قراءة في مقام علي عليه السلام - بینات من الهدی نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بینات من الهدی - نسخه متنی

محمد الرصافی المقداد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید








قراءة في مقام علي عليه السلام





سيدي، أي فكر يمكنه أن يبلغ مداك؟ وأي قلب يستطيع حوز حبك ونيل رضاك؟ وأي قلم يقدر على الفراغ من ذكر هداك؟ هيهات وطودك شامخ وذكرك باذخ، تحيرت فيك عقول المحبين رغم ولائها المطلق وخرست أصوات القالين وعنت وجوههم لك ذالة مهزومة، أنت الذي ينحدر عنك السيل ولا يرقى إليك الطير.






عجبي في أمة أبت أن تبصر فضلك، ورفضت أن تتزود من معينك، وانحازت عن نجعك اللافي ونبعك الصافي، رضيت بالغدير العكر والماء النكر، تاركة وراءها سلسبيلا رويا.






رضيت أن تكون مع الخفافيش التي تتهيب نور الشمس، وتنزوي في سدول ظلمة المغارات حتى تغيب، لا تستطيع العيش إلا في ذلك الوضع المزري، العيب يا سيدي ليس في الشمس التي ضعفت عيون الخفافيش عن رؤيتها كما أن الخلل الذي أصاب الأمة فحال دون إبصارها لأنوارك ليس فيك، انه في غثاء السيل الذي ربا على الكثرة الكثيرة التي هي كأف.






علي أنت في علاك لا يدركك إلا العلي الأعلى كما قال فيك ذلك نفسك التوأم ومثالك الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لست متاحا إلا لمن رفض الاستعلاء في مقام العبودية، لأنك أول الرافضين للاستعلاء رغم مقامك العالي، ولست وليا إلا لمن والاك بكل ما في الولاء من معنى.






معذرة سيدي إن أنا تطاولت عليك من سفوح القصور ومنازل الظلمة والد يجور وأنى للسفح أن يدرك القمة ولا للظلمة أن تختلط بالنور.






عزائي في ذكرك أنني تحيرت فيك صغيرا وأكبرتك راشدا وأسعى إلى حبك كبيرا فهل لي من عطفة منك على هذا الواقف على أعتاب قدسك ومناهل فيض علمك، حتى أرد المنهل وأستشرف القدس ولا أبالي بعدها إن حل بي الردى ومت أن أموت محمديا أم علويا أم حسنيا أم حسينيا، لأن النور واحد والأصل واحد ذرية بعضها من بعض، لا اختلاف إلا في الاسم والترتيب، حتى الاسم والترتيب هما عارضان لمقتضى الزمن والتكليف.






بقدر ما سعى أعداءك ومناوئوك إلى حبس فيضك عن الناس وأجهدوا أنفسهم في كبح ظلك الوارف ومخزون علمك الجارف، فنكروا صرحك، وتسوروا بيتك وتظاهروا عليك في وقت كان عليهم أن يأتوك ركعا سجدا، كما فعلت الملائكة عندما سجدت للنور الذي في صلب آدم، ذلك النور الذي تعلمت منه ترانيم العشق الإلهي- بقدر ما فاضت ينابيعك على القلوب السليمة والآذان الواعية معرفة حقة وعلما نافعا وإيمانا قويا عميقا، بعدما أذن الله تعالى لها أن تحبك، وبعدما انزوت تباشير الدنيا بعيدة عن مقام الحب الإلهي فالضدان لا يجتمعان أبدا.






ما الذي عابه فيك القالون حتى يتنكبوا عن نهجك؟ إن طرحت هذا السؤال عليهم تذرعوا بحبك، وأي حب هذا الذي يترك حبيبه في واد ويسلك هو واد آخر.






قد يتذرع أكيسهم وأسيسهم بأن المسألة مر عليها خمسة عشر قرنا ونحن الآن في عصر يتطلب منا النظر إلى الأمام، ونسيان الماضي بتفاصيله، ويستشهد بقوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".






مشيرا إلى الخراب الذي لحق بالأمة، متجاهلا السبب الذي هو الأساس الأول الذي قوض البناء وجعله يسقط سريعا، ولا يمكننا تجاهل الأمر بالتغاضي عن تاريخنا لأن فيه أحداثا خطيرة يقف وراءها عدد من الرموز المتخذة قدوة عند الكثيرين، ولا البناء من حيث الخراب لأن البناء من حيث الخراب لا ينتج إلا خرابا وعبثا، ولكوننا أمة لم تخل بعد وما يزال دورنا قائما إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.






لماذا يصر هؤلاء على المضي قدما في تغييبك وحالك أجل من أن تخفى وحقيقتك أرفع من أن تطوى، حقيقتك هي كالشمس، إن لم يقنعوا بالآيات والأحاديث الواردة في خصوص إمامتك وفضلك، فليقنعوا بأياديك الكثيرة على الإسلام وأهله تلك الأيادي التي اعترف بها العدو والصديق.






بسيفك أقمت عمود الدين وبعلمك وعلوم ذريتك بقيت للدين بارقته واستمر حزبه ظاهرا رغم تعدد أنواع التصفية والإقصاء، إن التنكب عن علي عليه السلام هو الذي أردانا إلى هذه الحال من الفرقة والجهل إلى حد البلاهة والبلادة.






أراد لنا حزب الشيطان أن نتخذ سبيلا غير سبيل الحق، ألبسوا على المسلمين دينهم فخلطوا لهم الغث بالسمين والسقيم بالسليم، ولعل أسوأ طعنة أصابت هذا الدين، هي المحاولة الناجحة في فصل الدين عن الحياة، بفصل الحاكمية عن أهلها والمسجد عن دوره،، والمطلع على أحداث ما قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما استتبعها من سقيفة بني ساعدة وحروب الإخضاع المسماة بحروب الردة يقف على مدي الضرر الذي لحق بالدين وأهله.






حقيقتك الأولى:






ظهرت لي وأنا أستحضر اسمك أنك مستودع السر الرباني، أنك الإمام المبين الذي أحصى الباري تعالى فيه كل شيء، وما كان ذلك ليتم لولا بسطة العلم والجسم التي كانت في ذاتك المقدسة، خصك الله تعالى بأحد أسمائه دفعا لريب المؤمنين، فلم ترتب فيك غير حسائك النفاق ومنابت السوء، كنت ونفسك الأكرم وروحك التوأم صلى الله عليه وآله نورا بين يدي الله تعالى حين لم تكن هناك سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا شمس ولا قمر ولا كرسي ولا عرش، يدور في فلك المعرفة والطاعة يسبح الله ويقدسه ويهلله ويمجده، فلما أراد عز وجل أن يخلق الخلق استودعكم السر واسترعاكم الأمر، وقرن أرادتكم بإرادته، وجعلكم باب طاعته الذي يؤتى منه.






قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل مطيعا يسبح الله ذلك النور ويقدسه قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام.






فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم نزل في شيء واحد حتى افترقنا في صلب عبد المطلب فجزء أنا وجزء على".






وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم لك: " إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ففضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا على وللائمة من بعدك، وان الملائكة لخدامنا وخدام محبينا، يا علي الذين يحملون العرش ومن حولنه يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للذين آمنوا بربهم وبولايتنا يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، وكيف لا نكون افضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى التوحيد، ومعرفة ربنا عز وجل وتسبيحه وتقديسه وتهليله، لان أول ما خلق الله تعالى أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتمجيده، ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وانه منزه عن صفاتنا فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزهته عن صفاتنا، فلما شاهدوا عظم شاننا، هللنا لتعلم الملائكة أن لا اله إلا الله وأنا عبيد ولسنا باله نحب أن نعبد معه أو دونه، فلما شاهدوا كبر محلنا، كبرنا الله لتعلم الملائكة إن الله اكبر من أن ينال وانه عظيم المحل..."






ثم خصك الباري تعالى بما لم يخص به أحدا من العالمين إذ زين الكعبة وشرفها بولادتك، فكنت أول وآخر مولود يولد بها، فكان رسول الله (ص) يسمي تلك السنة بسنة الخير والبركة.






ثم شاءت كرامة الله عليك أن كانت شهادتك أيضا ببيت الله وأنت متجه إليه، وان كانت
حياتك كلها في الله ومع الله والى الله ومن الله تعالى.






أنت الإمام المفترض الطاعة، المنصوص عليه من قبل الباري تعالى إمامتك وحكومتك من كتابه ودينه، حيث هي تمام الدين ونظام ملته، جريان أمره، وروحه التي في كيانه، ولا أجد أبلغ مما قاله ابنك علي بن موسى الرضا






عليه السلام عندما تناول الناس في مجلسه مسألة الإمامة فقال مقالة طويلة أكتفي في هذا المختصر على أولها: "جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله تعالى لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، فقال تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء".






وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (ص): "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".






وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وآله وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم عليا صلوات الله عليه علما وإماما، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله تعالى لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله تعالى، ومن رد كتاب الله فهو كافر، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم، إن الإمامة خص الله بها إبراهيم الخليل صلوات الله عليه بعد النبوة والخلة، مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: "اني جاعلك للناس إماما (فقال الخليل سرورا بها) ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين".






فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين".






فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا، حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال جل وتعالى: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين".






فكانت له خاصة فقلدها عليا عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى: "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث".






فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أين يختار هؤلاء الجهال..."






