثم سار منها إلى بوشنج فملكها وكانت هي وهراة لبغراجق عم يمين الدولة فلما فرغ يمين الدولة من تلك الحروب استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف من ولايته فأذن له في ذلك فسار إليه فلقيه طاهر بنواحي بوشنج فاقتتلوا، فانهزم
159
طاهر ولج بغراجق في طلبه فعطف عليه طاهر فقتله ونزل إليه وأخذ رأسه.
فلما سمع يمين الدولة بقتل عمه عظم عليه وكبر لديه وجمع عساكره وسار نحو خلف بن أحمد فتحصن منه خلف بحصن أصبهبذ وهو حصن يناطح النجوم علوا وارتفاعا فحصره فيه وضيق عليه فذل وخضع وبذل أموالا جليلة لينفس عن خناقه فأجابه يمين الدولة إلى ذلك وأخذ رهنه على المال.
ذكر قتل ابن بختيار بكرمان
واستيلاء بهاء الدولة عليها
في هذه السنة في جمادي الآخرة قتل الأمير أبو نصر بن بختيار الذي كان قد استولى على بلاد فارس.
وسبب قتله أنه لما انهزم من عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الديلم وكاتب الديلم بفارس وكرمان من هناك يستميلهم.
وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس واجتمع عليه جمع كثير من الزط والديلم والأتراك وتردد في تلك النواحي.
ثم سار إلى كرمان فلم يقبله الديلم الذين بها وكان المقدم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجمع وقصد أبا جعفر فالتقيا فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وملك أكثر كرمان فعظم الأمر على بهاء الدولة فسير إليه الموفق علي بن إسماعيل في جيش كثير،
160
وسار مجدا حتى أطل على جيرفت فاستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها فأنكر عليه من معه من القواد سرعة سيره وخوفوه عاقبة ذلك فلم يصغ إليهم وسأل عن حال ابن بختيار فأخبر بأنه على ثمانية فراسخ من جيرفت فاختار ثلاثمائة رجل من شجعان أصحابه وسار بهم وترك الباقين مع السواد بجيرفت.
فلما بلغ ذلك المكان لم يجده ودل عليه فلم يزل يتبعه من منزل إلى منزل حتى لحقه بدارزين فسار ليلا وقدر وصوله إليه عند الصبح فأدركه. فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالا شديدا وسار الموفق في نفر من غلمانه فأتى ابن بختيار من ورائه فانهزم ابن بختيار وأصحابه ووضع فيهم السيف فقتل منهم الخلق الكثير فغدر بابن بختيار بعض أصحابه وضربه بلت فألقاه وعاد إلى الموفق ليخبره بقتله فأرسل معه من ينظر إليه فرآه وقد قتله غيره وحمل رأسه إلى الموفق.
وأكثر الموفق القتل في أصحاب ابن بختيار واستولى على بلاد كرمان واستعمل عليها أبا موسى سياهجيل وعاد إلى بهاء الدولة، فخرج بنفسه ولقيه وأكرمه وعظمه ثم قبض عليه بعد أيام.
ومن أعجب ما يذكر أن الموفق أخبره منجم أنه يقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلما كان قبل الاثنين بخمسة أيام قال للمنجم قد بقي خمسة أيام وليس لنا علم به فقال له المنجم إن لم تقتله فاقتلني عوضه وإلا فأحسن إلي فلما كان يوم الاثنين أدركه وقتله وأحسن إلى المنجم إحسانا كثيرا.
161
ذكر القبض على الموفق أبي علي بن إسماعيل
قد ذكرنا ميسره إلى قتال ابن بختيار، فلما عاد أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه فاستعفى الموفق من الخدمة فلم يعفه بهاء الدولة، فألح كل واحد منهما فأشار أبو محمد بن مكرم على الموفق بترك ذلك فلم يقبل فقبض عليه بهاء الدولة و أخذ أمواله، وكتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفق فعرفهم ذلك سرا فاحتالوا لنفوسهم وهربوا واستعمل بهاء الدولة أبا محمد بن مكرم على عمان ثم ان بهاء الدولة قتل الموفق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة استعمل بهاء الدولة أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز على خوزستان وكانت قد فسدت أحوالها بولاية أبي جعفر الحجاج لها ومصادرته لأهلها فعمرها أبو علي ولقبه بهاء الدولة عميد الجيوش وحمل إلى بهاء الدولة منها أموالا جليلة مع حسن سيرة في أهلها وعدل.
وفيها ظهر في سجستان معدن الذهب فكانوا يحفرون التراب ويخرجون منه الذهب الأحمر.
وفيها توفي الشريف أبو الحسن محمد بن عمر العلوي ودفن بالكرخ،
162
وعمره خمس وسبعون سنة وهو مشهور بكثرة المال والعقار والقاضي أبو الحسن ابن قاضي القضاة أبي محمد بن معروف و القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا المعروف بابن طراز الجريري بفتح الجيم منسوب إلى محمد بن جرير الطبري لأنه كان يتفقه على مذهبه وكان عالما بفنون العلوم كثير الرواية والتصنيف فيها.
163
391
ثم دخلت سنة احدى وتسعين وثلاثمائة
ذكر قتل المقلد وولاية ابنه قرواش
في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك.
وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منهم فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين فخافوه على نفوسهم.
فاغتنم بعضهم غفلته وقتله بالأنبار وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد و أراد التغلب على الملك فأتاه الله من حيث لا يشعر.
ولما قتل كان ولده الأكبر قرواش غائبا وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند فراسل أبا منصور بن قراد اللديد وكان بالسندية فاستدعاه إليه وقال له: أنا أجعل بينك وبين قرواش عهدا وأزوجه ابنتك وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد.
و أرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده.
ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشا إليهم وما
164
صنع مع قراد فقالوا له خوفه منك حمله على ذلك فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله فإذا لقي بعضهم بعضا عادوا جميعا على قراد فأخذوه، فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله.
فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه وعاد قرواش إلى بيت قراد فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها، وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة عندها وقعة عظيمة فساروا بعدها إلى الشام فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر البيعة لولي العهد
في هذه السنة في ربيع الأول أمر القادر بالله بالبيعة لولده أبي الفضل بولاية العهد وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم بذلك ولقبه الغالب بالله.
وكان سبب البيعة له أن عبد الله بن عثمان الواثقي من ولد الواثق بالله أمير المؤمنين كان من أهل نصيبين فقصد بغداد ثم سار عنها إلى خراسان وعبر النهر إلى هارون بن
ايلك بغراخاقان وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمي وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقي فإنه ولي عهد،
165
فأجابه خاقان إلى ذلك وبايع له وخطب له ببلاده ونفق عليه. فبلغ ذلك القادر بالله فعظم عليه وراسل خاقان في معناه فلم يصغ إلى رسالته.
فلما توفي هارون خاقان وولي بعده أحمد قراخاقان كاتبه الخليفة في معناه فأمر بإبعاده فحينئذ بايع الخليفة لولده بولاية العهد.
وأما الواثقي فإنه خرج من عند أحمد قراخاقان وقصد بغداد فعرف بها وطلب فهرب منها إلى البصرة ثم إلى فارس وكرمان ثم إلى بلاد الترك فلم يتم له ما أراده وراسل الخليفة الملوك يطلبه فضاقت عليه الأرض وسار إلى خوارزم وأقام بها ثم فارقها فأخذ يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه في قلعة إلى أن توفي بها.
ذكر استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنها
في هذه السنة سار طاهر بن خلف بت أحمد صاحب سجستان إلى كرمان طالبا ملكها.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد خرج عن طاعة أبيه وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه، ففارق سجستان وسار إلى كرمان وبها عسكر بهاء الدولة وهي له على ما ذكرناه فاجتمع من بها من العساكر إلى المقدم عليه ومتولي أمر البلد وهو أبو موسى سياهجيل فقالوا له إن هذا الرجل قد وصل وهو ضعيف والرأي أن تبادره قبل أن يقوى أمره
166
ويكثر جمعه فلم يفعل واستهان به فكثر جمع طاهر وصعد إلى الجبال وبها قوم من العصاة على السلطان فاحتمى بهم وقوي فنزل إلى جيرفت فملكها وملك غيرها وقوي طمعه في الباقي.
فقصده أبو موسى والديلم فهزمهم وأخذ بعض ما بقي بأيديهم فكاتبوا بهاء الدولة فسير إليهم جيشا عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز فسار إلى كرمان وقصد بم وبها طاهر فجرى بين طلائع العسكرين حرب وعاد طاهر إلى سجستان وفارق كرمان.
فلما بلغ سجستان أطلق المأسورين ودعاهم إلى قتال أبيه معه وحلف لهم أنهم إذا نصروه وقاتلوا معه أطلقهم ففعلوا ذلك، وقاتل أباه فهزمه، وملك طاهر البلاد ودخل أبوه إلى حصن له منيع فاحتمى به.
وأحب الناس طاهرا لحسن سيرته وسوء سيرة والده وأطلق طاهر الديلم، ثم إن أباه راسل أصحابه ليفسدهم عليه فلم يفعلوا فعدل إلى مخادعته وراسله يظهر له الندم على ما كان منه ويستميله بأنه ليس له ولد غيره وأنه يخاف أن يموت فيملك بلاده غير ولده ثم استدعاه إليه جريدة ليجتمع به ويعرفه أحواله فتواعدا تحت قلعة خلف، فأتاه ابنه جريدة ونزل هو إليه كذلك، وكان قد كمن بالقرب منه كمينا فلما لقيه اعتنقه وبكى خلف وصاح في بكائه فخرج الكمين وأسروا طاهر فقتله أبوه بيده وغسله ودفنه ولم يكن له ولد غيره.
فلما قتل طمع الناس في خلف لأنهم كانوا يخافون ابنه لشهامته، وقصده حينئذ محمود بن سبكتكين فملك بلاده على ما نذكره وأما العتبي فذكر في سبب فتحها غير هذا وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
167
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ثار الأتراك ببغداد بنائب السلطان وهو أبو نصر سابور فهرب منهم ووقعت الفتنة بين الأتراك و العامة من أهل الكرخ و قتل بينهم قتلى كثيرة، ثم إن أهل السنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ فضعفوا على الجميع فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة.
وفيها ولد الأمير أبو جعفر عبد الله بن القادر وهو القائم بأمر الله.
وفيها في ربيع الأول توفي أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى وكان فاضلا [عالما] بعلوم الإسلام و بالمنطق وكان يجلس للتحدث وروى الناس عنه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن الجزري وكان على مذهب داود الظاهري وكان يصحب عضد الدولة قديما.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر بطريق النيل وحمل إلى بغداد وديوانه مشهور.
وفيها توفي بكران بن أبي الفوارس خال الملك جلال الدولة بواسط.
وفيها توفي جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المعروف بابن حنزابة الوزير ومولده سنة ثمان وثلاثمائة وكان سار إلى مصر فولي وزارة كافور وروى حديثا كثيرا.
168
392
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة
ذكر وقعة ليمين الدولة بالهند
في هذه السنة أوقع يمين الدولة محمود بن سبكتكين بجيبال ملك الهند وقعة عظيمة.
وسبب ذلك أنه لما اشتغل بأمر خراسان وملكها وفرغ منها ومن قتال خلف بن أحمد وخلا وجهه من ذلك أحب أن يغزو الهند غزوة تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين، فثنى عنانه نحو تلك البلاد فنزل على مدينة برشور فأتاه عدو الله جيبال ملك الهند في عساكر كثيرة، فاختار يمين الدولة من عساكره والمطوعة خمسة عشر ألفا وسار نحوه فالتقوا في المحرم من هذه السنة، فاقتتلوا وصبر الفريقان.
فلما انتصف النهار انهزم الهند وقتل فيهم مقاتلة عظيمة وأسر جيبال ومعه جماعة كثيرة من أهله وعشيرته وغنم المسلمون منهم أموالا جليلة وجواهر نفيسة وأخذ من عنق عدو الله جيبال قلادة من الجوهر العديم النظير قومت بمائتي ألف دينار وأصيب أمثالها في أعناق مقدمي الأسرى،
169
وغنموا خمسمائة الف رأس من العبيد وفتح من بلاد الهند بلادا كثيرة، فلما فرغ من غزواته أحب أن يطلق جيبال ليراه الهنود في شعار الذل فأطلقه بمال عليه فأدى المال.
ومن عادة الهند أنهم من حصل منهم في أيدي المسلمين أسيرا لم ينعقد له بعدها رياسة فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصة حلق رأسه ثم ألقى نفسه في النار فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة.
ذكر غزوة أخرى إلى الهند أيضا
فلما فرغ يمين الدولة من أمر جيبال رأى أن يغزو غزوة أخرى فسار نحو ويهند فأقام عليها محاصرا لها حتى فتحها قهرا.
وبلغه أن جماعة من الهند قد اجتمعوا بشعاب تلك الجبال عازمين على الفساد والعناد فسير إليهم طائفة من عسكره فأوقعوا بهم وأكثروا القتل فيهم ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد وعاد غزنة سالما ظافرا.
ذكر الحرب بين قرواش وعسكر بهاء الدولة
في هذه السنة سير قرواش بن المقلد جمعا من عقيل إلى المدائن فحصروها فسير إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشا فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي بأكرم في رمضان فانهزمت الديلم والأتراك وأسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم.
170
فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد فالتقوا بنواحي الكوفة واشتد القتال بينهم فانهزمت عقيل وابن مزيد وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضا فنهبت الحلل والبيوت والأموال ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.
ولما سار أبو جعفر عن بغداد اختلت الأحوال بها وعاد أمر العيارين ظهر واشتد الفاسد وقتلت النفوس ونهبت الأموال وأحرقت المساكن، فبلغ ذلك بهاء الدولة فسير إلى العراق لحفظه أبا علي بن أبي جعفر المعروف بأستاذ هرمز ولقبه عميد الجيوش، وأرسل إلى أبي جعفر الحجاج وطيب قلبه ووصل أبو علي إلى بغداد فأقام السياسة ومنع المفسدين فسكنت الفتنة وأمن الناس.
وفيها توفي محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق صاحب الأصول.
171
393
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة
ذكر ملك يمين الدولة سجستان
في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان وانتزعها من يد خلف بن أحمد.
قال العتبي وكان سبب أخذها أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد أن صالحه كما تقدم سنة تسعين [وثلاثمائة]، عهد خلف إلى ولده طاهر وسلم إليه مملكته وانعكف هو على العبادة والعلم وكان عالما فاضلا محبا للعلماء، وكان قصده أن يوهم يمين الدولة أنه ترك الملك وأقبل على طلب الآخرة ليقطع طمعه عن بلاده.
فلما استقر في الملك عق أباه وأهمل أمره فلاطفه أبوه ورفق به، ثم إنه تمارض في حصنه المذكور واستدعى ولده ليوصي إليه فحضر عنده غير محتاط ونسي إساءته فلما صار عنده قبض عليه وسجنه وبقي في السجن إلى أن مات فيه وأظهر عنه أنه قتل نفسه.
ولما سمع عسكر خلف وصاحب جيشه بذلك تغيرت نياتهم في طاعته وكرهوه وامتنعوا عليه في مدينته، وأظهروا طاعة يمين الدولة وخطبوا له وأرسلوا إليه يطلبون من يتسلم المدينة ففعل وملكها واحتوى عليها
172
في هذه السنة وعزم على قصد خلف وأخذ ما بيده والاستراحة من مكره. فسار إليه وهو في حصن الطاق وله سبعة أسوار محكمة يحيط بها خندق عميق عريض لا يخاض إلا من طريق على جسر يرفع عند الخوف فنازله وضايقه فلم يصل إليه.
فأمر بطم الخندق ليمكن العبور إليه فقطعت الأخشاب وطم بها وبالتراب في يوم واحد مكانا يعبرون فيه ويقاتلون منه.
وزحف الناس ومعهم الفيول واشتدت الحرب وعظم الأمر، وتقدم أعظم الفيول إلى باب السور فاقتلعه بنابيه وألقاه وملكه أصحاب يمين الدولة وتأخر أصحاب خلف إلى السور الثاني فلم يزل أصحاب يمين الدولة يدفعونهم عن سور سور، فلما رأى خلف اشتداد الحرب وأن أسواره تملك عليه وأن أصحابه قد عجزوا وأن الفيلة تحطم الناس طار قلبه خوفا وفرقا، فأرسل يطلب الأمان فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب وكف عنه، فلما حضر عنده أكرمه واحترمه وأمره بالمقام في أي البلاد شاء فاختار أرض الجوزجان فسير إليهما في هيئة حسنة فأقام بها نحو أربع سنين.
ونقل إلى يمين الدولة عنه أنه يراسل ايلك الخان يغريه بقصد يمين الدولة فنقله جردين واحتاط عليه هنالك إلى أن أدركه في رجب سنة تسع وتسعين [وثلاثمائة]، فسلم يمين الدولة جميع ما خلفه إلى ولده أبي حفص. وكان خلف مشهورا بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب.
173
ذكر الحرب بين عميد الجيوش
أبي علي وبين أبي جعفر الحجاج
في هذه السنة كانت الحرب بين أبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز وبين أبي جعفر الحجاج.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نائبا عن بهاء الدولة بالعراق فجمع وغزا واستناب بعد عميد الجيوش أبا علب فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة ولم يستقر بينه وبين أبي علي صلح.
وكان أبو جعفر قد جمع جمعا من الديلم والأتراك وخفاجة فجمع أبو علي أيضا جمعا كثرا وسار إليه والتقوا بنواحي النعمانية فاقتتلوا قتالا عظيما وأرسل أبو علي بعض عسكره فأتوا أبا جعفر من وراءه فانهزم أبو جعفر ومضى منهزما.
فلما أمن أبو علي سار من العراق بعد الهزيمة إلى خوزستان وبلغ السوس، وأتاه الخبر أن أبا جعفر قد عاد إلى الكوفة فرجع إلى العراق وجرى بينه وبين أبي جعفر منازعات ومراجعات إلى أن آل الأمر إلى الحرب فاستنجد كل واحد منهم بني عقيل وبني خفاجة وبني أسد، فينما هم كذلك أرسل بهاء الدولة إلى عميد الجيوش أبي علي يستدعيه فسار إليه إلى خوزستان لأجل أبي العباس واصل صاحب البطيحة.
174
ذكر عصيان سجستان وفتحها ثانية
لما ملك يمين الدولة سجستان عاد عنها واستخلف عليها أميرا كبيرا من أصحابه، يعرف بقنجى الحاجب، فأحسن السيرة من أهلها.
ثم إن طوائف من أهل العيث والفساد قدموا عليهم رجلا يجمعهم وخالفوا على السلطان، فسار إليهم يمين الدولة وحصرهم في حصن أرك ونشبت الحرب في ذي الحجة في هذه السنة، فظهر عليهم وظفر بهم وملك حصنهم وأكثر القتل فيهم وانهزم في آثارهم من يطلبهم فأدركوهم فأكثروا القتل فيهم حتى خلت سجستان منهم وصفت له واستقر ملكها عليه فأقطعها أخاه نصرا مضافة إلى نيسابور.
ذكر وفاة الطائع لله
في هذه السنة في شوال منها توفي الطائع لله المخلوع ابن المطيع لله وحضر الأشراف والقضاة وغيرهم دار الخلافة للصلاة عليه والتعزية، وصلى عليه القادر بالله وكبر عليه خمسا، وتكلمت العامة في ذلك فقيل إن هذا مما يفعل بالخلفاء وشيع جنازته ابن حاجب النعمان ورثاه الشريف الرضي فقال:
(ما بعد يومك ما يسلو به السالي * ومثل يومك لم يخطر على بالي)
وهي طويلة.
175
ذكر وفاة المنصور بن أبي عامر
في هذه السنة توفي أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري الملقب بالمنصور أمير الأندلس مع المؤيد هشام بن الحاكم وقد تقدم ذكره عند ذكر المؤيد وكان أصله من الجزيرة الخضراء من بيت مشهور بها وقدم قرطبة طالبا للعلم وكانت له همة فتعلق بوالدة المؤيد في حياة أبيه المستنصر.
فلما ولي هشام كان صغيرا فتكفل المنصور لوالدته القيام بأمره وإخماد الفتن الثائرة عليه وإقرار الملك عليه فولته أمره وكان شهما شجاعا قوي النفس حسن التدبير فاستمال العساكر وأحسن إليهم فقوي أمره وتلقب بالمنصور، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم وسكنت البلاد معه فلم يضطرب منها شيء.
وكان عالما محبا للعلماء يكثر مجالستهم ويناظرهم و قد أكثر العلماء ذكر مناقبه وصنفوا لها تصانيف كثيرة، ولما مرض كان متوجها إلة الغزو فلم يرجع ودخل بلاد العدو فنال منهم وعاد وهو مثقل فتوفي بمدينة سالم، وكان قد جمع الغبار الذي وقع على درعه في غزواته شيئا صالحا، فأمر أن يجعل في كفنه تبركا به.
وكان حسن الاعتقاد والسيرة عادلا كانت أيامه أعيادا لنضارتها وأمن الناس فيها رحمه الله. وله شعر جيد وكانت أمه تميمية.
ولما مات ولي بعده ابنه المظفر أبو مروان عبد الملك فجرى مجرى أبيه.
176
ذكر محاصرة فلفل مدينة قابس وما كان منه
في هذه السنة سار يحيى بن علي الأندلسي وفلفل من طرابلس إلى مدينة قابس من عسكر كثير فحصروها ثم رجعوا إلى طرابلس. ولما رأى يحيى بن علي ما هو عليه من قلة المال واختلال حاله وسوء مجاورة فلفل وأصحابه له رجع إلى مصر إلى الحاكم بعد أن أخذ فلفل وأصحابه خيولهم وما اختاروه من عددهم بين الشراء والغضب، فأراد الحاكم قتله ثم عفا عنه.
وأقام فلفل بطرابلس إلى سنة أربعمائة فمرض وتوفي وولي أخوه ورو فأطاعته زناتة واستقام أمره، فرحل باديس إلة طرابلس لحرب زناتة، فلما بلغهم رحيله فارقوها وملكها باديس ففر أهلها، وأرسلوا ورو أخو فلفل إلى باديس يطلب أن يكون هو ومن معه من زناتة في أمانه ويدخلون في طاعته ويجعلهم عمالا كسائر عماله فأمنهم وأحسن إليهم وأعطاهم نفزاوة وقسطيلة على أن يرحلوا من أعمال طرابلس ففعلوا ذلك.
ثم إن خزرون بن سعيد أخا ورو جاء إلى باديس ودخل في طاعته وفارق أخاه فأكرمه باديس وأحسن إليه، ثم إن أخاه خالف على باديس وسار إلى طرابلس فحصرها وسار إليه خزرون لمنعه عن حصارها وكان ذلك سنة ثلاث وأربعمائة.
177
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في رمضان طلع كوكب كبير له ذؤابة؛ وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضا كضوء القمر عند تمامه وانمحق نوره وبقي جرمه يتموج.
وفيها اشتدت الفتنة ببغداد وانتشر العيارون والمفسدون فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره فوصل إلى بغداد فزينت له وقمع المفسدين ومنع السنية والشيعة من إظهار مذاهبهم ونفي بعد ذلك ابن المعلم فقيه الإمامية فاستقام البلد.
وفيها في ذي الحجة ولد الأمير أبو علي الحسن بن بهاء الدولة وهو الذي ملك الأمر وتلقب بمشرف الدولة.
وفيها هرب الوزير أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه من الري إلي بدر بن حسنويه فأكرمه وقام بالوزارة بعده الخطير أبو علي.
وفيا ولى الحاكم بأمر الله على دمشق وقيادة العساكر الشامية أبا محمد الأسود واسمه تمضولت فقدم إليها ونزل قصر الإمارة فأقام واليا عليها سنة وشهرين ومن أعماله فيها أنه أطاف إنسانا مغربيا وشهره ونادى عليه هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ثم أخرجه عنها.
178
وفيها توفي عثمان بن جني النحوي مصنف اللمع وغيرها ببغداد وله شعر بارز والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري وكان إماما فاضلا ذا فنون كثره والوليد بن بكر مخلد الأندلسي الفقيه المالكي وهو محدث مشهور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي الشاعر البغدادي ومن شعره يصف الدرع وهي هذه الأبيات:
(يا رب سابغة حبتني نعمة * كأفاتها بالسوء غير مفند)
(أضحت تصون عن المنايا مهجتي * وظللت أبذلها لكل مهند)
وله من أحسن المديح في عضد الدولة:
(وكنت وعزمي والظلام وصارمي * ثلاثة أشباح كما اجتمع النسر)
(وبشرت آمالي بملك هو الورى * ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر)
وقدم الموصل فاجتمع بالخالديين من الشعراء منهم أبو الفرج الببغاء وأبو الحسين التلعفري فامتحنوه وكان صبيا فبرز عند الامتحان.
وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الأديب الشاعر وكان فاضلا وتوفي بنيسابور.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن زكريا أبو طاهر المخلص المحدث المشهور وأول سماعه سنة اثنتين عشرة وثلاثمائة.
179
394
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة
ذكر استيلاء أبي العباس علي البطيحة
في هذه السنة في شعبان غلب أبو العباس بن واصل علي البطيحة وأخرج منها مهذب الدولة.
وكان ابتداء حال أبي العباس انه كان ينوب عن طاهر بن زيرك الحاجب في الجهبذة وارتفع معه، ثم أشفق منه ففارقه وسار إلى شيراز واتصل بخدمة فولاذ وتقدم عنده فلما قبض على فولاذ عاد أبو العباس إلى الأهواز بحال سيئة فخدم فيها.
ثم أصعد إلى بغداد فضاق الأمر عليه فخرج منها وخدم أبا محمد بن مكرم ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة فجرد معه عسكرا وسيره إلى حرب لشكرستان حين استولى على البصرة ومضى إلى سيراف وأخذ ما بها لأبي محمد بن مكرم من سفن ومال وأتى أسافل دجلة فغلب عليها وخلع طاعة مهذب الدولة.
فأرسل إليه مهذب الدولة مائة سميرية فيها مقاتله فغرق بعضها وأخذ أبو العباس ما بقي منها وعدل إلى الأبلة فهزم أبا سعد بن ماكولا وهو يصحب لشكرستان فانهزم أيضا لشكرستان من بين يديه واستولى ابن واصل
180
على البصرة ونزل دار الإمارة وأمن الديلم والأجناد.
وقصد لشكرستان مهذب الدولة فأعاده إلى قتال أبي العباس في جيش فلقيه أبو العباس وقاتله فانهزم لشكرستان وقتل كثير من رجاله واستولى أبو العباس على ثقله وأمواله وأصعد إلى البطيحة، وأرسل إلى مهذب الدولة يقول له قد هزمت جندك ودخلت بلدك فخذ لنفسك؛ فسار مهذب الدولة إلى بشامني وصار عند أبي شجاع فارس بن مردان وابنه صدقة فغدرا به وأخذا أمواله فاضطر إلى الهرب وسار إلى واسط فوصلها على أقبح صورة فخرج إليه أهلها فلقوه وأصعدت زوجته ابنه الملك بهاء الدولة إلى بغداد وأصعد مهذب الدولة إليها فلم يمكن من الوصول إليها.
وأما ابن واصل فإنه استولى على أموال مهذب الدولة وبلاده وكانت عظيمة ووكل بدار زوجته ابنة بهاء الدولة من يحرسها ثم جمع كل ما فيها وأرسله إلى أبيها واضطرب عليه أهل البطائح واختلفوا فسير سبعمائة فارس إلى الجازرة لإصلاحها فقاتلهم أهلها فظفروا بالعسكر وقتلوا فيهم كثيرا.
وانتشر الأمر على أبي العباس بن واصل فعاد إلى البصرة خوفا أن ينتشر الأمر عليه بها وترك البطائح شاغرة ليس فيها أحد يحفظها.
ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد فسار من فارس إلى الأهواز لتلاقي أمره وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد وجهز
181
معه عسكرا كثيفا وسيرهم إلى أبي العباس فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه من سفن وغيرها، وسار إلى البطائح وفرق جنده في البلاد لتقرير قواعدها.
وسمع أبو العباس بمسيره إليه فأصعد إليه من البصرة وأرسل يقول له ما أحوجك تتكلف الانحدار وقد أتيتك فخذ لنفسك.
ووصل إلى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه فلقيه فيمن معه بالصليق فانهزم عميد الجيوش ووقع من معه بعضهم على بعض ولقي عميد الجيوش شدة إلى أن وصل إلى واسط وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنه قد دفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم فأنفذ [من] أحضرها فقوي بها. ونذكر باقي خير البطائح سنة خمس وتسعين [وثلاثمائة].
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قلد بهاء الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي نقابة العلويين بالعراق وقضاء القضاة والحج والمظالم وكتب عهده بذلك من شيراز ولقب الطاهر ذا المناقب فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة وأمضى ما سواه.
وفيها خرج الأصيفر المنتفقي على الحاج وحصرهم بالبطانية وعزم على أخذهم، وكان فيهم أبو الحسن الرفاء وأبو عبد الله الدجاجي وكانا يقرأن القرآن بأصوات لم يسمع مثلها، فحضرا عند الأصيفر وقرأ القرآن فترك الحجاج وعاد وقال لهما قد تركت لكما ألف ألف دينار.
182
395
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة
ذكر عود مهذب الدولة إلى البطيحة
قد ذكرنا انهزام عميد الجيوش من أبي العباس بن واصل فلما انهزم أقام بواسط وجمع العساكر عازما على العود إلى البطائح وكان أبو العباس قد ترك بها نائبا له فلم يتمكن من المقام بها ففارقها إلى صاحبه، فأرسل عميد الجيوش إليها نائبا من أهل البطائح فعسف الناس وأخذ الأموال ولم يلتفت إلى عميد الجيوش، فأرسل إلى بغداد وأحضر مهذب الدولة وسير معه العساكر في السفن إلى البطيحة فلما وصلها لقيه أهل البلاد، وسروا بقدومه وسلموا إليه جميع الولايات واستقر عليه لبهاء الدولة كل سنة خمسون ألف دينار ولم يعرض إليه ابن واصل فاشتغل عنه بالتجهيز خوزستان وحفر نهرا إلى جانب النهر العضدي بين البصرة والأهواز وكثير ماؤه وكان قد اجتمع عنده كثير من الديلم وأنواع الأجناد.
ولما كثر ماله وذخائره و [ما] استولى عليه من البطيحة فقوي طمعه في الملك وسار هو وعسكره إلى الأهواز في ذي القعدة فجهز إليه بهاء الدولة جيشا في الماء فالتقوا بنهر السدرة فاقتتلوا، وخاتلهم أبو العباس وسار إلى الأهواز وتبعه من كان قد لقيه من العسكر، فالتقوا بظاهر الأهواز وانضاف إلى عسكر
183
بهاء الدولة العساكر التي بالأهواز، فاستظهر أبو العباس عليهم.
ورحل بهاء الدولة إلى قنطرة أربق عازما على المسير إلى فارس ودخل أبو العباس إلى دار المملكة وأخذ ما فيها من الأمتعة والأثاث المتخلف عن بهاء الدولة إلا أنه لم يمكنه المقام لأن بهاء الدولة كان قد جهز عسكرا ليسير في البحر إلى البصرة فخاف أبو العباس من ذلك وراسل بهاء الدولة وصالحه وزاد في أقطاعه وحلف كل واحد منهما لصاحبه وعاد إلى البصرة وحمل معه كل ما أخذ في دار بهاء الدولة ودور الأكابر و القواد والتجار.
ذكر غزوة بهاطية
في هذه السنة غزا يمين الدولة بهاطية من أعمال الهند وهي وراء المولتان وصاحبهما يعرف ببحيرا وهي مدينة حصينة عالية السور يحيط بها خندق عميق فامتنع صاحبها بها ثم إنه خرج إلى ظاهرها فقاتل المسلمين ثلاثة أيام ثم انهزم في الرابع وطلب المدينة ليدخلها هو وأصحابه فسبقهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليه وأخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم. فقتل المقاتلة وسبيت الذرية وأخذت الأموال.
184
وأما بحيرا فإنه لما عاين الهلاك أخذ جماعة من ثقاته وسار إلى رؤوس تلك الجبال، فسير إليه يمين الدولة سرية فلم يشعر لهم بحيرا إلا وقد أحاطوا به وحكموا السيوف في أصحابه فلما أيقن بالعطب أخذ خنجرا معه فقتل به نفسه، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أمرها ورتب قواعدها وعاد عنها إلى غزنة واستخلف بها من يعلم من أسلم من أهلها ما يجب عليهم تعليمه ولقي في عوده شدة شديدة من الأمطار وكثرتها وزيادة الأنهار فغرق منه ومن عسكره شيء عظيم.
ذكر عده حوادث
في هذه السنة كان بأفريقية غلاء شديد بحيث تعطلت المخابز والحمامات وهلكة الناس وذهبت الأموال من الأغنياء وكثر الوباء فكان يموت كل يوم ما بين خمسمائة إلى سبعمائة.
وفيها وصل قرواش وأبو جعفر الحجاج إلى الكوفة فقبضا على أبي علي عمر بن محمد بن عمر العلوي وأخذ منه قرواش مائة ألف دينار وحمله معه إلى الأنبار.
وفيها توفي إسحاق بن محمد بن حمدان بن محمد بن نوح أبو إبراهيم المهلبي.
وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن أبي إسماعيل العلوي الهمذاني الفقيه الشافعي رحمه الله تعالى.
185
396
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة
ذكر غزوة المولتان
في هذه السنة غزا السلطان يمين الدولة المولتان.
وكان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نقل عنه خبث اعتقاده ونسب إلى الإلحاد وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه فأجابوه فرأى يمين الدولة أن يجاهدوه ويستنزله عما هو عليه فسار نحوه فرأى الأنهار التي في طريقة كثيرة الزيادة عظيمة المد وخاصة سيحون، فإنه منع جانبه من العبور فأرسل إلى أندبال يطلب إليه أن يأذن له في العبور ببلاده إلى المولتان فلم يجبه إلى ذلك فابتدأ به قبل المولتان وقال نجمع بين غزوتين لأنه لا غزو إلا التعقيب؛ فدخل بلاده وجاسها وأكثر القتل فيها والنهب لأموال أهلها والإحراق لابنتيها ففر أندبال من بين يديه وهو في أثره كالشهاب في أثر الشيطان من مضيق إلى مضيق إلى أن وصل إلى قشمير.
ولما سمع أبو الفتوح يخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه فنقل أمواله إلى سرنديب وأخلى المولتان فوصل يمين الدولة إليهما ونازلها فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون فحصرهم وضيق عليهم وتابع القتال حتى افتتحها عنوة والزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبة لعصيانهم.
186
ذكر غزوة كواكير
ثم سار عنها إلى قلعة كواكير وكان صاحبها يعرف ببيدا وكان بها ستمائة صنم فافتتحها وأحرق الأصنام فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة بكالنجار فسار خلفه إليها وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان وفيه خمسمائة فيل وعشرون ألف دابة وفي الحصن ما يكفي الجميع مدة فلما قاربها يمين الدولة وبقي بينهما سبعة فراسخ رأى من الغياض المانعة من سلوك الطريق ما لا حد عليه فأمر بقطعها ورأى في الطريق واديا عظيم العمق بعيد العقر أمر أن يطم منه مقدارا ما يسع عشرين فارسا فطموه بالجلود المملوءة ترابا ووصل إلى القلعة فحصرها ثلاثا وأربعين يوما وراسله صاحبها في الصلح فلم يجبه.
ثم بلغه عن خراسان إختلاف بسبب قصد ايلك الخان لها فصالح ملك الهند على خمسمائة فيل وثلاثة آلاف من فضة، ولبس خلعة يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة فإنه اشتد عليه فلم يجبه يمين الدولة إلى ذلك، فشد المنطقة وقطع إصبعه الخنصر وأنفذها إلى يمين الدولة توثقه فيما يعتقدونه وعاد يمين الدولة إلى خراسان لإصلاح ما اختلف فيها وكان عازما على الوغول في بلاد الهند.
187
ذكر عبور عسكر ايلك الخان إلى خراسان
كان يمين الدولة لما استقر له ملك خراسان وملك ايلك الخان ما وراء النهر قد راسله ووافقه وتزوج ابنته وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة فلم تزل السعادة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم ايلك الخان ما في نفسه فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم ايلك الخان خلو خراسان فسير سباشي تكين صاحب جيشه في هذه السنة إلى خراسان في معظم جنده وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء.
وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميرا كان من أكابر أمرائه يقال له أرسلان الجاذب فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة وملك سباشي هراة وأقام بها وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها.
واتصلت الأخبار بيمين الدولة وهو بالهند فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار ولا يركن إلى قرار، فلما بلغها فرق في عساكره الأموال وقواهم وأصلح ما أراد إصلاحه واستمد الأتراك الخليجية فجاءه منهم خلق كثير وسار بهم نحو بلخ وبها جعفر تكين أخو ايلك الخان فعبر إلى ترمذ ونزل يمين الدولة ببلخ وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر فلقيه التركمان الغزية فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
188
ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه فتبعه عسكر يمين الدولة كلما رحل نزلوا حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان فعارضه يمين الدولة فمنعه عن مقصده وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده ونجا هو في خف من أصحابه فعبر النهر.
وكان ايلك الخان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي فلم يرجع، وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ فانهزم من كان بها مع حعفر تكين وسلمت خراسان ليمين الدولة.
ذكر الحرب بين عسكر بهاء الدولة والأكراد
في هذه السنة سير عميد الجيوش عسكرا إلى البندنيجين وجعل المقدم عليهم قائدا كبيرا من الديلم، فلما وصلوا إليها سار إليهم جمع كثير من الأكراد فاقتتلوا فانهزم الديلم وغنم الأكراد رحلهم ودوابهم وجرد المقدم عليهم من ثيابه فأخذ قميصا من رجل سوادي وعاد راجلا حافيا ولم يكن مقامهم غير أيام قليلة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين بالعراق ولقب بالرضي ذي الحسبين ولقب المرتضى ذا المجدين فعل ذلك بهاء الدولة.
189
وفيها توفي أبو أحمد عبد الرحيم بن علي بن المرزبان الأصبهاني قاضي خراسان وكان إليه أمر البيمارستان ببغداد.
وفيها مستهل شعبان طلع كوكب كبير يشبه الزهرة عن يسرة قبله العراق له شعاع على الأرض كشعاع القمر وبقي إلى منتصف ذي القعدة وغاب.
وفيها توفي أبو سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الإمام الفقيه الشافعي بجرجان في ربيع الآخر ومحمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة أبو عبد الله الحافظ الأصبهاني المشهور له التصانيف المعروفة.
190
397
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة
ذكر هزيمة ايلك الخان
لما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك الخان من خراسان راسل ايلك الخان قدر خان بن بغراخان ملك الختل لقرابة بينهما وذكر له حاله واستعان به واستنصره واستنفر الترك من أقاصي بلادها وسار نحو خراسان واجتمع هو وايلك الخان فعبر النهر.
وبلغ الخبر يمين الدولة وهو بطخارستان فسار وسبقهما إلى بلخ واستعد للحرب وجمع الترك الغزية والخلج والهند والأفغانية والغزنوية، وخرج عن بلخ فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب وتقدم ايلك الخان وقدرخان في عساكرهما فنزلوا بإزائه واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.
فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض واقتتلوا واعتزل يمين الدولة إلى نشر مرتفع ينظر إلى الحرب ونزل عن دابته وعفر وجهه على الصعيد تواضعا لله تعالى وسأله النصر والظفر، ثم نزل وحمل قي فيلته على قلب ايلك
191
الخان فأزاله عن مكانه ووقعت الهزيمة فيهم وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر وأكثر الشعراء تهنئة يمين الدولة بهذا الفتح.
ذكر غزوة إلى الهند
فلما فرغ يمين الدولة من الترك سار نحو الهند للغزاة.
وسبب ذلك أن بعض أولاد ملوك الهند يعرف بنواسه شاه كان قد أسلم على يده واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم.
فلما كان الآن بلغه أنه ارتد عن الإسلام ومالأ أهل الكفر والطغيان فسار إليه مجدا فحين قاربه فر الهندي من بين يديه واستعاد يمين الدولة تلك الولاية وأعادها إلى حكم الإسلام واستحلف عليها بعض أصحابه وعاد إلى غزنة.
ذكر حصر أبي جعفر الحجاج بغداد
في هذه السنة جمع أبو جعفر الحجاج جمعا كثيرا وأمده بدر بن حسنويه بجيش كثير فسار بالجميع وحصر بغداد.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نازلا على قلج حامي طريق خراسان، وكان
192
قلج مباينا لعميد الجيوش فاجتمعا لذلك فتوفي قلج هذه السنة فجعل عميد الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز وكان عدوا لبدر بن حسنويه فحقد ذلك بدر فاستدعى أبا جعفر الحجاج وجمع له جمعا كثيرا منهم الأمير هندي بن سعدي وأبو عيسى شاذي بن محمد وورام بن محمد وغيرهم وسيرهم إلى بغداد.
وكان الأمير أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي قد عاد من عند بهاء الدولة بخوزستان مغضبا فاجتمع معهم فزادت عدتهم على عشرة آلاف فارس.
وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العباس بن واصل فسار أبو جعفر ومن اجتمع معه إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها وأقاموا شهرا، وببغداد جمع من الأتراك ومعهم أبو الفتح بن عناز فحفظوا البلد، فبينما هم كذلك أتاهم خبر انهزام أبي العباس وقوة بهاء الدولة ففت ذلك في أعضاد أبي جعفر ومن معه فتفرقوا، فعاد ابن مزيد إلى بلده وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستر فلم يلتفت إليه لئلا يستوحش عميد الجيوش.
193
ذكر قصد بدر ولاية رافع بن مقن
كان أبو الفتح بن عناز التجأ إلى رافع بن محمد بن مقن ونزل عليه حين أخذ بدر بن حسنويه منه حلوان وقرميسين فأرسل بدر إلى رافع يذكر مودة أبيه وحقوقه عليه ويعتب عليه حيث آوى خصمه ويطلب إليه أن يبعده ليدوم له على العهد والود القديم.
فلم يفعل رافع ذلك فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجانب الشرقي من دجلة فنهبها وقصدوا داره بالمطيرة فنهبوها وأحرقوها، وساروا إلى قلعة البردان وهي لرافع أيضا ففتحوها قهرا وأحرقوا ما كان بها من الغلات وطم بئرها، فسار أبو الفتح إلى عميد الجيوش ببغداد فخلع عليه وأكرمه ووعده نصره.
ذكر قتل أبي العباس بن واصل
في هذه السنة قتل أبو العباس بن واصل صاحب البصرة، وقد تقدم ذكر ابتداء حاله وارتفاعه واستيلائه على البطيحة وما أخذه من الأموال وما هزم من جيوش السلطان وغير ذلك مما هو مذكر في مواضعة.
فلما عظم أمره سار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليحفظ خوزستان منه، وكان في البطائح مقابل عميد الجيوش فلما فرغ منه سار إلى الأهواز،
194
وبها بهاء الدولة فملكها على ما ذكرناه وعاد عنها على صلح مع بهاء الدولة إلى البصرة وقد ذكرناه أيضا.
ثم تجدد ما أوجب عوده إلى الأهواز فعاد إليها في جيشه وبهاء الدولة مقيم بها فلما قاربها رحل بهاء الدولة عنها لقلة عسكره وتفرقهم بعضهم بفارس وبعضهم بالعراق وقطع قنطرة أربق وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العباس على الأهواز وأتاه مدد من بدر بن حسنويه ثلاثة آلاف فارس فقوي بهم.
وعزم بهاء الدولة على العود إلى فارس فمنعه أصحابه فأصلح أبو العباس القنطرة وجرى بين العسكرين قتال شديد دام إلى السحر، ثم عبر أبو العباس على القنطرة بعد أن أصلحها، والتقى العسكران واشتد القتال فانهزم أبو العباس وقتل من أصحابه كثير وعاد إلى البصرة مهزوما منتصف رمضان سنة ست وتسعين وثلاثمائة. فلما عاد منهزما جهز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب. فسار إليه ونزل عليه محاصرا له وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير وقل المال عنده واستمد بهاء الدولة فلم يمده.
ثم إن أبا العباس جمع سفنه وعساكره وأصعد إلى عسكر الوزير وهجم عليه فانهزم الوزير وكاد يتم على الهزيمة فاستوقفه بعض الديلم وثبته وحملوا على أبي العباس
فانهزم هو وأصحابه وأخذ الوزير سفنه فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
ومضى أبو العباس منهزما وركب مع حسان بن ثمال الخفاجي هاربا إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح.
195
ثم إن أبا العباس سار من الكوفة وقطع دجلة ومضى عازما على اللحاق ببدر بن حسنويه فبلغ خانقين وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر فأنزله وأكرمه وأشار عليه بالمسير في وقته وحذره الطلب، فاعتل بالتعب وطلب الاستراحة، ونام، وبلغ خبره إلى أبي الفتح بن عناز وهو في طاعة بهاء الدولة وكان قريبا منهم فسار إليهم بخانقين وهو بها فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد فسيره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصد من بهاء الدولة يأمره بقتله، فقتل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة وطيف به بخوزستان وفارس وكان بواسط عاشر صفر.
ذكر مسير عميد الجيوش إلى حرب بدر وصلحه معه
كان في نفس بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقد لما اعتمده في بلاده لاشتغاله عنه بأبي العباس بن واصل، فلما قتل أبو العباس أمر بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده وأعطاه مالا أنفقه في الجند، فجمع عسكرا وسار يريد بلاده فنزل جند يسابور فأرسل إليه بدر إنك لم تقدر على أن تأخذ ما تغلب عليه بنو عقيل من أعمالكم وبينهم وبين بغداد فرسخ حتى صالحتهم فكيف تقدر على أخذ بلادي وحصوني مني ومعي من الأموال ما ليس معك مثلها؟
وأنا معك بين أمرين إن حاربتك فالحرب سجال ولا نعلم لمن العاقبة فإن انهزمت أنا لم ينفعك ذلك لأنني أحتمي بقلاعي ومعاقلي وأنفق أموالي وإذا عجزت فإنا رجل صحراوي صاحب عمد أبعد ثم أقرب وإن
196
انهزمت أنت لم تجتمع وتلقى من صاحبك العسف والرأي أن أحمل إليك مالا ترضي به صاحبك ونصطلح فأجابه إلى ذلك وصالحه وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد منه.
ذكر الحرب بين قرواش وأبي علي ثمال الخفاجي
في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي وكان سببها أن قرواش جمع جمعا كثيرا وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها فدخلها ونزل بها، وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مفلولا وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.
ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصر
في هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة ونحن نذكر ههنا خبره أجمع.
كان أبو ركوة اسمه الوليد وإنما كني أبا ركوة لركوة لركوة كان يحملها في أسفاره سنة الصوفية وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي صاحب الأندلس، وإن المنصور بن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس تتبع أهله ومن
197
يصلح منهم للملك فطلبه فقتل البعض.
وهرب البعض وكان أبو ركوة ممن هرب وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة وقصد مصر وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن وعاد إلى مصر ودعا بها إلى القائم فأجابه بنو قرة وغيرهم.
وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد وحبسهم وأخذ أموالهم وسائر القبائل معه في ضنك وضيق ويودون خروج الملك عن يده وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم وحبس منهم جماعة من أعيانهم وقتل بعضهم، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له.
وكان بين بني قرة وبين زناتة حروب ودماء، فاتفقوا على الصلح ومنع أنفسهم من الحاكم فقصد بني قرة وفتح مكتبا يعلم الصبيان الخط وتظاهر بالدين والنسك وأمهم في صلواتهم فشرع في دعوتهم إلى ما يريده فأجابوه وبايعوه واتفقوا عليه وعرفهم حينئذ نفسه وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها ووعدهم ومناهم يوما وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته وخاطبوه بالإمامة وكانوا بنواحي برقة فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ينهيه إليه ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم فأمره بالكف عنهم واطراحهم.
ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة واستقر بينهم أن يكون الثلث من الغنائم له والثلثان لبني قرة وزناتة فلما قاربها خرج إليه واليها فالتقوا فانهزم عسكر الحاكم وملك أبو ركوة برقة وقوي هو ومن معه بما اخذوا
198
من الأموال والسلاح وغيره ونادى بالكف عن الرعية والنهب وأظهر العدل وأمر بالمعروف.
فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر وأهمته نفسه وملكه وعاود الإحسان إلى الناس والكف عن أذاهم، وندب عسكرا نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم وقدم عليهم قائدا يعرف بينال الطويل وسيرة فبلغ ذات الحمام وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة فسير أبو ركوة قائدا في الف فارس وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين وأمرهم إذا عاودوا أن يغوروا الآبار ففعلوا ذلك وعاودوا، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعف وعطش فقاتلهم فاشتد القتال فحمل ينال على عسكر أبي ركوة فقتل منهم خلقا كثيرا وأبو ركوة واقف لم
يحمل هو ولا عسكره فاستأمن اليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم ولحقهم الباقون فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم فانهزمت وأسر ينال وقتل وأسر أكثر عسكره وقتل منهم خلق كثير، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم.
وانتشر ذكره وعظمت هيبة وأقام ببرقة وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر، وقام الحاكم من ذلك وقعد وسقط في يده وندم على ما فرط وفرح جند مصر وأعيانها وعلم الحاكم ذلك فاشتد قلقه وأظهر الاعتذار عن الذي فعله.
وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه وممن كتب إليه الحسين بن جوهر
199
المعروف بقائد القواد فسار، حينئذ عن برقة إلى الصعيد، وعلم الحاكم فاشتد خوفه وبلغ الأمر به كل مبلغ وجمع عساكر واستشارهم، وكتب إلى الشام يستدعي العساكر فجاءته وفرق الأموال والدواب والسلاح وسيرهم وهم إثنا عشر الف رجل بين فارس وراجل سوى العرب واستعمل عليهم الفضل بن عبد الله فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره ورام مناجزة المصريين والفضل يحاجزه ويدافع ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه.
وضاقت الميرة على العساكر فاضطر الفضل إلى اللقاء فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره.
وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم فأجابوهم واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة ومن معه مصر وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل فإذا وصل إليه انهزمت العرب ولا يبقى دون مصر مانع. فكتب الماضي إلى الفضل بذلك فلما كان ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده وأظهر أنه صائم وطاولهم الحديث وتركهم في خيمة واعتزلهم ووصى أصحابه بالحذر ورام العرب العود إلى خيامهم فعللهم وطاولهم ثم أحضر الطعام وأحضرهم فأكلوا وتحدثوا.
200
وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة فلقوا العسكر الوارد من عنده فاقتتلوا ووصل الخبر إلى العسكر وارتج، وأراد العرب الركوب فمنعهم وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمروهم بالركوب والقتال ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم فركبوا واشتد القتال ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه.
ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب وقد فاتهم ما عزموا عليه فباشروا الحرب وغاصوا فيها وورد أبو ركوة مددا لأصحابه، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة.
وجهز الحاكم عسكرا آخر أربعة آلاف فارس وعبروا إلى الجيزة، فسمع أبو ركوة بهم فسار مجدا في عسكره ليوافقهم عند مصر وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل ولم يمكن الماضي أن يكتبه فساروا وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر وقطع أبو ركوة مسيرة خمس ليال في ليلتين وكبسوا عسكرا الحاكم بالجيزة وقتلوا نحو ألف فارس وخاف أهل مصر ولم يبرز الحاكم من قصره، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين ثم انصرف من يومه.
وكتب الحاكم إلى الفضل كتابا ظاهرا يقول فيه إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا ليقرأه على القواد وكتب إليه سرا يعلمه الحال فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكينا للناس.
ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة كثير الأشجار، وتبعه الفضل وكمن أبو ركوة بين الأشجار وطارد عسكر الفضل ورجع عسكره القهقري ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها فولوا يتبعونهم، وركبهم أصحاب الفضل وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة وانهزم أبو
201
ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه فقالوا له قد قاتلنا معك ولم يبق فينا قتال فخذ لنفسك وانج؛ فسار إلى بلد النوبة. فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم فقال له صاحب الحصن الملك عليل ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه.
وبلغ الفضل الخبر فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته فوكل به من يحفظه وأرسل إلى الملك بالحال وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده فأمر بان يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربة وحمله إلى مصر فأشهر بها وطيف به.
وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها: يا مولانا الذنوب عظيمة وأعظم منها عفوك والدماء حرام ما لم يحللها سخطك وقد أحسنت وأسأت وما وما ظلمت إلا نفسي وسوء عملي أوبقني، وأقول:
(فررت فلم يغن الفرار ومن يكن * مع الله لم يعجزه في الأرض هارب)
(ووالله ما كان الفرار لحاجة * سوي فزع الموت الذي أنا شارب)
(وقد قادني جرمي إليك برمتي * كما خر ميت في رحا الموت سارب)
(واجمع كل الناس أنك قاتلي * فيا رب طن ربه فيك كاذب)
(وما هو إلا الانتقام وينتهي * وأخذك منه واجبا لك واجب)
202
ولما طيف به ألبس طرطورا وجعل خلفه قرد يصفعه كان معلما بذلك ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب فتوفي قبل وصوله فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في
إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضة مرضها دفعتين فاستعظم الناس ذلك ثم أنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله.
ذكر القبض على مجد الدولة وعوده إلى ملكه
في هذه السنة قبضت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب الري وبلد الجبل عليه.
وكان سبب ذلك ان الحكم كان إليها في جميع أعمال ابنها، فلما وزر له الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء ووضعهم عليها والشكوى عليها، وخوف ابنها منها فصار كالمحجور عليه. فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها، فعملت الحيلة حتى هربت إلى بدر بن حسنويه واستعانت به في ردها إلى الري.
وجاءها ولدها شمس الدولة وعساكر همذان وسار معها بدر إلى الري فحصروها، وجرى بين الفريقين قتال كثير مدة.
ثم استظهر بدر ودخل البلد وأسر مجد الدولة فقيدته والدته و سجنته بالقلعة وأجلست
203
أخاه شمس الدولة في الملك وصار الأمر إليها.
وعاد بدر إلى بلده وبقي شمس الدولة في الملك نحو سنة، فرأت والدته منه تنكرا وتغيرا وأن أخاه مجد الدولة ألين عريكة.
وأسلم جانبا فأعادته إلى الملك، وسار شمس الدولة إلى همذان، وكره بدر هذه الحالة إلا أنه اشتغل بولده هلال عن الحركة فيها، وصارت هي تدبر الأمر وتسمع رسائل الملوك وتعطي الأجوبة.
وأرسل شمس الدولة إلى بدر يستمده، فسير إليه جندا فأخذهم وسار بهم إلى قم فحصروها فمنعها أهلها، ثم ان العساكر دخلوا طرقا منها واشتغلوا بالنهب فأكب عليهم العامة وقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل وانهزم الباقون إلى معسكرهم ثم قبض هلال بن بدر على أبيه فتفرق ذلك الجمع كله.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة اشتد الغلاء بالعراق فضج العامة وشغب الجند وكانت فتنة.
وفيها توفي عبد الصمد الزاهد ودفن عند قبر أحمد وكان غاية في الزهد والورع.
204
وفيها هب على الحجاج ريح سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرض ولم ير الناس بعضهم بعضا وأصابهم عطش شديد ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالا فضاق الوقت عليهم فعادوا ولم يحجوا.
وفيها مات علي بن أحمد أبو الحسن الفقيه المالكي المعروف بابن القصاب.
205
398
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة
ذكر غزوة بهيم نغر
لما فرغ يمين الدولة من الغزوة المتقدمة وعاد إلى غزنة واستراح هو وعسكره استعد لغزوة أخرى فسار في ربيع الآخر من هذه السنة فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند فلاقاه هناك ابرهمن بال بن أندبال في جيوش الهند فاقتتلوا مليا في النهار وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصر عليهم فظفر بهم المسلمون فانهزموا على أعقابهم وأخذهم المسلمون بالسيف.
وتبع يمين الدولة أثر ابرهمن بال حتى بلغ قلعة بهيم نغر وهي على جبل عال وكان الهند قد جعلوها خزانة لصنمهم الأعظم فينقلون إليها أنواع الذخائر قرنا بعد قرن وأعلاق الجواهر وهم يعتقدون ذلك دينا فاجتمع فيها على طول الأزمان مالم يسمع بمثله فنازلهم يمين الدولة وحصرهم وقاتلهم.
فلما رأى الهنود كثرة جمعهم وحرصهم على القتال وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى خافوا وجبنوا وطلبوا الأمان وفتحوا باب الحصن وملك
206
المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته فأخذ منها من الجواهر مالا يحد ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية ومن الأواني الذهبيات والفضيات سبعمائة ألف وأربعمائة من، وكان فيها بيت مملوء من فضة طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا إلى غير ذلك من الأمتعة وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم ففرش تلك الجواهر في صحن داره وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك فأدخلهم اليه فرأوا مالم يسمعوا بمثله.
ذكر حال أبي جعفر بن كاكويه
هو أبو حعفر بن دشمنزيار وإنما قيل كاكويه لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه وكاكويه هو الخال بالفارسية وكانت والدة مجد الدولة قد استعملته على أصبهان، فلما فارقت ولدها فسد حاله فقصد الملك بهاء الدولة وأقام عنده مدة، ثم عادت والدة مجد الدولة إلى ابنها بالري فهرب أبو جعفر وسار إليها فأعادته إلى أصبهان واستقر فيها قدمه وأعظم شأنه.
وسيأتي من أخباره ما يعلم [به] صحة ذلك إن شاء الله تعالى.
207
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول وقع ثلج كثير ببغداد وواسط والكوفة والبطائح إلى عبادة وكان ببغداد نحو ذراع وبقي في الطريق نحو عشرين يوما.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد في رجب، وكان أولها أن بعض الهاشميين من باب البصرة أتى ابن المعلم فقيه الشيعة في مسجد بالكرخ فآذاه ونال منه فثار به أصحاب ابن
المعلم واستنفر بعضهم بعضا وقصدوا أبا حامد الأسفرايني وابن الأكفاني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم فهربوا، وانتقل أبو حامد الأسفرايني إلى دار القطن وعظمت الفتنة ثم إن السلطان أخذ جماعة وسجنهم فسكنوا، وعاد أبو حامد إلى مسجده وأخرج ابن المعلم من بغداد فشفع فيه علي بن مزيد فأعيد.
وفيها وقع الغلاء بمصر واشتد وعظم الأمر وعدمت الأقوات ثم تعقبه وباء كثير أفنى من أهلها.
وفيها زلزلت الدينور زلزلة شديدة خربت المساكن وهلك خلق كثير من أهلها الذين دفنوا ستة عشر ألفا سوى من بقي تحت الهدم ولم يشاهد.
وفيها أمر الحاكم بأمر الله صاحب مصر بهدم بيعة قمامة وهي بالبيت
208
المقدس وتسميها القيامة، وفيها الموضع الذي دفن فيه المسيح عليه السلام فيما يزعمه النصارى وإليها يحجون من أقطار الأرض وأمر بهدم البيع في جميع مملكته فهدمت وأمر اليهود والنصارى إما ان يسلموا أو يسيروا إلى بلاد الروم ويلبسوا الغيار، فاسلم كثير منهم، ثم أمر بعمارة البيع ومن اختار العود إلى دينه عاد فارتد كثير من النصارى.
وفيها توفي أبو العابس أحمد بن إبراهيم الضبي وزير مجد الدولة ببروجرد، وكان سبب مجيئه إليها أن أم مجد الدولة بن بويه اتهمته أنه سم أخاه فمات، فلما توفي أخوه طلبت منه مائتي دينار لتنفقها في مأتمه فلم يعطها فأخرجته فقصد بروجرد وهي من أعمال بدر بن حسنويه فبذل بعد ذلك مائتي الف دينار ليعود إلى عمله فلم يقبل منه، فأقام بها إلى أن توفي وأوصى أن يدفن بمشهد الحسين عليه السلام فقيل للشريف أب أحمد والد الشريف الرضي أن يبيعه بخمسمائة دينار موضع قبره فقال من يرد جوار جدي لا يباع؛ وأمر أن يعمل له قبر وسير معه من أصحابه خمسين رجلا فدفنه بالمشهد.
وتوفي بعده بيسير ابنه أبو القاسم سعد أبو عبد الله الجرجاني الحنفي بعد أن فلج وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر وديوانه مشهور و القاضي أبو عبد الله الضبي بالبصرة والبديع أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب المقامات المشهورة وله شعر حسن وقرأ الأدب على أبي الحسين بن فارس مصنف المجمل.
وتوفي أبو بكر أحمد بن علي بن لآل الفقيه الشافعي الهمذاني بنواحي عكا بالشام كان انتقل إلى هناك.
209
399
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة
ذكر ابتداء حال صالح بن مرداس
لما قتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرحبة وملكها أقام فيها مدة ثم قصد بدران بن المقلد العقيلي فأخذ الرحبة منه وبقيت لبدران. فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤا البشاري بالمسير إليها فقصد الرقة أولا وملكها ثم سر إلى الرحبة وملكها ثم عاد إلى دمشق.
وكان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان فملك البلد، واحتاج إلى من يجعله ظهره ويستعين به على من يطمع فيه فكاتب صالح من مرادس الكلابي فقدم عليه وأقام عنده مدة، ثم إن صالحا تغير عن ذلك فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد وقطع الأشجار ثم تصالحا وتزوج ابنة ابن محكان، ودخل صالح البلد إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة.
ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه ونقل أهله وماله إليهم وأخذ رهائنهم، ثم خرجوا عن طاعته وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة فسار إليها،
210
فوضع صالح على ابن محكان من يقتله فقتل غيلة وسار صالح إلى الرحبة فملكها وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية واستمر على ذلك إلا أن الدعوة للمصريين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم بأمر الله صاحب مصر قد ولاه الرحبة فسار إليها فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي فقتله وملك الرحبة ثم مالكها بعده غيره فصار أمرها إلى صالح بن مرادس الكلابي صاحب حلب.
وفيها صرف أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي عن قضاء البصرة وكان قد علا إسناده في رواية السنن لأبي داود السجستاني ومن طريقه سمعناه وولي القضاء بعده أبو الحسن بن أبي الشوارب فقال العصفري الشاعر:
(عندي حديث ظريف * بمثله يتغنى)
(من قاضيين يعزى * هذا وهذا يهنا)
(فذا يقول اكرهونا * وذا يقول استرحنا)
(ويكذبان ونهذي * فمن يصدق منا؟)
وفيها توفي أبو داود بن سيامرد بن باجعفر ودفن عند قبر النذور
211
بنهر المعلى وقبته مشهورة وأبو محمد النامي الفقيه الشافعي وهو القائل:
(يا ذا الذي قاسمني في البلا * فاختار أن يسكنه أولا)
(ما وطنت نفسي ولكنها * تسري إليكم منزلا منزلا)
212
400
ثم دخلت سنة أربعمائة
ذكر وقعة نارين بالهند
في هذه السنة تجهز يمين الدولة إلى الهند عازما على غزوها فسار إليها واخترقها واستباحها ونكس أصنامها.
فلما رأى ملك الهند انه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه وخمسين فيلا وان يكون له في خدمته ألفا فارس لا يزالون فقبض منه ما بذله وعاد عنه إلى غزنة.
ذكر الخلف بين بدر بن حسنويه وابنه هلال
في هذه السنة كانت حرب بين بدر بن حسنويه الكردي وبين ابنه هلال.
وكان سبب الوحشة بينهما أن أم هلال كانت من الشاذنجان فاعتزلهما أبوه عند ولادته فنشأ هلال مبعدا منه لا يميل إليه، وكانت نعمة بدر لابنه الآخر أبي عيسى.
فلما كان في بعض الأيام هلال مع أبيه متصيدا فرأيا سبعا وكان بدر إذا رأى سبعا قتله بيده، فتقدم هلال إلى الأسد بغير إذن أبيه فقتله،
213
فاغتاظ أبوه وقال: كأنك قد فتحت فتحا وأي فرق بين السبع والكلب ورأى إبعاده عنه لشدته فأقطعه
الصامغان وسهل ذلك على هلال لينفرد بنفسه عن أبيه، فأول ما فعله أنه أساء مجاورة ابن الماضي صاحب شهرزور وكان موافقا لأبيه بدر فنهى بدر ابنه هلالا عن معارضته فلم يسمع قوله وأرسل إلى ابن الماضي يتهدده فأعاد بدر مراسلة ابنه في معناه وتهدده إن تعرض بشيء هو له، فكان جواب نهيه أنه جمع عسكر وحصر شهرزور ففتحها وقتل ابن الماضي وأهله وأخذ أموالهم. فورد على بدر من ذلك ما أزعجه وأقلقه وأظهر السخط على هلال.
وشرع يفسد جند أبيه ويستميلهم ويبذل لهم، فكثر أصحاب هلال لإحسانه إليهم وبذله المال لهم وأعرض الناس عن بدر لإمساكه المال، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه فالتقيا على باب الدينور، فلما تراءى الجمعان انحازت الأكراد إلى هلال فأخذ بدر أسيرا وحمل إلى ابنه فأشير على هلال بقتله وقالوا لا يجوز أن تستبقيه بعدما أوحشته فقال ما بلغ من عقوقي له أن أقتله؛ وحضر عند أبيه وقال له أنت الأمير وأنا مدبر جيشك فخادعه أبوه بأن قال له لا يسمعن هذا منك أحد فيكون هلاكنا جميعا وهذه القلعة لك والعلامة في تسليمها كذا وكذا واحفظ المال الذي بها فإنك الأمير ما دام الناس يظنون بقاءه، وأريد تفرد لي أتفرغ فيها للعبادة. ففعل ذلك وأعطاه جملة من المال.
فلما استقر بدر بالقلعة عمرها وحصنها وراسل أبا الفتح بن عناز وأبا عيسى شاذي بن محمد وهو بأساداباد يقول لكل واحد منهما ليقصد أعمال هلال ويشعثها. فسار أبو الفتح إلى قرميسين فملكها وسار أبو عيسى إلى سابور خواست فنهب حلل هلال، ومضى إلى نهاوند وبها أبو بكر بن
214
رافع فاتبعه هلال إليها ووضع السيف في الديلم فقتل منهم أربعمائة نفس منهم تسعون أميرا، وأسلم ابن رافع أبا عيسى إلى هلال فعفا عنه، ولم يؤاخذ على فعله وأخذه معه.
وأرسل بدر إلى الملك بهاء الدولة يستنجده فجهز فخر الملك أبا غالب في جيش وسيره إلى بدر فسار حتى وصل إلى نيسابور خواست فقال هلال لأبي عيسى شاذي قد جاءت عساكر بهاء الدولة فما الرأي قال الرأي أن تتوقف عن لقائهم وتبذل لبهاء الدولة الطاعة وترضيه بالمال فإن لم يجيبوك فضيق عليهم وانصرف بين أيديهم فإنهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظن هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند فإن أولئك ذللهم أبوك على ممر السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني وأردت بالمطاولة أن يقوي أبي وأضعف أنا وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلا فلما وصل إليهم وقع الصوت فركب فخر الملك في العساكر وجعل عند أثقالهم من يحميها وتقدم إلى قتال هلال فلما رأى هلال صعوبة الأمر ندم وعلم أن أبا عيسى بن شاذي فندم على قتله، ثم أرسل إلى فخر الملك يقول له: إني ما جئت لقتال وحرب إنما جئت لأكون قريبا منك وأنزل على حكمك فترد العسكر عن الحرب فإنني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك إلى هذا القول وأرسل الرسول إلى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبه وطرده وأرسل إلى فخر الملك يقول له:
215
إن هذا مكر من هلال لما رأى ضعفه والرأي أن لا تنفس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه وكان يتهم بدر في الميل إلى ابنه وتقدم إلى الجيش بالحرب فقاتلوا، فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيرا. فقبل الأرض وطلب أن لا يسلمه إلى أبيه فأجابه إلى ذلك وطلب علامته بتسليم القلعة فأعطاهم العلامة فامتنعت أمه ومن بالقلعة من التسليم وطلبوا الأمان فأمنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه ثم نزل منها وسلمها إلى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها وكانت عظيمة قيل كان بها أربعون الف بدرة دراهم وأربعمائة بدرة ذهبا سوى الجواهر النفيسة والثياب والسلاح وغير ذلك. وأكثر الشعراء من ذكر هذا فممن قال مهيار:
(فظنوك تعبأ بحمل العراق * كأن لم يروك حملت الجبالا)
(ولو لم تكن في العلو السماء * لما كان غنمك منها هلالا)
(سريت إليه فكنت السرار * له ولبدر أبيه كمالا)
وهي كثيرة.
ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس وما كان منه
قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته هذه إلى واضح العامري وأدخل أهل قرطبة إليه فوعدهم ومناهم، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن
216
الناصر ودعاهم إلى طاعته والوفاء ببيعته فلم يجيبوه إلى ذلك، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط فأحبه الناس.
ثم نقل إليه أن نفرا من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد، فأخذهم وحبسهم، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة، فركب الجند وأهل قرطبة وخرجوا إليهم مع المؤيد فعاد البربر وتبعهم عساكره فلم يلحقوهم وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء.
ثم ان سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر. فاستشار أهل قرطبة في ذلك فأشاروا بتسليمها إليه خوفا من أن ينجدوا سليمان، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة. فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا فنزلوا قريبا من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا وخربوا البلاد.
وعمل المؤيد وواضح العامري سورا وخندقا على قرطبة أمام السور الكبير، ثم نازل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوما فلم يملكها، فانتقل إلى الزهراء وحصرها وقاتل من بها ثلاثة أيام. ثم ان بعض الموكلين بحفظه سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه فصعد البربر السور وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم وملكوا البلد عنوة وقتل أكثر من به من الجند وصعد أهله الجبل واجتمع الناس بالجامع فأخذهم البربر وذبحوهم حتى النساء والصبيان وألقوا النار في الجامع والقصر والديار فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال.
217
ثم إن واضحا كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سرا ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها ونما الخبر إلى المؤيد فقبض عليه وقتله واشتد الأمر بقرطبة وعظم الخطب وقتلت الأقوات وكثر الموت، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد لأنهم كانوا قد خربوا البلاد، وجلا أهل قرطبة وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان.
ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة وضيقوا عليهم، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيد الله بن محمد بن عبد الجبار وبايعه أهلها فسير إليهم المؤيد جيشا فحصروهم فعادوا إلى الطاعة وأخذ عبيد الله أسيرا وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة.
ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير وغرق في النهر مثلهم فرحلوا عنها، وساروا إلى إشبيلية فحصروها. فأرسل المؤيد إليها جيشا فحماها ومنع البربر عنها. وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه فأجابوه وأطاعوه، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح فملكوها وغنموا ما فيها واتخذوها دارا ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف واشتد القتال عليها وملكها سليمان عنوة وقهرا وقتلوا من وجدوا في الطريق ونهبوا البلد وأحرقوه فلم تحصى القتلى لكثرتهم، ونزل البربر في الدور التي لم تحرق، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله، وأخرج المؤيد من القصر وحمل إلى سليمان، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها.
ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة ثم خرج إلى شرق
218
الأندلس من عنده وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوما، رحمه الله.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أرسل الحاكم بأمر الله من مصر إلى المدينة ففتح بيت جعفر الصادق وأخرج منه مصحف وسيف وكساء وقعب وسرير.
وفيها نقص الماء بدجلة حتى أصلحت ما بين أوانا وقريب بغداد حتى جرت السفن فيها.
وفيها مرض أبو محمد بن سهلان فاشتد مرضه فنذر إن عوفي بنى سورا على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فعوفي فأمر ببناء سور عليه فبني في هذه السنة، تولى بناءه أبو إسحاق الأرجاني.
وفيها ولد عدنان بن الشريف الرضي.
وفيها توفي النقيب أبو احمد الموسوي والد الرضي بعد أن أضر ووقف بعض أملاكه على البر وصلى عليه ابنه الأكبر المرتضى ودفن بداره ثم نقل إلى مشهد الحسين عليه السلام، وكان مولده سنة أربع وثلاث مائة.
وفيها توفي أيضا أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز وعمدة الدولة أبو إسحاق بن معز الدولة بن بويه بمصر.
وفيها مرض الخليفة القادر بالله واشتد مرضه فأرجف عليه فجلس
219
للناس وبيده القضيب فدخل إليه أبو حامد الأسفرايني فقال لابن حاجب النعمان إن اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئا من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ (^ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم) الآيات الثلاث.
وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر، وأبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر صاحب الطريقة المشهورة في التجنيس، فمن شعره:
(يا أيها السائل عن مذهبي * لتقتدي فيه بمنهاجي)
(منهاجي العدل وقمع الهوى * فهل لمنهاجي من هاجي)
220
401
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة
ذكر غزوة يمين الدولة بلاد الغور وغيرها
بلاد الغور تجاور غزنة وكان الغور يقطعون الطريق ويخيفون السبيل وبلادهم جبال وعرة ومضايق غلقة وكانوا يحتمون بها ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب صاحب هراة وأرسلان الجاذب صاحب طوس وهما أكبر أمرائه فسار فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة فتناوشوا الحرب وصبر الفريقان.
فسمع يمين الدولة الحال فجد في السير إليهم وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا وسار إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري فانتهوا إلى مدينته التي تدعى آهنكران فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل فقاتلهم المسلمون إلى ان انتصف النهار فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يوليهم الأدبار على سبيل الاستدراج ففعلوا. فلما رأى الغورية
221
ذلك ظنوه هزيمة. فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلى وأسرا وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري ودخل المسلمون المدينة وملكوها وغنموا ما فيها وفتحوا تلك القلاع الحصون التي لهم جميعا، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سما كان معه فمات وخسر الدنيا والآخرة، (ذلك هو الخسران المبين).
وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار فقطع عليهم مفازة من رمل ولحق عساكره عطش شديد كادوا يهلكون فلطف الله سبحانه وتعالى بهم، وأرسل عليهم مطرا سقاهم وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار وهم جمع عظيم ومعهم ستمائة فيل فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض ثم إن الله نصر المسلمين وهزم الكفار وأخذ غنائمهم وعاد سالما مظفرا منصورا.
ذكر الحرب بين ايلك الخان وبين أخيه
وفي هذه السنة سار ايلك الخان في جيوش قاصدا قتال أخيه طغان خان، فلما بلغ يوزكند سقط من الثلج ما منعهم من سلوك الطرق فعاد إلى سمرقند.
وكان سبب قصده أن أخاه أرسل إلى يمين الدولة يعتذر ويتنصل من قصد أخيه ايلك الخان بلاد خراسان ويقول إنني ما رضيت ذلك منه ويلزم أخاه
222
وحده الذنب وتبرأ هو منه، فلما علم أخوه ايلك الخان ذلك ساءه وحمله على قصده.
ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل
في هذه السنة أيضا خطب قر واش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب وانهدت بقدرته أركان النصب واطلع بنوره شمس الحق من العرب.
فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر وخلع على القاضي أبي بكر وولاه قضاء عمان والسواحل. وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش فأرسل يتعذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.
ذكر الحرب بين بني مزيد وبين دبيس
كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيما عند بني دبيس في جزيرتهم بنواحي خوزستان لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم ولحق بأخيه أبي
223
الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يدركوه وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس واستنجد عميد الجيوش فانحدر إليه عجلا في زبزبة في ثلاثين ديلميا، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم واقتتلوا فقتل أبو الغنائم وانهزم أبو الحسن بن مزيد فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو منحدر فعاد.
ذكر وفاة عميد الجيوش وولاية فخر الملك العراق
في هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته ثمان سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما وكان عمره تسعا وأربعين سنة، وتولى تجهيزه ودفنه الشريف الرضي دفنه بمقابر قريش ورثاه الرضي وغيره.
وكان أبوه أبو جعفر أستاذ هرمز من حجاب عضد الدولة، وجعل عضد الدولة عميد الجيوش في خدمة ابنه صمصام الدولة.
فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة، فلما استولى الخراب على بغداد وظهر العيارون وانحلت الأمور بها أرسله إليها فأصلح الأمور وقمع المفسدين وقتلهم فلما مات استعمل بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب، فأصعد إلى بغداد فلقيه الكتاب والقواد وأعيان الناس وزينوا له البلاد ووصل بغداد في ذي الحجة ومدحه مهيار وغيره من الشعراء.
ومن محاسن أعمال عميد الجيوش أنه حمل إليه مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين وقيل له ليس للميت وارث فقال: لا يدخل خزانة
224
السلطان ما ليس لها يترك إلى أن يصح خبره. فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة فقصد باب عميد الجيوش ليوصل الكتاب فرآه يصلي على روشن داره فظنه بعض الحجاب فأوصل الكتاب اليه فقضى حاجته فلما علم التاجر أن الذي أخذ الكتاب كان عميد الجيوش عظم الأمر عنده فأظهر ذلك فاستحسنه
الناس، ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، فبلغه الخبر فسره ذلك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة اشتد الغلاء بخراسان جميعها وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضا، فكان الإنسان يصيح الخبز الخبز! ويموت، ثم تبعه وباء عظيم حتى عجز الناس عن دفن الموتى.