تلك هي إمامتكم سيدي مؤيدة مسددة ومصطفاة لم يعرفها ويقبلها إلا الذي امتحن الله قلبه للإيمان، ولو كانت من عند غير الله تعالى لوجدوا فيها اختلافا كثيرا، إن سألناهم عن اختيارهم الأول ماذا فعلوا به قالوا بأن ذلك قدر الله ولئن قلنا لهم عودوا إلى الأصل الثابت والنبع الروي قالوا وما ينفعنا اليوم ونحن على بعد كبير وبون سحيق، ولئن قلنا لهم إن المسألة غير مقتصرة على الدنيا، بل هي في الآخرة أيضا، فقد قال تعالى: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم".






قالوا الإمام هو الكتاب وما ندري للإمامة معنى غير السقيفة وشورى الستة، وأمراء المؤمنين معاويتهم ويزيدهم ومروانهم وبقية بني أمية وبني العباس، ولكني أقول ما قال الله تعالى لنبيه: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".






فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.






حقيقتك الثانية:






ظهرت لي عندما وقفت على عتبة بابك، أنك نفس الرسول الأعظم (ص) بمنطوق القرآن، وأخوه الأوحد بالمؤاخاتين في مكة والمدينة، وصهره الذي لاند له كما ليس لفاطمة ند لولا ك، وصنوه الأكرم، منك فاضت علومه وظهرت تعاليمه واليك انتهت الحكمة وآلت مواريث الهداة منذ آدم حتى قائم آل محمد (ص) كما جرت سنة الباري تعالى في صفوة مخلوقاته من هبة الله شيث بن آدم حتى ظهورك.






إن لك على الله كرامة، ومن عنده ميثاقا، وفي سبيله موعد قريب، أنت الذي كنت نورا واحدا متصلا مع الحبيب محمد صلى الله عليه وآله، أنت منه وهو منك كما صرح بذلك من لا ينطق عن الهوى،، ولا عجب في كل ما يصدر عنك، عبدت الله تعالى مع السيد الأول صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يعبده أحد بسبع سنين، عندما أوحى الله تعالى إلى صفيه أن يختارك من بين اخوتك، لتكون خالصا لرسول الله يشملك بعنايته ويرعاك دون غيرك، وقد خلصت إليه بعنايته تعالى، فكنت ترى ما يراه وتسمع ما يسمعه لازمته في البيت، وفي غار حراء وفي كل مكان كان يتحرك فيه النبيصلى الله عليه وآله، إلا كنت له فيه ردأ ومعينا، نصرت الدين أولا وأخيرا، وجمعت من الخصال والفضائل والشمائل ما لم تكن إلا للنبي المصطفى صلى الله عليكما وآلكما.






قلت في إحدى خطبك: وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عله وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (ص) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ص- فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة فقال هذا الشيطان قد يئس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما أرى، إلا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلي خير".






بدأ النبي صلى الله عليه وآله بإعدادك للدور الرسالي والمقام المرجعي بعده منذ أن أمره الباري تعالى باختيارك من بين اخوتك، فرباك على أخلاقه العظيمة صغيرا، وزقك من علومه صبيا ويافعا وكبيرا، فلم يزل على تلك الوتيرة وذلك المنحى، إلى أن قبضه الباري تعالى إلى حضرته ومقام أصفيائه فكنت الشاهد عند الفراق، سارك وساررته حتى عند الموت، وظهر ذلك جليا من دون لبس ولا اختلاف قول عند كل رواة التاريخ والسيرة والحديث، كنت إذا سألت النبي صلى الله عله وآله أجابك، وإذا سكت ابتداءك، وكان لك مدخلان إليه، مدخل بالليل وآخر بالنهار، حتى إن صلاته صلى الله عليه وآله وسلم لم تمنعك من الدخول عليه فكان إذا علم بك على الباب وهو يصلي، سبح لكي تدخل عليه فلا يفوتك ولا تفوته.






ظهرت قابليتك للانصهار في هيكل الدين ورمته، فخصك بما لم يخص به أحدا من الناس. فكنت باب مدينة علمه وينبوع هداية أمته منك اشتقت العلوم.






حقيقتك الثالثة:






سطعت عندما واجهت ذلك السيل الجارف من نعيق الناعقين ونكير الناكرين، أنك وجه الله وبابه منك خرجت حقيقة التوحيد الصافي، والدين القيم الذي لم يتدنس، وبرج الهداية العالي الذي سفه أحلام الذين عملوا على زواله.






يقول رسول الله (ص): "النظر في وجه علي عبادة". وهي لعمري أعظم عبادة وأجل هبة يسبغ بها الخالق على مخلوقاته، وأيسرها لمن ألقى السمع وهو شهيد. إشارة منه صلى الله عليه وآله وسلم أنك الوجه الذي تشد إليه الرحال ويقصد، فإذا أردنا الله تعالى أتيناك وفي مجيئنا عبادة لله وطاعة له، أنت من أسست دعائم الإيمان حتى صرت رمزا، واشتملت على حقائق لم تسعها عقول الناس فانقسموا فيك بين مبغض قال ومحب غال فلم يسلم إلا القليل، أنت الذي عرف بك المنافقون، وانكشف بفضلك المتسترون بالدين لقضاء مآربهم. صدع بذلك أخوك المصطفى عندما أعلن أنه: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".






من أجل ذلك رفضوا ولايتك، وحاربوك بشتى الطرق والوسائل، بدأ بالتثبيط والدعاية الكاذبة، وانتهاء بسفك دماء الأولياء. كان همهم الوحيد أن تمضي عنهم، ليعودوا إلى أقنعتهم التي مزقها بغضهم لك وأسقطها نفورهم منك، وأنى للنفاق أن يهجع بجانب الإيمان، ولا الخبث أن يخالط الطهر. هيهات، هيهات.






حقيقتك الرابعة:






أنك سيدي يا علي كالكعبة تؤتى ولا تأتي.






وأي مثال أعظم من هذا الذي ضربه النبي الأعظم (ص): علي عليه السلام كالكعبة، والكعبة رمز الإسلام وركن الدين ووجهته، إليها تتجه وجوه المصلين واليها ييمم القاصدون للحج، وبها يطوفون، وبأستارها يتعلقون، والتوجه كله طاعة لله تعالى، وتعبدا له، وعلي أفضل من ألف كعبة وان كانت الكعبة لا تتحرك فيشد لها الرحال من كل حدب وصوب، فان عليا مع كونه يتحرك ويمكنه المجيء، إلا أنه يجب أن ينظر إليه كالكعبة يؤتى اليه ولا يأتي، لأن في الأمر اتباعا واقتداء وموالاة تستوجب أن يأتي المحتاج إلى حاجته.






كالكعبة أنت وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله فيما قال، لأنك رمز الدين، وعنوان الإيمان، وحقيقة الوجود، ومنبع العلوم، ودوحة الهداية التي يستظل بها من لضى الفتن والضلال.






لذلك صرح رسول الله (ص) فقال فيك: ": يا علي لا يعرفك حق معرفتك إلا أنا والله". لأن يقين علي، وشخص علي، ومقام علي عليه السلام لا تسعه عقولنا.






تحير فيك معاصروك والذين جاءوا من بعدهم، لقد اخترت لنفسك الطريق الأوعر والمسلك الأوحش، كان ذلك دائما دأبك في ما اختار غيرك موادعة الدنيا ومقارفة زينتها حتى أثلجت صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وملكت فؤاده.






تماما كما قلت لأبي ذر وأنت تودعه: ": يا أبا ذر، انك غضبت لله فارج من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما أغناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غدا والأكثر حسدا، ولو أن السماوات والأرضين كانتا رتقا على عبد ثم اتقى الله لجعل له منهما مخرجا، لا يؤنسك إلا الحق ولا يستوحشنك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك".






حقيقتك الخامسة:






أنك باب مدينة علم رسول الله صلى الله عيه وآله، إن للمدن أبوابا متعددة، لكن مدينة علم رسول الله لها باب واحد وهو أنت، لأن كل علم جاء عن رسول الله ولم تكن طرفا مؤسسا فيه، ولا مدخلا يفضي إليه، لن يكون ثابتا، ولا مأمونا، وتلك إرادة النبي في أن تكون الباب إلى الدين بعده وباب حطة الذي من دخله كان آمنا.






فمن أراد علم الرسول صلى اله عليه وآله وهداية سننه وآثاره وما يتزود به المرء لرحلة الآخرة، وبمعنى أدق من أراد الإسلام المحمدي فليأت عليا لأن عليا مستحفظ الدين السوي.






ذلك هو الباب وتلك هي المدينة، ومن غير الممكن دخول المدينة من غير بابها، ومن جاء المدينة من ظهرها سمي سارقا، وتحصيل العلم من غير موضعه الرباني غير مضمون، لأن العلم بدون معلم معروف كالحرث بلا زرع.






واعتراف الناس بعلومك واقرارهم أن أربابها كلهم راجعون إليك، عيالا عليك في الأصل، فابن أبي الحديد المعتزلي مثلا ينقل في شرحه لخطبك التي جمعها السيد الأجل الشريف الرضي رضوان الله تعالى عليه، وسماها بنهج البلاغة، صرح بقوله: "وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذى".






وعدد بعد ذلك جملة من العلوم، كعلم الكلام والفقه وتفسير القرآن، وعلم الطريقة (العرفان) وأحوال التصوف وعلوم النحو والعربية وغيرها. ناسبا أربابها إليك سواء مباشرة أو عبر تلامذتك.






لقد دلت عليك آثارك وظهر كلامك عجبا عجابا، وآية من آيات فصاحة لم يدرك زمامها أحد، سقت المعاني قبل الألفاظ سوقا وطوعت تراكيب اللغة حتى لم يعد هناك بناء عربي يفصح عن بلوغ صاحبه المدى غير بنائك، أخذت بكلكلها وعجنتها ضروبا من التعابير التي أذهلت الولعين باللغة العربية، فما فارقها أحد مذ عرف ميزانها ومن وضع فيها صروف عقله وحواشي لسانه أوردته مورد الفصاحة، وأكسبته القدرة على استدراج اللفظ وفهم المعنى، وكان ذلك كله منك سليقة وفطرة، من دون تهيئة ولا بسط فكر، أجريتها فيك مجرى الدم من العروق، فما عادت تطيق فراقك، ولا أمكنها أن تلوي عنقها إلى غيرك.






ولما تبين أعداؤك من خطبك خطر انكشاف زيف طريقهم، وافتضاح رموزهم وسقوط أصنامهم، بما حوته من تقريض عن الإمامة ومعاني الاصطفاء، ومنزلة أهل بيتك عليهم السلام، والحكومة في الإسلام ن والواقع الذي يجب أن يكون في الأمة الإسلامية، وتصريح لا مراء فيه ولا غطاء عما جرى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، نعق ناعقهم بإنكار صدورها عنك، قائلا إنها من تأليف غيرك ليدرأ لآلي الحق، من أن تأتي على سفا الباطل، لكن كيدهم ذهب مع إقرار من أقر من غير أتباع المسلمين الشيعة، منهم قديما ابن أبي الحديد المعتزلي وحديثا الشيخ محمد عبده، وصبحي الصالح وغيرهم، بأن نهج البلاغة هو لك وان ما فيه غيض من فيض.






قلت فيه كلاما لم يكن لغيرك حتى يصرف إليه ولا شابه كلام أحد من علماء وأدباء ولا حتى شعراء العربية حتى يقال هو أقرب إلى هؤلاء منك، ولو كان لحد لادعاه ولما رضي أن ينسب إلى غيره، وضعت حدود العقائد وبسطت الكلام في أبواب لم تدر في خلد من عاصرك، تحدثت عن الله تعالى وعن صفاته وقضائه وقدره، وعن أحوال الملائكة والأنبياء وعن خلق السماوات والأرض، وعن صفات بعض المخلوقات، وصفات المؤمنين وصفات المنافقين وصفة الجنة والنار والحساب.






وكانت لك آراء في الحكومة، وتصريف شؤون الناس هي من جوهر الدين، لا يشك فيها شاك أبدا، أما كتبك إلى عمالك في الآفاق فهي جديرة اليوم بأن تكون ميثاقا عالميا يساس به الناس وتحمى به حقوقهم المهدورة تحت شعارات حقوق الإنسان والمواطنة، والمدنية المسكينة.






اسمح لي سيدي أن أختار من كلامك بعضه ليكون حجة على من يقرأه ودليلا لمن يطلب البرهان ونورا لمن يريد أن يستضيء به، قلت في التوحيد مقالات جليلة منها: " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه.






أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه...."






وقلت في أهل البيت عليهم السلام: "فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمان، إن نطقوا صدقوا وان صمتوا لم يسبقوا، أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا، أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم..."






بينت مكانة الهداة من أهل بيتك كما بينها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأثبت تطابقا في الفكرة والمعنى وبينت ما استعصى إدراكه من كتاب الله فيهم، وقلت أيضا: " هم عيش العلم وموت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم وصمتهم عن مكنون منطقهم، أخذوا العلم أخذ وعاية ورعاية لا أخذ سماع ورواية، فوعاة العلم قليل ورواته كثير".






حقيقتك السادسة:






أنك مذ لقفت من رسول الله (ص) وطنت نفسك على السفر فخففت متاعك الزائل وكثرت متاعك الدائم، سجدت لله تعالى وبقية الذين دخلوا الإسلام فيما بعد يعبدون الأصنام، ويستقسمون بالأزلام ويشربون الخمر حتى يستوي عندهم الليل بالنهار والحق بالباطل والرجس بالطهر،، ويفعلون من المنكرات من قتل وزنى ما لا يرون فيه تبعة ولا غضاضة، فكل إناء بما فيه يرشح.






تميزت عن غيرك بأنك لما نهلت من العين كان شربك شرب من لم يعرف الريبة والشك في ما كان يلقى إليه، فدرجت سريعا ترتقي ونشأت متخذا من الصدق شعارا، ومن الفداء دثارا، ومن التواضع غطاء، ومن الخشية حاجزا، ومن الحب والولاء لله ولرسوله وليجة ومطية إلى الرضوان، فنلت مرادك وظفرت ببغيتك فيما فشل غيرك ممن ناصب لك العداء وباعد بينك وبين حكومتك.






إن كان إبراهيم خليل الرحمان قد قدم ابنه تحقيقا لأمر الله، فقد قدمت نفسك في المواطن كلها فداء لله ولرسوله، ويقينا بما عند الله وما وعد به أولياءه، وطنت نفسك من مكة على ذلك وأنت لا زلت يافعا، كنت مع أبيك حماة رسول الله (ص) وجاء مبيتك على فراشه ليلة هجرته تجسيدا لحركة دأبت عليها حتى باهى بك الله تعالى جبريل وميكائيل ونزلا بأمره لحمايتك، ونزلت فيك: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.."






اختار لك الله ورسوله (ص) الأفضل لأن بقاءك كان لأسباب عدة منها مناورة المشركين والتمويه عليهم، وأداء أمانات الناس التي كانت عند رسول الله، وتأمين من بقي من المستضعفين للهجرة بهم إلى المدينة وكان ذلك كله يتطلب رجلا ليس ككل الرجال، لم يكن هناك غيرك ليتحمل أعباء تلك المهام الصعبة والأعداء يتربصون بك من كل ناحية.






حقيقتك السابعة:






أنك رغم الحرب المنظمة التي شنت عليك من قبل أعدائك الكثر وما أكثر أعداءك يا سيدي، رغم أن سيرتك كلها طافحة بالرحمة والشفقة، ملآى بالعدل ورفعة الأخلاق التي زرعها فيك صاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد جهد أولئك في أن يخرجوا لك عيبا أو يسموا صفحاتك الطاهرة بلسان القرآن بكذبة فلم تنفذ إلى صافي سيرتك، غاضهم أنك نقي السريرة فبحثوا عن التلفيق والكذب عليك فلم يستقم كذبهم مع صدقك ولا افترءهم مع استقامتك، ولا تعديهم مع حلمك عليهم جميعا، أرادوا أن يسقطوك في متاهة النسيان فسقطوا هم وغابت آثارهم وانمحت مقاماتهم التي بنوها بالدرهم والدينار، وعلى أجساد ودماء الأبرياء، وبقي مقامك عاليا متعاليا، وكيف لا يكون كذلك وأنت علي واسمك من العلي، فهو الأعلى وأنت علي.






ربوا على بغضك وكراهية نهجك الذي سبرته من رسول الله صلى الله عليه وآله، ثلاثة أجيال من المسلمين، فأكثر من 82 عاما وأنت وأهل بيتك تلعنون على منابر الخلافة الإسلامية، وسنتهم التي تسموا بها ويدعون انهم أصحابها لم تكتب ولم تدون، أنت الذي أعززت الدين ورفعت أعلامه وقام بحد سيفك البتار، كافئوك بالسب اللعن وتتبعوا أهل بيتك ومواليك تحت كل حجر ومدر ووبر، تقتيلا وتشريدا وسجنا، حتى آثارك التي هي جوهر الدين وعينه جندوا لها عددا من الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ليمحوا آثارها ويزيفوا واجهتها، فما زادك ذلك إلا ظهورا واستطالة وتميزا، وما زاد أعداءك غير سخافة ووهنا وضعفا، ثم استمر كل يعمل على شاكلته، أنت تدعو إلى الله تعالى والى الآخرة، وأولئك يدعون إلى مائدة شيعها قصير وجوعها طويل كما قلت يا سيدي محذرا من الدنيا.






بقيت سيدي وبقي ذكرك، وذهب المؤسسون لبغضك وانطمس ذكرهم وبقيت تبعاتهم وأوزارهم يحملها عنهم الغافل والذي أخذ الدين وراثة وتقليدا يلحس قيئهم ويجتر نبتتهم ويكتوي بحر نار أضرموها لتكون مقرهم وبئس المصير.






لقد استوقفني ما حصل لغلامك قنبر مع الحجاج الثقفي يا سيدي، فأردت أن أنقلها لأعرف الناس مدى البغي والظلم الذي طالكم ولحق مواليكم، قال الحجاج يوما: أحب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه. فقيل له: ما نعلم أحدا أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فطلبه، فأتي به. فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي. قال: فابرأ من دينه. قال: دلني على دين أفضل منه، قال: اني قاتلك، فاختر أي قتلة أحب إليك. فلقد صيرت ذلك إليك. قال: لم؟ قال: لا تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، ولقد أخبرني أمير المؤمنين أن منيتي تكون ذبحا ظلما بغير حق. فأمر به فذبح".