وفيها مات أبو الفتح محمد بن عناز بحلوان وكانت إمارته عشرين سنة، وقام بعده ابنه أبو الشوك فسيرت إليه العساكر من بغداد لقتاله ولقيهم أبو الشوك وقاتلهم قتالا شديد وانهزم أبو الشوك إلى حلوان وأقام بها إلى أن صلح حاله مع الوزير أبي غالب لما قدم العراق.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمرو بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن وكان عمره مائة وعشر سنين، وكان بخيلا شديد البخل، وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي الأمير أبو نصر أحمد بن أبي الحرث محمد بن فريغون،
225
صاحب الجوزجان، وكان صهر يمين الدولة على أخته، وكان هو وأبوه قبله يحبو ن العلماء ويحسنون إليهم.
وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه.
وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعا وغرق كثير من بغداد والعراق وتفجرت البثوق ولم يحج هذه السنة من العراق أحد.
وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ سافر الكثير في طلب الحديث وله عناية بصحيحي البخاري ومسلم؛ وتوفي أيضا خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي، كان فاضلا وله أطراف الصحيحين أيضا.
226
402
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة
ذكر ملك يمين الدولة قصدار
في هذه السنة استولى يمين الدولة قصدار وملكها.
وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة يؤديها إليه ثم قطعها اغترارا بحصانة بلده وكثرة المضايق في الطريق واحتمى بايلك الخان. وكان يمين الدولة يريد قصدها فيتقي ناحية ايلك الخان فلما فسد ذات بينهما صمم العزم وقصدها وتجهز وأظهر أنه يريد هراة، فسار من غزنة في جمادي الأولى، فلما استقل على الطريق سار نحو قصدار فسبق خبره وقطع تلك المضايق والجبل فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلا فطلب الأمان فأجابه وأخذ منه المال الذي كان قد اجتمع عنده وأقره على ولايته وعاد.
ذكر أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده ي
في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ صاحب حلب وبين صالح بن مرداس وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن
227
حمدان فقوي علي ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه وخطب للحاكم صاحب مصر ولقبه الحاكم مرتضى الدولة.
ثم فسد ما بينه وبين الحاكم فطمع فيه ابن مرداس وبنوا كلاب وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع. ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس ودخلوا مدينة حلب فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم فقبض على مائة وعشرين رجلا منهم صالح بن مرداس وحبسهم وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به.
وكان صالح قد تزوج بابنة عم له تسمى جابرة وكانت جميلة فوصفت لابن لؤلؤ فخطبها إلى ابن أختها وكانوا في حبسه فذكروا له أن صالحا قد تزوجها فلم يقبل منهم وتزوجها ثم أطلقهم وبقي صالح بن مرداس في الحبس فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها واختفى في مسيل ماء.
ووقع الخبر بهربه فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه فعادوا ولم يظفروا به فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه حتى وصل قرية تعرف بالياسرية فرأى أناسا من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوما فخرج إليه بن لؤلؤ وقاتله فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته وكان لابن لؤلؤ أخ فنجا وحفظ مدينة حلب.
ثم ان ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالا على أن يطلقه فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله مالا كنت تأمله فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة فإنه إن أراد
228
الغدر بك لا يمنعه من عندك فأطلقهم، فلما دخل البلد حمل ابن لؤلؤ اليه أكثر مما استقر، وكان قد قرر عليه مائتا ألف دينار ومائة ثوب وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب، فلما انفصل الحال ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح وكان دزدار القلعة لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة وكان خلاف ظنه، فأطلع على ذلك غلاما له اسمه سرور وأراد أن يجعله مكان فتح فأعلم سرور بعض أصدقائه يعرف بابن غانم.
وسبب إعلامه أنه حضر عنده وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله فشكا إلى سرور ذلك، فقال له سيكون أمر تأمن معه فسأله فكتمه فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر.
وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة فصعد إليه بالقلعة متنكرا فأعلمه الخبر وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة
بحجة افتقاد الخزائن فإذا صار فيها قيض على فتح وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن ويأمره بفتح الأبواب فقال فتح: إنني قد شربت اليوم دواء واسأل تأخير الصعود في هذا اليوم فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري، وقال للرسول: إذا لقيته فاردده. فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك، فلما صعدة إليه أكرمها وأظهر لها الطاعة فعادت وأشار على ابنها بترك محاقته ففعل، وأرسل إليه يطلب جوهرا كان له بالقلعة فغالطه فتح ولم يرسله، فسكت على مضد لعلمه أن المحاققة لا تفيد لحصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض ويظهر شدة المرض ويستدعي فتحا لينزل إليه ليجعله وصيا، فإذا حضر
229
قبضه. ففعل ذلك فلم ينزل فتح واعتذر، وكاتب الحاكم وأظهر طاعته وخطب له وأظهر العصيان على أستاذه، وأخذ من الحاكم صيدا وبيروت وكل ما في حلب من الأموال وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى أنطاكية وبها الروم فأقام عندهم.
وكان صالح بن مرداس قد مالأ فتحا على ذلك، فلما عاد عن حلب استصحب معه والدة ابن لؤلؤ ونسائه وتركهن بمنبج وتسلم حلب نواب الحاكم وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشا له على قتله فقتله.
وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري وبيده دمشق والرملة وعسقلان وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي وصالح بن مرداس أمير بني كلاب وسنان بن عليان وتحالفوا واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة صالح ومن الرملة إلى مصر لحسان ودمشق لسنان، فسار حسان إلى الرملة فحصرها وبها أنوشتكين فسار عنها إلى عسقلان واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر.
وقصد صالح حلب وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين وبالقلعة خادم يعرف بموصوف فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم ولسوء سيرة المصريين معهم، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة، فحصره
230
صالح بالقلعة فغار الماء الذي بها فلم يبق لهم ما يشربون فسلم الجند القلعة إليه وذلك سنة أربع عشرة [وأربعمائة]، وملك من بعلبك إلى عانة وأقام بحلب ست سنين.
فلما كانت سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشا وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان، وكان مقدم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسان على قتاله فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن عند طبرية فقتل صالح وولده الأصغر ونفذ رأسهما إلى مصر ونجا ولده أبو كامل نضر بن صالح، فجاء إلى حلب وملكها وكان لقبه شبل الدولة.
فلما علمت الروم بأنطاكية الحال تجهزوا إلى حلب في عالم كثير فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم ونهبوا أموالهم وعادوا إلى أنطاكية، وبقي شبل الدولة مالكا لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأرسل إليه الدزبري العساكر المصرية وصاحب مصر حينئذ المستنصر بالله فلقيهم عند حماه فقتل في شعبان وملك الدزبري حلب في رمضان سنة تسع وعشرين [وأربعمائة]، وملك الشام جميعه وعظم أمره وكثر ماله وارسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان فتقدموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته ففعلوا فسار عنها نحو حلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين [وأربعمائة] وتوفي بعد ذلك بشهر واحد.
وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة، فلما بلغه موت الدزبري جاء إلى حلب فملكها تسليما من أهلها وحصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهرا وملكها في صفر ستة أربع وثلاثين [وأربعمائة] فبقي فيها إلى سنة أربعين، فأنفذ المصريون إلى محاربته
231
أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان فخرج أهل حلب إلى حربه فهزمهم واختنق منهم بالباب جماعة، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر وأصلبهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادما يعرف برفق، فخرج إليه في أهل حلب فقاتلوه فانهزم المصريون وأسر رفق ومات عندهم وكان أسره سنة إحدى وأربعين [وأربعمائة] في ربيع الأول.
ثم إن معز الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين وأصلح أمره معهم ونزل لهم عن حلب فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم ولقبوه مكين الدولة فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين [وأربعمائة]، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة وأقام ابن ملهم بحلب، فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.
وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رجل يعرف بكامل بن نباتة فخاف فجلس يبكي، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه: إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا وأخاف على الباقين. فاجتمع أهل البلد واشتدوا وراسلوا محمودا وهو منهم على مسير يوم يستدعونه وحصروا ابن ملهم وجاء محمود وحصره معهم في جمادي الآخرة سنة اثنتين وخمسين [وأربعمائة].
232
ووصلت الأخبار إلى مصر فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكر بعد اثنين وثلاثين يوما من دخول محمود حلب فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلا بقرب البلد وقد كره فعل محمود ابن أخيه فقبض ابن ملهم على مائة و خمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد وأخذ أموال الناس.
وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه، وسار في طلب محمود فالتقيا بالغنيدق في رجب، فانهزم أصحاب ابن حمدان وثبت هو فجرح وحمل إلى محمود أسيرا فأخذه وسار إلى حلب فملكها وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن حمدان فسار هو وابن ملهم إلى مصر، فجهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه فحصره في حلب في ذي الحجة من السنة، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران فجاء إليه فلما
بلغ ثمالا مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين وعاد منيع إلى حران فعاد ثمال إلى حلب وخرج إليه محمود ابن أخيه فاقتتلوا وقاتل محمودا قتالا شديدا، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين [وأربعمائة] وخرج إلى الروم فغزاهم ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين [وأربعمائة]، وكان كريما حليما وأوصى بحلب لأخيه عطية بن صالح فملكها.
ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني فقوي بهم فأشار أصحابه بقتلهم فأمر أهل البلد بذلك فقتلوا منهم جماعة ونجا الباقون، فقصدوا
233
محمودا بحران واجتمعوا معه على حصار حلب فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين [وأربعمائة].
وقصد عمه عطية الرقة فملكها ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين [وأربعمائة]، وسار عطية إلى بلد الروم فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين.
وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى أرتاح فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين [وأربعمائة] وسار محمود إلى طرابلس فحصرها وأخذ من أهلها مالا وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان ومات محمود في حلب سنة ثمان وستين [وأربعمائة] في ذي الحجة ووصى بها بعده لابنه مشيب، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره وسلموا البلد إلى ولده الأكبر واسمه نصر وجده لأمه الملك العزيز ابن ملك جلال الدولة بن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.
وكان نصر يدمن شرب الخمر، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا البلد وهم بالحاضر يوم الفطر فلقوه وقبلوا الأرض بين يديه، فسبهم وأراد قتلهم فرماه أحدهم بنشابة فقتله، وملك أخوه سابق وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب فلما صعد القلعة استدعى احمد شاه مقدم التركمان وخلع عليه وأحسن إليه وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين [وأربعمائة]، فقصده تتش بن ألب أرسلان فحصره بحلب أربعة أشهر ونصفا ثم رحل عنه ونازله شرف الدولة فأخذ البلد منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فهذه جميع أخبار بني مرداس أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت.
234
ذكر قتل جماعة من خفاجة
لما فتح الملك فخر الدولة دير العاقول أتاه سلطان وعلوان ورجب أولاد ثمال الخفاجي ومعهم أعيان عشائرهم وضمنوا حماية سقي الفرات ودفع عقيل عنها، وساروا معه إلى بغداد فأكرمهم وخلع عليهم وأمرهم بالمسير مع ذي السعادتين الحسن بن منصور إلى الأنبار فساروا، فلما صاروا بنواحي الأنبار أفسدوا وعاثوا فقبض ذو السعادتين على نفر منهم ثم أطلقهم واستحلفهم على الطاعة والكف عن الأذى، فأشار كاتب نصراني من أهل دقوقا على السلطان بن ثمال بالقبض على ذي السعادتين وأن يظهر أن عقيلا أغاروا، فإذا خرج عسكر ذي السعادتين انفرد به فأخذه فوصل إلى ذي السعادتين الخبر.
ثم إن سلطانا أرسل إليه يقول له إن عقيلا قد قاربوا الأنبار ويطلب منه إنفاذ العسكر، فقال ذو السعادتين: أنا أركب وآخذ العساكر؛ ثم دافعه إلى أن فات وقت السير فانتفض على سلطان ما دبره فأرسل يقول: قد أخذت جماعة من عقيل ثم ان ذا السعادتين صنع طعاما كثيرا وحضر عنده سلطان وكاتبه النصراني وجماعة من أعيان خفاجة، فأمر أصحابه بقتل كثير منهم وقبض على سلطان وكاتبه وجماعة ونهب بيوتهم وما فيها، وحبس سلطانا ومن معه ببغداد حتى شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد وبذل مالا عنهم فأطلقوا، وذكر ابن نباتة وغيره هذه الحادثة.
235
ذكر القدح في نسب العلويين والمصريين
في هذه السنة كتب ببغداد محضر يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر وكتب فيه المرتضى وأخوه الرضي وابن البطحاوي العلوي وابن الأزرق الموسوي والزكي أبو يعلى عمر بن محمد ومن القضاة والعلماء ابن الأكفاني وابن الخرزي وأبو العباس الأبيوردي وأبو حامد الأسفرايني والكشفلي والقدوري والصيمري وأبو عبد الله بن البيضاوي وأبو الفضل النسوي وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة وغيرهم، وقد ذكرنا الاختلاف فيهم عند ابتداء دولتهم سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر أخذ بني خفاجة الحجاج
في هذه السنة سارت خفاجة إلى واقصة ونزحوا ماء البرمكي والريان وألقوا فيهما الحنظل؛ ووصل الحجاج من مكة إلى العقبة فلقيهم خفاجة ومنعوهم الماء ثم قاتلوهم فلم يكن فيهم امتناع فأكثروا القتل وأخذوا الأموال ولم يسلم من الحاج إلا اليسير، فبلغ الخبر فخر الملك الوزير ببغداد، فسير العساكر في أثرهم وكتب إلى أبي الحسن علي بن مزيد يأمره بطلب العرب والأخذ منهم بثأر الحاج والانتقام فسار خلفهم فلحقهم وقد قاربوا البصرة فأوقع بهم فقتل منهم وأسر جمعا كثيرا وأخذ من أموال الحاج ما رآه وكان الباقي قد أخذه العرب وتفرقوا، وأرسل الأسرى وما استرده من أمتعة الحاج إلى الوزير فحسن موقعه منه.
236
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي أبو الحسن بن اللبان الفرضي في ربيع الأول؛ وتوفي في شهر رمضان عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني العابد وكان مجاب الدعوة رحمة الله عليه.
237
403
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة
ذكر قتل قابوس
في هذه السنة قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير.
وكان سبب قتله أنه كان مع كثرة فضائله ومناقبه عظيم السياسة شديد الأخذ قليل العفو يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه واستطالوا أيامه واتفقوا على خلعه والقبض عليه.
وكان حينئذ غائبا عن جرجان فخفي عليه الأمر فلم يشعر ذات ليلة إلا وقد أحاط العسكر بباب القلعة التي كان بها وانتهبوا أمواله ودوابه وأرادوا استنزاله من الحصن، فقاتلهم هو ومن معه من خواصه وأصحابه فعادوا ولم يظفر وا به، ودخلوا جرجان واستولوا عليها وعصوا عليه بها وبعثوا إلى ابنه منوجهر وهو بطبرستان يعرفونه الحال ويستدعونه ليولوه أمرهم.
فأسرع السير نحوهم خوفا من خروج الأمر عنه فالتقوا واتفقوا على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم إلى ذلك على كره.
وكان أبوه شمس المعالي قد سار نحو بسطام عند حدوث هذه الفتنة لينظر
238
فيما تسفر عنه فأخذوا منوجهر معهم عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه فسار معهم مضطرا، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه وعرض عليه منوجهر أن يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم، وإن ذهبت نفسه، فرأى شمس المعالي ضد ذلك وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده فسلم إليه خاتم الملك ووصاه بما يفعله، واتفقا على أن ينتقل هو إلى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة إلى أن يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.
وسار إلى القلعة المذكورة مع من اختاره لخدمته وسار منوجهر إلى جرجان وتولى الملك وضبطه ودارى أولئك الأجناد وهم نافرون خائفون من شمس المعالي ما دام حيا فما زالوا يحتالون ويجيلون الرأي حتى دخلوا إلى منوجهر وخوفوه من أبيه مثل ما جرى لهلال بن بدر مع أبيه وقالوا له: مهما [كان] والدك في الحياة لا نأمن نحن ولا أنت واستأذنوه في قتله، فلم يرد عليهم جوابا، فمضوا إليه إلى الدار التي هو فيها وقد دخل إلى الطهارة متخففا، فأخذوا ما عنده من كسوة وكان الزمان شتاء وكان يستغيث أعطوني ولو جلد دابة فلم يفعلوا فمات من شدة البرد؛ وجلس ولده للعزاء ولقب القادر بالله منوجهر فلك المعالي.
ثم إن منوجهر راسل يمين الدولة ودخل في طاعته وخطب له على منابر بلاده وخطب إليه أن يزوجه بعض بناته ففعل، فقوى جنانه وشرع في
239
التدبير على أولئك الذين قتلوا أباه فأبادهم بالقتل والتشريد.
وكان قابوس غزير الأدب وافر العلم له رسائل وشعر حسن وكان عالما بالنجوم وغيرها من العلوم فمن شعره:
(قل للذي بصروف الدهر عيرنا * هل عاند الدهر إلا من له خطر)
(أما ترى البحر يطفو فوقه جيف * وتستقر بأقصى قعره الدرر)
(فان تكن نشبت أيدي الخطوب بنا * ومسنا من توالي صرفها ضرر)
(ففي السماء نجوم غير ذي عدد * وليس يكسف إي الشمس والقمر)
ذكر موت ايلك الخان وولاية أخيه طغان خان
في هذه السنة توفي ايلك الخان وهو يتجهز للعود إلى خراسان ليأخذ بثأره من يمين الدولة، وكاتب قدر خان وطغان خان ليساعداه على ذلك.
فلما توفي ولي بعده أخوه طغان فراسل يمين الدولة وصالحه، وقال له: المصلحة للإسلام والمسلمين أن تشتغل أنت بغزو الهند و أشتغل أنا بغزو الترك و أن يترك بعضنا بعضا، فوافق ذلك هواه فأجابه إليه، وزال الخلاف واشتغلا بغزو الكفار.
وكان ايلك الخان خيرا عادلا حسن السيرة محبا للدين وأهله معظما للعلم وأهله محسنا إليهم.
240
ذكر وفاة بهاء الدولة وملك سلطان الدولة
في هذه السنة خامس جمادى الآخرة توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه وهو الملك حينئذ بالعراق وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن عند أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصفا، وملكه أربعا وعشرين سنة.
ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع وسار من أرجان إلى شيراز وولى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة وأخاه أبا الفوارس كرمان.
ذكر ولاية سليمان الأندلس الدولة الثانية
في هذه السنة ملك سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي ولقب المستعين، وهذه غير ولايته منتصف شوال على ما ذكرناه سنة أربعمائة وبايعه الناس وخرج أهل قرطبة إليه يسلمون عليه فأنشد متمثلا:
241
(إذا ما رأوني طالعا من ثنية * يقولون من هذا وقد عرفوني)
(يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا * ولو ظفروا بي ساعة قتلوني)
وكان سليمان أديبا شاعرا بليغا وأريق في أيامه دماء كثيرة لا تحد، وقد تقدم ذكر ذلك سنة أربعمائة، وكان البربر هم الحاكمون في دولته لا يقدر على خلافهم لأنهم كانوا عامة جنده وهم الذين قاموا معه حتى ملكوه، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خلع سلطان الدولة على أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي وهو أول من تقدم من أهل بيته.
وفيها قلد الرضي الموسوي صاحب الديوان المشهور نقابة العلويين ببغداد وخلع عليه سواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد.
وفيها توفي أبو بكر الخوارزمي واسمه محمد بن موسى الفقيه الحنفي وأبو الحرث محمد بن محمد بن عمر العلوي نقيب الكوفة، وكان يسير بالحاج عشر سنين وأبو عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان الفقيه الحنبلي وله تصانيف في الفقه والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب المتكلم الأشعري وكان مالكي المذهب رثاه بعضهم فقال:
242
(انظر إلى جبل تمشي الرجال به * وانظر إلى القبر ما يحوي من الصلف)
(وانظر إلى صارم الإسلام منغمدا * وانظر إلى درة الإسلام في الصدف)
وفيها قتل أبو الوليد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن الفرضي الأندلسي بقرطبة قتله البربر.
243
404
ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة
ذكر فتح يمين الدولة ناردين
في هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند في جمع عظيم وحشد كبير وقصد واسطة البلاد من الهند، فسار شهرين حتى قارب مقصده ورتب أصحابه وعساكره، فسمع عظيم الهند به فجمع من عنده من قواده وأصحابه وبرز إلى جبل هناك صعب المرتقى ضيق المسلك فاحتمى به وطاول المسلمين، وكتب إلى الهنود يستدعيهم من كل ناحية، فاجتمع عليه منهم كل من يحمل سلاحا.
فلما تكاملت عدته نزل من الجبل وتصاف هو والمسلمون واشتد القتال وعظم الأمر.
ثم إن الله تعالى منح المسلمين أكتافهم فهزموهم وأكثروا القتل فيهم وغنموا ما معهم من مال وفيل وسلاح وغير ذلك.
ووجد في بيت بد عظيم حجرا منقورا دلت كتابته على أنه مبنى منذ أربعين ألف سنة فعجب الناس لقلة عقولهم.
فلما فرغ من غزوته عاد إلة غزنة وأرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشورا وعهدا بخراسان وما بيده من الممالك فكتب لد ذلك ولقب نظام الدين.
244
ذكر ما فعله خفاجة دفعة أخرى
في هذه السنة جاء سلطان بن ثمال واستشفع بأبي الحسن بن مزيد إلى فخر الملك ليرضى عنه فأجابه إلى ذلك، فأخذ عليه العهود بلزوم ما يحمد أمره، فلما خرج وصلت الأخبار بأنهم نهبوا سواد الكوفة وقتلوا طائفة من الجند وأتى أهل الكوفة مستغيثين، فسير فخر الملك إليهم عسكرا وكتب إلى ابن مزيد وغيره بمحاربتهم، فسار إليهم وأوقع بنهر الرمان، وأسر محمد بن ثمال وجماعة معه ونجا سلطان وأدخل الأسرى إلى بغداد مشهرين وحبسوا.
وهب على المنهزمين من بني خفاجة ريح شديدة حارة فقتلت منهم نحو خمسمائة رجل وأفلت منهم جماعة ممن كانوا أسروا من الحجاج، وكانوا يرعون إبلهم وغنمهم فعادوا إلى بغداد فوجد بعضهم نساءهم قد تزوجن وولدن واقتسمت تركاتهم.
ذكر استيلاء طاهر بن هلال على شهرزور
قد ذكرنا حال شهرزور وأن بدر بن حسنويه سلمهما إلى عميد الجيوش فجعل فيها نوابه، فلما كان الآن سار طاهر بن هلال بن بدر إلى شهرزور،
245
وقاتل من بها من عسكر فخر الملك وأخذها منهم في رجب. فلما سمع الوزير الخبر أرسل إلى طاهر يعاتبه ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه ففعل، ولم تزل شهرزور بيد طاهر إلى أن قتله أبو الشوك وأخذها منه وجعلها لأخيه مهلهل.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي إلى الشوك على عزم محاربته فاصطلحا من غير حرب وتزوج ابنه أبو الأغر دبيس بن علي بأخت أبي الشوك.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن علبي بن سعيد الإصطخري وهو شيخ من شيوخ المعتزلة ومشهور بهم وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة وله تصانيف في الرد على الباطنية.
246
405
ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة
ذكر غزوة تانيشر
قد ذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة الصيلمان الموصوفة في الحرب وأن صاحبها غال في الكفر والطغيان و العناد للمسلمين، فعزم على غزوه في عقر داره وأن يذيقه شربة من كأس قتاله، فسار في الجنود والعساكر والمتطوعة فلقي في طريقه وأودية بعيدة القعر وعرة المسالك وقفارا فسيحة الأقطار والأطراف بعيدة الأكناف والماء بها قليل فلقوا شدة وقاسوا مشقة إلى أن قطعوها.
فلما قاربوا مقصدهم لقوا نهرا شديد المجرية صعب المخاضة وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه يمنع من عبوره ومعه عساكره وفيلته التي كان يدل بها فأمره يمين
الدولة شجعان عسكره بعبور النهر وأشغال الكافر بالقتال ليتمكن باقي العسكر من العبور ففعلوا ذلك، وقاتلوا الهنود وشغلوهم عن حفظ النهر حتى عبر سائر العسكر في المخاضات وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى لآخر النهر، فانهزم الهند وظفر المسلمون وغنموا ما معهم من أموال وفيلة وعادوا إلى غزنة موفورين ظافرين.
247
ذكر قتل بدر بن حسنويه وإطلاق ابنه هلال وقتله
في هذه السنة قتل بدر بن حسنويه أمير الجبل.
وكان سبب قتله أنه سار إلى الحسين بن مسعود الكردي ليملك عليه بلاده فحصره بحصن كوسحد فضجر أصحاب بدر منه لهجوم الشتاء فعزموا على قتله فأتاه بعض خواصه وعرفه ذلك فقال: فمن هم الكلاب حتى يفعلوا ذلك! وأبعدهم فعاد إليه فلم يأذن له فقال له من وراء الخركاه الذي أعلمتك قد قوي العزم عليه فلم يلتفت إليه.
وخرج فجلس على تل فثاروا به فقتله طائفة منهم تسمى الجورقان، ونهبوا عسكره وتركوه وساروا. فنزل الحسين بن مسعود فرآه ملقى على الأرض فأمر بتجهيزه وحمله إلى مشهد علي عليه السلام ليدفن فيه ففعل ذلك.
وكان عادلا كثير الصدقة والمعروف كبير النفس عظيم الهمة. ولما قتل هرب الجورقان إلى شمس الدولة أبي طاهر بن فخر الدولة بن بويه فدخلوا في طاعته.
وكان طاهر بن هلال بن بدر هاربا من جده بنواحي شهرزور، فلما عرف بقتله بادر يطلب ملكه فوقع بينه وبين شمس الدولة حرب فأسر طاهر وحبس وأخذ ما كان قد جمعه بعد أن ملك نائبا عن أبيه هلال وكان عظيما وحمله إلى همذان وسار اللرية والشاذنجان إلى أبي الشوك فدخلوا في طاعته.
248
وحين قتل كان ابنه هلال محبوسا عند الملك سلطان الدولة كما ذكرنا، فلما قتل بدر استولى شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه على بعض بلاده، فلما علم سلطان الدولة بذلك أطلق هلالا وجهزه وسيره ومعه العساكر ليستعيد ما ملكه شمس الدولة عن بلاده، فسار إلى شمس الدولة فالتقيا في ذي القعدة، واقتتل العسكران فانهزم أصحاب هلال وأسر هو فقتل أيضا وعادت العساكر التي كانت معه إلى بغداد على أسوأ حال.
وكان ممن أسر معه أبو المظفر أنوشتكين الأعرابي، وكان في مملكة بدر سابور خواست والدينور وبروجرد ونهاوند وأسداباذ وقطعه من أعمال الأهواز وما بين ذلك من القلاع والولايات.
ذكر الحرب بين علي بن مزيد وبين بني دبيس
في هذه السنة في المحرم كانت الحرب بين أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي وبين مضر ونبهان وحسان وطراد بني دبيس.
وسببها أنهم كانوا قد قتلوا أبا الغنائم بن مزيد أخا أبي الحسن في حرب بينهم وقد تقدم ذكرها وحالت الأيام بينه وبين الأخذ بثأره، فلما كان الآن تجهز لقصدهم وجمع العرب والشاذنجان والجوانية وغيرهما من الأكراد وسار إليهم، فلما قرب منهم خرجت زوجته ابنة دبيس وقصدت أخاها مضر بن دبيس ليلا وقالت له: قد أتاكم ابن مزيد فيما لا قبل لكم
249
به وهو يقنع منكم بإبعاد نبهان قاتل أخيه، فأبعدوه وقد تفرقت هذه العساكر فأجابها أخوها مضر إلى ذلك وامتنع أخوه حسان.
فما سمع ابن مزيد بما فعلته زوجته أنكره وأراد طلاقها وقالت له: خفت أن أكون في هذه الحرب بين فقد أخ حميم أو زوج كريم ففعلت ما فعلت رجاء الصلاح؛ فزال ما عنده منها، وتقدم إليهم وتقدموا إليه بالحلل والبيوت فالتقوا واقتتلوا واشتد القتال لما بين الفريقين من الذحول، فظفر ابن مزيد بهم وعزمهم وقتل حسان ونبهان ابني دبيس واستولى علي البيوت والأموال ولحق من سلم الهزيمة بالحويزة.
ولما ظفر بهم رأى عندهم مكاتبات فخر الملك يأمرهم بالجد في أمره ويعدهم النصرة، فعاتبه على ذلك وحصل بينهما نفرة ودعت فخر الملك الضرورة تقليد ابن مزيد الجزيرة الدبيسية واستثنى مواضع منها الطيب وقرقوب وغيرهما وبقي أبو الحسن هنالك إلى جمادى الأولى.
ثم إن مضر بن دبيس جمع جمعا وكبس أبا الحسن ليلا فهرب في نفر يسير واستولى مضر على حلله وأمواله وكل ماله ولحق أبو الحسن ببلد النسل منهزما.
ذكر ملك شمس الدولة الري وعوده عنها
لما ملك شمس الدولة بين فخر الدولة ولاية بدر بن حسنويه وأخذ ما في قلاعه من الأموال عظم شأنه واتسع ملكه، فسار إلى الري وبها أخوه مجد
250
الدولة فرحل عن الري ومعه والدته إلى دنباوند وخرجت عساكر الري إلى شمس الدولة مذعنة بالطاعة ودخل الري وملكها، وخرج منها يطلب أخاه ووالدته فشغب الجند عليه وزاد خطبهم وطالبوه مطالبات اتسع الخرق بها، فعاد إلى همذان وأرسل إلى أخيه ووالدته يأمرهما بالعود إلى الري فعادا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في شعبان توفي أبو الحسن أحمد بن علي البتي الكاتب الشاعر ومن شعره في تكة:
(لم لا أتيه ومضجعي * بين الروادف والخصور)
(وإذا نسجت فإنني * بين الترائب والنحور)
(ولقد نشأت صغيرة * بأكف ربات الخدور)
وله نوادر كثيره منها أنه شرب فقاعا في دار فخر الملك فلم يستطبه فجلس مفكرا فقال له الفقاعي في أي شيء تفكر فقال في دقة صنعتك كيف أمكنك الخراء في هذه الكيزان الضيقة كلها.
وفي رمضان منها قتل القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الفقيه من أئمة أصحاب الشافعي وكان قاضي الدينور قتله طائفة من عامتها خوفا منه.
وتوفي أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن نباتة السعدي الشاعر والقاضي
251
أبو محمد بن الأكفاني قاضي بغداد وولي بعده قضاء القضاة أبو الحسن أبو الشوارب البصري.
وتوفي أحمد عبد السلام بن الحسن البصري الأديب وأبو القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة بالبطيحة وهو من الكتاب المفلقين ومكاتباته مشهورة وكان ممدحا وممن مدحه ابن الحجاج.
وتوفي أيضا عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس أبو سعيد الإدريسي الأستراباذي الحافظ نزيل سمرقند وهو مصنف تاريخ سمرقند.
وتوفي أيضا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري صاحب التصانيف الحسنة المشهورة وأبو الحسن بن عياض وكان يلقب الناصر وكان يتولى الأهواز وقام ولده بنكير مقامه وأبو علي الحسين بن الحسين بن حمكان الهمذاني الفقيه الشافعي وكان إماما عالما.
252
406
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة
ذكر الفتنة بين باديس وعمه حماد
في هذه السنة هر الاختلاف بين الأمير باديس صاحب أفريقية وعمه حماد حتى آل الأمر بينهما إلى الحرب التي لا بقيا بعدها.
وسبب ذلك أن باديس أبلغ عن عمه حماد قوارص وأمورا أنكرها فأغضى عليها حتى كثر ذلك عليه، وكان لباديس ولد اسمه المنصور أراد أن يقدمه ويجعله ولي عهده فأرسل إلى عمه حماد يقول بأن يسلم بعض ما بيده من الأعمال التي أقطعه إلى نائب ابنه المنصور وهي مدينة تيجس وقيصر الإفريقي وقسنطينة، وسير إلى تسليم ذلك هاشم بن جعفر وهو من كبار قوادهم وسير معه عمه إبراهيم ليمنع أخاه حمادا من أمر أراده فسار إلى أن قاربا حماد ففارق إبراهيم هاشما وتقدم إلى أخيه حماد، فلما وصل إليه حسن له الخلاف على باديس ووافقه على ذلك وخلعا الطاعة وأظهرا العصيان وجمعا الجموع الكثيرة فكانوا ثلاثين ألف مقاتل.
فبلغ ذلك باديس فجمع عساكره وسار إليهما، ورحل حماد وأخوه
253
إبراهيم إلى هاشم بن جعفر والعسكر الذين معه وهو بقلعة شقنبارية فكان بينهم حرب انهزم [فيها] ابن جعفر ولجأ إلى باجة وغنم حماد ماله وعدده فرحل باديس إلى مكان يسمى قبر الشهيد فأتاه جمع كثير من عسكر عمه حماد، ووصلت كتب حماد وإبراهيم إلى باديس أنهما ما فارقا الجماعة ولا خرجا عن الطاعة فكذبهما ما ظهر من أفعالهما من سفك الدماء وقتل الأطفال وإحراق الزروع والمساكن وسبي النساء.
ووصل حماد إلى باجة فطلب أهلها منه الأمان فأمنهم واطمأنوا إلى عهده فدخلها يقتل وينهب ويحرق ويأخذ الأموال.
وتقدم باديس إليه بعساكره، فلما كان في صفر سنة ست وأربعمائة ووصل حماد إلى مدينة أشير وهي له وفيها نائبه واسمه خلف الحميري فمنعه خلف من دخولها وصار في طاعة باديس فسقط في يد حماد فإنها كانت معولة لحصانتها وقوتها.
ووصل باديس إلى مدينة المسيلة ولقيه أهلها وفرحوا به، وسير جيشا إلى المدينة التي أحدثها حماد فخربوها إلى أنهم لم يأخذوا مال أحد وهرب إلى باديس جماعة كثيرة من جند القلعة التي له وفيها أخوه إبراهيم، فأخذ إبراهيم أبناءهم وذبحهم على صدور أمهاتهم فقيل أنه ذبح بيده منهم ستين طفلا، فلما فرغ من الأطفال قتل الأمهات.
وتقارب باديس وحماد والتقوا مستهل جمادى الأولى واقتتلوا أشد قتال وأعظمه ووطن أصحاب باديس أنفسهم على الصبر أو الموت لما كان حماد يفعله لمن يظفر به، واختلط الناس بعضهم ببعض وكثر القتل ثم انهزم
254
حماد وعسكره لا يلوي علي شيء، وغنم عسكر باديس أثقاله وأمواله وفي جملة ما غنم منه عشرة آلاف درقة مختارة لمط، ولولا اشتغال العسكر بالنهب لأخذ حماد أسيرا.
وسار حتى وصل إلى قلعته تاسع جمادى الأولى وجاء إلى مدينة دكمة فتجنى على أهلها فوضع السيف فيهم فقتل ثلاثمائة رجل فخرج إليه فقيه منها، وقال له: يا حماد إذا لقيت الجيوش انهزمت وإذا قاومتك الجموع فررت وإنما قدرتك وسلطانك على أسير لا قدرة له عليك؛ فقتله وحمل جميع ما في المدينة من طعام وملح وذخيرة إلى القلعة التي له.
وسار باديس خلفه وعزم على المقام بناحيته وأمر بالبناء وبذل الأموال لرجاله فاشتد ذلك على حماد وأنكر رجاله وضعفت نفسه وتفرق منه أصحابه.
ثم مات ورو بن سعيد الزناتي المتغلب على ناحية طرابلس واختلفت كلمة زناتة فمالت فرقة مع أخيه خزرون وفرقة مع ابن ورو فاشتد ذلك أيضا على حماد، وكان يطمع أن زناتة تغلب علي بعض البلاد فيضطر باديس إلى الحركة إليهم.
255
ذكر وفاة باديس وولاية ابنه المعز
لما كان يوم الثلاثاء سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة أمر باديس بعرض العساكر فرأى ما سره، وركب آخر النهار ونزل معه جماعة من أصحابه ففارقوه إلى خيامهم، فلما كان نصف الليل توفي.
وخرج الخادم في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد وباديس بن أبي حمامة، وأيوب بن يطوفت وهم أكبر قواده فأعلمهم بوفاته.
وكان بين حبيب وباديس بين حمامة عداوة، فخرج حبيب مسرعا إلى باديس وخرج باديس إليه أيضا فالتقيا في الطريق فقال كل واحد منهما لصاحبه: قد عرفت الذي بيننا والأولى أن نتفق على إصلاح هذا الخلل فإذا انقضى رجعنا إلى المنافسة فاجتمعا مع أيوب وقالوا إن العدو قريب منا وصاحبنا بعيد منا ومتى لم نقدم رأسا نرجع إليه في أمورنا لم نأمن العدو ونحن نعلم ميل صنهاجة إلى المعز وغيرهم إلى كرامت بن المنصور أخي باديس، فاجتمعوا على توليه كرامت ظاهرا فإذا وصلوا إلى موضع الأمن ولوا المعز بن باديس وينقطع الشر.
فأحضروا كرامت وبايعوه وولوه في الحال وأصبحوا وليس عند أحد من العسكر خبر من ذلك وعزموا أن يقولوا للناس بكرة بأن باديس قد شرب دواء فلما أصبحوا أغلق أهل مدينة المحمدية أبوابها وكأنما نودي فيهم بموت باديس فشاع الخبر وخاف الناس خوفا عظيما واضطربوا
256
لموته، وأظهروا ولاية كرامت، فلما رأى ذلك عبيد باديس ومن معه أنكروه فخلا حبيب بأكابرهم وعرفهم الحال فسكنوا.
ومضى كرامت إلى مدينة أشير ليجمع صنهاجة وتلكاتة وغيرهم وأعطوهم من الخزائن مائة ألف دينار.
وأما المعز فإنه كان عمره ثمان سنين وستة أشهر وأياما تقريبا لأن مولده في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
ولما وصل إليه الخبر بموت أبيه أجلسه من عنده للعزاء، ثم ركب في الموكب وبايعه الناس، فكان يركب كل يوم ويطعم الناس كل يوم بين يديه.
وأما العساكر فإنهم رحلوا من مدينة المحمدية إلى المعز وجعلوا باديس في تابوت بين يدي العسكر والطبول البنود على رأسه والعساكر تتبعه ميمنة وميسرة. وكان وصولهم إلى المنصورية رابع المحرم سنة سبع وأربعمائة. ووصلوا إلى المهدية والمعز بها ثامن المحرم فركب المعز ووقف حبيب يعلمه بهم ويذكر له أسماءهم ويعرفه بقوادهم وأكابرهم. فرحل المعز من المهدية فوصل إلى المنصورية منتصف المحرم.
وهذا المعز أول من حمل الناس بأفريقية على مذهب مالك وكان الأغلب عليهم مذهب أبي حنيفة.
وأما كرامت فإنه لما وصل إلى مدينة أشير اجتمع عليه قبائل صنهاجة وغيرهم، فأتاه حماد في ألف وخمسمائة فارس فتقدم إليه كرامت [في] سبعة آلاف مقاتل فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فرجع بعض أصحاب كرامت إلى بيت المال فانتهبوه وهربوا.
فتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه ووصل إلى مدينة أشير فأشار عليه قاضيها وأعيان أهلها بالمقام ومنع حماد عنها،
257
ففعل، ونازلهم حماد وطلب كرامت ليجتمع به فخرج إليه فأعطاه مالا وأذن له في المسير إلى المعز وقتل حماد من أهل أشير كثيرا حيث أشاروا على كرامت بحفظ البلد ومنع حماد منه ووصل كرامت إلى المعز في المحرم هذه السنة فأكرمه وأحسن إليه.
وفي آخر ذي الحجة سير الحاكم الخلع من مصر إلى المعز ولقبه شرف الدولة ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والإحراق، وسار المعز إلى حماد لثمان بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة بالعساكر لمنعه عن البلاد، فإنه كان يحاصر باغية وغيرها، فلما قاربه رحل عن بغية و التقوا آخر ربيع الأول فما كان إلا ساعة حتى انهزم حماد وأصحابه ووضع أصحاب المعز فيهم السيف وغنموا مالهم من عدد ومال وغير ذلك، فنادى المعز من أتى برأس فله أربعة دنانير فأتي بشيء كثير وأسر إبراهيم أخو حماد ونجا حماد وقد أصابته جراحة وتفرق عنه أصحابه ورجع المعز، وورد رسول من حماد إليه يعتذر ويقر بالخطأ ويسأل العفو، فأجابه المعز إن كنت على ما قلته فأرسل ولدك القائد إلينا.
واستعمل المعز على جميع العرب المجاورة لإبراهيم عمه كرامت، فعاد جواب حماد أن إذا وصله كتاب أخيه إبراهيم بالعلامات التي بينهم أنه قد أخذ له عهد المعز بعث ولده القائد أو حضر بنفسه فحضر إبراهيم وأخذ العهود على المعز وأرسل إليه يعرفه ذلك ويشكر المعز على إحسانه إليه، ووصل المعز إلى قصره آخر جمادى الأولى، ولما وصل أطلق عمه إبراهيم وخلع عليه وأعطاه الأموال والدواب وجميع ما يحتاج إليه، فلما سمع
258
حماد ذلك أرسل ولده القائد إلى المعز وكان وصوله للنصف من شعبان فأكرمه وأعطاه شيئا كثيرا وأقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما، وعاد إلى أبيه في شهر رمضان ورضي الصلح وحلف عليه واستقرت الأمور بينهما وتصاهرا وزوج المعز أخته بعبد الله بن حماد فازدادوا اتفاقا وأمنا.
وكان بأفريقية والغرب غلاء بسبب الجراد واختلاف الملوك، ولما استقر الصلح والاتفاق سير المعز الجيوش إلى القبائل من البربر وغيرهم، فإن الحروب ينهم كانت بسبب الاختلاف كثيرة والدماء مسفوكة، فلما رأوا عساكر السلطان رجعوا إلى السكون وترك الحر ب من أبى قوتل فقتل المفسدون وأصلح ما بين القبائل.
ووصل من جزيرة الأندلس زاوي بن زيري بن مناد عم أبي المعز وأهله وولده وحشمه، وكان قد أقام بالأندلس مدة طويلة.
وقد ذكرناه سبب دخوله الأندلس وملك بالأندلس غرناطة وقاسى حروبا كثيرة ووصل معه من الأموال والعدد والجواهر شيء كثير لا يحد فأكرمهم المعز وحمل لهم شيئا عظيما وإقامات زائدة وأقاموا عنده.
كان ينبغي أن يكتب وفاة باديس وما بعده سنة سبع وأربعمائة وإنما اتبعنا بعض أخبارهم بعضا.
259
ذكر غزوة محمود إلى الهند
في هذه السنة غزا محمود بن سبكتكين الهند على عادته فضل أدلاؤه الطريق ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر فغرق كثير ممن معه وخاض الماء بنفسه أياما حتى تخلص وعاد إلى خراسان.
ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان
وفيها قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب وقتل سلخ ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهرا. وكان نظره بالعراق خمس سنين وأربعة شهور واثني عشر يوما، وكان كافيا حسن الولاية والآثار ووجد له ألف ألف دينار عينا سوى ما نهب وسوى الأعراض وكان قبضه بالأهواز، ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن هناك.
قيل: كان ابن علمكار وهو من كبار قوادهم قد قتل انسانا ببغداد فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك أبي غالب تتظلم منه ولا يلتفت إليها،
260
فلقيته يوما وقالت له: تلك الرقاع التي كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى. فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكار فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان فلقب عميد أصحاب الجيوش، وكان مولده برامهرمز في شعبان سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر قتل طاهر بن هلال بن بدر
في هذه السنة أطلق شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه طاهر بن هلال بن بدر واستحلفه على الطاعة له، واجتمع معه طوائف فقوي بهم وحارب أبا الشواك فهزمه، وقتل سعدى أخو أبي الشوك، ثم انهزم أبو الشوك منه مرة ثانية ومضى منهزما إلى حلوان وبذل له أبو الحسن بن مزيد الأسدي المعاونة فلم يكن فيه معاودة الحرب.
وأقام طاهر بالنهروان وصالح أبا الشوك وتزوج أخته، فلما أمنه طاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي وحمله أصحابه فدفنوه بمشهد باب التبن.
ذكر عدة حوادث
فيها توفي الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر أبو الحسن صاحب الديوان المشهور وشهد جنازته الناس
261
كافة ولم يشهدها أخوه لأنه لم يستطع أن ينظر إلى جنازته فأقام بالمشهد إلى أن أعاده الوزير فخر الملك إلى داره، ورثاه كثير من الشعراء منهم أخوه المرتضى فقال:
(يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددتها ذهبت علي برأسي)
(ما زلت آبى وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي)
(ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي)
(لا تنكروا من فيض دمعي عبرة * فالدمع خير مساعد ومواسي)
(واها لعمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأرجاس)
وفيها توفي أبو طالب أحمد بكر العبدي النحوي مصنف شرح الإيضاح وأبو أحمد عبد السلام بن أبي مسلم الفرضي والإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الأسفرايني إمام أصحاب الشافعي، وكان يحضر درسه أربعمائة متفقه، وكان يدرس بمسجد عبد الله بن المبارك بقطيعة الفقهاء وكان عمره إحدى وستين سنة وأشهرا.
وفيها توفي أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن والد عميد الجيوش بشيراز وكان عمره مائة وخمس سنين؛ وتوفي شهاب الدولة أبو درع رافع بن محمد بن مقرن وله شعر حسن منه:
262
(ما زلت أبكي في الديار تأسفا * لبين خليل أو فراق حبيب)
(فلما عرفت الربع لا شك أنه * هو الربع فاضت مقلتي بغروب)
(وجربت دهري ناسيا فوجدته * أخا غير لا تنقضي وخطوب)
(وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد * من الناس خدنا حافظا لمغيب)
(ولم يبق منهم حافظ لذمامه * ولا ناصر يرعى جوار قريب)
وفيها توفي الشار أبو نصر الذي كان صاحب غرشستان من خراسان في قبض بين الدولة، وقد ذكرنا سبب ذلك.
وفيها صفر قلد الشريف المرتضى أبو القاسم أخو الرضي نقابة العلويين والحج والمظالم بعد موت أخيه الرضي.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أهل الكرخ وبين أهل باب الشعير ونهبوا القلائين فأنكر فخر الملك على أهل الكرخ ومنعوا من النوح يوم عاشوراء ومن تعليق المسوح.
وفيها وقع بالصرة وما جاورها وباء شديد عجز [معه] الحفارون عن حفر القبور.
وفيها في حزيران جاء مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
263
407
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
ذكر قتل خوارزمشاه وملك يمين الدولة
خوارزم وتسليمها إلى التونتاش
في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم.
وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية كما ذكرناه وخطب إلى يمين الدولة فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر
بلاده فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك فأظهروا الامتناع ونهوه عنه وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده.
ثم إن أمراءه خافوه حيث ردوا أمره فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعلموا أن يمين الدولة يسوءه ذلك وربما طالبهم بثأره فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته.
واتصل الخبر بيمين الدولة فجمع العساكر وسار نحوهم فلما قاربهم
264
جمعهم صاحب جيشهم ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة واشتد القتال بينهم.
واتصل الخبر بيمين الدولة فتقدم نحوهم في سائر جيوشه فلحقهم وهم في الحرب فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار وأحسنوا القتال ثم إنهم انهزموا وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون ولم يسلم القليل.
ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها فجرى بينه بين من معه منافرة فقاموا عليه وأوثقوه وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة وسلموه إليه، فاخذه وسائر القواد المأسورين معه وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجا بعد فوج فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم وأجرى لهم الأرزاق وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء ويحفظونها من أهل الفساد وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش.
ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهما
في هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند بعد فراغه من خوارزم فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازما على غزو قشمير إذ كان قد استولى
265
على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل مما وراء النهر وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيرا دائما وعبر نهر سيحون وجيلوم وهما نهران عميقان شديدا الجرية فوطئ أرض الهند وأتاه ملوكها بالطاعة وبذل الأتاوة.
فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده وسار بين يديه إلى مقصد، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة حتى بلغ حصن هودب وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه فرأى من العساكر ما هاله وأرعبه وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص طلبا للخلاص فقبله يمين الدولة وسار عنه إلى قلعة كالجند وهو من أعيان الهند وشياطينهم وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم وسلك طريقا مختصرة إلى الحصن فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالا شديدا فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف فانهزموا وأخذهم السيف من خلفهم ولقوا نهرا عميقا بين أيديهم فاقتحموه فغرق أكثرهم، وكان القتلى والغرقى قريبا من خمسين ألفا، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه.
ثم سار نحو بيت متعبد لهم وهو من مهرة الهند وهو من أحصن الأبنية على نهر ولهم به بمن الأصنام كثير منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر مرصعة
266
بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفا وثلاثمائة مثقال وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه وأحرق الباقي وسار نحو قنوج وصاحبها راجيال فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها وعبر الماء المسمى كنك وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة وان من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة وأخذ قلاعها وأعمالها وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذبا منهم وزورا، ولما فتحها أباحها عسكره.
ثم سار إلى قلعة البراهمة فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاعة لهم فاستسلموا للسيف فقتلوا ولم ينج منهم إلا الشريد.
ثم سار نحو قلعة آسي وصاحبها جند بال فلما قاربها هرب جند بال وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروه وصاحبها جندرآي فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هنالك منيعة يحتمي بها وعمي خبره فلم يدر أين هو فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة وقد بلغه خبره فلحق به في آخر شعبان فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي وأسر كثيرا منهم وغنم ما معهم من مال وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا.
وكان السبي في هذه الغزوة كثيرا حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من
267
عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافرا ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة فبنى بناء لم يسمع بمثله ووسع فيه.
وكان جامعها القديم صغيرا وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه.
ذكر حال ابن فولاذ
في هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه.
وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعا فنجب في دولة بني بويه وعلا صيته وارتفع قدره واجتمع إليه الرجال فلما كان الآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال فلم يفعلا واعتذر إليه، فقصد أطراف ولاية الري وأظهر العصيان وجعل يفسد ويغير ويقطع السبيل وملك ما يليه من القرى، فعجز عنه فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجبل وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ وولى منهزما حتى بلغ الدامغان فأقام حتى عاد أصحابه إليه، ورجع أصبهبذ إلى بلاده.
وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكرا ليملك البلاد ويقيم له الخطبة فيها ويحمل إليه المال فأنفذ له ألفي رجل فسار بهم حتى نزل بظاهر الري وأعاد الإغارة ومنع الميرة عنها فضاقت
268
الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته وإعطائه ما يلتمسه فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه وزال الفساد وعاد إلى طاعة مجد الدولة.
ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس وقتل سليمان
وفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبي العيش بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضيا بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم وجرح خيران عدة جراحات وترك على أنه ميت فلما فارقوه قام يمشي فأخذ رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ وأعطاه مالا وخرج منها سرا إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه وقويت نفسه وقاتل من هناك من البربر وملك المرية واجتمع إليه الأجناد وأزال البربر عن البلاد المجاورة له فغلظ أمره وعظم شأنه.
وكان علي بن حمود بمدينة سبتة بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكا
269
لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستوليا عليها وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بين الحاكم فقودهما على المغاربة ثم ولاهما هذه البلاد وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد ويرغب فيها ويخطب له على منابر بلادها التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد.
وكان خيران يكاتب الناس ويأمرهم بالخروج على سليمان فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد وهو بمالقة وكاتبوا علي بن حمود وهو بسبتة ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة فخرج عنها عامر بن فتوح وسلمها ودعا بولاية العهد، وسار خيران ومن أجابه إليه فاجتمعوا بالمنكب وهي ما بين المرية ومالقة سنة ست وأربعمائة وقرروا ما يفعلونه وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم وساروا إلى قرطبة وبايعوا عليا على طاعة المؤيد الأموي.
فلما بلغوا غرناطة أميرها وسار معهم إلى قرطبة فخرج سليمان والبربر إليهم فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ ونشب القتال بينهم فانهزم سليمان والبربر وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيرا فحمل إلى علي بم حمود ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع [وأربعمائة]
270
ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعا في أن يجدوا المؤيد حيا فلم يدوه ورأوا شخصا مدفونا فنبشوه، وجمعوا له الناس وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه ففتشه وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء وكان يعرفها ذلك الفتى فاجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفا على أنفسهم من علي فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع [وأربعمائة] وقتل أبه واخاه.
ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له يا شيخ قتلتم المؤيد فقال والله ما قتلناه وإنه لحي، فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخا صالحا منقبضا لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه، واستولى علي بن حمود علي قرطبة ودعا الناس إلى بيعته فبويع واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله.
ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعا أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن عليا يريد قتله، فخرج عن قرطبة واظهر الخلاف عليه.
ذكر ظهور عبد الرحمن الأموي
لما خالف خيران عليا أرسل يسأل عن بني أمية فدل على عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عب الرحمن الناصر الأموي وكان قد خرج من قرطبة مستخفيا ونزل بجيان وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره ولقبوه مرتضى وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى وراسل أهل شاطبة وبلنسية وطرطوشة
271
والبنت فأجابوا كلهم إلى بيعته والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين بالأضحى سنة ثمان وأربعمائة ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى وأصفقوا على بيعه، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة.
وأقبل المرتضى على أهل بلنسية وشاطبة وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي ولخيران ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما وسار حتى وصل إلى غرناطة فوصل إليها ونزل عليها وقاتلوا أياما قتالا شديدا فغلبهم أهل غرناطة وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة وهو أصغر من أخيه هشام وسار أخوه هشام إلى البنت وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى.
ذكر قتل علي بن حمود العلوي
فلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه،
272
فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره فدخلوا عليه فرأوه مقتولا، فعاد العسكر إلى البلد.
وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناصر لدين الله وكان أسمر أعين أكحل، خفيف الجسم طويل القامة حازما عازما عادلا حسن السيرة وكان قد عزم على إعادة أموال أهل قرطبة إليهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه وكان يحب المدح ويجزل العطاء عليه.
ثم ولي بعده أخوه القاسم وهو أكبر من علي بعدة أعوام وكان عمر علي ثمانيا وأربعين سنة بنوه يحيى وإدريس وأمه قرشية وكنيته أبو الحسن وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر.
ذكر ولاية القاسم بن حمود العلوي بقرطبة
قد ذكرنا قتل أخيه علي بن حمود سنة سبع وأربعمائة، فلما قتل بايع الناس أخاه القاسم ولقب المأمون، فلما ولي واستقر ملكه كاتب العامريين واستمالهم، وأقطع زهيرا جيان وقلعة رباح وبياسة، وكاتب خيران واستعطفه فلجأ إليه واجتمع به ثم عاد عنه إلى المرية، وبقي القاسم مالكا لقرطبة وغيرها إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
273
وكان وادعا لينا يحب العافية فأمن الناس معه وكان يتشيع إلا أنه لم يظهر شيئا من ذلك، فسار عن قرطبة إلى إشبيلية فخاله يحيى ابن أخيه فيها.
ذكر دولة يحيى بن علي بن حمود وما كان منه ومن عمه
لما سار القاسم بن حمود عن قرطبة إلى إشبيلية سار ابن أخيه يحيى بن علي من مالقة إلى قرطبة فدخلها بغير مانع فلما تمكن بقرطبة دعا الناس إلى بيعته فأجابوه فكانت البيعة مستهل جمادى الأولى من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ولقب بالمعتلي وبقي بقرطبة يدعى له بالخلافة وعمه القاسم بإشبيلية يدعى له بالخلافة إلى ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فسار يحيى عن قرطبة إلى مالقة.
ووصل الخبر إلى عمه فركب وجد في السير ليلا ونهارا إلى أن وصل إلى قرطبة، فدخلها ثامن عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة [وأربعمائة]، وكان مدة مقامه بإشبيلية قد استمال العساكر من البربر وقوي بهم وبقي القاسم بقرطبة شهورا ثم اضطراب أمره بها وسار ابن أخيه يحيى بن علي إلى الجزيرة الخضراء وغلب عليها وبها أهل عمه وماله، وغلب أخوه إدريس بن علي صاحب سبتة على طنجة وهي كانت عدة القاسم التي يلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس فلما ملك ابنا أخيه بلاده طمع فيه الناس وتسلط البربر على قرطبة فأخذوا أموالهم، فاجتمع أهلها وبرزوا إلى قتاله عاشر جمادى الأولى سنة
274
أربع عشرة [وأربعمائة]، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم سكنت الحرب وأمن بعضهم بعضا إلى منتصف جمادى الأولى من السنة والقاسم بالقصر يظهر التودد لأهل قرطبة وأنه معهم وباطنه مع البربر.
فلما كان يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة صلى الناس الجمعة فلما فرغوا تنادوا السلاح السلاح فاجتمعوا ولبسوا السلاح وحفظوا البلد ودخلوا قصر الإمارة، فخرج عنها القاسم واجتمع معه البربر وقاتلوا أهل البلد وضيقوا عليهم وكانوا أكثر من أهله، فبقوا كذلك نيفا وخمسين يوما والقتال متصل فخاف أهل قرطبة وسألوا البربر في أن يفتحوا لهم الطريق ويؤمنوهم على أنفسهم وأهليهم فأبوا إلا أن يقتلوهم فصبروا حينئذ على القتال وخرجوا من البلد ثاني عشر شعبان وقاتلوهم قتال مستقتل فنصرهم الله على البربر (ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله)، وانهزم البربر هزيمة عظيمة ولحق كل طائفة منهم ببلد فاستولوا عليه.
وأما القاسم بن حمود فإنه سار إلى إشبيلية وكتب إلى أهلها في إخلاء الف دار ليسكنها البربر فعظم عليهم، وكان بها ابناه محمد والحسن، فثار بهما أهلها فأخرجوهما عنهم ومن معهما وضبطوا البلد وقدموا على أنفسهم ثلاثة من شيوخهم وكبرائهم وهم القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي ومحمد بن يريم الألهاني ومحمد بن الحسن الزبيدي، وكانوا يدبرون أمر البلد والناس.
ثم اجتمع ابن يريم والزبيدي وسألوا ابن عباد أن ينفرد بتدبير أمورهم،
275
فامتنع وألحوا عليه فلما خاف على البلد بامتناعه أجابهم إلى ذلك وانفرد بالتدبير وحفظ البلد.
فلما رأى القاسم ذلك سار في تلك البلاد ثم إنه نزل بشريش فزحف إليه يحيى ابن أخيه ومعه جمع من البربر فحصروه ثم أخذوه أسيرا في حبسه فبقي بل مات حتف أنفه وحمل إلى ابنه محمد وهو بالجزيرة الخضراء فدفنه.
وكانت مدة ولاية القاسم بقرطبة مذ تسمى بالخلافة إلى أن أسره ابن أخيه ستة أعوام سنة، وله من الولد محمد والحسن أمهما أميره بنت الحسن بن القاسم المعروف بقتون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان أسمر أعين أكحل مصفر اللون طويلا خفيف العارضين.
ذكر عود بني أمية إلى قرطبة وولاية المستظهر
لما انهزم البربر والقاسم بن علي من أهل قرطبة على ما ذكرناه اتفق رأي أهل قرطبة على رد بني أمية فاختاروا عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي فبايعوه بالخلافة ثالث عشر رمضان من سنة أربع عشرة وأربعمائة وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة وتلقب بالمستظهر بالله فكانت ولايته شهرا واحدا
وسبعة عشر يوما وقتل وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة واحدا وسبعة عشر يوما وقتل.
وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم لميلهم إلى
276
سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من السجن وألبوا الناس فأجابهم صاحب الشرطة وغيره واجتمعوا وقصدوا السجن فأخرجوا من فيه.
وكان ممن وافقهم على ذلك أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي في جماعة كثيرة فظفروا بالمستظهر فقتلوه في ذي القعدة ولم يعقب، وكنيته أبو المطرف وأمه أم ولد، وكان أبيض أشقر أعين شثن الكفين رحب الصدر وكان أديبا خطيبا بليغا رقيق الطبع له شعر جيد وكان وزيره أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم وكان سليمان بن المرتضى قد مات قبل قتله بعشرة أيام.
ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمن
لما قتل المستظهر بايع الناس بقرطبة محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر وكنيته أبو عبد الرحمن الأموي في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة وخطبوا له الخلافة ولقبوه المستكفي بالله، وكان همه لا يعدو فرجه وبطنه وليس له هم ولا فكر في سواهما، وبقي بها سته عشر شهرا وأياما وثار عليه أهل قرطبة في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة فخلعوه وخرج عن قرطبة ومعه جماعة من أصحابه حتى صار إلى أعمال مدينة سالم فضجر منه بعض أصحابه فشوى له دجاجة وعمل فيها شيئا من البيش،
277
فأكلها فمات في ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان في غاية التخلف وله أخبار يقبح ذكرها وكان ربعه أشقر أزرق مدور الوجه ضخم الجسم وكان عمره نحو خمسين سنة.
ولما توفي أعاد أهل قرطبة دعوة المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود العلوي بها.
ذكر عود يحيى العلوي إلى قرطبة وقتله
ولما مات أبو عبد الرحمن الأموي وصح عند أهل قرطبة خبر موته سعى معهم بعض أهلها ليحيى بن علي بن حمود العلوي ليعيدوه إلى الخلافة وكان بمالقة يخطب لنفسه بالخلافة فكتبوا إليه وخاطبوه بالخلافة وخطبوا له في رمضان سنة ست عشرة وأربعمائة، فأجابهم إلى ذلك وأرسل إليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني واليا عليهم ولم يحضر هو باختياره، فبقي عبد الرحمن فيها إلى محرم سنة سبع عشرة، فسار إليه مجاهد وخيران العامريان في ربيع الأول منها في جيش كثير، فلما قاربوا قرطبة ثار أهلها بعبد الرحمن فأخرجوه وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة ونجا الباقون.
وأقام خيران ومجاهد نحو شهر ثم اختلفا فخاف كل واحد منهما صاحبه، فعاد خيران عن قرطبة لسبع بقين من ربيع الآخرة من السنة إلى المرية بقي بها إلى سنة ثمان عشرة وتوفي وقيل سنة تسع عشرة وصارت المرية بعده لصاحبه زهير العامري فخالف حبوس بن ماكسن الصنهاجي البربري
278
وأخوه على طاعة يحيى بن علي العلوي، وبقي مجاهد مدة ثم سار إلى دانية وقطعت خطبة يحيى منها وأعيدت خطبة الأمويين على ما نذكره فيما بعد ان شاء الله، وبقي يتردد عليها بالعساكر واتفق البربر على طاعته وسلموا إليه ما بأيديهم من الحصون والمدن فقوي وعظم شأنه، وبقي كذلك مدة.
ثم سار إلى قرمونة فأقام بها محاصرا لإشبيلية طامعا في أخذها، فأتاه الخبر يوما أن خيلا لأهل إشبيلية قد أخرجها القاضي أبو القاسم بن عباد إلى نواحي قرمونة فركب إليهم ولقيهم وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل وذلك في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وخلف من الولد الحسن وإدريس لأمي ولد وكان أسمر أعين أكحل طويل الظهر قصير الساقين وقورا هينا لينا وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وأمه بربرية.
ذكر أخبار أولاد يحيى وأولاد
أخيه وغيرهم وقتل ابن عمار
نذكر ههنا ما كان من أخبار أولاده وأولاد أخيه وغيرهم من العلويين متتابعا لئلا ينقطع الكلام وليأخذ بعضه ببعض.
لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية ونجا الخادم الصقلبي وهما مدبرا دولة العلويين فأتيا مالقة وهي دار
279
مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبتة وطنجة وطلباه فأتى إلى مالقة وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة وتلقب إدريس بالمتأيد بالله فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد فأخذ قرمونة وأخذ أيضا أشبونة واستجة.
فأرسل صاحبها إلى إدريس وغلى باديس بن حبوس صاحب صنهاجة فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد فعادوا عنه، فسار إسماعيل مجدا ليأخذ على صنهاجة الطريق فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا وقاتلوا إسماعيل بن عباد فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه فقتل وحمل رأسه إلى إدريس.
وكان إدريس قد أيقن بالهلاك وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض فلما أتاه الرأس عاش بعده يومين ومات وترك من الولد يحيى ومحمدا وحسنا وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابني عمه محمدا والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة.
فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما ودعا الناس إليهما فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة ولم يتسم بالخلافة.
وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة
280
هو والحسن بن يحيى فهرب ابن بقية ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر فقتله الحسن وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس وبايعه الناس بالخلافة ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة وترك مع الحسن المستنصر نائبا له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحوا من سنتين ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفا على أخيها يحيى فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من سبتة إلى مالقة وعزم على محو أمر العلويين وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك فعظم عندهم فقتلوه وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس ين يحيى وبايعوه بالخلافة وتسمى بالعالي، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جمعة بخمسمائة دينار ورد كل مطرود عن وطنه وأعاد عليهم أملاكهم.
وكان متأدبا حسن اللقاء له شعر جيد إلا أنه كان يصحب الأرذال ولا يحجب نساءه عنهم وكل من طلب منهم حصنا من بلاده أعطاه فأخذ منه صنهاجة عدة حصون وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه فسلمه إليهم فقتلوه، وكان قد اعتقل ابني عمه محمدا والحسن ابني إدريس بن علي في حصن أيرش، فلما رأى ثقته بأيرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي، وثار بإدريس بن يحيى من عنده من السودان وطلبوا محمدا فجاء إليهم فسلم إليه إدريس الأمر وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد وتلقب بالمهدي وولى أخاه الحسن عهده ولقبه السامي.
وظهرت من المهدي شجاعة وجراءة فهابه البربر وخافوه، فراسلوا
281
الموكل بإدريس ين يحيى، فأجابهم إلى إخراجه وأخرجه له وبايع وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين [وأربعمائة].
ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره فنفاه عنه فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم فبايعوه، ثم إن جاء البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة وتسمى بالمهدي أيضا، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخا، فرجعت البربر عنه وعاد إلى الجزيرة ابنه القاسم ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين [وأربعمائة]، وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقلت إلى صنهاجة.
ذكر ولاية هشام الأموي قرطبة
لما قطعت دعوة يحيى بن علي العلوي عن قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة على ما ذكرناه قبل أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أمية، وكان رأسهم في ذلك أبا الحزم جهور بن محمد بن جهور، فراسلوا أهل الثغور والمتغلبين هناك في هذا فاتفقوا معهم، فبايعوا أبا بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي وكان مقيما بالبنت مذ قتل أخوه المرتضى فبايعوه في ربيع الأول سنة ثماني
282
عشرة، وتلقب بالمعتد بالله، وكان أسن من المرتضى ونهض إلى الثغور فتردد فيها وجرى له هناك فتن واضطراب شديد من الرؤساء إلى أن اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجة سنة عشرين [وأربعمائة] وبقي بها حتى خلع ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين.
وكان سبب خلعه أن وزيره أبا عاصم سعيدا القزاز لم يكن له قديم رياسة وكان يخالف الوزراء المتقدمين ويتسبب إلى أخذ أموال التجار وغيرهم، وكان يصل البربر ويحسن إليهم ويقربهم، فنفر عنه أهل قرطبة فوضعوا عليه من قتله، فلما قتلوه استوحشوا من هشام فخلعوه بسببه، فلما خلع هشام قام أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر وتسور القصر مع جماعة من الأحداث ودعا إلى نفسه فبايعه من سواد الناس كثير فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولت عنكم؛ فقال: بايعوني اليوم واقتلوني إذا فانفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتد بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة فودع المعتمد أهله وخرج إلى حصن محمد بن الشور بجبل قرطبة فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد بن الشور فقتلوه وأخرجوا المعتمد إلى حصن آخر وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين [وأربعمائة] ودفن بناحية لاردة، وهو
283
آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
وأما أمية فإنه اختفى بقرطبة فنادى أهل قرطبة بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أمية بها ولا يتركهم عنده أحد.
فخرج أمية فيمن خرج وانقطع خبره مدة، ثم أراد العود إليها فعاد طمعا في ان يسكنها، فأرسل إليه شيوخ قرطبة من منعه عنها وقيل قتل وغيب وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين [وأربعمائة]، ثم انحل عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد على ما نذكره.
ذكر تفرق ممالك الأندلس
ثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء فتغلب كل إنسان على شيء منه فصاروا مثل ملوك الطوائف وكان ذلك أضر شيء على المسلمين، فطمع بسببه العدو الكافر خذله الله فيهم ولم يكن لهم اجتماع إلى أن ملكه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين على ما نذكره إن شاء الله.
فأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور المقدم ذكره، وكان من وزراء الدولة العامرية قديم الرياسة موصوفا بالدهاء والعقل ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها، فلما خلاله الجو وأمكنته الفرصة وثب عليها فتولى أمرها وقام بحمايتها ولم يتنقل إلى رتبة الإمارة ظاهرا بل دبرها تدبيرا لم يسبق إليه، وأظهر أنه حام للبلد إلى أن يجيء من يستحقه ويتفق عليه الناس فيسلمه إليه، ورتب
284
البوابين والشم على أبواب قصور الإمارة ولم يتحول هو عن داره إليها وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليهم وصير أهل الأسواق جندا وجعل ارزاقهم ربح أموال تكون بأيديهم دينا عليهم فيكون الربح لهم ورأس المال باقيا عليهم، وكان يتعهدهم في الأوقات المتفرقة لينظر كيف حفظهم لها وفرق السلاح عليهم فكان أحدهم لا يفارقه سلاحه حتى يعجل حضوره إن احتاج إليه.
وكان جهور بشهد الجنائز ويعود المرضى ويحضر الأفراح على طريقة الصالحين وهو مع ذلك يدبر الأمر تدبير الملوك وكان مأمون الجانب وأمن الناس في أيامه وبقي كذلك إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمرها بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها الأمير الملقب بالمأمون صاحب طليطلة فدبرها إلى أن مات بها.
وأما إشبيلية فاستولى عليها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي وهو من ولد النعمان بن المنذر وقد ذكرنا سبب ذلك في دولة يحيى بن علي بن حمود قبل هذا وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام بن الحاكم وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهور بمالقة ثم سار منها إلى المرية فخافه صاحبها زهير العامري فأخرجه منها، فقصد قلعة رباح فأطاعه أهلها فسار إليهم صاحبه إسماعيل بن ذي النون وحاربهم فضعفوا عن مقاومته فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية وأذاع أمره وقام بنصره وكان رؤساء الأندلس في طاعته فأجابه إلى ذلك صاحب بلنسية نواحيها وصاحب قرطبة وصاحب
285
دانية والجزائر وصاحب طرطوشة وأقروا بخلافته وخطبوا له وجددت بيعته بقرطبة في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ثم إن ابن عباد سير جيشا إلى زهير العامري لأنه لم يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة فسار إليه بجيشه فعادت عساكر ابن عباد ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير بياسة وعاد حبوس إلى مالقة فمات في رمضان من هذه السنة وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحبوس تستقر بينهما قاعدة واقتتلا، فقتل زهير وجمع كثير من أصحابه أواخر سنة تسع وعشرين [وأربعمائة].
ثم في سنة إحدى وثلاثين [وأربعمائة] التقى عسكر ابن عباد وعليهم ابنه إسماعيل مع باديس بن حبوس وعسكر إدريس العلوي على ما ذكرناه عند أخبار العلويين فيما تقدم، إلا أنهم اقتتلوا قتالا شديدا فقتل إسماعيل، ثم مات بعده أبو القاضي أبو القاسم سنة ثلاث وثلاثين وولي بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد ولقب بالمعتضد بالله، فضبط ما ولي وأظهر قضاة المؤيد.
هذا قول ابن أبي الفيض في المؤيد وقال غيره إن المؤيد لم يظهر خبره منذ عدم من قرطبة عند دخول علي بن حمود إليها وقتله سليمان وإنما كان هذا من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره، وأعجب من اختفاء حال المؤيد ثم تصديق الناس ابن عباد فيما أخبر به من حياته أن إنسانا حضريا
286
ظهر بعد موت المؤيد بعشرين سنة و ادعى أنه ابن المؤيد فبويع بالخلافة وخطب له على منابر جميع بلاد الأندلس في أوقات متفرقة وسفكت الدماء بسببه و اجتمعت العساكر في أمره.
ولما أظهر ابن عباد موت هشام المؤيد واستقل بأمر إشبيلة وما انضاف إليها بقي كذلك إلى ان مات من ذبحة لحقته لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد بن القاضي أبي القاسم ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع ملكه وشمخ سلطانه وملك كثيرا من الأندلس وملك قرطبة أيضا وولي عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة فحسده عليها فضمن له جرير بن عكاشة أن يجعل ملكها لها، وسار إلى قرطبة وأقام بها يسعى في ذلك وهو ينتهز الفرصة.
فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديدة ورعد وبرق فثار جرير فيمن معه ووصل إلى قصر الإمارة فلم يجد من يمانعه، فدخل صاحب الباب إلى الظافر وأعلمه فخرج بمن معه من العبيد و الحرس وكان صغير السن وحمل عليهم ودفعهم عن الباب، ثم إنه عثر في بعض كراته فسقط فوثب بعض من يقاتله وقتله، ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد وإلا والقصر قد ملك وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه وترك الظافر ملقى على الأرض عريانا، فمر عليه بعض أهل قرطبة فأبصره على تلك الحال فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكره يتمثل:
(ولم أدر من ألقى عليه رداؤه * على أنه قد سل عن ماجد محض)
ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها حتى عاد ملكها، وترك ولده المأمون
287
فيها، فأقام بها حتى أخذها جيش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى سنة أربع وثمانين [وأربعمائة]. وأخذت إشبيلة من أبيه المعتمد في السنة المذكورة، وبقي محبوسا في اغمات إلى أن مات بها رحمه الله وكان هو وأولاده جميعهم الرشيد والمأمون والراضي والمعتمد وأبوه وجده علماء فضلاء شعراء.
واما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري وتلقب بالمنصور ثم انتقلت بعده إلى أبي بكر محمد بن عبد الله بن سلمة المعروف بابن الأفطس أصله من بربر مكناسة لكنه ولد أبوه بالأندلس ونشأوا بها وتخلقوا بخلق أهلها وانتسبوا إلى تجيب وشاكلهم الملك.
فلما توفي صارت بعده إلى ابنه أبي محمد عمر بن محمد واتسع ملكه إلى أقصى المغرب وقتل صبرا مع ولدين له عند تغلب أمير المسلمين على الأندلس.
وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش فلم تطل مدته وصارت رياسته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن مطرف بن ذي النون ولقبه الظافر بحول الله، وأصله من البربر وولد بالأندلس وتأدب بآداب أهلها، وكان مولد إسماعيل سنة تسعين وثلاثمائة وتوفي سنة خمس و ثلاثين وأربعمائة وكان عالما بالأدب وله شعر جيد وصنف كتابا
في الآداب والأخبار.
وولي بعده ابنه يحيى فاشتغل بالخلاعة والمجون وأكثر مهاداة الفرنج ومصانعتهم ليتلذذ باللعب، وامتدت يده إلى أموال الرعية، ولم تزل الفرنج تأخذ حصونه شيئا بعد شيء حتى أخذت طليطلة في سنة سبع وسبعين
288
وأربعمائة، وصار هو ببلنسية واقام بها إلى أن قتله القاضي ابن حجاف الأحنف، وفيه يقول الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر:
(أيها الأحنف مهلا * فلقد جئت عويصا)
(إذ قتلت الملك يحيى * وتقمصت القميصا)
(رب يوم فيه تجزى * لا تجد فيه محيصا)
وأما سرقسطة والثغر الأعلى فكان بيد منذر بن يحيى التجيبي ثم توفي فولي بعده ابنه يحيى ثم صارت بعده لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي وكان يلقب بالمستعين بالله، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة وله وقعة مشهورة بالفرنج بطليطلة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي وولي بعده بأنه المقتدر بالله وولي بعده بأنه يوسف بن أحمد المؤتمن ثم ولي بعده ابنه أحمد المستعين بالله على لقب جده ثن ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة، ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمس مائة، فصارت بلادهم جميعها لابن تاشفين.
ورأيت بعض أولادهم بدمشق سنة تسعين وخمسمائة وهو فقير جدا وهو قيم الربوة فسبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور.
وأما طرطوشة فوليها لبيب الفتى العامري.
وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن المنصور بن أبي عامر المعافري ثم انضاف إليه المرية وما كان إليها وبعده ابنه محمد ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذي
289
النون وأخذ منه رئاسة بلنسية في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة فانتزح إلى المرية وأقام بها إلى أن خلع على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما السهلة فملكها عبود بن رزين وأصله بربري ومولده بالأندلس، فلما هلك ولي بعده ابنه عبد الملك وكان أديبا شاعرا، ثم ولي بعده ابنه عز الدولة ومنه ملكها الملثمون.
وأما دانية والجزائر فكانت بيد المرفق أبي الحسن مجاهد العامري؛ وسار إليه من قرطبة الفقيه أبو محمد عبد الله المعيطي ومعه خلق كثير، فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عن رأيه وبايعه في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة، فأقام المعيطي بدانية مع مجاهد ومن انضم إليه نحو خمسة أشهر، ثم سار هو ومجاهد في البحر إلى الجزائر التي في البحر وهي ميورقة بالياء، ومنورقة بالنون ويابسة.
ثم بعث المعيطي بعد ذلك مجاهدا في سردانية في مائة وعشرين مركبا بين كبير وصغير ومعه ألف فرس ففتحه في ربيع الأول سنة ست و أربعين وأربعمائة، وقتل بها خلقا كثيرا من النصارى وسبى مثلهم، فسار إليه الفرنج الروم من البر في آخر هذه السنة فأخرجوه منه ورجع إلى الأندلس والمعيطي قد توفي وغاص مجاهد في تلك الفتن إلى أن توفي، وولي بعده ابنه علي بن مجاهد، وكان جميعا من أهل العلم والمحبة لأهله والإحسان إليهم وجلباهم من أقاصي البلاد وأدانيها، ثم مات ابنه علي فولي بعده ابنه أبو عامر،
290
ولم يكن مثل أبيه وجده، ثم إن دانية وسائر بلاد بني مجاهد صارت إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود في شهر رمضان سنة ثمان وبعين وأربعمائة.
وأما مرسية فوليها بنو طاهر واستقامت رياستها لأبي عبد الرحمن منهم المدعو بالرئيس ودامت رياسته إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبي بكر بن عمار المهري، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها فوجه إليه عسكرا مقدمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق القشيري، فحصروه وضيقوا عليه حتى هرب منها، فلما دخلها القشيري عصى فيها أيضا على المعتمد إلى أن دخل في طاعة الملثمين وبقي أبو عبد الرحمن بن طاهر بمدينة بلنسية إلى أن مات سنة وخمسمائة ودفن بمرسية وقد نيف على تسعين سنة.
وأما المرية فملكها خيران العامري وتوفي كما ذكرناه بعده ووليها العامري واتسع ملكه إلى شاطبة إلى ما يجاور عمل طليطلة ودام إلى أن قتل كما تقدم، وصارت مملكته إلى المنصور أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر فولي بعده ابنه محمد فلما توفي عبد العزيز ببلنسية وأقام ابنه محمد بالمرية وهو يدبر بلنسية فانتهز الفرصة فيها المأمون يحيى بن ذي النون وأخذها منه وبقي بالمرية إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص المعتصم معن بن صمادح التجيبي، ودانت له لورقة وبياسة وجيان وغيرها إلى أن توفي سنة ثلاث وأربعين [وأربعمائة]، وولي بعده ابنه أبو يحيى محمد بن معن وهو ابن أربع عشرة سنة، فكفله عمه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفي سنة ست
291
وأربعين، فبقي أبو يحيى مستضعفا لصغره وأخذت بلاده البعيدة عنه ولم يبق له غير المرية وما يجاورها.
فلما كبر أخذ نفسه بالعلوم ومكارم الإخلاص فامتد صيته واشتهر ذكره وعظم سلطانه والتحق بأكابر الملوك ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين فمرض في أثناء ذلك، وكان القتال تحت قصره فسمع يوما صياحا وجلبه فقال نغص علينا كل شيء حتى الموت، وتوفي في مرضه ذلك لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، دخل أولاده وأهل البحر في مركب إلى بجاية قاعدة مملكة بني حماد من لأفريقية وملك الملثمون المرية وما معها.
وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها إلى أن أخذها منهم إدريس بن حبوس صاحب غرناطة سنة سبع وأربعين [وأربعمائة] وانقضى أمر العلويين بالأندلس.
وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكسن الصنهاجي ثم مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس، فلما توفي ولي بعده ابن أخيه عبد الله ابن بلكين وبقي إلى أن ملكها منه الملثمون في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة وانقرضت دول جميعهم وصارت الأندلس جميعها للملثمين وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس، نعود إلى سنة سبع وأربعمائة.
292
ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارس
قد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان فلما وليها اجتمع إليه الديلم وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه فانهزم أبو الفوارس وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هاربا إلى خراسان وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين وهو ببست فأكرمه وعظمه وحمل إليه شيئا كثيرا وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير فقال دارا: نحن أعظم محلا منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية ووعد محمود أن ينصره.
ثم ان أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار فاشتراهما محمود وحملهما إليه وقال له من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس وقيمتها ستون ألف دينار. ثم إن محمودا سير جيشا مع أبي الفوارس إلى كرمان مقدمهم أبو سعد الطائي وهو من أعيان قواده فسار إلى كرمان فملكها وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد فدخل شيراز.
فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس فالتقوا هناك واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس وقتل كثير من أصحابه وعاد بأسوأ الحال وملك سلطان
293
الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب همذان ولم يمكنه العود إلى يمين الدولة لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي.
ثم فارق شمس الدولة ولحق بمهذب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه وأنزله داره وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالا وثيابا وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة فأعاد إليه كرمان وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك وحملت إليه الأموال فعاد إليها.
ذكر قتل الشيعة بأفريقية
في هذه السنة في المحرم قتلت الشيعة بجميع بلاد أفريقية.
وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة فسأل عنهم فقيل هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر فقال رضي الله عنه أبي بكر وعمر؛ فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلي من القيروان وهي تجتمع به الشيعة فقتلوا منهم وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم طمعا في النهب وانبسطت أيدي العامة في الشيعة وأغراهم عامل القيروان وحرضهم.
وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد
294
عزله، فأراد فساده فقتل من الشيعة خلق كثير وأحرقوا بالنار ونهبت ديارهم وقتلوا في جميع أفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان فتحصنوا به فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع فاقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم.
وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبد الله الشيعي وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة فمن فرح مسرور ومن باك حزين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في ربيع الأول احترقت قبه مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضا احترق نهر طابق ودار القطن وكثير من باب البصرة واحترق جامع سر من رأى.
وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام وسقط حائط بين يدي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس.
وفيها كانت فتنة كبيرة بين أهل السنة والشيعة بواسط فانتصر أهل السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بني مزيد فاستنصروه.
295
وفيها في رجب مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل بن أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ومحمد بن الحسين ين محمد بن الهيثم أبو عمر البسطامي الواعظ الفقيه الشافعي ولي قضاء نيسابور.
296
408
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة
ذكر خروج الترك من الصين وموت طغان خان
في هذه السنة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثة مائة ألف خركاة من أجناس الترك منهم الخطابية الذين ملكوا ما وراء النهر وسيرد خبر ملكهم إن
شاء الله تعالى.
وكان سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضا شديدا وطال به المرض فطمعوا في البلاد لذلك، فساروا إليها وملكوا بعضها وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام، فلما بلغه الخبر كان بها مريضا فسأل الله تعالى أن يعافيه لينتقم من الكفرة ويحمي البلاد منهم ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد فاستجاب الله له وشفاه، وجمع العساكر وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفا، فلما بلغ الترك خبر عافيته وجمعه العساكر وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على ما أتيت ألف رجل وأسر نحو مائة ألف وغنم من الدواب والخركاهات وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية ومعمول الصين مالا عهد لأحد بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه فمات منه.
وكان عادلا خيرا دينا يحب العلم وأهله ويميل إلى أهل الدين ويصلهم ويقربهم، وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري وقد
297
تقدمت في غزوة الخندق وقيل كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان أخي طغان خان وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة.
ذكر ملك أخيه أرسلان خان
لما مات طغان خان ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان ولقبه شرف الدولة فخالف عليه قدر خان يوسف بن بغرا خان هارون بن سليمان الذي ملك بخارى وقد تقدم ذكره وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، فكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان خان فعقد على جيحون جسرا من السفن وضبطه بالسلاسل وعبر عليه ولم يكن يعرف هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان.
ثم إن يمين الدولة خافه فعاد إلى بلاده، فأصلح قدرخان وأرسلان خان على قصد بلاد يمين الدولة واقتسامها وسار إلى بلخ.
وبلغ الخبر إلى يمين الدولة، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا.
وورد رسول متولي خوارزم إلى يمين الدولة يهنئه بالفتح عقيب الوقعة فقال له من أين علمتم فقال من كثرة القلانس التي جاءت على الماء وعبر يمين الدولة فشكا أهل تلك البلاد إلى قدرخان ما يلقون من عسكر يمين الدولة فقال: قد قرب الأمر بيننا وبين عدونا فإن ظفرنا منعنا عنكم وإن ظفر عدونا فقد استرحتم منا. ثم اجتمع هو وقدرخان وأكلا طعاما. وكان قدر خان عادلا
298
حسن السيرة كثير الجهاد فمن فتوحه ختن وهي بلاد بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء، وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها وكان يديم الصلاة في الجماعة.
ولما توفي خلف ثلاث بنين [منهم] أبو شجاع أرسلان خان وكان له كاشغر وختن وبلاساغون وخطب له على منابرها وكان لقبه شرف الدولة، ولم يشرب الخمر قط وكان دينا مكرما للعلماء وأهل الدين، فقصدوه من كل ناحية فوصلهم وأحسن إليهم.
وخلف أيضا بغراخان بن قدرخان وكان له طراز واسبيجاب فقد أخوه أرسلان وأخذ مملكته فتحاربا فانهزم أرسلان خان وأخذ أسيرا فأودعوه الحبس وملك بلاده.
ثم إن بغراخان عهد بالملك لولد الأكبر واسمه حسين جغري تكين وجعله ولي عهده وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير فغاظها ذلك فعملت إليه وسمته فمات هو وعدة من أهله، وخنقت أخاه أرسلان خان بن قدرخان وكان ذلك سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه وملكت ابنه واسمه إبراهيم وسيرته في جيش إلى مدينة تعرف ببرسخان وصاحبها يعرف بينالتكين، فظفر به ينال تكين وقتله وانهزم عسكره إلى أمه.
واختلف أولاد بغراخان فقصدهم طفغاج خان صاحب سمرقند.
299
ذكر ملك طفغاج خان وولده
وكان طفغاج خان أبو المظفر إبراهيم بن نصر ايلك يلقب عماد الدولة وكان بيده سمرقند وفرغانة، وكان أبوه زاهدا متعبدا وهو الذي ملك سمرقند ورثه ابنه طفغاج وملك بعده، وكان طفغاج متدينا لا يأخذ مالا حتى يستفتي الفقهاء، فورد عليه أبو شجاع العلوي الواعظ وكان زاهدا فوعظه وقال له إنك لا تصلح للملك. فأغلق طفغاج بابه وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد وقالوا قد أخطأ هذا والقيام بأمورنا متعين عليه، فعند ذلك فتح بابه ومات سنة ستين وأربعمائة.
وكان السلطان ألب أرسلان قصد بلاده ونهبها أيام عمه طغرلبك فلم يقابل الشر يمثله، وأرسل رسولا إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين [وأربعمائة] يهنئه بعوده إلى مستقره ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان عن بلاده فأجيب إلى ذلك وأرسل إليه الخلع والألقاب ثم فلج سنة ستين.
وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك فقصده أخوه طغان خان بن طفغاج وحصره بسمرقند فاجتمع أهلها إلى شمس الملك وقالوا له: قد خرب أخوك ضياعنا وأفسدها ولو كان غيره لساعدناك ولكنه أخوك فلا ندخل بينكما؛ فوعدهم المناجزة وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام معدين وكبس أخاه وهو غير محتاط فظفر به فهزمه فكان هذا وأبوهما حي.
ثم قصده هارون بغراخان بن يوسف قدرخان وطغرل قراخان وكان طفغاج قد استولى على ممالكها وقاربا سمرقند فلم يظفر بشمس الملك،
300
فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لشمس الملك وأعمال الخاهر في أيديهما والحد بينهما خجندة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد تزوج ابنه قدرخان وكان قبله عند مسعود بن محمود بن سبكتكين وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه وهي خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف ألب أرسلان وشمس الملك وسنذكره سنة خمس وستين [وأربعمائة] عند قتل ألب أرسلان ثم مات شمس الملك فولي بعده أخوه خضر خان، ثم مان فولي ابنه أحمد خان وهو الذي قبض عليه ملكشاه ثم أطلقه وأعاده إلى ولايته سنة خمس وثمانين وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ثم إن جنده ثاروا به فقتلوه وملك بعده محمود خان، وكان جده من ملوكهم وكان أصم، فقصده طغان خان بن قراخان صاحب طراز فقتله واستولى على الملك واستناب بسمرقند أبا المعالي محمد بن زيد العلوي البغدادي فولي ثلاث سنين ثم عصى عليه فحاصره طغان خان وأخذه وقتله، وقتل خلقا كثيرا معه.
ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان فلقيه السلطان سنجر وظفر به وقتله وصارت أعمال ما وراء النهر له فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين ابن إبراهيم بن طفغاج خان فأخذها منه عمر خان وملك سمرقند ثم هرب
301
من جنده وقصد خوارزم فظفر به السلطان سنجر فقتله وولي سمرقند محمد خان وولي بخارى محمد تكين بن طغانتكين.
ذكر كاشغر وتركستان
وأما كاشغر وهي مدينة تركستان فإنها لأرسلان خان بن يوسف قدرخان كما ذكرنا، ثم صارت بعده لمحمود بغراخان صاحب طراز والشاش خمسة عشر شهرا، ثم مات فولي بعده طغرلخان بن يوسف قدرخان فاستولى على الملك وملك بلاساغون وكان ملكه ستة عشرة سنة ثم توفي.
وملك ابنه طغرلتكين وأقام شهرين ثم أتى هارون بغراخان أخو يوسف طغرلخان بن طفغاج بغراخان وعبر كاشغر وقبض على هارون وأطاعه عسكره وملك كاشغر وختن وما يتصل به إلى بلاساغون وأقام مالكا تسعا وعشرين سنة وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة فولي ابنه أحمد بن أرسلان خان وأرسل رسولا إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب فأرسل إليه ما طلب ولقبه نور الدولة.
ذكر وفاة مهذب الدولة وحال البطيحة بعده
في هذه السنة في جمادى الأولى توفي مهذب الدولة أبو الحسن علي بن نصر ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وهو الذي نزل عليه القادر بالله.
302
وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ ساعده ومرض منه واشتد مرضه، فلما كان قبل وفاته بثلاثة أيام تحدث الجند بإقامة ولده أبي الحسين أحمد مقامه فبلغ ابن أخت مهذب الدولة وهو أبو محمد عبد الله بن يني فاستدعى الديلم والأتراك ورغبهم ووعدهم واستحلفهم لنفسه وقرر معهم القبض على أبي الحسين بن مهذب الدولة وتسليمه إليه فمضوا إليه ليلا وقالوا له: أنت ولد الأمير ووارث الأمر من بعده فلو قمت معنا إلى دار الإمارة ليظهر أمرك وتجتمع الكلمة عليك لكان حسنا.
فخرج من داره معهم، فلما فارقها قبضوا عليه وحملوه إلى أبي محمد فسمعت والدته فدخلت إلى مهذب الدولة قبل موته بيوم فأعلمته الخبر فقال: أي شيء أقدر أعمل وأنا على هذه الحال وتوفي من الغد وولي الأمر أبو محمد وتسلم الأموال والبلد وأمر بضرب أبي الحسين بن مهذب الدولة فضرب ضربا شديدا توفي منه بعد ثلاثة أيام من موت أبيه.
وبقي أبو محمد أميرا إلى منتصف شعبان توفي بالذبحة وكان قد قال قبل موته رأيت مهذب الدولة في المنام وقد أمسك حلقي ليخنقني ويقول قتلت ابني أحمد وقابلت نعمتي عليك بذاك فمات بعد أيام فكان ملكه أقل من ثلاثة أشهر.
فلما توفي اتفق الجماعة على تأمير أبي عبد الله الحسين بن بكر الشرابي وكان من خواص مهذب الدولة فصار أمير البطيحة وبذل للملك سلطان الدولة بذولا فأقره عليها، وبقي إلى سنة عشر وأربعمائة، فسير إليه سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري فملك البطيحة وأسر أبا عبد الله الشرابي فبقي عند أسيرا إلى أن توفي صدقة وخلص على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
303
ذكر وفاة علي بن مزيد وإمارة ابنه دبيس
في هذه السنة في ذي القعدة توفي أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي وقام بعده ابنه نور الدولة أبو الأغردبيس، وكان أبوه قد جعله ولي عهده في حياته وخلع عليه سلطان الدولة وأذن في ولايته، فلما توفي والده اختلفت العشيرة على دبيس فطلب اخوه المقلد بن أبي الحسن على الإمارة وسار إلى بغداد وبذل للأتراك بذولا كثيرة ليعاضدوه، فسار معه منهم جمع كثير وكبسوا دبيسا بالنعمانية ونهبوا حلته، فانهزم إلى نواحي واسط وعاد الأتراك إلى بغداد، وقام الأثير الخادم بأمر دبيس حتى ثبت قدمه ومضى المقلد أخوه إلى بني عقيل، ونذكر باقي أخباره موضعها إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد وطمع فيهم العامة فانحدروا إلى واسط فخرج إليهم عامتها وأتراكها فقاتلوهم فدفع الديلم عن أنفسهم وقتلوا من أتراك واسط وعامتها خلقا كثيرا وعظم أمر العيارين ببغداد فأفسدوا ونهبوا الأموال.
وفيها توفي الحاجب أبو طاهر سباشي المشطب كان كثير المعروف وأبو الحسن الهماني وكان متولي البصرة وغيرها وهو الذي مدحه مهيار بقوله:
(استنجد الصبر فيكم وهو مغلوب)
304
وفيها قدم سلطان الدولة بغداد وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس ولم تجربه عادة إنما كان عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات.
وفيها هرب ابن سهلان من سلطان الدولة إلى هيت وأقام عند قرواش وولى سلطان الدولة موضعه أبا القاسم جعفر بن أبي الفرج بن فسانجس ومولده ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من أهل السنة اشتدت.
وفيها استتاب القادر بالله المعتز والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم ونهى عن المناظرة في شيء منها.
ومن فعل ذلك نكل به وعوقب.
305
409
ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة
ذكر ولاية ابن سهلان العراق
في هذه السنة عارض سلطان الدولة على الرخجي ولاية العراق فقال: ولاية العراق تحتاج إلى من فيه عسف وخرق وليس غير ابن سهلان وأنا أخلفه ههنا فولاه سلطان الدولة العراق في المحرم فسار من عند سلطان الدولة فلما كان ببعض الطريق ترك ثقله والكتاب وأصحابه وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دبيس الأسدي يطلب مهارش ومضر ابني دبيس.
وكان مضر قد قبض قديما عليه بأمر فخر الملك فكان يبغضه لذلك وأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد منه ويسلمها إلى طراد.
فلما علم مضر ومهارش قصده لهما سارا عن المذار فتبعهما والحر شديد فكاد يهلك هو ومن معه عطشا فكان من لطف الله به أن بني أسد اشتغلوا بجمع أموالهم وإبعادها وبقي الحسن بن دبيس فقاتل قتالا شديدا وقتل جماعة من الديلم والأتراك ثم انهزموا.
ونهب ابن سهلان أموالهم وصان حرمهم ونساءهم فلما نزل في خيمته قال الآن ولدتني أمي وبذل الأمان لمهارش ومضر وأهلهما وأشرك بينهما وبين طراد في الجزيرة ورحل.
وأنكر على سلطان الدولة فعلة ذلك ووصل إلى واسط والفتن بها قائمة،
306
فأصلحها وقتل جماعة من أهلها.
وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد فسار إليها فدخلها أواخر شهر ربيع الآخر فهرب منه العيارون ونفى جماعة من العباسيين وغيرهم ونفى أبا عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله.
فمن ذلك أن رجلا من المستورين أغلق بابه عليه خوفا منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد فأراد الرجوع إلى بيته فأكرهوه على الدخول معهم إلى دار نزلوها وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبوها في فيه قهرا وقالوا له قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه فدخل معها إلى بيت في الدار وأعطاها دراهم وقال هذا أول يوم في رمضان والمعصية فيه تتضاعف وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت فقالت لا كرامة ولا عزازة أنت تصون دينك عن الزنا وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد.
ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد الأتراك والعامة فانحدر الأتراك إلى واسط فلقوا بها سلطان الدولة فشكوا إليه فسكنهم ووعدهم الإصعاد إلى بغداد وإصلاح الحال.
واستحضر سلطان الدولة بن سهلان فخافه ومضى إلى بني خفاجة ثم أصعد إلى الموصل فأقام بها مدة، ثم انحدر إلى الأنبار ومنها إلى البطيحة.
307
فأرسل سلطان الدولة إلى البطيحة رسولا يطلبه من الشرابي فلم يسلمه، فسير إليها عسكرا فانهزم الشرابي وانحدر ابن سهلان إلى البصرة فاتصل بالملك جلال الدولة، وكان الرخجي قد خرج مع ابن سهلان إلى الموصل ففارقه بها وأصلح حاله مع سلطان الدولة وعاد إليه.
ذكر غزوة يمين الدولة إلى الهند والأفغانية
في هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند غازيا واحتشد وجمع واستعد وأعد أكثر مما تقدم.
وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنوج وهرب صاحبها منه ويلقب رآى قنوج ومعنا رآى هو لقب الملك كقيصر وكسرى فلما عاد إلى غزنة أرسل بيد اللعين وهو أعظم ملوك الهند مملكة وأكثرهم جيشا وتسمى مملكته كجوراهة رسلا إلى رآى قنوج واسمه راجيال يوبخه على انهزامه وإسلام بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما وآل أمرهما إلى الاختلاف.
وتأهب كل واحد منهما لصاحبه وسار إليه فالتفوا واقتتلوا فقتل راجيال وأتى القتل على أكثر جنوده فازداد بيدا بما اتفق له شرا وعتوا وبعد سيط في الهند وعلوا وقصده بعض ملوك الهند الذي ملك يمين الدولة بلاده وهزمه وأباد جنده وسار في جملته وخدمه، والتجأ إليه، فوعده
308
بإعادة ملكه إليه، وحفظ ضالته عليه واعتذر بهجوم الشتاء وتتابع الإنداء، فنمت هذه الأخبار إلى يمين الدولة فأزعجته، وتجهز للغزو وقصد بيدا وأخذ ملكه منه، وسار عن غزنة وابتدأ في طرقه بالأفغانية وهم كفار يسكنون الجبال ويفسدون في الأرض ويقطعون الطريق بين غزنة وبينه فقصد بلادهم وسلك مضايقها وفتح مغالقها وخرب عامرها وغنم أموالهم وأكثر القتل فيهم والأسر، وغنم المسلمون من أموالهم الكثر.
ثم استقل على المسير وبلغ إلى مكان لم يبلغه فيما تقدم من غزواته وعبر نهر كنك ولم يعبره قبلها فلما جازه رأى طفلا قد بلغت عدة أحمالهم ألف عدد فغنمها وهي من العود والأمتعة الفائقة وجذبه السير، فأتاه في الطريق خبر ملك من ملوك الهند يقال له تروجنبال قد سار من بين يديه ملتجئا إلى بيدا ليحتمي به عليه فطوى المراحل فلحق تروجنبال ومن معه رابع عشر شعبان وبينه وبين الهنود نهر عميق فعبر إليهم بعض أصحابه وشغلهم بالقتال ثم عبر هو وباقي العسكر إليهم فاقتتلوا عامة نهارهم
وانهزم تروجنبال ومن معه وكثر فيهم القتل والأسر وأسلموا أموالهم وأهليهم فغنمها المسلمون وأخذوا منهم الكثير من الجواهر وأخذ ما يزيد على مائتي فيل وسار المسلمون يقتصون آثارهم وانهزم ملكهم جريحا وتحير في أمره، وأرسل إلى يمين الدولة يطلب الأمان فلم يؤمنه ولم يقنع منه إلا بالإسلام وقتل من عساكره ما لا يحصى.
وسار تروجنبال ليلحق ببيدا فانفرد [به] بعض الهنود فقتله فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى يمين الدولة يبذلون له الطاعة والإتاوة. وسار
309
يمين الدولة بعد الوقعة إلى مدينة باري وهي من أحصن القلاع والبلاد وأقواها فرآها من سكانها خاليه وعلى عروشها خاوية.
فأمر بهدمها وتخريبها وعشر قلاع معها متناهية الحصانة وقتل من أهلها خلقا كثيرا وسار يطلب بيدا الملك فلحقه وقد نزل إلى جانب نهر وأجرى الماء من بين يديه فصار وحلا وترك عن يمينه وشماله طريقا يبسا يقاتل منه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل وسبعمائة وستة وأربعين فيلا. فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمد أصحابه حتى كثر الجمعان واشتد الضرب والطعان فأدركهم الليل وحجز بينهم.
فلما كان الغد بكر يمين الدولة إليهم فرأى الديار منهم بلاقع وركب كل فرقة منهم طريقا مخالفا لطريق الأخرى ووجد خزائن الأموال والسلاح بحالها فغنموا الجميع، واقتفى آثار المنهزمين فلحقوهم في الغياض والآجام وأكثروا فيهم القتل والأسر ونجا بيدا فريدا وحيدا، وعاد يمين الدولة إلى غزنة منصورا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض سلطان الدولة على وزيره ابن فسانجس وإخوته وولى وزارته ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور ومولده بسيراف سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
310
وفيها توفي الغالب بالله ولي عهد أبيه القادر بالله في شهر رمضان وتوفي أيضا أبو أحمد عبد الله بن محمد بن أبي علان قاضي الأهواز ومولده سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وله تصانيف حسنة وكان معتزليا.
وفي هذه السنة مات عبد الغني بن سعيد بن بشر بن مروان الحافظ المصري صاحب المؤتلف والمختلف ومولده سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة.
وتوفي رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الأنصناوي وأنصنا من قرى مصر وهو من الفقهاء المالكية وسمع الحديث الكثير.
311
410
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة
في هذه السنة قبض الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء أبو طاهر بن بهاء الدولة على وزيره أبي سعد عبد الواحد بن علي بن ماكولا وكان عمه أبو جعفر محمد بن مسعود كاتبا فاضلا، وكان يعرض الديلم لعضد الدولة ولأبي سعد شعر منه:
(وإن لقائي للشجاع لهين * ولكن حمل الضيم منه شديد)
(إذا كان قلب القرن ينبو عن الوغى * فإن جناني جلمد وحديد)
وفيها توفي وثاب بن سابق النميري صاحب حران وأبو الحسن بن أسد الكاتب وأبو بكر محمد بن عبد السلام الهاشمي القاضي بالبصرة وأبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي الفقيه الحنبلي البغدادي عم أبي محمد.
قال أبو الفضل: سمعت أبا الحسن بن القصاب الصوفي قال: دخلت أنا وجماعة إلى البيمارستان ببغداد فرأينا شابا مجنونا شديد الهوس فولعنا به فرد بفصاحة وقال انظروا إلى شعور مطررة وأجساد معطرة... وقد جعلوا اللهو صناعة. واللعب بضاعة وجانبوا العلم رأسا فقلت أتعرف شيئا من العلم فنسألك قال: نعم [إن] عندي علما جما، فاسألوني. فقال بعضنا: من الكريم في الحقيقة؟ قال: من رزق أمثالكم، وأنتم لا
312
تساوون ثومة. فأضحكنا. فقال آخر: من أقل الناس شكرا؟ فقال: من عوفي من بلية ثم رآها في غيره فترك الاعتبار فإن الشكر عليها واجب فأبكانا بعد أن أضحكنا فقلنا ما الظرف قال خلاف ما أنتم عليه ثم قال اللهم إن لم ترد عقلي فرد يدي لأصفع كل واحد منهم صفعة! فتركناه وانصرفنا.
وفيها مات الأصيفر المنتفقي الذي كان يؤذي الحاج في طريقهم وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ الأصبهاني وعبد الصمد بابك أبو القاسم الشاعر قدم على الصاحب بن عباد فقال أنت ابن بابك فقال أنا ابن بابك فاستحسن قوله.
313
411
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة
ذكر قتل الحاكم وولاية ابنه الظاهر
في هذه السنة ليله الاثنين لثلاث بقين من شوال فقد الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز العلوي صاحب مصر بها ولم يعرف له خبر.
وكان سبب فقده أنه خرج يطوف ليلة على رسمه وأصبح عند قبر الفقاعي توجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال وأمر لهم بجائزة ثم عاد الركابي الآخر وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة.
وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي صاحب المظلة وغيره من خواص الحاكم ومعهم القاضي فبلغوا حلوان ودخلوا في الجبل فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكبا وقد ضربت يداه بالسيف فأثر فيهما وعليه سرجه ولجامه فاتبعوا الأثر فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان فرأوا ثيابه.
وهي سبع قطع صوف وهي مزررة بحالها لم تحل،
314
وفيها أثر السكاكين فعادوا ولم يشكوا في قتله.
وقيل كان سبب قتله ان أهل مصر كانوا يكرهونه لما يظهر منه من سوء أفعاله فكانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبه وسب أسلافه والدعاء عليه حتى إنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة، فلما رآها ظن أنها امرأة تشتكي فأمر بأخذ الرقعة منها فقرأها وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة وذكر حرمه بما يكره، فأمر بطلب المرأة فقيل إنها من قراطيس فأمر بإحراق مصر ونهبها ففعلوا ذلك وقاتل أهلها أشد قتال وانضاف إليهم في اليوم الثالث الأتراك والمشارقة فقويت شوكتهم وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح ويعتذرون فلم يقبل، فصاروا إلى التهديد، فلما رأى قوتهم أمر بالكف عنهم وقد أحرق بعض مصر ونهب بعضها وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأبناءهم فابتاعوا ذلك بعد أن فضحوهن فازداد غيظهم منه وحنقهم عليه.
ثم إنه أوحش أخته وأرسل إليها مراسلات قبيحة يقول فيها بلغني أن الرجال يدخلون إليك وتهددها بالقتل فأرسلت إلى قائد كبير من قواد الحاكم يقال له ابن دواس وكان أيضا يخاف الحاكم تقول له إنني أريد أن ألقاك فحضرت عنده وقالت له قد جئت إليك في أمر تحفظ فيه نفسك ونفسي وأنت تعلم ما يعتقده أخي فيك وأنه متى تمكن منك لا يبقي عليك وأنا كذلك وقد انصاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكرهه المسلمون ولا يصبرون عليه وأخاف ان يثوروا به فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع
315
هذه الدولة. فأجابها إلى ما تريد فقالت إنه يصعد إلى هذا الجبل غدا وليس معه غلام إلا الركابي وصبي وينفرد بنفسه فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه ويقتلان الصبي وتقيم ولده بعد وتكون أنت مدبر الدولة وأزيد في إقطاعك مائة الف دينار.
فأقام رجلين وأعطتهما هي الف دينار ومضيا إلى الجبل وركب الحاكم على عادته وسار منفردا إليه، فقتلاه، وكان عمره ستا وثلاثين سنة وتسعى أشهر وولايته خمسا وعشرين سنة وعشرين يوما وكان جوادا بالمال سفاكا للدماء قتل عددا كثيرا من أماثل دولته وغيرهم فكاتب سيرته عجيبة.
منها: أنه أمر في صدر خلافته بسب الصحابة رضي الله عنهم وأن تكتب على حيطان الجوامع والأسواق وكتب إلى سائر عماله بذلك وكان ذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
ثم أمر بعد ذلك بمدة بالكف عن السب وتأديب من يسبهم أو يذكرهم بسوء، ثم أمر في سنة تسع وتسعين [وثلاثمائة] بترك صلاة التراويح فاجتمع الناس بالجامع العتيق وصلى بهم إمام جميع رمضان فأخذه وقتله ولم يصل أحد التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة، فرجع عن ذلك وأمر بإقامتها على العادة.
وبنى الجامع براشدة وأخرج إلى الجوامع والمساجد من الآلات،
316
والمصاحف، والستور والحصر مالم ير الناس مثله وحمل أهل الذمة على الإسلام أو المسير إلى مأمنهم أو لبس الغيار فأسلم كثير منهم ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقاه فيقول له إنني أريد العود إلى ديني؛ فيأذن له.
ومنع النساء من الخروج من بيوتهن وقتل من خرج منهن فشكى إليه من لا قيم لها يقوم بأمرها فأمر الناس أن يحملوا كل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه على النساء وأمر من يبيع أن يكون معه شبه المغرفة بساعد طويل يمده إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه فإذا رضيت وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلا يراها فنال الناس من ذلك شدة عظيمة.
ولما فقد الحاكم ولي الأمر بعده ابنه أبو الحسن علي ولقب الظاهر لإعزاز دين الله وأخذت له البيعة ورد النظر في الأمور جميعها إلى الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجائي.
ذكر ملك مشرف الدولة العراق
في هذه السنة في ذي الحجة أمر أبي علي مشرف الدولة بن بهاء الدولة وخوطب بأمير الأمراء ثم ملك العراق وأزال عنه أخاه سلطان الدولة.
وكان سببه أن الجند شغبوا على سلطان الدولة ومنعوه من الحركة، وأراد
317
ترتيب أخيه مشرف الدولة في الملك فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه فلم يمكنه ذلك وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط فقال الجند إما أن تجعل عندنا ولدك أو أخاك مشرف الدولة فراسل أخاه بذلك فامتنع ثم أجاب بعد معاودة ثم انهما اتفقا واجتمعا ببغداد واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان وفارق سلطان الدولة بغداد وقصد الأهواز واستحلف أخاف مشرف الدولة على العراق.
فلما انحدر سلطان الدولة ووصل تستر استوزر ابن سهلان فاستوحش مشرف الدولة فأنفذ سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق فجمع مشرف الدولة عسكرا كثيرا منهم أتراك واسط وأبو الأغردبيس بن علي بن مزيد ولقي ابن سهلان عند واسط فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط وحاصره مشرف الدولة وضيق عليه فغلت الأسعار حتى بلغ الكر من الطعام الف دينار قاسانية وأكل الناس الدواء حتى الكلاب فلمت رأى ابن سهلان ادباره أموره سلم البلد واستخلف مشرف الدولة وخرج إليه وخوطب حينئذ مشرف الدولة بشاهنشاه وكان ذلك في أخر ذي الحجة، ومضت الديلم الذين كانوا بواسط في خدمته وساروا معه فحلف لهم وأقطعهم
واتفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر فلما سمع سلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان وقطعت خطبته من العراق، وخطب لأخيه ببغداد آخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقبض على ابن سهلان وكحل.
ولما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس فقلت عليهم الميرة فنهبوا السواد في طريقهم.
فاجتمع الأتراك الذين
318
بالأهواز وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة ونادوا بشعار مشرف الدولة وساروا منها فقطعوا على قافلة وأخذوها وانصرفوا.
ذكر ولاية الظاهر لإعزاز دين الله
لما قتل الحاكم على ما ذكرناه بقي الجند خمسة أيام ثم اجتمعوا إلى أخته واسمها ست الملك وقالوا قد تأخر مولانا ولم تجر عادته بذلك فقالت قد جاءتني رقعته بأنه يأتي بعد غذ فتفرقوا وبعثت الأموال إلى القواد يد ابن دواس فلما كان اليوم السابع ألبست أبا الحسن علي ابن أخيها الحاكم أفخر الملابس وكان الجند قد حضروا للميعاد فلم يرعهم إلا وقد أخرج أبو الحسن وهو صبي والوزير بين يديه فصاح يا عبيد الدولة مولاتنا تقول بكم هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه فقبل ابن دواس الأرض والقواد الذين أرسلت إليهم الأموال ودعوا له فتبعهم الباقون ومشوا معه ولم يزل راكبا إلى الظهر ودعا الناس من الغد فبايعوا له ولقب الظاهر لا عزاز دين الله، وكتبت الكتب إلى البلاد بمصر والشام بأخذ البيعة له.
وجمعت أخت الحاكم الناس ووعدتهم وأحسنت إليهم ورتبت الأمور ترتيبا حسنا وجعلت الأمر بيد ابن دواس وقالت له إننا نريد أن نرد جميع أحوال المملكة إليك ونزيد في إقطاعك ونشرفك بالخلع فاختر يوما يكون لذلك فقبل الأرض ودعا وظهر الخبر به بين الناس، ثم
319
أحضرته، وأحضرت القواد معه وأغلقت أبواب القصر وأرسلت إليه خادما وقالت قل للقواد إن هذا قتل سيدكم وضربه بالسيف ففعل ذلك وقتله فلم يختلف رجلان وباشرت الأمور بنفسها وقامت هيبتها عند الناس واستقامت الأمور وعاشت بعد الحاكم أربع سنين وماتت.
ذكر الفتنة بين الأتراك والأكراد بهمذان
في هذه السنة زاد شغب الأتراك بهمذان على صاحبهم شمس الدولة بن فخر الدولة، وكان قد تقدم ذلك منهم غير مرة وهو يحلم عنهم بل يعجز فقوي طمعهم فزادوا في التوثب والشغب وأرادوا اخراج القواد القوهية من عنده فلم يجبهم إلى ذلك فعزموا على الإيقاع بهم بغير أمره فاعتزل الأكراد مع وزيره تاج الملك أبي نصر بن بهرام إلى قلعة برجين فسار الأتراك إليهم فحصروهم ولم يلتفتوا إلى شمس الدولة فكتب الوزير إلى أبي جعفر بن كاكويه صاحب أصبهان يستنجده وعين له ليلة يكون قدوم العساكر إليه فيها بغتة ليخرج هو أيضا تلك الليلة ليكبسوا الأتراك ففعل أبو جعفر ذلك وسير ألفي فارس وضبطوا الطرق لئلا يسبقهم الخبر وكبسوا الأتراك سحرا على غفلة ونزل الوزير والقوهية من القلعة فوضعوا فيهم السيوف فأكثروا القتل وأخذوا المال ومن سلم من الأتراك نجا فقيرا.
وفعل شمس الدولة بمن عنده في همذان كذلك وأخرجهم فمضى ثلاثمائة منهم إلى كرمان وخدموا با الفوارس بن بهاء الدولة صاحبها.
320
ذكر القبض على أبي القاسم المغربي وابن فهد
في هذه السنة قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي وعلى أبي القاسم سليمان بن فهد بالموصل وكان ابن فهد يكتب في حداثته بين يدي الصابي وخدم المقلد بن المسيب، وأصعد إلى الموصل واقتنى بها ضياعا ونظر فيها لقرواش فظلم أهلها وصادرهم، ثم سخط قرواش عليهما فحبسهما وطولب سليمان بالمال فادعى الفقر فقتل.
وأما المغربي فإنه خدع قرواشا ووعده بمال له في الكوفة وبغداد فأمر بحمله وترك. وفي قرواش وابن فهد يقول الشاعر وهو ابن الزمكدم:
(وليل كوجه البرقعيدي ظلمة * وبرد أغانيه وطول قرونه)
(سريت ونومي فيه نوم مشرد * كعقل سليمان بن فهد ودينه)
(علي أولق فيه التفات كأنه * أبو جابر في خطبه وجنونه)
(إلى أن بدأ ضوء الصباح كأنه * سنا وجه قرواش وضوء جبينه)
وهذه الأبيات قد أجمع أهل البيان على أنها غاية في الجودة لم يقل خير منها في معناها.
ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن معن
في هذه السنة في ربيع الأول اجتمع غريب بن معن ونور الدولة دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأتاهم عسكر من بغداد فقاتلوا قرواشا، ومعه
321
رافع ابن الحسين عند كرخ سر من رأى فانهزم قرواش ومن معه وأسر في المعركة ونهبت خزائنه وأثقاله واستجار رافع بغريب وفتحوا تكريت عنوة وعاد عسكر بغداد إليها بعد عشرة أيام.
ثم إن قرواش خلص وقصد سلطان بن الحسين بن ثمال أمير خفاجة فسار إليهم جماعة من الأتراك فعاد قرواش وانهزم ثانيا هو وسلطان، وكانت الوقعة بينهم غربي الفرات. ولما انهزم قرواش مد نواب السلطان أيديهم إلى أعماله فأرسل يسأل الصفح عنه ويبذل الطاعة.
ذكر عدة حوادث
فيها أغارت زناتة بأفريقية على دواب المعز بن باديس صاحب البلاد ليأخذوها فخرج إليهم عامل مدينة قابس فقاتلهم فهزمهم.
وفيها في ربيع الآخر نشأت سحابة بأفريقية أيضا شديدة البرق والرعد فأمطرت حجارة كبيرة ما رأى الناس أكبر منها فأهلك كل من أصابه شيء منها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر العنبري الشاعر وديوانه مشهور ومن قوله:
(ذنبي إلى الدهر أني لم أمد يدي * في الراغبين ولم أطلب ولم أسل)
(وأنني كلما نابت نوائبه * ألفيتني بالرزايا غير محتفل)
322
412
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
ذكر الخطبة لمشرف الدولة
ببغداد وقتل وزيره أبي غالب
في هذه السنة في المحرم قطعت خطبة سلطان الدولة من العراق وخطب لمشرف الدولة فطلب الديلم من مشرف الدولة ان ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم فقال له إني إن فعلت خاطرت بنفسي ولكن أبذلها في خدمتك.
ثم انحدر في العساكر فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة وهجموا على أبي غالب فقتلوه فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد بن دبيس الأسدي بالجزيرة التي لبني دبيس ولم يقدروا [أن] يدفعوا عنه فكانت وزارته ثمانية عشر شهرا وثلاثة أيام وعمره ستين سنة وخمسة أشهر، فأخذ ولده أبوه العباس وصودر على ثلاثين ألف دينار فلما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن وقويت نفسه وكان قد خافه وأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها.
323
ذكر وفاة صدقة صاحب البطيحة
في هذه السنة مرض صدقة صاحب البطيحة فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين في صفر ليملكها وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تمزق في البلاد تارة بمصر وتارة عند بدر بن حسنويه وتارة بينهما، فلما ولي الوزير أبو غالب انفق عليه لأدب كان فيه فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلموا إليه فسار إليهم فسمع به صدقة قبل موته بيومين فسير إليه جيشا فقاتلوه فانهزم أبو الهيجاء وأخذ أسيرا فأراد استبقاءه فمنعه سابور بن المرزبان بن مروان وقتله بيده.
ثم توفي صدقة بعد قتله في صفر، فاجتمع أهل البطيحة على ولاية سابور بن المرزبان فوليهم، وكتب إلى مشرف الدولة يطلب أن يقرر عليه ما كان على صدقة من الحمل ويستعمل على البطيحة فأجابه إلى ذلك وزاد في القرار عليه واستقر في الأمر.
ثم ان أبا نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان زاد في المقاطعة فلم يدخل سابور في الزيادة فولى أبو نصر البطيحة وسار إليها وفارقها سابور إلى جزيرة بني دبيس واستقر أبو نصر في الولاية وأمنت به الطرق.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور وإليه انتهى الخط ودفن بجوار أحمد بن حنبل وكان يقص بجامع بغداد،
324
ورثاه المرتضى وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
وفيها حج الناس من العراق وكان قد انقطع سنة عشر وسنة إحدى عشرة فلما كان هذه السنة قصد جماعة من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين وقالوا له أنت أعظم ملوك الاسلام وأثرك في الجهاد مشهور والحج قد انقطع كما ترى والتشاغل به واجب وقد كان بدر بن حسنويه وفي أصحابك كثير أعظم منه يسير الحاج بتدبيره وماله عشرين سنة فاجعل لهذا الأمر حظا من اهتمامك.
فتقدم إلى أبي محمد الناصحي قاضي قضاة بلاده بأن يسير بالحاج وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سمى النفقة في الصدقات، ونادى في خراسان بالتأهب للحج فاجتمع خلق عظيم وساروا وحج بهم أبو الحسن الأقساسي، فلما بلغوا فيد حصرهم العرب فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا وصمموا العزم على أخذ الحاج وكان مقدمهم رجلا يقال له حمار بن عدي بضم العين من بني نبهان فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه وجال جولة يرهب بها، وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي فرماه بسهم فقتله وتفرق أصحابه وسلم الحاج فحجوا وعادوا سالمين.
وفيها قلد أبو جعفر السمناني الحسبة والمواريث ببغداد والموتى؛
وتوفي هذه السنة أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الماليني الصوفي بمصر في شوال وهو من المكثرين في الحديث؛ ومحمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزاز المعروف بابن رزقويه شيخ الخطيب أبي بكر، ومولده
325
سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان فقيها شافعيا، وأبو عبد الرحمن بن محمد بن الحسين السلمي الصوفي النيسابوري صاحب طبقات الصوفية؛ وأبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري الصوفي شيخ أبي القاسم القشيري وأبو الفتح بن أبي الفوارس.
326
413
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولة
في هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم، ومؤيد الملك الرخجي وزير مشرف الدولة على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة.
ذكر قتل المعز وزيره وصاحب جيشه
في هذه السنة قتل المعز بن باديس صاحب أفريقية وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن.
وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئا بل يجبيها ويرفعها عنده وطمع طمعا عظيم لا يصبر على مثله بكثرة أتباعه ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة وهم أعداء دولته فصار المعز لا يكاتب ملكا ولا يراسله إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه،
327
فعظم ذلك على المعز وقتله.
يحكى عن أبي عبد الله أنه قال سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب، وكان وزير لباديس والد هذا المعز وكان عظيم القدر والمحل وهو يقول لي اتق الله أبا عبد الله في الناس كافة وفي نفسك خاصة فقد أسهرت عينيك وأبرمت حافظيك وقد بدا لي منك ما خفي عليك وعن قليل ترد على ما وردنا وتقدم على ما قدمنا فاكتب عني ما أقول فإني لا أقول إلا حقا فأملى علي هذه الأبيات:
(وليت وقد رأيت مصير قوم * هم كانوا السماء وكنت أرضا)
(سموا درج العلا حتى اطمأنوا * وهد بهم فعاد الرفع خفضا)
(وأعظم أسوة لك بي لأني * ملكت ولم أعش طولا وعرضا)
(فلا تغتر بالدنيا وأقصر * فإن أوان أمرك قد تقضى)
قال فانتبهت مرعوبا ورسخت الأبيات في حفظي فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل.
ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم وأدخلهم مدينة طرابلس فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش وأخذوا المدينة، فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفرا من أهلهم فحبسهم ثم قتلهم بعد أيام لأن نساء المقتولين بطرابلس استغاثوا إلى المعز في قتلهم فقتلهم.
328
ذكر عدة حوادث
وفيها كان بأفريقية غلاء شديد ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأوقات إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع ولم يجد الناس كبير مشقة.
وفيها، في شهر رمضان استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي ولقب مؤيد الملك وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبنى مارستانا بواسط وأكثر فيه من الأدوية الأشربة ورتب له الخزان والأطباء ووقف عليه الوقوف الكثيرة وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة، ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبو بكر بن الباقلاني وإنما سمي شاعر السنة لأنه أكثر مدح الصحابة ومناقضات شعراء الشيعة.
وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي وأخذ السلطان ماله جميعه.
وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم فقيه الامامية ورثاه المرتضى.
329
414
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة
ذكر استيلاء علاء الدولة على همذان
في هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها.
وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي مقطع بروجرد قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه صاحب همذان وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة فحماه ومنع عنه وسارا جميعا إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها فخرج إليهما من بها من العسكر فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد.
فسار إليه تاج الملك القوهي مقدم عسكر همذان فحصره بها فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك فرحلوا عنه فخلص من الحصار وشرع يتجهز ليعاود حصار همذان فأكثر من الجموع فسار إليها فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك فاقتتلوا فانهزم عسكر همذان ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها وتقدم علاء الدولة،
330
إلى سماء الدولة فترجل له وخدمه وأخذه وأنزله في خيمته وحمل إليه المال وما يحتاج إليه وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك فحصره وقطع املاء عن القلعة فطلب تاج الملك الأمان فأمنه فنزل إليه ودخل معه همذان.
ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها ثم إلى سابور خواست فملكها أيضا وجمع تلك الأعمال وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان وسجنهم بقلعة عند أصبهان وأخذ أموالهم وأقطاعهم وأبعد كل من فيه شر من الديلم وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه وأكثر القتل فقامت هيبته وخافه الناس وضبط المملكة وقصد حسام الدولة أبا الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه فعاد عنه.
ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة
في هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار وكان متعلقا بالأثير فسعى وعزله واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فسار إلى مصر فتولى بها فقتله الحاكم فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي وحمله على مخالفة الحاكم والخروج على طاعته ففعل ذلك،
331
وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة فأجابه إليه واستقدمه إلى الرملة وخوطب بأمير المؤمنين.
فأنفذ الحاكم إلى حسان مالا جليلا وأفسد معه حال أبي الفتوح فأعاده حسان إلى وادي القرى وسار أبي الفتوح منه إلى مكة.
ثم قصد أبو القاسم العراق واتصل بفخر الملك فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر فأبعده فخر الملك قرواشا بالموصل فكتب له ثم عاد عنه وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي.
وكان خبيثا محتالا حسودا إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله.
وفيها في المحرم قدم مشرف الدولة إلى بغداد ولقيه القادر بالله في الطيار وعليه السواد ولم يلق قبله أحدا من ملوك بني بويه.
وفيها قتل أبو محمد بن سهلان قتله نبكير بن عياض عند إيذج.
ذكر الفتنة بمكة
في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة فقام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول، وفي الأخرى دبوس بعد ما فرغ الامام من الصلاة فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس وقال إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي فليمنعني مانع من هذا فإني أريد [أن] أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه،
332
وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس وأحرقوه وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا وثارت الفتنة وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلا غير ما اختفى منهم.
وألح الناس ذلك اليوم على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل فقالوا نحن مائة رجل فضربت أعناق هؤلاء الأربعة، وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه.
ذكر فتح قلعة من الهند
في هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند فغنم وقتل حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع ليس له مصعد إلا من موضع واحد وهي كبيره تسع خلقا وبها خمسمائة فيل، وفي رأس الجبل من الغلات والمياه وجميع ما يحتاج الناس إليه فحصرهم يمين الدولة وأدام الحصار وضيق عليهم واستمر القتال فقتل منهم كثير.
فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له وطلبوا الأمان فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه، وأهدى له هداياه كثيرة منها طائر على هيئة القمري
333
من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منها ماء وتحجر إذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها.
ذكر عدة حوادث
فيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره وكان موته بمدينة الري وقد جاوز تسعين سنة؛ وأبو عبد الله الكشفلي الفقيه الشافعي وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي وكان زاهدا مصنفا وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان عالما بالحديث عالي الاسناد.
334
415
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة
ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك
وعزل الوزير المغربي
في هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم ومعه الوزير ابن المغربي وبين الأتراك فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما فقال أنا أسير معكما فساروا جميعا ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية وبها قرواش فأنزلهم ثم ساروا كلهم إلى أوانا.
فلما علم الأتراك ذلك عظم عليم وانزعجوا منه وأرسلوا المرتضى وأبى الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون ويقولون ونحن العبيد فكتب إليهم أبو القاسم المغربي إنني تأملت مالكم من الجامكيات فإذا هي ستمائة ألف دينار وعملت دخل بغداد فإذا هو أربعمائة ألف دينار فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي فقالوا نحن نسقطها فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي فهرب إلى قرواش فكانت وزارته عشره أشهر وخمسة أيام فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.
335
ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي
القاسم المغربي لابن مروان
في هذه السنة وقعت فتنة بالكوفة بين العلويين والعباسيين.
وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهر سابسي وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة فاعتضد المختار بالعباسيين فساروا إلى بغداد وشكوا ما يفعل بهم النهر سابسي فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهر سابسي كان صديقه وابن أبي طالب كان صهره فعادوا واستعان كل فريق بخفاجة فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة فجرى بينهم قتال فظهر العلويون وقتل من العباسيين ستة نفر وأحرقت دورهم ونهبت فعادوا إلى بغداد ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة وثاروا وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة.
فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة وردها إلى المختار فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل وكان عند قرواش بسر من رأى فاعترض أرحاء للخليفة بدرزيجان فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي ففعل فسار المغربي عنه ففعل فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر وغضب الخليفة على النهر سابسي وبقي تحت السخط إلى سنة ثمان عشرة وأربعمائة فشفع فيه الأتراك.
وغيرهم فرضي عنه وحلفه على الطاعة فحلف.
336
ذكر وفاة سلطان الدولة وملك ولده
أبي كاليجار وقتل ابن مكرم
وفي هذه السنة في شوال توفي الملك سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز فطلبه الأوحد أبو محمد بن مكرم ليملك بعد أبيه وكان هواه معه، وكان الأتراك يريدون عمه أبا الفوارس من بهاء الدولة صاحب كرمان فكاتبوه يطلبونه إليهم أيضا فتأخر أبو كاليجار عنها فسبقه عمه أبو الفوارس إليه فملكها.
وكان أبو المكارم بن أبي محمد بن مكرم قد أشار على أبيه لما رأى الاختلاف أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه فلم يقبل قوله فسار وتركه وقصد البصرة فندم أبوه حيث لم يكن معه فقال له العادل أبو منصور ابن مافنة المصلحة أن تقصد سيراف وتكون مالك أمرك وابنك أبو القاسم بعمان فتحتاج الملوك إليك فركب سفينة ليمضي إليها فأصابه برد فبطل عن الحركة وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه فسار مجدا ومعه العادل فوصلوا إلى فارس وخرج ابن مكرم يلقى أبا الفوارس ومعه الناس فطالبه الأجناد بحق البيعة فأحالهم على ابن مكر فتضجر ابن مكرم فقال له العادل الرأي أن تبذل مالك وأموالنا حتى تمشي الأمور فانتهره فسكت وتلوم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد فشكوه إلى أبي الفوارس فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة ثم قتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة.
337
فلما سمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع الملك أبي كاليجار وأطاعه وتجهز أبو كاليجار وقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم وكان مربيه وساروا بالعساكر إلى فارس فسير عمه أبو الفوارس عسكرا مع وزيره أبي منصور الحسن بن علي الفسوي لقتاله فوصل أبو كاليجار والوزير متهاون به لكثرة عسكره فأتوه وهو نائم وقد تفرق عسكره في البلد يبتاعون ما يحتاجون إليه وكان جاهلا بالحرب فلما شاهدوا أعلام أبي كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر وقد داخلهم الرعب فحمل عليهم أبو كاليجار وهم على اضطراب فانهزموا وغنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم ودوابهم وكل مالهم فلما انتهى خبر الهزيمة إلى عمه أبي الفوارس سار إلى كرمان وملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.
ذكر عود أبي الفوارس إلى فارس وإخراجه عنها
ولما ملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز جرى على الديلم الشيرازية من عسكره ما أخرجهم عن طاعته وتمنوا معه أنهم كانوا قتلوا مع عمه وكان جماعة من الديلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس وهم يريدون أن يصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويصيروا معه فأرسل إليهم الديلم الذين بشيراز يعرفونهم ما يلقون من الأذى ويأمرونهم بالتمسك بطاعة أبي الفوارس ففعلوا ذلك.
338
ثم إن عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال وشغبوا عليه فأظهر الديلم الشيرازية ما في نفوسهم من الحقد فعجز عن المقام معهم فسار عن شيراز إلى النوبندجان ولقي شدة في طريقه، ثم انتقل عنها لشدة حرها ووخامة هوائها، ومرض أصحابه فأتى شعب بوان فأقام به.
فلما سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازية إلى عمه أبي الفوارس يحثونه على المجيء إليهم ويعرفونهم بعد أبي كاليجار عنهم فسار إليهم فسلموا إليه شيراز وقصد إلى أبي كاليجار بشعب بوان ليحاربه ويخرجه عن البلاد فاختار العسكران الصلح فسفروا فيه فاستقر لأبي الفوارس كرمان وفارس ولأبي كاليجار خوزستان وعاد أبو
الفوارس إلى شيراز وسار أبو كاليجار إلى أرجان.
ثم ان وزير أبي الفوارس خبط الناس وأفسد قلوبهم وصادرهم واجتاز به مال لأبي كاليجار والديلم الذين معه فأخذه فحينئذ حث العادل بن مافنة صندلا الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة وصار مع أبي كاليجار وكان الديلم يطيعونه فعادت الحال إلى أشد ما كانت عليه فسار كل واحد من أبي كاليجار وعمه أبي الفوارس إلى صاحبه والتقوا واقتتلوا فانهزم أبو الفوارس إلى دارابجرد وملك أبو كاليجار فارس وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر فاجتمع معه منهم نحو عشرة آلاف مقاتل فالتقوا بين البيضاء واصطخر فاقتتلوا أشد من القتال الأول فعاود أبو الفوارس الهزيمة فسار إلى كرمان واستقر أبي كاليجار بفارس سنة سبع عشرة وأربعمائة وكان أهل شيراز يكرهونه.
339
ذكر خروج زناتة والظفر بهم
في هذه السنة خرج بأفريقية جمع كثير من زناتة فقطعوا الطريق وأفسدوا بقسطيلية ونفزاوة وأغاروا وغنموا واشتدت شوكتهم وكثر جمعهم فسير إليهم المعز بن باديس جيشا جريدة وأمرهم أن يجدوا السير ويسبقوا أخبارهم ففعلوا ذلك وكتموا خبرهم وطووا المراحل حتى أدركوهم وهم آمنون من الطلب فوضعوا فيهم السيف فقتل منهم خلق كثير وعلق خمسمائة رأس في أعناق الخيول وسيرت إلى المعز وكان يوم دخولها يوما مشهودا.
ذكر عود الحجاج على الشام وما كان من الظاهر إليهم
في هذه السنة عاد الحجاج من مكة إلى العراق على الشام لصعوبة الطريق المعتاد وكانوا لما وصلوا إلى مكة بذل لهم الظاهر العلوي صاحب مصر أموالا جليلة وخلعا نفيسة وتكلف شيئا كثيرا وأعطى لكل رجل في الصحبة جملة من المال ليظهر لأهل خراسان ذلك.
وكان على تسيير الحجاج الشريف أبو الحسن القساسي وعلى حجاج خراسان حسنك نائب يمين الدولة بن سبكتكين فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله وعبر حسنك دجلة عند أوانا وسار إلى خراسان وتهدد القادر بالله ابن الأقساسي فمرض فمات ورثاه المرتضى وغيره وأرسل إلى يمين الدولة في المعنى فسير يمين الدولة فسير يمين الدولة الخلع التي خلعت على صاحبه حسنك إلى بغداد فأحرقت.
340
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تزوج السلطان مشرف الدولة بابنة علاء الدولة بن كاكويه وكان الصداق خمسين ألف دينار وتولى العقد المرتضى.
وفيها قلد القاضي أبو جعفر السمناني قضاء الرصافة وباب الطاق.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد السمسمي الأديب وابن الدقاق النحوي وأبو الحسين بن بشران المحدث وعمره سبع وثمانون سنة والقاضي أبو محمد بن أبي حامد المروروذي قاضي البصرة بها وأبو الفرج احمد بن عمر المعروف بابن المسلمة الشاهد وهو جد رئيس الرؤساء واحمد بن محمد بن احمد بن القاسم أبو الحسن المحاملي الفقيه الشافعي تفقه على أبي حامد وصنف المصنفات المشهورة وعبيد الله بن عمر بن علي بن محمد بن الأشرس أبو القاسم المقري الفقيه الشافعي.
341
416
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة
ذكر فتح سومنات
في هذه السنة فتح يمين الدولة في بلاد الهند عدة حصون ومدن وأخذ الصنم المعروف بسومنات وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب التناسخ فينشئها فيمن شاء وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر على قدر استطاعته.
وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس ويعطون سدنته كل مال جزيل وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا يحصى قيمته.
ولأهل الهند نهر كبير يسمى كنك يعظمونه غاية التعظيم ويلقون فيه عظام من يموت من كبرائهم ويعتقدون أنها تساق إلى جنة النعيم.
وبين هذا النهر وبين سومنات نحو مائتي فرسخ وكان يحمل من مائة كل يوم إلى سومنات ما يغسل به ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف
342
رجل لعبادته وتقديم الوفود إليه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس زواره ولحاهم وثلاثمائة رجل وخمسمائة أمة يغنون ويرقصون على باب الصنم ولكل واحد من هؤلاء شيء علوم كل يوم.
وكان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحا وكسر صنما يقول الهنود إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات ولو أنه راض عنها لأهلك من قصدها بسوء فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوة وإهلاكه ظنا منه أن الهنود إذا فقدوه ورأوا كذب ادعائهم الباطل دخلوا في الإسلام فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك سبيل الملتان فوصلها منتصف شهر رمضان.
وفي طريقه إلى الهند برية قفر لا ساكن فيها ولا ماء ولا ميرة فتجهز هو وعسكره على قدرها ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة وقصد أنهلوارة فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصونا مشحونة بالرجال وعندها آبار قد غوروها ليعتذر عليه حصرها فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم
وتسلمها وقتل سكانها وأهلك أوثانها وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه.
وسار إلى أنهلوارة فوصلها مستهل ذي القعدة فرأى صاحبها المدعو بهيم قد أجفل عنها وتركها وأمعن في الهرب وقصد حصنا له يحتمي به فاستولى يمين الدولة على المدينة وسار إلى سومنات فلقي في طريقه عدة
343
حصون فيها كثير من الأوثان شبه الحجاب والنقباء لسومنات على ما سول لهم الشيطان فقاتل من بها وفتحها وخربها وكسر أصنامها، وسار إلى سومنات في مفازة قفرة قليلة الماء فلقي فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لم يدينوا للملك فأرسل إليهم السرايا فقاتلوهم فهزموهم وغنموا ما لهم وامتاروا من عندهم وساروا حتى بلغوا دبولوارة وهي مرحلتين من سومنات وقد ثبت أهلها له ظنا منهم أن سومنات يمنعهم ويدفع عنهم فاستولى عليها وقتل رجالها وغنم أموالها و سار عنها إلى سومنات فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة، فرأى حصنا حصينا مبنيا على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم.
فلما كان الغد وهو الجمعة زحف وقاتل من به فرأى الهنود من المسلمين قتالا لن يعهدوا مثله ففارقوا السور فنصب المسلمون عليه السلام وصعدوا إليه وأعلنوا بكلمة الاخلاص وأظهروا شعار الإسلام فحينئذ اشتد القتال وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات فعفروا له خدودهم وسألوه النصر وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض.
فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم فأكثروا في الهنود القتل وأجلوهم عن المدينة إلى بتن صنمهم سومنات فقاتلوا على بابه أشد قتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخل إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون ويتضرعون إليه ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا حتى كاد الفناء يستوعبهم فبقي منهم القليل فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجوا فيهما فأدركهم
344
المسلمون فقتلوا بعضا وغرق بعض.
وأما البيت الذي فيه سومنات فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص وسومنات في حجر طوله خمسة أذرع ثلاثة مدورة ظاهرة وذراعان في البناء وليس بصورة مصورة فأخذه يمين الدولة فكسره وأحرق بعضه وأخذ بعضه معه إلى غزنة فجعله عتبة الجامع.
وكان بيت الصنم مظلما وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنها مائتا طن كلما مضى طائفة معلومة من الليل حركت السلسلة فيصوت الجرس فيقوم طائفة من البرهميين إلى عبادتهم وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام الذهبية والفضية وعليها الستور المعلقة المرصعة بالجوهر كل واحد منها منسوب إلى عظيم من عظمائهم وقيمة ما في البيوت يزيد على عشرين ألف ألف دينار فأخذ الجميع، وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل.
ثم إن يمين الدولة ورد عليه الخبر أن بهيم صاحب أنهلوارة قد قصد قلعة تسمى كندهة في البحر بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخا فسار إليها يمين الدولة من سومنات فلما حاذى القلعة رأى رجلين من الصيادين فسألهما عن خوض البحر هناك فعرفاه أنه يمكن خوضه لكن إن تحرك الهواء يسيرا غرق من فيه. فاستخار الله تعالى وخاضه هو ومن معه فخرجوا سالمين، فرأوا بهيم وقد فارق قلعته وأخلاها فعاد عنها وقصد المنصورة وكان صاحبها قد ارتد عن الإسلام فلما بلغه خبر مجيئ يمين الدولة
345
فارقها واحتمى بغياض أشبه فقصده يمين الدولة من موضعين فأحاط به وبمن معه فقتلوا أكثرهم وغرق منهم كثير ولم ينج منهم إلا القليل.
ثم سار إلى بهاطية فأطاعه أهلها ودانوا له فرحل إلى غزنة فوصلها عاشر صفر من سنة سبع عشرة وأربعمائة.
ذكر وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة
في هذه السنة في ربيع الأول توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بمرض حاد وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوما، وكان كثير الخير قليل الشر عادلا حسن السيرة وكانت والدته في الحياة وتوفيت سنة خمس وعشرين [وأربعمائة].
ولما توفي مشرف الدولة خطب ببغداد بعد موته لأخيه أبي طاهر جلال الدولة وهو بالبصرة وطلب إلى بغداد فلم يصعد إليها.
وإنما بلغ إلى واسط وأقام بها ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته، وخطب لابن أخيه الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوال وهو حينئذ صاحب خوزستان والحرب بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان بفارس فلما سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد فانحدر عسكرها ليردوه عنها فلقوه بالسيب من أعمال النهروان فردوه فلم يرجع فرموه بالنشاب ونهبوا بعض خزائنه فعاد إلى البصرة وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار ليصعد
346
إلى بغداد ليملكوه فوعدهم الإصعاد ولم يمكنه لأجل صاحب كرمان ولما أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.
ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرها
وفي هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر مدينة الرها وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى عطيرا وفيه شر وجهل واستخلف عليها نائبا له اسمه أحمد بن محمد فأحسن السيرة وعدل في الرعية فمالوا إليه.
وكان عطير يقيم بحلته ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة فرأى أن نائبه يحكم في البلد ويأمر وينهى فحسده فقال له يوما قد أكلت مالي واستوليت على بلدي وصرت الأمير وأنا النائب فاعتذر إليه فلم يقبل عذره وقتله فأنكرت الرعية قتله وغضبوا على عطير وكاتبوا نصر الدولة بن مروان ليسلموا إليه البلد فسير إليهم نائبا كان له بآمد يسمى
زنك فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد، ومضى عطير إلى صالح بن مرداس وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة فشفع فيه فأعطاه نصف البلد ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه فلم يفعل وقال لا أغدر به وإن كان أفسد وأرجوا أن أكف شره بالوفاء.
وتسلم عطير نصف البلد ظاهرا وباطنا وأقام فيه مع نائب نصر الدولة.
347
ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعاما ودعاه فأكل وشرب واستدعى ولدا كان لأحمد الذي قتله عطيرا وقال تريد أن تأخذ بثأر أبيك قال نعم! قال هذا عطير عندي في نفر يسير فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له يا ظالم قتلت أبي فإنه سيجرد سيفه عليك فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك ففعل ما أمره وقتل عطيرا ومعه ثلاثة نفر من العرب فاجتمع بنو نمير وقالوا هذا فعل زنك ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا فاجتمعت نمير وكمنوا له بظاهر البلد كمينا وقصد فريق منهم البلد فأغاروا على ما يقاربه فسمع زنك الخبر فخرج فيمن عنده من العساكر وطلب القوم فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه فقاتلهم فأصابه حجر مقلاع فسقط وقتل وكان قتله سنة ثمان عشرة وأربعمائة في أولها وخلصت المدينة لنصر الدولة.
ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النمريين ليرد الرها إليهما فشفعه وسلمها إليهما وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر فأخذ ابن عطير البرج الكبير وأخذ ابن شبل البرج الصغير وأقاما في البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غرق الأسطول بجزيرة صقلية
في هذه السنة خرج الروم إلى جزيرة صقلية في جمع كثير وملكوا ما كان للمسلمين في جزيرة قلورية وهي مجاورة لجزيرة صقلية وشرعوا في بناء المساكن ينتظرون وصول مراكبهم وجموعهم مع ابن أخت الملك. فبلغ
348
المعز بن باديس، فجهز أسطولا كبيرا أربعمائة قطعة وحشد فيها وجمع خلقا كثيرا وتطوع جمع كثير بالجهاد رغبة في الأجر فسار الأسطول في كانون الثاني فلما قرب من جزيرة قوصرة وهي قريب من بر أفريقية خرج عليهم ريح شديدة ونوء عظيم فغرق أكثرهم ولم ينج إلا اليسير.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ظهر أمر العيارين ببغداد وعظم شرهم فقتلوا النفوس ونهبوا الأموال وفعلوا ما أرادوا وأحرقوا الكرخ وغل السعر بها حتى بيع الكر الحنطة بمائتي دينار قاسانية.
وفيها قبض جلال الدولة على وزيره أبي سعد بن ماكولا واستوزر ابن عمه أبا علي بن ماكولا.
وفيها أرسل القادر بالله القاضي أبا جعفر السمناني إلى قرواش يأمره بابعاد الوزير أبي القاسم المغربي وكان عنده فأبعده فقصد نصر الدولة بن مروان بميافارقين وقد تقدم السبب فيه.
وفيها توفي الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان وزير مشرف الدولة أبي الفوارس وعمره ست وسبعون سنة.
349
وقاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب ومولده في ذي القعدة سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان عفيفا نزها وقيل توفي سنة سبع عشرة.
وبسيل ملك الروم وملك بعده أخوه قسطنطين.
وفيها ورد رسول محمود بن سبكتكين إلى القادر بالله ومعه خلع قد سيرها له الظاهر لإعزاز دين الله العلوي صاحب مصر ويقول أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضا؛ ويذكر ارسال هذه الخلع إليه وأنه سيرها إلى الديوان ليرسم فيها بما يرى فأحرقت على باب النوبي فخرج منها ذهب كثير تصدق به على ضعفاء بني هاشم.
وفيها توفي سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة وكان كاتبا سديدا وعمل دار الكتب ببغداد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد وبقيت إلى أن احترقت عند مجيء طغرلبك إلى بغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وفيها توفي عثمان الخركوشي الواعظ النيسابوري وكان صالحا خيرا وكان إذا دخل على محمود بن سبكتكين يقوم ويلتقيه وكان محمود قد قسط على نيسابور مالا يأخذه منهم فقال له الخركوشي بلغني أنك تكدي الناس وضاق صدري فقال وكيف قال بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء وهذه كدية فترك القسط وأطلقه.
وفيها بطل الحج من العراق وخراسان.
350
417
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة
ذكر الحرب بين عسكر علاء الدولة والجوزقان
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عساكر علاء الدولة بن كاكويه وبين الأكراد الجوزقان.
وكان سببها أن علاء الدولة استعمل أبا جعفر ابن عمه على سابور خواست وتلك النواحي، فضم إليه الأكراد الجوزقان وجعل معه على الأكراد أبا الفرج البابوني منسوب إلى بطن منهم فجرى بين أبي جعفر وأبي الفرج مشاجرة أدت إلى المنافرة فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما إلى عملهما فلم يزل الحقد يقوى والشر يتجدد فضرب أبو جعفر أبا الفرج بلت كان في يده فقتله.
فنفر الجوزقان بأسرهم ونهبوا وأفسدوا فطلبهم علاء الدولة وسير عسكرا واستعمل عليهم أبا منصور ابن عمه أخا أبي جعفر الأكبر وجعل معه فرهاذ بن مرداويج وعلي
بن عمران.
فلما علم الجوزقان ذلك أرسلوا إلى علي بن عمران يسألونه أن يصلح حالهم مع علاء الدولة وقصده جماعة منهم فشرع في الاصلاح فطالبه أبو جعفر وفرهاد بالجماعة الذين قصدوه ليسلمهم إليهما وأرادا أخذهم منه قهرا،
351
فانتقل إلى الجوزقان واحتمى كل منهم بصاحبه وجرى بين الطائفتين قتال غير مرة كان في آخره لعلي بن عمران والجوزقان فانهزم فرهاذ وأسر أبو منصور وأبو جعفر ابنا عم علاء الدولة فأما أبو جعفر فقتل قصاصا بأبي الفرج وأما أبو منصور فسجن فلما قتل أبو جعفر علم علي بن عمران أن الأمر قد فسد مع علاء الدولة ولا يمكن إصلاحه فشرع في الاحتياط.
ذكر الحرب بين قرواش وبني أسد وخفاجة
في هذه السنة اجتمع دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسان أمير بني خفاجة وجمعا عشائرهما وغيرهم وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلد العقيلي.
وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدبيس فسار إليهم واجتمعوا فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة.
وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم فسار ليلا جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين فوصلوا إلى الأنبار، وسارت أسد وخفاجة خلفهم فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.
352
ذكر الفتنة ببغداد وطمع الأتراك والعيارين
في هذه السنة كثر تسلط الأتراك ببغداد فأكثروا مصادرات الناس وأخذوا الأموال حتى أنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار، وعظم الخطب وزاد الشر وأحرقت المنازل والدروب والأسواق ودخل في الطمع العامة والعيارون فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره كما يفعل السلطان بمن يصادره فعمل الناس الأبواب على الدروب فلم تغن شيئا ووقعت الحرب بين الجند والعامة فظفر الجند ونهبوا الكرخ وغيره فأخذ منه مال جليل وهلك أهل الستر والخير.
فلما رأى القواد و عقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم وأن البلاد قد خربت وطمع فيهم المجاورون من العرب والأكراد راسلوا جلال الدولة في الحضور إلى بغداد فحضر على ما نذكره سنة ثمان عشرة وأربعمائة.
ذكر إصعاد الأثير إلى الموصل والحرب الواقعة بين بني عقيل
في هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد.
وكان سببه أن الأثير كان حاكما في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله فلما كان الآن زال ذلك،
353
وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق.
ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعا كثيرا من عقيل وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش، وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع هو وغريب بن معن والأثير عنبر وأتاه مدد من ابن مروان فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض، وكثر القتل ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلا وذاك أنه قصد غريبا في وسط المصاف واعتنقه وصالحه وفعل أبو الفضل بدران بن المقلد بأخيه قرواش كذلك فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.
ذكر احراق خفاجة الأنبار وطاعتهم لأبي كاليجار
في هذه السنة سار منيع بن حسان أمير خفاجة إلى الجامعين وهي لنور الدولة دبيس فنهبها، فسار دبيس في طلبه إلى الكوفة ففارقها وقصد الأنبار وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها فلم يكن لهم بخفاجة طاقة فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم وكان مريضا ومعه غريب والأثير عنبر إلى الأنبار ثم تركها ومضى إلى القصر، فاشتد طمع خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية.
354
وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل وكانت خفاجة في ألف فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه فخلع عليه، وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.
ذكر الصلح بأفريقية بين كتامة وزناتة
وبين المعز بن باديس
في هذه السنة وردت رسل زناتة وكتامة إلى المعز بن باديس صاحب أفريقية يطلبون منه الصلح وأن يقبل منهم الطاعة والدخول تحت حكمه وشرطوا أنهم يحفظون الطريق وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم فأجابهم إلى ما سألوا وجاءت مشيخة زناتة وكتامة إليه فقبلهم وأنزلهم ووصلهم وبذل لهم أموالا جليلة.
ذكر وفاة حماد بن المنصور وولاية ابنه القائد
في هذه السنة توفي حماد بن بلكين عم المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان خرج من قلعته منتزها فمرض ومات وحمل إلى القلعة فدفن
355
بها، وولي بعده ابنه القائد وعظم على المعز موته لأن الأمر بينهما كان قد صلح واستقامت الأمور للمعز بعده وأذعن له أولاد عمه حماد بالطاعة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة فأما السواقي فإنها جمدت كلها وتأخر المطر وازدادت دجلة فلم يزرع في السواد إلا القليل.
وفيها بطل الحج من خراسان والعراق.
وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض فسمع له دوي عظيم كان ذلك في رمضان.
وفيها مات أبو سعد بن ماكولا وزير جلال الدولة في محبسه وأبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي النيسابوري الحافظ وهو من مشايخ خطيب بغداد، وأبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي المقري مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
356
418
ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة
ذكر الحرب بين علاء الدولة وأصبهبذ ومن معه وما تبع ذلك من الفتن
في هذه السنة في ربيع الأول كانت حرب شديدة بين علاء الدولة بن كاكويه وبين الأصبهبذ ومن معه.
وكان سببها ما ذكرناه من خروج علي بن عمران عن طاعة علاء الدولة فلما فارقه اشتد خوفه من علاء الدولة فكاتب أصبهبذ صاحب طبرستان وكان مقيما بالري مع ولكين بن وندرين وحثه على قصد بلاد الجبل وكاتب أيضا منوجهر بن قابوس بن شمكير واستمده وأوهم الجميع أن البلاد في يده لا دافع له عنها.
وكان أصبهبذ معاديا لعلاء الدولة فسار هو و ولكين إلى همذان فملكاها وملكا أعمال الجبل وأجليا عنها عمال علاء الدولة وأتاهم عسكر منوجهر وعلي بن عمران فازدادوا قوة وساروا كلهم إلى أصبهان فتحصن علاء الدولة بها وأخرج الأموال فحصروه وجرى بينهم قتال استظهر فيه علاء الدولة وقصده كثير من ذلك العسكر وهو يبذل لمن يجيء إليه المال الجزيل ويحسن إليهم.
فأقاموا أربعة أيام وضاقت عليهم الميرة فعادوا عنها.
وتبعهم علاء الدولة واستمال الجوزقان فمال إليه بعضهم وتبعهم
357
إلى نهاوند فالتقوا عندها واقتتلوا قتالا كثر فيه القتلى والأسرى فظفر علاء الدولة وقتل ابنين لولكين في المعركة وأسر الأصبهبذ وابنان له ووزيره ومضى ولكين في نفر يسير إلى جرجان وقصد علي بن عمران قلعة كنكور فتحصن بها فسار إليه علاء الدولة فحصره بها وبقي أصبهبذ محبوسا عند علاء الدولة إلى أن توفي في رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة.
ثم ان ولكين بن وندرين سار بعد خلاصه من الوقعة إلى منوجهر بن قابوس وأطعمه في الري وملكها وهون عليه أمر البلاد لا سيما مع اشتغال علاء الدولة بمحاصرة علي بن عمران وانضاف إلى ذلك أن ولد ولكين كان صهر علاء الدولة على ابنته وقد أقطعه علاء الدولة مدينة قم فعصى عليه وسار مع أبيه وأرسل إليه يحثه على قصد البلاد فسار إليها ومعه عساكره وعساكر منوجهر حتى نزلوا على الري وقاتلوا مجد الدولة بن بويه ومن معه، وجرى بين الفريقين وقائع استظهر فيها أهل الري فلما رأى علاء الدولة ذلك صالح علي بن عمران.
فلما بلغ ولكين الصلح بين علاء الدولة وعلى بن عمران رحل عن الري من غير بلوغ غرض فتوجه علاء الدولة إلى الري وراسل منوجهر ووبخه وتهدده وأظهر قصد بلاده فسمع أن علي بن عمران قد كاتب منوجهر وأطعمه ووعده النصر وحثه على العود إلى الري. فعاد علاء الدولة عن قصد بلاد منوجهر وتجهز لقصد علي بن عمران فأرسل ابن عمران إلى منوجهر يستمده فسير إليه ستمائة فارس وراجل مع قائد من قواده وتحصن ابن عمران وجمع عنده الذخائر بكنكور وقصده علاء الدولة وحصره وضيق عليه ففني ما عنده فأرسل يطلب الصلح فاشترط علاء الدولة أن
358
يسلم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه والقائد الذي سيره إلى منوجهر، فأجابه إلى ذلك وسيرهم إليه فقتل قتلة ابن عمه وسجن القائد وتسلم القلعة وأقطع عليا عوضا عنها مدينة الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.
ذكر عصيان البطيحة على أبي كاليجار
في هذه السنة عصى أهل البطيحة على الملك أبي كاليجار ومقدمهم أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي الذي كان قديما صاحب البطيحة وقد تقدم خيره.
وكان سبب هذا الخلاف أن الملك أبا كاليجار سير وزيره أبا محمد بن بابشاذ إلى البطيحة فعسف الناس وأخذ أموالهم وأمر الشرابي فوضع على كل دار بالصليق قسطا وكان في صحبته ففعل فتفرقوا في البلاد وفارقوا أوطانهم، فعزم من بقي على أن يستدعوا من يتقدم عليهم في العصيان على أبي كاليجار، وقتل الشرابي وكان ينسبون كل ما يجري عليهم من الشرابي فعلم الشرابي بذلك فحضر عندهم واعتذر إليهم وبذل من نفسه مساعدتهم على ما يريدونه فرضوا به وحلفوا له وحلف لهم وأمرهم بكتمان الحال.
359
وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهات ذكرها ليحصلوا على الأموال فقبل منه ثم أشار عليه بإحدار سفنه إلى مكان ذكره ليصلح ما فسد منها ففعل فلما تم له ذلك وثب هو وأهل البطيحة عليه وأخرجوه من عندهم وكان عندهم وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة في الحبس فأخرجوهم واستعانوا بهم واتفقوا معهم وفتحوا السواقي وعادوا إلى ما كانوا عليه أيام مهذب الدولة وقاتلوا كل من قصدهم وامتنعوا فتم لهم ذلك، ثم قصده ابن المعبراني فاستولى على البطيحة وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد فأقام عنده مكرما.
ذكر صلح أبي كاليجار مع عمه صاحب كرمان
في هذه السنة استقر الصلح بين أبي كاليجار وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمه وأخذ كرمان منه فاحتمى منه بالجبال، وحمى الحر على أبي كاليجار وعسكره فكثرت الأمراض فتراسلا في الصلح فاصطلحا على أن يكون كرمان لأبي الفوارس وبلاده لأبي كاليجار ويحمل إلى عمه كل سنة عشرين ألف دينار.
ولما عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جعل أمور دولته إلى العادل بن مافنة فأجابه بعد امتناع وكان مولد العادل بكازرون سنة ستين وثلاث مائة وشرط العادل أن لا يعارض في الرأي يفعله فأجيب له ذلك.
360
ذكر الخطبة لجلال الدولة ببغداد وإصعاده إليها
في هذه السنة في جمادى الأولى خطب للملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد وأصعد إليها من البصرة فدخلها ثالث شهر رمضان.
وكان سبب ذلك أن الأتراك لما رأوا أن البلاد تخرب وأن العامة والعرب والأكراد قد طمعوا وأنهم ليس عندهم سلطان يجمع كلمتهم قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذرون إلى الخليفة من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أولا ثم برده ثانيا وبالخطبة لأبي كاليجار ويشكرون الخليفة حيث لم يخالفهم في شيء من ذلك وقالوا إن أمير المؤمنين صاحب الأمر ونحن العبيد وقد أخطأنا ونسأل العفو وليس عندنا الآن من يجمع كلمتنا ونسأل أن ترسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد ويملك الأمر ويجمع الكلمة ويخطب له فيها ويسألون أن يحلفه الرسول السائر لاحضاره لهم فأجابهم الخليفة إلى ما سألوا وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك فحلف لهم وأصعد إلى بغداد وانحدر الأتراك إليه فلقوه في الطريق وأرسل الخليفة إليه القاضي أبا جعفر السماني فأعاد تجديد العهد عليه للخليفة والأتراك ففعل.
ولما وصل إلى بغداد نزل النجمي فركب الخليفة الخليفة في الطيار وانحدر يلتقيه فلما رآه جلال الدولة قبل الأرض بين يديه وركب في زبزبه ووقف قائما فأمره الخليفة بالجلوس فخدم وجلس ودخل إلى دار المملكة بعد أن مضى إلى مشهد موسى بن جعفر فزار وقصد الدار فدخلها وأمر بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس فراسله الخليفة في منعه فقطعه غضبا، حتى
361
أذن له في إعادته ففعل.
وأرسل جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرخجي إلى الأثير عنبر الخادم وهو عند قرواش وقد ذكرنا ذلك يعرفه اعتضاده به واعتماده عليه ومحبته له ويعتذر إليه عن الأتراك فعذرهم وقال هم أولاد أخوة.
ذكر وفاة أبي القاسم بن المغربي وأبي الخطاب
أما أبو القاسم المغربي فتوفي هذه السنة بميافارقين وكان عمره ستا وأربعين سنة ولما أحس بالموت كتب كتابا على نفسه إلى كل من يعرفه من الأمراء والرؤساء الذين بينه وبين الكوفة ويعرفهم أن حظية له توفيت وأنه قد سير تابوتها إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام وخاطبهم في المراعاة لمن في صحبته وكان قصده أن لا أحد لتابوته بمنع وينطوي خبره فلما توفي سار به أصحابه كما أمرهم وأوصلوا الكتب فلم يعرض أحد إليه فدفن بالمشهد ولم يعلم أحد به إلا بعد دفنه.
ولأبي الحسن شعر حسن فمنه هذه الأبيات:
(وما ظبية أدماء تحنو على طلا * ترى الإنس وحشا وهي تأنس بالوحش)
(غدت فارتعت ثم انثنت لرضاعته * فلم تلف شيئا من قوائمه الحمش)
(فطافت بذاك القاع ولهى فصادفت * سباع الفلا ينهشنه أيما نهش)
362
(بأوجع مني يوم ظلت أنامل * تودعني بالدر من شبك النقش)
(وأجمالهم تخدي وقد خيل الهوى * كأن مطاياهم على ناظري تمشي)
(وأعجب ما في الأمر أن عشت بعدهم * على أنهم ما خلفوا لي من بطش)
وأما أبو الخطاب حمزة بن إبراهيم فإنه مات بكرخ سامرا مفلوجا غريبا قد زال عنه أمره وجاهه وكان مولده سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ورثاه المرتضى، كان سبب اتصاله ببهاء الدولة معرفة النجوم وبلغ منه منزلة لم يبلغها أمثاله فكان الوزراء يخدمونه وحمل إليه فخر الملك مائة ألف دينار فاستقلها وصار أمره إلى ما صار من الضيق والفقر والغربة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سقط في العراق جمعية برد كبار يكون في الواحد رطل أو رطلان وأصغر كالبيضة فأهلك الغلات ولم يصح منها إلا القليل.
وفيها آخر تشرين الثاني هبت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخل وبطل دوران الدواليب على دجلة.
وفيها انقطع الحج من خراسان والعراق.
وفيها نقصت الدار المعزية وكان معز الدولة بن بويه بناها وعظمها وغرم عليها ألف ألف دينار وأول من شرع في تخريبها بهاء الدولة فإنه لما عمر داره بسوق الثلاثاء نقل إليها من أنقاضها وأخذ سقفا منها وأراد
363
أن ينقله إلى شيراز، فلم يتم ذلك فبذل فيه من يحك ذهبه ثمانية آلاف دينار، ونقضت الآن وبيع أنقاضها.
وفيها توفي هبة الله بن الحسن بن منصور أبو القاسم اللالكائي الرازي سمع الحديث الكثير وتفقه على أبي حامد الأسفرايني وصنف كتبا؛ وأبو القاسم طباطبا الشريف العلوي وله شعر جيد فمنه أن صديقا له كتب إليه رقعة فأجابه على ظهرها هذه الأبيات:
(وقرأت الذي كتب وما زال * نجيي ومؤنسي وسميري)
(وغدا الفال بامتزاج السطور * حاكما بامتزاج ما في الضمير)
(واقترن الكلام لفظا وخطا * شاهدا باقتران ود الصدور)
(وتبركت باجتماع الكلامين * رجاء اجتماعنا في سرور)
(وتفاءلت بالظهور على الواشي * فصارت إجابتي في الصدور)
364
419
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة
ذكر الحرب بين بدران وعسكره نصر الدولة
في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها وكانت لنصر الدولة بن مروان فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه فهزمهم واستظهر عليهم وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر فسير نصر الدولة عسكرا آخر نجدة لمن بنصيبين فأرسل إليهم بدران عسكرا فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم. فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه فسير عسكرا آخر ثلاثة آلاف فارس فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان.
ثم عطف عليهم بدران وأصحابه فلم يثبتوا له فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال فعاد عسكر ابن مروان مفلولين فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها واقتتلوا مرة أخرى وكانوا على السواء ثم سمع بدران بأن أخاه قرواشا قد وصل إلى الموصل فرحل خوفا منه لأنهما كانا مختلفين.
365
ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولة
في هذه السنة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة وشغبوا وطالبوا الوزير أبا علي بن ماكولا بما لهم من العلوفة والأدرار ونهبوا داره ودور كتاب الملك وحواشيه حتى المغنين والمخنثين ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتضرب دنانير ودراهم وتفرق فيهم وحصروا جلال الدولة في داره ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر وأكلوا ثمرة البستان فسألهم أن يمكنوه من الانحدار فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سفنا فجعل بين الدار والسفن سرداقا لتجتاز حرمه فيه لئلا يراهم العامة والأجناد فقصد بعض الأتراك السرادق فظن جلال الدولة أنهم يريدون الجرم فصاح بهم يقول لهم بلغ أمركم إلى الحرم وتقدم إليهم وبيده طبر فصاح صغار الغلمان والعامة جلال الدولة يا منصور ونزل أحدهم عن فرسه وأركبه إياه وقبلوا الأرض بين يديه.
فلما رأى قواد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة وخافوا على نفوسهم وكان في الخزانة سلاح كثير فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغلمان وجعلهم عنده ثم أرسل إلى الخليفة ليصلح الأمر مع أولئك القواد فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله فأصلح بينهم وبين جلال الدولة وحلفوا فقبلوا الأرض بين يديه ورجعوا إلى منازلهم فلم يمض غير أيام حتى عادوا إلى الشغب فباع جلال الدولة فرشه وثيابه وخيمه وفرق ثمنها فيهم حتى سكنوا.
366
ذكر الاختلاف بين الديلم والأتراك بالبصرة
في هذه السنة ولي النفيس أبو الفتح محمد بن أردشير البصرة استعمله عليها جلال الدولة فلما وصل إلى المشان منحدرا إليها وقع بينه وبين الديلم الذين بالمشان وقعة استظهر عليهم وقتل منهم.
وكانت الفتن بالبصرة بين الأتراك والديلم وبها الملك العزيز أبو المنصور بن جلال الدولة فقوي الأتراك بها فأخرجوا الديلم فمضوا إلى الأبلة وصاروا مع بختيار بن علي فسار إليهم الملك العزيز بالأبلة ليعيدهم ويصلح بينهم وبين الأتراك فكاشفوه وحملوا عليه ونادوا بشعار أبي كاليجار فعاد منهزما في الماء إلى البصرة ونهب بختيار نهر الدير والأبلة وغيرهما من السواد وأعانه الديلم ونهب الأتراك وارتكبوا المحظور ونهبوا دار بنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.
ذكر استيلاء أبي كاليجار على البصرة
لما بلغ الملك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سير جيشا إلى بختيار وأمره أن يقصد البصرة فيأخذها فساروا إليها وبها الملك العزيز بن جلال الدولة فقاتلهم ليمنعهم فلم يكن له بهم قوة فانهزم منهم وفارق البصرة وكاد يهلك هو ومن معه عطشا فمن الله عليهم بمطر جود فشربوا منه واصعدوا إلى واسط.
وملك عسكر أبي كاليجار البصرة ونهب الديلم أسواقها، سلم منها
367
البعض بمال بذلوه لمن يحميهم وتتبعوا أموال أصحاب جلال الدولة من الأتراك وغيرهم. فلما بلغ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط فلم يوافقه الجند وطلبوا منه مالا يفرق فيهم فلم يكن عنده فمد يده في مصادرات الناس وأخذ أموالهم لا سيما أرباب الأموال فصادر جماعة.
ذكر وفاة صاحب كرمان واستيلاء أبي كاليجار عليها
في هذه السنة في ذي القعدة توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة صاحب كرمان وكان قد تجهز لقصد بلاد فارس وجمع عسكرا كثيرا فأدركه أجله. فلما توفي نادى أصحابه بشعار الملك أبي كاليجار وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم فسار مجدا وملك البلاد بغير حرب ولا قتال وأمن الناس معه وكان يكرهون عمه أبا الفوارس لظلمه وسوء سيرته وكان إذا شرب ضرب أصحابه وضرب وزيره يوما مائتي مقرعة وحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه ولا يخبر بذلك أحدا فقيل إنهم سموه فمات.
ذكر استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية
كان منصور بن الحسين الأسدي قد ملك الجزيرة الدبيسية وهي تجاوز خوزستان ونادى بشعار جلال الدولة وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سنة ثمان عشرة وأربعمائة فمات طراد عن قريب، فلما مات طراد
368
سار ابنه أبو الحسن علي إلى بغداد يسأل أن يرسل جلال الدولة معه عسكرا إلى بلده ليخرج منصورا منه ويسلمه إليه وكان منصور قد قطع خطبة جلال الدولة وخطب للملك أبي كاليجار فسير معه جلال الدولة طائفة من الأتراك فلما وصلوا إلى واسط لم يقف علي بن طراد حتى تجتمع معه طائفة من عسكر وسار عجلا.
واتفق أن أبا صالح كوركير كان قد هرب من جلال الدولة وهو يريد اللحاق بأبي كاليجار فسمع هذا الخبر فقال لمن معه المصلحة أننا نعين منصورا ولا نمكن عسكر جلال الدولة من إخراجه ونتخذ بهذا الفعل يدا عند أبي كاليجار فأجابوه إلى ذلك فسار إلى منصور واجتمع معه والتقوا هم وعسكر جلال كثير من المنهزمين بالعطش واستقر ملك منصور بها.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار الدزبري وعساكر مصر إلى الشام فأوقعوا بصالح بن مرداس وابن الجراح الطائي فهزمهما وقتل صالحا وابنه الأصغر وملك جميع الشام وقيل سنة عشرين [وأربعمائة].
وفيها توفيت أم مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه وهي التي كانت تدبر المملكة وترتب الأمور.
369
وفيها عزل الحسن بن علي بن جعفر أبو علي بن ماكولا من وزارة جلال الدولة وولي الوزارة بعده أبو طاهر الحسن بن طاهر ثم عزل بعد أربعين يوما وولي أبو سعد بن عبد الرحيم.
وفيها توفي قسطنطين ملك الروم وانتقل الملك إلى بنت له وقام بتدبير الملك والجيوش زوجها وهو ابن خالها.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم جعفر بن محمد بن فسانجس بأربق.
وفيها عدمت الأرطاب بالعراق للبرد الذي الذي تقدم في السنة قبلها، وكان يحمل من الأماكن البعيدة الشيء اليسير منه.
وفيها انقطع الحج من العراق فمضى بعض حجاج خراسان إلى كرمان وركبوا في البحر إلى جدة وحجوا.
وتوفي في هذه السنة محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر وهو آخر من حدث عن إسماعيل بن محمد الصفار ومحمد بن عمر والرزاز وعمر بن الحسن الشيباني، وكان له مال كثير فسافر إلى مصر خوف المصادرة فأقام بها سنة ثم عاد إلى بغداد فأخذ ماله في التقسيط على الكرخ الذي ذكرناه سنة ثمان عشرة وأربعمائة فافتقر فلما مات لم يوجد له كفن فأرسل له القادر بالله ما يكفن فيه.
370
420
ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة
ذكر ملك يمين الدولة الري وبلد الجبل
في هذه السنة سار يمين الدولة محمود بن سبكتكين نحو الري فانصرف منوجهر بن قابوس من بين يديه وهو صاحب جرجان وطبرستان وحمل إليه أربعمائة ألف دينار وأنزلا كثيرة.
وكان مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب الري قد كاتبه يشكو إليه جنده وكان متشاغلا بالنساء ومطالعة الكتب ونسخها وكانت والدته تدبر مملكته فلما توفيت طمع جنده فيه واختلفت أحواله فحين وصلت كتبه إلى محمود سير إليه جيشا وجعل مقدمتهم حاجبه وأمره أن يقبض إلى مجد الدولة. فلما وصل العسكر إلى الري ركب مجد الدولة يلتقيهم فقبضوا عليه وعلى أبي دلف وولده.
فلما انتهى الخبر إلى يمين الدولة بالقبض عليه سار إلى الري فوصلها في ربيع الآخر ودخلها وأخذ من الأموال الف الف دينار ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار ومن الثياب ستة آلاف ثوب ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى وأحضر مجد الدولة وقال له أما قرأت شاه نامه وهو تاريخ الفرس وتاريخ الطبري وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال:
371
ما حالك حال من قرأها أما لعبت بالشطرنج قال بلى! قال: فهل رأيت شاها يدخل على شاه قال لا. قال: فما حملك على ان سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك ثم سيره إلى خراسان مقبوضا، ثم ملك قزوين وقلاعها ومدينة ساوة وآبة ويافت وقبض على صاحبها ولكين بن وندرين وسيره إلى خراسان.
ولما ملك محمود الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفا وثلاثين ولدا، ولما سئل عن ذلك قال هذه عادة سلفي وصلب من أصحابه الباطنية خلقا كثيرا ونفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال والنجوم وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل.
وتحصن منه منوجهر بن قابوس بن وشمكير بجبال حصينة وعرة المسالك فلم يشعر إلا وقد أطل عليه يمين الدولة فهرب منه إلى غياض حصينة وبذل خمسمائة ألف دينار ليصلحه فأجابه إلى ذلك فأرسل المال اليه فسار عنه إلى نيسابور.
ثم توفي منوجهر عقيب ذلك ولي بعده ابنه أنو شروان فأقره محمود على ولايته وقرر عليه خمسمائة الف دينار أخرى وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمنية وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر وخطب له علاء الدولة بأصبهان وعاد محمود إلى خراسان واستخلف بالري ابنه مسعودا فقصد أصبهان وملكها من علاء الدولة وعاد عنها واستخلف بها بعض أصحابه فثار به أهلها فقتلوه فعاد إليهم فقتل منهم مقتله عظيمة نحو خمسة آلاف قتيل وسار إلى الري فأقام بها.
372
ذكر ما فعله السالار إبراهيم بن المرزبان
بعد عود يمين الدولة عن الري
هذا السالار هو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل وهسوذان بن محمد بن مسافر الديلمي وكان له من البلاد سرجهان وزنجان وأبهر وشهرزور وغيرها وهي ما استولى عليها بعد وفاة فخر الدولة بن بويه فلما ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين الري سير المرزبان بن الحسن بن خراميل وهو من أولاد ملوك الديلم وكان قد التجأ إلى يمين الدولة فسيره إلى بلاد السالار إبراهيم ليملكها فقصدها واستمال الديلم إليه بعضهم.
واتفق عود يمين الدولة إلى خراسان فسار السالار إبراهيم إلى قزوين وبها عسكر يمين الدولة فقاتلهم فأكثر القتل فيهم وهرب الباقون وأعانه أهل البلد وسار السالار أيضا إلى مكان سرجهان تطيف به الأنهار والجبال فتحصن به فسمع مسعود بن يمين الدولة وهو بالري بما فعل فسار مجدا إلى السالار فجرى بينهما وقائع كان الاستظهار فيها للسالار.
ثم إن مسعود راسل طائفة من جند السالار واستمالهم وأعطاهم الأموال فمالوا اليه ودلوه على عورة السالار وحملوا طائفة من عسكره في طريق غامضة حتى جعلوه من ورائهم وكبسوا السالار أول رمضان وقاتله مسعود من بين يديه وأولئك من خلفه فاضطرب السالار ومن معه وانهزموا وطلب كل انسان منهم مهربا واختفى السالار في مكانه فدلت عليه امرأة سوادية فأخذه مسعود وحمله إلى سرجهان وبها ولده فطلب منه أن يسلمها فلم يفعل فعاد عنها وتسلم باقي قلاعه وبلاده وأخذ أمواله،
373
وقرر على ابنه المقيم بسرجهان مالا وعلى كل من جاوره من مقدمي الأكراد وعاد إلى الري.
ذكر ملك أبي كاليجار مدينة واسط ومسير جلال الدولة
إلى الأهواز ونهبها وعود واسط اليه
في هذه السنة أصعد الملك أبو كاليجار إلى مدينة واسط فملكها وكان ابتداء ذلك أن نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة والنيل ولم تكن الحلة بنيت ذلك الوقت خطب لأبي كاليجار في أعماله.
وسببه أن أبا حسان المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد كان بينه وبين نور الدولة عداوة فاجتمع هو ومنيع أمير بني خفاجة وأرسلا إلى بغداد يبذلان مالا يتجهز به العسكر لقتال نور الدولة فاشتد الأمر على نور الدولة فخطب لأبي كاليجار وراسله يطعمه في البلاد.
ثم اتفق أنه ملك البصرة على ما ذكرناه، فقوي طمعه فسار من الأهواز إلى واسط وبها الملك العزيز بن جلال الدولة ومن معه جمع من الأتراك ففارقها العزيز وقصد النعمانية ففجر عليه نور الدولة البثوق من بلده فهلك كثير من أثقالهم وغرق جماعة منهم وخطب في البطيحة لأبي كاليجار وورد إليه نور الدولة.
وأرسل أبو كاليجار إلى قرواش صاحب الموصل، وعنده الأثير عنبر،
374
يطلب منه أن ينحدر إلى العراق ليبقى جلال الدولة من الفريقين فانحدر إلى الكحيل فمات به الأثير عنبر ولم ينحر معه قرواش وجمع جلال الدولة عساكره واستنجده أبا الشوك وغيره وانحدر إلى واسط ولم يكن بين العسكرين قتال وتتابعت الأمطار حتى هلكوا.
واشتد الأمر على جلال الدولة لفقره وقلة الأموال وغيرها عنده فاستشار أصحابه فيما يفعل فأشاروا أن يقصد الأهواز وينهبها ويأخذ ما بها من أموال أبي كاليجار وعسكره. فسمع أبو كاليجار ذلك فاستشار أيضا أصحابه فقال بعضهم ما عدل جلال الدولة عن القتال إلا لضعف فيه والرأي أن تسير إلى العراق فتأخذ من أموالهم ببغداد أضعاف ما يأخذون منا فاتفقوا على ذلك فأتاهم جاسوس من أبي الشوك يخبر بمجيء عساكر بن سبكتكين إلى طخر وأنهم يريدون العراق ويشير بالصلح واجتماع الكلمة على دفعهم عن البلاد. فأنفذ أبو كاليجار الكتاب إلى جلال الدولة وقد سار إلى الأهواز وأقام ينتظر الجواب ظنا منه أن جلال الدولة يعود بالكتاب فلم يلتفت جلال الدولة ومضى إلى الأهواز فهبها وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، وأخذوا مالا يحصى إلى ودخل الأكراد والأعراب وغيرهم إلى البلد فأهلكوا الناس بالنهب والسبي وأخذت والدة أبي كاليجار وابنته وأم ولده وزوجته فماتت أمه وحمل من عداها إلى بغداد.
ولما سمع أبو كاليجار الخبر سار ليلقى جلال الدولة فتخلف عنه دبيس بن مزيد خوفا على أهله وحلله من خفاجة والتقى أبو كاليجار وجلال
375
الدولة آخر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين [وأربعمائة]، فاقتتلوا ثلاثة أيام وانهزم أبو كاليجار وقتل من أصحابه ألفا رجل ووصل إلى الأهواز بأسوأ حال فأتاه العادل بن مافنة بمال فحسنت حاله.
وأما جلال الدولة فإنه عاد واستولى على واسط وجعل ابنه العزيز وأصعد إلى بغداد ومدحه المرتضى ومهيار وغيرهما وهنأوه بالظفر.
ذكر حال دبيس بن مزيد بعد الهزيمة
لما عاد دبيس بن مزيد الأسدي وفاروق أبا كاليجار وصل إلى بلده وكان قد خالف عليه قوم من بني عمه ونزلوا الجامعين فأتاهم وقاتلهم فظفر بهم وأسر منهم جماعة منهم شبيب وسرايا ووهب بنو حماد بن مزيد، وأبو عبد الله الحسن بن أبي الغنائم بن مزيد وحملهم إلى الجوسق.
ثم ان المقلد بن أبي الأغر بن مزيد وغيره اجتمعوا ومعهم عسكر من جلال الدولة وقصدوا دبيسا وقاتلوه فانهزم منهم وأسر وغيره بني عمه خمسة عشر رجلا فنزل المعتقلون بالجوسق وهم شبيب وأصحابه إلى حلله فحرسوها وسار دبيس منهزما إلى السندية إلى نجدة الدولة أبي منصور كامل بن قراد فاستصحبه إلى أبي سنان غريب بن مقن حتى أصلح أمره مع جلال الدولة وعسكره وتكفل به وضمن عنه عشرة آلاف دينار سابورية إذا أعيد إلى ولايته فأجيب إلى ذلك وخلع عليه.
376
فعرف المقلد الحال ومعه جمع من خفاجة فهبوا مطير أباد والنيل وسورا أقبح نهب واستاقوا مواشيها وأحرقوا منازلها وعبر المقلد دجلة إلى أبي الشوك وأقام عنده إلى ان أحكم أمره.
ذكر عصيان زناتة ومحاربتهم بأفريقية
في هذه السنة تجمعت زناتة وعاودت الخلاف على المعز بأفريقية فبلغ ذلك المعز فجمع عساكره وسار إليهم بنفسه فالتقوا بموضع يعرف بحمديس الصابون ووقعت الحرب بين الطائفتين واشتد القتال فانهزمت زناتة وقتل منهم عدد كبير وأسر مثلهم وعاد المعز ظافرا غانما.
ذكر ما فعله يمين الدولة وولده بعده بالغز
في هذه السنة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية وفرقهم في بلاده لأنهم كانوا قد أفسدوا فيها وهؤلاء كانوا أصحاب أرسلان بن سلجوق التركي وكانوا بمفازة بخارى فلما عبر يمين الدولة النهر إلى بخارى هرب علي تكين صابها منه على ما نذكره.
وحضر أرسلان بن سلجوق يمين الدولة فقبض عليه وسجنه ببلاد الهند وأسرى إلى خركاهاته فقتل كثيرا من أصحابه وسلم منهم خلق كثير فهربوا منه ولحقوا بخراسان فأفسدوا فيها ونهبوا هذه السنة فأرسل إليهم
377
جيشا فسبوهم وأجلوهم عن خراسان، فسار منهم أهل ألفي خركاة فلحقوا بأصبهان فكتب يمين الدولة إلى علاء الدولة بإنفاذهم أو إنفاذ رؤوسهم فأمر نائبه أن يعمل طعاما ويدعوهم إليه ويقتلهم فأرسل إليهم وأعلمهم أنه يريد إثبات أسمائهم ليستخدمهم.
وكمن الديلم في البساتين فحضر جمع كثير منهم فلقيهم مملوك تركي لعلاء الدولة فأعلمهم الحال فعادوا فأراد نائب علاء الدولة أن يمنعهم من العود فلم يقبلوا منه فحمل ديلمي من قواد الديلم على انسان منهم فرماه التركي بسهم فقتله.
ووقع الصوت بذلك فخرجت الديلم وانضاف إليهم هل البلد فجرى بينهم حرب فهزموهم فقلع الترك خركاهاتهم وساروا ولم يجتازوا على قرية إلا نهبوها إلى أن وصلوا إلى وهسوذان بأذربيجان فراعاهم وتفقدهم وبقي بخراسان أكثر ممن قصد أصبهان فأتوا جبل بلجان وهو الذي عنده خوارزم القديمة فنزل كثير منهم من الجبل إلى البلاد فنهبوا وأخربوا وقتلوا فجرد محمود سبكتكين إليهم أرسلان الجاذب أمير طوس فسار إليهم ولم يزل يتبعهم نحو سنتين في جموع كثيرة من العساكر فاضطر محمود إلى قصد خراسان بسببهم فسار يطلبهم من نيسابور إلى دهستان فساروا إلى جرجان ثم عاد عنهم وجعل ابنه مسعودا بالري على ما ذكرناه فاستخدم بعضهم ومقدمهم يغمر.
فلما مات محمود بن سبكتكين سار مسعود ابنه إلى خراسان وهم معه فلما ملك غزنة سألوه فيمن بقي منهم بجبل بلجان فأذن لهم في العود على
378
شرط الطاعة والاستقامة.
ثم إن مسعودا قصد بلاد الهند عند عصيان أحمد ينالتكين فعاودوا الفساد فسير تاش فراش في عسكر كثير إلى الري لأخذها من علاء الدولة فلما بلغ نيسابور ورأى سوء فعلهم دعا مقدميهم وقتل منهم نيفا وخمسين رجلا فيهم يغمر فلم ينتهوا وساروا إلى الري.
وبلغ مسعودا ما هم عليه من الشر والفساد فأخذ حللهم وسيرها إلى الهند وقطع أيدي كثير منهم وأرجلهم وصلبهم.
هذه أخبار عشيرة أرسلان بن سلجوق، وأما أخبار طغرلبك وداود وأخيهما بيغو فإنهم كانوا بما وراء النهر وكان من أمرهم ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى لأنهم صاروا ملوكا تجيء أخبارهم على السنين.
ولما أوقع تاش فراش حاجب السلطان مسعود بالغز ساروا إلى الري يزعمون أنهم يريدون أذربيجان واللحاق بمن مضى منهم أولا إلى هناك ويسمون العراقية وكان اسم أمراء هذه الطائفة كوكتاش وبوقا وقزل ويغمر وناصغلي فوصلوا إلى الدامغان فخرج إليهم عسكرها وأهل البلد لمنعوهم عنه فلم يقدروا فصعدوا الجبل وتحصنوا به ودخل الغز البلد ونهبوه وانتقلوا إلى سمنان ففعلوا فيها مثل ذلك ودخلوا خوار الري ففعلوا مثله ونهبوا اسحق آباذ وما يجاورها من القرى وساروا إلى مشكويه من أعمال الري فنهبوها.
وتجهز أبو سهل الحمدوني وتاش فراش وكاتبا الملك مسعودا وصاحب جرجان وطبرستان بالحال وطلبا النجدة وأخذ تاش ثلاثة آلاف فارس وما عنده من الفيلة والسلاح وسار إلى الغز ليواقعهم وبلغهم خبره،
379
فتركوا نساءهم وأموالهم وما غنموا من خراسان وهذه البلاد المذكورة وساروا جريدة فالتقوا فركب تاش الفيل ووقعت الحرب بين الفريقين فكانت أولا لتاش، ثم الغز أسروا مقدم الأكراد الذين مع تاش وأرادوا قتله فقال لهم استبقوني حتى آمر الأكراد الذين مع تاش بترك قتالكم فتركوه وعاهدوه على اطلاقه فأرسل إلى الأكراد يقولهم إن قاتلتم قتلت ففتروا في القتال.
وحملت الغز وكانوا خمسة آلاف على تاش فراش وعسكره فانهزم الأكراد وثبت وتاش وأصحابه فقتل الغز الفيل الذي تحته فسقط فقتلوه وقطعوه أخذا بثأر من قتل منهم، وقتل معه عدد كثير من الخراسانية وأكابر القواد وغنموا بقية الفيلة وأثقال العسكر وساروا إلى الري فاقتتلوا هم وأبو سهل الحمدوني ومن معه من الجند وأهل البلد فصعد هو ومن معه قلعة طبرك ودخل الغز البلد ونهبوا عدة محال نهبا واجتاحوا الأموال ثم اقتتلوا هم وأبو سهل فأسر منهم ابن أخت ليغمر أمير الغز وقائدا كبيرا من قوادهم فبذلوا فيهما إعادة ما أخذوا من عسكر تاش واطلاق الأسرى وحمل ثلاثين ألف دينار فقال لا افعل إلا بأمر السلطان.
وخرج الغز عن البلد ووصل عسكر من جرجان فلما قربوا من الري سار إليهم الغز فكبسوهم وأسروا مقدمهم وأسروا معه نحو الفي رجل وانهزم الباقون وعاودوا وكان هذا سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
380
ذكر وصول علاء الدولة إلى الري واتفاقه
مع الغز وعودهم إلى الخلاف عليه
لما فارق الغز الري إلى آذربيجان علم علاء الدولة ذلك فسار إليها ودخلها وهو يظهر طاعة السلطان مسعود بن سبكتكين فأرسل إلى أبي سهل الحمدوني يطلب منه أن يقرر الذي عليه بمال يؤديه فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة فأرسل إلى الغز يستدعيهم ليعطيهم الإقطاع ويتقوى بهم على الحمدوني، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة، مقدمهم قزل، وسار الباقون إلى أذربيجان.
فلما وصل الغز إلى علاء الدولة أحسن إليهم وتمسك بهم وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده أنه دعا الغز إلى موافقة على الخروج عليه والعصيان فأرسل اليه علاء الدولة وأحضر وقبض عليه وسجنه في قلعة طبرك فاستوحش الغز لذلك ونفروا فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم فلم يفعلوا وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق وعاد علاء الدولة راسل أبا سهل الحمدوني وهو بطبرستان وقرر معه أمر الري ليكون في طاعة مسعود فأجابه إلى ذلك وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالري.
ذكر ما كان من الغز الذين بأذربيجان ومفارقتها
قد ذكرنا ان طائفة من الغز وصلوا إلى أذربيجان فأكرمهم وهسوذان وصاهرهم رجاء نصر هم وكف شرهم.
381
وكان أسماء مقدميهم: بوقا، وكوكتاش، ومنصور ودانا وكان ما أمله بعيدا فإنهم لم يتركوا الشر والفساد والقتل والنهب وساروا إلى مراغة فدخلوها سنة تسع وعشرين [وأربعمائة] وأحرقوا جامعها وقتلوا من عوامها مقتلة كثيرة ومن الأكراد الهذبانية كذلك وعظم الأمر واشتد البلاء.
فلما رأى الأكراد ما حل بهم وبأهل البلاد شرعوا في الصلح والاتفاق على دفع شرهم فاصطلح أبو الهيجا بن ربيب الدولة وهسوذان صاحب أذربيجان واتفقت كلمتهما واجتمع معهما أهل تلك البلاد فانتصفوا من الغز فلما رأوا اجتماع أهل البلاد على حربهم انصرفوا عن آذربيجان وتعذر عليهم المقام بها ثم انهم افترقوا فسارت طائفة إلى الذين على الري ومقدمهم بوقا وسارت طائفة ومقدمهم منصور وكوكتاش إلى همذان فحصروها وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه فاتفق هو وأهل البلاد على قتالهم ودفعهم عن أنفسهم وبلدهم فقتل بين الفريقين جماعة كثيرة وطال مقامهم على همذان، فلما رأى أبو كاليجار بن علاء الدولة ذلك وضعفه عن مقاومتهم راسل كوكتاش وصالحه وصاهره.
وأما الذين قصدوا الري فإنهم حصروها وبها علاء الدولة بن كاكويه واجتمع معهم فناخسرو بن مجد الدولة وكامر والديلمي صاحب ساوة فكثر جمعهم واشتدت شوكتهم فلما رأى علاء الدولة أنهم كلما جاء أمرهم أزداد قوة وضعف هو خاف على نفسه وفارق البلد في رجب ليلا ومضى هاربا إلى أصبهان وأجفل أهل البلد وتمزقوا وعدلوا عن القتال إلى الاحتيال للهرب وغاداهم الغز من الغد بالقتال فلم يثبتوا لهم،
382
ودخلوا البلد ونهبوا نهبا فاحشا وسبوا النساء وبقوا كذلك خمسة أيام حتى لجأ الحرم إلى الجامع وتفرق الناس في كل مذهب ومهرب وكان السعيد من نجا بنفسه وكانت هذه الوقعة بعد التي تقدمتها مستأصلة حتى قيل إن بعض الجمع لم يكن بالجامع إلا خمسين نفسا.
ولما فارق علاء الدولة الري تبعه جمع من الغز فلم يدركوه فعدلوا إلى كرج فنهبوها وفعلوا فيها الأفاعيل القبيحة ومضى طائفة منهم ومقدمهم ناصغلي إلى قزوين فقاتلهم أهلها ثم صالحوهم على سبعة آلاف دينار وصاروا في طاعته.
وكان بأرمية طائفة منهم فساروا إلى بلد الأرمن فأوقعوا بهم وأثخنوا فيهم وأكثروا القتل وغنموا وسبوا وعادوا إلى أرمية وأعمال أبي الهيجاء الهذباني فقاتلهم أكرادها لما أنكروه من سوء مجاورتهم فقتل خلق كثير ونهب الغز سواد البلاد هناك وقتلوا من الأكراد كثيرا.
ذكر ملك الغز همذان
قد ذكرنا حصار الغز همذان وصلحهم مع صاحبها أبي كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه فلما كان الآن وملك الغز الري عاودوا حصار همذان وساروا إليها من الري ما عدا قزل وجماعته واجتمعوا مع من بها من الغز فلما سمع أبو كاليجار بهم علم أنه لا قدرة له عليهم فسار عنها ومعه وجوه
383
التجار وأعيان البلد وتحصن بكنكور.
ودخل الغز همذان سنة ثلاثين وأربعمائة واجتمع عليها من مقدميهم كوكتاش وبوقا وقزل ومعهم فناخسروا بن مجد الدولة بن بويه في عدة كثير من الديلم فلما دخلوها نهبوها نهبا منكرا لم يفعلوه بغيرها من البلاد غيظا منهم وحنقا عليهم حيث قاتلوهم أولا وأخذوا الحرم وضربت سراياهم إلى أسداباذ وقرى الدينور واستباحوا تلك النواحي وكان الديلم أشدهم فخرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدينور فواقعهم واستظهر عليهم وأسر منهم جماعة فراسله أمراؤهم في إطلاقهم فامتنع إلا على صلح وعهود فأجابوه وصالحوه فأطلقهم.
ثم إن الغز بهمذان راسلوا أبا كاليجار بن علاء الدولة وصالحوه وطلبوا إليه أن ينزل إليهم ليدبر أمرهم ويصدرون عن رأيه وأرسلوا إليه زوجته التي تزوجها منهم فنزل إليهم فلما صار معهم وثبوا عليه فانهزم ونهبوا ماله وما كان معه من دواب وغيرها فسمع أبوه فخرج من أصبهان إلى أعماله بالجبل ليشاهدها فوقع بطائفة كثيرة من الغز فظفر بهم وقتل منهم فأكثر وأسر منهم ودخل أصبهان منصورا.
ذكر قتل الغز بمدينة تبريز وفراقهم
أذربيجان إلى الهكارية
في هذه سنة اثنتين وثلاثين [وأربعمائة] قتل وهسوذان بن مهلان جمعا كثيرا من الغز بمدينة تبريز.
384
وكان سبب ذلك أنه دعا جمعا كثيرا منهم إلى طعام صنعه لهم فلما طعموا أو شربوا قبض على ثلاثين رجلا منهم من مقدميهم فضعف الباقون فأكثر فيهم القتل فاجتمع الغز المقيمون بأرمية وساروا نحو بلاد الهكارية من أعمال الموصل فقاتلهم أكرادها وقاتلوهم قتالا عظيما فانهزم الأكراد وملك الغز حللهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم وتعلق الأكراد بالجبال والمضايق وسار الغز في أثرهم فواقعوهم فظفر بهم الأكراد فقتلوا منهم ألفا وخمسمائة رجل وأسروا جمعا فيه سبعة من أمرائهم ومائة نفس من وجوههم وغنموا سلاحهم ودوابهم وما معهم من غنيمة استردوها وسلك الغز طريق الجبال فتمزقوا وتفرقوا.
وسمع ابن ربيب الدولة الخبر فسير في آثارهم من يفني باقيهم ثم توفي قزل أمير الغز المقيم بالري وخرج إبراهيم ينال أخو السلطان طغرلبك إلى الري فلما سمع به الغز المقيمون بها أجفلوا من بين يديه وفارقوا بلاد الجبل خوفا منه وقصدوا ديار بكر والموصل في سنة ثلاث وثلاثين [وأربعمائة].
ذكر دخول الغز ديار بكر
في سنة ثلاث وثلاثين [وأربعمائة] فارق الغز أذربيجان.
وسبب ذلك أن إبراهيم ينال وهو أخو طغرلبك سار إلى الري، فلما
385
سمع الغز الذين بها خبره أجفلوا من بين يديه وفارقوا بلاد الجبل خوفا منه وقصدوا أذربيجان ولم يمكنهم المقام بها لما فعلوا بأهلها ولأن إبراهيم ينال وراءهم وكانوا يخافونه لأنهم كانوا له ولأخويه طغرلبك وداود رعية فأخذوا بعض الأكراد وعرفهم الطر يق فأخذ بهم في جبال وعرة على الزوزان وخرجوا إلى جزيرة ابن عمر فسار بوقا وناصغلي وغيرهما إلى ديار بكر ونهبوا قردى وبازبدى، والحسنية وفيشابور وبقي منصور ابن غزغلي بالجزيرة من الجانب الشرقي.
فراسله سليمان بن نصر الدولة بن مروان المقيم بالجزيرة في المصالحة والمقام بأعمال الجزيرة إلى أن ينكشف الشتاء ويسير مع باقي الغز إلى الشام فتصالحا وتحالفا، وأضمر سليمان الغدر به فعمل له طعاما احتفل فيه ودعاه فلما دخل الجزيرة قبض عليه وحبسه وانصرف أصحابه متفرقين في كل جهة.
فلما علم بذلك قرواش سير جيشا كثيفا إليهم واجتمع معهم الأكراد البشنوية أصحاب فنك وعسكر نصر الدولة فتبعوا الغز فلحقوهم وقاتلوهم فبذل الغز جميع ما غنموه على أن يؤمنوهم فلم يفعلوا فقاتلوا قتال من [لا] يخاف الموت فجرحوا من العرب كثيرا وافترقوا.
وكان بعض الغز قد قصد نصيبين وسنجار للغارة فعادوا إلى الجزيرة وحصروها وتوجهت العرب إلى العراق ليشتوا بها فأخربت الغز ديار بكر ونهبوا وقتلوا، فاخذ نصر الدولة منصورا أمير الغز من ابنه سليمان وراسل الغز وبذل لهم مالا واطلاق منصور ليفارقوا عمله فأجابوه فاطلق منصورا وأرسل بعض المال فغدروا وزادوا في الشر وسار بعضهم إلى
386
نصيبين وسنجار والخابور فنهبوا وعادوا وسار بعضهم إلى جهينة وأعمال الفرح فنهبوها فدخل قرواش الموصل خوفا منهم.
ذكر ملك الغز مدينة الموصل
لما خرجوا من أذربيجان إلى جزيرة ابن عمر وهي من أعمال نصر الدولة بن مروان سار بعضم إلى ديار بكر مع أمرائهم المذكورين وسار الباقون إلى البقعاء ونزلوا برقعيد فأرسل إليهم قرواش صاحب الموصل من ينظر فيهم ويعير عليهم فلما رأوا ذلك تقدموا إلى الموصل فأرسل إليهم يستعطفهم ويلين لهم وبذل لهم ثلاثة آلاف دينار فلم يقبلوا فأعاد مراسلتهم ثانية فطلبوا خمسة عشر ألف دينار فالتزمها وأحضر أهل البلد وأعلمهم الحال.
فبينما هم مهتمين بجمع المال وصل الغز إلى الموصل ونزلوا بالحصباء فخرج إليهم قرواش وأجناده والعامة فقاتلوهم عامة نهارهم وأدركهم الليل فافترقوا فلما كان الغد عادوا إلى القتال فانهزمت العرب وأهل البلد وهربت قرواش في سفينة نزلها من داره وخرج من جميع ماله الا الشيء اليسير ودخل الغز البلد فنهبوا كثيرا منه ونهبوا
جميع مال قرواش من مال وجوهر وحلي وثياب وأثاث ونجا قرواش في السفينة ومعه نفر،
387
فوصل إلى السن وأقام بها وأرسل إلى الملك جلال الدولة يعرفه الحال ويطلب النجدة وأرسل إلى دبيس بن مزيد وغيره من أمراء العرب والأكراد يستمدهم ويشكو ما نزل به.
وعمل الغز بأهل الموصل الأعمال الشنيعة من الفتك وهتك الحريم ونهب المال وسلم عدة محال منها سكة أبي نجيح والجصاصة وجارسوك وشاطئ نهر وباب القصابين على مال ضمنوه فكفوا عنهم.
ذكر وثوب أهل الموصل بالغز وما كان منهم
قد ذكرنا ملك الغز الموصل فلما استقر فيها قسطوا على أهلها عشرين الف دينار وأخذوها ثم تتبعوا الناس وأخذوا كثيرا من أموالهم بحجة أموال العرب ثم قسطوا أربعة آلاف دينار أخرى فحضر جماعة من الغز عند ابن فرغان الموصلي وطالبوا انسانا بحضرته وأساؤوا الأدب والقول.
وجرى بين بعض الغز وبعض المواصلة مشاجرة فجرحه الغز وقطع شعره وكان للموصلي والدة سليطة فلطخت وجهها بالدم وأخذت الشعر بيدها وصاحت المستغاث بالله وبالمسلمين قد قتل لي ابن وهذا دمه وابنة وهذا شعرها وطافت في الأسواق فثار الناس وجاؤوا إلى ابن فرغان فقتلوا من عنده من الغز وقتلوا من ظفروا به منهم ثم حصروهم في دار فقاتلوا من سطحه فنقب الناس عليه الدار وقتلوهم جميعا غير سبعة أنفس منهم
388
أبو علي ومنصور فخرج منصور إلى الحصباء ولحق به من سلم منهم.
وكان كوكتاش قد فارق الموصل في جمع كثير فأرسلوا إليه يعلمونه الحال فعاد إليهم ودخل البلد عنوة في الخامس والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين [وأربعمائة] ووضعوا السيف في أهله أسروا كثيرا ونهبوا الأموال وأقاموا على ذلك اثني عشر يوما يقتلون وينهبون وسلمت سكة أبي نجيح فإن أهلها أحسنوا إلى الأمير منصور فرعى لهم ذلك والتجأ من سلم إليها وبقي القتلى في الطريق فأنتنوا لعدم من يواريهم ثم طرحوا بعد ذلك كل جماعة في حفيرة وكانوا يخطبون للخليفة ثم لطغرلبك.
لما طال مقامهم لهذه البلاد وجرى منهم ما ذكرناه كتب الملك جلال الدولة بن بويه إلى طغرلبك يعرفه ما يجري منهم وكتب اليه نصر الدولة بن مروان يشكو منهم فكتب إلى نصر الدولة يقول له بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك وأنك صانعتهم بمال بذلته لهم وأنت صاحب ثغر ينبغي أن تعطى ما تستعين به على قتال الكفار ويعده أنه يرسل إليهم يرحلهم من بلده.
وكانوا يقصدون بلاد الأرمن وينهبون ويسبون حتى أن الجارية الحسناء بلغت قيمتها خمسة دنانير وأما الغلمان فلا يرادون وكتب طغرلبك إلى جلال الدولة يعتذر بأن هؤلاء التركمان كانوا لنا عبيدا وخدما ورعايا وتبعا يمتثلون الأمر ويخدمون الباب ولما نهضنا لتدبير خطب آل محمود بن سبكتكين وانتدبنا لكفاية أمر خوارزم انحازوا إلى الري فعاثوا فيها وأفسدوا فزحفنا بجنودنا من خراسان إليهم مقدرين أنهم يلجؤون إلى الأمان ويلوذون بالعفو الغفران فملكتهم الهيبة وزحزحتهم الحشمة ولا بد من أن نردهم إلى راياتنا خاضعين ونذيقهم من بأسنا جزاء المتمردين قربوا أم بعدوا أغاروا أم أنجدوا.
389
ذكر ظفر قرواش صاحب الموصل بالغز
قد ذكرنا انحدار قرواش إلى السن ومراسلته سائر أصحاب الأطراف في طلب النجدة منهم فأما الملك جلال الدولة فلم ينجده لزوال طاعته عن جنده الأتراك وأما دبيس بن مزيد فسار إليه واجتمعت عليه كافة عقيل وأتته أمداد أبي الشوك وابن ورام وغيرهما فلم يدركوا الوقعة فإن قرواشا لما اجتمعت عقيل ودبيس عنده سار إلى الموصل.
وبلغ الخبر إلى الغز فتأخروا إلى تلعفر وبومارية وتلك النواحي وراسلوا الغز الذين كانوا بديار بكر ومقدمهم ناصغلي وبوقا وطلبوا منهم المساعدة على العرب فساروا إليهم.
وسمع قرواش بوصولهم فلم يعلم أصحابه لئلا يفشلوا ويجبنوا وسار حتى نزل على العجاج وسارت الغز فنزلوا برأس الإبل من الفرج وبينهما نحو فرسخين وقد طمع الغز في العرب فتقدموا حتى شارفوا حلل العرب، ووقعت الحرب في العشرين من شهر رمضان من أول النهار فاستظهرت الغز وانهزمت العرب حتى صار القتال عند حللهم ونساؤهم يشاهدن القتال فلم يزل الظفر للغز إلى الظهر ثم أنزل الله نصره على العرب وانهزمت الغز وأخذهم السيف وتفرقوا وكثر القتل فيهم فقتل ثلاثة من مقدميهم وملك العرب حلل الغز وخركاهاتهم وغنموا أموالهم فعمتهم الغنيمة وأدركهم الليل فحجز بينهم.
390
وسير قرواش رؤوس كثير من القتلى في سفينة إلى بغداد، فلما قاربتها أخذتها الأتراك ودفنوها ولم يتركوها تصل أنفة وحمية للجنس وكفى الله أهل الموصل شرهم وتبعهم قرواش إلى نصيبين وعاد عنهم فقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم مالوا على الأرمن والروم فنهبوهم ثم قصدوا بلاد أذربيجان وكتب قرواش إلى الأطراف يبشر بالظفر بهم وكتب إلى ابن ربيب الدولة صاحب أرمية يذكر له أنه قتل منهم ثلاثة آلاف رجل فقال للرسول هذا عجب فإن القوم لما اجتازوا ببلادي أقمت على قنطرة لا بد لهم من عبورها فأمرت بعدهم فكانوا نيفا وثلاثين ألفا مع لفيفهم فلما عادوا بعد هزيمتهم لم يبلغوا خمسة آلاف رجل فإما أن يكونوا قتلوا أو هلكوا ومدح الشعراء قرواشا بهذا الفتح وممن مدحه ابن شبل بقصيدة منها:
(بأبي الذي أرست نزار بيتها * في شامخ من عزة المتخير)
وهي طويلة. هذه أخبار الغز العراقيين، وإنما أوردناها متتابعة لأن دولتهم لن تطل حتى نذكر حوادثها في السنين وإنما كانت سحابة صيف تقشعت عن قريب.
وأما السلجوقية فنحن نذكر حوادثهم في السنين ونذكر ابتداء أمرهم سنة اثنتين وثلاثين [وأربعمائة] إن شاء الله تعالى.
391
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة سير الظاهر جيشا من مصر مقدمهم أنوشتكين البريدي فقتل صالح بن مرداس وملك نصر بن صالح مدينة حلب وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة.
وفيها سقط في البلاد برد عظيم، وكان أكثره بالعراق وارتفعت بعده ريح شديدة سوداء فقلعت كثيرا من الأشجار بالعراق فقلعت شجرا كبارا من الزيتون من شرقي النهروان وألقته على بعد من غربيها وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور وقلعت سقف مسجد الجامع ببعض القرى.
وفيها في ذي القعدة تولى أبو عبد الله بن ماكولا قضاء القضاة.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي عن نيف وتسعين سنة وأخذ النحو عن أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي وكان فكها كثير الدعابة فمن ذلك أنه كان يوما على شاطئ دجلة ببغداد والملك جلال الدولة والمرتضى والرضي كلاهما في سمارية ومعهما عثمان بن جني النحوي فناداه الربعي أيها الملك ما أنت صادق في تشيعك بعلي بن أبي طالب يكون عثمان إلى جانبك وعلي يعني نفسه ههنا فأمر بالسميرية فقربت إلى الشاطئ وحمله معه.
392
وقيل إن هذا القول كان للشريف وأخيه المرتضى ومعهما عثمان بن جني فقال ما أعجب أحوال الشريفين يكون عثمان معهما وعلي يمشي على الشط.
وفيها أيضا توفي أبو السمك عنبر الملقب بالأثير وكان أصعد إلى الموصل مغاضبا لجلال الدولة فلقيه قرواش وأهله وقبلوا الأرض بين يديه فأقام عندهم، وكان خصيا لبهاء الدولة بن بويه وكان قد بلغ مبلغا عظيما لم يخل أمير ولا وزير في دولة بني بويه من تقبيل يده والأرض بين يديه، وكان قد استقر بينه وبين قرواش وأبي كاليجار قاعدة أن يصعد أبو كاليجار من واسط وينحدر الأثير وقرواش من الموصل لقصد جلال الدولة، وكان الأثير قد انحدر من الموصل، فلما وصل مشهد الكحيل توفي فيه.
وفيها انقض كوكب عظيم كالرعد في رجب أضاءت منه الأرض وسمع له صوت عظيم كالرعد وتقطع أربع قطع وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه وانقض بعدهما كوكب أكبر منهما وأكثر ضوءا.
وفيها كانت ببغداد فتنة قوي فيها أمر العيارين واللصوص فكانوا يأخذون العملات ظاهرا.
وفيها قطعت الجمعة من جامع براثا وسببها أنه كان يخطب فيها انسان يقول في خطبته: بعد الصلاة على النبي وعلى أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مكلم الجمجمة ومحييها البشري الإلهي مكلم الفتية أصحاب الكهف إلى غير ذلك من العلو المبتدع فأقام الخليفة خطيبا فرجمه
393
العامة فانقطعت الصلاة فيه فاجتمع جماعة من أعيان الكرخ مع المرتضى واعتذروا إلى الخليفة بأن سفهاء لا يعرفون فعلوا ذلك وسألوا إعادة الخطبة فأجيبوا إلى ما طلبوه وأعيدت الصلاة والخطبة فيه.
وفيها توفي ابن أبي الهبيش الزاهد المقيم بالكوفة وهو من أرباب الطبقات العالية في الزهد وقبره يزار إلى الآن وقد زرته.
وفيها توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير وملك ابنه أنوشروان.
394
421
ثم دخلت سنة احدى وعشرين وأربعمائة
ذكر ملك مسعود بن محمود بن سبكتكين همذان
في هذه السنة سير مسعود بن يمين الدولة محمود جيشا إلى همذان فملكوها وأخرجوا نواب علاء بن كاكويه عنها.
وسار إلى أصبهان فلما قاربها فارقها علاء الدولة فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر فإن علاء الدولة أعجل عن أخذه فلم يأخذ إلا بعضه وسار إلى خوزستان فبلغ إلى تستر ليطلب من الملك أبي كاليجار نجدة ومن الملك جلال الدولة ويعود إلى بلاده يستنقذها فبقي عند أبي كاليجار مدة وهو عقيب انهزامه من جلال الدولة ضعيف ومع هذا فهو يعده النصرة وتسيير العساكر إذا اصطلح هو وجلال الدولة.
فبينما هو عنده إذ أتاه خبر وفاة يمين الدولة محمود ومسير مسعود إلى خراسان فسار علاء الدولة إلى بلاده على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوة للمسلمين إلى الهند
في هذه السنة غزا أحمد بن ينالتكين النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند مدينة للهنود هي من أعظم مدنهم يقال لها نرسى ومع أحمد نحو
395
مائة ألف فارس وراجل وشن الغارة على البلاد ونهب وسبى وخرب الأعمال وأكثر القتل والأسر فلما وصل إلى المدينة دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون في ذلك الجانب يوما من بكرة إلى آخر النهار ولم يفرغوا من نهب سوق العطارين والجوهريين حسب وباقي أهل البلد لم يعلموا بذلك لأن طوله منزل من منازل الهنود وعرضه مثله فلما جاء المساء بم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله فخرج منه ليأمن على نفسه وعسكره.
وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة كيلا ولم يصل إلى هذه المدينة عسكر المسلمين قبله ولا بعده فلما فارقه أراد العود إليه فلم يقدر على ذلك منعه أهله عنه.
ذكر ملك بدران بن المقلد نصيبين
قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين وأنه رحل عنها خوفا من قرواش فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه فأرسل يطلبها إليها فسيرها فأقامت بالموصل ثم ان ولد مستحفظ جزيرة
ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش وأطعمه في الجزيرة فأرسل إلى نصر الدولة يطلب من صداق ابنته وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها
396
عام أول وترددت الرسل بينهما في ذلك فلم يستقر حال فسير جيشا لمحاصرة الجزيرة وجيشا مع أخيه بدران إلى نصيبين فحصرها بدران وأتاه قرواش فحصرها معه، فلم يملك واحد من البلدين وتفرق من كان معه من العرب والأكراد فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين فسلمها وأرسل من صداق ابنه قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.
ذكر ملك أبي الشوك دقوقا
وفيها حصر أبو الشوك دقوقا وبها مالك بن بدران بن المقلد العقيلي فطال حصاره وكان قد أرسل إليه يقول له إن هذه المدينة كانت لأبي ولا بد لي منها والصواب أن تنصرف عنها، فامتنع من تسليمها فحصره بها ثم استظهر وملك البلد فطلب منه مالك الأمان على نفسه وماله وأصحابه فأمنه على نفسه حسب فلما خرج إليه مالك قال له أبوك الشوك قد كنت سألتك أن تسلم البلد طوعا وتحقن دماء المسلمين فلم تفعل. فقال لو فعلت لعيرتني العرب وأما الآن فلا عار علي فقال أبو الشوك إن من إتمام الصنيعة تسليم مالك وأصحابك إليك فأعطاه ما كان له اجمع فأخذه وعاد سالما.
397
ذكر وفاة يمين الدولة محمود بن
سبكتكين وملك ولده محمد
في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة وقيل إنه توفي في أحد عشر صفر وكان مرضه سوء مزاج وإسهالا وبقي كذلك نحو سنتين وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته فأشار عليه الأطباء بالراحة وكان يجلس للناس بكرة وعشية فقال أتريدون أن أعتزل الأمارة فلم يزل كذلك حتى توفي قاعدا.
فلما حضره الموت أوصى بالملك لابنه محمد وهو ببلخ وكان أصغر ى من مسعود إلا أنه كان معرضا عن مسعود لأن أمره لم يكن عنده نافذا وسعى بينهما أصحاب الأغراض فزادوا أباه نفورا عنه فلما وصى بالملك لولده محمد توفي فخطب لمحمد من أقاصي الهند إلى نيسابور وكان لقبه جلالا الدولة وأرسل إليه أعيان دولة أبيه يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك ويستدعونه ويحثونه على السرعة ويخوفونه من أخيه مسعود فحين بلغه الخبر سار إلى غزنة فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يوما فاجتمعت العساكر على طاعته وفرق فيهم الأموال والخلع النفيسة فأسرف في ذلك.
ذكر ملك مسعود وخلع محمد
لما توفي يمين الدولة كان ابنه مسعود بأصبهان فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر، فحين
398
فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم بعده فقتلوه وقتلوا من معه من الجند.
وأتى مسعودا الخبر فعاد إليها وحصرها وفتحها عنوة وقتل فيها فأكثر ونهب الأموال واستخلف فيها رجلا كافيا وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئا وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان وبلد الجبل وأصبهان وغيرها ويطلب منه الموافقة وأن يقدمه في الخطبة على نفسه فأجابه محمد جواب مغالط.
وكان مسعود قد وصل إلى الري فأحسن إلى أهلها وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك، وأما محمد فإنه أخذ على عسكره العهود والمواثيق على المناصحة له والشد منه وسار في عساكره إلى أخيه مسعود محاربا له وكان بعض عساكره يميل إلى أخيه مسعود لكبره وشجاعته ولأنه قد اعتاد التقدم على الجيوش وفتح البلاد وبعضها يخافه لقوة نفسه.
وكان محمد قد جعل مقدم جيشه عمه يوسف بن سبكتكين فلما هم بالركوب في داره بغزنة ليسير سقطت قلنسوته من رأسه فتطير الناس من ذلك وأرسل إليه التونتاش صاحب خوارزم وكان من أعيان أصحاب أبيه محمود يشير عليه بموافقة أخيه وترك مخالفته فلم يصغ إلى قوله وسار فوصل إلى تكناباذ أول يوم من رمضان وأقام إلى العيد فعيد هناك فلما كان ليلة الثلاثاء ثالث شوال ثار به جنده فأخذوه وقيدوه وحبسوه وكان مشغولا بالشرب واللعب عن تدبير المملكة والنظر في أحوال الجند والرعايا.
399
وكان الذي سعى في خذلانه علي خويشاوند صاحب أبيه وأعانه على ذلك عمه يوسف بن سبكتكين فلما قبضوا عليه نادوا بشعار أخيه مسعود ورفعوا محمد إلى قلعة تكناباذ وكتبوا إلى مسعود بالحال فلما وصل هراة لقيته العساكر مع الحاجب علي خويشاوند فلما لقيه الحاجب علي قبض عليه وقتله، وقبض بعد ذلك أيضا على عمه يوسف وهذه عاقبة الغدر وهما سعيا له في رد الملك إليه، وقبض بعد ذلك أيضا على جماعة من أعيان القوات في أوقات متفرقة وكان اجتماع الملك له واتفاق الكلمة عليه في ذي القعدة وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي الذي كان وزير أبيه من محبسه واستوزره ورد الأمر إليه وكان أبوه قد قبض عليه سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لأمور أنكرها وقيل شره في ماله وأخذ منه لما قبض عليه مالا وأعراضا بقيمة خمسة آلاف ألف دينار.
وكان وصول مسعود إلى غزنة ثامن جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فلما وصل إليها وثبت ملكه بها أتته رسل الملوك من سائر الأقطار إلى بابه واجتمع له ملك خراسان وغزنة وبلاد الهند والسند وسجستان وكرمان ومكران والري وأصبهان وبلاد الجبل وغير ذلك وعظم سلطانه وخيف جانبه.
400
ذكر بعض سيرة يمين دولة
كان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلا، دينا خيرا عنده علم ومعرفة، وصنف له كثير من الكتب في فنون العلم وقصده العلماء من أقطار البلاد وكان يكرمهم ويقبل عليهم ويعظمهم ويحسن إليهم، وكان عادلا كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم كثير الغزوات ملازما للجهاد.
وفتوحه مشهورة مذكورة وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا بعد الدهر وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق فمن ذلك أنه بلغه أن انسانا من نيسابور كثير المال عظيم الغنى فأحصره إلى غزنة وقال له بلغنا أنك قرمطي فقال لست بقرمطي ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم فأخذ منه مالا وكتب معه كتابا بصحة اعتقاده.
وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا والرشيد وأحسن عمارته وكان أبوه سبكتكين أخربه وكان أهل طوس يؤذون من يزوره فمنعهم عن ذلك.
وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام وهو يقول له إلى متى هذا فعلم أنه يريد أمر المشهد فأمر بعمارته وكان ربعة مليح اللون حسن الوجه صغير العينين أحمر الشعر وكان ابنه محمد يشبهه وكان ابنه مسعود ممتلئ البدن، طويلا.
401
ذكر عود علاء الدولة إلى أصبهان
وغيرها وما كان منه
لما مات محمود بن سبكتكين طمع فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في الري وكان قد هرب منها لما ملكها عسكر يمين الدولة محمود فقصد قصران وهي حصينة فامتنع بها فلما توفي يمين الدولة وعاد ابنه مسعود إلى خراسان جمع هذا فناخسرو جمعا من الديلم الأكراد وغيرهم وقصدوا الري فخرج إليه نائب مسعود بها ومن معه من العسكر فانهزم منهم وعاد إلى بلده وقتل جماعة من عسكره.
ثم إن علاء الدولة بن كاكويه لما بلغه وفاة يمين الدولة كان بخوزستان عند الملك أبي كاليجار كما ذكرنا وقد أيس من نصره وتفرق بعض من عنده من عسكره وأصحابه والباقون على عزم مفارقته وهو خائف من مسعود أن يسير إليه من أصبهان فلا يقوى هو وأبو كاليجار به فأتاه من الفرج بموت يمين الدولة ما لم يكن حسابه، فلما سمع الخبر سار إلى أصبهان فملكها وملك همذان وغيرها من البلاد وسار إلى الري فملكها وامتد إلى أعمال أنوشروان بن منوجهر بن قابوس فأخذ منه خوار الري ودنباوند.
فكتب أنوشروان إلى مسعود يهنئه بالملك وسأله تقرير الذي عليه بمال يحمله فأجابه إلى ذلك وسير إليه عسكرا من خراسان فساروا إلى دنباوند فاستعادوها وساروا نحو الري فأتاهم المدد والعساكر وممن أتاهم علي بن عمران فكثر جمعهم فحصروا الري بها وبها علاء الدولة فاشتد القتال في بعض الأيام فدخل العسكر الري قهرا والفيلة معهم فقتل جماعة من
402
أهل الري والديلم ونهبت المدينة وانهزم علاء الدولة وتبعه بعض العسكر وجرحه في رأسه وكتفه فألقى لهم دنانير كانت معه فاشتغلوا بها عنه فنجا وسار إلى قلعة فردجان على خمسة عشر فرسخا من همذان فأقام بها إلى أن برأ من جراحته وكان من أمره ما نذكره ان شاء الله تعالى وخطب بالري وأعمال أنوشروان لمسعود فعظم شأنه.
ذكر الحرب بين عسكر جلال الدولة وأبي كاليجار
في هذه السنة في شوال سير جلال الدولة عسكرا إلى المذار وبها عسكر أبي كاليجار فالتقوا واقتتلوا فانهزم عسكر أبي كاليجار واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار وعملوا بأهلها كل محظور.
فلما سمع أبو كاليجار الخبر سير إليهم عسكرا كثيفا فاقتتلوا بظاهر البلد فانهزم عسكر جلال الدولة وقتل أكثرهم وثار أهل البلد بغلمانهم فقتلوهم ونهبوا أموالهم لقبيح سيرتهم كانت معهم وعاد من سلم من المعركة إلى واسط.
ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن مقن
في هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن.
وكان سبب ذلك أن غريبا جمع جمعا كثيرا من العرب والأكراد،
403
واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشا النجدة فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت وقد ضيق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم فحفظوا وقاتلوا أشد قتال.
فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم فالتقوا بالدكة واقتتلوا فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية فانهزم وتبعهم قرواش ورافع ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وما له فيها وحفظوا ذلك أجمع ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.
ذكر خروج الروم إلى الشام وانهزامه
في هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاثمائة ألف مقاتل إلى الشام فلم يزل [يسير] بعساكره حتى بلغوا قريب حلب، وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرادس فنزلوا على يوم منها فلحقها عطش شديد، وكان الزمان صيفا وكان أصحابه مختلفين عليه فمنهم من يحسده، ومنهم من يكرهه.
وممن كان معه ابن الدوقس وهو من أكابرهم وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده، فقال الملك: الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه.
404
فقبح ابن الدوقس هذا الرأي وأشار بالإسراع قصد الشر يتطرق إليه ولتدبير كان قد دبره عليه فسار ففارقه ابن الدوقس وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس وسلكوا طريقا
آخر فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلا هو أحدهم على الفتك به فاستشعر من ذلك وخاف ورحل من يومه راجعا.
ولحقه ابن الدوقس وسأله عن السبب الذي أوجب عوده فقال له قد اجتمعت علينا العرب وقربوا منا وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما فاضطرب الناس واختلفوا ورحل الملك وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالا وثيابا وهلك كثير من الروم عطشا ونجا الملك وحده ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا.
وقيل في عوده غير ذلك وهو أن جمعا من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فلم يدروا ما يفعلون حتى أن ملكهم لبس خفا أسود وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر فتركه ولبس الأسود ليعمى خبره على من يريده وانهزموا وغنم المسلمون جميع ما كان معهم.
405
ذكر مسير أبي علي بن ماكولا إلى البصرة وقتله
لما استولى الملك جلال الدولة على وسط وجعل ولده فيها وسير وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها فملك البطائح وسار إلى البصرة في الماء وأكثر من السفن والرجال.
وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائبا لأبي كاليجار فجهز جيشا في أربعمائة سفينة وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة وسيرة فالتقى هو والوزير أبو علي فعند اللقاء والقتال هبت ريح شمال كانت على البصريين ومعونة للوزير فانهزم البصريون وعادوا إلى البصرة فعزم بختيار على الهرب إلى عبادان، فمنعه من سلم عنده من عسكره فأقام متجلدا.
وأشار جماعة على الوزير أبي علي أن يجعل الانحدار ويغتنم الفرصة قبل أن يعود بختيار بجمع فلما قاربهم وهو في ألف وثلاثمائة عدد نمن السفن سير بختيار ما عنده من السفن وهي نحو ثلاثين قطعة وفيها المقاتلة وكان قد سير عسكرا آخر في البر وكان له في فم نهر أبي الخصيب نحو خمسمائة قطعة فيها ماله ولجميع عسكره من المال والأثاث والأهل فلما تقدمت سفنه صاح من فيها وأجابه من في السفن التي فيها أهلوهم وأموالهم وورد عليهم العسكر الذين في البر فقال الوزير لمن أشار عليه بمعاجلة بختيار ألستم زعمتم أنه في خف من العسكر وأن معالجته أولى ورأى الدنيا مملوءة
406
عساكر فهونوا عليه الأمر فغضب وأمر بإعادة السفن إلى شاطئ إلى الغد ويعود إلى القتال.
فلما أعاد سفنه ظن أصحابه أنه قد انهزم فصاحوا الهزيمة فكانت هي. وقيل: بل لما أعاد سفنه لحقهم من في بختيار وصاحوا الهزيمة وأجابهم من في البر من عسكر بختيار ومن في سفنهم التي فيها أموالهم فانهزم أبو علي حقا وتبعه أصحاب بختيار وأهل السواد ونزل بختيار في الماء واستصرخ الناس وسار في آثارهم يقتل ويأسر وهم يغرقون فلم يسلم من السفن كلها أكثر من خمسين قطعة.
وسار الوزير أبو علي منهزما فأخذ أسيرا وأحضر عند بختيار فأكرمه وعظمه وجلس بين يديه وقال له ما الذي تشتهي أن أفعل معك قال ترسلني إلى الملك أبي كاليجار فأرسله إليه فأطلقه فاتفق أن غلاما له وجارية اجتمعا على فساد فعلم بهما وعرفا أنه قد علم حالهما فقتلاه بعد أسره بنحو من شهر.
وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة وسن سننا سيئة منها جباية سوق الدقيق ومقالي الباذنجان وسميريات المشارع ودلالة ما يباع من الأمتعة وأجر الحمالين الذين يرفعون التمور إلى السفن وبما يعطيه الذباحون لليهود فجرى في ذلك مناوشة بين العامة والجند.
407
ذكر استيلاء عسكر جلال الدولة على البصرة وأخذها منهم
لما انحدروا الوزير أبو علي بن ماكولا إلى البصرة على ما ذكرناه لم يستصحب معه الأجناد البصريين الذين مع جلال الدولة تأنيسا للديلم الذين بالبصرة فلما أصيب على ما ذكرنا تجهز هؤلاء البصريون وانحدروا إلى البصرة فوصلوا إليها وقاتلوا من بها من عسكر أبي كاليجار فانهزم عسكر أبي كاليجار ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان.
واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأبلة مع بختيار فأقاموا بها يستعدون للعود وكتبوا إلى أبي كاليجار يستمدونه فسير إليهم عسكرا كثيرا مع وزير ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقدموا إلى الأبلة واجتمعوا مع بختيار في ووقع الشروع في قتال من بالبصرة من أصحاب جلال الدولة فسير بختيار جمعا كثيرا في عدة من السفن فقاتلوهم فنصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم فوبخهم بختيار وسار من وقته في العدد الكثير والسفن الكثرة فاقتتلوا واشتد القتال فانهزم بختيار وقتل من أصحابه جماعة كثيرة وأخذ هو فقتل من غير قصد لقتله وأخذوا كثيرا من سفنه وعاد كل فريق إلى موضعه.
وعزم الأتراك على أصحاب جلال الدولة على مباكرة الحرب وإتمام الهزيمة وطالبوا العامل الذي على البصرة بالمال فاختلفوا وتنازعوا في الاقطاعات فأصعد ابن المعز الني صاحب البطيحة فسار إليه جماعة من الأتراك الواسطيين ليردوه فلم يرجع فتبعوه وخاف من بقي يعضهم من
408
بعض أن لا يناصحوهم ويسلموهم عند الحرب فتفرقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات وقد كان خائفا منهم فجاءه ما لم يقدره من الظفر ونادى من بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار فدخلها عسكره وأرادوا نهبها فمنعهم ذو السعادات.
ذكر غزو فضلون الكردي الخزر وما كان منه
كان فضلون الكردي هذا بيده من أذربيجان قد استولى عليها وملكها فاتفق أنه غزا الخزر هذه السنة فقتل منهم وسبى وغنم شيئا كثيرا، فلما عاد إلى بلده أبطأ في سيره وأمل الاستظهار في أمره ظنا قد دوخهم وشغلهم بما عمله بهم فاتبعوه مجدين وكبسوه وقتوا من أصحابه والمطوعة الذين معه أكثر من عشرة آلاف قتيل واستردوا الغنائم
التي أخذت منهم وغنموا أموال العساكر الإسلامية وعادوا.
ذكر البيعة لولي العهد
في هذه السنة مرض القادر بالله وأرجف بموته فجلس جلوسا عاما وأذن للخاصة والعامة فوصلوا إليه فلما اجتمعوا قام الصاحب أبو الغنائم فقال خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بإطالة البقاء وشاكرون لما بلغهم
409
من نظره لهم وللمسلمين باختيار الأمير أبي جعفر بولاية العهد.