حقيقتك الثامنة:






أنك عرفت ربك فيما جهله غيرك، وعبدته حق عبادته فيما عبد غيرك الوهم والسراب، وكان كلامك عن التوحيد مرجعا استنفر إليه آلاف الباحثين، فلم يجدوا عنه محيصا ولا رأوا في غيره حقيقة المعرفة الحقة في صفات الله تعالى ومعاني بلوغ كنه ذاته العلية، وفي القضاء والقدر، كان أرباب تقاريض الكلام وأصحاب مدارس النطق والفلسفة عيالا عليك، في ذلك الفن منسوبين إليك طوعا وكرها، لم تظهر منك بارقة واحدة فيتقول عليك متقول أو يشك شاك في أن ما تلفظته كان فلتة وما ألقيته جاء صدفة، لأن كلامك كله واحد وحالك واحدة، ولو كان اختلاقا وتلفيقا لوجدوا فيه اختلافا، الأمر الذي لم يحصل البتة، فكان الإقرار من جهابذة اللغة وفن الكلام، أن كلامك فوق كلام البشر ودون كلام الله تعالى، كلامك يا سيدي واحد ولسانك واحد كما إن وجهك واحد وشخصك واحد، درجت على وتيرة واحدة لم تغيرك الأيام ولا الخطوب التي مرت بك فارتدت على أدبارها متغيرة دونك مختلجة عن ساحل يمك الذي لا يدرك مداه ولا يستخرج كنوزه غوص غائص






ولم تظهر بغير وجهك المعتاد وسيرتك التي أرهقت عباد الدنيا ففروا إلى دنيا معاوية تاركين الآخرة وراء ظهورهم، نقموا منك عدلك ومساواتك ورفضك لكل أشكال التفرقة والتمييز، يئسوا لما رأوا الدنيا تطلق بين يديك ثلاثا بلا رجعة فانفضوا من حولك لأنهم كانوا يريدون خلط الدين بالدنيا، وعبادة الله تعالى مع النفس، مدركين خطر اختيارهم مصرحين لمعاوية لما قدموا إليه، ففرح بمقدمهم وطرب طربا شديدا رغم الشهادة التي لم تكن لتروق له عنك: "إننا لم نأتك لأنك صاحب حق لكننا هربنا من حق علي لأنه مر".






لم يكن هم معاوية أن يكون هؤلاء معه، لأنه يدرك جيدا أنهم ليسوا في صفه ولا من حزبه ولا من طينته، كانت خططه وأحابيله تصب في تفريق الناس عنك، وابعادهم عن نهجك، وبمعنى أدق كانت الحرب معلنة على الإسلام الذي تنادي به، وهو إسلام أخيك محمد بن عبد الله صلى الله عيه وآله وسلم.






ولئن سألوا عن العبادة والعابدين، لما تحولوا قيد أنملة عما درجت فيه ودأب عليه آباؤك، فجدك عبد المطلب كان إذا جاء شهر رمضان، نحر وأطعم الناس وصعد إلى حراء يتعبد هناك على ملة أبيه إبراهيم.






سلكت سيدي طريقا، اجتهد العباد وكبار العرفاء في أن يبلغوا معشارك فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولولا وجودك سيدي وبقية الطاهرين من ذريتك لاندرست معالم الدين وانمحت صفحته من أذهان الناس.






نقل عنك حفيدك الإمام محمد بن علي الباقر ابن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين، ذو النفثات والتأوهات وصاحب المناجيات وصحيفة الدعاء الزكية المسماة باسم الصحيفة السجادية، وشاهد سفك دماء الطاهرين ظلما وعدوانا بأيد تتوضأ وأنفس تتقدم للصلاة وترتفع تكبيرا وتهليلا لذبح أولياء الله، تناقض لم يسبقنا إليه غير اليهود، ذلك إسلام الظالمين والجاهلين الذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل.






تقول الرواية: "دخل أبو جعفر على أبيه عليهما السلام، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم انفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر: فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحال من البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت بعد هنيهة من دخولي وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب، فأعطيته، فقرأ منها شيئا يسيرا ثم تركها متضجرا وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب".






ذلك علي بن الحسين زين العبدين وسيد الساجدين يشتكي من قصوره عن إدراك عبادتك يا أمير المؤمنين، لقد نقل لنا الرواة قبسا منها، فهذا أبو الدرداء يقول: "شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد عن مكانه، فقلت: ألحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي وهو يقول: الهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، الهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك".






فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (ع) بعينه فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: "الهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي".






ثم قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول خذوه فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء".






ثم قال: "آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى". قال أبو الدرداء ثم أمعن في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة. فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك وزويته فلم ينزو، فقلت: انا لله وانا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم.






فقالت فاطمة (ع): "يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟ فأخبرتها الخبر ن فقالت: هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله..."






حقيقتك التاسعة:






أنك أردت أن تسير بسيرة المصطفى في إقامة العدل وبسط الأمن وتسوية العطاء، أردت أن تأخذ للضعيف من القوي وللفقير من الغني وللمظلوم من الظالم حقوقهم أردت أن تقيم حكومة الإسلام العادلة التي جاء بأحكامها سيد الأولين والآخرين (ص)، فتجند الباطل وحشد حشوده لمنعك من أداء أمانتك، أردت لهم النظام وأرادوا الفوضى، أردت لهم النور والهدى فأحبوا العمى على الإبصار، كنت ترى الحكومة تكليفا جسيما وكانوا يرونه تشريفا، لم تزدك الإمارة شيئا بل أنت الذي زينتها بمثالك وكمالك، في حين إنها زينت غيرك ممن سعى إليها وغصب أمرها، كنت مستغنيا عن الكل وكان الكل محتاجا إليك، كذلك قال الخليل بن احمد الفراهيدي وهو يجيب سائلا سأله عن الدليل على إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: "استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل على إمامته".






كلامك كله كبير وخطير إن أعفيت النظر عن الكثير منه فلأنني محكوم بزمن وبوجهة لا يمكنني مجاوزتهما لذلك فإنني سأختصر على ما يفي بالغرض ومن تعلقت همته المزيد فليرجع إلى مضانه.






قلت سيدي: "... والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهدا، وأجر في الأغلال مصفدا، أحب إلى من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام.. والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين".






أردت جرهم إلى المساواة، وأرادوا ثنيك عما عزمت عليه فكادوا لك وتقاعسوا عنك ولما يئسوا مما يرومونك تسلكه انتقلوا إلى غيرك من أسرتهم الدنيا وعبدوا أنفسهم، وأطلقوا لها العنان ترتع في الدنيا وترفل في زينتها.






كلمتك الأخرى التي أقضت مضجع المترفين والكانزين لمال الله تعالى بلا فائدة: " المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد".






عدلت سيدي فبدأت بنفسك، فجعلتها للناس مثلا ونموذجا، وعلى علو قدرك ورفعة مقامك وسمو شخصك، وقلت في ذلك قولا كان يجب على الحكام أن يتخذوه قانونا وشعارا: "من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، فان معلم النفس ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم".






لبست الثياب المرقعة، وارتديت الخشن وأكلت الخشن، كان طعامك خبز الشعير بنخالته وغالب ادامك الماء والملح واللبن والخل. عيشة بهذه البساطة فاضحة لزيف الذين يريدون الحكومة لأكل الدنيا واستعباد الناس، تدفع الكثيرين بالتنكب عنك، لأنك لن تفاضلهم ولن تقدمهم لتأخر غيرهم، ولن تتخذ منهم أخلاء وعلى ذلك رفضوك لأن تجارتك غير تجارتهم، ومقصدك غير مقصدهم.






ضربت للحكام مثلا في منتهى عدلك لم أرى له مثيلا، وجدت مرة درعك عند رجل نصراني، فوقفت معه أمام القاضي ليقضي في الأمر فقلت: "إنها درعي، لم أبع ولم أهب". فسأل القاضي الرجل النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال الرجل: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت القاضي للإمام عليه السلام طالبا بينة تشهد أن الدرع له. فتبسم الإمام عليه السلام معلنا أنه لا يملك بينة على ذلك، فحكم القاضي بأن الدرع للنصراني، فأخذها ومضى والإمام ينظر إليه، إلا أن الرجل عاد وهو يقول: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذبا فيما ادعيت". وأسلم الرجل في الحين معلنا بأن الإسلام حق، وأن الحكومة إلهية.






لأنه لم يحصل في تاريخ البشرية الطويل أن وقف حاكم مع خصمه أمام قاض البتة،، والفعل الذي حصل من أمير المؤمنين علي عليه السلام هو المثال الذي يجب أن يكون نصب عين كل حاكم، فان كانت حكومته مستمدة من الناس كان عليه أن يكون لهم ناصحا وأمينا لما أوكلوه إليه، وان كانت الحكومة عن الله تعالى فالمسؤولية أجسم وأعظم.






إن الحكومات التي نراها اليوم هي من نوع التشريف، لذلك فهي تسلك دائما المسلك العاكس لمصالح شعوبها، وأنكى من ذلك فهي إن كانت من الشعوب المتخلفة فهي تظطهدهم وان كانت من الشعوب المتقدمة فهي تسخر منهم وتضحك عليهم تحت عناوين متعددة، منها الحريات الجوفاء وحقوق الإنسان التي لا تطبق في الغالب.






حقيقتك العاشرة:






انك رغم النصوص الدالة على إمامتك بدأ من حديث الدار، ومرورا بحديث المنزلة، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وانتهاء بحديث الغدير، وما تسلسل من بقية الدلالات القرآنية، والإشارات النبوية، لم تكن حريصا على الحكومة، ولا ملتفتا إلى كرسي الإمارة بل كنت أحرص على الإسلام من أي شيء آخر، ولئن أخذ الغاصبون منك كرسي الإمارة وعصا السلطة، فانهم لم يستطيعوا أن يأخذوا منك روح الحكومة ومعاني السياسة.