فقال الخليفة للناس قد أذنا في العهد له وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك فثناه عنه أبو الحسن بن حاجب النعمان. فلما عهد إليها ألقيت الستارة وقعد أبو جعفر على السرير الذي كان قائما عليه وخدمه الحاضرون وهنأوه وتقدم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبل يده وهنأه فقال (^ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال) يعرض له بإفساده رأي الخليفة فيه فأكب على تقبيل قدمه وتعفير خده بين يديه والاعتذار فقبل عذره، ودعي له على المنابر يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الأولى.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة استوزر جلال الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم بعد ابن ماكولا ولقبه عميد الدولة.
وفيها توفي أبو الحسن النعمان بن حاجب ومولده سنة أربعين وثلاثمائة وكان خصيصا بالقادر بالله حاكما في دولته كلها.
وكتب له وللطائع أربعين سنة.
وفيها ظهر متلصصة ببغداد من الأكراد فكانوا يسرقون دواب الأتراك فنقل الأتراك خيلهم إلى دورهم، ونقل جلال الدولة دوابه إلى بيت في دار المملكة.
410
وفيها توفي أبو الحسن بن عبد الوارث الفسوي النحوي بفسا وهو نسيب أبي علي الفارسي.
وفيها توفي أبو محمد الحسن بن يحيى العلوي النهر سابسي الملقب بالكافي وكان موته بالكوفة.
وفيها في رجب جاء في غزنة سيل عظيم أهلك الزرع والضرع وغرق كثيرا من الناس لا يحصون وخرب الجسر الذي بناه عمرو بن الليث وكان هذا الحادث عظيما.
وفيها في رمضان تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين في غزنة بألف درهم وأدر على الفقراء من العلماء والرعايا إدرارات كثيرة.
411
422
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة
ذكر ملك مسعود بن محمود بن سبكتكين التيز ومكران
في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرا إلى التيز فملكها وما جاورها.
وسبب ذلك أن صاحبها معدان توفي وخلف ولدين أبا العساكر وعيسى فاستبد عيسى بالولاية والمال، فسار أبو العساكر إلى خراسان وطلب من مسعود النجدة فسير معه وأمرهم بأخذ البلاد من عيسى أو الاتفاق مع أخيه على طاعته فوصلوا إليها ودعوا عيسى إلى الطاعة والموافقة فأبى وجمع جمعا كثيرا بلغوا ثمانية عشر ألفا وتقدم إليهم فالتقوا فاستأمن من كثير من أصحاب عيسى إلى أخيه أبي العساكر فانهزم عيسى ثم عاد وحمل من أصحابه فتوسط المعركة فقتل واستولى أبو العساكر على البلاد ونهبها ثلاثة أيام فأجحف بأهلها.
412
ذكر ملك الروم مدينة الرها
في هذه السنة ملك الروم مدينة الرها، وكان سبب ذلك أن الرها كانت بيد نصر الدولة بن مروان كما ذكرناه فلما قتل عطير الذي كان صاحبها شفع صالح بن مرداس صاحب حلب إلى نصر الدولة ليعيد الرها إلى ابن عطير والى ابن شبل بينهما نصفين فقبل شفاعته وسلمها إليهما.
وكان له في الرها برجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر فتسلم ابن عطير الكبير وابن شبل الصغير وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار وعدة قرى من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير وتسلموا البرج الذي له ودخلوا البلد فملكوه وهرب منه أصحاب ابن شبل، وقتل الروم المسلمين وخربوا المساجد.
وسمع نصر الدولة الخبر فسير جيشا إلى الرها فحصروها وفتحوها عنوة واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم وهي أكبر البيع وأحسنها عمارة فحصرهم المسلمون بها وأخرجوهم وقتلوا أكثرهم ونهبوا البلد وبقي الروم في البرجين وسير إليهم عسكرا نحو عشرة آلاف مقاتل فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجا.
413
ذكر ملك مسعود بن محمود كرمان وعود عسكره عنها
وفيها سارت عساكر خراسان إلى كرمان فملكوها وكانت للملك أبي كاليجار فاحتمى عسكره بمدينة بردسير وحصرهم الخراسانيون فيها وجرى بينهم عدة وقائع وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار يطلبون المدد فسير إليهم العادل بهرام بن مافنة في عسكر كثيف ثم إن الذين ببردسير خرجوا إلى الخراسانية فواقعوهم واشتد القتال وصبروا لهم فأجلت الوقعة عن هزيمة الخراسانية وتبعهم الديلم حتى أبعدوا، ثم عادوا إلى بردسير.
ووصل العادل عقيب ذلك إلى جيرفت وسير عسكره إلى الخراسانية وهم بأطراف البلاد فواقعوهم فانهزم الخراسانية ودخلوا المفازة عائدين إلى خراسان وأقام العادل بكرمان إلى أن أصلح أمورها وعاد إلى فارس.
ذكر وفاة القادر بالله وشئ من
سيرته وخلافة القائم بأمر الله
في هذه السنة في ذي الحجة توفي الإمام القادر بالله أمير المؤمنين وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة
414
أشهر وعشرون يوما وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها وجدد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها.
وكان حليما كريما خيرا يحب الخير وأهله ويأمر به وينهى عن الشر ويبغض أهله وكان حسن الاعتقاد صنف فيه كتابا على مذهب السنة.
ولما توفي صلى عليه ابنه القائم بأمر الله، وكان القادر بالله أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور القبور الصالحين معروف وإذا وصل اليه حال أمر فيه بالحق.
قال القاضي الحسين بن هارون كان بالكرخ ملك ليتيم وكان له فيه قيمة جيدة فأرسل إلى ابن حاجب النعمان وهو حاجب القادر يأمرني أن افك عنه الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك فلم افعل فأرسل يستدعيني فقلت لغلامه تقدمني حتى ألحقك وخفته فقصدت قبر معروف ودعوت الله أن يكفيني شره وهناك شيخ قال لي على من تدعو؟ فذكرت له ذلك ووصلت إلى ابن حاجب النعمان فأغلظ لي في القول ولم يقبل عذري فأتاه خادم برقعة ففتحها وقرأها وتغير لونه ونزل من الشدة فاعتذر إلي ثم قال كتبت إلى الخليفة قصة؟ فقلت:
415
لا. وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة.
وقيل كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام فقسم كان يتركه بين يديه وقسم يرسله إلى جامع الرصافة وقسم يرسله إلى جامع المدينة يفرق على المقيمين فيهما فاتفق ان الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع لمدينة ففرقه على الجماعة فأخذوا إلا شابا فإنه رده.
فلما وصلوا المغرب خرج الشاب وتبعه الفراش فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع فقال له الفراش ويحك ألا تستحي ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج وتأخذ من الأبواب فقال والله ما رددته فعاد لأنك عرضته على قبل المغرب وكنت غير محتاج إليه فلما احتجت طلبت فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له راع مثل هذا واغتنم أخذه وأقم إلى وقت الافطار.
وقال أبو الحسن الأبهري أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله في رسالة فسمعته ينشد:
(سبق القضاء بكل ما هو كائن * والله يا هذا لرزقك ضامن)
(تعنى بما يفنى وتترك ما به * تغنى كأنك للحوادث آمن)
(أو ما ترى الدنيا ومصرع أهلها * فاعمل ليوم فراقها يا حائن)
416
(واعلم بأنك لا أبا لك في الذي * أصبحت تجمعه لغيرك خازن)
(يا عامر الدنيا أتعمر منزلا * لم يبق فيه مع المنية ساكن)
(الموت شيء أنت تعلم أنه * حق وأنت بذكره متهاون)
(إن المنية لا تؤامر من أتت * في نفسه يوما ولا تستأذن)
فقلت الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد مثل الأبيات فقال بل لله المنة إذ ألزمنا بذكره ووقفنا لشكره ألم تسمع قول الحسن البصري في أهل المعاصي: وهانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم؛ ومناقبه كثيرة.
ذكر خلافة القائم بأمر الله
لما مات القادر بالله جلس في الخلافة ابنه القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله وجددت له البيعة وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى وعشرين [وأربعمائة]، كما ذكرناه واستقرت الخلافة له، وأول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى وأنشده:
(فإما مضى جبل وانقضى * فمنك لنا جبل قد رسا)
417
(وإما فجعنا ببدر التمام * فقد بقيت منه شمس الضحى)
(لنا حزن في محل السرور * وكم ضحك في خلال البكى)
(فيا صارم أغمدته يد * لنا بعدك الصارم المنتضى)
وهي أكثر من هذا. وأرسل القائم بأمر الله قاضي القضاة أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده فأجاب وبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالا كثيرة.
ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة في ربيع الأول تجددت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة.
وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة واستأذن الخليفة في ذلك فأذن له وكتب له منشورا من دار الخلافة وأعطى علما فاجتمع له لفيف كثير فسار واجتاز بباب الشعير وطاف الحراني وبين يديه الرجال بالسلاح فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا هذا يوم معاوي فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم أنهم أعانوا أهل الكرخ.
418
فلما كان الغد اجتمع أهل السنة من الجانبين ومعهم كثير من الأتراك وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة. وأنكر الخليفة ذلك إنكارا شديدا ونسب إليهم تخريق علامته التي مع الغزاة فركب الوزير فوقعت في صدره آجرة فسقطت عمامته وقتل من أهل الكرخ جماعة وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس وسوق الصفارين وسوف الأنماط وسوق الدقاقين وغيرها، واشتد الأمر فقتل العامة الكلالكي وكان ينظر في المعونة وأحرقوه.
ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه واقتتل أهل الكرخ ونهر طابق والقلائين وباب البصرة وفي الجانب الشرقي أهل سوق الثلاثاء وسوق يحيى وباب الطاق والأساكفة والرهادرة ودرب سليمان فقطع الجسر ليفرق بين الفريقين ودخل العيارون البلد وكثر الاستقفاء والعملات ليلا ونهارا وأظهر الجند كراهة الملك جلال الدولة وأرادوا قطع خطبته ففرق فيهم مالا وحلف لهم فسكنوا، ثم عادوا الشكوى إلى الخليفة منه وطلبوا أن يأمر بقطع خطبته فلم يجبهم إي ذلك فامتنع حينئذ جلال الدولة من الجلوس وضربه النوبة أوقات الصلوات وانصرف الطبالون للقطاع الجاري لهم ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر فلم يضرب بوق ولا طبل ولا أظهرت الزينة وزاد الاختلاط.
ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكسية وأصحاب الخلعان فخرجوا واعترض أهل الشرم ودام إلى ذي الحجة فنودي في الكرخ بإخراج العيارين،
419
فخرجوا واعترض أهل باب البصرة قوما من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين عليهما السلام فقتلوا منهم ثلاثة نفر وامتنعت زيارة مشهد موسى ابن جعفر.
ذكر ملك الروم قلعة أفامية
ف هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام.
وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري وزير فملكه وقصد حسان بن المفرج الطائي فألح في طلبه فرهب منه ودخل بلد الروم ولبس خلعه ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب ومعه عسكر كثير فسار إلى أفامية فكسبها وغنم ما فيها وسبى أهلها وأسرهم وسير الدزبري إلى البلاد يستنفر الناس للغزو.
ذكر الوحشة بين بارسطغان وجلال الدولة
اجتمع أصاغر الغلمان هذه السنة إلى جلال الدولة وقالوا قد هلكنا فقرا وجوعا وقد استبد القواد بالدولة والأموال عليك وعلينا بارسطغان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضا.
420
فلما بلغهما ذلك امتنعا من الركوب إلى جلال الدولة واستوحشا وأرسل إليهما الغلمان يطالبونهما بمعلومهم فاعتذر بضيق أيديهما عن ذلك وسارا إلى المدائن فندم الأتراك على ذلك وأرسل إليهما جلال الدولة مؤيد الملك الرخجي والمرتضى وغيرهما فرجعا وزاد تسحب الغلمان على جلال الدولة إلى أن نهبوا من داره فرشا وآلات ودواب وغير ذلك فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة ومعه نفر قليل من الركابية والغلمان وجمع كثير من العامة وهو سكران فانزعج الخليفة حضوره، فلما علم الحال أرسل اليه يأمره بالعودة إلى داره ويطيب قلبه فقبل قربوس سرجه ومسح حائط الدار بيده وأمرها على وجهه وعاد إلى داره والعامة معه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبل قاضي القضاة أبو عبد الله بن ماكولا شهادة أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن الهادي والقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي الحسين بن المهتدي، وشهد عنده أبو القاسم بن بشران وكان قد ترك الشهادة قبل ذلك.
وفيها فوض مسعود بن محمود بن سبكتكين إمارة وهمذان والجبال إلى تاش فراش وكتب له عامل نيسابور بإنفاق الأموال على حشمه ففعل ذلك وسار إلى عمله وأساء السيرة فيه.
وفيها، في رجب أخرج الملك جلال الدولة دوابه من الإصطبل وهي خمس عشرة دابة وسيبها في الميدان يغير سائس ولا حافظ، ولا علف،
421
فعل ذلك لسببين: أحدهما عدم العلف والثاني أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه ويطلبونها كثيرا فضجر منهم فأخرجها وقال هذه دوابي منها خمس لمركوبي والباقي لأصحابي ثم صرف حواشيه وفراشيه وأتباعه وأغلق باب داره لانقطاع الجاري له، فثارت لذلك فتنة بين العامة والجند وعظم الأمر وظهر العيارون.
وفيها عزل عميد الدولة وزير جلال الدولة ووزر بعده أبو الفتح محمد بن الفضل بن أردشير فبقي أياما ولم يستقم أمره فعزل ووزره بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين وهو ابن أخي أبي الحسين السهلي وزير مأمون صاحب خوارزم فبقي في الوزارة خمسة وخمسين يوما وهرب.
وفيها توفي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو نصر الفقيه المالكي بمصر وكان ببغداد ففارقها إلى مصر عن ضائقة فأغناه المغاربة.
422
423
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة
ذكر وثوب الأجناد بجلال الدولة وإخراجه من بغداد
في هذه السنة في ربيع الأول تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك فأغلق بابه فجاءت الأتراك ونهبوا داره وسبوا الكتاب وأرباب الديوان ثيابهم وطلبوا الوزير أبا
إسحاق السهلي فهرب إلى حلة كمال الدولة غريب بن محمد وخرج جلال الدولة إلى عكبرا في شهر ربيع لآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبي كاليجار وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم.
فلما رأوا امتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة خلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد واعتذروا، فعاد إليها بعد ثلاثة وأربعين يوما، ووزر له أبو القاسم ابن ماكولا، ثم عزل، ووزر بعد عميد الدولة أبو سعد بن عبد الرحيم فبقي وزيرا أياما ثم استتر.
وسبب ذلك أن جلال الدولة تقدم إليه بالقبض على أبي المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي طمعا في ماله فقبض عليه وجعله في داره فثار الأتراك وأرادوا منعه وقصدوا دار الوزير وأخذوه وضربوه وأخرجوه من داره حافيا ومزقوا ثيابه وأخذوا عمامته وقطعوها وأخذوا خواتيمه من
423
يده، فدميت أصابعه، وكان جلال الدولة في الحمام فخرج مرتاعا فركب وظهر لينظر ما الخبر فأكتب الوزير يقبل الأرض ويذكر ما فعل به فقال جلال الدولة أنا ابن بهاء الدولة وقد فعل بي أكثر من هذا ثم أخذ البسامي ألف دينار وأطلق واختفى الوزير.
ذكر انهزام علاء الدولة بن كاكويه من عسكر
مسعود بن محمود بن سبكتكين
قد ذكرنا انهزام علاء الدولة أبي جعفر من الري ومسيره عنها فلما وصل إلى قلعة فردجان أقام بهاء لتندمل جراحه ومعه فرهاذ بن مرداويج كان قد جاءه مددا له وتوجهوا منها إلى بروجرد فسير تاش فراش مقدم عسكر خراسان جيشا إلى علاء الدولة واستعمل عليهم علي بن عمران فسار يقص أثر علاء الدولة فلما قارب بروجرد صعد فرهاذ إلى قلعة سليموه ومضى أبو جعفر إلى سابور خواست ونزل عند الأكراد الجوزقان.
وملك عسكر خراسان بروجرد وراسل فرهاذ الأكراد الذين مع علي بن عمران واستمالهم فصاروا معه وأرادوا أن يفتكوا بعلي فبلغه الخبر فركب ليلا في خاصته وسار نحو همذان ونزل في الطريق بقرية تعرف ب: كسب وهي منيعة فاستراح فيها فلحقه فرهاذ وعسكره والأكراد الذين صاروا معه وحصروه في القرية فاستسلم وأيقن بالهلاك فأرسل الله تعالى ذلك اليوم مطرا وثلجا فلم يمكنهم المقام عليه لأنهم كانوا جريدة بغير
424
خيام ولا آلة الشتاء فرحلوا عنه، وراسل علي بن عمران الأمير تاش فراش يستنجده ويطلب العسكر إلى همذان ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة إلى أصبهان وبها ابن أخيه يطلبه وأمره بإحضار السلاح والمال ففعل وسار فبلغ خبره علي ابن عمران فسار إليه من همذان جريدة فكبسه بجرباذقان وأسر كثيرا من عسكره وقتل منهم وغنم ما معه من سلاح ومال وغير ذلك.
ولما سار علي عن همذان دخلها علاء الدولة وملكها ظنا منه أن عليا سار منهزما وسار علاء الدولة من همذان إلى كرج فأتاه خبر ابن أخيه ففت في عضده.
وكان علي بن عمران قد سار بعد الوقعة إلى أصبهان طامعا في الاستيلاء عليها وعلى مال علاء الدولة وأهله فتعذر عليه ذلك ومنعه أهلها والعسكر الذي فيها فعاد عنها فلقيه علاء الدولة وفرهاذ فاقتتلوا فانهزم منهما وأخذوا ما معه من الأسرى إلا أبا منصور بن أخي علاء الدولة فإنه كان قد سيره إلى تاش فراش وسار علي من المعركة منهزما نحو تاش فراش فلقيه بكرج فعاتبه على تأخره واتفقا على المسير إلى علاء الدولة وفرهاذ وكان قد نزل بجبل عند بروجرد متحصنا فيه فافترق تاش وعلي وقصداه من جهتين أحدهما من خلفه والآخر من الطريق المستقيم فلم يشعر إلا وقد خالطه العسكر فانهزم علاء الدولة وفرهاذ وقتل كثير من رجالهما فمضى علاء الدولة إلى أصبهان وصعد فرهاذ إلى قلعة سليموه فتحصن بها.
425
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي قدر خان ملك الترك بما وراء النهر.
وفيها ورد أحمد بن محمد المنكدري الفقيه الشافعي رسولا من مسعود بن محمود ابن سبكتكين إلى القائم بأمر الله معزيا له بالقادر بالله.
وفيها نقل تابوت القادر بالله إلى المقبرة بالرصافة وشهده الخلق العظيم وحجاج خراسان وكان يوما مشهودا.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد واستسقى الناس فلم يسقوا وتبعه وباء عظيم وكان عاما في جميع البلاد بالعراق والموصل والشام وبلد الجبل وخراسان وغزنة والهند وغير ذلك وكثر الموت فدفن في أصبهان في عدة أيام أربعون ألف ميت وكثر الجدري في الناس فأحصي بالموصل أنه مات أربعة آلاف صبي ولم تخل دار من مصيبة لعموم المصائب وكثرة الموت وممن جدر القائم بأمر الله وسلم.
وفيها جمع نائب نصر الدولة بن مروان بالجزيرة جمعا ينيف على عشرة آلاف رجل وغزا من يقاربه من الأرمن وأوقع بهم وأثخن فيهم وغنم وسبى كثيرا وعاد ظافرا منصورا.
وفيها كان بين أهل تونس من إفريقية خلف فسار المعز بن باديس إليهم بنفسه فأصلح بينهم وسكن الفتنة وعاد.
426
وفيها اجتمع ناس كثير من الشيعة بافريقية وساروا إلى أعمال نفطة فاستولوا على بلد منها وسكنوه فجرد إليهم المعز عسكرا فدخلوا البلاد وحاربوا الشيعة وقتلوهم أجمعين.
وفيها خرجت العرب على حاج البصرة ونهبوهم وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق.
وفيها توفي أبو الحسن بن رضوان المصري النحوي في رجب.
وفيها قتل الملك أبو كاليجار صندلا الخصي وكان قد استولى على المملكة وليس لأبي كاليجار معه غير الاسم.
وفيها توفي علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن النعيمي البصري حدث عن جماعة وكان حافظا شاعرا فقيها على مذهب الشافعي.
427
424
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة
ذكر عود مسعود إلى غزنة والفتن بالري وبلد الجبل
في هذه السنة في رجب عاد الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين من نيسابور إلى غزنة وبلاد الهند.
وكان سبب ذلك أنه لما كان قد استقر له الملك بعد أبيه أقر بما كان قد فتحه أبوه من الهند نائبا يسمى أحمد ينالتكين وقد كان أبوه محمود استنابه بها ثقة بجلده ونهضته فرست قدمه فيها وظهرت كفايته.
ثم إن مسعودا بعد فراغه من تقرير قواعد الملك والقبض على عمه يوسف والمخالفين له سار إلى خراسان عازما على قصد العراق فلما أبعد عصى ذلك النائب بالهند فاضطر مسعود إلى العود فأرسل إلى علاء الدولة بن كاكويه وأمره على أصبهان بقرار يؤديه كل سنة، وكان علاء الدولة قد أرسل يطلب ذلك فاجابه إليه وأقر ابن قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مال يؤديه إليه وسير أبا سهل الحمدوني إلى الري للنظر في أمور هذه البلاد الجبلية والقيام بحفظها وعاد إلى الهند فأصلح الفاسد وأعاد المخالف إلى طاعته وفتح قلعة حصينة تسمى سرستى على ما نذكره وقد كان أبوه حصرها غير مرة فلم يتهيأ له فتحها.
428
ولما سار أبو سهل إلى الري أحسن إلى الناس وأظهر العدل فأزال الأقساط والمصادرات وكان تاش فراش قد ملأ البلاد ظلما وجورا حتى تمنى الناس الخلاص منهم ومن دولتهم وخربت البلاد وتفرق أهلها فلما ولي الحمدوني وأحسن وعدل عادت البلاد فعمرت والرعية أمنت وكان الإرجاف شديدا بالعراق لما كان الملك مسعود بنيسابور فلما عاد سكن الناس واطمأنوا.
ذكر ظفر مسعود بصاحب ساوة وقتله
فيها قبض عسكر السلطان مسعود بن محمود على شهريوش بن ولكين فأمر به مسعود فقتل وصلب على سور ساوة.
و كان سبب ذلك أن شهريوش كان صاحب ساوة وقم وتلك النواحي فلما اشتغل مسعود بأخيه محمد بعد موت والده جمع شهريوش جمعا وسار إلى الري محاصرا لها فلم يتم ما أراده وجاءت العساكر فعاد عنها.
ثم [في] هذه السنة اعترض الحجاج الواردين من خراسان وعمهم أذاه وأخذ منهم ما لم تجر به عادة وأساء إليهم وبلغ ذلك إلى مسعود فتقدم إلى تاش فراش وإلى أبي الطيب طاهر بن عبد الله خليفته معه بطلب شهريوش وقصده أين كان واستنفاد الوسع في قتاله فسارت العساكر في أثره، فاحتمى
429
بقلعة تقارب قم تسمى فستق، وهي حصينة عالية وثيقة البنيان فأحاطوا به وأخذوه وكتبوا إلى مسعود في أمره فأمرهم بصلبه على سور ساوة.
ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة
وخروجها عن طاعته
في هذه السنة سارت عساكر جلال الدولة مع ولده الملك العزيز فدخلوا البصرة في جمادى الأولى.
وكان سبب ذلك أن بختيار متولي البصرة توفي فقام بعده ظهير الدين أبو القاسم خال ولده لجلد كان فيه وكفاية وهو في طاعة الملك أبي كاليجار ودام كذلك فقيل لأبي كاليجار إن أبا القاسم ليس لك من طاعته غير الاسم ولو رمت عزله لتعذر عليك.
وبلغ ذلك أبا القاسم فاستعد للامتناع وأرسل أبو كاليجار إليه ليعزله فامتنع وأظهر طاعة جلال الدولة وخطب له وأرسل إلى ابنه وهو بواسط يطلبه فانحدر إليه في عساكر أبيه التي كانت معه بواسط ودخلوا البصرة وأقاموا بها وأخرجوا عساكر أبي كاليجار منها وبقي الملك العزيز بالبصرة مع أبي القاسم إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وليس له معه أمر والحكم إلى أبي القاسم.
ثم إنه أراد القبض على بعض الديلم فهرب ودخل دار الملك العزيز
430
مستجيرا، فاجتمع الديلم إليه وشكوا من أبي القاسم فصاف شكواهم صدرا موغرا حنقا عليه لسوء صحبته فأجابهم إلى ما أرادوه من إخراجه عن البصرة واجتمعوا وعلم أبو القاسم بذلك فامتنع بالأبلة وجمع أصحابه وجرى بين الفريقين حروب كثيرة انجلت عن خروج العزيز عن البصرة وعوده إلى واسط وعود أبي القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
ذكر إخراج جلال الدولة من دار المملكة وإعادته إليها
في هذه السنة في رمضان شغب الجند على جلال الدولة وقبضوا عليه ثم أخرجوه من داره ثم سألوه ليعود إليها فعاد.
وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير ان يعلموا فلما قدم ظنوا أنه إنما ورد للتعرض إلى أموالهم ونعم فاستوحشوا واجتمعوا إلى داره وهجموا عليه وأخرجوه إلى مسجد هناك فوكلوا به فيه ثم إنهم أسمعوه ما يكره ونهبوا بعض ما في داره فلما وكلوا به جاء بعض القواد في جماعة من الجند ومن انضاف إليه من العامة والعيارين فأخرجه من المسجد وأعاده إلى داره فنقل جلال الدولة ولده وحرمه وما بقي له إلى الجانب الغربي وعبر هو في الليل إلى الكرخ فلقيه أهل الكرخ بالدعاء فنزل بدار
المرتضى وعبر الوزير أبو القاسم معه.
ثم إن الجند اختلفوا فقال بعضهم نخرجه من بلادنا ونملك غيره وقال بعضهم ليس من بني بويه غيره وغير أبي كاليجار وذلك قد عاد إلى بلاده ولابد من مداراة هذا فأرسلوا إليه يقولون له نريد أن تنحدر عنا إلى واسط،
431
وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر فأجابهم إلى ذلك وأرسل سرا إلى الغلمان الأصاغر فاستمالهم وإلى كل واحد من الأكابر وقال إنما أثق بك وأسكن إليك واستمالهم أيضا فعبروا إليه وقبلوا الأرض بين يديه وسألوه العود إلى دار الملك فعاد وحلف لهم على إخلاص النية والإحسان إليهم وحلفوا له على المناصحة واستقر في داره.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي الوزير أحمد بن الحسن الميمندي وزير مسعود بن سبكتكين ووزر بعده أبو نصر أحمد بن علي بن عبد الصمد وكان وزير هارون التونتاش صاحب خوارزم ووزر بعده لهارون ابنه عبد الجبار.
وفيها ثار العيارون ببغداد وأخذوا أموال الناس طاهرا وعظم الأمر على أهل البلد وطمع المفسدون إلى حد أن بعض القواد الكبار أخذ أربعة من العيارين فجاء عقيدهم وأخذ من أصحاب القائد أربعة وحضر باب داره ودق عليه الباب فكلمه من داخل فقال العقيد قد أخذت من أصحابك أربعة فإن أطلقت من عندك أطلقت أنا ما عندي وإلا قتلتهم وأحرقت دارك فأطلقهم القائد.
وفيها تأخر الحاج من خراسان.
وفيها خرج حجاج البصرة بخفير فغدر بهم ونهبهم.
وفيها في جمادى الأولى توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيضاوي الفقيه الشافعي عن نيف وثمانين سنة.
وفيها في شوال توفي أبو الحسن بن السماك القاضي عن خمس وتسعين سنة.
432
425
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة
ذكر فتح قلعة سرستى وغيرها من بلد الهند
في هذه السنة فتح السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستى وما جاورها من بلد الهند.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من عصيان نائبه بالهند أحمد ينالتكين عليه ومسيره إليه فلما عاد أحمد إلى طاعته أقام بتلك البلاد طويلا حتى أمنت واستقرت وقصد قلعة سرستى وهي من أمنع حصون الهند وأحصنها فحصرها وقد كان أبوه حصرها غير مرة فلم يتهيأ له فتحها فلما حصرها مسعود راسله صاحبها وبذل له مالا على الصلح فأجابه إلى ذلك.
وكان فيها قوم من التجار المسلمين فعزم صاحبها على أخذ أموالهم وحملها إلى مسعود من جملة القرار عليه فكتب التجار رقعة في نشابة ورموا بها إليه يعرفونه فيها ضعف الهنود بها وأنه إن صابرهم ملكها فرجع عن الصلح إلى الحرب وطم خندقها بالشجر وقصب السكر وغيره، وفتح الله عليه وقتل كل من فيها وسبى ذراريهم وأخذ ما جاورها من البلاد وكان عازما
433
على طول المقام والجهاد فأتاه من خراسان خبر الغزو فعاد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر قلعة بالهند أيضا
لما ملك مسعود قلعة سرستى رحل عنها إلى قلعة نغسى فوصل إليها عاشر صفر وحصرها فرآها عالية لا ترام يرتد البصر دونها وهو حسير، إلا أنه أقام عليها يحصرها فخرجت عجوز ساحرة فتكلمت باللسان الهندي طويلا وأخذت مكنسة فبلتها بالماء ورشته منها إلى جهة عسكر المسلمين فمرض وأصبح لا يقدر أن يرفع رأسه وضعفت قوته ضعفا شديدا فرحل عن القلعة لشدة المرض فحين فارقها زال ما كان به وأقبلت الصحة والعافية إليه وسار نحو غزنة.
ذكر الفتنة بنيسابور
لما اشتد أمر الأتراك بخراسان على ما نذكره تجمع كثير من المفسدين وأهل العبث والشر وكان أول من أثار الشر أهل أبيورد وطوس واجتمع معهم خلق كثير وساروا إلى نيسابور لينهبوها، وكان الوالي عليها قد سار عنها إلى الملك مسعود فخافهم خوفا عظيما وأيقنوا بالهلاك.
فبينما هم يترقبون البوار والاستئصال وذهاب الأنفس والأموال، إذ
434
وصل إليهم أمير كرمان في ثلاثمائة فارس قدم متوجها إلى مسعود أيضا فاستغاث به المسلمون وسألوه أ ن يقيم عندهم ليكف عنهم الأذى فأقام عليهم وقاتل معهم وعظم الأمر واشتد الحرب وكان الظفر له ولأهل نيسابور فانهزم أهل طوس وأبيورد ومن تبعهم وأخذتهم السيوف من كل جانب وعمل بهم أمير كرمان أعمالا عظيمة وأثخن فيهم وأسر كثيرا منهم وصلبهم على الأشجار وفي الطرق فقيل إنه عدم من أهل طوس عشرون ألف رجل.
ثم إن أمير كرمان أحضر زعماء قرى طوس وأخذ أولادهم وإخوانهم وغيرهم من أهليهم رهائن فأودعهم السجون وقال إن اعترض منكم واحد إلى أهل نيسابور أو غيرهم
أو قطع طريقا فأولادكم وإخوانكم ورهائنكم مأخوذون بجناياتكم فسكن الناس وفرج الله عن أهل نيسابور بما لم يكن في حسابهم.
ذكر الحرب بين علاء الدولة وعسكر خراسان
في هذه السنة اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بن مرداويج واتفق على قتال عسكر مسعود بن محمود سبكتكين وكانت العساكر قد خرجت من خراسان مع أبي سهل الحمدوني فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان ثم انهزم علاء الدولة وقتل فرهاذ واحتمى علاء الدولة بجبال بين أصبهان وجرباذقان ونزل عسكر مسعود بكرج.
وأرسل أبو سهل إلى علاء الدولة يقول له ليبذل المال ويراجع الطاعة
435
ليقره على ما بقي من البلاد ويصلح حاله مع مسعود فترددت الرسل فلم يستقر بينهم أمر فسار أبو سهل إلى أصبهان فملكها وانهزم علاء الدولة من بين يديه لما خاف الطلب إلى إيذج وهي للملك أبي كاليجار.
ولما استولى أبو سهل على أصبهان نهب خزائن علاء الدولة وأمواله، وكان أبو علي بن سينا في خدمة علاء الدولة فأخذت كتبه وحملت إلى غزنة فجعلت في خزائن كتبها إلى أن أحرقها عساكرها الحسين بن الحسين الغوري على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين نور الدولة دبيس وأخيه ثابت
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين دبيس بن علي بن مزيد وأخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مزيد.
وسبب ذلك أن ثابتا كان يعتضد بالبساسيري ويتقرب إليه فلما كان سنة أربع وعشرين وأربعمائة سار البساسيري معه إلى قتال أخيه دبيس فدخلوا النيل واستولوا عليه وعلى أعمال نور الدولة فسير نور الدولة إليهم طائفة من أصحابه فقتلوهم فانهزموا فلما رأى دبيس هزيمة أصحابه سار عن بلده وبقي ثابت فيه إلى الآن فاجتمع دبيس وأبو المغرا عناز بن المغر وبنو أسد وخفاجة وأعانه أبو كامل منصور بن قراد وساروا جريدة لإعادة دبيس إلى بلده وأعماله وتركوا حللهم بين خصى وحربى.
فلما ساروا لقيهم ثابت عند جرجرايا وكانت بينهم حرب قتل فيها جماعة من الفريقين ثم تراسلوا واصطلحوا ليعود دبيس إلى أعماله،
436
ويقطع أخاه ثابتا إقطاعا وتحالفوا على ذلك وسار البساسيري نجدة لثابت فلما وصل إلى النعمانية سمع بصلحهم فعاد إلى بغداد.
ذكر ملك الروم قلعة بركوي
هذه قلعة متخمة للأرمن في يد أبي الهيجاء بن ربيب الدولة ابن أخت وهودان بن مملان فتنافر هو وخاله فأرسل خاله إلى الروم فأطمعهم فيها فسير الملك إليها جمعا كثيرا فملكوها فبلغ الخبر إلى الخليفة فأرسل إلى أبي الهيجاء وخاله من يصلح بينهما ليتفقا إلى استعادة القلعة فاصطلحا ولم يتمكنا من استعادتها واجتمع إليها خلق كثير من المتطوعة فلم يقدروا على ذلك لثبات قدم الروم بها.
ذكر عدت حوادث
في هذه ه السنة استوزر جلال الدولة عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم وهي الوزارة الخامسة وكان قبله في الوزارة ابن ماكولا ففارقها وسار إلى كبرا فرده جلال الدولة إلى الوزارة وعزل أبا سعد فبقي أياما ثم فارقها إلى أوانا.
وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم عجز عنهم نواب السلطان فاستعملوا البساسيري لكفايته نهضته.
437
وفيها توفي أبو سنان غريب بن محمد بن مقن في شهر ربيع الآخر في كرخ سامرا وكان يلقب سيف الدولة وكان قد ضرب دراهم سماها السيفية وقام بالأمر بعده ابنه أبو الريان وخلف خمسمائة ألف دينار وأمر فنودي قد أحللت كل من لي شيء فحللوني كذلك فحللوه وكان عمره سبعين سنة.
وفيها توفي بدران بن المقلد وقصد ولده عمه قرواشا فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحصروها فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.
وفيها توفي أرمانوس ملك الروم وملك بعده رجل صيرفي ليس من بيت الملك وإنما بنيت قسطنطين اختارته.
وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام وكان أكثرها بالرملة فإن أهلها فارقوا منازلهم عدة أيام وانهدم منها نحو ثلثها وهلك تحت الهدم خلق كثير.
وفيها كان بإفريقية مجاعة شديدة وغلاء.
وفيها قيض قرواش على البرجمي العيار وغرقه وكان سبب ذلك أن قرواشا قبض على ابن القلعي عامل عكبرا فحضر البرجمي العيار عند قرواش مخاطبا في أمره لمودة بينهما فأخذه قرواش وقبض عليه فبذل مالا كثيرا ليطلقه فلم يفعل وغرقه.
وكان هذا البرجمي قد عظم شأنه وزاد شره وكبس عدة مخازن بالجانب الشرقي وكبس دار المرتضى ودار ابن عديسة وهي مجاورة دار الوزير وثار العامة بالخطيب يوم الجمعة وقالوا:
438
إما أن تخطب للبرجمي وإلا فلا تخطب لسلطان ولا لغيره وأهلك الناس ببغداد وحكاياته كثيرة وكان مع هذا فيه فتوة وله مروءة لم يعرض إلى امرأة ول إلى من يستسلم إليه.
وفيها هبت ريح سوداء بنصيبين فقلعت من بساتينها كثيرا من الأشجار وكان في بعض البساتين قصر مبني بجص وآجر وكلس فقلعته من أصله.
وفيها كثر الموت بالخوانيق في كثير من بلاد العراق والشام والموصل وخوزستان وغيرها حتى كانت الدار يسد بابها لموت أهلها.
وفيها في ذي القعدة انقض كوكب هال منظره الناس وبعده بليلتين انقض شهاب آخر أعظم منه كأنه البرق ملاصق الأرض على ضوء المشاعل ومكث طويلا حتى غاب
أثره.
وفيها توفي أبو العباس الأبيوردي الفقيه الشافعي قاضي البصرة وأبو بكر محمد ابن أحمد بن غالب البرقاني المحدث الإمام المشهور وكانت وفاته في رجب والحسين بن عبد الله بن يحيى أبو علي البندنيجي الفقيه الشافعي وهو من أصحاب أبي حامد الإسفرايني وعبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحرث بن أسد أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي.
439
426
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة
ذكر حال الخلافة والسلطنة ببغداد
في هذه السنة انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد حتى إن بعض الجند خرجوا إلى قرية يحيى فلقيهم أكراد فأخذوا دوابهم فعادوا إلى قراح الخليفة القائم بأمر الله فنهبوا شيئا من ثمرته وقالوا للمارين فيه أنتم عرفتم حال الأكراد ولم تعلمونا.
فسمع الخليفة الحال فعظم عليه ولم يقدر جلال الدولة على أخذ أولئك الأكراد لعجزه ووهنه واجتهد في تسليم الجند إلى نائب الخليفة فلم يمكنه ذلك فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه وإلى الشهود بترك الشهادة و إلى الفقهاء بترك الفتوى.
فلما رأى جلال الدولة ذلك سأل أولئك الأجناد ليجيبوه إلى أن يحملهم إلى ديوان الخلافة ففعلوا فلما وصلوا إلى دار الخلافة أطلقوا وعظم أمر العيارين وصاروا يأخذون الأموال ليلا ونهارا ولا مانع لهم لأن الجند يحمون على السلطان ونوابه والسلطان عاجز عن قهرهم وانتشر العرب في
440
البلاد فنهبوا النواحي وقطعوا الطريق وبلغوا إلى أطراف بغداد حتى وصلوا إلى جامع المنصور وأخذوا ثياب النساء في المقابر.
ذكر إظهار أحمد ينالتكين العصيان وقتله
في سنة خمس وعشرين [وأربعمائة] عاد مسعود بن محمود من الهند لقتال الغز كما ذكرناه ينالتكين إلى إظهار العصيان ببلاد الهند وجمع الجموع وقصد البلاد بالأذى فسير إليه مسعود جيشا كثيفا وكانت ملوك الهند تمنعه من الدخول إلى بلادهم وتسد منافذ هربه.
ولما وصل الجيش المنقذ إليه قاتلهم فانهزم ومضى هاربا إلى الملتان وقصد بعض ملوك الهند بمدينة بهاطية ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا فلم يكن لذلك الملك قدرة على منعه وطلب منه سفنا ليعبر نهر السند فأحضر له السفن.
وكان في وسط النهر جزيرة ظنها أحمد ومن معه متصلة بالبر من الجانب الآخر ولم يعلموا أن الماء محيط بها فتقدم ملك الهند إلى أصحاب السفن بإنزالهم في الجزيرة والعود عنهم ففعلوا ذلك وبقي أحمد ومن معه فيها وليس معه طعام إلا ما معهم فبقوا بها تسعة أيام ففني زادهم وأكلوا دوابهم وضعفت قواهم فأرادوا خوض الماء فلم يتمكنوا منه لعمقه
441
وشدة الوحل فيه فعبر الهند إليهم عسكر في السفن وهم على تلك الحال فأوقعوا بهم وقتلوا أكثرهم وأخذوا ولدا لأحمد أسيرا فلما رآه أحمد على تلك الحال قتل نفسه واستوعب أصحابه القتل والأسر والغرق.
ذكر ملك مسعود جرجان وطبرستان
كان الملك مسعود قد أقر دارا بن منوجهر بن قابوس على جرجان وطبرستان وتزوج أيضا بابنة أبي كاليجار القوهي مقدم جيش دارا والقيم بتدبير أمره استمالة فلما سار إلى الهند منعوا ما كان استقر عليهم من المال وراسلوا علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بالاجماع على العصيان والمخالفة وقوى عزمهم على ذلك ما بلغهم من خروج الغز بخراسان.
فلما عاد مسعود من الهند وأجلى الغز وهزمهم سار إلى جرجان فاستولى عليها وملكها وسار إلى آمل طبرستان وقد فارقها أصحابها واجتمعوا بالغياض والأشجار الملتفة الضيقة المدخل الوعرة المسلك فسار إليهم واقتحمها عليهم فهزمهم وأسر منهم وقتل ثم راسله دارا وأبو كاليجار وطلبوا منه العفو وتقرير البلاد عليهم فأجابهم إلى ذلك وحملوا من الأموال ما كان عليهم وعاد إلى خراسان.
442
ذكر ميسر ابن وثاب والروم إلى بلد ابن مروان
فيها جمع ابن وثاب النميري جمعا كثيرا من العرب وغيرهم واستنجد من بالرها من الروم فسار معه منهم جيش كثيف وقصد بلد نصر الدولة بن مروان ونهب وأخرب فجمع ابن مروان جموعه وعساكره واستمد قرواشا وغيره وأتته الجنود من كل ناحية فلما رأى ابن وثاب ذلك وأنه لا يتم له غرض عاد عن بلاده.
وأرسل ابن مروان إلى ملك الروم يعاتبه على نقض الهدنة وفسح الصلح الذي كان بينهما وراسل أصحاب الأطراف يستنجدهم للغزاة فكثر جمعه من الجند والمتطوعة وعزم على قصد الرها ومحاصرتها فوردت رسل ملك الروم يتعذر ويحلف أنه لم يعلم بما كان وأرسل إلى عسكره الذين بالرها والمقدم عليهم ينكر ذلك وأهدى إلى نصر الدولة هدية سنية فترك ما كان عازما عليه من الغزو وفرق العساكر المتجمعة عنده.
ذكر عدة حوادث
فيها خرج أبو سعد وزير جلال الدولة إلى أبي الشوك مفارقا للوزارة ووزر بعده أبو القاسم وكثرت مطالبات الجند فهرب فأخرج وحمل إلى دار المملكة مكشوف الرأس
في قميص خفيف وكانت وزارته هذه شهرين وثمانية أيام وعاد أبو سعد بن عبد الرحيم إلى الوزارة.
443
وفيها في ذي الحجة وثب الحسن بن أبي البركات بن ثمال الخفاجي بعمه علي ابن ثمال أمير بني خفاجة فقتله وقام بإمارة بني خفاجة.
وفيها جمعت الروم وسارت إلى ولاية حلب فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح بن مرداس فتصافوا واقتتلوا فانهزمت الروم وتبعهم إلى عزاز وغنم غنائم كثيرة وعاد سالما.
وفيها قصدت خفاجة الكوفة ومقدمهم الحسن بن أبي البركات بن ثمال فنهبوها وأرادوا تخريبها ومنعوا النخل من الماء فهلك أكثره.
وفيها هرب الزكي أبو علي النهر سابسي من محبسه وكان قرواش قد اعتقله بالموصل فبقي سنتين إلى الآن ولم يحج هذه السنة من العراق أحد.
وفي هذه السنة توفي أحمد بن كليب الأديب الشاعر الأندلسي وحديثه مع أسلم بن أحمد بن سعيد مشهور وكان يهواه فقال فيه:
(أسلمني في هوى * أسلم هذا الرشا)
(غزال له مقلة * يصيب بها من يشا)
(وشى بيننا حاسد * سيسأل عما وشى)
(ولو شاء أن يرتشي * على الوصل روحي ارتشى)
ومات كمدا من هواه.
444
وتوفي في جمادى الأولى منها أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد الأديب الأندلسي ومن شعره:
(إن الكريم إذا نالته مخمصة * أبدى إلى الناس شبعا وهو طيان)
(يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا * والوجه غمر بماء البشر ملآن)
وله أيضا:
(كتبت لها إنني عاشق * على مهرق اللثم بالناظر)
(فردت علي جواب الهوى * بأحور عن مائه حائر)
(منعمة نطقت بالجفون * فدلت على دقة الخاطر)
(كأن فؤادي إذا أعرضت * تعلق في مخلبي طائر)
وفيها توفي أبو المعالي بن سخطة العلوي النقيب بالبصرة وأبو محمد بن معية العلوي بها أيضا وأبو علي الحسين بن أحمد بن شاذان المحدث الأشعري مذهبا، وكان مولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة؛ وحمزة بن يوسف الجرجاني وكان من أهل الحديث.
445
427
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة
ذكر وثوب الجند بجلال الدولة
في هذه السنة ثار الجند ببغداد بجلال الدولة وأرادوا إخراجه منها فاستنظرهم ثلاثة أيام فلم ينظروه ورموه بالآجر فأصابه بعضهم واجتمع الغلمان فردوهم منه فخرج من باب لطيف في سمارية متنكرا وصعد راجلا منها إلى دار المرتضى بالكرخ وخرج من دار المرتضى وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت وكسر الأتراك أبواب داره ودخلوها ونهبوها وقلعوا كثيرا من ساجها وأبوابها فأرسل الخليفة إليه وقرر أمر الجند وأعاده إلى بغداد.
ذكر الحرب بين أبي السهل الحمدوني وعلاء الدولة
في هذه السنة سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير أبي سهل الحمدوني بأصبهان يطلبون الميرة فوضع عليهم علاء الدولة من أطعمهم في
446
الامتياز من النواحي القريبة منه فساروا إليها ولا يعلمون قربه منهم فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم.
وقوي طمعه بذلك فجمع جمعا من الديلم وغيرهم وسار إلى أصبهان وبها أبو سهل في عساكر مسعود بن سبكتكين فخرجوا إليه وقاتلوه فغدر الأتراك بعلاء الدولة فانهزم ونهب سواده فسار إلى بروجرد ومنها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلار وقال لا قدرة لي على مباينة الخراسانية فتركه وسار عنه.
ذكر وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر
في هذه السنة في منتصف شعبان توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن أبي علي المنصور الحاكم الخليفة العلوي بمصر وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوما وكان له مصر والشام والخطبة له فإفريقية وكان جميل السيرة حسن السياسة منصفا للرعية إلا أنه مشتغل بلذاته محب للدعة والراحة قد فوض الأمور إلى وزيره أبي القاسم علي بن أحمد الجرجائي لمعرفته بكفايته وأمانته.
ولما مات ولي بعده ابنه أبو تميم معد ولقب المستنصر بالله ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة وفي أيامه كانت قصة البساسيري، وخطب
447
له ببغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمال الملقب بالأفضل أمير الجيوش وكان عادلا حسن السيرة.
وفي سنة تسع وسبعين [وأربعمائة] وصل الحسن بن الصباح الإسماعيلي في زي تاجر إلى المستنصر بالله وخاطبه في إقامته الدعوة له بخراسان وبلاد العجم فأذن له في ذلك فعاد ودعا إليه سرا، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك فقال ابني نزار والإسماعيلية يعتقدون إمامه نزار وسيرد كيف صرف الأمر عنه سنة سبع وثمانين [وأربعمائة] إن شاء الله تعالى.
ذكر فتح السويداء وأرض الرها
في رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير وتصاهرا وجمعا وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف وساروا جميعهم إلى السويداء وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها فحضرها المسلمون وفتحوها عنوة وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل وغنموا ما فيها وسبوا خلقا كثيرا وقصدوا الرها فحصروها وقطعوا الميرة عنها حتى بلغ المكوك الحنطة دينارا، واشتد الأمر، فخرج البطريق الذي فيها متخفيا ولحق بملك الروم وعرفه الحال فسير معه خمسة آلاف فارس فعاد بهم.
فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال فكمنا لهم، فلما
448
قاربوهم خرج الكمين عليهم فقتل من الروم خلق كثير وأسر مثلهم وأسر البطريق حمل إلى باب الرها وقالوا لمن فيها إما أن تفتحوا البلد لنا وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه ففتحوا البلد للعجز عن حفظه وتحصن أجناد الروم بالقلعة ودخل المسلمون المدينة وغنموا ما فيها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وأكثروا القتل وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى وأقام محاصرا للقلعة.
ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجده لمن بالرها فسمع ابن وثاب بقربه فسار إليه مجدا ليلقاه قبل وصوله فخرج من الرها من الروم إلى حران فقاتلهم أهلها، وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعا فوقع على الروم فقتل منهم كثيرا وعاد المنهزمون إلى الرها.
ذكر غدر السناسنة وأخذ الحاج وإعادة ما أخذوه
في هذه السنة ورد خلق كثير من أذربيجان، وخراسان وطبرستان وغيرها من البلاد يريدون الحج وجعلوا طريقهم على أرمينية وخلاط فوردوا إلى آني ووسطان فثار بهم الأرمن من تلك البلاد وأعانهم السناسنة وهم من الأرمن أيضا إلا أنهم لهم حصون منيعة تجاور خلاط وهم صلح مع صاحب خلاط.
ولم تزل هذه الحصون بأيديهم منفردين بها إلا أنهم متعاهدون إلى سنة ثمانين وخمسمائة فملكها المسلمون منهم وأزالوهم عنها على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
449
فلما اتفقوا مع الأرمن من رعية البلاد وأخذوا الحاج فقتلوا منهم كثيرا وأسروا وسبوا ونهبوا الأموال وجلوا ذلك أجمع إلى الروم، وطمع الأرمن في تلك البلاد فسمع نصر الدولة بن مروان الخبر فجمع العساكر وعزم على غزوهم فلما سمعوا ذلك ورأوا جده فيه راسله ملك السناسنة وبذل إعادة جميع ما أخذ أصحابه وإطلاق الأسرى والسبي فأجابهم إلى الصلح وعاد عنهم لحصانة قلاعهم وكثرة المضايق في بلادهم ولأنهم بالقرب من الروم فخاف أن يستنجدوهم ويمتنعوا بهم، فصالحهم.
ذكر الحرب بين المعز وزتانة
في هذه السنة اجتمعت زناتة بإفريقية وزحفت في خيلها ورجلها يريدون مدينة المنصورة فلقيهم جيوش المعز بن باديس صاحبها بموضع يقال له الجفنة قريب من القيروان فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزمت عساكر المعز ففارقت المعركة وهم على حامية ثم عاودوا القتال وحرض بعضهم بعضا فصبرت صنهاجة وانهزمت زناتة هزيمة قبيحة وقتل منهم عدد كثير وأسر خلق عظيم وتعرف هذه الوقعة بوقعة الجفنة وهي مشهورة لعظمها عندهم.
450
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في رجب انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في آخرها مثل التنين يضرب إلى السود وبقي ساعة وذهب.
وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدت حتى إن الإنسان كان لا يبصر جليسه واخذ بأنفاس الخلق، فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم.
وفيها قبض على الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم وزير جلال الدولة وهي الوزارة السادسة.
وفيها، في رمضان، توفي رافع بن الحسين بن مقن وكان حازما شجاعا وخلف بتكريت ما يزيد على خمسمائة ألف دينار فملكها ابن أخيه خميس بن ثعلب وكان طريدا في أيام عمه وحمل إلى جلال الدولة ثمانين ألف دينار فأصلح بها الجند وكانت يده قد قطعت [لأن] بعض عبيد بني عمه كان يشرب معه فجرى بينه وبين آخر خصومة وجردوا سيوفهم فقام رافع ليصلح بينهم فضرب العبد يده فقطعها غلطا ولرافع فيها شعر ولم تمنعه من قتال [فقد] عمل له كفا أخرى يمسك بها العنان ويقاتل وله شعر جيد من ذلك قوله:
(لها ريقة أستغفر الله إنها * ألذ وأشهى في النفوس من الخمر)
451
(وصارم طرف لا يزايل جفنه * ولم أر سيفا قط في جفنه بفري)
(فقلت لها والعيس تحدج بالضحى * أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر)
(سأنفق ريعان الشبيبة آنفا * على طلب العلياء أو طلب الأجر)
(أليس من الخسران أن لياليا * تمر بلا نفع وتحسب من عمري)
وفيها في صفر أمر القائم بأمر الله بترك التعامل بالدنانير المغربية وأمر الشهود أن لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا غيره يذكر فيها هذا الصنف من الذهب فعدل الناس إلى القادرية والسابورية والقاسانية.
452
428
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة
ذكر الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان
في هذه السنة كانت الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان وهو من أكابر الأمراء ويلقب حاجب الحجاب.
وكان سبب ذلك أن جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال فخاف على نفسه فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب من السنة الخالية.
وترددت الرسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره فدافع الخليفة عنه وبارسطغان يراسل الملك أبا كاليجار فأرسل أبو كاليجار جيشا فوصلوا إلى واسط واتفق معهم عسكر واسط وأخرجوا الملك العزيز بن جلال الدولة فأصعد إلى أبيه وكشف بارسطغان القناع فاستتبع أصاغر المماليك ونادوا بشعار أبي كاليجار وأخرجوا جلال الدولة من بغداد فسار إلى أوانا ومعه البساسيري وأخرج بارسطغان الوزير أبا الفضل العباس بن الحسن بن فسانجس فنظر في الأمور نيابة عن الملك أبي كاليجار وأرسل بارسطغان إلى الخليفة يطلب الخطبة لأبي كاليجار فاحتج بعهود جلال الدولة فأكره الخطباء على الخطبة لأبي كاليجار ففعلوا.
453
وجرى بين الفريقين مناوشات وسار الأجناد الواسطيون إلى بارسطغان ببغداد فكانوا معه وتنقلت الحال بين جلال الدولة وبارسطغان فعاد جلال الدولة إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي ومعه قرواش بن المقلد العقيلي ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي وخطب لجلال الدولة به وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار وأعان أبو الشوك وأبو الفوارس منصور بن الحسين بارسطغان على طاعة أبي كاليجار.
ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار وسار قرواش إلى الموصل وقبض بارسطغان على ابن فسانجس فعاد منصور بن الحسين إلى بلده وأتى الخبر إلى بارسطغان بعود الملك أبي كاليجار إلى فارس ففارقه الديلم الذين جاؤوا نجدة له فضعف أمره فدفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة وانحدر إلى واسط وعاد جلال الدولة إلى بغداد وأرسل البساسيري والمرشد وبني خفاجة في أثره فتبعهم جلال الدولة ودبيس بن علي بن مزيد فلحقوه بالخيزرانية فقاتلوه فسقط عن فرسه فأخذ أسيرا وحمل إلى جلال الدولة فقتله وحمل رأسه وكان عمره نحو سبعين سنة.
وسار جلال الدولة إلى واسط فملكها وأصعد إلى بغداد فضعف أمر الأتراك وطمع فيهم الأعراب واستولوا على إقطاعاتهم فلم يقدروا على كف أيديهم عنها وكانت مدة بارسطغان من حين كاشف جلال الدولة إلى أن قتل ستة أشهر وعشرة أيام.
454
ذكر الصلح بين جلال الدولة
وأبي كاليجار والمصاهرة بينهما
في هذه السنة ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار سلطان الدولة بالصلح والاتفاق وزوال الخلف وكان الرسل أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي وأبا عبد الله المردوستي وغيرهما فاتفقا على الصلح وحلف كل واحد من الملكين لصاحبه وأرسل الخليفة القائم بأمر الله إلى أبي كاليجار الخلع النفيسة ووقع العقد لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنة جلال الدولة وكان الصداق خمسين ألف دينار قاسانية.
ذكر عدة حوادث
فيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم صاحب عمان وكان جوادا ممدحا وقام ابنه مقامه.
وفيها توفي الأمير أبو عبد الله الحسين بن سلامة أمير تهامة باليمن وولي ابنه بعده فعصى عليه خادم كان لوالده وأراد أن يملك فجرى بينهما حروب كثيرة تمادت أيامها ففارق أهل تهامة أوطانهم إلى غير مملكة ولد الحسين هربا من الشر وتفاقم الأمر.
455
وفيها توفي مهيار الشاعر، وكان مجوسيا فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وصحب الشريف الرضى، وقال له أبو القاسم بن برهان يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية! قال: كيف؟ قال لأنك كنت مجوسيا فصرت تسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعرك.
وفيها توفي أبو الحسين القدوري الفقيه الحنفي والحاجب أبو الحسين هبة الله ابن الحسين المعروف بابن أخت الفاضل وكان من أهل الأدب وله شعر جيد وأبو علي بن أبي الريان بمطيراباذ ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقد مدحه الرضي وابن نباتة وغيرهما.
وفيها عاود المعز بن باديس حرب زناتة بأفريقية فهزمهم وأكثر القتل فيهم وخرب مساكنهم وقصورهم.
وفي شعبان توفي أبو علي بن سينا الحكيم الفيلسوف المشهور صاحب التصانيف السائرة على مذاهب الفلاسفة وكان موته بأصبهان وكان يخدم علاء الدولة أبا جعفر بن كاكويه ولا شك أن أبا جعفر كان فاسد الاعتقاد فلهذا أقدم ابن سينا على تصانيفه في الإلحاد والرد على الشرائع في بلده.
456
429
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة
ذكر محاصرة الأبخاز تفليس وعودهم عنها
في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس وامتنع أهلها عليه فأقام عليهم محاصرا ومضيقا فنفدت الأقوات وانقطعت الميرة فأنفد أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين ويسألونهم إعانتهم فلما وصل الغز إلى أذربيجان وجمع الأبخاز بقربهم وبما فعلوا بالأرمن رحلوا عن تفليس مجفلين خوفا ولما رأى وهسوذان صاحب أذربيجان قوة الغز وأنه لا طاقة له بهم لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر ما فعله طغرلبك بخراسان
في هذه السنة دخل ركن الدين أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكا لها.
وكان سبب ذلك أن الغز السلجقية لما ظهروا بخراسان وأفسدوا ونهبوا وخربوا البلاد وسبوا على ما ذكرناه وسمع الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين الخبر فسير إليهم حاجبه سباشي في ثلاثين ألف مقاتل، فسار إليهم
457
من غزنة، فلما بلغ خراسان ثقل على ما سلم من البلاد بالإقامات فخرب السالم من تخريب الغز فأقام مدة سنة على المدافعة والمطاولة لكنه كان يتبع أثرهم إذا بعدوا ويرجع عنهم إذا أقبلوا استعمالا للمحاجزة وإشفاقا من المحاربة حتى إذا كان في هذه السنة وهو بقرية بظاهر سرخس والغز بظاهر مرو مع طغرلبك وقد بلغهم خبره أسروا إليه وقاتلوه يوم وصلوا فلما جنهم الليل أخذ سباشي ما خف من مال وهرب في خواصه وترك خيمه ونيرانه على حالها، قيل فعل ذلك مواطئا للغز على الهزيمة فلما أسفر الصبح عرف الباقون من عسكره خبره فانهزموا واستولى الغز على ما وجدوه في معسكرهم من سوادهم، وقتلوا من الهنود الذين تخلفوا مقتلة عظيمة.
وأسرى داود أخو طغرلبك وهو والد السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور، وسمع أبو سهل الحمدوني ومن معه بها ففارقوها ووصل داود ومن معه إليها فدخلوها بغير قتال ولم يغيروا شيئا من أمورها ووصل بعدهم طغرلبك ثم وصلت إليهم رسل الخليفة في ذلك الوقت وكان قد أرسل إليهم وإلى الذين بالري وهمدان وبلد الجبل ينهاهم عن النهب والقتل والإخراب ويعظهم فأكرموا الرسل وعظموهم وخدموهم.
وخاطب داود طغرلبك في نهب البلد فمنعه فامتنع واحتج بشهر رمضان فلما انسلخ رمضان صمم داود على نهبه فمنعه طغرلبك واحتج عليه برسل الخليفة وكتابه فلم يلتفت داود إليه وقوي عزمه على النهب فأخرج طغرلبك سكينا وقال له والله لئن نهبت شيئا لأقتلن نفسي! فكف عن ذلك وعدل إلى التقسيط، فقسط على أهل نيسابور نحو ثلاثين ألف دينار وفرقها في أصحابه.
458
وأقام طغرلبك بدار الإمارة وجلس على سرير الملك مسعود وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على قاعدة ولاة خراسان وسير أخاه داود إلى سرخس فملكها ثم استولوا على سائر بلاد خراسان سوى بلخ وكانوا يخطبون للملك مسعود على سبيل المغالطة وكانوا ثلاثة إخوة طغرلبك وداود وبيغو، وكان ينال واسمه إبراهيم أخا طغرلبك وداود لأمهما ثم خرج مسعود من غزنة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوك
في هذه السنة سأل جللا الدولة الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك فامتنع ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه فكتب فتوى إلى الفقهاء في ذلك فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي أبو عبد الله الصيمري والقاضي ابن البيضاوي وأبو القاسم الكرخي بجوازه، وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات وخطب لجلال الدولة بملك الملوك.
وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم فلما أفتى بهذه الفتيا انقطع ولزم بيته خائفا وأقام منقطعا من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر فاستدعاه جلال الدولة فحضر خائفا فأدخله وحده وقال له قد علم كل أحد أنك من أكثر الفقهاء مالا وجاها وقربا منا وقد خالفتهم فيما خالف هواي ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك واتباع الحق وقد بان لي موضعك من الدين ومكانك من العلم،
459
وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إلي وحدك وجعلت إذن الحاضرين إليك ليتحققوا عودي إلى ما تحب. فشكره ودعا له.
وأذن لكل من حضر بالخدمة والانصراف.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب قتله الدزبري وعساكر مصر وملكوا حلب.
وفيها أنكر العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله سبحانه وتعالى المشعرة بأنه يعتقد التجسم وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع المنصور وتكلم في ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وفيها صالح ابن وثاب النميري صاحب حران الروم الذين بالرها لعجزه عنهم وسلم إليهم ربض الرها وكان تسلمه على ما ذكرناه أولا فنزلوا من الحصن الذي للبلد إليه وكثر الروم بها وخاف المسلمون على حران منهم وعمر الروم الرها العمارة الحسنة وحصنوها.
وفيها هادن المستنصر بالله الخليفة العلوي صاحب مصر ملك الروم وشرط عليه إطلاق خسة آلاف أسير وشرط الروم عليه أن يعمروا بيعة قمامة فأرسل الملك إليها من عمرها وأخرج عليها مالا جليلا.
وفي هذه السنة سارت عساكر المعز بن باديس بأفريقية إلى بلد الزاب
460
ففتحوا مدينة تسمى بورس وقتلوا من البربر خلقا كثيرا وفتح من بلاد زناتة قلعة تسمى كروم.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو الفضل المعروف بابن الباقر حي في ربيع الآخر.
461
430
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة
ذكر وصول الملك مسعود من غزنة
إلى خراسان وإجلاء السلجقية عنها
في صفر من هذه السنة وصل الملك مسعود إلى بلخ من غزنة وزوج ابنه من ابنة بعض ملوك الخليفة كان يتقي جانبه وأقطع خوارزم لشاه ملك الجندي فسار إليها وبها خوارزمشاه إسماعيل بن التونتاش فجمع أصحابه و لقي شاه ملك وقاتله ودامت الحرب بينهما مدة شهر وانهزم إسماعيل والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقية وملك شاه ملك خوارزم.
وكان مسير مسعود من غزنة أول سنة ثمان وعشرين [وأربعمائة]، وسبب خروجه ما وصل إليه من أخبار الغز وما فعلوه بالبلاد وأهلها من الإخراب والقتل والسبي والاستيلاء وأقام ببلخ حتى أراح واستراح وفرغ من أمر خوارزم والخانية.
ثم أمد سباشي الحاجب بعسكر ليتقوى بهم ويهتم بأمر الغز واستئصالهم فلم يكن عنده من الكفاية ما يقهرهم بل أخلد إلى المطاولة التي هي عادته.
وسار مسعود بن سبكتكين من بلخ بنفسه وقصد سرخس فتجنب
462
الغز لقاءه، وعدلوا إلى المراوغة والمخاتلة وأظهروا العزم على دخول المفازة التي بين مرو وخوارزم فبينما عساكر مسعود تتبعهم وتطلبهم إذ لقوا طائفة منهم فقاتلوهم وظفروا بهم فقتلوا منهم.
ثم إنه واقعهم بنفسه في شعبان من هذه السنة وقعة استظهر [فيها] عليهم فأبعدوا عنه ثم عاودوا القرب منه بنواحي مرو فواقعهم وقعة أخرى قتل [منهم] نحو ألف وخمسمائة قتيل وهرب الباقون فدخلوا البرية التي يحتمون بها.
وثار أهل نيسابور بمن عندهم منهم فقتلوا بعضا وانهزم الباقون إلى أصحابهم بالبرية وعدل مسعود إلى هراة ليتأهب في العساكر للمسير خلفهم وطلبهم أين كانوا فعاد طغرلبك إلى الأطراف النائية عن مسعود فنهبهم وانحنى فيها وكان الناس قد تراجعوا فملأوا أيديهم من الغنائم فحينئذ سار مسعود يطليه فلما قاربه انزاح طغرلبك من بين يديه إلى أستوا وأقام بها وكان الزمان شتاء ظنا منه أن الثلج والبرد يمنع عنه فطلبه مسعود إليها ففارقه طغرلبك وسلك الطريق على طوس واحتمى بجبال منيعة ومضايق صعبة المسلك فسير مسعود في طلبه وزيره أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكر كثيرة فطوى المراحل إليه جريدة، فلما رأى طغرلبك قربه منه فارق مكانه إلى نواحي أبيورد.
وكان مسعود قد سار ليقطعه عن جهة إن أرادها فلقي طغرلبك مقدمته فواقعهم فانتصروا عليه واستأمن من أصحابه جماعة كثيرة ورأى الطلب له من كل جانب فعاود دخول المفازة إلى خوارزم وأوغل فيها.
فلما فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلا من جبال طوس منيعا لا
463
يرام وكان أهله قد وافقوا الغز وأفسدوا فلما فارق الغز تلك البلاد تحصن هؤلاء بجبلهم ثقة منهم بحصانته وامتناعه فسرى مسعود إليهم جريدة فلم يرعهم إلا وقد خالطهم فتركوا أهلم وأموالهم وصعدوا إلى قمة الجبل واعتصموا بها وامتنعوا وغنم عسكر مسعود أموالهم وما ادخروه.
ثم أمر مسعود أصحابه أن يزحفوا إليهم في قمة الجبل وباشر هو القتال بنفسه فزحف الناس إليهم وقاتلوهم قتالا لم يروا مثله وكان الزمان شتاء والثلج على الجبل كثيرا فهلك من العسكر في مخارم الجبل وشعابه كثير ثم إنهم ظفروا بأهله وأكثروا فيهم القتل والأسر وفرغوا منهم وأراحوا المسلمين من شرهم.
وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ليريح ويستريح وينتظر الربيع ليسير خلف الغز ويطلبهم في المفاوز التي احتموا بها وكانت هذه الوقعة وإجلاء الغز عن خراسان سنة إحدى وثلاثين على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك أبي الشوك مدينة خولنجان
كان حسام الدولة أبو الشوك قد فتح قرميسين من أعمال الجبل وقبض على صاحبها وهو من الأكراد القوهية فسار أخوه إلى قلعة أرنبة فاعتصم بها من أبي الشوك وجعل أصحابه في مدينة خولنجان يحفظونها منه أيضا.
464
فلما كان الآن سير أبو الشوك عسكرا إلى خولنجان فحصروها فلم يظفروا منها بشيء فأمر العسكر فعاد فأمن من في البلد بعود العسكر عنه.
ثم جهز عسكرا آخر جريدة لم يعلم بهم أحد وسيرهم ليومهم وأمرهم بنهب ربض قلعة أرنبة وقتل من ظفروا به والإتمام لوقتهم إلى خولنجان ليسبقوا خبرهم إليها ففعلوا ذلك ووصلوا إليها ومن بها غير متأهبين فاقتتلوا شيئا من قتال ثم استسلم من بالمدينة إليهم فتسلموها وتحصن من كان بها من الأجناد في قلعة في وسط البلد فحصرها أصحاب أبي الشوك فملكوها في ذي العقدة من هذه السنة.
ذكر الخطبة العباسية بحران والرقة
في هذه السنة خطب شبيب بن وثاب النميري صاحب حران والرقة للإمام القائم بأمر الله وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي.
وكان سببها أن نصر الدولة بن مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائب العلويين بالشام أنه يتهدده ويريد قصد بلاده فراسل قرواشا صاحب الموصل وطلب منه عسكرا وراسل شبيبا النميري يدعوه إلى الموافقة يحذره من المغاربة فأجابه إلى ذلك وقطع الخطبة العلوية وأقام الخطبة العباسية فأرسل إليه الدزبري يتهدده ثم أعاد الخطبة العلوية بحران في ذي الحجة من السنة.
465
ذكر عدة حوادث
فيها توفي مؤيد الملك أبو علي الحسين بن الحسن الرخجي وكان وزيرا لملوك بني بويه ثم ترك الوزارة وكان في عطلته يتقدم على الوزراء.
وفيها أيضا توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم بن ماكولا محبوسا بهيت وكان مقامة في الحبس سنتين وخمسة أشهر ومولده سنة خمس وستين وثلاثمائة وكان وزير جلال الدولة وهو والد الأمير أبي نصر مصنف كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف: وكان جلال الدولة سلمه إلى قرواش فحبسه بهيت.
وفيها سقط الثلج ببغداد لست بقين من ربيع الأول فارتفع على الأرض شبرا ورماه الناس عن السطوح إلى الشوارع وجمد الماء ستة أيام متوالية وكان أول ذلك الثالث والعشرين من كانون الثاني.
وتوفي هذه السنة أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ وأبو الرضا الفضل بن منصور ابن الظريف الفارقي الأمير الشاعر له ديوان حسن وشعره جيد فمنه:
(ومخطف الخصر مطبوع على صلف * عشقته ودواعي البين تعشقه)
(وكيف أطمع منه في مواصلة * وكل يوم لنا شمل يفرقه)
(وقد تسامح قلبي في مواصلتي * على السلو ولكن من يصدقه)
(أهابه وهو طلق الوجه مبتسم * وكيف يطمعني في السيف رونقه)
466
431
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة
في هذه السنة فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة بخراسان كانت بيد الغز وقتل فيها جماعة منهم وكانت بينه وبينهم وقعات أجلت عن فراقهم خراسان إلى البرية وقد ذكرناه سنة ثلاثين [وأربعمائة].
ذكر ملك الملك أبي كاليجار البصرة
في هذه السنة سير الملك أبو كاليجار عساكره مع العادل أبي منصور بن مافنة إلى البصرة فملكها في صفر وكانت بيد الظهير أبي القاسم وقد ذكرنا أنه وليها بعد بختيار وأنه عصى على أبي كاليجار مرة وصار في طاعة جلال الدولة ثم فارق طاعته وعاد إلى طاعة الملك أبي كاليجار وكان يترك محاقته ومعارضته فيما يفعله ويضمن الظهير أن يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار وكثرت أمواله ودامت أيامه وثبت قدمه وطار اسمه.
واتفق أنه تعرض إلى أملاك أبي الحسن بن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان وأمواله وكاتب أبو الحسن الملك أبا كاليجار وبذل له زيادة ثلاثين
467
ألف دينار في ضمان البصرة كل سنة، وجرى الحديث في قصد البصرة فصادف قلبا موغرا من الظهير فحصلت الإجابة وجهز الملك العساكر مع العادل أبي منصور فسار إليها وحصرها.
وسارت العساكر من عمان أيضا في البحر وحصرت البصرة وملكت، وأخذ الظهير وقبض عليه وأخذ جميع ماله وقرر عليه مائة ألف وعشرة آلاف دينار يحملها في إحدى عشر يوما بعد تسعين ألف دينار أخذت منه قبلها ووصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة فأقام ثم عاد إلى الأهواز وجعل ولده عز الملوك فيها ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس ولما سار أبو كاليجار عن البصرة أخذ معه الظهير إلى الأهواز.
ذكر ما جرى بعمان بعد موت أبي القاسم بن مكرم
لما توفي أبو القاسم بن مكرم خلف أربعة بنين: أبو الجيش، والمهذب وأبو محمد وآخر صغير فولي بعده ابنه أبو الجيش وأقر علي بن هطال المنوجاني صاحب جيش أبيه على قاعدته وأكرمه وبالغ في احترامه فكان إذا جاء إليه قام له فأنكر هذه الحال عليه أخوه المهذب فطعن علي بن هطال وبلغه ذلك فأضمر له سوءا واستأذن أبا الجيش في أن يحضر أخاه المهذب لدعوة عملها له فأذن له في ذلك فلما حضر المهذب عنده خدمه وبالغ في خدمته فلما أكل وشرب وانتشى، وعمل السكر فيه، قال له
468
ابن هطال: إن أخاك أبا الجيش فيه ضعف وعجز عن الأمر والرأي أننا نقوم معك وتصير أنت الأمير وخدعه فمال إلى هذا الحديث فأخذ ابن هطال خطه مما يفوض إليه وبما يعطيه من الأعمال إذا عمل معه هذا الأمر فلما كان الغد حضر ابن هطال عند أبي الجيش و قال له إن خاك كان قد أفسد كثيرا من أصحابك عليك وتحدث معي واستمالني فلم أوافقه فلهذا كان يذمني ويقع في وهذا خطه بما استقر هذه الليلة. فلما رأى خط أخيه أمره بالقبض عليه ففعل ذلك واعتقله ثم وضع عليه من خنقه وألقى جثته إلى منخفض من الأرض وأظهر أنه سقط فمات.
ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وأراد ابن هطال أن يأخذ أخاه أبا محمد فيوليه عمان ثم يقتله فلم تخرجه إليه والدته وقالت له أنت تتولى الأمور وهذا صغير لا يصلح
لها ففعل ذلك وأساء السيرة وصادر التجار وأخذ الأموال.
وبلغ ما كان منه مع بني مكرم إلى الملك أبي كاليجار والعادل أبي منصور بن مافنة فأعظما الأمر واستكباره وشد العادل في الأمر وكاتب نائب كان لأبي القاسم بن مكرم بجبال عمان يقال له المرتضى وأمره بقصد ابن هطال وجهز العساكر من البصرة لتسير إلى مساعدة المرتضى فجمع الخلق وتسارعوا إليه وخرجوا عن طاعة ابن هطال وضعف أمره واستولى المرتضى على أكثر البلاد ثم وضعوا خادما كان لابن مكرم وقد التحق بابن هطال على قتله وساعده عل ذلك فراش كان له فلما سمع العادل بقتله سير إلى عمان من أخرج أبا محمد بن مكرم ورتبه في الإمارة وكان قد استقر أن الأمر لأبي محمد في هذا السنة.
469
ذكر الحرب بين أبي الفتح
ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهل
في هذه السنة كان بين أبي الفتح بن أبي الشوك وبين عمه مهلهل حرب شديدة.
وكان سبب ذلك أن أبا الفتح كان نائبا عن والده في الدينور وقد عظم محله وافتتح عدة قلاع وحمى أعماله من الغزو قتل فيهم فأعجب بنفسه وصار لا يقبل أمر والده.
فلما كان هذه السنة في شعبان سار إلى قلعة بلوار ليفتحها وكان فيها زوجة صاحبها وكان من الأكراد فعلمت أنها تعجز عن حفظها فراسلت مهلهل بن محمد بن عناز وهو بحلله في نواحي الصامغان واستدعته لتسلم إليه القلعة فسأل الرسول عن أبي الفتح هل هو بنفسه على القلعة أم عسكره فأخبره أنه عاد عنها وبقي عسكره فسار مهلهل إليها فلما وصل رأى أبا الفتح قد عاد إلى القلعة فقصد موضعا يوهم أبا الفتح أنه لم يرد هذه القلعة ثم رجع عائدا وتبعه أبو الفتح ولحقته وتراءت الفئتان فعاد مهلهل إليه فاقتتلوا فرأى أبو الفتح من أصحابه تغيرا فخافهم فولى منهزما وتبعه أصحابه في الهزيمة وقتل عسكر مهلهل من كان في عسكر أبي الفتح من الرجالة وساروا في أثر المنهزمين يقتلون ويأسرون ووقف فرس أبي الفتح به فأسر وأحضر عند عمه مهلهل فضربه عدة مقارع وقيده وحبسه عنده وعاد.
470
ثم إن أبا الشوك جمع عساكره وسار إلى شهرزور وحصرها وقصد بلاد أخيه ليخلص ابنه أبا الفتح فطال الأمر ولم يخلص ابنه، وحمل مهلهل اللجاج على أن استدعى علاء الدولة بن كاكويه إلى بلد أبي الفتح فدخل الدينور وقرميسين وأساء إلى أهلها وظلمهم وملكها وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
ذكر شغب الأتراك على جلال الدولة ببغداد
في هذه السنة شغب الأتراك على الملك جلال الدولة ببغداد وأخرجوا خيامهم إلى ظاهر البلد ثم أوقعوا النهب في عدة مواضع فخافهم جلال الدولة فعبر خيامه إلى الجانب الغربي وترددت الرسل بينهم في الصلح وأراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فراسل دبيس بن مزيد وقرواشا صاحب الموصل وغيرهما وجمع عنده العساكر فاستقرت القواعد بينهم وعاد إلى داره وطمع الأتراك وآذوا الناس ونهبوا وقتلوا وفسدت الأمور بالكلية إلى حد لا يرجى صلاحه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في جمادى الآخرة ولد للخليفة القائم بأمر الله ولده أبو العباس وهو ذخيرة الدين.
471
وفيها توفي شبيب بن وثاب النميري صاحب الرقة وسروج وحران.
وفيها توفي أبو نصر بن مشكان كاتب الإنشاء لمحمود بن سبكتكين ولولده مسعود وكان من الكتاب المفلقين رأيت له كتابة في غاية الجودة.
472
432
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة
ذكر ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبار متتابعة
في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابن ميكائيل بن سلجوق بني تقاق فنذكر أولا حال آبائه ثم نذكر حاله كيف ينقلب حتى صار سلطانا على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين وإنما أوردناها ههنا مجموعة لترد سياقا واحدا فهي أحسن فأقول:
فأما تقاق فمعناه القوس الجديد، وكان شهما، ذا رأي وتدبير، وكان مقدم الأتراك الغز ومرجعهم إليه لا يخالفون له قولا ولا يتعدون أمرا فاتفق يوما من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره وأراد المسير إلى بلاد الإسلام فنهاه تقاق عن ذلك وطال الخطاب بينهما فيه فأغلط له ملك الترك الكلام فلطمه تقاق فشج رأسه فأحاط به خدم ملك الترك وأرادوا أخذه فمانعهم وقاتلهم واجتمع معه من أصحابه من منعه فتفرقوا عنه ثم صلح الأمر بينهما وأقام تقاق عنده وولد له سلجوق.
473
وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة ومخايل التقدم فقربه ملك الترك وقدمه ولقبه سباشي ومعناه قائد الجيش.
وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه وطاعة الناس له والانقياد إليه وأغرته بقتله وبالغت في ذلك.
وسمع سلجوق الخبر فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين وازداد حاله علوا وأمرة وطاعة وأقام بنواحي جند وأدام غزو كفار الترك وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار وطرد سلجوق عماله منها وصفت للمسلمين.
ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن ايلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده فأرسل إلى سلجوق يستمده فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه فقوى بهم الساماني على هارون واسترد ما أخذه منه وعاد أرسلان إلى أبيه.
وكان لسلجوق من الأولاد أرسلان وميكائيل وموسى، وتوفي سلجوق بجند وكان عمره مائة سنة وسبع سنين ودفن هناك وبقي أولاده فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفار
الأتراك فقاتل وباشر القتال بنفسه فاستشهد في سبيل الله وخلف من الأولاد بيغو وطغرلبك محمدا وجغري بك داود فأطاعهم عشائرهم ووقفوا عند أمرهم ونهبهم ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخا منها فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم فالتجأوا إلى بغراخان ملك تركستان وأقاموا في
474
بلاده واحتموا به وامتنعوا واستقر الأمر بين طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراخان إنما يحضره عند أحدهما ويقيم الآخر في أهله خوفا من مكر يمكره بهم فبقوا كذلك.
ثم إن بغراخان اجتهد في اجتماعهما عنده فلم يفعلا فقبض على طغرلبك وأسره فثار داود في عشائره ومن يتبعه وقصد بغراخان ليخلص أخاه فأنفذ إليه بغراخان عسكرا فاقتتلوا فانهزم عسكر بغراخان وكثر القتل فيهم وخلص أخاه من الأسر وانصرفوا إلى جند وهي قريب بخارى فأقاموا هناك.
فلما انقرضت دولة السامانية وملك ايلك الخان بخارى عظم محل أرسلان بن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر وكان علي تكين في حبس أرسلان خان فهرب وهو أخو ايلك الخان ولحق ببخارى واستولى عليها واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا واستفحل أمرهما وقصدهما ايلك أخو أرسلان خان وقاتلهما فهزماه وبقيا ببخارى.
وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك فلما عبر محمود جيحون على ما ذكرناه هرب علي تكين من بخارى وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فأنهم دخلوا المفازة والرمل فاحتموا من محمود فرأى محمود قوة السلجوقية وما لهم من الشوكة وكثرة العدد فكاتب أرسلان بن سلجوق واستماله ورغبه فورد إليه فقبض يمين الدولة عليه في الحال ولم يمهله وسجنه في قلعة ونهب خركاهاته واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته فأشار أرسلان الجاذب وهو من أكبر خواص محمود، بأن يقطع أباهمهم
475
لئلا يرموا بالنشاب أو يغرقوا في جيحون، فقال له: ما أنت إلا قاسي القلب ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون ففرقهم في نواحي خراسان ووضع عليهم الخراج فجار العمال عليهم وامتدت الأيدي إلى أموالهم وأولادهم فانفصل منهم أكثر من ألفي رجل وساروا إلى كرمان ومنها إلى أصبهان وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب قد ذكرناها فساروا من أصبهان إلى أذربيجان وهؤلاء جماعة أرسلان.
فأما أولاد اخوته فإن عليا تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود ووعده الإحسان وبالغ في استمالة وطلب منه الحضور عنده ففعل ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته وأقطعه أقطاعا كثيرة ولقب بالأمير اينانج بيغو.
وكان الباعث له على ما فعله به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه ويفرق كلمتهم ويضرب بعضهم ببعض فعلموا مراده فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده منه فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف ولم يبلغ به غرضا أمر بقتله فقتل يوسف تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه ألب قرا. فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما ولبسوا ثياب الحداد وجمعا من الأتراك من قدروا على جمعه للأخذ بثأره وجمع على تكين أيضا جيوشه وسيرها إليهم فانهزم عسكر علي تكين، وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب، فتبركوا
476
به، وتيمنوا بطلعته أو قيل في مولده غير ذلك.
فلما كان سنة إحدى وعشرين [وأربعمائة] قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما قتلاه وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين فقتلا منها نحو ألف رجل فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير فقصدوهم من كل جانب وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل [فيها] كثير من عساكر السلجوقية وأخذت أموالهم وأولادهم وسبوا كثيرا من نسائهم وذراريهم فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان.
فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معهم وتكون أيديهم واحدة فسار طغرلبك وأخوه داود وبيغو إليه وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين ووثقوا به واطمأنوا إليه فغدر بهم فوضع عليهم الأمير شاهملك فكبسهم ومعه عسكر من هارون فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي وارتكب من الغدر خطة شنيعة فسار عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا وقصدوا مرو في هذه السنة أيضا ولم يتعرضوا لأحد بشر وبقي أولادهم وذراريهم في أسر.
وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها كما ذكرناه فراسلوه وطلبوا منه الأمان وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده ويدفعونهم عنها ويقاتلونهم ويكونون من أعظم أعوانه عليهم وعلى غيرهم. فقبض على الرسل وجهز عسكرا جرارا إليهم مع ايلتغدي حاجبه وغيرهم من الأمراء الأكابر فساروا إليهم والتقوا عند نسا في شعبان من السنة واقتتلوا وعظم الأمر، وانهزم السلجوقية، وغنمت
477
أموالهم، فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال.
واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود إن العسكر الان قد نزلوا واطمأنوا وآمنوا الطلب والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضا. فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف وقتال بعضهم بعضا فأوقعوا بهم وقتلوا منهم وأسروا واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود وهو بنيسابور فندم على رده طاعتهم وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة وتجرؤوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد وخاف من أخوات هذه الحادثة فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم فقال طغرلبك لإمام صلاته اكتب إلى السلطان (^ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) ولا تزد على هذا.
فكتب ما قال، فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتابا مملوءا من المواعيد الجميلة وسير معه الخلع النفيسة وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط وهي مدينة على
جيحون ونهاهم عن الشر والفساد وأقطع دهستان لداود ونسا لطغرلبك وفراوة لبيغو ولقب كل واحد منهم بالدهقان فاستخفوا بالرسول والخلع وقالوا للرسول لو علمنا أن السلطان يبقي علينا إذا قدر لأطعناه ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه فنحن لا نطيعه ولا نثق إليه وأفسدوا ثم كفوا وتركوا ذلك فقالوا إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم ونهب أموالهم وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه بإظهار الطاعة له والكف عن
478
الشر، ويسألونه أن يطلق عمه أرسلان ابن سلجوق من الحبس فأجابهم إلى ذلك فأحضره عنده ببلخ وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو وطغرلبك وداود يأمرهم بالاستقامة والكف عن الشر فأرسل إليهم رسولا يأمرهم بذلك وأرسل معه إشفى وأمره بتسليمه إليهم فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر فأعاد مسعود إلى محبسه وسار إلى غزنة فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان على ما ذكرناه.
وأقام داود بمدينة مرو وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة واستولى الرعب على أصحابه لا سيما مع بعده إلى غزنة فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به ويشكون إليه ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد وهو لا يجيبهم ولا يتوجه إليهم وأعرض عن خراسان والسلجوقية واشتغل بأمور بلاد الهند.
فلما اشتد أمرهم بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته وقالوا له إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية وبها يملكون البلاد ويستقيم لهم الملك ونحن نعلم وكل عاقل أنهم إن تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعا ثم ساروا منها إلى غزنة وحينئذ لا ينفعنا حركاتنا ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب فاستيقظ من رقدته وأصبر رشده بعد غفلته وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي وكان حاجبه قد سيره قبل إلى الغز العراقية وقد تقدم ذكر ذلك وسير معه أميرا كبيرا اسمه مرداويج بن بشو.
479
وكان سباشي جبانا فأقام بهراة ونيسابور ثم أغار بغتة على مرو وبها داود فسار مجدا فوصل إليها في ثلاثة أيام فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال فانهزم داود بين يديه ولحقه العسكر فحمل عليه صاحب جوزجان فقاتله داود فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره فعظم قتله على سباشي وكل من معه ووقعت عليهم الذلة وقويت نفوس السلجوقية وزاد طمعهم.
وعاد داود إلى مرو فأحسن السيرة في أهلها وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ولقب في الخطبة بملك الملوك وسباشي يمادي الأيام ويرحل من منزل إلى منزل والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب فقيل إنه كان يفعل ذلك جبنا وخورا وقيل بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه فنفس عنهم وتراخى في تتبعهم والله أعلم.
ولما طال مقام سباشي وعساكره و السلجوقية بخراسان والبلاد منهوبة والدماء مسفوكة قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة فسار إلى داود وتقدم داود إليه فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين [وأربعمائة] على باب سرخس ولداود منجم يقال له الصومعي فأشار على داود بالقتال وضمن له الظفر وأشهد على نفسه أنه إن أخطأ فدمه مباح فاقتتل العسكران فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة وساروا أخزى مسير إلى هراة فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد وكفوا عن القتل وغنموا أموالهم فكانت هذه الوقعة هي الوقعة التي ملك
480
السلجوقية بعدها خراسان، ودخلوا قصبات البلاد، فدخل طغرلبك نيسابور وسكن الشاذياخ وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم وفرقوا النواب في النواحي.
وسار داود إلى هراة ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة فعاتبه مسعود وحجبه وقال له ضيعت العساكر وطاولت الأيام حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشر بهم وتمكنوا من البلاد ما أرادوا فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق كلما تبعت فرقة سارت بين يدي وخلفي الفريقين في البلاد يفعلون ما أرادوا فاضطر مسعود إلى المسير خراسان فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء ومعه من الفيلة عدد كثير فوصل إلى بلخ وقصده داود إليها أيضا ونزل قريبا منها فدخلها يوما، يريده في طائفة يسيرة على حين غفلة من العساكر فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود وأخذ معه عدة جنائب فعظم قدره في النفوس وازداد العسكر هيبة له.
ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع وسار على جوزجان فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية فصلبه وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان، وسار داود إلى سرخس واجتمع هو وأخوه طغرلبك وبيغو فأرسل مسعود إليهم رسلا في الصلح فسار في الجواب بيغو فأكرمه مسعود وخلع عليه وكان مضمون رسالته إنا لا نثق بمصالحتك بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها كل فعل منها موبق مهلك وآيسوه من الصلح فسار مسعود من مرو إلى هراة وقصد داود مرو فامتنع أهلها عليه فحصرها سبعة أشهر وضيق
481
عليهم وألح في قتالهم فملكها.
فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يديه وسار من هراة إلى نيسابور ثم منها إلى سرخس وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره ولم يزل كذلك فأدركهم الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولا بلهوه وشربه فتقضى الربيع والأمر كذلك فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية فدخلوا البرية فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم وسئموا الشد والترحل فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين بعضها مع سباشي وبعضها مع الملك مسعود فلما دخل البرية نزل منزلا قليل الماء والحر شديد فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه.
وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه وغيره من عشيرته مقابل ساقة عساكره يتخطفون من تخلف منهم فاتفق لما يريده الله تعالى أن حواشي مسعود اختصموا هم وجمع
من العسكر على الماء وازدحموا وجرى بينهم فتنة حتى صار بعضهم يقاتل بعضا وبعضهم نهب بعضا فاستوحش لذلك أمراء العسكر ومشى بعضم إلى بعض في التخلي عن مسعود فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف فتقدم إليهم وحمل عليهم وهم في ذلك التنازع والقتال والنهب فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر وكثر القتل فيهم والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم ويأمرانهم بالعود فلا يرجعون وتمت الهزيمة على العسكر وثبت مسعود فقيل له ما تنتظر قد فارقك أصحابك وأنت في برية مهلكة وبين يديك عدو وخلفك عدو ولا وجه للمقام فمضى
482
منهزما ومعه نحو مائة فارس فتبعه فارس من السلجوقية فعطف عليه مسعود فقتله وصار لا يقف على شيء حتى أتى غرشستان.
وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء وقسمه داود على أصحابه وآثرهم على نفسه ونزل في سرادق مسعود وقعد على كرسيه ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام على ظهور دوابهم لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم منه من مأكول ومشروب وغير ذلك خوفا من عود العسكر وأطلق الأسرى وأطلق خراج سنة كاملة وصار طغرلبك إلى نيسابور فملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين [وأربعمائة] وأول سنة اثنتين وثلاثين ونهب أصحابه الناس فقيل عنه أنه رأى لوزينجا فأكله وقال هذا قطماج طيب إلا أنه لا ثوم فيه ورأى الغز الكافور فظنوه ملحا، وقالوا: هذا ملح مر؛ نقل عنهم أشياء من هذا كثير.
وكان العيارون قد عظم ضررهم واشتد أمرهم وزادت البلية بهم على أهل نيسابور فهم ينهبون الأموال ويقتلون النفوس ويرتكبون الفروج الحرام ويفعلون كل ما يريدونه لا يردعهم عن ذلك رادع ولا يزجرهم زاجرا فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون وكفوا عما كانوا يفعلون وسكن الناس واطمأنوا.
واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد فسار بيغو إلى هراة فدخلها وسار داود إلى بلخ وبها التونتاق الحاجب واليا عليها لمسعود فأرسل إليه داود يطلب منه تسليم البلد إليه ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته، فسجن
483
التونتاق الرسل، فنازله داود وحصر المدينة فأرسل التونتاق إلى مسعود وهو بغزنة يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار فجهز مسعود العساكر الكثيرة فسيرها فجاءت طائفة منهم إلى الرخج وبها جمع من السلجوقية فقاتلوهم فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل وأسر كثير وخلا ذلك السقع منهم.
وسار طائفة منهم إلى هراة وبها بيغو فقاتلوه ودفعوه عنها ثم إن مسعودا سير ولده مودودا في عسكر كثير مددا لهذه العساكر فقتل مسعود وهو بخراسان على ما نذكره إن شاء الله تعالى فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره فأوقعوا بطلائع مودود فانهزمت الطلائع فتبعهم عسكر داود فلما أحس بهم عسكر مودود رجعوا إلى وراءهم وأقاموا فلما سمع التونتاق صاحب بلخ الخبر أطاع داود وسلم إليه البلد ووطأ بساطه.
ذكر قبض السلطان مسعود وملك أخيه محمد
قد ذكرنا عود مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة من خراسان فوصلها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبض على سباشي وغيره من الأمراء كما ذكرناه وأثبت غيرهم وسير ولده مودود إلى خراسان في جيش
484
كثيف ليمنع السلجوقية عنها فسار مودود إلى بلخ ليرد عنها داود أخا طغرلبك وجعل أبوه مسعود معه وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبر الأمور وكان مسيرهم من غزنة في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين.
وسار مسعود بعدهم بسبعة أيام يريد بلاد الهند ليشتو بها على عادة والده فلما سار أخذ معه أخاه محمد مسمولا واستصحب الخزائن وكان عازما على الاستنجاد بالهند على قتال السلجوقية ثقة بعهودهم فلما عبر سيحون وهو نهر كبير نحو دجلة وعبر بعض الخزائن اجتمع أنوشتكين البلخي وجمع مع الغلمان الدارية ونهبوا ما تخلف من الخزانة وأقاموا أخاه محمد ثالث عشر ربيع الآخر وسلموا عليه بالإمارة فامتنع من قبول ذلك فتهددوه وأكرهوه فأجاب وبقي مسعود فيمن معه من العسكر وحفظ نفسه فالتقى الجمعان منتصف ربيع الآخر فاقتتلوا وعظم الخطب على الطائفتين ثم انهزم معسكر مسعود وتحصن هو في رباط ماريكلة فحصره أخوه فامتنع عليه فقالت له أمه إن مكانك لا يعصمك ولأن تخرج إليهم بعهد خير من أن يأخذوك قهرا فخرج إليهم فقبضوا عليه فقال له أخوه محمدا والله لا قابلتك على فعلك بي ولا عاملتك إلا بالجميل فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك فاختار قلعة كيكي فأنفذ إليها محفوظا وأمر بإكرامه وصيانته.
وأرسل مسعود إلى أخيه محمد يطلب منه مالا ينفقه فأنفذ له خمسمائة درهم فبكى مسعود وقال كان بالأمس حكمي على ثلاثة آلاف حمل من
485
الخزائن، واليوم لا أملك الدرهم الفرد فأعطاه الرسول من ماله ألف دينار فقبلها وكانت سبب سعادة الرسول لأنه لما ملك مودود بن مسعود بالغ في الإحسان إليه.
ثم إن محمدا فوض أمر دولته إلى ولده أحمد وكان فيه خبط وهوج فاتفق هو وابن عمه يوسف بن سبكتكين وابن علي خويشاوند على قتل مسعود ليصفو الملك له ولوالده فدخل إلى أبيه فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن فأعطاه فسار بها إلى القلعة وأعطوا الخاتم لمستحفظها وقالوا معنا رسالة إلى مسعود فأدخلهم إليه فقتلوه فلما علم محمد بذلك ساءه وشق عليه وأنكره.
وقيل إن مسعودا لما حبس دخل عليه ولدا أخيه محمد واسم أحدهما عبد الرحمن والآخر عبد الرحيم فمد عبد الرحمن يده فأخذ القلنسوة من رأس عمه مسعود فمد عبد الرحيم يده وأخذ القلنسوة من أخيه وأنكر عليه ذلك وسبه وقبلها وتركها على رأس عمه فنجا بذلك عبد الرحيم من القتل والأسر لما ملك مودود بن مسعود على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم إن محمدا أغراه ولده أحمد بقتل عمه مسعود فأمر بذلك وأرسل إليه من قتله وألقاه في بئر وسد رأسها وقيل بل ألقي في بئر حيا وسد رأسها فمات والله أعلم.
فلما مات كتب محمد إلى ابن أخيه مودود وهو بخراسان يقول إن والدك قتل قصاصا قتله أولاد أحمد ينالتكين بلا رضا مني فأجاب مودود يقول أطال الله بقاء الأمير القاسم
ورزق ورزق ولده المعتوه أحمد عقلا يعيش
486
به فقد ركب أمرا عظيما وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين سيد الملوك والسلاطين، وستعلمون في أي حتف تورطتم، وأي شر تأبطتم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
(نفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهو كانوا أعق وأظلما)
وطمع جند محمد فيه وزالت عنهم هيبته فمدوا إلى أموال الرعايا فنهبوها فخربت البلاد وجلا أهلها مدينة برشاوور فإنها هلك أهلها ونهبت أموالهم وكان المملوك بها يباع بدينار ويباع الخمر كل من دينار، ثم رحل محمد عنها لليلتين بقيتا من رجب وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان السلطان مسعود شجاعا كريما ذا فضائل كثيرة محبا للعلماء كثير الإحسان إليهم والتقرب لهم صنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحاجة تصدق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم وأكثر الإدرارات والصلات وعمر كثيرا من المساجد في ممالكه وكانت صنائعه ظاهرة مشهورة تسير بها الركبان مع عفة عن أموال رعاياه وأجاز الشعراء بجوائز عظيمة أعطى شاعرا على قصيدة ألف دينار وأعطى آخر بكل بيت ألف درهم وكان يكتب خطا حسنا وكان ملكه عظيما فسيحا ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الراون وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة وبلاد الغور والهند وملك كثيرا منها وأطاعه
487
أهل البر والبحر ومناقبه كثيرة وقد صنفت فيها التصانيف المشهورة فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
ذكر ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمدا
لما قتل الملك مسعود وصل الخبر إلى ابنه مودود وهو بخراسان فعاد مجدا في عساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد في ثالث شعبان فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد وأنوشتكين الخصي البلخي وابن علي خويشاوند فقتلهم وقتل أولاد عمه جميعهم إلا عبد الرحيم لإنكاره على أخيه عبد الرحمن ما فعله بعمه مسعود وبني موضع الوقعة قرية ورباطا وسماها فتح آباذ وقتل كل من له في القبض على والده صنع وعاد إلى غزنة فدخلها في ثالث وعشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين [وأربعمائة]، واستوزر أبا نصر وزير أبيه وأظهر العدل وحسن السيرة وسلك سيرة جده محمود وكان داود أخو طغرلبك قد ملك مدينة بلخ واستباحها كما ذكرناه ومودود مقابله فتجدد قتل مسعود فعاد ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما تجدد هذا الظفر لمودود ثار أهل هراة بمن عندهم من الغز السلجوقية فأخرجوهم وحفظوها لمودود واستقر الأمر لمودود بغزنة ولم يبق له هم إلا أمر أخيه مجدود فإن أباه قد سيره إلى الهند سنة ست وعشرين [وأربعمائة] فخاف أن يخالف عليه فأتاه خبره أنه قصد لهاوور وملتان فملكهما وأخذ
488
الأموال، وجمع بهما العساكر وأظهر الخلاف على أخيه فندب إليه مودود جيشا ليمنعوه ويقاتلوه وعرض مجدود عسكره للمسير وحضر عيد الأضحى فبقي بعده ثلاثة أيام وأصبح ميتا بلهاوور لا يدري كيف كان موته وأطاعت البلاد بأسرها مودودا ورست قدمه وثبت ملكه ولما سمعت الغز السلجوقية ذلك خافوه واستشعروا منه وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة.
ذكر الخلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل
في هذه السنة اختلف جلال الدولة ملك العراق وقرواش بم المقلد العقيلي صاحب الموصل.
وكان سبب ذلك أن قرواشا كان قد أنفذ عسكرا سنة إحدى وثلاثين [وأربعمائة] فحصروا خمسين بن ثعلب بتكريت وجرى بين الطائفتين حرب شديدة في ذي القعدة منها فأرسل خميس ولده إلى الملك جلال الدولة وبذل بذولا كثيرة ليكف عنه قرواشا فأجابه إلى ذلك وأرسل إلى قرواش يأمره بالكف عنه فغالط ولم يفعل وسار بنفسه ونزل عليه يحاصره فتأثر جلال الدولة منه.
ثم إنه أرسل كتبا إلى الأتراك ببغداد يفسدهم وأشار عليهم بالشغب على الملك وإثارة الفتنة معه فوصل خبرها إلى جلال الدولة وأشياء أخر كانت هذه هي الأصل فأرسل جلال الدولة أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر
489
من سنة اثنتين وثلاثين ليقبض على نائب قرواش بالسندية فسار ومعه جماعة من الأتراك وتبعه جمع من العرب فرأى في طريقه جمالا لبني عيسى فتسرع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة وأوغل الأتراك في الطلب.
وبلغ الخبر إلى العرب وركبوا وتبعوا الأتراك وجرى بين الطائفتين حرب انهزم فيها الأتراك وأسر منهم جماعة وعاد المنهزمون فأخبروا البساسيري بكثرة العرب فعاد ولم يصل إلى مقصده.
وسار طائفة من بني عيسى فكمنوا بين صرصر وبغداد ليفسدوا في السواد فاتفق أن وصل بعض أكابر القواد الأتراك فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة من أصحابه وحملوا إلى بغداد فارتج البلد واستحكمت الوحشة بين جلال الدولة وقرواش فجمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار وهي لقرواش على عزم أخذها منه وغيرها من أقطاعه بالعراق، فلما وصلوا إلى الأنبار أغلقت وقاتلهم أصحاب قرواش وسار قرواش من تكريت إلى خصة على عزم القتال فلما نزل الملك جلال الدولة على الأنبار قلت عليهم العلوفة فسار جماعة من العسكر والعرب إلى الحديثة ليمتاروا منها فخرج عليهم عندها كثير من العرب فأوقعوا بهم فانهزم بعضهم وعادوا إلى العسكر ونهبت العرب ما معهم من الدواب التي تحمل الميرة وبقي المرشد أبو الوفاء وهو المقدم على العسكر الذين ساروا لإحضار الميرة وثبت معه جماعة.
ووصل الخبر إلى جلال الدولة أن المرشد أبا الوفاء يقاتل وأخبر سلامته وصبره للعرب وأنهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة فسار الملك إليه بعسكر فوصلوا وقد عجز العرب عن الوصول إليه وعادوا عنه بعد أن حملوا عليه
490
وعلى من معه عدة حملات صبر لها في قلة من معه ثم اختلفت عقيل على قرواش فراسل جلال الدولة وطلب رضاه وبذل بذلا أصلحه به وعاد إلى طاعته فتحالفا وعاد كل إلى مكانه.
ذكر ملك أبي الشوك دقوقا
كانت دقوقا لأبي الماجد المهلهل بن محمد بن عناز فسير إليها أخوه حسام الدولة أبو الشوك ولده سعديا فحاصرها فقاتله من بها.
ثم سار أبو الشوك إليها فجد في حصارها ونقب سورها ودخلها عنوة ونهب أصحابه بعض البلد وأخذوا سلاح الأكراد وثيابهم وأقام حسام الدولة بالبلد ليلة وعاد خوفا على البندنيجين وحلوان فإن أخاه سرخاب بن محمد بن عناز كان قد أغار على عدة مواضع من ولايته وحالف أبا الفتح بن ورام والجاوانية عليه فأشفق من ذلك وأرسل إلى جلال الدولة يطلب منه نجدة فسير إليه عسكرا امتنع بهم.
ذكر الحرب بين عسكر مصر والروم
في هذه السنة كانت وقعة بين عسكر المصريين سيره الدزبري وبين الروم فظفر المسلمون.
وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي صاحب
491
مصر، على ما ذكرناه فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله وراسله قبله صالح ليتقوى به على الدزبري خوفا أن يأخذ منه الرقة فبلغ ذلك الدزبري فتهدد ابن صالح فاعتذر وجحد.
ثم إن جمعا من بني جعفر بن كلاب دخلوا ولاية أفامية فعاثوا فيها ونهبوا عدة قرى فخرج عليهم جمع من الروم فقاتلوهم وأوقعوا بهم ونكوا فيهم وأزالوهم عن بلادهم.
وبلغ ذلك الناظر بحلب فأخرج من بها من تجار الفرنج وأرسل إلى المتولي لأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين فأغلظ للرسول وأراد قتله ثم تركه فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال وأن القوم على التجهز لقصد البلاد فجهز الدزبري جيشا وسيره على مقدمته فاتفق أنهم لقوا جيشا للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم ثم إن الله نصر المسلمين وأذل الكافرين فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة وأسر ابن عم للملك بذلوا في فدائه مالا جزيلا وعدة وافرة من أسراء المسلمين وانكف الروم عن الأذى بعدها.
ذكر الخلف بين المعز وبني حماد
في هذه السنة خالف أولاد حماد على المعز بن باديس صاحب إفريقية وعادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان والخلاف عليه فسار إليهم المعز، وجمع
492
العساكر وحشدها وحصر قلعتهم بقلعة حماد وضيق عليهم وأقام عليهم نحو سنتين.
ذكر صلح أبي الشوك وعلاء الدولة
وفيها سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى علاء الدولة بن كاكويه واستصرخه واستعان به على أخيه أبي الشوك فسار معه فلما بلغ قرميسين رجع أبو الشوك إلى حلوان فعرف علاء الدولة رجوعه فسار يتبعه حتى بلغ المرج وقرب من أبي الشوك فعزم أبو الشوك على قصد قلعة السيروان والتحصن بها ثم تجلد وأرسل إلى علاء الدولة أنني لم أتصرف من بين يديك إلا مراقبة لك وإعظاما لقدرك واستعطافا لك فإذا اضطررتني إلى ما لا أجد بدا منه كان العذر قائما لي فيه فإن ظفرت بك طمع فيك الأعداء وإن ظفرت بي سلمت قلاعي وبلادي إلى الملك جلال الدولة فأجابه علاء الدولة إلى الصلح على أن يكون له الدينور وعاد فلحقه المرض في طريقه وتوفي على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
493
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد وسببه عدم الأمطار فسميت سنة الغبار ودام ذلك إلى سنة أربع وثلاثين [وأربعمائة] فخرج الناس فاستسقوا.
وفيها توفي قزل أمير الغز العراقية بالري ودفن بناحية من أعمالها.
وفيها توفي صاعد بن محمد أبو العلاء النيسابوري ثم الاستوائي قاضي نيسابور وكان عالما فقيها حنيفا انتهت اليه رياسة الحنفية بخراسان.
494
433
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة
ذكر وفاة علاء الدولة بن كاكويه
في هذه السنة، في المحرم، توفي علاء الدولة أبو جعفر بن دشمنزيار المعروف بابن كاكويه بعد عوده من بلد أبي الشوك وإنما قيل له كاكويه لأنه ابن خال مجد الدولة بن بويه والخال بلغتهم كاكويه وقام بأصبهان ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز مقامه وهو أكبر أولاده وأطاعه الجند بها فسار ولده أبو كاليجار كرشاسف إلى نهاوند فأقام بها وحفظها وضبط أعمال الجبل وأخذها بنفسه فأمسك عنه أخوه أبو منصور فرامرز.
ثم إن مستحفظا لعلاء الدولة بقلعة نطنز أرسل أبو منصور إليه يطلب شيئا مما عنده من الأموال والذخائر فامتنع وأظهر العصيان فسار إليه أبو منصور وأخوه الأصغر أبو
حرب ليأخذا القلعة منه كيف أمكن فصعد أبو حرب إليها ووافق المستحفظ على العصيان فعاد أبو منصور إلى أصبهان وأرسل أبو حرب إلى الغز السلجوقية بالري يستنجدهم فسار طائفة منهم إلى قاجان فدخلوها ونهبوها وسلموها إلى أبي حرب وعادوا إلى الري فسير إليها أبو منصور عسكرا ليستنقذها من أخيه فجمع أبو حرب الأكراد وغيرهم وجعل عليهم صاحبا له وسيرهم إلى أصبهان ليملكوها بزعمه،
495
فسير إليهم أخوه أبو منصور عسكرا فالتقوا وانهزم عسكرا أبي حرب وأسر جماعة منهم.
وتقدم أصحاب أبي منصور فحصروا أبا حرب فلما رأى الحال وخاف نزل منها متخفيا وسار إلى شيراز إلى الملك أبي كاليجار صاحب فارس والعراق فحسن له قصد أصبهان وأخذها من أخيه فسار الملك إليها وحصرها وبها الأمير أبو منصور فامتنع عليه وجرى بين الفريقين عدة وقائع كان آخر الأمر الصلح على أن يبقى أبو منصور بأصبهان وتقرر عليه مال وعاد أبو حرب إلى قلعة نطنز واشتد الحصار عليه فأرسل إلى أخيه يطلب المصالحة فاصطلحا على أن يعطي أخاه ما في القلعة ويبقى بها على حاله.
ثم إن إبراهيم ينال خرج إلى الري على ما نذكره وأرسل إلى أبي منصور فرامرز يطلب منه الموادعة فلم يجبه وسار فرامرز إلى همذان وبروجرد فملكها ثم اصطلح هو وأخوه كرشاسف وأقطعه همذان وخطب لأبي منصور على منابر بلاد كرشاسف واتفقت كلمتهما وكان المدبر لأمرهما الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله وهو الذي سعى في جمع كلمتهما.
ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان
في هذه السنة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان وسبب ذلك أن أنوشروان بن منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبي كاليجار بن ويهان
496
القوهي، صاحب جيشه وزوج أمه بمساعدة أمه عليه فعلم حينئذ طغرلبك أن البلاد لا مانع له عنها فسار إليها وقصد جرجان ومعه مرداويج بن بسو فلما نازلها فتح له المقيم بها فدخلها وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحا وسلما إلى مرداويج بن بسو وقرر عليه خمسين ألف دينار كل سنة عن جميع الأعمال وعاد إلى نيسابور.
وقصد مرداويج أنو شروان بسارية وكان بها فاصطلحا على أن ضمن أنوشروان له ثلاثين الف دينار وأقيمت الخطبة لطغرلبك في البلاد كلها وتزوج مرداويج بوالدة أنوشروان وبقي أن شروان يتصرف بأمر مرداويج لا يخالفه في شيء البتة.
ذكر أحوال ملوك الروم
نذكر ههنا أحوال الروم من عهد بسيل إلى الآن فنقول من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهده الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة فخرجت تشاهد الملك فلما مر بها استحسنها فأمر من يسأل عنها فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها وولدت منه بسيل وقسطنطين وتوفي وهما صغيران فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور فكره كل واحد منهما صاحبة فعملت على قتله فراسلت الشمشقيق في ذلك فقصد قسطنطينية متخفيا فأدخلته إلى دار الملك واتفقا وقتلاه ليلا وأحضرت البطارقة متفرقين وأعطتهم
497
الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق ففعلوا ولم تصبح إلا وقد فرغت مما تريد ولم يجر خلف.
وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة فخالفها واحتال عليها وأخرجها إلى دير بعيد وحمل ولديها معها فأقامت فيه سنة ثم أحضرت راهبا ووهبته مالا وأمرته بقصد قسطنطينية والمقام بكنيسة الملك والاقتصار على قدر القوت فإذا وفق به الملك وأراد القربان من يده ليلة العيد سقاه سما ففعل الراهب ذلك فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي في الشمشقيق فملك ولدها بسيل ودبرت هي الأمر لصغره فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار وتوفيت وهو هناك فبلغه وفاتها فأمر خادما له أن يدبر الأمور في غيبته.
ودام قتاله لبلغار أربعين سنة فظفروا به فعاد مهزوما وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود فعاد إليهم فظفر بهم وقتل ملكهم وسبى أهله وأولاده و ملك بلاده ونقل أهلها إلى الروم وأسكن البلاد طائفة من الروم وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين وكلاهما يسمى بلغار.
وكان بسيل عاد لأحسن السرية ودام ملكه نيفا وسبعين سنة وتوفي ولم يخلف ولدا فملك أخوه قسطنطين وبقي إلى أن توفي.
ولم يخلف غير ثلاث بنات فملكت الكبرى وتزوجت أرمانوس وهو من أقارب الملك وملكته فبقي مدة وهو الذي ملك الرها من المسلمين.
498
وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه قبل ملكه من أولاد بعض الصيارف اسمه ميخائيل فلما ملك حكمه في داره مالت زوجة أرمانوس إليه وعملا الحيلة في قتل أرمانوس فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارها وخنقاه وأظهرا أنه مات في الحمام وملكت زوجته ميخائيل وتزوجته على كره من الروم.
وعرض لميخائيل صرع لازمة وشوه صورته فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه مخائيل أيضا فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة وقبض على أهل خاله وإخوته وهم أخواله وضرب الدنانير هذه السنة وهي [سنة] ثلاث وثلاثين ثم احضر زوجته بنت الملك وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها من الملك فأبت فضربها وسيرها إلى لجزيرة في البحر ثم عزم على القبض على البطرك والاستراحة من تحكمه عليه فإنه كان لا يقدر على مخالفته فطلب إليه أن يعمل له طعاما في دير ذكره القسطنطينية ليحضر عنده فأجابه إلى ذلك وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار ووافقهم على قتله سرا فقصدوه ليلا وحصروه في الدير فبذل لهم مالا كثيرا وخرج متخفيا وقصد البيعة التي يسكنها وضرب الناقوس فاجتمع الروم عليه ودعاهم إلى عزل الملك فأجابوه إلى ذلك وحصروا الملك في داره فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها ورغب في أن ترد عنه فلم تفعل وأخرجته إلى بيعة يترهب فيها.
ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك وملكوا أختا لها صغيرة واسمها تذورة وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك وكحلوا ميخائيل،
499
ووقعت الحرب بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك فظفر أصحاب تذورة بهم ونهبوا أموالهم.
ثم إن الروم افترقوا إلى ملك يدبرهم فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع ووضعوها في بنادق طين وأمروا من يخرج منها بندقة وهو لا يعرف باسم من فيها فخرج اسم قسطنطين فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين [وأربعمائة]، فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس ودعا إلى نفسه فكثر جمعه حتى زادوا على عشرين ألفا فأهم قسطنطين أمره وسيره إليه جيشا كثيفا فظفروا بالخارجي وقتلوه وحملوا رأسه إلى القسطنطينية وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل فشهروا في البلد ثم أطلقوا وأعطوا نفقة وأمروا الانصراف إلى أي جهة أرادوا.
ذكر فساد حال الدزبري بالشام وما صار الأمر إليه بالبلاد
في هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري نائب المستنصر بالله صاحب مصر بالشام وقد كان كبيرا على مخدومه بما يراه من تعظيم الملوك له وهيبة الروم منه.
وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يقصده ويحسده إلا أنه لا يجد طريقا إلى الوقيعة فيه ثم اتفق أنه سعى بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد وقيل عنه إنه تستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين فكوتب الدزبري بإبعاده فلم
500
يفعل واستوحشوا منه ووضع الجرجرائي حاجب الدزبري وغيره على مخالفته.
ثم إن جماعة من الأجناد قصدوا مصر وشكوا إلى الجرجرائي منه فعرفهم سوء رأيه فيه وأعادهم إلى دمشق وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك.
وأحسن الدزبري بما جرى فأظهر ما في نفسه وأحضر نائب الجرجرائي عنده وأمره بإهانته وضربه ثم إنه أطلق لطائفة من العسكر يلزمون خدمته أرزاقهم ومنع الباقين فحرك ما في نفوسهم وقوي طمعهم فيه بما كوتبوا به من مصر فأظهروا الشغب عليه وقصدوا قصره وهو بظاهر البلد وتبعهم من العامة من يريد النهب فاقتتلوا، فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم ففارق مكانه واستصحب أربعين غلاما له وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال ونهب الباقي وسار إلى بعلبك فمنعه مستحفظها وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره وينهبون ما يقدرون عليه.
وسار إلى مدينه حماة فمنع عنها وقوتل وكاتب المقلد بن منقذ الكناني الكفرطابي واستدعاه فأجابه وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفرطاب وغيرها فاحتمى به وسار إلى حلب ودخلها وأقام بها مدة وتوفي في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة.
فلما توفي فسد أمر بلاد الشام وانتشرت الأمور بها وزال النظام وطمعت العرب وخرجوا في نواحيه فخرج حسان بن المفرج الطائي بفلسطين وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب وقصدها وحصرها وملك المدينة وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة فلم يفعلوا واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر
501
دمشق بعد الدزبري بحرب حسان ووقع الموت في الذين في القلعة فسلموها إلى معز الدولة بالأمان.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكرا في البحر إلى عمان وكان قد عصى من بها فوصل العسكر إلى صحار مدينة عمان فملكوها واستعادوا الخارجين عن الطاعة واستقرت الأمور بها وعادت العساكر إلى فارس.
وفيها قصد أبو نصر بن الهيثم الصليق من البطائح فملكها ونهبها ثم استقر أمرها على مال يؤديه إلى جلال الدولة.
وفيها توفي أبو منصور بهرام بن منافية وهو الملقب بالعادل وزير الملك أبي كاليجار ومولده سنة وست وستين وثلاثمائة وكان حسن السيرة وبنى دار الكتب بفيروزاباذ وجعل فيها سبعة آلاف مجلد فلما مات وزر بعده مهذب الدولة أبو منصور هبة الله بن أحمد الفسوي.
وفيها وصل جماعة من البلغار إلى بغداد يريدون الحج فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة فسئل بعضهم من أي الأمم هم البلغار فقال هم قوم تولدوا بين الترك والصقالبة وبلدهم في أقصى الترك وكانوا كفارا فأسلموا عن قريب وهم على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه.
وفيها توفي مخائيل ملك الروم وملك بعده ابن أخيه ميخائيل أيضا.
502
وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو الحسن محمد بن جعفر الجهرمي الشاعر وهو القائل:
(يا ويح قلبي من تقلبه * أبدا يحن إلى معذبه)
(قالوا كتمت هواه عن جلد * لو أن لي رمق لبحت به)
(بأبي حبيبا غير مكترث * عني ويكثر من تعتبه)
(حسبي رضاه من الحياة وما * قلقي وموتي من تغضبه)
وكان بينه وبين المطرز مهاجاة
503
434
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة
ذكر ملك طغرلبك مدينة خوارزم
قد تقدم أن خوارزم كانت من جملة مملكة محمود بن سبكتكين فلما توفي وملك بعده ابنه مسعود كانت له وكان فيها التونتاش حاجب أبيه محمود وهو من أكابر أمرائه يتولاها لمحمود ومسعود بعده ولما كان مسعود مشغولا بقصد أخيه محمد لأخذ الملك قصد الأمير علي تكين صاحب ما وراء النهر أطراف بلاده وشعثها فلما فرغ مسعود من أخيه واستقر الملك له كاتب التونتاش في سنة أربع وعشرين [وأربعمائة] بقصد أعمال علي تكين وأخذ بخارى وسمرقند وأمده بجيش كثيف فعبر جيحون وفتح من بلاد علي تكين ما أراد وانحاز علي تكين من بين يديه.
وأقام التونتاش بالبلاد التي فتحها فرأى دخلها لا يفي بما تحتاج عساكره لأنه كان يريد [أن] يكون في جمع كثير يمتنع بهم على الترك فكاتب مسعود في ذلك واستأذنه في العود إلى خوارزم فأذن له فلما عاد لحقه علي تكين على غزة وكبسه فانهزم علي تكين وصعد إلى قلعة دبوسية فحصره التونتاش وكاد يأخذه فراسله علي تكين واستعطفه وضرع إليه فرحل عنه وعاد إلى خوارزم.
وأصاب التونتاش في هذه الوقعة جراحة فلما عاد إلى خوارزم مرض منها وتوفي وخلف من الأولاد ثلاثة بنين هارون ورشيد، وإسماعيل،
504
فلما توفي ضبط البلد وزيره أبو نصر حمد بن محمد بن عبد الصمد وحفظ الخزائن وغيرها وأعلم مسعود الخبر فولى ابنه الأكبر هارون خوارزم وسيره إليها وكان عنده.
واتفق أن الميمندي وزير مسعود توفي فاستحضر أبا نصر بن محمد بن عبد الصمد واستوزره فاستتاب أبو نصر عند هارون ابنه عبد الجبار وجعله وزيره فجرى بينه وبين هارون منافرة أسرها هارون في نفسه وحسن له أصحابه القبض على عبد الجبار والعصيان على مسعود فأظهر العصيان في شهر رمضان سنة خمس وعشرين [وأربعمائة] وأراد قتل عبد الجبار فاختفى منه فقال أعداء أبيه للملك مسعود إن أبا نصر قد واطأ هارون على العصيان وانما اختفى ابنه حيلة ومكرا فاستوحش منه إلا أنه لم يظهر ذلك له.
وعزم مسعود على الخروج من غزنة إلى خوارزم فسار عن غزنة والزمان شتاء فلم يمكنه قصده خوارزم فسار إلى جرجان طالبا أنو شروان بن منوجهر ليقابله على ما ظهر منه عند اشتغال مسعود بقتال أحمد ينالتكين ببلاد الهند فلما كان ببلاد جرجان أتاه كتاب عبد الجبار بن أبي نصر بقتل هارون وإعادة البلد إلى طاعته، وكان عبد الجبار في بدء استتاره يعمل على قتل هارون ووضع جماعة من الفتك به فقتلوه عند خروجه إلى الصيد، وقام عبد الجبار بحفظ البلد.
فلما وقف مسعود على كتاب عبد الجبار علم أن الذي قيل عن أبيه كان باطلا فعاد إلى الثقة به وبقي عبد الجبار أياما يسيرة فوثب به غلمان هارون فقتلوه وولوا البلد إسماعيل بن التونتاش وقام بأمره شكر خادم أبيه وعصوا على مسعود فكتب مسعود إلى شاهملك بن علي أحد أصحاب الأطراف بنواحي خوارزم بقصد خوارزم وأخذها فسار إليها، فقاتله
505
شكر وإسماعيل، ومنعاه عن البلد فهزمهما وملك البلد فسار إلى طغرلبك وداود السلجقيين والتجآ إليهما وطلبا المعونة منهما فسار داود معهما إلى خوارزم فلقيهم شاهملك وقاتلهم فهزمهم؛ ولما جرى على مسعود من القتل ما جرى وملك مودود دخل شاهملك في طاعته وصافاه وتمسك كل واحد منهما بصاحبه.
ثم إن طغرلبك سار إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها وانهزم شاهملك بين يديه واستصحب أمواله وذخائره ومضى في المفازة إلى دهستان ثم انتقل عنها إلى طبس ثم إلى أطراف كرمان ثم إلى أعمال التيز و مكران فلما وصل إلى هناك علم خلاصه ببعده وأمن في نفسه فعرف خبره أرتاش أخو إبراهيم ينال وهو ابن عم طغرلبك فقصده في أربعة آلاف فارس فأوقع به وأسره وأخذ ما معه ثم عاد به فسلمه إلى داود وحصل هو بما غنم من أمواله وعاد بعد ذلك إلى باذغيس المقاربة لهراة وأقام على محاصرة هراة لأنهم إلى هذه الغاية كانوا مقيمين على الامتناع والاعتصام ببلدهم والثبات على طاعة مودود بن مسعود فقاتلهم أهل هراة وحفظوا بلدهم مع خراب سوادهم وإنما حملهم على ذلك الحرب خوفا من الغز.
ذكر قصد إبراهيم ينال همذان وما كان منه
قد ذكرنا خروج إبراهيم ينال من خراسان إلى الري واستيلاءه عليها فلما استقر أمرها سار عنها وملك البلاد المجاورة لها ثم انتقل إلى بروجرد
506
فملكها ثم قصد همذان وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة صاحبها ففارقها إلى سابور خواست ونزل إبراهيم ينال على همذان وأراد دخولها فقال له أهلها إن كنت تريد الطاعة وما يطلبه السلطان من الرعية فنحن باذلوه وداخلون تحته فاطلب أولا هذا المخالف عليك الذي كان عندنا يعنون كرشاسف فإنا لا نأمن عوده إلينا فإذا ملكته أو دفعته كنا لك.
فكف عنهم وسار إلى كرشاسف بعد أن أخذ من أهل البلد مالا فلما قارب سابور خواست صعد كرشاسف إلى القلعة فتحصن بها وحصر إبراهيم البلد فقاتله أهله خوفا من الغز فلم يكن لهم طاقة على دفعهم فملك البلد قهرا ونهب الغز أهله وفعلوا الأفاعيل القبيحة بهم ثم عادوا بما غنموه إلى الري فرأوا طغرلبك قد وردها ولما فارق إبراهيم والغز همذان نزل كرشاسف إليها فأقام بها إلى أن وصل طغرلبك إلى الري فسار إليه إبراهيم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر خروج طغرلبك إلى الري وملك بلد جديد
في هذه السنة خرج طغرلبك من خراسان إلى الري بعد فراغه من خوارزم وجرجان وطبرستان، فلما سمع أخوه إبراهيم ينال بقدومه سار إليه فلقيه وتسلم طغرلبك الري منه وتسلم غيرها من بلد الجبل وسار إبراهيم إلى سجستان وأخذ طغرلبك أيضا قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه وأقام عنده مكرما وأمر طغرلبك بعمارة الري وكانت قد خربت فوجد في دار
507
الإمارة مراكب ذهب مجوهرة وبرنيتي صيني مملوءة جوهرا ومالا كثيرا وغير ذلك.
وكان كامرو يهادي طغرلبك وهو بخراسان ويخدمه وخدم أخاه إبراهيم لما كان بالري فلما حضر عنده وأهدى له هدايا كثيرة من أنواع شتى وهو يظن أن طغرلبك يزيد في إقطاعه ويرعى له ما تقدم من خدمته له فخاب ظنه وقرر على ما بيده كل سنة سبعة وعشرين ألف دينار.
ثم سار إلى قزوين فامتنع عليه أهلها فزحف إليهم ورماهم بالسهام والحجارة فلم يقدروا على السور وقتل من أهل البلد برشق وأخذ ثلاثمائة وخمسين رجلا فلما رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملك البلد عنوة وينهب فمنعوا الناس من القتال وأصلحوا الحال على ثمانين ألف دينار وصار صاحبها في طاعته.
ثم إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز الذين تقدم خروجهم يمنيهم ويدعوهم إلى الحضور في خدمته فلما وصل رسوله إليهم ساروا حتى نزلوا على نهر بنواحي زنجان ثم أعادوا رسوله وقالوا له قل له قد علمنا أن غرضك أن تجمعنا لتفيض علينا والخوف منك أبعدنا عنك وقد نزلنا ههنا فإن أردتنا قصدنا خراسان أو الروم ولا تجتمع بك أبدا.
وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه مالا ففعل
508
ذلك، وحمل إليه مالا وعروضا وأرسل أيضا إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمته ويطالبه بحمل مائتي ألف دينار فاستقر الحال بينهما على الطاعة وشئ من المال وأرسل سرية إلى أصبهان وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة فأغارت على أعمالها وعادت سالمة.
وخرج طغرلبك من الري وأظهر قصد أصبهان فراسله فرامرز وصانعه بمال فعاد عنه وسار إلى همذان فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة وكان قد نزل إليه وهو بالري بعد أن راسله طغرلبك غير مرة وسار معه من الري إلى أبهروزنجان فأخذ منه همذان وتفرق أصحابه عنه وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور فأرسل إلى من بها بالتسليم فلم يفعلوا وقالوا لرسل طغرلبك قل لصاحبك والله لو قطعته قطعا ما سلمناها إليك فقال له طغرلبك ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك فاصعد إليهم وأقم معهم ولا تفارق موضعك حتى آذن لك.
ثم عاد إلى الري واستناب بهمذان ناصرا العلوي وكان كرشاسف قد قيض عليه فأخرجه طغرلبك وولاه الري وأمره بمساعدة من يجعله في البلد وكان معه مرداويج بن بسو نائبه في جرجان وطبرستان فمات وقام ولده جستان مقامه فسار طغرلبك إلى جرجان فعزل جستان عنها واستعمل على جرجان أسفار وهو من خواص منوجهر بن قابوس فلما فرغ أمر جرجان وطبرستان سار إلى دهستان فحصرها وبها صاحبها كاميار معتصما بها لحصانتها.
509
ذكر مسير عساكر طغرلبك إلى كرمان
وسير طغرلبك طائفة من أصحابه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال بعد أن دخل الري وقيل إن إبراهيم لم يقصد كرمان وإنما قصد سجستان وكان مقدم العساكر التي سارت إلى كرمان غيره فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نهبوا.
ولم يقدموا على التوغل فيها فلم يروا من العساكر من يكفهم فتوسطوها وملكوا عدة مواضع منها ونهبوها فبلغ الخبر إلى الملك أبي كاليجار صاحبها فسير وزيره مهذب الدولة في العساكر الكثيرة وأمر بالجد في المسير ليدركهم قبل أن يملكوا جيرفت وكانوا يحاصرونها فطوى المراحل حتى قاربهم فرحلوا عن جيرفت ونزلوا على ستة فراسخ منها.
وجاء مهذب الدولة فنزلها وارسل ليحمل الميرة إلى العسكر فخرجت الغز إلى الجمال والبغال والميرة ليأخذوها وسمع مهذب الدولة ذلك فسير طائفة من العسكر لمنعهم فتواقعوا واقتتلوا وتكاثر الغز فسمع مهذب الدولة الخبر فسار في العساكر إلى المعركة وهم يقتتلون وقد ثبتت كل طائفة لصاحبها واشتد القتال إلى حد أن بعض الغز رمى فرس بعض أصحاب أبي كاليجار بسهم فوقع فيه وطعنه صاحب الفرس برمح فأصاب فرس الغزي وحمل الغزي على صاحب الفرس فضربه ضربة قطعت يده وحمل عليه صاحب الفرس وهو على هذه الحالة فضربه بسيفه فقطعه قطعتين
510
وسقطا إلى الأرض قتيلين والفرسان قتيلين، وهذه حالة لم يدون على مقدمي الشجعان أحسن منها.
فلما وصل مهذب الدولة إلى المعركة انهزم الغز وتركوا ما كانوا ينهبونه ودخلوا المفازة وتبعهم الديلم إلى رأس الحد وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسد منها.
ذكر الوحشة بين القائم بأمر الله أمير المؤمنين وجلال الدولة
في هذه السنة افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد فأنفذ الملك جلال الدولة فأخذ ما تحصل منها وكانت العادة أن يحمل ما يحصل منها إلى الخلفاء لا تعارضهم فيها الملوك فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله واشتد عليه وأرسل مع أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي في ذلك وتكررت الرسائل فلم يصنع جلال الدولة لذلك وأخذ الجوالي فجمع الخليفة الهاشميين بالدار والرجالة وتقدم بإصلاح الطيار والزبازب وأرسل إلى أصحاب الأطراف والقضاة بما عزم عليه وأظهر العزم على مفارقة بغداد فلم يتم ذلك وحدثت وحشة من الجهتين فاقتضت الحال أن الملك يترك معارضة النواب الإمامية فيها في السنة الآتية.
511
ذكر محاصرة شهرزور وغيرها
في هذه السنة سار أبو الشوك إلى شهرزور فحصرها ونهبها وأحرقها وخرب قراها وسوادها وحصر قلعة تيرانشاه فدفعه أبو القاسم بن عياض عنها ووعده أن يخلص ولده أبا الفتح من أخيه مهلهل وأن يصلح بينهما.
وكان مهلهل قد سار من شهرزور لما بلغه أن أخاه أبا الشوك يريد قصدها وقصد نواحي سندة وغيرها من ولايات أبي الشوك فنهبها وأحرقها وهلكت الرعية في الجهتين.
ثم إن أبا الشوك راسل أبا القاسم بن عياض يستنجزه ما وعده به من تخليص ولده والشروط التي تقررت بينهما فاجابه بأن مهلهلا غير مجيب إليه فعند ذلك سار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان ونهبها ونهب الولاية التي لمهلهل جميعها فانزاح مهلهل من بين يديه وترددت الرسل بينهما فاصطلحا على دغل ودخل وعاد أبو الشوك.
512
ذكر خروج سكين بمصر
في هذه السنة في رجب خرج بمصر إنسان اسمه سكين كان يشبه الحاكم صاحب مصر فادعى أنه الحاكم وقد رجع بعد موته فاتبعه جمع ممن يعتقد رجعة الحاكم فاغتنموا خلو دار الخليفة بمصر من الجند وقصدوها مع سكين نصف النهار فدخلوا الدهليز فوثب من هناك من الجند فقال لهم أصحابه إنه الحاكم فارتاعوا لذلك ثم ارتابوا به فقبضوا على سكين ووقع الصوت واقتتلوا فتراجع الجند إلى القصر والحرب قائمة فقتل من أصحابه جماعة، وأسر الباقون وصلبوا أحياء، ورماهم الجند بالنشاب حتى ماتوا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز هدمت قلعتها وسورها ودورها وأسواقها وأكثر دار الإمارة وسلم الأمير لأنه كان في بعض البساتين فأحصى من هلك من أهل البلد فكانوا قريبا من خمسين ألفا، ولبس الأمير السواد والمسوح لعظم المصيبة وعزم على الصعود إلى بعض قلاعه خوفا من توجه الغز السلجوقية إليه وأخبر بذلك أبو جعفر بن الرقي العلوي النقيب بالموصل.
513
وفيها قتل قرواش كاتبه أبا الفتح بن المفرج صبرا.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد أبو ذر الهروي الحافظ أقام بمكة وتزوج من العرب وأقام بالسروات وكان يحج كل سنة يحدث في الموسم ويعود إلى أهله وصحب القاضي أبا بكر البقلاني.
وفيها توفي عمر بن إبراهيم بن سعيد الزهري من ولد سعد بن أبي وقاص وكان فقيها شافعيا.
514
435
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة
ذكر إخراج المسلمين والنصارى الغرباء من القسطنطينية
في هذه السنة أخرج ملك الروم الغرباء من المسلمين والنصارى وسائر الأنواع من القسطنطينية.
وسبب ذلك أنه وقع الخبر بالقسطنطينية أن قسطنطين قتل ابنتي الملك المتقدم اللتين قد صار الملك فيهما الآن فاجتمع أهل البلد وأثاروا الفتنة وطمعوا في النهب فأشرف عليهم قسطنطين وسألهم عن السبب في ذلك فقالوا قتلت الملكتين وأفسدت الملك فقال ما قتلتهما وأخرجهما حتى رآهما الناس فسكنوا.
ثم إنه سأل عن سبب ذلك فقيل له إنه فعل الغرباء وأشاروا بإبعادهم وأمر فنودي أن لا يقيم أحد ورد البلد منذ ثلاثين سنة فمن أقام بعد ثلاثة أيام كحل فخرج منها أكثر من مائة ألف إنسان ولم يبق بها أكثر من اثني عشر نفسا ضمنهم الروم فتركهم.
515
ذكر وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار
في هذه السنة في سادس شعبان توفي الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد وكان مرضه ورما في كبده وبقي عدة أيام مريضا وتوفي وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهرا ودفن بداره ومن علم سيرته وضعفه واستيلاء الجند والنواب عليه ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن الله على كل شيء قدير يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وكان يزور الصالحين ويقرب منهم وزار مرة مشهدي علي والحسين عليهما السلام وكان يمشي حافيا قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ يفعل ذلك تدينا.
ولما توفي انتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحاب الملك الأكابر إلى باب المراتب وحريم دار الخلافة خوفا من نهب الأتراك والعامة دورهم فاجتمع قواد العسكر تحت دار المملكة ومنعوا الناس من نهبها.
ولما توفي كان ولده الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط على عادته فكاتبه الأجناد بالطاعة وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حق البيعة فترددت المراسلات بينهما في مقداره وتأخيره لفقده.
وبلغ موته إلى الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة فكاتب القواد والأجناد ورغبهم في المال وكثرته وتعجيله فمالوا إليه وعدلوا
516
عن الملك العزيز.
وأما الملك العزيز فإنه أصعد إلى بغداد لما قرب الملك أبو كاليجار منها على ما نذكره سنة ست وثلاثين [وأربعمائة]، عازما على قصد بغداد ومعه عسكره فلما بلغ النعمانية غدر به عسكره ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار فلما رأى ذلك مضى إلى نور الدلة دبيس بن مزيد لأنه بلغه ميل جند بغداد إلى أبي كاليجار وسار من عند دبيس إلى قرواش بن المقلد فاجتمع به بقربه خصة من أعمال بغداد وسار معه إلى الموصل ثم فارقه وقصد أبا الشوك لأنه حموه فلما وصل إلى أبي الشوك غدر به وألزمه بطلاق ابنته ففعل وصار عنه إلى إبراهيم ينال أخي طغرلبك وتنقلت به الأحوال حتى قدم بغداد في نفر يسير عازما على استمالة العسكر وأخذ الملك فثار به أصحاب الملك أبي كاليجار فقتل بعض من عنده وسار هو مختفيا فقصد نصر الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين وحمل إلى بغداد ودفن عند أبيه بمقابر قريش في
مشهد باب التبن سنة إحدى وأربعين [وأربعمائة].
وقد ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي أنه آخر ملوك بني بويه وليس كذلك فإنه ملك بعده أبو كاليجار ثم الملك الرحيم بن أبي كاليجار وهو آخرهم على ما تراه.
وأما الملك أبو كاليجار فلم تزل الرسل تتردد بينه وبين عسكر بغداد حتى استقر الأمر له وحلفوا وخطبوا له ببغداد في صفر من سنة ست وثلاثين وأربعمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
517
ذكر حال أبي الفتح مودود بن مسعود
بن محمود بن سبكتكين
في هذه السنة سير الملك أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرا مع حاجب له إلى نواحي خراسان فأرسل إليهم داود أخو طغرلبك وهو صاحب خراسان ولده ألب أرسلان في عسكر فالتقوا واقتتلوا فكان الظفر للملك ألب أرسلان وعاد عسكر غزنة منهزما.
وفيها أيضا في صفر سار جمع من الغز إلى نوحي بست وفعلوا ما عرف منهم من النهب والشر فسير إليهم أبو الفتح مودود عسكرا فالتقوا بولاية بست واقتتلوا قتالا شديدا انهزم الغز فيه وظفر عسكر مودود وأكثروا فيهم القتل والأسر.
ذكر ملك مودود عدة حصون من بلد الهند
في هذه السنة اجتمع ثلاثة ملوك من ملوك الهند وقصدوا لهاوور وحصروها فجمع مقدم العساكر الإسلامية بتلك الديار من عنده منهم وأرسل إلى صاحبه مودود يستنجده فسير إليه العساكر.
فاتفق أن بعض أولئك الملوك فارقهم وعاد إلى طاعة مودود فرحل المكان الآخران إلى بلادهما فسارت العساكر الإسلامية إلى أحدهما ويعرف بدوبال هرباته فانهزم منهم وصعد إلى قلعة له منيعة هو وعساكره فاحتموا
518
بها، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل وحصرهم المسلمون وضيقوا عليهم وأكثروا القتل فيهم فطلب الهنود الأمان على تسليم الحصن فامتنع المسلمون من إجابتهم إلى ذلك إلا بعد أن يضيقوا إليه باقي حصون ذلك الملك الذي لهم فحملهم الخوف وعدم الأقوات على إجابتهم إلى ما طلبوا وتسلموا الجميع وغنم المسلمون الأموال وأطلقوا ما في الحصون من أسرى المسلمين وكانوا نحو خمسة آلاف نفر.
فلما فرغوا من هذه الناحية قصدوا ولاية الملك الثاني واسمه ثابت بالري فتقدم إليهم ولقيهم فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزمت الهنود وأجلت المعركة عن قتل ملكهم وخمسة آلاف قتيل وجريح وأسر ضعفاؤهم وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ودوابهم فلما رأى باقي الملوك من الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعة وحملوا الأموال وطلبوا الأمان والإقرار على بلادهم فأجيبوا إلى ذلك.
ذكر الخلف بين الملك أبي كاليجار
وفرامرز بن علاء الدولة
في هذه السنة نكث الأمير أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة بن كاكويه صاحب أصبهان العهد الذي بينه وبين الملك أبي كاليجار وسير عسكرا إلى نواحي كرمان فملكوه منها حصنين وغنموا ما فيها.
519
فأرسل الملك أبو كاليجار إليه في إعادتهما وإزالة الاعتراض عنهما فلم يفعل فجهز عسكرا وسيره إلى أبرقوه فحصرها وملكها فانزعج فرامرز لذلك وجهز عسكرا كثيرا وسيره إليهم فسمع الملك أبو كاليجار بذلك فسير عسكرا ثانيا مددا لعسكره الأول والتقى العسكران فاقتتلوا وصبروا ثم انهزم عسكر أصبهان وأسر مقدمهم الأمير إسحاق بن ينال واسترد نواب أبي كاليجار ما كانوا أخذوه من كرمان.
ذكر أخبار الترك بما وراء النهر
في هذه السنة في صفر أسلم من كفار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر ويغيرون ويعينون عشرة آلاف خركاة وضحوا يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس غنم وكفى الله المسلمين شرهم.
وكانوا يضيفون بنواحي بلغار ويشتون بنواحي بلاساغون فلما أسلموا تفرقوا في البلاد فكان في كل ناحية ألف خركاة وأقل وأكثر لأمنهم فإنهم إنما كانوا يجتمعون ليحمي بعضهم بعضا من المسلمين وبقي من الأتراك من لم يسلم تتر وخطا وهم بنواحي الصين.
وكان صاحب بلاساغون وبلاد الترك شرف الدولة وفيه دين وقد قنع من إخوته وأقاربه بالطاعة وقسم البلاد بينهم فأعطي أخاه أصلان تكين
520
كثيرا من بلاد الترك وأعطى أخاه بغراخان طراز وأسبيجاب وأعطى عمه طغاخان فرعانة بأسرها وأعطى ابن علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما وقنع هو ببلاساغون وكاشغر.
ذكر أخبار الروم والقسطنطينية
في هذه السنة في صفر أيضا ورد إلى القسطنطينية عدد كثير من الروس في البحر وراسلوا قسطنطين ملك الروم بما لم تجربه عادتهم فاجتمعت الروم على حربهم وكان بعضهم قد فارق المراكب إلى البر وبعضهم فيها فألقى الروم في مراكبهم النار فلم يهتدوا إلى إطفائها فهلك كثير منهم بالحرق والغرق وأما الذين على البر فقاتلوا وأبلوا
وصبروا ثم انهزموا فلم يكن لهم ملجأ فمن استسلم أولا استرق وسلم ومن امتنع حتى أخذ قهرا قطع الروم أيمانهم وطيف بهم في البلد ولم يسلم منهم إلا اليسير مع ابن ملك الروسية وكفى الروم شرهم.
ذكر طاعة المعز بإفريقية للقائم بأمر الله
في هذه السنة أظهر المعز ببلاد إفريقية الدعاء للدولة العباسية وخطب للإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين ووردت عليه الخلع والتقليد ببلاد إفريقية وجميع ما يفتحه وفي أول الكتاب الذي مع الرسل من عبد الله ووليه أبي
521
جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد ثقة الإسلام وشرف الإمام وعمدة الأنام ناصر دين الله قاهر أعداء الله ومؤيد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي تميم المعز بن باديس بن المنصور ولي أمير المؤمنين بولاية جميع المغرب وما افتتحه بسيف أمير المؤمنين وهو طويل.
وأرسل إليه سيف وفرس وأعلام على طريق القسطنطينية فوصل ذلك يوم الجمعة فدخل به الجامع والخطيب ابن الفاكاة على المنبر يخطب الخطبة الثانية فدخلت الأعلام فقال هذا لواء الحمد يجمعكم وهذا معز الدين يسمعكم وأستغفر الله لي ولكم وقطعت الخطبة للعلويين من ذلك الوقت وأحرقت أعلامهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة جرت حرب بين ابن الهيثم صاحب البطيحة وبين الأجناد من الغز والديلم فأحرق الجامدة وغيرها وخطب الجند لملك أبي كاليجار.
وفيها أرسل الخليفة القائم بأمر الله أقضى القضاة أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي إلى السلطان طغرلبك قبل وفاة جلال الدولة وأمره أن يقرر الصلح بين طغرلبك والملك جلال الدولة وأبي كاليجار فسار إليه وهو بجرجان فلقيه طغرلبك على أربعة فراسخ إجلالا لرسالة الخليفة وعاد الماوردي سنة ست وثلاثين [وأربعمائة] وأخبر عن طاعة طغرلبك للخليفة وتعظيمه لأوامره ووقوفه عنده.
522
وفيها توفي عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم بن أبي الفتح الأزهري الصيرفي المعروف بابن السواري شيخ الخطباء أبي بكر وكان إماما في الحديث ومن تلامذته الخطيب البغدادي.
523
436
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة
ذكر قتل الإسماعيلية بما وراء النهر
في هذه السنة أوقع بغراخان صاحب ما وراء النهر بجمع كثير من الإسماعيلية.
وكان سبب ذلك أن نفرا منهم قصدوا ما وراء النهر ودعوا إلى طاعة المستنصر بالله العلوي صاحب مصر فتبعهم جمع كثير وأظهروا مذاهب أنكرها أهل تلك البلاد.
وسمع ملكها بغراخان خبرهم وأراد الإيقاع بهم فخاف أن يسلم منه بعض من أجابهم أهل تلك البلاد فأظهر لبعضهم أنه يميل إليهم ويريد الدخول في مذاهبهم وأعلمهم ذلك وأحضرهم مجالسه ولم يزل حتى علم جميع من أجابهم إلى مقالتهم فحينئذ قتل من بحضرته منهم وكتب إلى سائر البلاد بقتل من فيها ففعل بهم ما أمر وسلمت تلك البلاد منهم.
ذكر الخطبة للملك أبي كاليجار وإصعاده إلى بغداد
قد ذكرنا لما توفي الملك خلال الدولة ما كان من مراسلة الجند الملك أبا كاليجار والخطبة له فلما استقرت القواعد بينه وبينهم أرسل أموالا فرقت
524
على الجند ببغداد، وعلى أولادهم وأرسل عشرة آلاف دينار للخليفة ومعها هدايا كثيرة فخطب له ببغداد في صفر وخطب له أيضا أبو الشوك في بلاده ودبيس بن مزيد ببلاده ونصر الدولة بن مروان بديار بكر ولقبه الخليفة محي الدين وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه لئلا تخافه الأتراك فلما وصل إلى النعمانية لقيه دبيس بن مزيد ومضى إلى زيارة المشهدين بالكوفة وكربلاء ودخل إلى بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره ذو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس ووعده الخليفة القائم بأمر الله أن يستقبله فاستعفى من ذلك وأخرج عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم وأخاه كمال الملك وزيري جلال الدولة من بغداد قضى أبو سعد إلى تكريت وزينت بغداد لقدومه وأمر فخلع على أصحاب الجيوش وهم البساسيري والنشاووري والهمام أبو اللقاء وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير فشغب بعضهم وقتلوا واحدا من ولاة العرض بمرأى من الملك أبي كاليجار فنزل في سميرية بكنكور وانحدر خوفا من انخراق الهيبة وأصعد بفم الصلح.
وفي رمضان منها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر والمستنصر الخليفتين وكان فيه كفاية وشهامة وأمانة وصلى عليه المستنصر بالله.
525
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة نزل الأمير أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة من كنكور وقصد همذان فملكها وأزاح عنها نواب السلطان طغرلبك وخطب للملك أبي كاليجار وصار في طاعته.
وفيها أمر الملك أبو كاليجار ببناء سور مدينة شيراز فبني وأحكم بناؤه وكان دوره اثني عشر ألف ذراع وعرضه ثمانية أذرع وله أحد عشر بابا وفرغ منه سنة أربعين وأربعمائة.
وفيها نقل تابوت جلال الدولة من داره إلى مشهد باب التبن إلى تربة له هناك.
وفيها استوزر السلطان طغرلبك وزيره أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني وهو أول وزير وزر له ثم وزر له بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين بن علي بن ميكائيل ثم وزر له بعده نظام الملك أبو محمد الحسن بن محمد الدهستاني وهو أول من لقب نظام الملك ثم وزر له بعده عميد الملك الكندري وهو أشهرهم وإنما اشتهر لأن طغرلبك في أيامه عظمت دولته ووصل إلى العراق وخطب له بالسلطنة وسيرد من أخباره ما فيه الكفاية فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا.
وفيها توفي الشريف المرتضى أبو القاسم علي أخو الرضى في آخر ربيع الأول ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولي نقابة العلويين بعده أبو أحمد عدنان ابن أخيه الرضى.
526
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري وهو شيخ أصحاب أبي حنيفة في زمانه ومن جملة تلامذته القاضي أبو عبد الله الدامغاني ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وولي بعده قضاء الكرخ القاضي أبو الطيب الطبري مضافا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن عبد الوهاب بن منصور بن المشتري قاضي خوزستان وفارس وكان شافعي المذهب.
وفيها أيضا توفي أبو الحسين محمد بن علي البصري المتكلم صاحب التصانيف المشهورة.
527
437
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة
ذكر وصول إبراهيم ينال إلى همذان وبلد الجبل
في هذه السنة أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلد الجبل وملكها فسار إليها من كرمان وقصد همذان وبها كرشاسف بن علاء الدولة ففارقها خوفا ودخلها ينال فملكها والتحق كرشاسف بالأكراد الجوزقان.
وكان أبو الشوك حينئذ بالدينور فسار عنها إلى قرميسين خوفا وإشفاقا من ينال فقوي طمع ينال حينئذ في البلاد وسار إلى الدينور فملكها ورتب أمورها وسار منها يطلب قرميسين.
فلما سمع أبو الشوك به سار إلى حلوان وترك بقرميسين من في عسكره من الديلم والأكراد الشاذنجان ليمنعوها ويحفظوها ووافاهم ينال جريدة فقاتلوه فدفعوه عنها فانصرف عنهم وعاد بخركاهاته وحلله فقاتلوه فضعفوا عنه وعجزوا عن منعه فملك البلد في رجب عنوة وقتل من العساكر جماعة كثيرة وأخذ أموال من سلم من القتل وسلاحهم وطردهم ولحقوا بأبي الشوك ونهب البلد وقتل وسبى كثيرا من أهله.
528
ولما سمه أبو الشوك ذلك سير أهله وأمواله وسلاحه من حلوان إلى قلعة السيروان وأقام جريدة في عسكره ثم ان ينال سار إلى الصيمرة في شعبان فملكها ونهبها وأوقع بالأكراد المجاورين لها من الجوزقان فانهزموا، وكان كرشاسف بن علاء الدولة نازلا عندهم فسار هو وهم إلى شهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين.
ثم إن إبراهيم ينال سار إلى حلوان وقد فارقها أبو الشوك ولحق بقلعة السيروان فوصل إليها إبراهيم آخر شعبان وقد جلا أهلها عنها وتفرقوا في البلاد فهبها وأحرقها وأحرق دار أبي الشوك وانصرف بعد أن احتاجها ودرسها.
وتوجه طائفة من الغز إلى خانقين في إثر جماعة من أهل حلوان كانوا ساروا بأهليهم وأولادهم وأموالهم فأدركوهم وظفروا بهم وغنموا ما معهم وانتشر الغز في تلك النواحي فبلغوا مايدشت وما يليها فنهبوها وأغاروا عليها.
سمع الملك أبو كاليجار هذه الأخبار أزعجته وأقلقته وكان بخوزستان فعزم على المسير ودفع ينال ومن معه من الغز عن البلاد فأمر عساكره بالتجهز للسفر إليهم فعجزوا عن الحركة لكثرة ما مات من دوابهم فلما تحقق ذلك سار نحو بلاد فارس فحمل العسكر أثقالهم على الحمير.
529
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة في المحرم خطب للملك أبي كاليجار بأصبهان وأعمالها وعاد الأمير أبو منصور بن علاء الدولة إلى طاعته.
وكان وسبب ذلك أنه لما عصى على الملك أبي كاليجار وقصد كرمان على ما ذكرناه والتجأ إلى طاعة طغرلبك لم يبلغ ما كان يؤمله من طغرلبك فلما عاد طغرلبك إلى خراسان خاف أبو منصور من الملك أبي كاليجار فراسله في العود إلى طاعته فأجابه إلى ذلك واصطلحا.