كنت ملجأ الناس والحكام في دقائق الأمور ومدلهماتها. كان اعتقاد الذين غصبوا منك الإمامة، أن الحكومة تكون كيفما اتفق، لكنهم سرعان ما وقعوا في مستنقع العجز، وسقطوا في دوامة الجهل بأكثر الأحكام، بل لقد جاءنا من أنباءهم ما يثير الاشمئزاز والسخافة، لقد فات هؤلاء يا سيدي وأنت تعلم ذلك- أبسط قواعد الأخلاق والفقه، فأجروا الضن والرأي مجرى الحكم بين الناس فحصلت الطرائف ووقعوا من حيث لا يشعرون في مطب العجز لولاك أنت الذي تصديت في كثير من القضايا العويصة لتحل غوامضها، لما تبين الحق ولا انتصف العدل، فهذا الخلفة الثاني يعترف ويقر بمرجعيتك، وهو لا يدري أنه قد أدان نفسه بذلك الاعتراف، يقول المرة تلو الأخرى: "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبا الحسن". و" لولا علي لهلك عمر". ولولاك لافتظحنا". وذلك الخليفة الثالث ينتكث عليه فتله وتكبو به بطانته فيطل من شرفة بيته وهو محاصر من المسلمين الحصار الأول فينادي مستغيثا، من كان منكم يؤمن بالله وباليوم الآخر فليدعو لي عليا.






لم ينقذه غيرك من محنته الأولى ولو كنت حريصا على الإمارة لتركته يموت عطشا، لكنك أسمى من أن تنالك شبهة أو تلحقك تهمة". ذلك الذي تستحي منه الملائكة ولا يستحي منه الناس فيقتل ويترك ثلاثة أيام بغير دفن ثم يدفن في حش كوكب، مقبرة لليهود بجانب البقيع، فهل هان الخليفة على الملائكة والناس أجمعين حتى يعامل بذلك الشكل؟ ثم أين المدافعين عنه وهو خليفة المسلمين؟






أين أولئك الذين كانوا وراء حكومته عندما كان يخصهم من مال الله وأرضه وعباده ما كان يمنعه عن غيرهم. لم يجد منهم أحدا.






هل كان الخلفاء الثلاثة الأوائل الذين اغتصبوا السلطة يحكمون كما يريد الباري تعالى، طبعا لا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وعديم الدراية لا يدري على خير وقع أم على شر، كنت دائما المتصدي للإصلاح والمتهيئ لتدارك الفوت. من دون حاجة لكرسي حتى تفرض نفسك وتنفذ أمرك، حتى عندما انثال الناس عليك من كل جانب يترجونك ويستحلفونك لأن تنهظ بما انتكس وتقيم ما سقط من حكومة، أعلنت صراحة عزوفك وعدم رغبتك، فقلت: "دعوني والتمسوا غيري، فانا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب، ولا تثبت فيه العقول، وان الآفاق قد غامت والمحجة قد تنكرت واعلموا اني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول قائل وعتب عاتب وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم من أمير".






وبعد أن بايعك الناس بيعة عامة لم تكن لغيرك ممن غصب واحتال ليلي الأمر، نهضت لتصلح ما فسد وتقيم ما اعوج، فقامت معادن النفاق وظهرت بوادر الفتن، ومع ذلك لم تنثن أبدا وقلت أثناء مضيك: " ولكني لا آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والصالحين حربا والفاسقين حزبا.






فان فيهم الذي قد شرب الحرام وجلد حدا في الإسلام، وان منهم من أسلم ورضخت له الرضائخ". وقلت في المال الذي استأثر به من غير وجه حق: " ولو وجدته قد تزوج به النساء وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور أضيق".






حقيقتك الحادية عشرة:






أنك إمام الفقراء والمستضعفين، فتحت لهم صدرك ففتحوا لك قلوبهم، وسعتهم بعطفك واهتمامك فوسعوك بولائهم ومحبتهم، كان اختيارك لهم في مكة، فأنت من راقب أبا ذر ثلاثة أيام ثم أخذته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما تأكدت من قصده، وخبرت نيته فأسلم، وأنت من كان يقف وراء بقية المستضعفين، يقوم على شؤونهم ويلبي طلباتهم، ويحوطهم يرعاية طرفها الأول رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم وطرفها الثاني أنت.






وأنت من هاجر بهم تلك الهجرة العظيمة التي باركها الباري تعالى بكلامه فقال بخصوصها: "






إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.






ربنا انك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار.






ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتتا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد.






فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب".






كنت دائما مقصد المستضعفين، وملجأ ذوي الحاجة، وضعت نفسك موضع المفزع والملجأ، كددت بيمينك لتحييهم حياة طيبة، فحفرت لهم الآبار واستصلحت لهم المزارع والبساتين، ولما آل الأمر إليك، كنت تبادر إلى توزيع ما في بيت المال عليهم، من دون محاباة ولا تمييز أحد على الآخر.






ثم بعد أن تنتهي من ذلك تصلي ركعتين شكرا لله على التوفيق.






ولما دارت دائرة السوء وهجمت جحافل الشر، وحسائك النفاق لم تجد معك غير الفقراء والمستضعفين، ينصرون دين الله، لأنهم يدركون أن الحق لن يكون مع غيرك، طالما إن الإعلان النبوي يقول: "علي مع الحق والحق مع علي لا يفترقان".






فكيف يمكننا أن نقنع بأن المترفين والأثرياء وأصحاب الدنيا التي أبنتها ثلاثا قد يتخذونك صاحبا أوخليلا؟ وقد طلقت معشوقتهم وأهنتها أيما إهانة، انهم قطعا سيكونون في غير صفك، لأن ما يرومونه ليس عندك.






ولما شاء لك الله تعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، افتقدك هؤلاء جميعا فقد اليتيم لأبويه.






فالفقراء والمستضعفون لم يجدوا بعدك ناصرا ولا معينا يأخذ لهم حقوقهم بعدما فتكت بها أيدي الظلمة والمستكبرين، والذين استدرجتهم الدنيا وزينتها، ووقف منهم من وقف على حقيقة أنها خادعة لعوب ليس لها صاحب، فانتابهم الأسى وتملكتهم الحسرة على ما فرطوه في جنبك.






قال فيك رسول الله (ص): "يا علي إن الله زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي أحب إليه منها. زهدك في الدنيا وبغضها إليك، وحبب إليك الفقراء، فرضيت بهم أتباعا ورضوا بك إماما، يا علي طوبى لمن أحبك وصدق عليك، والويل لمن أبغضك وكذب عليك، أما من أحبك وصدق عليك فإخوانك في دينك وشركاؤك في جنتك، وأما من أبغضك وكذب عليك فحقيق على الله تعالى يوم القيامة أن يقيمه مقام الكذابين".






وقد أجاد ضرار في وصفك وهو في مجلس معاوية، تقول الرواية:






"دخل ضرار بن ضمرة على معاوية أيام استكان الناس وأسلموا له القياد، فألح على الرجل أن يصف له عليا (ع) فتردد ضرار كثيرا فلما مضى معاوية في إصراره قال: "أما إذا لا بد، فكان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، كثير الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع قربه منا ودنوه إلينا، لا نكلمه هيبة له، ولا نبتديه لعظمته، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.






فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ليلة، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وقد مثل قائما في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه وهو يقول: "يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات، لقد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق".






حقيقتك الثانية عشرة:






أنك قلت كلاما وفعلت فعلا لم يصدر عن غيرك بخصوص الحكومة، صدر منك ذلك، وألزمت به من اخترتهم أعوانك، على القيام بأعباء نظم أمور الناس ورعاية حقوقهم، وحثهم على أداء واجباتهم، فعهودك إلى مالك الأشتر، والى محمد بن أبي بكر، والى عبد الله بن عباس، والى غيرهم ممن لمست منهم الطاعة والولاء والإيمان، لا تزال تشتمل عن مكنون دراية، وعلم بشؤون الناس وسياستهم دينا ودنيا، كان همك الأول أن لا يظلم أحد من رعيتك، وأن لا يكون أحد خارج دائرة إمكان تنفيذ العقوبة، ولا دون العفو والصفح، لقد قلت لمالك من جملة ما قلت: "... وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فانهم صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق... وأعطهم عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه... أنصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك ومن لك هوى فيه من رعيتك، فانك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب..."






وقلت أيضا لصاحب الخراج على القادسية: "... انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروعن مسلما، ولا تجتازن عليه كارها، ولا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي، فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: يا عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالك، فهل لله في أموالكم من حق، فتؤدوه إلى وليه... إياك أن تضرب مسلما، أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو".






وقلت أيضا: "سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فانه طيرة الشيطان، واعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار".






أما شأنك في الحرب وسياستك فيها فقد أوصيت جنودك ألا يبدءوا بقتال العدو حتى يبدأهم بالحرب، ولا يقتلوا من ولى دبره عن قتالهم، ولا يجهزوا على جريح ومن عجز عن حماية نفسه أثناء الحرب ولا يؤذوا النساء في شيء حتى وان بدأن بسب أو شتم.






فهل وجد الناس في غيرك عدلا كهذا، حتى يتركوك إلى من كان طول عمره محتاجا إليك، وهل عميت أعينهم عن فضلك، حتى يميلوا إلى من لا يوازيك في شيء أبدا.






حقيقتك الثالثة عشرة:






تواضعك الذي قل مثيله وعظم مثاله، كنت تأخذ حاجتك من السوق، وحدك بلا خدم ولا حشم ولا حرس، فترشد في أثناء ذلك الضال وتعين الضعيف، وكنت تأمر بالتواضع وحسن المعاملة، مستشهدا بقوله تعالى: "وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين".






من أمثلة تواضعك أنك خرجت يوما على أصحابك وأنت راكب، فمشوا خلفك، فالتفت إليهم فقلت: "ألكم حاجة؟ قالوا لك: لا يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك. فقلت لهم انصرفوا، فان مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي".






وقد استقبلك زعماء الأنبار فترجلوا عندك وأسندوا بين يديك، فقلت لهم: "ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا. فقلت: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون به على أنفسكم، وتشقون به في آخرتكم وما أخسر المشقة وراءها العقاب، وما أربح الراحة معها الأمان من النار".






كانت لك المشاهد كلها، لكنك لم تتغير، هاجرت أعظم هجرة، ألقيت بنفسك في أتون المعارك التي خضتها لا تلوي على شيء، همك الوحيد مرضاة الله تعالى ونصرة دينه، غير مبال إن وقعت على الموت أم وقع الموت عليك فقضضت مضاجع الصناديد والشجعان ومحترفي المبارزة والحرب، وقتلت رؤوس الكفر وفلول النفاق، قاسمت المسلمين قتلى المشركين في بدر حتى نزل جبريل عليه السلام متعجبا من استبسالك فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن هذه لهي المواساة.






فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " وكيف لا يكون كذلك وهو مني وأنا منه.






فقال جبريل عليه السلام: وأنا منكما".






قلعت باب خيبر الذي عجز عن رفعه جمع من صناديد الصحابة، وقلعت الصخرة العظيمة التي انبجست منها عين ماء، وأنت تدافع عن بيضة الإسلام، من المتسترين بحياضه طلبا للحكم وللدنيا، لم تتجه إلى وجهة، ولا سلكت طريقا، إلا عدت منه منصورا ومؤيدا، في حين رجع غيرك خائبا منكسرا مهزوما، كفى الله بك المؤمنين القتال في خيبر والخندق، كنت نقمة الله وسيفه المسلط على رقاب الجبابرة والمشركين، لكن ذلك كله لم يؤثر في سلوكك الذي ظل هو هو.






ولعل أعظم مقالة قالها فيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لولا أن يقول فيك طوائف من أمتي، ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر على ملا من المسلمين إلا أخذوا تراب رجليك وفضل طهورك يستشفوا به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك".






أما أنت يا سيدي ومولاي فقلت: " والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا".






وقفت بين يدي مجتمعك، عارضا عليه علومك التي أخذتها من رسول الله صلى الله عله وآله، والتي تفتقت لديك ونمت، كما أفصحت عن ذلك بقولك: "علمني رسول الله ألف باب من العلم، فانفتح لي من كل باب ألف باب".






وقلت مبينا عما تختزنه، تريد إفادة الأمة: " سلوني قبل أن تفقدوني". مؤمنا بما عندك ومتيقن بما لديك، ولم يجرأ أحد على الوقوف موقفك، ولا عرض ما عرضت، لكن أغلب الناس مضوا إلى من لا يعلم علمك ولا يقاس بك، رضوا بمن لا يهدي إلا أن يهدى، وسلكوا بدل العلم والتحصيل منهج الوراثة والتقليد، قاسوا الدين بأسماء سماها آباؤهم وعظم قدرها أجدادهم، من دون دليل علمي ولا ترجيح منطقي، فعبدوا بها دينهم ونمقوا أركانه، إن قلت رسول الله (ص) أرسلوا تلك الأسماء وراءه إرسال المتيقن بأن الرسول (ص) وما جاء به لا يقومان إلا بهؤلاء.






مررت بينهم سيدي مرور السهم من الرمية، آسفا خرجت من بينهم، ومتحسرا على ما فاتهم منك، حزينا على الأنفس التي خطت بنفسها طريقا إلى النار، من جهلك سيدي فقد جهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوفه حقه، ولا صدق بما جاء به، من جهلك سيدي فقد التوحيد كله وضيع الدين كله، لأنه لا دين بلا ولايتك وولاية ذريتك، سادة شباب أهل الجنة، وبقية الصفوة المختارة، والأعلام النتجبون، والأمناء المستحفظون، ولايتك سيدي ولاية رسول الله (ص)، وولاية رسول الله (ص) ولاية الله تعالى، كان الإسلام ولا يزال فضلا على كل الناس ورحمة، إلا أنت وصفوتك الطاهرة كنتم للإسلام فضلا ورحمة، قلت مشيرا إلى ذلك بقولك: "لا يقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة".






بكم استقامت أركانه وقوي عوده، سيوفكم وأقلامكم وجهودكم، لا تزال العين التي تصنع للدين مجده، وتعيد له مكانته، إلى أن يقيض الله تعالى الكوكب الدري من ذريتك، والقائم المستحفظ من أهل بيتك، ليعيد للدين نظارته، ويبسط نفوذه في مشارق الأرض ومغاربها، ويملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا.






دولتك التي أردتها منذ 15 قرنا لو وجدت لها أعوانا وأنصارا، لم يفهمك فيها حتى القريبون منك.






حقيقتك الرابعة عشرة:






أنك العلامة الدالة على الطائفة المحقة التي أخبر عنها رسول الله (ص) عندما قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". وقال أيضا (ص): "ستنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقون في النار".






وقد أشار رسول الله (ص) إلى أن الانقسام سيحصل بعده وعليه فلا بد من وجود علم (بفتح العين اللام) دال على الفرقة المحقة.






وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعمار بن ياسر: "يا عمار إذا رأيت الناس سلكوا واديا وسلك علي واديا فاسلك الوادي الذي سلكه علي". وذلك دليل أنك دائما على الحق، سالكا المحجة البيضاء.






وعلى وجه التحقيق لم يثبت على فرقة إسلامية واحدة اتصل فقهها وامتدت عقائدها إلى صحابي مضافا إلى كونه من أهل بيت النبي (ص) غير الشيعة الإمامية التي أخذت دينها الحق واسلامها الصحيح منك، ومن ذريتك الأئمة الأحد عشر، هداة الأمة وربانييها.






أما البقية الباقية فقد أخذت فقهها في أحسن الحالات، عن فقهاء من القرن الثاني (أبو حنيفة ومالكا) أما عقائدهم، فحدث ولا حرج، فقد استدركها حكامهم من أبي الحسن الأشعري في القرن الرابع، وأجمع المحاربون لك ولخطك على تسميتهم بأهل السنة والجماعة، وهو أمر غير مكتوم، فأي سنة يقصدون؟ سنة الحكام الكائدين للدين وأهله، والمحاربين له بكل الوسائل، أم سنة رسول الله (ص)؟ إن كانت سنة رسول الله (ص) فان وعاءها، هم أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. الداخلين في سنن الاصطفاء الإلهي الحاصل في بيوتات الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. وان كانت سنة الحكام فما أحوجهم إلى غيرها، لأنها لن تغني عنهم من الله شيئا، خصوصا والنصوص المتظافرة التي تأخذ بالأعناق إلى اتباع الأئمة من أهل بيت النبوة (ع)، ثقل كتاب الله والناطقين عنه صدقا وعدلا.






أنتم أوعية الدين ومناوئوكم أوعية الدنيا وكل إناء بما فيه يرشح، وكل يعمل على شاكلته.






حقيقتك الخامسة عشرة:






قالوا انك بايعت الغاصبين الثلاثة لإمامتك وحكومتك، وأقول انك لم تبايع أحدا منهم لأنهم أعجز من أن يقربوك، وأوهن من أن يفكروا في تجاوز الخط الأحمر الذي يعرفون نكيره، واكتوى ذوو أرحامهم بحر حديده، جاءك خبر الاستيلاء على مقاليد السلطة، فعبرت بما جاءنا من كلامك على عدم رضاك واحتجاجك بأنك الأحق والأولى، قلت كلمتك الشهيرة: " أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى الي الطير، فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها عبد مؤمن حتى يلقى ربه.






فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا".






وبقاؤك معتزلا جمعهم أشهرا عدة وقد ثبت ذلك بالإجماع، ابتعادك عنهم يدفعه استغناؤك عن كل الناس، واحتياج الناس إليك مهما علا شأنهم، جمعت لهم القرآن فرفضوا أن يتسلموه منك، وقالوا لا حاجة لنا فيه، لأنك جمعت معه التفسير والتأويل، وذلك أصل رفضهم، ودابة نفورهم. رضوا أن يجمعه لهم زيد بن ثابت اليهودي وقبلوه منه، كما رضي من جاء بعدهم بما كان يلقيه كعب الأحبار على أبي هريرة، لينسبه إلى رسول الله (ص) كذبا وبهتانا بلغا حد الخرافة.






أما سكوتك الذي ألبسوك قراره فهو محض افتراء لأنك قد سعيت إلى التعريف بمظلوميتك وتذكير من تنفعه الذكرى، وقليل ما هم، بأنك الإمام المنصوص عليه من الله ورسوله، لا يرتاب في ذلك مرتاب، فأياديك وسيرتك ومنطقك وعلمك ومكانك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما تزال غضة طرية، تقطر من عرق جهادك وبذلك، وما كان يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأنك من نصوص لا تحتاج التأويل، وما قام به في أخريات أيامه وعند منصرفه من حجة الوداع عندما نصبك مولى للناس وإماما هاديا، متصلة ولايته بولايتك، فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار".