وفيها اصطلح أبو الشوك وأخوه مهلهل، وكانا متقاطعين من حين أسر مهلهل أبا الفتح بن أبي الشوك وموت أبي الفتح في سجنه فلما كان الآن وخافا من الغز تراسلا في الصلح واعتذر مهلهل وأرسل ولده أبا الغنائم إلى أبي الشوك وحلف له أن أبا الفتح توفي حتف أنفه من غير قتل، وقال هذا ولدي تقتله عوضه فرضي أبو الشوك وأحسن إلى أبي الغنائم ورده إلى أبيه واصطلحا واتفقا.
وفيها في جمادى الأولى خلع الخليفة على أبي القاسم علي بن الحسن بن المسلمة واستوزره ولقبه رئيس الرؤساء وهو ابتداء حاله.
وكان السبب في ذلك أن ذا السعادات بن فسانجس وزير الملك أبي كاليجار كان يسيء الرأي في عميد الرؤساء وزير الخليفة فطلب من الخليفة أن يعز فعزله واستوزر رئيس الرؤساء نيابة ثم خلع عليه وجلس في الدست.
وفيها في شعبان سار سرخاب بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى
530
البندنيجين وبها سعدي بن أبي الشوك ففارقها سعدي ولحق بأبيه ونهب سرخاب بعضها وكان أبو الشوك قد أخلد بلد سرخاب ما عدا دزديلوية وهما متباينان لذلك.
وفيها في آخر رمضان توفي أبو الشوك فارس بن محمد بن عناز بقلعة السيروان وكان مرض لما سار إلى السيروان من حلوان ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي وصاروا مع عمه مهلهل فعند ذلك مضى سعدي إلى إبراهيم ينال وأتى بالغز على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها قتل عيسى بن موسى الهذباني صاحب أربل وكان خرج إلى الصيد فقتله ابنا أخ له وسارا إلى قلعة أربل فملكاها؛ وكان سلار بن موسى أخو المقتول نازلا على قرواش بن المقلد صاحب لنفرة كانت بينه وبين أخيه فلما قتل سار قرواش مع السلار إلى أربل فملكها وسلمها إلى السلار وعاد قرواش إلى الموصل.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة وقتال اشتد قتل فيه جماعة.
وفيها وقع البلاء والوباء في الخيل فهلك من عسكر الملك أبي كاليجار اثنا عشر ألف فرس وعم ذلك البلاد وفيها توفي علي بن محمد بن نصر أبو الحسن الكاتب بواسط صاحب الرسائل المشهورة.
531
438
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة
ذكر ملك مهلهل قرميسين والدينور
في هذه السنة ملك مهلهل بن محمد بن عناز مدينة قرميسين والدينور وسبب ذلك أن إبراهيم ينال كان قد استعمل عند عوده من حلوان على قرميسين بدر بن طاهر بن هلال فلما ملك مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك سار إلى مايدشت ونزل بها ثم توجه نحو قرميسين فانصرف عنها بدر فملكها مهلهل وسير ابنه محمدا إلى الدينور وبها عساكر ينال فاقتتلوا فقتل بين الفريقين جماعة وانهزم أصحاب ينال وملك محمد البلد.
ذكر اتصال سعدي بن أبي الشوك
بإبراهيم ينال وما كان منه
في هذه السنة في شهر ربيع الأول فارق سعدي بن أبي الشوك عمه مهلهلا ولحق بإبراهيم ينال فصار معه.
532
وسبب ذلك أن عمه تزوج أمه وأهمل جانبه واحتقره وكذلك أيضا قصر في مراعاة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي إبراهيم ينال في اللحاق به فأذن له في ذلك ووعده أن يملكه ما كان لأبيه مشار إليه في جماعة من الأكراد الشاذنجان فقوي بهم فأكرمه ينال وضم إليه جمعا من الغز وسيره إلى حلوان فملكها وخطب فيها لإبراهيم ينال في شهر ربيع الأول وأقام بها أياما ورجع إلى مايدشت فسار عمه مهلهل إلى حلوان فملكها وقطع منها خطبة ينال.
فلما سمع سعدي بذلك سار إلى حلوان ففارقها عمه مهلهل إلى ناحية بلوطة وملك سعدي حلوان وسار إلى عمه سرخاب فكبسه ونهب ما كان معه وسير جمعا إلى البندنيجين فاستولوا عليها وقبضوا على نائب سرخاب بها ونهبوا بعضها وانهزم سرخاب فصعد إلى قلعة دزديلوية ثم عاد سعدي إلى قرميسين فسير عمه مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها فجمع سعدي وأكثر وعاد إلى حلوان ففارقها من كان بها من أصحاب عمه إلا من كان بالقلعة وملكها سعدي وكان قد صحبه كثير من الغز فسار بهم منها إلى عمه مهلهل وترك بها من يحفظها فلما علم عمه بقربه منه سار بين يديه إلى قلعة تيرانشاه بقرب شهرزور فاحتمى بها، وملك الغز كثيرا من النواحي والمواشي وغنموا كثيرا من الأموال والدواب.
فلما رأى سعدي تحصن عمه منه خاف على من خلفه بحلوان فعاد عازما على محاصرة القلعة فمضى وحصرها وقاتله من بها من أصحاب عمه ونهب الغز حلوان وفتكوا فيها وافتضوا الأبكار وأحرقوا المساكن وتفرق الناس وفعلوا في تلك النواحي جميعها أقبح فعل.
533
ولما سمع أصحاب الملك أبي كاليجار ووزيره هذه الأخبار ندبوا العساكر إلى الخروج إلى مهلهل ومساعدته إلى ابن أخيه ودفعه عن هذه الأعمال فلم يفعلوا.
ثم إن سعدي أقطع أبا الفتح بن ورام البندنيجين واتفقا واجتمعا على قصد عمه سرخاب بن محمد بن عناز وحصره بقلعة دزديلوية فسار فيمن معهما من العساكر فلما قاربوا القلعة في مضيق هناك من غير أن يجعلوا لهم طليعة طمعا فيه وإدلالا بقوتهم وكان سرخاب قد جعل على رأس الجبل على فم المضيق جمعا من الأكراد فلما دخلوا المضيق لقيهم سرخاب وكان قد نزل من القلعة فاقتتلوا وعادوا ليخرجوا من المضيق فتقطرت بهم خيلهم فسقطوا عنها ورماهم الأكراد الذين على الجبل فوهنوا وأسر سعدي وأبو الفتح بن ورام وغيرهما من الرؤوس وتفرق الغز والأكراد من تلك النواحي بعد أن كانوا قد توطنوها وملكوها.
ذكر حصار طغرلبك أصبهان
في هذه السنة حصر طغرلبك مدينة أصبهان وبها صاحبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة فضيق عليه ولم يظفر من البلد بطائل ثم اصطلحوا على مال يحمله فرامرز بن علاء الدولة لطغرلبك وخطب له بأصبهان وأعمالها.
534
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة خرج من الترك من بلد التبت خلق لا يحصون كثرة فراسلوا أرسلان خان صاحب بلاساغون يشكرونه على حسن سيرته في رعيته ولم يكن منهم تعرض إلى مملكته ولكنهم أقاموا بها وراسلهم ودعاهم إلا الإسلام فلم يجيبوا ولم ينفروا منه.
وفيها توفي أبو الحسن الخيشي النحوي في ذي الحجة وله نيف وتسعون سنة.
وفيها انحدر علاء الدين أبو الغنائم بن الوزير ذي السعادات إلى البطائح وحصرها وبها صاحبها أبو نصر بن الهيثم وضيق عليه واجتمع مع جمع كثير.
وفيها في ذي القعدة توفي عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين أبي المعالي وكان إماما في الشافعية تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي وكان عالما بالأدب وغيره من العلوم وهو من بني سنبس بطن من طيء.
535
439
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
ذكر صلح الملك أبي كاليجار والسلطان طغرلبك
في هذه السنة أرسل الملك أبو كاليجار إلى السلطان ركن الدين طغرلبك في الصلح فأجابه إليه واصطلحا وكتب طغرلبك إلى أخيه ينال يأمره بالكف عما وراء ما بيده واستقر الحال بينهما أن يتزوج طغرلبك بابنة أبي كاليجار ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك وجرى القعد في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر القبض على سرخاب أخي أبي الشوك
في هذه السنة قبض الأتراك الليرة وجماعة من عسكر سرخاب عليه لأنه أساء السيرة معهم ووترهم فقبضوا عليه وحملوه إلى إبراهيم ينال فقلع إحدى عينيه وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فلم يفعل.
536
وكان أبو العسكر بن سرخاب قد غاضبه لما قبض على سعدي واعتزله كراهية لفعله فلما أسر أبوه سرخاب سار إلى القلعة وأخرج سعدي ابن عمه وفك قيوده وأحسن إليه وأطلقه وأخذ عليه بطرح ما مضى والسعي في خلاص والده سرخاب فسار سعدي واجتمع عليه خلق كثير من الأكراد ووصل إلى إبراهيم ينال فلم يجده عند الذي أراد ففارقه وعاد إلى الدسكرة وكاتب الخليفة نواب الملك أبي كاليجار بالعود إلى الطاعة وأقام بها.
ذكر ملك إبراهيم ينال قلعة كنكور وغيرها
في هذه السنة سار إبراهيم ينال إلى قلعة كنكور وبها عكبر بن فارس صاحب كرشاسف إلى علاء الدولة يحفظها له فامتنع عكبر بها إلى أن فنية ذخائره وكانت قليلة فلما نفذت الذخائر عمد إلى بيوت الطعام التي في القلعة وملأها ترابا وحجارة وسد أبوابها ونثر من داخل الأبواب شيئا من طعام وعلى رأس التراب والحجارة كذلك أيضا وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه على أن يؤمنه على من بها من الرجال وما بها من الأموال فأرسل عليه إبراهيم يمتنع عليه من ترك المال فأخذ عكبر رسول إبراهيم فطوفه على البيوت التي فيها الطعام وفتح مواضع من المسدود فرآها مملوءة فظنها طعاما وقال له عكبر ما راسلت صاحبك خوفا من المطاولة ولا إشفاقا من نفاذ الميرة لكنني أحببت الدخول في طاعته فإن بذل لي الأمان على مل طلبته لي وللأمير كرشاسف وأمواله ولمن بالقلعة سلمت إليه وكفيته مؤنة المقام.
فلما عاد الرسول إلى إبراهيم وأخبره أجابه إلى ما طلب ونزل عكبر،
537
وتسلمها إبراهيم فلما صعد إلى القلعة انكشفت الحيلة وسار عكبر بمن معه إلى قلعة سرماج وصعد إليها.
ولما ملك ينال كنكور عاد إلى همذان فسير جيشا لأخذ قلاع سرخاب واستعمل عليهم نسيبا له اسمه احمد وسلم إليه سرخابا ليفتح به قلاعه فسار به إلى قلعة كلكان فامتنعت عليه فساروا إلى قلعة دزديلوية فحصروها وامتدت طائفة منهم إلى البندنيجين فنهبوها في جمادى الآخرة وفعلوا الأفاعيل القبيحة من النهب والقتل وافتراش النساء والعقوبة على تخليص الأموال فمات منهم جماعة لشدة الضرب.
وسارت طائفة منهم إلى أبي الفتح بن ورام فانصرف عنهم خوفا منهم وترك حلله بحالها وقصد أن يشغلوا بنهب حلله فيعود عليهم فلم يعرجوا على النهب وتبعوه فلشدة خوفه أن يظفروا به ويأخذوه قاتلهم فظفر بهم وقتل وأسر جماعة منهم وغنم ما معهم ورجع الباقون، وأرسل إلى بغداد يطلب نجدة خوفا من عودهم فلم ينجدوه لعدم الهيبة وقلة إمساك الأمر فعبر بنو ورام دجلة إلى الجانب الغربي.
ثم إن الغز أسروا إلى سعدي بن أبي الشوك في رجب وهو نازل على فرسخين من باجسرى وكبسوه فانهزم هو ومن معه لا يلوي الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده فقتل منهم خلق كثير وغنم الغز أموالهم ونهبوا تلك الأعمال، وكان سعدي قد أنزل مالا من قلعة السيروان فوصله تلك الليلة فغنمه الغز إلا قليلا منه سلم معه ونجا سعدي من الوقعة بجريعة الذقن ونهب الغز الدسكرة وباجسرى والهارونية وقصر سابور وجميع تلك الأعمال.
ووصل الخبر إلى بغداد بأن إبراهيم ينال عازم على قصد بغداد فارتاع
538
الناس واجتمع الأمراء وقواد إلى الأمير أبي منصور بن الملك أبي كاليجار ليجتمعوا ويسيروا إليه ويمنعوه واتفقوا على ذلك فلم يخرج غير خيم الأمير أبي منصور والوزير ونفر يسير وتخلف الباقون وهلك من أهل تلك النواحي خلق كثير فمنهم من قتل ومنهم من غرق ومنهم من قتله البرد.
ووصل سعدي إلى ديالى ثم سار منها إلى أبي الأغر دبيس بن مزيد فأقام عنده ثم إن إبراهيم ينال سار إلى السيروان فحصر القلعة وضيق على من بها وأرسل سرية نهبت البلاد وانتهت إلى مكان بينه وبين تكريت عشرة فراسخ ودخل بغداد من أهل طريق خراسان خلق كثير وذكروا من حالهم ما أبكى العيون ثم سلمها إليه مستحفظها بعد أن أمنه على نفسه وماله وأخذ منها ينال من بقايا خلفه سعدي شيئا كثيرا ولما فتحها استخلف فيها مقدما كبيرا من أصحابه يقال له سخت كمان وانصرف إلى حلوان وعاد منها إلى همذان ومعه بدر ومالك ابنا مهلهل فأكرمهما.
ثم إن صاحب قلعة سرماج توفي وهو من ولد بدر بن حسنويه وسلمت القلعة بعده إلى إبراهيم ينال وسير إبراهيم ينال وزيره إلى شهرزور فأخذها وملكها فهرب منه
مهلهل فأبعد في الهرب، ثم نزل أحمد على قلعة تيرانشاه وحاصرها ونقب عليها عدة نقوب ثم إن مهلهلا راسل أبي شهرزور يعدهم بالمسير إليهم في جمع كثير ويأمرهم بالوثوب بمن عندهم من الغز ففعلوا وقتلوا منهم، وسمع أحمد بن طاهر فعاد إليهم فأوقع بهم ونهبهم وقتل كثيرا منهم.
ثم إن الغز المقيمين بالبندنيجين ومن معهم ساروا إلى براز الروز،
539
وتقدموا إلى نهر السليل، فاقتتلوا هم وأبو دلف القاسم بن محمد الجاواني قتالا شديدا ظفر فيها أبو دلف وانهزم الغز وأخذ ما معهم.
وسار في ذي الحجة جمع من الغز إلى بلد علي بن القاسم الكردي فأغاروا وعاثوا فأخذ عليهم المضيق وأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وارتجع ما غنموه من بلده.
ذكر استيلاء أبي كاليجار على البطيحة
في هذه السنة اشتد الحصار من عسكر الملك أبي كاليجار على أبي نصر بن الهيثم صاحب البطيحة فجنح إلى الصلح فاشتط عليه أبو الغنائم بن الوزير ذي السعادات ثم استأمن نفر من أصحاب أبي نصر وملاحيه إلى أبي الغنائم وأخبروه بضعف أبي نصر وعزمه على الانتقال من مكانه فحفظ الطرق عليه فلما كان خامس صفر جرت وقعة كبيرة بين الفريقين واشتد القتال فظفر أبو الغنائم وقتل من البطائحيين جماعة كثيرة وغرق منهم سفن كثيرة وتفرقوا في الآجام ومضى ابن الهيثم ناجيا بنفسه في زبزب وملكت داره ونهب ما فيها.
ذكر ظهور الأصفر وأسره
في هذه السنة ظهر الأصفر التغلبي برأس عين وادعى أنه من المذكورين في الكتب واستغوى قوما بمخاريق وضعها وجمع جمعا وغزا نواحي الروم،
540
فظفر وغنم وعاد وظهر حديثه وقوي ناموسه وعاود الغزو في عدد أكثر من العدد الأول ودخل نواحي الورم وأوغل وغنم أضعاف ما غنمه أولا حتى بيعة الجارية الجميلة بالثمن البخس.
وتسامع الناس به فقصدوه وكثر جمعه واشتدت شوكته وثقلت على الروم وطأته وأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان يقول له إنك عالم بما بيننا من الموادعة وقد فعل هذا الرجل هذه الأفاعيل فإن كنت قد رجعت عن المهادنة فعرفنا لندبر أمرنا بحسبه.
واتفق في ذلك وقت أو وصل رسول من الأصفر إلى نصر الدولة ينكر عليه ترك الغزو والميل إلى الدعة فساءه ذلك أيضا واستدعى قوما من بني نمير وقال لهم إن هذا الرجل قد أثار الروم علينا ولا قدرة لنا عليهم وبذل لهم بذلا على الفتك به فساروا إليه فقربهم ولازموه فركب يوما غير متحرز فأبعدوهم معه فعطفوا عليه وأخذوه وحملوه إلى نصر الدولة بن مروان فاعتقله وتلافى أمر الروم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة تجددت الهدنة بين صاحب مصر وصاحب الروم وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية عظيمة.
وفيها كان ببغداد والموصل وسائر البلاد العراقية والجزرية غلاء عظيم حتى أكل الناس الميتة وتبعه وباء شديد مات كثير من الناس،
541
حجتي خلت الأسواق وزادت أثمان ما يحتاج غلبه المرضى حتى بيع المن من الشراب بنصف دينار ومن اللوز بخمسة عشر قيراطا والرمانة بقيراطين والخيارة بقيراط وأشباه ذلك.
وفيها جمع الأمير أبو كاليجار فنا خسرو بن مجد الدولة بن بويه جمعا وسار إلى آمد فدخلها وساعده أهلها وأوقع بمن كان فيها من أصحاب طغرلبك فقتل وأسر وعرف طغرلبك ذلك فسار عن الري قاصدا إليه ومتوجها إلى قتاله وفيها توفي عميد الدولة أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم بجزيرة ابن عمر في ذي القعدة وله شعر حسن ووزر لجلال الدولة عدة دفعات.
وفيها سير المعز بن باديس صاحب إفريقية أسطولا إلى جزائر القسطنطينة فظفر وغنم وعاد.
وفيها اقتتلت طوائف من تلكاتة قاتل بعضهم بعضا وكان بينهم حرب صبروا فيها فقتل منهم خلق كثير.
وفيها قبض الملك أبو كاليجار على وزيره محمد بن جعفر بن أبي الفرج الملقب بذي السعادات بن فسانجس وسجنه وهرب ولده أبو الغنائم وبقي الوزير مسجونا إلى أن مات في شهر رمضان سنة أربعين [وأربعمائة]، وقيل أرسل إليه أبو كاليجار من قتله وعمره إحدى وخمسون سنة وللوزير ذي السعادات مكاتبات حسنة وشعر جيد منه:
(أودعكم وإني ذو اكتئاب * وأرحل عنكم والقلب آبي)
542
(وإن فراقكم في كل حال * لأوجع من مفارقة الشباب)
(أسير وما ذممت لكم جوارا * ولا ملت منازلكم ركابي)
(واشكر كلما أوطنت دارا * ليالينا القصار بلا اجتناب)
(وأذكركم إذا هبت جنوب * فتذكرني غرارات التصابي)
(لكم مني المودة في اغتراب * وأنتم إلف نفسي في اقترابي)
وهو أطول من هذا.
ولما قبض ذو السعادات استوزر أبو كاليجار كمال الملك أبا المعالي بن عبد الرحيم.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المعروف بالمطرز الشاعر وله شعر جيد فمن قوله في الزهد:
(يا عبد كم لك من ذنب ومعصية * إن كنت ناسيها فالله أحصاها)
(لا بد يا عبد من يوم تقوم به * ووقفة لك يدمي القلب ذكراها)
(إذا عرضت على قلبي نذكرها * وساء ظني فقلت استغفر الله)
وفيها مات أبو الخطاب الجبلي الشاعر ومضى إلى الشام ولقي المعري وعاد ضريرا وله شعر منه قوله:
(ما حكم الحب فهو ممتثل * وما جناه الحبيب محتمل)
(تهوى وتشكو الضنا وكل هوى * لا ينحل الجسم فهو منتحل)
وفيها توفي أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال الحافظ ومولده
543
سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة سمع أبا بكر القطيعي وغيره ومن غيره ومن أصحابه الخطيب أبو بكر الحافظ.
وفيها قتل الفقيه أحمد الولوالجي وهو من أعيان الفقهاء الحنفية إلا أنه كان يكثر الوقيعة في الأئمة والعلماء وسلك طريق الرياضة وفسد دماغه فقتل بين مرو وسرخس في ذي الحجة.
544
440
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة
ذكر رحيل عسكر ينال عن تيرانشاه
وعود مهلهل إلى شهرزور
قد ذكرنا في السنة المتقدمة استيلاء أحمد بن طاهر وزير ينال على شهرزور ومحاصرته قلعة تيرانشاه ولم يزل يحاصرها إلى الآن فوقع في عسكره الوباء وكثر الموت فأرسل إلى صاحبه ينال يستمده ويطلب إنجاده ويعرفه كثرة الوباء عنده فأمر بالرحيل عنها فسار إلى مايدشت فلما سمع مهلهل ذلك سير أحد أولاده إلى شهرزور فملكها انزعج الغز الذين بالسيروان وخافوا.
ثم سار جمع من عسكر بغداد إلى حلوان وحصروا قلعتها فلم يظفروا بها فنهبوا تلك الأعمال وأتوا على ما تخلف من الغز فخربت الأعمال بالكلية وسار مهلهل ومعه أهله وأمواله إلى بغداد فأنزلهم بباب المراتب بدار الخلافة خوفا من الغز وعاد إلى حلله وبينه وبين بغداد ستة فراسخ وسار جمع من عسكر بغداد إلى البندنيجين وبها جمع من الغز مع عكبر بن أحمد بن عياض فتواقعوا واقتتلوا فانهزم عسكر بغداد وقتل منهم جماعة وأسر جماعة قتلوا أيضا صبرا.
545
ذكر غزو إبراهيم ينال الروم
في هذه السنة غزا إبراهيم ينال الروم فظفر بهم وغنم.
وكان سبب ذلك أن خلقا كثيرا من الغز مما وراء النهر قدموا عليه فقال لهم بلادي تضيق عن مقامكم والقيام بما تحتاجون إليه والرأي أن تمضوا إلى غزو الروم وتجاهدوا في سبيل الله وتغنموا وأنا سائر على أثركم ومساعد لكم على أمركم. ففعلوا.
وساروا بين يديه وتبعهم فوصلوا إلى ملازكرد وأردن الروم وقاليقلا وبلغوا طرابزون وتلك النواحي كلها ولقيهم عسكر عظيم للروم والأبخاز يبلغون خمسين ألفا فاقتتلوا واشتد القتال بينهم وكانت بينهم عدة وقائع تارة يظفر هؤلاء وتارة هؤلاء وكان آخر الأمر الظفر للمسلمين فأكثروا القتل في الروم وهزموهم وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم، وممن أسر قاريط ملك الأبخاز فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار وهدايا بمائة ألف فلم يجبه إلى ذلك ولم يزل يجوس تلك البلاد وينهبها إلى أن بقي بينه وبين القسطنطينة خمسة عشر يوما واستولى المسلمون على تلك النواحي فنهبوها وغنموا ما فيها وسبوا أكثر من مائة ألف رأس وأخذوا من الدواب والبغال والغنائم والأموال ملا يقع عليه الإحصاء وقيل إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة وإن في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع.
وكان قد دخل بلد الروم جمع من الغز يقدمهم إنسان نسيب طغرلبك فلم
546
يؤثر كبير أثر وقتل من أصحابه جماعة وعاد ودخل بعده إبراهيم ينال ففعل هذا الذي ذكرناه.
ذكر موت الملك أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم
في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد عول في ولاية كرمان حربا وخرابا على بهرام بن لشكرستان الديلمي وقرر عليه مالا فتراخى بهرام في تحرير الأمر وأخله إلى المغالطة والمدافعة فشرع حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه وأخذ قلعة بردسير من يده وهي معلقة الذي يحتمي به وبعول عليه فراسل بعض من بها من الأجناد وأفسدهم فعلم بهم بهرام فقتلهم وزاد نفوره واستشعاره وأظهر ذلك فسار إليه الملك أبو كاليجار في ربيع الآخر فبلغ قصر مجاشع فوجد في حلقه خشونة فلم يبال بها وشرب وتصيد وأكل من كبد غزال مشوي واشتدت علته ولحقه حمى وضعف عن الركوب ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك المنزل فحمل في محفة على أعناق الرجال
إلى مدينة فتوفي بها وكان عمره أربعين سنة وشهورا وكان ملكه بالعراق بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيفا وعشرين يوما.
547
و لما توفي نهب الأتراك من العسكر الخزائن والسلاح والدواب و انتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور وكانت منفردة عن العسكر فأقام عنده وأراد الأتراك نهب الوزير والأمير فمنعهم الديلم وعادوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور واستشعر الوزير فصعد إلى قلعة خرمة فامتنع بها.
فلما وصل خبر وفاته إلى بغداد و بها ولده الملك الرحيم أبو نصر خره فيروز أحضر الجند واستحلفهم وراسل الخليفة القائم بأمر الله في معنى الخطبة له وتلقيبه بالملك الرحيم وترددت الرسل بينهم في ذلك إلى أن أجيب إلى ملتمسه سوى الملك الرحيم فإن الخليفة امتنع من إجابته و قال لا يجوز أن يلقب بأخص صفات الله تعالى.
واستقر ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة وكان بالبصرة أخوه أبو علي بن أبي كاليجار وخلف أبو كاليجار من الأولاد الملك الرحيم والأمير أبا منصور فلاستون وأبا طالب كامرو وأبا المظفر بهرام وأبا علي كيخسرو وأبا سعد خسروشاه وثلاثة بنين أصاغر فاستولى ابنه أبو منصور علي شيراز فسير إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكر فملكوا شيراز وخطبوا للملك الرحيم وقبضوا على الأمير أبي منصور ووالدته وكان ذلك في شوال.
548
ذكر محاصرة العساكر المصرية مدينة حلب
في جمادى الآخرة وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع كثير فحصروها وبها معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي فجمع جمعا كثيرا بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل فلما نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قتالا شديدا صبر فيه لهم إلى الليل ثم دخل البلد فلما كان الغد اقتتلوا إلى آخر النهار وصبر أيضا ثمال وكذلك أيضا اليوم الثالث فلما رأى المصريون صبر ثمال وكانوا ظنوا أن أحدا لا يقوم بين أيديهم رحلوا عن البلد فاتفق أن تلك الليلة جاء مطر عظيم لم ير الناس مثله فجاءت الممدود إلى منزلهم فبلغ الماء ما يقارب قامتين ولو لم يرحلوا لغرقوا ثم رحلوا إلى الشام الأعلى.
ذكر الخلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية
في هذه السنة اختلف قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية وكان للحميدية عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميدي وصاحب إربل أبو الحسن بن موسك الهذباني وله أخ اسمه أبو علي بن موسك فأعانه الحميدي على أخذ إربل من أخيه أبي الحسن فملكها منه وأخذ صاحبها أبا الحسن أسيرا.
وكان قرواش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل بالعراق مشغولين فلما عادا
549
إلى الموصل وقد سخطا هذه الحالة لم يظهراها وأرسل قرواش يطلب من الحميدي والهذباني نجدة له على نصر الدولة بن مروان فأما أبو الحسن الحميدي فسار إليه بنفسه وأما أبو علي الهذباني فأرسل أخاه واصطلح قرواش ونصر الدولة وقبض على أبي الحسن الحميدي ثم صانعه على إطلاق أبي الحسن الهذباني الذي كان صاحب إربل وأخذ إربل من أخيه أبي علي وتسليمها إليه فإن امتنع أبو علي كان عونا عليه فأجاب إلى ذلك ورهن عليه أهله وأولاده وثلاث قلاع من حصونه إلى أن يتسلم إربل وأطلق من الحبس.
وكان أخ له قد استولى على قلاعه فخرج إليها وأخذها منه وعاد إلى قرواش وأخيه وزعيم الدولة فوثقا به وأطلقا أهله ثم إنه راسل أبا علي صاحب إربل في تسليمها فأجاب إلى ذلك وحضر بالموصل ليسلم إربل إلى أخيه أبي الحسن فقال الحميدي لقرواش وأخيه إنني قد وفيت بعهدي فتسلمان إلي حصوني فسلما إليه قلاعه وسار هو وأبو الحسن وأبو علي الهذباني إلى إربل ليسلماها إلى أبي الحسن فغدرا به في الطريق وكان قد أحسن بالشر فتخلف عنهما وسير معهما أصحابه ليتسلموا إربل فقبضا على أصحابه وطلبوه ليقبضوه فهرب إلى الموصل وتأكدت الوحشة حينئذ بين الأكراد وقرواش وأخيه وتقاطعوا وأضمر كل منهم الشر لصاحبه.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة سار الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان فلقيه من بها من الجند وأطاعوه وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الذي صاحب همذان
550
وكنكور فإنه كان انتقل إلى الملك أبي كاليجار بعد أن استولى ينال على أعماله ولما مات أبو كاليجار سار الملك العزيز بن الملك جلالا الدولة إلى البصرة طمعا في ملكها فلقيه من بها من الجند وقاتلوه وهزموه فعاد عنها وكان قبل ذلك عند قرواش ثم عند ينال ولما استمع باستقامة الأمور للملك الرحيم انقطع أمله ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة وهم السنية فأحرقوا عقارا كثيرا.
وفيها سار سعدي بن أبي الشوك من حلة دبيس بن مزيد إلى إبراهيم ينال بعد أن راسله وتوثق منه وتقرر بينهما أنه كل ما يملكه سعدي مما ليس بيد ينال ونوابه فهو له فسار سعد إلى الدسكرة وجرى بينه وبين من بها من عسكر بغداد حرب انهزموا منه وملكها وما يليها فسير إليها عسكر ثان من بغداد فقتل مقدمهم وهزمهم وسار من الدسكرة و توسط تلك الأعمال بالقرب من بعقوبا ونهب أصحابه البلاد وخطبوا لإبراهيم ينال.
وفيها كان ابتداء الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلد فانضاف قريش بن بدران بن المقلد إلى عمه قرواش وجمع جمعا وقاتل عمه أبا كامل فظفر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشا بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.
551
وفيها خطب للأمير أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله بولاية العهد ولقب ذخيرة الدين وولي عهد المسلمين.
وفيها في رمضان قتل الأمير أقسنقر بهمذان قتله الباطنية لأنه كان كثير الغزو إليهم والقتل فيهم والنهب لأموالهم والتخريب فلما كان الآن قصد إنسانا من الزهاد ليزوره فوثب عليه جماعة من الإسماعيلية فقتلوه.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله وكان من الصالحين ورواة الحديث وأوصى أن يدفن بجوار احمد بن حنبل ومولده سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وأبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز ومولده سنة سبع وأربعين وثلاثمائة روى عن أبي بكر الشافعي وغيره وتوفي في شوال وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي خرجها الدارقطني وهي من أعلى الحديث وأحسنه وعبيد الله بن عمر بن أحمد بن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كان الغلاء والوباء عاما في البلاد جميعها بمكة والعراق والموصل والجزيرة والشام ومصر وغيرها من البلاد.
وفيها قبض بمصر على الوزير فخر الملك صدقة بن يوسف وقتل وكان أول أمره يهوديا فأسلم واتصل بالدزبري وخدمه بالشام ثم خافه فعاد إلى مصر وخدم الجرجرائي الوزير ونفق عليه فلما توفي الجرجرائي استوزره المستنصر إلى الآن ثم قتله واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري في ذي القعدة.
552
441
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
ذكر ظهور الخلف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما
في هذه السنة ظهر الخلف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهورا آل إلى المحاربة وقد تقدم سبب ذلك فلما اشتد الأمر وفسد الحال فسادا لا يمكن إصلاحه جمع كل مهما جمعا لمحاربة صاحبه وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد وساروا إلى معلثايا فأخربوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمغيثة وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحر ب سليمان بن مروان بل كان ناحية ووافقه أبو الحسن الحميدي وساروا عن قرواش وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين وقد تسرع بعضهم ونهب بعضا من عرب قرواش وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته،
553
ثم أنفذه إلى الموصل محجورا عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار.
وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون منهم وبقي بعضهم بالسندية فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة وقتلوا حارسه وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش فاقتتلوا وظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون فبلغه هرب استيلاء أخيه ولم يبلغه عود أصحابه ثم إن المسيب وأمراء العرب كاتبوا أبا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته فبادرهم إليه وقيل وقبل يده وقال له إنني وأن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك في وأشعرك الوحشة مني والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك؛ فقال له قرواش بل أنت الأخ والأمر لك مسلم وأنت أقوم به مني. وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره.
وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربي وأوان فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربي من منع بلالا عنها فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعا وقتل أصحاب قرواش وأخذ حربي وأوانا بغير اختيارهما فانحدر قرواش من الموصل إليها وحصرها وأخذها.
554
ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنها
في هذه السنة في المحرم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى بلاد فارس فوصلها وخرج عسكر شيراز إلى خدمته ونزل بالقرب من شيراز ليدخل البلد.
ثم إن الأتراك الشيرازيين والبغداديين اختلفوا وجرى بينهم مناوشة استظهر فيها البغداديون وعادوا إلى العراق فاضطر الملك الرحيم إلى المسير معهم لأنه لم يكن يثق إلى الأتراك الشيرازية.
وكان ديلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون وهو بقلعة إصطخر فهو أيضا منحرف عنهم فاضطر إلى صحبه البغدادين فعاد في ربيع الأول في هذه السنة إلى الأهواز وقام بها واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد وأبا طالب ووقع الخلف بفارس فإن الأمير أبا منصور فولاستون كان قد خلص وصار بقلعة إصطخر واجتمع معه جماعة من أعيان العسكر الفارسي فلما عاد الملك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد وقصده كثير من العساكر واستولى على بلاد فارس ثم سار إلى أرجان عازما على قصد الأهواز وأخذها.
ذكر حب بين البساسيري وعقيل
في هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا فنهبوهما وأخذوا من أموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري،
555
فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلد واقتتلوا قتالا شديدا أبلى الفريقان فيه بلاء حسنا وصبر صبرا جميلا وقتل جماعة من الفريقين.
ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال
في هذه السنة استوحش إبراهيم ينال من أخيه السلطان طغرلبك.
وكان سبب ذلك أن طغرلبك طلب من إبراهيم ينال أن يسلم إليه مدينة همدان والقلاع التي بيده من بلد والقلاع التي بيده من بلد الجبل فامتنع من ذلك وأتهم وزبره أبا علي بالسعي بينهما في الفساد فقبض عليه وأمر به فضرب بين يديه وسمل إحدى عينيه وقطع شفتيه وسار ع طغرلبك وجمع جمعا من عسكره والتقيا وكان بين العسكرين قتال شديد انهزم [فيه] ينال وعاد منهزما فسار طغرلبك في أثره فملك قلاعه وبلاده جميعها.
وتحصن إبراهيم ينال بقلعة سرماج وامتنع على أخيه فحصره طغرلبك فيها وكانت عساكره قد بلغت مائة ألف من أنواع العسكر وقاتله فملكها في أربعة أيام وهي من أحصن القلاع وأمنعها واستنزل ينال منها مقهورا وأرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر وراسل ملك الروم طغرلبك وأرسل إليه هدية عظيمة وطلب منه المعاهدة فأجابه إلى ذلك.
وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسأله أن يسعى في فداء ملك الأبخاز
556
المقدم ذكره فأرسل نصر الدولة شيخ الإسلام أبا عبد الله بن مروان في المعنى إلى السلطان طغرلبك فأطلقه بغير فداء فعظم ذلك عنده وعند ملك الروم وأرسل عوضه من الهدايا شيئا كثيرا وعمروا مسجد القسطنطينية وأقاموا فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك ودان حينئذ الناس كلهم له وعظم شأنه وتمكن ملكه وثبت.
ولما نزل ينال إلى طغرلبك أكرمه وأحسن إليه ورد عليه كثيرا مما أخذ منه وخيره بين أن يقطعه بلادا يسيرا إليها وبين أن يقيم معه فاختار المقام معه.
ذكر الحرب بين دبيس بن مزيد وعسكر واسط
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس بن مزيد وبين الأتراك الواسطيين.
وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصلة ونهر الفضل وهما من أقطاع الواسطيين فسار إليها ووليها فسمع واسط ذلك فسخطوه واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنها وأرسلوا إليه يتهددونه فأعاد الجواب يقول إن الملك أقطعني هذا فنرسل إليه أنا وأنتم فبأي شيء أمر رضينا به فسبوه وساروا مجدين إليه فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره فلقوهم وكمن لهم فلما التقوا استجرهم
557
العرب إلى أن جاوزوا الكمين وخرج عليهم الكمين فأوقعوا بهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة وأسروا كثيرا وجرح مثلهم وتمت الهزيمة على الواسطيين وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط فنزلوا بالقرب منها.
وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة ويأخذ نهر الصلة ونهر الفضل لنفسه.
ذكر وفاة مودود بن مسعود وملك عمه عبد الرشيد
في هذه السنة في العشرين من رجب توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وعمره تسع وعشرون سنة وملكه تسع سنين وعشرة أشهر وكان موته بغزنة وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر وبذل لهم الأموال الكثيرة وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار صاحب أصبهان فإنه جمع عساكره وسار في المفازة فهلك كثير من عسكره ومرض وعاد.
ومنهم خاقان ملك الترك فإنه سار إلى ترمذ ونهب وخرب وصادر أهل تلك الأعمال وسارت طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم.
وسار مودود من غزنة فلم يسر غير مرحلة واحدة حتى عارضه قولنج اشتد عليه فعاد إلى غزنة مريضا وسير وزيره أبا الفتح عبد الرزاق بن أحمد الميمندي إلى سجستان في جيش كثيف لأخذها من الغز واشتدت العلة
558
بمودود فتوفي وقام في الملك بعده ولده فبقي خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود وكان مودودا لما ملك قبض على عمه عبد الرشيد بن محمود وسجنه في قلعة ميدين بطريق بست فلما توفي كان وزيره قد قارب هذه القلعة فنزل عبد الرشيد إلى العسكر ودعاهم إلى طاعته فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة فلما قاربها هرب عنها علي بن مسعود وملك عبد الرشيد واستقر الأمر له ولقب شمس دين الله سيف الدولة وقيل جمال الدولة ودفع الله شر مودود عن داود، وهذه السعادة التي تقتل الأعداء بغير سلاح ولا أجناد
ذكر استيلاء البساسيري على الأنبار
في هذه السنة أيضا في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه.
وكان سبب ملكها أن قرواشا أساء السيرة في أهلها ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد وسألوه أن ينفذ معهم عسكرا يسلمون إليه الأنبار فأجابهم إلى ذلك وسير معهم جيشا فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحدا من أصحابه أن يأخذ الرطل الخبز بغير ثمنه وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.
559
ذكر انهزام الملك الرحيم من عسكر فارس
في هذه السنة عاد الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة فلما وصل إلى وادي الملح لقيه عسكر فارس واقتتلوا قتالا شديدا فغدر بالملك الرحيم بعض عسكره وانهزم هو وجميع العسكر ووصل إلى بصنى ومعه أخواه أبو سعد وأبو طالب وسار منها إلى واسط وسار عسكر فارس إلى الأهواز فملكوها وخيموا بظاهرها.
ذكر عدة حوادث
وفيها وصل عسكر من مصر إلى حلب وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس فخافهم لكثرتهم فانصرف عنها فملكها المصريون.
وفيها في ذي القعدة ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلا فزادت ظلمتها على ظلمة الليل وظهر في جوانب السماء كالنار المضطرمة وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخليفة وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوفهم فلزموا الدعاء والتضرع فانكشفت في باقي الليل.
وفيها في شعبان سار البساسيري من بغداد إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدزدار وملكها وغنم ما فيها وكان سعدي بن أبي الشوك قد ملكها وقد عمل لها سورا وحصنها وجعلها معقلا يتحصن فيه ويدخر بها كل ما يغنمه فأخذ البساسيري جميعه.
560
وفيها منع أهل الكرخ من النوح وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنية عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ فلما رآهم السنية من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين وأخرج الطائفتين في العمارة مالا جليلا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به، وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنية والشيعة على المنع منه وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل وأذنوا في الكرخ الصلاة خير من النوم وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبوره.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري الحافظ كان إماما صحب عبد الغني بن سعيد وتخرج به ومن تلامذته الخطيب أبو بكر.
وفيها توفي الملك العزيز أبو بكر منصور بن جلال الدولة وقد ذكرنا تنقل الأحوال فيما تقدم وله شعر حسن.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العتيقي نسب إلى جد له يسمى عتيقا ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب بن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي وكانت شهادته سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقبلها القاضي في بيت النوبة ولم يفعل ذلك مع غيره وإنما فعل معه هذا احتراما لأبيه.
561
442
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة
ذكر ملك طغرلبك أصبهان
كان أبو منصور بن علاء الدولة صاحب أصبهان غير ثابت على طريقة واحدة مع السلطان طغرلبك كان يكثر التلون معه تارة يطيعه وينحاز إليه وتارة ينحرف عنه ويطيع الملك الرحيم فأضمر له طغرلبك سوءا فلما عاد هذه الدفعة من خراسان لأخذ البلاد الجبلية من أخيه إبراهيم ينال واستولى عليها على ما ذكرناه عدل إلى أصبهان عازما على أخذها من أبي منصور فسمع ذلك ذلك فتحصن ببلده واحتمى بأسواره ونازله طغرلبك في المحرم وأقام على محاصرته نحو سنة وكثرت الحروب بينهما إلا أن طغرلبك قد استولى على سواد البلد وأرسل سرية من عسكره نحو فارس فبلغوا إلى البيضاء فأغاروا على السواد هناك وعادوا غانمين.
ولما طال الحصار على أصبهان وأخرب أعمالها ضاق الأمر بصاحبها وأهلها وأرسلوا إليه يبذلون له الطاعة والمال فلم يجبهم إلى ذلك ولم يقنع منهم إلا بتسليم البلد فصبروا حتى نفدت الأقوات وامتنع الصبر وانقطعت المواد واضطر الناس حتى نقضوا الجامع وأخذوا أخشابه لشدة الحاجة إلى الحطب فحيث بلغ بهم الحال إلى هذا الحد خضعوا له واستكانوا وسلموا البلد إليه فدخله وأخرج أجناده منه وأقطعهم في بلاد الجبل،
562
وأحسن إلى الرعية وأقطع صاحبها أبا منصور ناحيتي يزد وأبرقوية وتمكن من أصبهان ودخلها في المحرم من سنة ثلاث وأربعين [وأربعمائة] واستطابها، ونقل ما كان له بالري من مال وذخائر وسلاح إليها وجعلها داد مقامه وخرب قطعة من سورها وقال إنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قوته فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة له إليها.
ذكر عود عساكر فارس من الأهواز وعود الرحيم إليها
في هذه السنة في المحرم عادت عساكر فارس التي مع الأمير أبي منصور صاحبها على الأهواز إلى فارس.
وسبب هذا العود أن الأجناد اختلفوا وشغبوا واستطالوا وعاد بعضهم إلى فارس بغير أمر صاحبهم وأقام بعضهم معه وسار بعضهم إلى الملك الرحيم وهو بالأهواز يطلبونه ليعود إليهم فعاد فيمن عنده من العساكر وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عند ليسير بهم إلى فارس فلما وصل إلى الأهواز لقيه العساكر مقرين بالطاعة وأخبروه بطاعة عساكر فارس وأنهم ينتظرون قدومه فدخل الأهواز في شهر ربيع الآخر فتوقف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد ثم سار عنها إلى عساكر مكرم فملكها وأقام بها.
563
ذكر استيلاء زعيم الدولة على مملكة أخيه قرواش
في هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلد على أخيه قرواش وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره وسبب ذلك أن قرواشا كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه وسار عن الموصل فشق ذلك على بركة وعظم عنده ثم أرسل إليه نفرا من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف فلما بلغوه ذلك امتنع عليهم فقالوا أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك فعلم حينئذ أنه يمنع قهرا فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل وسار معهم فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه
وأنزله عنده فهرب أصحابه وأهله خوفا فأمنهم زعيم الدولة وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.
ذكر استيلاء الغز على مدينة فسا
وفيها في جمادى الأولى سار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان وقصد بلاد فارس في المفازة فلم يعلم به أحد ولا أعلم عمه طغرلبك فوصل إلى مدينة فسا فانصرف النائب بها من بين يديه ودخلها ألب أرسلان فقتل من الديلم بها ألف رجل وعددا
564
كثيرا من العامة ونهبوا ما قدره ألف ألف دينار وأسروا ثلاثة آلاف إنسان وكان الأمر عظيما فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى خراسان ولم يلبثوا خوفا من طغرلبك أن يرسل إليهم ويأخذ ما غنموه منهم.
ذكر استيلاء الخوارج على عمان
في هذه السنة استولى الخوارج المقيمون بجبال عمان على مدينة تلك الولاية وسبب ذلك أن صاحبها الأمير أبا المظفر بن الملك أبي كاليجار كان مقيما بها معه خادم له قد استولى على الأمور وحكم على البلاد وأساء السيرة في أهلها فأخذ أموالهم فنفروا منه وأبغضوه.
وعرف إنسان من الخوارج يقال له ابن راشد الحال فجمع من عنده منهم وقصد المدينة فخرج إليه الأمير أبو المظفر في عساكره فالتقوا واقتتلوا فانهزمت الخوارج وعادوا إلى موضعهم.
وأقام ابن راشد مدة يجمع ويحتشد ثم سار ثانيا وقاتله الديلم فأعانه أهل البلد لسوء سيرة الديلم فيهم فانهزم الديلم وملك ابن راشد البلد وقتل الخادم وكثيرا من الديلم وقبض على الأمير أبي المظفر وسيره إلى جباله مستظهرا عليه وسجن معه كل من خط بقلم من الديلم وأصحاب الأعمال وأخرب دار الإمارة وقال هذه أحق دار الخرابة وأظهر العدل وأسقط المكوس واقتصر على رفع عشر ما يرد وخطب لنفسه وتلقب بالراشد بالله ولبس الصوف وبنى موضعا على شكل مسجد،
565
وقد كان هذا الرجل تحرك أيضا أيام القاسم بن مكرم فسير إليه أبو القاسم من منعه وحصره وأزال طمعه.
ذكر دخول العرب إلى إفريقية
في هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية وسبب ذلك أن المعز بن باديس كان خطب للقاسم بأمر الله الخليفة العباسي وقطع خطبة المستنصر العلوي صاحب مصر سنة أربعين وأربعمائة فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده فأغلط المعز في الجواب.
ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري ولم يكن من أهل الوزارة إنما كان من أهل التبانة والفلاحة فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله الوزراء كان يخاطبهم بعبده فخاطب اليازوري بصنيعته فعظم ذلك عليه وعاتبه فلم يرجع إلى ما يحب فأكثر الوقيعة في المعز وأغرى به المستنصر وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب فأصلحوا بني زغبة ورياح وكان بينهم حروب وحقود وأعطوهم مالا وأمروهم بقصد بلاد القيروان وملكوهم كل ما يفتحونه ووعدوهم بالمدد والعدد فدخلت العرب إلى إفريقية وكتب اليازوري إلى المعز أما بعد فقد أرسلنا إليكم خيولا فحولا وحملنا عليها رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا...
566
فلما حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلادا كثيرة المرعى خالية من الأهل لأن زناتة كانوا أهلها فأبادهم المعز فأقامت العرب بها واستوطنتها وعاثوا في أطراف البلاد.
وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد وأوسع لهم في العطاء فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك، وكانت العرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين [وأربعمائة]، فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض وأرادوا الوصول إلى القيروان فقال مؤنس بن يحيى المرداسي ليس المبادرة عندي برأي فقالوا كيف تحب أن تصنع فأخذ بساطا فبسطه ثم قال لهم من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه قالوا لا نقدر على ذلك قال فهكذا القيروان خذوا شيئا فشيئا حتى لا يبقى إلا القيروان فخذوها حينئذ فقالوا إنك لشيخ العرب وأميرها وأنت المقدم علينا ولسنا نقطع أمرا دونك.
ثم قدم أمراء العرب إلى المعز فأكرمهم وبذل لهم شيئا كثيرا فلما خرجوا من عنده لم يجاوزه بما فعل من الإحسان بل شنوا الغارات وقطعوا الطريق وأفسدوا الزروع وقطعوا الثمار وحاصروا المدن فضاق بالناس الأمر وساءت أحوالهم وانقطعت أسفارهم ونزل بافريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط فحينئذ احتفل المعز وجمع عساكره فكانوا ثلاثين ألف فارس ومثلها رجاله وسار حتى أتى جندران وهو جبل بينه وبين القيروان
567
ثلاثة أيام، وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك وعظم عليهم فقال لهم مؤنس بن يحيى ما هذا يوم فرار فقالوا أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر قال في أعينهم فسمي ذلك اليوم يوم العين.
والتحم القتال واشتدت الحرب فاتفقت صنهاجة على الهزيمة وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم ويقتل أكثرهم فعند ذلك يرجعون على العرب فانهزمت صنهاجة وثبت العبيد مع المعز فكثر مع المعز القتل فيهم قتل منهم خلق كثير وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب فلم يمكنهم ذلك واستمرت الهزيمة وقتل من صنهاجة أمة عظيمة ودخل المعز القيروان مهزوما على كثرة من معه واخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره وفيه يقول بعض الشعراء:
(وإن ابن باديس لأفضل مالك * ولكن لعمري ما لديه رجال)
(ثلاثون ألفا منهم غلبتهم * ثلاث آلاف إن ذا لمحال)
ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إلى العرب جريدة وسبق خبره وهجم عليهم وهم في صلاة العيد فركبت العرب خيولهم وحملت فانهزمت صنهاجة فقتل منهم عالم كثير ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جمع كثير.
فلما أشرف على بيوت العرب وهو قبلي جبل جندران انتشب القتال واشتعلت نيران الحرب وكانت العرب سبعة آلاف فارس فانهزمت صنهاجة وولى كل رجل منهم إلى منزله وانهزمت زناتة وثبت المعز
568
فيمن معه من عبيده ثباتا عظيما لم يسمع بمثله ثم انهزم وعاد إلى المنصورية وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة.
ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان ووقعت الحرب فقتل من المنصورية ووقادة خلق كثير فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء فلما دخلوا استطالت عليهم العامة ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي وكانت الغلبة للعرب.
وفي سنة أربع وأربعين [وأربعمائة] بنى سور زويلة والقيروان، وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب.
وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور وقطعوا الثمار وخربوا الأنهار وأقام المعز والناس يتنقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان فتلقاه ابنه تميم ومشى بين يديه وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن.
وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه من العرب لحرب زناتة فقاتلهم فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين وقعت الحرب بين العرب وهوارة فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلا وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة فقتل رجل من العرب رجى متقدما من أهل البلد لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له فلما قتل
569
ثار أهل البلد بالعرب فقتلوا منهم العدد المذكور.
وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها وإنما أوردناه متتابعا ليكون أحسن لسياقه فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم.
ذكر عدة حوادث
فيها سار المهلهل بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك فأحسن إليه وأقره على إقطاعه ومن جملته السيروان ودقوقا وشهرزور والصامغان وشفعه في أخيه سرخاب بن محمد بن عناز وكان محبوسا عند طغرلبك وسار سرخاب إلى قلعة الماهكي وهي له وأقطع سعدي بن أبي الشوك الراوندين.
وفيها قبض المستنصر بمصر على أبي البركات عم أبي القاسم الجرجاني واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري ويازور من أعمال الرملة.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن عمر القزويني الزاهد وكان من الصالحين روى الحديث والحكايات والأشعار وروى عن ابن نباتة شيئا من شعره فمن ذلك قال ابن نباتة:
570
(وإذا عجزت عن العدو فداره * وامزج له إن المزاج وفاق)
(فالنار بالماء الذي هو ضدها * تعطي النضاج وطبعها الإحراق)
وفيها في ذي القعدة توفي أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير المعروف بالثمانيني.
571
443
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة
ذكر نهب سرق والحرب الكائنة عندها وملك الرحيم رامهرمز
فيها في المحرم اجتمع جمع كثير من العرب والأكراد وقصدوا سرق من خوزستان ونهبوها ونهبوا دورق ومقدمهم مطارد بن منصور ومذكور بن نزار فأرسل إليهم الملك الرحيم جيشا ولقوهم بين سرق ودورق فاقتتلوا فقتل مطارد وأسر ولده وكثر القتل فيهم واستنقذوه ما نهبوه ونجا الباقون على أقبح صورة من الجراح والنهب فلما تم هذا الفتح للملك الرحيم انتقل من عسكر مكرم متقدما إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما.
ثم إن الأمير أبا منصور صاحب فارس وهزارسب بن بنكير ومنصور بن الحسين الأسدي ومن معهما من الديلم والأتراك ساروا من أرجان يطلبون تستر فسبقهم الرحيم إليها وحال بينهم وبينها والتقت الطلائع فكان الظفر لعسكر الرحيم.
ثم إن الأرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور بن الملك أبي كاليجار بمدينة شيراز فسقط في أيديهم وعادوا وقصدوا كثير منهم الملك الرحيم فصاروا معه فسير قطعة من الجيش إلى رامهرمز، وبها
572
أصحاب هزارسب وقد أفسدوا في تلك الأعمال فلما وصل إليها عسكر الرحيم خرج أولئك إلى قتالهم فاقتتلوا قتالا شديدا أكثر فيه القتل والجراح ثم انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البلد وحصروا فيه ثم ملك البلد عنوة ونهب وأسر جماعة من العساكر التي فيه وهرب كثير منهم إلى هزارسب وهو بإيذج وملك الملك الرحيم البلد في ربيع الأول من هذه السنة.
ذكر ملك الملك الرحيم إصطخر وشيراز
في هذه السنة سير الملك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس وكان سبب ذلك أن المقيم في قلعة إصطخر وهو أبو نصر بن خسرو وكان له أخوان قبض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور فكتب إلى الملك الرحيم يبذل له الطاعة والمساعدة ويطلب أن يسير إليه أخاه ليملكه بلاد فارس فسير إليه أخاه أبا سعد في جيش فوصل إلى دولتاباذ فأتاه كثير من عساكر فارس الديلم والترك والعرب والأكراد وسار منها إلى قلعة إصطخر فنزل إليه صاحبها أبو نصر فلقيه وأصعده إلى القلعة وحمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخلع وغيرها ثم سارا منها إلى قلعة بهندر فحصروها وأتاه كتب بعض مستحفظي البلاد الفارسية بالطاعة منها مستحفظ داربجرد وغيرها.
ثم سار إلى شيراز فملكها في رمضان فلما سمع أخوه الأمير أبو منصور وهزارسب ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى الملك
573
الرحيم فهزموه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى وفارق الأهواز إلى واسط ثم عطفوا من الأهواز إلى شيراز لإجلاء الأمير أبي سعد عنها فلما قاربوها لقيهم أبو سعد وقتلهم فهزمهم فالتجأوا إلى جبل قلعة بهندر وتكررت الحروب بين الطائفتين إلى منتصف شوال فتقدمت طائفة من عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامة النهار ثم عادوا فلما كان الغد التقى العسكران جميعا واقتتلوا فانهزم عسكر الأمير أبي منصور وظفر أبو سعد وقتل منهم خلقا كثيرا واستأمن إليه كثير منهم وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها وأقام إلى أن عاد إلى ملكه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فارق الأمير أبو منصور الأهواز أعيدت الخطبة للملك الرحيم وأرسل من بها من الجند يستدعونه إليهم.
ذكر انهزام الملك الرحيم بالأهواز
لما انصرف الأمير أبو منصور وهزارسب ومن معهم من منزلهم قريب تستر على ما ذكرناه مضوا إلى إيذج وأقاموا فيها و خافوا الملك الرحيم واستضعفوا نفوسهم عن مقاومته فاتفق رأيهم على أن راسلوا السلطان طغرلبك وبذلوا له الطاعة وطلبوا منه المساعدة فأرسل إليهم عسكرا كثيرا وكان قد ملك أصبهان وفرغ باله منها.
وعرف الملك الرحيم ذلك وقد فارقه كثير من عسكره منهم البساسيري ونور الدولة دبيس بن مزيد و العرب والأكراد وبقي في الديلم الأهوازية وطائفة قليلة من الأتراك البغداديين كانوا وصلوا إليه أخيرا فقرر رأيه على أن
574
عاد من عسكر مكرم إلى الأهواز لأنها أحصن وينتظر بالمقام فيها وصول العساكر ورأى أن يرسل أخاه الأمير أبا سعد إلى فارس حيث طلب إلى إصطخر على ما ذكرناه وسير معه جمعا صالحا من العساكر ظنا منه أن أخاه إذا وصل إلى فارس وملكت قلعة إصطخر انزعج الأمير أبو منصور وهزارسب ومن معهما واشتغلوا بتلك النواحي عنه فازداد قلقا وخوفا فلم يلتفت أولئك إلى الأمير أبي سعد بل ساروا مجدين إلى الأهواز فوصلوها أواخر بيع الآخر.
ووقعت الحرب بين الفريقين يومين متتابعين كثر فيهما القتال واشتد فانهزم الملك الرحيم وسار في نفر قليل إلى واسط ولقي في طريقه مشقة وسلم واستقر بواسط فيمن لحق به من المنهزمين ونهبت الأهواز وأحرق فيها عدة محال وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم وزير الملك فلم يعرف له خبر.
ذكر الفتنة بين العامة ببغداد وإحراق المشهد
على ساكنيه السلام
في هذه السنة في صفر تجددت الفتنة ببغداد بين السنية و الشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديما فكان الاتفاق في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن.
575
وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود ففرغ أهل الكرخ وعملوا أبراجا كتبوا عليها بالذهب محمد وعلي خير البشر وأنكر السنية ذلك وادعوا أن المكتوب محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبا فقد كفر وانكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العباسيين ونقيب العلويين وهو عدنان بن الرضي لكشف الحال وإنهائه فكتبا بتصديق قول الكرخيين فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال فلم يقبلوا وانتدب ابن المذهب القاضي والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد [أن] يحمل العامة على الإغراق في الفتنة فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيظا من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ومنع هؤلاء السنية من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه فعظم الأمر عليهم وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبوا عليه ماء الورد ونادوا الماء للسبيل فأغروا بهم السنية.
وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا خير البشر وكتبوا عليهما السلام فقالت السنية لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لا يؤذن حي على خير العمل وامتنع الشيعة من ذلك ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول وقتل فيه رجل هاشمي من السنية فحمله أهله على نعش وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السنة واستنفروا الناس
576
للأخذ بثأره ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم.
فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأغلق بابه فنقبوا في سورها وتهددوا البواب فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ونهبوا ما في الترب والدور وأدركهم الليل فعادوا.
فلما كان الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأراج واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي والجوار والقبتان الساج اللتان عليهما
واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معن الدولة وجلال الدولة من قبور الوزراء والرؤساء وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور وقبر الأمين محمد بن الرشيد وقبر أمه زبيدة وجرى من الأمر الفظيع ما يجر في الدنيا مثله.
فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر فجاء الحفر إلى جانبه.
وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين والسنية الخبر فجاؤوا ومنعوا عن ذلك وقصدوا أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي وأحرقوا الخان ودور الفقهاء وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج والأساكفة وغيرهم.
ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد عظم عليه
577
واشتد وبلغ منه كل مبلغ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم شيعة فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله فروسل في ذلك وعوتب فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة واتفقوا على ذلك فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا وأعادوا الخطبة إلى حالها.
ذكر عصيان بني قرة على المستنصر بالله بمصر
في هذه السنة في شعبان عصى بنو قرة بمصر على المستنصر بالله الخليفة العلوي.
وكان سبب ذلك أنه أمر عليهم رجلا منهم يقال له المقرب وقدمه فنفروا من ذلك وكرهوه واستعفوا منه فلم يعزله عنهم فكاشفوا بالخلاف والعصيان وأقاموا بالجيزة مقابل مصر وتظاهروا بالفساد فعبر إليهم المستنصر بالله جيشا يقاتلهم ويكفهم فقاتلهم بنو قرة فانهزم الجيش وكثر القتل فيهم فانتقل بنو قرة إلى طرف الب فعظم الأمر على المستنصر بالله وجمع العرب من طيء وكلب وغيرهما من العساكر وسيرهم في أثر بني قرة فأدركوهم بالبحيرة فواقعوهم واشتد القتال في بني قرة وانهزموا وعاد العسكر إلى مصر وتركوا في مقابل بني قرة طائفة منهم لترد بني قرة إن أرادوا التعرض في البلاد وكفى الله شرهم.
578
ذكر وفاة زعيم الدولة وإمارة قريش بد بدران
في هذه السنة في شهر رمضان توفي زعيم الدولة أبو كامل بركة لن المقلد بتكريت وكان انحدر إليها في حلله قاصدا نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصول فتوفي ودفن بمشهد الخضر بتكريت.
واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلد فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كلن عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء النفقة ثم نقلها إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقل بها.
ذكر عدة حوادث
ظهر ببغداد يوم الأربعاء سابع صفر وقت العصر كوكب غلب نوره على نور الشمس له ذؤابة نحو ذراعين وسار سيرا بطيئا ثم انقض والناس يشاهدونه.
579
وفيها، في رمضان أرسل السلطان طغرلبك إلى الخليفة جوابا عن رسالة الخليفة إليه وشكرا الإنعام الخليفة عليه بالخلع والألقاب وأرسل معه طغرلبك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار عينا وأعلاقا نفيسة من الجواهر والثياب والطيب وغير ذلك وأرسل خمسة آلاف دينا ر للحاشية وألفي دينار لرئيس الرؤساء وأنزل الخليفة الرسل بباب المراتب وأمر بإكرامهم ولما جاء العيد أظهر أجناد بغداد الزينة الرائقة والخيول النفيسة والتجافيف الحسنة وأرادوا لإظهار قوتهم عند الرسل.
وفيها عاد الغز أصحاب الملك داود أخي طغرلبك عن كرمان وسبب عودهم أن عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة سار إلى خراسان فالتقى هو والملك داود واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم داود فاقتضى الحال عود أصحابه عن كرمان.
وفيها أيضا عاد السلطان طغرلبك عن أصبهان إلى الري.
وفيها توفي أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز وكان قد استخلفه بها الأمير أبو منصور عند عودة عنها إلى شيراز فلما توفي خطب للملك الرحيم بالأهواز.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن المرتضى الموسوي.
وفيها في ربيع الأول توفي أبو الحسن محمد بن محمد البصروي الشاعر وهو منسوب إلى قرية تسمى بصرى قريب عكبرا وكان صاحب نادرة قال له رجل شربت البارحة ماء كثيرا فاحتجت إلى قيام كل ساعة كأني جدي فقال له لم تصغر نفسك؟ ومن شعره:
580
(ترى الدنيا وزينتها فتصبو * وما يخلو من الشهوات قلب)
(فضول العيش أكثرها هموم * وأكثر ما يضرك ما تحب)
(فلا يغررك زخرف ما تراه * وعيش لين الأعطاف رطب)
(إذا ما بلغه جاءتك عفوا * فخذها فالغنى مرعى وشرب)
(إذا اتفق القليل وفيه سلم * فلا ترد الكثير وفيه حرب)
581
444
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة
ذكر قتل عبد الرشيد صاحب غزنة وملك فرخ زاد
في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاح بغزنة وكان سبب ذلك أن حاجبا لمودود ابن أخيه مسعود اسمه طغرل وكان مودود قد قدمه ونوه باسمه وزوجه أخته فلما توفي مودود وملك عبد الرشيد أجرى طغرل على عادته في تقدمه وجعله حاجب حجابه فأشار عليه طغرل بقصد الغز وإجلائهم من خراسان فتوقف استبعادا لذلك فألح عليه طغرل فسيره في ألف فارس فسار نحو سجستان وبها أبو الفضل نائبا عن بيغو فأقام طغرل على حصار قلعة طاق وأرسل إلى أبي الفضل يدعوه إلى طاعة عبد الرشيد فقال له إنني نائب عن بيغو وليس من الدين والمروءة خيانته فاقصده فإذا فرغت منه سلمت إليك فقام على حصار طاق أربعين يوما فمن يتهيأ له فتحها، وكتب أبو الفضل إلى بيغو يعرفه حال طغرل.
فسار إلى سجستان ليمنع عنها طغرل ثم إن طغرل ضجر من مقامه على حصار طاق فسار نحو مدينة سجستان فلما كان على نحو فرسخ منها كمن بحيث لا يراه أحد لعلة يجدها وفرصة ينتهزها فسمع أصوات دبادب وبوقات فخرج وسأل بعض من على
582
الطريق، فأخبره أن بيغو قد وصل فعاد إلى أصحابه وأخبرهم وقال لهم ليس لنا إلا أن نلقى القوم ونموت تحت السيوف أعزة فإنه لا سبيل لنا إلى الهرب لكثرتهم وقلتنا فخرجوا من مكمنهم فلما رآهم بيغو سأل أبا الفضل عنهم فأخبره أنه طغرل فاستقل من معه وسير طائفة من أصحابه لقتالهم فلما رآهم طغرل لم يعرج عليهم بل أقحم فرسه نهرا هناك فعبره وقصد بيغو ومن معه فقاتلهم وهزمهم طغرل وغنم ما معهم ثم عطف على الفريق الآخر فصنع بهم مثل ذلك وأم بيغو وأبو الفضل نحو هراة وتبعهم نحو فرسخين وعاد إلى المدينة فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بما كان منه ويطلب الإمداد ليسير إلى خراسان فأمده بعده كثرة من الفرسان فوصلوا إليه فاشتد بهم وأقام مديدة.
ثم حدث نفسه بالعود إلى غزنة والاستيلاء عليها فأعلم أصحاب به ذلك وأحسن إليهم واستوثق منهم ورحل إلى غزنة طاويا للمراحل كأنما أمره فلما صار على خمسة فراسخ من غزنة أرسل إلى عبد الرشيد مخادعا له يعلمه أن العسكر خالفوا عليه وطلبوا الزيادة في العطاء وأنهم عادوا بقلوب متغيرة مستوحشة فلما وقف على ذلك جمع أصحابه وأهل ثقته وأعلمهم الخبر فحذروه منه وقالوا له إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد وليس غير الصعود إلى القلعة والتحصن بها فصعد إلى قلعة غزنة وامتنع بها.
ووافى طغرل من الغد إلى البلد ونزل في دار الإمارة وراسل المقيمين بالقلعة في تسليم عبد الرشيد ووعدهم ورغبهم إن فعلوا وتهددهم إن
583
امتنعوا فسلموه إليه فأخذ طغرل فقتله واستولى على البلد وتزوج ابنة مسعود كرها.
وكان في الأعمال الهندية أمير يسمى خرخيز ومعه عسكر كثير فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر كتب إليه ودعاه إلى الموافقة والمساعدة على ارتجاع الأعمال من أيدي الغز ووعده على ذلك، وبذل البذول الكثيرة فلم يرض فعله وأنكره وامتعض منه وأغلط له في الجواب وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل ووجوه القواد ينكر ذلك عليهم ويوبخهم على الأخذ إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم ويحثهم على الأخذ بثأره. فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطهم ودخل جماعة منهم على طغرل ووقفوا بين يديه فضربه أحدهم بسيفه وتبعه الباقون فقتله.
وورد خرخيز الحاجب بعد خمسة أيام وأظهر الحزن على عبد الرشيد وذم طغرل ومن تابعه على فعله وجمع وجوه القواد وأعيان أهل البلد وقال لهم لقد عرفتم ما جرى من ذلك فأشاروا بولاية فرخ زاد بن مسعود محمود وكان محبوسا في بعض القلاع فأحضر وأجلس بدار الإمارة وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور وأخذ من أعان على قتل الرشيد فقتله فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان قتل عبد الرشيد جمع عساكره واسر إلى غزنة، فخرج إليه خرخيز ومنعه وقاتله فانهزم
584
داود وغنم ما كان معه.
ولما استقر ملك فرخ زاد وثبت قدمه جهز جيشا فظفروا به وانهزم أصحابه عنه وأخذ أسيرا وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوهم وأمرائهم فجمع ألب أرسلان عسكرا كثيرا وسير والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الذي أسر كلسارغ وهزمهم وأسر جماعة من أعيان العسكر فأطلق فرخ زاد الأسرى وخلع على كلسارغ وأطلقه.
ذكر وصول الغز إلى فارس وانهزامهم عنها
في هذه السنة وصل أصحاب السلطان طغرلبك إلى فارس وبلغوا إلى شيراز ونزلوا بالبيضاء واجتمع معهم العادل أبو منصور الذي كان وزير الأمير أبي منصور الملك أبي كاليجار ودبر أمرهم فقبضوا عليه وأخذوا منه ثلاث قلاع وهي قلعة كبزة وقلعة جويم وقلعة بهندر فأقاموا بها وسار من الغز نحو مائتي رجل إلى الأمير أبي سعد أخي الملك الرحيم وصاروا في خدمته.
واجتمع العسكر الشيرازي وعليهم الظهير أبو نصر وأوقعوا بالغز بباب شيراز فانهزم الغز وأسر تاج الدين نصر بن هبة الله بن أحمد وكان من المقدمين عند الغز فلما انهزم وسار العسكر الشيرازي إلى فسا وكان قد
585
تغلب عليها بعض السفل وقوي أمره لاشتغال العساكر فأزالوا المتغلب عليها واستعادوها.
ذكر الحرب بين قريش وأخيه المقلد
في هذه السنة جرى خلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلد وكان قريش قد نقل عنه قرواشا إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل بطلب العراق فجرى بينه وبين أخيه المقلد منازعة أدت إلى الاختلاف فسار المقلد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد ملتجئا إليه فحمل أخاه الغيظ منه على نهب حلته وعاد إلى الموصل واختلت أحواله واختلفت العرب عليه وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى الهندي بلال بن غريب.
ثم إن قريشا استمال العرب وأصلحهم فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش فإنه توفي هذه الأيام وانحدر إلى العراق ليستعيد ما أخذ منه فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيب ناحية الحظيرة فأوقع بهم والأكراد فانهزم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه بالحال فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسنا فجرح ثم انهزم وراسل قريش نواب الملك الرحيم يبذل بالطاعة،
586
ويطلب تقرير ما كان عليه فأجابوه إلى ذلك على كره لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم فاستقر أمره وقوي شأنه.
ذكر وفاة قرواش
في هذه السنة مستهل رجب توفي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلد العقيلي الذي كان صحب الموصل محبوسا بقلعة الجراحية من أعمال الموصل على ما ذكرناه قبل وحمل ميتا إلى الموصل ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل
وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن فمن ذلك ما ذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر من شعره:
(لله در النائبات فإنها * صدأ النفوس وصقيل الأحرار)
(ما كنت إلا زبرة فطبعنني * سيفا وأطلق شفرتي وغراري)
وذكر له أيضا:
(من كان يحمد أو يذم موروثا * لمال من آبائه وجدوده)
587
(إني امرؤ لله شكر وحده * شكرا كثيرا جالبا لمزيده)
(لي أشقر سمح العنان مغاور * يعطيك ما يرضيك من مجهوده)
(ومهند عضب إذا جردته * خلت البروق تموج في تجريده)
(ومثقف لدن السنان كأنما * أم المنايا ركبت في عوده)
(وبذا حويت المال إلا أنني * سلطت جود يدي على تبديده)
وقيل إنه جمع بين أختين في نكاحه فقيل له إن الشريعة تحرم هذا فقال وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة؟ وقال مرة ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلهم وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.
ذكر استيلاء الملك الرحيم على البصرة
في هذه السنة في شعبان سير الملك الرحيم جيشا مع الوزير والبساسيري إلى البصرة وبها أخوه أبو علي بن أبي كاليجار فحصروه بها فأخرج عسكره في السفن لقتالهم فاقتتلوا عدة أيام ثن انهزم البصريون في الماء إلى البصر واستولى عسكر الرحيم على دجلة والأنهر جميعا وسارت العساكر على البر من المنزلة بمطار إلى البصرة فلما قاربوها لقيهم رسل مضرور بيعة يطلبون المان فأجابوهم إلى ذلك وكذلك بذلوا الأمان لسائر أهلها ودخل الملك الرحيم فسر به أهلها وبذل لهم الإحسان.
فلما دخل البصرة وردت إليه رسل الديلم بخوزستان يبذلون الطاعة،
588
ويذكرون أنهم ما زالوا عليها فشكرهم على ذلك وأقام بالبصرة ليصلح أمرها.
وأما أخوه أبو علي صاحب البصرة فإنه مضى إلى شط عثمان فتحصن به وحفر الخندق فمضى الملك الرحيم إليه وقاتلهم فملك الموضع ومضى أبو علي ووالدته إلى عبادان وركبوا البحر إلى مهروبان وخرجوا من البحر وأكثروا دواب وساروا في أرجان عازمين على قصد السلطان طغرلبك وأخرج الملك الرحيم كل من بالبصرة من الديلم أجناد أخيه وأقام غيرهم.
ثم إن الأمير أبا علي وصل إلى السلطان طغرلبك وهو بأصبهان فأكرمه وأحسن إليه وحمل إليه مالا أيضا وسلم الملك الرحيم البصرة إلى البساسيري ومضى إلى الأهواز وترددت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارسب حتى اصطلحوا وصار أرجان وتستمر للملك الرحيم.
ذكر ورود سعدي العراق
وفيها في ذي القعدة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق فنزل مايدشت وسار منها جريدة فيمن معه من الغز إلى أبي دلف الجاواني فنذر به أبو دلف وانصرف من بين
589
يديه، ولحقه سعدي فهبه وأخذ ماله وأفلت أبو دلف بحشاشة نفسه ونهب أصحاب سعدي البلاد حتى بلغوا النعمانية فأسرفوا في النهب والغارة وفتكوا في البلاد وافتضوا
الأبكار فأخذوا الأموال والأثاث فلم يتركوا شيئا وقصد البندنيجين.
وبلغ خبره إلى خاله خالد بن عمرو وهو نازل على الزرير ومطر ابني علي بن مقن العقيليين فأرسل إليه ولده مه أولاد الزرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمه مهلهل وقريش بن بدران فلقوه بحلوان وشكوا إليه حالهم فوعدهم المسير إليهم وإنقاذهم ممن قصدهم فعادوا من عنده فلقيهم نفر من أصحاب مهلهل فواقعوا فظفر بهم العقيليون وأسروهم.
وبلغ الخبر مهلهلا فسار إلى حلل الزرير ومطر في نحو خمسمائة فارس فأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم وانهزم الرجال فلقي خالد ومطر والزرير سعدي بن أبي الشوك على تامرا فأعلموه الحال وحملوه علي قتال عمه فتقدم إلى طريقه والتقى القوم وكان سعدي في جمع كثير فظفر بعمه وأسره وانهزم أصحابه في كل جهة وأسر أيضا ملك ابن عمه مهلهل وأعاد الغنائم التي كانت معهم على أصحابها وعاد إلى حلوان.
ووصل الخبر إلى بغداد فارتج الناس بها وخافوا وبرز عسكر الملك الرحيم ليقصدوا حلوان لمحاربة سعدي ووصل إليهم أبو الأعز دبيس ين مزيد الأسدي ولم يصنعوا شيئا.
590
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة قبض عيسى بن خميس بن مقن على أخيه أبي غشام صاحب تكريت بها وسجنه في سرداب بالقلعة واستولى على تكريت.
وفيها زلزلت خوزستان وأرجان وإيذج وغيرها من البلاد زلازل كثيرة وكان معظمها بأرجان فخرب كثير من بلادها وديارها وانفرج جبل كبير قريب من أرجان وانصدع فظهر في وسطه درجة مبنية بالآجر والجص قد خفيت في الجبل فتعجب الناس من ذلك وكان بخراسان أيضا زلزلة عظيمة خربت كثيرا وهلك بسببها كثير وكان أشدها بمدينة بيهق فأتى الخراب عليها وخرب سورها ومساجدها ولم يزل سورها خرابا إلى سنة أربع وستين وأربعمائة فأمر نظام الملك ببنائه فبنى ثم خربه أرسلان أرغو بعد موت السلطان ملكشاه وقد ذكرناه ثم عمر مجد الملك البلاساني.
وفيها عمل محضر ببغداد يتضمن القدح في نسب العلويين أصحاب مصر وأنهم كاذبون في ادعائهم النسب إلى علي عليه السلام وعزوهم فيه إلى الديصانية من المجوس والقداحية من اليهود وكتب فيه العلويين والعباسيون والفقهاء والقضاة والشهود وعمل به عدة نسخ وسير في البلاد وشيع بين الحاضر والباد.
وفيها شهد الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ مصنف الشامل عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا.