وجاء تذكيرك للأنصار عندما خرجت مع الزهراء عليها السلام في محاولة منكما لتوعية الناس، فكان اعتذارهم هروبا من الواقع الذي أوقعوا أنفسهم فيه، عندما قالوا لو كان أبو الحسن موجودا في السقيفة لما عدلنا به أحدا، وكان رد الزهراء عليها الصلاة والسلام حاسما عندما قالت: "أفكان يترك رسول الله (ص) مسجى، ويخرج إلى الناس ينازع سلطانه، والله لقد فعل أبو الحسن ما كان عليه أن يفعل، وفعلتم ما الله حسيبكم يوم القيامة".






ومناشدتك خمسة الشورى الذين اختارهم عمر تمويها على المسلمين بأنه لم يأل الناس جهدا في النصح لهم، وكأنه يقول من خلال عقيدته التي تبناها أصحابه أن رسول الله لم ينصح أمته فتركهم هملا، فالخليفة الثاني أراد في حقيقة الأمر أن يولي عثمان بن عفان من بعده، فجعل الأمر في يد عبد الرحمان بن عوف إذا انقسم الستة إلى فريقين متساويين، وابن عوف هذا هو صهر عثمان، وقد قلدها له بطريقة ماكرة لمن يريد أن يبصر الحق ولا يتعامى عنه.






واستمرارك في مناشدة الناس وتذكيرهم بحديث الغدير، حتى في أيام حكومتك، فرحبة الكوفة وما حوته من جماهير تشهد يومها على قيام عدد من البدريين وغيرهم وشهادتهم بوقوع ذلك الحديث من رسول الله (ص) تأييدا لحقك، وإظهارا لحجتك، رغم أنك كنت غير محتاج إلى ذلك والحكومة في يدك، لكنك أردت أن تثبت للأجيال الإسلامية القادمة أن إهمال الإمامة، خطر داهم الأمة ولا يزال يداهمها، وبيان أمر الإمامة من بيان الدين، وحفظ حوزته وحياطة أمره.






حقيقتك السادسة عشرة:






أن حكمك لا تزال مضرب الأمثال ومنهل الباحثين عن جوامع الكلم ورفيع اللفظ، ومنتهى البلاغة، أختصر منها على غيض من فيض، ولولا الإتلاف والحرق الذين حلا بتراثك اللغوي لوصلنا منه ما يربو على الكثير، لأن لك في كل حادثة حديث.






قلت سيدي: "أيها الناس، إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج أبدانكم، ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم، إن المرء إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدم؟ لله آباؤكم فقدموا بعضا يكن لكم قرضا، ولا تخلفوا كلا فيكون قرضا عليكم".






وقلت أيضا: " من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ".






وقلت أيضا: "من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها".






وقلت أيضا: "أربع لو ضربتم فيهم أكباد الإبل، لكان ذلك يسيرا: لا يرجون أحد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحي أن يقول لا أعلم إذا هو لم يعلم، ولا يستكبر أن يتعلم إذا لم يعلم". و: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها". و": رب عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه".






وقلت أيضا: "كم متدرج بالإحسان، وكم من مغرور بالستر عليه، وكم من مفتون بحسن القول فيه، وما ابتلي عبد بمثل الإملاء له.






قال الله عز وجل: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما".






وقلت لابنك الحسن: "يا بني احفظ عني أربعا وأربعا، لا يضرك ما عملت معهن: أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العتب، وأكرم الحسن حسن الخلق، يا بني إياك ومصادقة الأحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل فانه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفجر فانه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكاذب فانه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب.






يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك فأحب لغيرك ما تحب لنفسك واكره ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك وارض من الناس ما ترضى لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وان قل، ولا تقل ملا تحب أن يقال لك".






وقلت أيضا: " تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها واستكثروا منها، وتقربوا بها فإنها- كانت على المؤمنين كتابا موقوتا- ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا- ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من المصلين- وإنها لتحت الذنوب حت الورق، وتطلقها إطلاق الربق، وشبهها رسول الله صلى الله عليه وآله بالحمة، تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟ وقد عرفها حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا مال. يقول الله سبحانه: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة".






أما دعاءك فقد جاء منه ما اثلج صدورنا، وحملنا على أكف الضراعة إلى الله، وساقنا سوقا حثيثا نحو مدارج الخشوع ومناسك القرب من الباري تعالى، فدعاؤك الذي علمته كميلا بن زياد النخعي ودعاء الصباح من الأدعية التي، يعجز المتبحر في اللغة عن الإتيان باليسير منها، ولو اجتمع له مع رهطه لفشلت ريحهم.






لسانك هو اللسان الذي لم يعص الله تعالى قط، ولغتك التي ألفها الباري تعالى هي التي يجب أن نستعملها وسيلة للقرب إليه، فوا أسفي على الذين لا يزالون بعيدين عنك بحكم عامل الوراثة، لو أنهم بحثوا قليلا لوجدوا في معينك بغيتهم، وحققوا من زادك رغبتهم في الوصول إلى الله تعالى وبلوغ رضاه.






ثورتك الفكرية، وأبعادها المعرفية، لم يشهد لها التاريخ مثيل، ا ولا تحدثت الركبان عن وجودها في غيرك، على الرغم من الدعاية المضادة التي كانت تروج ضدك، والحرب المعلنة بسبك والبراءة منك عشرات السنين، وما استتبع ذلك من أعمال الحرق، التي طالت كل ما يتصل بك من آثار على يدي صلاح الدين الأيوبي، وغيره ممن أفلت بجريمته فلم يسجلها التاريخ تسجيل عاتب ولا مندد، وصدق من قال: " ماذا أقول في رجل كتم أولياؤه فضائله خوفا وكتمها أعداؤه حسدا ففاض بين ذلك ما ملأ الخافقين".






أردت أن تهب فكرك وعلومك لأكثر عدد من المسلمين فلم يرض بك إلا قلة ممن امتحن الله قلوبهم للإيمان.






لم يكن ذلك بالغريب منك، فأنت الإعداد الخاص بالرسول الأعظم (ص) لتحمل مسؤولية الأمة بعده، بقطع النظر عن النصوص التي أشرت إليها والتي تناولت مسألة الإمامة، قال صلى الله عليه وآله فيك: "علي أعلم الناس بالسنة".






وقال أيضا: " أقضاكم علي". وقال كذلك: "قسمت الحكمة عشرة أجزاء فاعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا وهو أعلم بالعشر الباقي". وقال كذلك: "علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به".






اسمح لي سيدي أن أقتطف نزرا يسيرا من دعائك، طعمة لوجدان البعيد عنك والمقصر عن قافلتك، لعل الله تعالى يقذف في قلبه نور هدايته إليك فيوفيك حقك، ومن يستطيع ذلك يا سيدي... لا أحد.






من دعائك في الصباح: "... يا من قرب من خطرات الظنون وبعد عن لحظات العيون وعلم بما كان قبل أن يكون، يا من أرقدني في مهاد أمنه وأمانه وأيقظني إلى ما منحني به من مننه واحسانه وكف أكف السوء عني بيده وسلطانه، صل على الدليل إليك في الليل الأليل والماسك بأسبابك بحبل الشرف الأطول والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار.... واغرس اللهم بعظمتك في شرب جناني ينابيع الخشوع وأجر اللهم لهيبتك من أماقي زفرات الدموع، وأدب اللهم نزق الخرق مني بأزمة القنوع، الهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمن السلك بي إليك في واضح الطريق، وان أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى...."






و من دعائك في ليلة الجمعة الذي خصصته كميلا بن زياد النخعي رضوان الله تعالى عليه حتى تسمى به: "... اللهم اني أتقرب إليك بذكرك وأستشفع بك إلى نفسك وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك، وأن توزعني شكرك وأن تلهمني ذكرك، اللهم اني أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع، أن تسامحني وترحمني، وتجعلني بقسمك راضيا قانعا وفي جميع الأحوال متواضعا.






اللهم اني أسألك سؤال من اشتدت فاقته، وأنزل بك عند الشدائد حاجته، وعظم فيما عندك رغبته.






اللهم عظم سلطانك وعلا مكانك وخفي مكرك وظهر أمرك وغلب قهرك وجرت قدرتك، ولا يمكن الفرار من حكومتك، اللهم لا أجد لذنوبي غافرا ولا لقبائحي ساترا ولا لشيء من عملي القبيح بالحسن مبدلا غيرك لا اله إلا أنت سبحانك وبحمدك ظلمت نفسي وتجرأت بجهلي وسكنت إلى قديم ذكرك لي ومنك علي..."






لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من موضع بأنك الوحيد المؤهل لأن تقوم مقامه، ولم تكن إشاراته من تلقاء نفسه لأنه لم يكن بمعزل عن الوحي طيلة عمره الشريف، فتسميته لك أول، ا وكفالته لك صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا، وتربيتك وتعليمك واتباعك له وتكليفك بمهام كثيرة في إطار الدعوة، وتنظيم العناصر التي لبت نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووقوفك على حاجياتها رابعا.






ولقد جاءنا من الآثار والأخبار ما يفيد أن غيرك لا يصلح للقيادة، بعد التجربة والتكليف.






ففي غزوة خيبر مثلا، أعطى النبي (ص) الراية لعدد من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر فلم يفلحوا بل انهزموا، وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه، أن عمر رجع يجبن أصحابه وهم يجبنونه.