وفيها حدثت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد وامتنع الضبط وانتشر
591
العيارون وتسلطوا وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق وأعاد الشيعة الأذان بحي على خير العمل وكتبوا على مساجدهم محمد وعلي خير البشر وجرى القتال بينهم وعظم الشر.
وفيها زوج نور الدولة دبيس بن مزيد ابنه بهاء الدولة منصورا بابنة أبي البركات من البساسيري.
وفيها في ربيع الأول توفي القاضي أبو جعفر السمناني بالموصل وكان إماما في الفقه على مذهب أبي حنيفة والأصول على مذهب الأشعري وروى الحديث عن الدارقطني وغيره.
وفي هذا الشهر توفي أيضا أبو علي الحسن بن علي بن المذهب الواعظ وهو راوي مسند أحمد بن حنبل.
592
445
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة
ذكر الفتنة بين السنية والشيعة ببغداد
في هذه السنة في المحرم زادت بين أهل الكرخ وغيرهم من السنية وكان ابتداؤها أواخر سنة أربع وأربعين [وأربعين].
فلما كان الآن عظم الشر واطرحت المراقبة للسلطان واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك، فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد وأخذوا من الكرخ إنسانا علويا وقتلوه فثار نساؤه ونشرن شعورهن واستغثن فتبعهن من العامة من أهل الكرخ وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة قتال شديد وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ فاحترق كثير منها وألحقتها بالأرض وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحال.
وندم القواد على ما فعلوه وأنكر الإمام القائم بأمر الله ذلك وصلح الحال وعاد الناس إلى الكرخ بعد أن استقرت القاعدة بالديوان بكف الأتراك أيديهم عنهم.
593
ذكر استيلاء الملك الرحيم على أرجان ونواحيها
في هذه السنة، في جمادى الأولى استولى الملك الرحيم على مدينة أرجان وأطاعه من كان بها من الجند وكان المقدم عليهم فولاذ بن خسرو الديلمي.
وكان قد تغلب على ما جاورها من البلاد إنسان متغلب يسمى خشنام فأنفذ إليه فولاذ جيشا فأوقعوا به وأجلوه عن تلك النواحي واستضافوا إلى طاعة الرحيم.
وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنه كان مباينا للملك الرحيم على ما ذكرناه فأرسل يتضرع ويتقرب ويسأل التقدم إلى فولاذ بإحسان مجاورته فأجيب إلى ذلك.
ذكر مرض طغرلبك
في هذه السنة وصل السلطان طغرلبك إلى أصبهان مريضا وقوي الإرجاف عليه بالموت ثم عوفي ووصل إليه الأمير أبو علي ابن الملك أبي كاليجار الذي كان صاحب
البصرة ووصل إيه أيضا هزارسب بن بنكير بن عياض صاحي إيذخ فإنه كان قد خاف الملك الرحيم لما استولى على البصرة وأرجان فأكرمهما طغرلبك وأحسن ضيافتهما ووعدهما النصرة والمعونة.
ذكر عود سعدي بن أبي الشوك إلى طاعة الرحيم
قد ذكرنا سنة أربع وأربعين [وأربعمائة] وصول سعدي إلى العراق وأسرة عمه فلما أسره سار ولده بدر بن المهلهل إلى السلطان طغرلبك،
594
وتحدث معه في مراسلة سعدي ليطلق أباه فسلم إليه طغرلبك ولدا كان لسعدي عنده رهينة وأرسل معه رسولا يقول فيه إن أردت فدية عن أسيرك فهذا ولدك قد رددته عليك وإن أبيت إلا المخالفة ومفارقة الجماعة قابلناك على فعلك.
فلما وصل بدر والرسول إلى همذان تخلف بدر وسار الرسول إليه فامتعض من قوله وخالف طغرلبك وسار إلى حلوان وأراد أخذها فلم يمكنه وتردد بين روشنقباذ والبردان وكاتب الملك الرحيم وصار في طاعته فسار إليه إبراهيم بن إسحاق وسخت كمان وهما من أعيان عسكر طغرلبك في عسكر مع بدر بن الهلهل فأوقعوا به فانهزم هو وأصحابه وعاد الغز عنهم إلى حلوان وسار بدر إلى شهرزور في طائفة من الغز ومضى سعدي إلى قلعة روشنقباذ.
ذكر عود الأمير أبي منصور إلى شيراز
في هذه السنة في شوال عاد الأمير أبو منصور فولاستون ابن الملك أبي كاليجار إلى شيراز مستوليا عليها وفارقها أخوه الأمير أبو سعد.
وكان سبب ذلك أن الأمير أبا سعد كان قد تقدم معه في دولته إنسان يعرف بعميد الدين أبي نصر بن الظهير فتحكم معه وأطرح الأجناد واستخف بهم وأوحش أبا نصر بن خسرو صاحب قلعة إصطخر الذي كان قد استدعى الأمير أبا سعد وملكه.
595
فلما فعل ذلك اجتمعوا على مخالفته وتألبوا عليه وأحضر أبو نصر بن خسرو الأمير أبا منصور بن أبي كاليجار إليه وسعى في اجتماع الكلمة عليه فأجابه كثير من الأجناد لكراهتهم لعميد الدين فقبضوا عليه ونادوا بشعار الأمير أبي منصور وأظهروا طاعته وأخرجوا الأمير أبا سعد عنهم فعاد إلى الأهواز في نفر يسير ودخل الأمير أبا منصور إلى شيراز مالكا لها مستوليا عليها وخطب فيها طغرلبك وللملك الرحيم ولنفسه بعدهما.
ذكر إيقاع البساسيري بالأكراد والأعراب
وفيها في شوال وصل الخبر إلى بغداد بان جمعا من الأكراد وجمعا من الأعراب قد أفسدوا في البلاد وقطعوا الطريق ونهبوا القرى طمعا في السلطنة بسبب الغز فسار أموالهم وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج فلم يدركهم وأراد العبور إليهم وهم بالجانب الآخر وكان الماء زائدا فلم يتمكن من عبوره فنجوا.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة توفي الشريف أبو تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي نقيب النقباء وقام بعده في النقابة ابنه أبو علي.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد البرمكي وكان مكثرا من الحديث سمع ابن مالك القطيعي وغيره وإنما قيل البرمكي لأنه سكن محله ببغداد تعرف بالبرامكة وقيل كان من قرية من عند البصرة تعرف بالبرمكية.
596
446
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة
ذكر فتنة الأتراك ببغداد
في هذه السنة في المحرم كانت فتنة الأتراك ببغداد.
وكان سببها أنهم تخلف لهم الوزير الذي للملك الرحيم مبلغ كثير من رسومهم فطالبوه وألحقوا عليه فاختفى في دار الخلافة فحضر الأتراك بالديوان وطالبوه وشكوا ما يلقونه منه من المطال بما لهم فلم يجابوا إلى إظهار فعدلوا عن الشكوى منه إلى الشكوى من الديوان وقالوا إن أرباب المعاملات قد سكنوا بالحريم وأخذوا الأموال وإذا طلبناهم بها يمتنعون بالمقام بالحريم وانتصب الوزير والخليفة لمنعنا عنهم وقد هلكنا.
فتردد الخطاب منهم والجواب عنه فقاموا نافرين فلما كان الغد ظهر الخبر على عزم حصر دار الخلافة فانزعج الناس لذلك وأخفوا أموالهم وحضر البساسيري دار الخلافة وتوصل إلى معرفة خبر الوزير فلم يظهر له على خبر فطلب من داره ودور من يتهم به وكبست الدور فلم يظهروا له على خبر.
وركب جماعة من الأتراك إلى دار الروم فنهبوها، وأحرقوا البيع والقلايات، ونهبوا فيها دار أبي الحسن بن عبيد، وزير البساسيري.
وقام أهل نهر المعلى وباب الأزج وغيرهما من المحال في منافذ الدروب لمنع الأتراك وانخرق الأمر ونهب الأتراك كل من ورد إلى بغداد،
597
فغلت الأسعار وعدمت الأقوات وأرسل إليهم الخليفة ينهاهم فلم ينتهوا فأظهر أنه يريد الإنتقال عن بغداد فلم يزجروا.
هذا جميعه والبساسيري غير راض بفعلهم وهو مقيم بدار الخليفة وتردد الأمر إلى أن ظهر الوزير وقام لهم بالباقي من مالهم من مال وأثمان دوابه وغيرها ولم يزالوا في خبط وعسف فعاد طمع الأكراد والأعراب أشد منه أولا وعادوا الغارة والنهب والقتل فخربت البلاد وتفرق أهلها.
وانحدر أصحاب قريش من بدران من الموصل طامعين فكبسوا حلل كامل بن محمد بن المسيب وهي بالبردان فنهبوها وبها دواب وجمال بخاتي للبساسيري فاخذوا الجميع ووصل الخبر إلى بغداد فازداد خوف الناس من العامة والأتراك وعظم انحلال السلطة بالكلية وهذا من ضرر الخلاف.
ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان وغزو الروم
في هذه السنة سار طغرلبك إلى أذربيجان فقصد تبريز وصاحبها الأمير أبو منصور وهسوذان بن محمد الروادي فاطاعه وخطب له وحمل إليه ما أرضاه به وأعطاه ولده رهينة فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار صاحب جنزة فأطاعه أيضا وخطب له وكذلك سائر تلك النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة.
598
وانقادت العساكر إليه فأبقى بلادهم عليهم وأخذ رهانهم وسار إلى أرمينية وقصد ملازكرد وهي للروم فحصرها وضيق على أهلها ونهب ما جاورها من البلاد وأخرجها وهي مدينة حصينة فأرسل إليه نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر الهدايا الكثيرة والعساكر وقد كان خطب له قبل هذا الوقت وأطاعه وأثر السلطان طغرلبك في غزو الروم آثارا عظيمة ونال منهم من النهب والقتل والأسر شيئا كثيرا.
وبلغ في غزوته هذه إلى أرزان الروم وعاد إلى أذربيجان لما هجم الشتاء ممن غير أن يملك ملازكرد وأظهر أنه يقيم إلى أن ينقضي الشتاء ويعود يتم غزاته ثم توجه إلى الري فأقام بها إلى أن دخلت سنة سبع وأربعين [وأربعمائة] وعاد نحو العراق على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر محاربة بني خفاجة وهزيمتهم
في هذه السنة في رجب قصد بنو خفاجة الجامعين وأعمال نور الدولة دبيس ونهبوا وفتكوا في أهل تلك الأعمال وكان نور الدولة شرقي الفرات وخفاجة غربها فأرسل نور الدولة إلى البساسيري يستنجده فسار إليه فلما وصل عبر الفرات من ساعته وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين فانهزموا منه ودخلوا البر فلم يتبعهم وعاد عنهم فرجعوا إلى الفساد فاستعد لسلوك البر خلفهم أين قصدوا وعطف نحوهم قاصدا حربهم فدخلوا البر أيضا فتبعهم فلحقهم وهو حصن بالبر فأوقع بهم ونهب منهم ونهب أموالهم وجمالهم وعبيدهم وإماءهم،
599
وشردهم كل مشرد وحضر خفان ففتحه وخربه وأراد تخريب القائم به وهو بناء من آجر وكلس وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله فتركه وعاد إلى البلاد.
وهذا القائم قيل إنه كان علما يهتدى به السفن لما كان البحر يجيء إلى النجف، ودخل بغداد ومعه خمسة وعشرون رجلا من خفاجة عليهم البرانس وقد شدهم بالجبال إلى الجمال وقتل منهم جماعة وصلب جماعة وتوجه إلى حربي فحصرها وقرر على أهلها تسعة آلاف دينار وأمنهم.
ذكر استيلاء بن بدران على الأنبار
والخطبة لطغرلبك بأعماله
في شعبان من هذه السنة حصر الأمير أبو المعلي قريش بن بدران صاحب الموصل مدينة الأنبار وفتحها وخطب لطغرلبك فيها وفي سائر اعماله ونهب ما كان فيها للبساسيري وعيره ونهب حلل أصحابه بالخالص وفتحوا بثوقه فامتعض البساسيري من ذلك وجمع جموعا كثيرة وقصد الأنبار وحربى فاستعادهما على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة القائد بن حماد وما كان من أهله بعده
في هذه السنة في رجب توفي القائد بن حماد وأوصى إلى ولده محسن وأوصاه بالإحسان إلى عمومته فلما مات خالف ما أمر به وأراد
600
عزل جميعهم، فلما سمع عمه يوسف بن حماد بما عزم عليه خالفه، وجمع جمعا عظيما وبنى قلعة في جبل منيع وسماها الطيارة.
ثم إن محسنا قتل من عمومته أربعة فازداد يوسف نفورا وكان ابن عمه بلكين بن محمد في بلده أفريون فكتب إليه محسن يستدعيه فسار إليه فلما قرب منه أمر محسن رجالا من العرب أن يقتلوه، فلما خرجوا قال لهم أميرهم خليفة بن مكن إن بلكين بن محمد في بلده أفريون فكتب إليه محسن يستدعيه فسار إليه فلما قرب منه أمر محسن رجالا من العرب أن يقتلوه، فلما خرجوا قال لهم أميرهم خليفة بن مكن إن بلكين لم يزل محسنا إلينا فكيف نقتله فأعلموه ما أمرهم به محين فخاف فقال له خليفة لا تخف وإن كنت تريد قتل محسن فأنا أقتله لك فاستعد بلكين لقتاله وسار إليه فلما علم محسن بذلك وكان قد فارق القلعة عاد هاربا إليها، فأدركه بلكين فقتله وملك القلعة وولي الأمر وكان ملكه القلعة سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
ذكر ابتداء الوحشة بين البساسيري والخليفة
في شهر رمضان من هذه السنة ابتدأت الوحشة بين الخليفة والبساسيري.
وسبب ذلك أن أبا الغنائم وأبا سعد أبني المحليان صاحبي قريش بن بدران وصلا إلى بغداد سرا فامتعض البساسيري من ذلك وقال هؤلاء وصاحبهم كبسوا حلل أصحابي ونهبوا وفتحوا البثوق وأسرفوا في إهلاك الناس وأراد أخذهم فلم يمكن منهم فمضى إلى حربي وعاد ولم يقصد دار الخلافة على عادته فنسب ذلك إلى رئيس الرؤساء.
واجتازت به سفينة لبعض أقارب رئيس الرؤساء فمنعها وطالب بالضريبة
601
التي عليها، وأسقط مشاهرات الخليفة من دار الضرب وكذلك مشاهرات رئيس الرؤساء وحواشي الدار وأراد هدم دور بني المحلبان فمنع منه فقال ما أشكو إلا من رئيس الرؤساء الذي قد خرب البلاد وأطمع الغز وكاتبهم.
ودام ذلك إلى ذي الحجة فسار البساسيري إلى الأنبار وأحرق ناحيتي دما والفلوجة وكان أبو الغنائم بن المحلبان بالأنبار قد أتاها من بغداد وورد نور الدولة دبيس إلى البساسيري معاونا له على حصرها ونصب البساسيري عليها المجانيق فهدم برجا ورماهم بالنفط فأحرق أشياء كان قد أعدها أهل البلد لقتله ودخلها قهرا فأسر مائة نفس من بني خفاجة وأسر أبا الغنائم بن الحلبان فاخذ وقد ألقى نفسه في الفرات ونهب الأنبار وأسر من أهلها خمسمائة رجل وعاد إلى بغداد وبين يديه أبو الغنائم على جمل وعليه
قميص أحمر وعلى رأسه برنس وفي رجليه قيد وأراد صلبه وصلب من معه من الأسرى فسأله نور الدولة أن يؤخر ذلك حتى يعود وأتى البساسيري إلى مقابل التاج فقبل الأرض وعاد إلى منزله وترك أبا الغنائم لم يصلبه وصلب جماعة من الأسرى فكان هذا أول الوحشة.
ذكر وصول الغزالي الدسكرة وغيرها
في شوال من هذه السنة وصل إبراهيم ن إسحاق وهو من الأمراء الغزية السلجوقية إلى الدسكرة وكان مقيما بحلوان فلما وصل إليها قاتله أهلها وعجزوا وهربوا متفرقين ودخل الغز البلد فنهبوه أقبح نهب وضربوا النساء وأولادهن فاستخرجوا بذلك أموالا كثيرة وساروا إلى
602
روشنقباذ لفتحها وهي بيد سعدي وأمواله فيها وفي قلعة البردان.
وكان سعدي قد فارق طاعة السلطان طغرلبك على ما ذكرناه فلم يفتحها وأجلى أهل تلك البلاد وخربت القرى ونهبت أموال أهلها.
وسار طائفة أخرى من الغز إلى نواحي الأهواز وأعمالها فنهبوها واجتاحوا أهلها وقوي طمع الغز في البلاد وانخذل الديلم ومن معهم من الأتراك وضعفت نفوسهم.
ثم سير طغرلبك الأمير أبا علي بن الملك أبي كاليجار الذي كان صاحب البصرة في جيش من الغز إلى خوزستان ليملكها فوصل سابور خواست وكاتب الديم الذين بالأهواز يدعوهم إلى طاعته ويعدهم الإحسان إن أجابوا والعقوبة إن امتنعوا من أطاع ومنهم من خالف فسار إلى الأهواز فملكها واستولى عليها ولم يعرب لأحد في مال ولا غيره فلم يوافقه الغز على ذلك ومدوا أيديهم إلى النهب والغارة والمصادرة ولقي الناس منهم عنتا وشدة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كثرت الصراصر ببغداد حتى كان يسمع لها بالليل دوي كدوي الجراد إذا طار.
وفيها في ذي الحجة توفي أبو حسان المقلد بن بدران أخو قريش بن بدران صاحب الموصل.
وفيها، في شوال توفي قسطنطين ملك الروم زوج تذورة بنت
603
قسطنطين الموسومة بالملك وإنما ملك قسطنطين هذا حيث تزوجها.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأصبهاني المعروف بابن اللبان الفقيه الشافعي وهو من أصحاب أبي حامد الإسفرايني وروى الحديث عن ابن المقري والمخلص وغيرهما.
وتوفي فيها أحمد بن عمر بن روح أبو الحسن النهرواني وله شعر جيد فمنه أنه سمع رجلا يتغنى وهو يقول:
(وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا)
فاستوقفه وقال له أضف إليه فقال:
(على قلبي الأحبة * بالتمادي في الهوى غلبوا)
(وبالهجران من عيني * طيب النوم قد سلبوا)
(وما طلبوا سوى قتلي * فهان علي ما طلبوا)
604
447
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة
ذكر استيلاء الملك الرحيم على شيراز
وقطع خطبة طغرلبك فيها
في هذه السنة في المحرم سار قائد كبير من الديلم يسمى فولاذ وهو صاحب قلعة إصطخر إلى شيراز فدخلها وأخرج عنها الأمير أبا منصور فولاستون ابن الملك أبي كاليجار فقصد فيروزاباذ وأقام بها.
وقطع فولاذ خطبة السلطان طغرلبك في شيراز وخطب للملك الرحيم ولأخيه أبي سعد وكاتبهما يظهر لهما الطاعة فعلما أنه يخدعهما بذلك فسار إليه أبو سعد وكان بأرجان ومعه عساكر كثيرة واجتمع هو وأخوه الأمير أبو منصور على قصد شيراز ومحاصرتها على قاعدة استقرت بينهما من طاعة أخيهما الملك الرحيم فتوجها نحوهما فيمن معها من العسكر وحصرا فولاذ فيها.
وطال الحصار إلى أن عدم القوت فيها، وبلغ السعر سبعة أرطال حنطة بدينار ومات أهلها جوعا وكان من بقي فيها نحو ألف إنسان وتعذر المقام
605
في البلد على فولاذ فخرج هاربا مع من في صحبته من الديلم إلى نواحي البيضاء وقلعة إصطخر ودخل الأمير أبو سعد والأمير أبو منصور شيراز وعساكرهما وملكوها وأقاموا بها.
ذكر قتل أبي حرب بن مروان صاحب الجزيرة
في هذه السنة قتل الأمير أبو حرب سليمان بن نصر الدولة بن مروان وكان والده قد سلم إليه الجزيرة وتلك النواحي ليقيم بها ويحفظها وكان شجاعا، مقداما، فاشتد بالأمر واستولى عليها فجرى بينه وبين الأمير موسك بن المجلي بن زعيم الأكراد البختية وله حصون منيعة شرقي الجزيرة نفرة.
ثم راسله أبو حرب واستماله وسعى أن يزوجه ابنة الأمير أبي طاهر البشنوي صاحب قلعة فنك وغيرها من الحصون وكان أبو طاهر هذا ابن أخت نصر الدولة بن مروان فلم يخالف أبو طاهر صاحب فنك أبا حرب في الذي أشار به من تزويج الأمير موسك فزوجه ابنته ونقلها إليه فاطمأن حينئذ موسك وسار إلى سليمان فغدر به وقبض عليه وحبسه.
ووصل السلطان طغرلبك إلى تلك الأعمال لما توجه إلى غزو الروم على ما ذكرناه فأرسل إلى نصر الدولة يشفع في موسك فأظهر أنه توفي فشق ذلك على حمية أبي طاهر البشنوي وأرسل إلى نصر الدولة وابنه سليمان فقال لهما حيث أردتما قتله فلما جعلتما ابنتي طريقا إلى ذلك وقلدتموني العار وتنكر لهما وخافه أبو حرب فوضع عليه من سقاه سما فقتله.
606
وولي بعده ابنه عبيد الله فاظهر له أبو حرب المودة استصلاحا له وتبرأ إليه من كل ما قيل عنه واستقر الأمر بينهما على الاجتماع وتجديد الأيمان فنزلوا من فنك وخرج إليهم أبو حرب من الجزيرة في نفر قليل فقتلوه.
وعرف والده ذلك فأقلقه وأزعجه وأرسل ابنه نصرا إلى الجزيرة ليحفظ تلك النواحي ويأخذ بثأر أخيه وسير معه كثيفا.
وكان الأمير قريش بن بدران صاحب الموصل لما سمع قتل أبي حرب انتهز الفرصة وسار إلى الجزيرة ليملكها وكاتب البختية والبشنوية واستمالهم فنزلوا إليه واجتمعوا معه على قتال نصر بن مروان فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا كثر فيه القتلى وصبر الفريقان فكانت الغلبة أخيرا لابن مروان وجرح قريش جراحة قوية بزوبين رمي به وعاد عنه وثبت أمر ابن مروان بالجزيرة وعاود مراسلة البشنوية والبختية واستمالهم لعله يجد فيهم طمعا فلم يطيعوه.
ذكر وثوب الأتراك ببغداد بأهل البساسيري والقبض عليه ونهب
دوره وتأكد الوحشة بينه وبين رئيس الرؤساء
في هذه السنة ثارت فتنة ببغداد بالجانب الشرقي بين العامة وثار جماعة من أهل السنة وأظهروا الأمير بالمعروف والنهي عن المنكر وحضروا الديوان وطلبوا أن يؤذن لهم في ذلك وأن يتقدم إلى أصحاب الديوان بمساعدتهم فأجيبوا إلى ذلك وحدث من ذلك شر كثير.
607
ثم إن أبا سعد النصراني صاحب البساسيري حمل في سفينة ستمائة جرة خمرا ليحدرها إلى البساسيري بواسط في ربيع الآخر فحضر ابن سكرة الهاشمي وغيره من الأعيان في هذا الباب وتبعهم خلق كثير وحاجب باب المراتب من قبل الديوان وقصدوا السفينة وكسروا جرار الخمر وأراقوها.
وبلغ ذلك البساسيري فعظم عليه ونسبه إلى رئيس الرؤساء وتجددت الوحشة فكتب فتاوى فيها خطوط الفقهاء الحنفية بأن الذي فعل من كسر الجرار [وإراقة الخمر] تعد غير واجب وهي ملك رجل نصراني لا يجوز وتردد القول في هذا المعنى فتأكدت الوحشة من الجانبين ووضع رئيس الرؤساء الأتراك البغداديين على ثلب البساسيري والذم له ونسب كل ما يجري عليهم من نقص إليه فطمعوا فيه وسلكوا في هذا المعنى زيادة على ما أراد رئيس الرؤساء وتمادت الأيام إلى رمضان فحضروا دار الخلافة واستأذنوا في قصد دور البساسيري ونهبها فأذن لهم في ذلك فقصدوها ونهبوها وأحرقوها ونكلوا بنسائه وأهله ونوابه ونهبوا دوابه وجميع ما يملكه ببغداد.
وأطلق رئيس الرؤساء لسانه في البساسيري وذمه ونسبه إلى مكاتبة المستنصر صاحب مصر وأفسد الحال مع الخليفة إلى حد لا يرجى صلاحه وأرسل إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري فأبعد وكانت هذه الحالة من أعظم الأسباب في ملك السلطان طغرلبك العراق وقبض على الملك الرحيم وسيرد من ذلك ما تراه إن شاء الله تعالى.
608
ذكر وصول طغرلبك إلى بغداد والخطبة له بها
قد ذكرنا قبل مسير طغرلبك إلى الري بعد عود من غزو الروم للنظر في ذلك الطرف فلما فرغ من الري عاد إلى همذان في المحرم من هذه السنة وأظهر أنه يريد الحج وإصلاح طريق مكة والمسير إلى الشام ومصر وإزالة المستنصر صاحبها.
وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرهما فأمرهم بإعداد الأقوات والعلوفات فعظم الإرجاف ببغداد وفت في أعضاد الناس وشغب الأتراك ببغداد وقصدوا ديوان الخلافة.
ووصل السلطان طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان فأجفل الناس إلى غربي بغداد وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهر بغداد.
وسمع الملك الرحيم بقرب طغرلبك من بغداد فأصعد من واسط إليها وفارقه البساسيري في الطريق لمراسلة وردت من القائم في معناه الملك الرحيم أنا البساسيري خلع الطاعة وكاتب الأعداء يعني المصريين وأن الخليفة له على الملك عهود وله على الخليفة مثلها فإن آثره فقد قطع ما بينهما وإن أبعده وأصعد إلى بغداد تولى الديوان تدبير أمر فقال الملك الرحيم ومن معه نحن لأوامر الديوان متبعون وعنه منفصلون.
وكان سبب ذلك ما ذكر وسار البساسيري إلى بلد نور الدولة دبيس بن مزيد لمصاهرة بينهما وأصعد الملك الرحيم إلى بغداد وأرسل طغرلبك رسولا إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية وإلى الأتراك البغداديين يعدهم
609
الجميل والإحسان. فأنكر الأتراك ذلك وراسلوا الخليفة في المعنى وقالوا إننا فعلنا بالبساسيري ما فعلنا وهو كبيرنا ومقدمنا بتقديم أمير المؤمنين ووعدنا أمير المؤمنين بإبعاد هذا الخصم عنا ونراه قد قرب منا ولم يمنع من المجيء وسألوا التقدم عليه في العود فغولطوا في الجواب وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه ويختار انقراض الدولة الديلمية.
ثم إن الملك الرحيم وصل إلى بغداد منتصف رمضان وأرسل إلى الخليفة يظهر له العبودية وأنه قد سلم أمره إليه ليفعل ما تقتضيه العواطف معه في تقرير القواعد مع
السلطان طغرلبك وكذلك قال من مع الرحيم من الأمراء فأجيبوا بأن المصلحة أن يدخل الأجناد خيامهم من ظاهر بغداد وينصبوها بالحريم ويرسلوا رسولا إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة فأجابوا إلى ذلك ذلك وفعلوه وأرسلوا رسلا إليه فأجابهم إلى ما طلبوا ووعدهم الإحسان إليهم.
وتقدم الخليفة إلى الخطباء بالخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد فخطب له يوم لثمان بقين من رمضان من السنة وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد فأذن له فوصل غالى النهروان وخرج الوزير رئيس الرؤساء إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم فلما علم طغرلبك بهم أرسل إلى طريقهم الأمراء ووزيره أبا نصر الكندري فلما وصل رئيس الرؤساء إلى السلطان أ بلغه رسالة الخليفة واستخلفه للخليفة وللملك الرحيم وأمراء الأجناد وسار طغرلبك ودخل بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من الشهر،
610
ونزل بباب الشمالية ووصل إليه قريش بن بدران صاحب الموصل وكان في طاعته في هذا الوقت على ما ذكرناه.
ذكر وثوب العامة ببغداد بعسكر السلطان وقبض الملك الرحيم
لما وصل السلطان طغرلبك بغداد دخل عسكره البلد للامتيار وشراء ما يريدونه من أهلها وأحسنوا معاملتهم فلما كان الغد وهو يوم الثلاثاء جاء بعض العسكر إلى باب الأزج وأخذ واحد من أهله ليطلب منه تبنا وهو لا يفهم ما يريدونه فاستغاث عليهم وصاح العامة بهم ورجموهم وهاجموا عليهم.
وسمع الناس الصياح فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك فارتج البلد من أقطاره وأقبلوا من كل حدب ينسلون يقتلون من الغز من وجد في محال بغداد إلا أهل الكرخ فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز بل جمعوهم وحفظوهم.
وبلغ السلطان طغرلبك ما فعله أهل الكرخ من حماية أصحابه فأمر بإحسان معاملتهم فأرسل عميد الملك الوزير إلى عدنان بن الرضي نقيب العلويين يأمره بالحضور فحضر فشكره عن السلطان وترك عنده خيلا بأمر السلطان تحرسه وتحرس المحلة.
وأما عامة بغداد فلم يقنعوا بما عملوا حتى خرجوا ومعهم جماعة من العسكر إلى ظاهر بغداد يقصدون العسكر السلطاني فلو تبعهم الملك الرحيم
611
وعسكره لبلغوا ما أرادوا لكن تخلفوا ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخلافة وأقاموا بها نفيا للتهمة عن أنفسهم ظنا منهم أن فلم بنفعهم.
وأما عسكر طغرلبك فلما رأوا فعل العامة وظهورهم من البلد قاتلوهم فقتل بين الفريقين جمع كثير وانهزمت العامة وجرح فيهم وأسر كثير ونهب الغز درب يحيى ودرب سليم وبه دور رئيس الرؤساء ودور أهله فنهب الجميع ونهبت الرصافة وترب الخلفاء وأخذ منها من الأموال ما لا يحصى لأن أهل تلك الأصقاع نقلوا إليها أموالهم اعتقادا منهم أنها محترمة ووصل النهب إلى أطراف نهر المعلى واشتد البلاء على الناس وعظم الخوف ونقل أموالهم إلى باب النوبي وباب العامة وجامع القصر فتعطلت الجمعات لكثرة الزحمة.
وأرسل طغرلبك من الغد إلى الخليفة يعتب وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأجناده ويقول إن حضروا برئت ساحتهم وإن تأخروا عن الحضور أيقنت أن ما جرى إنما كان بوضع منهم.
وأرسل للملك الرحيم وأعيان أصحابه أمانا لهم فتقدم إليهم الخليفة بقصده فركبوا إليه وأرسل الخليفة معهم رسولا يبرئهم مما خامر خاطر السلطان فلما وصلوا إلى خيامه نهبهم الغز ونهبوا رسل الخليفة معهم وأخذوا دوابهم وثيابهم.
ولما دخل الملك الرحيم إلى خيمة السلطان أمر بالقبض عليه وعلى من معه فقبضوا كلهم آخر شهر رمضان وحبسوا ثم حمل الرحيم إلى قلعة السير وإن وكانت ولاية الملك الرحيم على بغداد ست سنين وعشرة أيام،
612
ونهب أيضا قريش بن بدران صاحب الموصل ومن معه من العرب ونجا مسلوبا فاحتمى بخيمة بدر بن المهلهل فألقوا عليه الزلالي حتى أخفوه بها عن الغز.
ثم علم السلطان ذلك فأرسل إليه وخلع عليه وأمره بالعود إلى أصحابه وحلله تسكينا له.
وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه ونهب بغداد ويقول إنهم خرجوا إليك بأمري وأماني فإن أطلقتم وإلا فأنا أفارق بغداد فإني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقادا مني أن تعظيم الأوامر الشريفة تزداد وحرمة الحريم تعظم وأرى الأمر بالضد فأطلق بعضهم وأخذ جميع أقطاعات عسكر الرحيم وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصلونها لأنفسهم فتوجه كثير منه إلى البساسيري ولزموه فكثر جمعه ونفق سوقه.
وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين وأرسل إلى نور الدولة دبيس يأمره بإبعاد البساسيري عنه ففعل فسار إلى رحبة مالك بالشام على ما نذكره وكاتب المستنصر صاحب مصر بالدخول في طاعته وخطب نور الدولة لطغرلبك في بلاده وانتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا من الجانب الغربي من تكريت إلى النيل ومن الشرقي إلى النهروان وأسافل الأعمال وأسرفوا في في النهب حتى بلغ ثمن الثور خمسة قراريط إلى عشرة والحمار بقيراطين إلى خمسة وخرب السواد وأجلى أهله عنه.
وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزار سب بن بنكير بن بن عياض
613
بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار وأقطعه أرجان وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز دون الأعمال التي ضمنها وأقطع الأمير أبا علي بن أبي كاليجار الملك قرميسين وأعمالها وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم سحرا الصلاة خيرة من النوم وأمر بعمارة دار المملكة وزيد فيها وانتقل إليها في شوال.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد ومقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء وابن التميمي وتبعهم من العامة الجم الغفير وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ومنعوا من الترجيع في الأذان والقنوت في الفجر ووصلوا إلى ديوان الخليفة ولم ينفصل حال وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة فأخرج مصحفا وقال أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها.
وفيها كان بمكة غلاء شديد وبلغ الخبر عشرة أرطال بدينار مغربي ثم تعذر وجوده فأشرف الناس والحجاج على الهلاك فأرسل الله عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به ثم عاد الحاج فسهل الأمر على أهل مكة وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر عن العادة فلم يحمل منها الطعام إلى مكة.
وفيها ظهر باليمن إنسان يعرف بأبي كامل علي بن محمد الصليحي واستولى على اليمن وكان معلما فجمع إلى نفسه جمعا وانتمى إلى صاحب مصر وتظاهر بطاعته فكثر جمعه وتبعه واستولى على البلاد وقوي على ابن
614
سادل وابن الكريدي المقيمين بها على طاعة القائم بأمر الله وكان يتظاهر بمذهب الباطنية.
وفيها خطب محمود الخفاجي للمستنصر العلوي صاحب مصر بشفاثا والعين صار في طاعته.
وفيها في شوال توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا ومولده سنة ثمان وستين وثلاثمائة وبقي في القضاء سبعا وعشرين سنة وكان شافعيا ورعا نزها أمينا وولي بعده أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني الحنفي.
وفيها في ذي القعدة توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن أمير المؤمنين ومولده في جمادى الآخرة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
وفيها قبض الملك الرحيم قبل وصول طغرلبك إلى بغداد على الوزير أبي عبد الله عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحيم وطرح في بئر في دار المملكة وطم عليه وكان وزيرا متحكما في دولته.
وفيها في المحرم توفي القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي ومولده بالبصرة سنة خمس وستين وثلاثمائة وخلف ولدا صغيرا وهو أبو الحسن محمد بن علي ثم توفي في شوال سنة أربع وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته بموته قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني دخلت على أبي القاسم قبل موته بقليل فأخرج إلى ولده هذا من جاريته وبكى فقلت:
615
تعيش إن شاء اله وتربيه فقال هيهات والله ما يتربى إلا يتيما وأنشد:
(أرى ولد الفتى كلا عليه * لقد سعد الذي أمسى عقيما)
(فإما أن تربيه عدوا * وإما أن تخلفه يتيما)
فتربى يتيما كما قال.
وفي جمادى الأولى توفي أبو محمد الحسن بن رجاء الدهان اللغوي.
وفي جمادي الآخرة فيها توفي أبو القاسم منصور بن حمزة بن إبراهيم الكرخي من كرخ حدان الفقيه الشافعي.
وفي رجب توفي أبو نصر أحمد بن محمد الثابتي الفقيه الشافعي وهما من شيوخ أصحاب أبي حامد الإسفرايني.
وفي شعبان توفي أبو البركات حسين بن علي بن عيسى الربعي النحوي وكان ينوب عن الوزراء ببغداد.
616
448
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
ذكر نكاح الخليفة ابنة داود أخي طغرلبك
في هذه السنة في المحرم جلس أمير المؤمنين القائم بأمر الله جلوسا عاما وحضر عميد الملك الكندري وزير طغرلبك وجماعة من الأمراء منهم أبو علي بن الملك أبي كاليجار وهزارسب بن بنكير بن عياض الكردي وابن أبي الشوك وغيرهم من الأمراء الأتراك من عسكر طغرلبك.
وقام عميد الملك وزير طغرلبك وبيده دبوس ثم خطب رئيس الرؤساء وعقد العقد على أرسلان خاتون واسمها خديجة ابنة داود أخي السلطان طغرلبك وقبل الخليفة بنفسه النكاح وحضر العقد نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام وعدنان بن الشريف الرضي نقيب العلويين وأقضى القضاة الماوردي وغيرهم وأهديت خاتون إلى الخليفة في هذه السنة أيضا في شعبان وكانت والدة الخليفة قد سارت ليلا وتسلمتها وأحضرتها إلى الدار.
ذكر الحرب بين عبيد المعز بن باديس
وعبيد ابنه تميم
في هذه السنة وقعت الحرب بين عبيد المعز المقيمين بالمهدية وعبيد ابنه تميم بسب منازعة أدت إلى المقاتلة وقامت عامة زويلة وسائر من بها
617
من رجال الأسطول مع عبيد تميم فأخرجوا عبيد المعز وقتل منهم كثير ومضى الباقون منهم يريدون المسير إلى القيروان فوضع عيهم تميم العرب فقتلوا منهم جمعا غفيرا وهذه النوبة هي سبب قتل تميم من قتل من عبيد أبيه لما ملك.
ذكر ابتداء الدولة الملثمين
في هذه السنة كان ابتداء أمر الملثمين وهم عدة قبائل ينسبون إلى حمير أشهرها لمتونة ومنها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين وجدالة ولمطة.
وكان أول مسيرهم من اليمن أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسيرهم إلى الشام وانتقلوا إلى مصر ودخلوا المغرب مع موسى بن نصير وتوجهوا مع طارق غللا طنجة فأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية.
فلما كان هذه السنة توجه رجل منهم اسمه الجوهر من قبيلة جدالة إلى إفريقية طالبا للحج وكان محبا للدين وأهله فمر بفقيه بالقيروان وعنده جماعة يتفقهون قيلة هو أبو عمران الفارسي في غالب الظن فأصغى الجوهر إليه وأعجبهم حالهم.
فلما انصرف من الحج قال للفقيه ما عندنا في الصحراء من هذه شيء غير الشهادتين والصلاة في بعض الخاصة فابعث معي من يعلمهم شرائع
618
الإسلام! فأرسل معه رجلا اسمه عبد الله بن ياسين الكزولي وكان فقيها صالحا شهما فسار معه حتى أتيا قبيلة لمتونة فنزل الجوهر عن جمله وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين تعظيما لشريعة الإسلام فأقبلوا إلى الجوهر يهنئونه بالسلامة وسألوه عن الفقيه فقال هذا حامل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام فرحبوا بهما وأنزلوهما وقالوا تذكر لنا شريعة الإسلام فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه فقالوا أما ما ذكرت من الصلاة والزكاة فهو قريب وأما قولك من قتل يقتل ومن سرق يقطع ومن زنا يجلد أو يرجم فأمر لا نلتزمه اذهب إلى غيرنا.
فرحلا عنهم نظر إليهما شيخ كبير فقال لا بد وأن يكون لهذا الجمل في هذه الصحراء شأن يذكر في العالم فانتهى الجوهر والفقيه إلى جدالة قبيل الجوهر فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل الذيم يجاورونهم إلى حكم الشريعة فمنهم من أطاع ومنهم من أعرض وعصى.
ثم إن المخالفين لهم تجيزوا وتجمعوا فقال ابن ياسين للذين أطاعوا قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خافوا الحق وأنكروا شرائع الإسلام واستعدوا لقتالهم فأقيموا لك راية وقدموا عليكم أميرا. فقال له الجوهر أنت الأمير! فقال لا إنما أنا حامل أمام الشريعة ولكن أنت الأمير. فقال الجور لو فعلت هذا تسلط قبيلي على الناس ويقول وزر ذلك علي فقال له ابن ياسين الرأي أن نولي ذلك أبا بكر بن عمر رأس لمتونة وكبيرها وهو رجل سيد مشكور الطريقة مطاع في قومه فهو يستجيب لنا لحب
619
الرياسة وتتبعه قبيلة فنتقوى بهم.
فأتيا أبا بكر بن عمر وعرضا ذلك عليه فأجاب فعقدوا له البيعة وسماه ابن ياسين أمير المسلمين وعادوا إلى جدالة وجمعوا إليهم من حسن إسلامه وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد في سبيل الله وسماهم مرابطين وتجمع عليهم من خالفهم فلم يقاتلهم المرابطون بل استعان ابن ياسين وأبو بكر بن عمر على أولئك الأشرار بالمصلحين بن قبائلهم فاستمالوهم وقربوهم حتى حصلوا منهم نحو ألفي رجل من أهل البغي والفساد فتركوهم في مكان وخندقوا عليهم وحفظوهم ثم أخرجوهم قوما بعد قوم فقتلوهم فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء وهابوهم فقويت شوكة المرابطين.
هذا وعبد الله بن ياسين مشتغل بالعم وقد صار عنده منهم جماعة يتفقهون ولما استبد بالأمر هو وأبو بكر بن عمر عن الجوهر الجدالي وبقي لا حكم له تداخله الحسد وشرع سر في فساد الأمر فعلم بذلك منه وعقد له مجلس وثبت عليه ما نقل عنه فحكم ما عليه بالقتل لأنه نكس البيعة وشق العصا وأراد محاربة أهل الحق فقتل بعد أن صلى ركعتين وأظهر السرور بالقتل طلبا للقاء الله تعالى فاجتمعت القبائل على طاعتهم ومن خالفهم قتلوه.
فلما كان سنة خمسين وأربعة قحطت بلادهم فأمر ابن ياسين
620
ضعفاءهم بالخروج إلى السوق الزكاة فخرج منهم نحو تسعمائة رجل فقدموا سجلماسة وطلبوا الزكاة فجمعوا لهم شيئا له قدر وعادوا.
ثم إن الصحراء ضاقت عليهم وأرادوا إظهار كلمة الحق والعبور إلى الأندلس ليجاهدوا الكفار فخرجوا إلى السوس الأقصى فجمع لهم أهل السوس وقاتلوهم فانهزم المرابطون وقتل عبد الله بن ياسين الفقيه فعاد أبو بكر بن عمر فجمع جيشا وخرج إلى السوس في ألفي راكب فاجتمع من بلاد السوس وزناتة اثنى عشر ألف فارس فأرسل إليهم وقال افتحوا لنا الطريق لنجوز إلى الأندلس ونجاهد أعداء الإسلام فأبوا من ذلك فصلى أبو بكر ودعا الله تعالى وقال اللخم إن كنا على الحق فانصرنا وإلا فأرحنا من هذه الدنيا ثم قاتلهم وصدق هو وأصحابه القتال فنصرهم اله تعالى وهزم أهل السوس ومن معهم وأكثر القتل فيهم وغنم المرابطون أموالهم وأسلابهم وقوية نفسه ونفوس أصحابه وساروا إلى سجلماسة فنزلوا عليها وطلوا من أهلها الزكاة فامتنعوا عليهم وسار إليهم صاحب سجلماسة فقاتلهم وقتلوا ودخلوا سجلماسة واستولوا عليها وكان ذلك سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
ذكر ولاية يوسف بن تاشفين
لما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتوني وه ومن بني عمه الأقربين ورجع إلى الصحراء فأحسن يوسف
621
السيرة في الرعية، ولم يأخذ منهم سوى الزكاة فأقام بالصحراء مدة ثم عاد أبو بكر بن عمر إلى سجلماسة فأقام بها سنة والخطبة والأمر والنهي له واستخلف عليها ابن أخيه أبا بكر بن إبراهيم بن عمر وجهر مع يوسف بن تاشفين جيشا من المرابطين إلى السوس ففتح على يديه.
وكان يوسف رجلا دينا خيرا حازما داهية مجربا وبقوا كذلك إلى سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي أبو بكر بن عمر بالصحراء فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين وملكوه عليهم ولقبوه أمير المسلمين وكانت الدولة في بلاد الغرب لزناتة الذين ثاروا في أيام الفتن وهي دولة ردية مذمومة سيئة السيرة لا سياسة ولا ديانة، وكان أمير المسلمين وطائفته على نهج السنة واتباع الشريعة فاستغاث به أهل المغرب فسار إليها وافتتحها حصنا حصنا وبلد بلدا بأيسر سعي فأحبه الرعايا وصلحت أحوالهم.
ثم إنه قصد موضع مدينة مراكش وهو قاع صفصف لا عمارة فيه وهو موضع متوسط في بلاد المغرب كالقيروان في إفريقية ومراكش تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب كالقيروان في إفريقية ومراكش ليقوى على قمع أهل تلك الجبال هموا بفتنة واتخذها مقر فلم يتحرك أحد بفتنة وملك البلاد المتصلة بالمجاز مثل سبتة وطنجة وسلا وغيرها وكثرة عساكره.
وخرجت جماعة قبيلة لمتونة وغيرهم وضيقوا حينئذ لثامهم وكان قبل أن يملكوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد كما يفعل العرب، والغالب على ألوانهم السمرة فلما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام.
622
وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا غائرين على عدو لهم فخالفهم العدو إلى بيتهم ولم يكن بها إلى المشايخ والصبيان والنساء فلما تحقق المشايخ أنه العدو وأمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن ويلبسن السلاح ففعلنا ذلك وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدار النساء في البيوت فلما أشرف العدو رأى جمع العدو فظنه رجالا فقال هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت والرأي أن سوق النعم ونمضي فإن أتبعونا قاتلناهم خارجا عن حريمهم.
فبينما هم في جمع النعم عن المراعي إذا قد أقبل رجال الحي فبقي العدو بينهم وبين النساء فقتلوا من العدو فأكثروا وكان من قتل النساء أكثر فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه فلا يعرف الشيخ من الشاب فلا يزيلونه ليلا ولا نهارا ومما قيل في اللثام:
(قوم لهم درك العلا في حمير * وإن انتموا صنهاجة فهم هم)
(لما حووا إحراز كل فضيلة * غلب الحياء عليهم فتلثموا)
ونذكر باقي أخبار أمير المسلمين في مواضعها إن شاء الله تعالى.
623
ذكر تبييض أبي الغنائم بن المحلبان
في هذه السنة بيض علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان بواسط وخطب فيها للعلويين المصريين.
وكان سبب ذلك أن رئيس الرؤساء سعى له في النظر على واسط وأعمالها فأجيب إلى ذلك فانحدر إليها فصار عنده جماعة من أعيانها وجند جماعة عظيمة وتقوى بالبطائحيين وحفر على الجانب الغربي من واسط خندقا وبنى عليه سورا وأخذ ضريبة من سفن أصعدت للخليفة فسير لحربه عميد العراق أبو نصر فاقتتلوا فانهزم ابن المحلبان وأسر من أصحابه عدد كثير ووصل أبو نصر إلى السور فقاتله العامة من على السور.
ثم تسلم البلد وأمر أهله بطم الخندق وتخريب السور ثم أصعد إلى بغداد فلما قاربها عاد إليها ابن فسانجس ونهب قرية عبد الله وقتل كل أعمى رآه بواسط وأعاد خطبة المصريين وأمر أهل كل محلة بعمارة ما يليهم من السور.
ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وأرسل إلى بغداد يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء يأمرانه أن يقصد واسطا هو ابن الهيثم وأن يحاصراها فأقبلا إليها فيمن معهما وحصروها في الماء والبر وكان هذا الحصار سنة تسع وأربعين فاشتد فيها الغلاء حتى بيع التمر والخبز وكروش البقر كل خمسة أرطال بدينار وإذا وجد
624
الخبازي باعوه كل عشرين رطلا بدينار.
ثم ضعفوا وضجروا من الحصار فخرج ابن فسانجس ليقاتل فلم يثبت وقتل جماعة من أصحابه وانهزموا إلى سمر البلد واستأمن جماعة من الواسطيين إلى منصور بن الحسين وفارق ابن فسانجس واسطا ومضر إلى قصر ابن أخضر وسار إليه طائفة منم العسكر فأدركوه بقرب النيل فأسر هو وأهله وحمل إلى بغداد فدخلها في صفر سنة تسع وأربعين [وأربعمائة] وشهر على جمل، وعليه قميص أحمر وعلى رأسه طرطور بودع وصلب.
ذكر الوقعة بين البساسيري وقريش
في هذه السنة، سلخ شوال، كانت وقعة بين البساسيري ومعه نور الدولة دبيس بن مزيد، وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل ومعه قتلمش، وهو ابن عم السلطان طغرلبك، وهو جد هؤلاء الملوك أولاد قلج أرسلان ومعه أيضا سهم الدولة أبو الفتح بن عمرو وكانت الحرب عند سنجار فاقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم قريش وقتلمش وقتل من أصحابهما الكثير.
ولقي قتلمش من أهل سنجار العنت وبالغوا في أذاه وأذى أصحاب وجرح قريش بن بدران وأتى إلى نور الدولة جريحا فأعطاه خلعة كانت قد نفذت من مصر فلبسها وصار في جملتهم وساروا إلى الموصل
625
وخطبوا لخليفة مصر بها وهو المستنصر بالله وكانوا قد كاتبوا الخليفة المصري بطاعتهم فأرسل إليهم الخلع من مصر للبساسيري ولنور الدولة دبيس بن مزيد ولجابر بن ناشب ولمقبل بن بدران أخي قريش ولأبي الفتح بن ورام ونصير بن عمر وأبي الحسن بن عبد الرحيم ومحمد بن حماد وانضاف إليهم قريش بن بدران.
ذكر مسير السلطان طغرلبك إلى الموصل
لما طال مقام السلطان طغرلبك ببغداد وعم الخلق ضرر عسكره وضاقت عليهم مساكنهم فإن العساكر نزلوا فيها وغلبوهم على أقواتهم وارتكبوا منهم كل محظور أمر الخليفة القائم بأمر الله وزيره رئيس الرؤساء أن يكتب إلى عميد الملك الكندري وزير السلطان طغرلبك يستحضره فإذا حضر قال له عن الخليفة ليعرف السلطان ما الناس فيه من الجور والظلم ويعظه ويذكره فإن أزال ذلك وفعل ما أمر الله به وإلا فيساعد الخليفة على الانتزاح عن بغدد ليبعد عن المنكرات.
فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري يستدعيه فحضره فأبلغه ما أمر به الخليفة وخرج توقيع من الخليفة إلى السلطان فيه مواعظ فمضى إلى السلطان وعرفه الحال فاعتذر
بكثرة العساكر وعجزه عن تهذيبهم وضبطهم وأمر عميد الملم أن يبكر بالجواب إلى رئيس الرؤساء ويعتذر بما ذكره.
فلما كان تلك الليلة رأى سلطان في منامه النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وكأنه يسلم على النبي وهو معرض عنه لم يلتفت إليه وقال له يحكمك الله في بلاده وعباده فر تراقبه فيهم ولا تستحي من جلاله عز
626
وجل في سوء معاملتهم وتغتر بإمهاله عند الجور عليهم!
فاستيقظ فزعا وأحضر عميد الملك وحدثه ما رأى وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه يقابل ما رسم به بالسمع والطاعة وأخرج الجند من دور العامة وأمر أن يظهر من مكان مختفيا وأزال التوكيل عمن كان وكل به.
فبينما هو على ذلك وقد عزم على الرحيل عن بغداد للتخفيف عن أهلها وهو يتردد فيه إذ أتاه الخبر بهذه الوقعة المتقدمة فتجهز وسار وسار عن بغداد عاشر ذي القعدة ومعه خزائن السلاح والمنجنيقات وكان مقامع بغداد ثلاثة عشر شهرا وأياما لم يلقى الخليفة فيها فلما بلغوا أوانا نهبها العسكر ونهبوا عكبرا وغيرهما.
ووصل إلى تكريت فحصرها وبها صاحبها نصر بن علي بن خميس فنصب على القلعة على من أسود وبذل مالا فقبله السلطان ورحل عنه إلى البوازيج ينتظر جميع العساكر ليسير إلى الموصل فلما رحل عن تكريت توفي صاحبها وكانت أمه أميرة بنت غريب بن مقن فخافت أن يملك البلد أخوه أبو الغشام فقتلته وسارت إلى الموصل فنزلت على دبيس بن مزيد فتزوجها قريش بن بدران ولما رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم بن المحليان فراسل الرؤساء واستعطفه فصلح ما بينهما وسلم تكريت إلى السلطان ورحل إلى بغداد.
وأقام السلطان بالبوازيج إلى أن دخلت سنة تسع وأربعين [وأربعمائة] فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر فسار بهم إلى الموصل وأقطع مدينة بلد لهزارسب بن
627
بنكير، فأجفل أهل البلاد إلى بلد فأراد العسكر نهبهم فمنعهم السلطان وقال لا يجور أن تعرضوا إلى بلد هزارسب فلجوا وقالوا نريد الإقامة فقال السلطان لهزارسب إن هؤلاء قد احتجوا بالإقامة فأخرج أهل البلد إلى معسكرك لتحفظ نفوسهم. ففعل ذلك وأخرجهم إليهم فصار البلد بعد ساعة قفرا وفرق فيهم هزارسب مالا، وأركب من يعجز عن المشي وسيرهم إلى الموصل ليأمنوا.
وتوجه السلطان إلى نصيبين فقال له هزارسب قد تمادت الأيام ورأي أن أختار من العسكر ألف فارس أسير بهم إلى البرية فلعلي أنال من العرب غرضا؛ فأذن له في ذلك فسار إليهم فلما قاربهم كمن لهم كمينين وتقدم إلى الحلل فلما رأوه قاتلوه فصبر لهم ساعة ثم انزاح بين أيديهم كالمنهزم فتبعوه فخرج الكمينان فانهزمت العرب وكثر فيهم القتل والأسر وكان قد انضاف إليهم جماعة من بني نمير أصحاب حرام والرقة وتلك الأعمال وحمل الأسرى إلى السلطان فلما أحضروا بين يديه قال لهم هل وطئت لكم أرضا وأخذت لكم بلدا قالوا لا قال فلم أتيتم لحربي وأحضر الفيل فقتلهم إلا صبيا أمرد فلما امتنع الفيل عن قتله عفا عنه السلطان.
628
ذكر عود نور الدولة دبيس بن مزيد وقريش
ابن بدران إلى طاعة طغرلبك
لما ظفر هزارسب بالعرب وعاد إلى السلطان طغرلبك أرسل إلى نور الدولة وقريش يسألانه أن يتوسط حالهما عند السلطان ويصلح أمرهما معه فسعى في ذلك واستعطف السلطان عليهما فقال أما هما فقد عفوت عنهما وأما البساسيري فذنبه إلى الخليفة ونحن متبعون امر الخليفة فيه فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة وتبعه الأتراك البغداديون ومقبل بن المقلد وجماعة من عقيل.
وطلب دبيس وقريش أن يرسل طغرلبك إليهما أبا الفتح بن ورام فأرسله فعاد من عندهما وأخبر بطاعتهما وأنهما يطلبان أن يمضي هزارسب إليهما ليحلفهما فأمره السلطان بالمضي إليهما فسار واجتمع بهما وأشار عليهما بالحضور عند السلطان فخافا وامتنعا فأنفذ قريش أبا السداد هبة الله بن جعفر وأنفذ دبيس ابنه بهاء الدولة منصورا فأنزلهما السلطان وأكرمهما وكتب لهما بأعمالهما وكان لقريش نهر الملك وبادوريا والأنبار وهيت ودجيل ونهر بيطر وعكبرا وأوانا وتكريب والموصل ونصيبين وأعاد الرسل إلى أصحابهم.
629
ذكر قصد السلطان ديار بكر وما فعله بسنجار
لما فرغ طغرلبك من العرب سار إلى ديار بكر التي هي لابن مروان ومكان بان مروان يرسل إليه كل يوم الهدايا والملح فسار السلطان إلى جزيرة ابن عمر فحصرها وهي لابن مروان فأرسل إليه ابن مروان يبذل مالا يصلح حاله به ويذكر له ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين وما يعانيه من جهاد الكفار ولما كان السلطان يحاصر الجزيرة سار جماعة من الجيش إلى عمر أكمن وفيه أربعمائة راهب فذبحوا منهم مائة وعشرين راهبا. وافتدى الباقون أنفسهم بستة مكاكيك ذهبا وفضة.
ووصل إبراهيم ينال أخو السلطان إليه فلقيه الأمراء والناس كلهم وحملوا إليه الهدايا وقال لعميد الملك الوزير من هؤلاء العرب حتى تجعلهم نظراء السلطان وتصلح بينهم فقال مع حضورك بكون ما تريد فأنت نائب السلطان.
ولما وصل إبراهيم ينال أرسل هزارسب إلى نور الدولة بن مزيد وقريش يعرفهما وصوله ويحذرهما منه فسار من جيل سنجار إلى الرحبة فلم يلتفت البساسيري إليهما فانحر نور الدولة إلى بلد في العراق وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم بن قريش.
وشكى قتلمش ابن عم السلطان إليه ما لقي من أهل شجار في العام الماضي لما انهزم وأنهم قتلوا رجالا فسير العساكر إليهم فأحاطت بهم وصعد أهلها على السور وسبوا وأخرجوا جماجم من كانوا قتلوا وقلانسهم،
630
وتركوها على رؤوس القصب ففتحها السلطان عنوة وقتل أميرها مجلى بن مرجا وخلقا كثيرا من رجالها وسبى نسائهم وخربت وسأل إبراهيم ينال في الباقين فتركهم فسلمها هي والموصل والبلاد إلى إبراهيم ينال ونادى في عسكره من تعرض لنهب صلبته فكفوا عنهم.
وعاد السلطان إلى بغداد على ما نذكره وكان ينبغي أن نذكر هذه الحادثة سنة تسع وأربعين [وأربعمائة] وإنما ذكرناها هذه السنة لأن الابتداء بها كان فيها فاتبعنا بعضها بعضا وذكرنا أنها كانت سنة تسع وأربعين.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة انقطعت الطرق عن العراق لخوف النهب فغلت الأسعار وكثر الغلاء وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء وأكل الناس الميتة ولحقهم وباء عظيم فكثر الموت حتى دفن بغير غسل ولا تكفين فبيع رطل لحم بقيراط وأربع دجاجات بدينار ورطلان شرابا بدينار وسفرجلة بدينار ورمانة بدينار وكل شيء بدينار وكل شيء كذلك.
وكان بمصر أيضا وباء شديد فكان يموت في اليوم ألف نفس ثم عم ذلك سائر البلاد والشام والجزيرة والموصل والحجاز واليمن وغيرها.
وفيها في جمادى الأولى ولدت جارية ذخيرة الدين بن الخليفة الذي
631
ذكرنا وفاته قبل ولدا ذكرا سمي عبد الله وكني أبا القاسم وهو المقتدي.
وفيها في العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر في السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذره في رأي العين وعرضها ذراع إلى نصف رجب واضمحلت.
وفيها أمر الخليفة بأن بالكرخ والمشهد وغيرها الصلاة خير من النوم وأن يتركوا حي على خير العمل ففعلوا ما أمرهم به خوف السلطنة وقوتها.
وفيها توفي علي بن أحمد بن علي أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي من أهل مدينة فالة بالقرب من إيذج روى الحديث والأدب وله شعر حسن فمنه قوله:
(تصدر للتدريس كل مهوس * بليد تسمى بالفقيه المدرس)
(فحق لأهل العلم أن يتمثلوا * بيت قديم شاع في كل مجلس)
(لقد هزلت حتى بدا من هزالها * كلاها وحتى سامها كل مفلس)
وفي هذه السنة توفي محمد بن الحسين بن محمد بن سعدون أبو طاهر البزاز الموصلي ولد بالموصل ونشأ ببغداد وروى عن ابن حبابة والدار قطني وابن بطة وغيرهم وكان موته بمصر. وفيها توفي أميرك الكاتب البيهقي في شوال وكان من رجال الدين ومحمد بن عبد الواحد بن عمر بن الميمون الدارمي الفقيه الشافعي.
632
449
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة
ذكر عود السلطان طغرلبك إلى بغداد
لما سلم السلطان طغرلبك الموصل وأعمالها إلى أخيه إبراهيم ينال عاد إلى بغداد فلما وصل إلى القفص خرج رئيس الرؤساء لقاءه فلما قارب القفص لقيه عميد الملك وزير السلطان في جماعة من الأمراء وجاء رئيس الرؤساء إلى السلطان فأبلغه سلام واستيحاشه فقبل الأرض وقدم رئيس الرؤساء جاما من ذهب فيه جواهر وألبسة فرجية جاءت معه من عند الخليفة ووضع العمامة على خده فخدم السلطان وقبل الأرض ووصل إلى بغداد ولم يمكن أحدا من النزول في دور الناس، وطلب السلطان الاجتماع بالخليفة فأذن له في ذلك.
وجلس الخليفة بوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة جلوسا عاما وحضر وجوه عسكر السلطان وأعيان بغداد وحضر السلطان في الماء وأصحابه حوله في السميريات ولما خرج من السميرية أركب فرسا من مراكب الخليفة فحضر عند الخليفة والخليفة على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع وعليه بردة النبي صلى الله عليه وسلم وبيده القضيب الخيزران فقبل السلطان الأرض وقبل يده واجلس على كرسي فقال له الخليفة لرئيس الرؤساء.
633
قل له إن أمير المؤمنين شارك لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده ورد عليك مراعاة عباده فاتق الله فيما ولاك واعرف نعمته عليك في ذلك واجتهد في نشر العدل وكف الظلم وإصلاح الرعية.
فقبل الأرض وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه فقام إلى موضع لبسها فيها وعاد قبل يد الخليفة ووضعها علي عينيه وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب وأعطى العهد وخرج وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خميسين ألف دينار وخمسين ألف مملوكا أتراكا من أجود ما يكون ومعهم خيولهم وسلاحهم إلى غير ذلك من الثياب وغيرها.
ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذ
كان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة وأرجان وخوزستان وشيراز فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب فقصدا أرجان ونهباها.
وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده وأمر بقتال رسول تكين وفولاذ فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطه العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار وسار منها إلى قتلا فولاذ رسول تكين فلقيهما،
634
وقاتلهما قاتلا شديدا فقتل فولاذ وأسر رسول تكين بن عن السلكان فأبقى عليه هزارسب فسأل رسول تكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة ففعل ذلك.
ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب فاجتاز بدار رئيس الرؤساء فهجم ودخلها واستدعى طعاما إيجازا للحرمة فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسول تكين
لخاطب السلطان فيأمره فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة وقد قابل إحساني بالعصيان ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي وتتضاعف هيبتي فاستقر الأمر بعد مراجعة على أن يقيده وخرج توقيع الخليفة أن منزله ركن الدين يعني طغرلبك عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العدة بتقييد أحد في الدار العزيزة ولا بد أن يكون الرضى في جاب ما فعل فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي.
وقد كانت دار الخلافة أيان بني بويه ملجأ لكل خائف منهم من وزير وعميد وغير ذلك ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك، وكان أول شئ فعلوه هذا.
ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصر
في هذه السنة في ذي الحجة قبض بمصر على الوزير أب محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري وقرر عليه أموال عظيمه منه ومن أصحابه ووجد له مكاتبات إلى بغداد.
635
وكان في ابتداء أمره قد حج فلما قضى حجه أتى المديني وزار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة فقال له أحد القوام أيها الشيخ إني أبشرك ولي الحياء والكرامة إذا بلغتك أنك تلي ولاية عظيمة وهذا الخلوق دليل على ذلك.
فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه.
وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة وكان قاضيا بالرملة يكرم العلماء ويحسن إليهم ويجالسهم وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الشهداء والقضاء وكانت سعادتهما متفقه ونهايتهما مقاربة.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت الكارة الدقيق السميد بثلاثة عشر دينارا والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة.
وفيها في ربيع الأول توفي أو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري الأديب وله نحو ست وثمانين سنة وعلمه أشهر من أن يذكر إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة وفي شعره ما يدل على ذلك حكي أنه قال يوما
636
لأبي يوسف القزويني: ما هجوت أحدا فقال له القزويني هجوت الأنبياء فتغير وجهه وقال ما أخاف أحدا سواك.
وحكى عنه القزويني أنه قال ما رأيت شعرا في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ فقال القزويني بلى قد قال بعض أهل سوادنا:
(رأس ابن بنت محمد ووصيه * للمسلمين على قناة يرفع)
(والمسلمون بمنظر ومسمع * لا جازع منهم ولا متفجع)
(أيقظت أجفانا وكنت لها ترى * وأنمت عينا لم تكن بك يهجع)
(كحلت بمصرعك العيون عماية * وأصم نعيك كل أذن تسمع)
(ما روضة إلا تمنت أنها * لك مضجع ولخط قبرك موضع)
وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خرابا لكثرة من مات بها من الوباء الجارف ليس بها أحد.
وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفا وكان بسمرقند مثل ذلك ووجد ميت وقد دخل تركي يأخذ لحافا عليه فمات التركي وطرف اللحاف بيده وبقيت أموال الناس سائبة.
وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ وهو فقيه الإمامية وأخذ
637
ما فيها وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي.
وفيها في صفر توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني مقدم أصحاب الحدي ث بخراسان وكان فقيها خطيبا إماما في عدة علوم.
وفيها في ربيع الأول توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين وأخباره معه مشهورة.
وفيها مات أبو أحمد عدنان بن الشريف الرضي نقيب العلويين.
وفيها توفي أبو الحسين عبد الوهاب بناء حمد بن هارون الغساني المعروف بابن الجندي.
638
450
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة
ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل واستيلاء
البساسيري عليها واخذها
في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان فأرسل ' إليه رسولا يستدعيه وصحبته الفرجية التي خلعها عليه
الخليفة وكتب الخليفة إليه أيضا كتابا في المعنى فرجع إبراهيم إلى السلطان وهو ببغداد فخرج الوزير الكندري لاستقباله وأرسل الخليفة إليه الخلع.
ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري وقريش بن بدران وحاصراها فملكا البلد ليومه وبقيت القلعة وبها الخازن وأردم وجماعة من العسكر فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم فخاطب ابن موسك صاحب أربل قريشا حتى أمنهم فخرجوا فهدم البساسيري القلعة وعفى أثرها.
وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز وبقي جريدة في ألفي فارس
639
حين بلغه الخبر، فسار إلى الموصل فلم يجد فيها أحدا كان قريش والبساسيري قد فارقاها فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد ففارقه أخوه إبراهيم ينال وسار نحو همذان فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين [وأربعمائة]، وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره.
ذكر الخطبة بالعراق للعلوي المصري وما كان إلى قتل البساسيري
لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد.
وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان ووصل إلى همذان وتحصن بالبلد وقاتل أهلها بين يديه وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكا بهما وفرق غلالا كثيره في الناس وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه ثم سار من عنده إلى هزارسب وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد فورد إليها في مائة فارس ونزل في النجم ثم عبر إلى الأتانين.
وقوي الإرجاف بوصول البساسيري فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت
640
أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول الرأي عندب خروجكما من البلد معي فإنني اجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك فقال العرب لا تطيعني على المقام وأنا أتقدم إلى ديالى فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم وسار وأقام بديالى فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم وسار وأقام بديالى ينتظرهما فلم ير لذلك أثرا فسار إلى بلاده.
ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام غاية الضر والفقر وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير فنزل البساسيري بمشرعة الروايا ونزل قريش بن بدران وهو في مائتي فارس عند مشرعه باب البصرة وركب عميد العراق ومعه العسكر والعوام وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري وعادوا وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي صاحب مصر وامر فأذن يحي على خير العمل وعقد الجسر وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع.
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة ويرى المحاجزة ومطاولة انتظارا لما يكون من السلطان ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري أما الشيعة فللمذهب وأما السنية فلما فعل بهم الأتراك.
وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب، وضمن له قتل البساسيري فأذن له
641
من غير علم عميد العراق فخرج فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين وقتل منهم جماعة، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان ونهب باب الأزج وكان رئيس الرؤساء واقفا دون الباب فدخل لدار وهرب كل من في الحريم.
ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب. ورجع البساسيري إلى معسكره واستدعى الخليفة عميد العراق وأمره بالقتال على سور الحريم فلم يرعهم إلا الزعقات وقد نهب الحريم وقد دخلوا باب النوبي فركب الخليفة لابسا السواد وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره فرجع إلى ورائه ومضى نحو عميد العراق فوجده قد استأمن إلى قريش فعاد وصعد المنظرة وصاح رئيس الرؤساء يا علم الدين يعني قريشا
أمير المؤمنين يستدنيك فدنا منه فقال له رئيس الرؤساء قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك
وأمير المؤمنين يستذم منه على نفسه وأهله وأصحابه بذمام الله تعالى وذمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذمام العربية.
فقال: قد أذم الله تعالى له قال ولي ولمن معه قال نعم وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماما فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة وصار معه.
فأرسل إليه البساسيري أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه فقال قريش لا وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما وأن لا
642
يستبد أحدهما دون الآخر بشيء فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه ويترك الخليفة عنده فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري فلما رآه قال مرحبا بمهلك الدول ومخرب البلاد فقال العفو عند المقدرة فقال البساسيري قد قدرت فما عفوت أنت صاحب طيلسان وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي فكيف أعفو أنا وأنا صاحب سيف؟
وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكبا إلى معسكره وعليها السواد والبردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وأنزله في خيمة وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك فسلمها إلي أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.
ونهب دار الخلافة وحريمها أياما وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي وهو رجل فيه دين وله مروءة فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين.
فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه فأرسل له جبة فيها قطن ولحافا.
وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي وعلى رأسه الألوية المصرية فأحسن إلى الناس وأجرى الجرايات على المتفقهة ولم يتعصب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله دارا وكانت قد قاربت تسعين سنة، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة، وأجرى
643
لها الجراية، وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميرا.
وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري آخر ذي الحجة من محبسه بالحريم الطاهري مقيدا وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة جلود بعير وهو يقرأ (^ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) الآية.
وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم لأنه كان يتعصب عليهم وشهر إلى حد النجمي وأعيد إلى معسكر البساسيري وقد نصبت له خشبة وأنزل عن الجمل وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه وجعل في فكيه كلابان من حديد وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات.
وكان مولده فيء شعبان سنة سبعين وثلاثمائة كانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأربعمائة وكان حسن التلاوة للقرآن جيد المعرفة بالنحو وأما عميد العراق فقتله البساسيري وكان فيه شجاعة وله فتوة وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ.
ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل وكان الوزير هنالك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها فوقع فيه وبرد فعله وخوف عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه.
وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما وأراد قصد الأهواز فأنفذ صاحبها هزارسب بن بكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه ان يصلح الأمر
644
على ما يحمله إليه فلم يجب البساسيري إلى ذلك وقال لا بد من الخطبة للمستنصر والسكة باسمه فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر فصالحه وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة]، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي ولحق بهزارسب وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره.
وأما أحوال السلطان طغرلبك وإبراهيم ينال فإن السلطان كان في قلة من العسكر كما ذكرناه وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأكراد وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك ولا يكلفهم المسير إلى العراق وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم فلم يقو به طغرلبك واتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير فازداد بهم قوة وازداد طغرلبك ضعفا فانزاح من بين يديه إلى الري وكاتب ألب أرسلان وياقوتي وقاورت بك أولاد أخيه داود وكان داود قد مات على ما نذكره سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة] إن شاء الله تعالى، ملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان فأرسل إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه فجاؤوا بالعساكر الكثيرة فلقي إبراهيم بالقرب من الري فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيرا هو محمد وأحمد ولدا أخيه فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة]، وقتل ولدا أخيه معه.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مرارا فعفا عنه وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه.
ولما قتل إبراهيم أرسل طغر لبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك وعنده عميد الملك الكندري فسار إلى السلطان فجهز هزارسب تجهيز مثله.
645
ذكر عود الخليفة إلى بغداد
لما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغر لبك العراق ويقنع بالخطبة والسكة فلم يجب البساسيري إلى ذلك فرحل طغرلبك إلى العراق فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين فوصل الخبر إلى بغداد فانحدر حرم البساسيري وأولاده ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر ونهب بنو شيبان الناس وقتلوا كثيرا منهم، وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين [وأربعمائة] وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين.
وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه وأحرقوا درب الزعفران وهو من أحسن الدروب وأعمرها ووصل طغرلبك إلى بغداد وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة وإحضاره وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة.
ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك لينكف بلاء الغز عنا والآن فقد عادوا وهم عازمون على قصدك فارحل أنت وأهلك إلى البرية إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق تحكم عليهم بما تريد. فقال
646
مهارش: كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها وإن الخليفة قد استخلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها.
وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل وطلب منه أن يوصله إلى مهارش فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة مهارشا بتل عكبرا فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك وخدماه وحمل له بدر شيئا كثيرا وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه.
ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندي والأمراء والحجاب وأصحبهم الخيام العظيمة والسرادقات والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة وخرج السلطان إلى خدمته فاجتمع به وقبل الأرض بين يديه وهنأه بالسلامة وأظهر الفرح بسلامته واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية وبوفاة أخيه داود بخراسان وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة وقال أنا أمضى خلف هذا الكلب يعني البساسيري وأقصد الشام وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله!
وقلده الخليفة بيده سيفا وقال لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه،
647
وقد تبرك به أمير المؤمنين فكشف غشاء الخركاه حتى رآه الأمراء فخدموا وانصرفوا.
ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبى عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود وتقدم السلطان في المسير وصل إلى بغداد وجلس في باب النوبي مكان الحاجب ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته حتى صار على باب حجرته وكان وصلوه يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة] وعبر السلطان إلى معسكره وكانت السنة مجدبة ولم ير الناس فيها مطر وجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفا وثلاثين يوما ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة من الفز فوقع به غيرهم فأخذ ماله فقال:
(خرجنا من قضاء الله خوفا * فكان فرارنا منه إليه)
(وأشقى الناس ذو عزم توالت * مصائبه عليه من يديه)
(تضيق عليه طرق العذر منها * ويقسو قلب راحمه عليه)
ذكر قتل البساسيري
أنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشا عليهم خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس نحو الكوفة فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي وكان قد
648
قال للسلطان أرسل معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام.
وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن من ذي الحجة من طريق الكوفة بعد أن نهبوها وأخذ نور الدولة دبيس رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم فيتبعهم الأتراك فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال فلم يرجعوا فمضى.
ووقف البساسيري في جماعته وحمل عليه الجيش فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام وأسر منصور وبدران وحماد بنو نور الدولة دبيس وضرب فرس البساسيري بنشابة وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع وسقط عن الفرس ووقع في وجهه ضربة ودل عليه بعض الجرحى فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله وحمل رأسه إلى السلطان ودخل الجند في الطعن فساقوه جميعه وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده وهلك من الناس الخلق العظيم وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فحمل إليها فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة] فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به وصلب قباله باب النوبي.
وكان في أسرى البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة فأخذن وأكرمن وحملن إلى بغداد.
649
ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين [وأربعمائة] وإنما ذكرناها ههنا لأنها كالحادثة الواحدة ليتلو بعضها بعضا.
وكان البساسيري مملوكا تركيا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور واسمه أرسلان وكنيته أبو الحرث وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا والنسبة إليها ومنها أبو علي الفارسي النحوي وكان سيد هذا المملوك أولا من بسا فقيل البساسيري لذلك وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن وهسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان.
وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة عند خوزستان واجتمعت عشيرته على ولده صدقة.
وفيها توفي الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه بقلعة الري وكان طغرلبك سجنه أولا بقلعة السيروان ثم نقله إلى قلعة الري فتوفي بها.
وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح وكان متقدم بعض نواحيها فأرسل إليه طغرلبك جيشا مع عميد العراق أبي نصر فهزمهم أبو علي.
650
وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة.
وفيها في صفر توفي أبو الفتح بن شيطا القاري الشاهد وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
وفيها في شهر ربيع الأول القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وله مائة سنة وسنتان وكان صحيح السمع والبصر سليم الأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء وحضر عميد الملك جنازته ودغن عند قبر أحمد وله شعر حسن.
وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي وكان إماما له تصانيف كثيرة منها الحاوي وغيره من علوم كثيرة وكان عمره ستا وثمانين سنة.
وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا الضرير الفرضي وكان إماما فقيها على مذهب الشافعي.
وفيها في شوال كانت زلزلة عظيمة بالعراق والموصل ووصلت إلى همذان ولبثت ساعة فخربت كثيرا من الدور وهلك فيها الجم الغفير.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل،
651
وكان قد سمع الكثير من الحديث ورواه.
وتوفي أيضا القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص وكان وافر العلم والأدب.
تم المجلد التاسع
652