مقابل ذلك صرح رسول الله (ص) أنه سيعطي الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فدل كلامه على أن الذين أرسلوا قبلك لم يكن حبهم متبادلا مع الله ورسوله. أو على الأقل لم يكن في مستوى الحب الذي تشتمل عليه.






هذا أولا أما ثانيا فقد كنت الوحيد الذي كانت راية رسول الله معك، كنت قائدا بين يدي رسول الله (ص)، وقائدا على الناس، وأميرا على المدينة في غيابه، قدت الناس جميعا ولم يقدك أحد، فكيف يجرئ هؤلاء على أخذ مكانك والسير أمامك، وقد كانت عادتهم التسليم لك والسير وراءك، لذلك فان قيادة غيرك للأمة هي تنكر للمعهود، وطي لصفحة الحقيقة بالزيف والبهتان والتحريف.






أما ثالثا: فان الله ورسوله أرادا أن يبينا للناس، أو بالأحرى أرادا أن يظهرا بطلان قيادة أبي بكر في إرساله أميرا على الحج، خرج أبو بكر لتنفيذ المهمة، لكن جبريل عليه السلام نزل بنسخ ذلك التعيين، وإقالة أبي بكر من إمارة الحج، واعادته إلى المدينة، وإرسالك بدلا عنه، لأن خصوصيتك هي خصوصية رسول الله (ص) كما قال جبريل عليه السلام: "لا يؤدي عنك إلا أنت أو أحد منك". وليفهم الناس من ذلك العزل، أن أبا بكر لا يصلح للإمامة في حضورك.






أما رابعا: فقد أمر رسول الله (ص) بسد الأبواب التي كانت تفتح على المسجد، إلا باب رسول الله (ص) وبابك، ثم جاء البيان والتوضيح بعد ذلك بأن الأمر لم يكن إلا وحيا إلهيا، وأمرا ربانيا زاده وقوفه صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر عند ذلك الباب وطرقه واشارته وكلامه الذي تناقلته الركبان: "الصلاة، الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". وليفهم من كان فهمه سليما، أن الباب الذي على المسلمين طرقه واللجوء إليه واللواذ به بعد النبي (ص)، هو بابك يا سيدي ومولاي يا علي بن أبي طالب.






أما خامسا: فقد خطب الزهراء عدد من الصحابة فلم يأبه لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رده بأن الوحي لم ينزل بشيء في خصوصها، وكان ما ذكرناه من شأن زواجها عليها السلام منك، ما رجح أن ذلك الزواج كان اختيارا ومباركة من الله تعالى للمصطفى ونسله، الذي تقرر أن يكون من فاطمة عليها السلام، إتماما لأمره تعالى في الذرية التي بعضها من بعض.






أما سادسا: فان الذين امتطوا صهوة القيادة في الأمة لم يكن لهم وزن قيادي، ولا قيمة عسكرية كقيمتك، تدفع إلى تعيينهم، ناهيك أن عقولهم ظلت تزن الأمور بميزان الجاهلية التي لم تنسلخ يوما منها، ففي بدر مثلا كان التثبيط واضحا من مقالتهما، وكان الإيمان واضحا من مقالة المقداد، ففي حين أعرض عنهما رسوا الله (ص) بارك مقالة المقداد، واستمر كل إناء بما فيه يرشح فكان أبو سفيان وأبنائه المقدمين عندهما عن جلة المهاجرين والأنصار، وما معاقرتهما للخمرة حتى السنة العشرة للهجرة إلا دليل على عدم تميزهما بين الخبيث والطيب، فكيف يصح لمن لم يدرك التمييز أن تكون له الولاية على الدين الناس.






مضافا إلى ذلك فقد جاء ما يفيد فرارهم من أحد وخيبر وذات السلاسل، مما حدا برسول الله (ص) إلى تعيين عدد من الصحابة قادة عليهم كتعيين عمرو بن العاص عليهم في ذات السلاسل، وأسامة بن زيد في سرية مؤتة وهو الفتى اليافع الذي لم يتجاوز الثمانية عشر ربيعا، الأمر الذي دفع بعدد منهم إلى التمرد والعصيان بل والطعن على رسول الله (ص) في تعيينه ذلك لتثبيط الناس وعرقلة خروجهم، وهو ما تم بالفعل لغاصبي الحكومة، وأمكنهم التواجد في المدينة قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم لينفذوا ما أزمعوا عليه. ذلك. ان كل من درس سيرة النبي (ص) دراسة مستفيضة وقف على حقيقة تقول أن رسول الله لم يكن بمنآى عن التهجم والطعن طيلة عمره الشريف لذلك كان يقول: " ما أوذي أحد من الأنبياء مثلما أوذيت".






لقد كانت غاية هؤلاء هي التشكيك في ما قاله رسول الله (ص) وهز شخصيته في أعين الناس، وبالتالي تعطيل أحكامه، فعبد الله بن عمرو على ما جاء في مسلم النيسابوري يقول: "نهتني قريش عن الكتابة عن رسول الله (ص) فقالت انك تكتب عن رجل يتكلم في الغضب والرضا".






والرواية كعادة هذا النوع من المرويات تسترت عن هؤلاء الذين نهوا الرجل عن الكتابة ونسبت ذلك إلى قريش، كما قال ذلك عمر بن الخطاب لعبد الله بن عباس: لقد كرهت قريش أن تكون فيكم النبوة والإمامة.






غير أن اللبيب بالإشارة يفهم، لأن من تصدى لتلك المهمة وظهر منه ما يفيد الوقوف في وجه رسول الله مرارا عديدة حتى أصبح يعرف بذلك الموقف هو الذي تسترت عليه الرواية في هذه المرة وفي مرات أخرى.






إن ما قع في صلح الحديبية وفي يوم الخميس واتلطعن على تعيين أسامة بن زيد، والذي سبق وفاته صلى الله عليه وآله، من انتهاك صارخ لمقام أفضل المخلوقات، دليل على الإعداد المغاير لاعداد الله ورسوله، لأن الجرأة التي بلغها الرجل، لم تكن إلا مخططا لها من قبل حزب بأكمله كان يريد صرف الحكومة الإلهية عن أصحابها.






إن الذي أسس لحكومة السقيفة، قد قام بعد صاحبه ليقول بعدم مشروعيتها ويعتبرها فلتة وقى الله المسلمين شرها، حاكما بالقتل على من يعود إلى مثلها، غير متفطن إلى أن حكومته تلك هي امتداد لتلك الفلتة، لأن الخليفة الأول أسس للثاني، بوصية كتبها عثمان بن عفان على ما جاء في تاريخ ابن الأثير.






والغريب في الأمر، أن الغالبية العظمى من المسلمين يمرون على تلك الأحداث مرور الكرام، دون نظر ولا تثبت ولا تمحيص، معتبرين ما تمخض عن تلك الفترة من تجاوز لروح القرآن ومعانيه، قانونا موازيا وأمرا واقعا أدمج في ميثاق الحكومة الإسلامية، بل ألغى بكل بساطة مبدأ الإمامة، وأحل محله نظرية الشورى والخلافة التي قد يؤسس لها واحد من الناس لتكون ملزمة لكل المسلمين، كما يعتقده حزب التحرير ولكن داخل أسواره فقط، ومنتهى قياسهم أن عمر أسس لأبي بكر تغييبا للحاكمية الإلهية.






إن الذين استكانوا إلى الأحداث التاريخية التي أعقبت وفاة النبي (ص)، واعتبروها من الدين ولم يتثبتوا في حيثياتها ولا نظروا إلى تفاصيلها قد أثبتوا قصورهم وعدم فهمهم للدين الإسلامي، قرآنا وتراثا تابعا له.






عليهم الآن أن يتداركوا أمرهم قبل الفوت ليتدبروا القرآن ومقاصد الحديث الذي يعتبر تفسيرا للكتاب العزيز، لأن الصحابة رضوان الله تعالى على من صلح منهم ولم ينقلب على عقبيه ليسوا سوى جيل من الناس المكلفين مثلنا، لم يصطفهم الله تعالى كما فعل بخصوص أهل بيت الرسول (ص)، وكما جرت سنته تعالى في بيوتات بقية الأنبياء عليهم السلام.






وكل من سعى إلى إحلال هؤلاء الناس محل الصفوة الطاهرة من بيت المصطفى، فقد أجرم في حق الله تعالى، وفي حق نبيه الأكرم، وفي حق الإسلام، وفي حق المسلمين، ووضع نفسه موضع الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أنصحه أن يراجع نفسه، ويحزم أمره قبل أن يأتي يوم لا مرد له، ليجزي الله تعالى فيه الذين أحسنوا الحسنى وزيادة،، وينتقم من الذين أجرموا واتخذوا دينهم مطية لركوب أهوائهم كأنما هم شركاء فيه.






سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين اسأل الله تعالى لنا وللمؤمنين والمؤمنات فرجا بظهور القائم من ولدك، ومخرجا إلى ضياء نوره، وأن يعرفنا مقامكم، وأن يمنحنا من علومكم، ما يطرد به عنا الشكوك والضنون والجهل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.






أختم مقالي هذا بزيارة مولى المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين عليه السلام:






السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا حبيب رب العلمين، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا ولي الله، السلام عليك يا حجة الله، السلام عليك يا إمام الهدى، السلام عليك يا علم التقى، السلام عليك أيها الوصي، السلام عليك أيها البر التقي، السلام عليك أيها النقي الوفي، السلام عليك يا أب الحسن والحسين، السلام عليك يا عمود الدين، السلام عليك يا سيد الوصيين، السلام عليك يا أمين رب العلمين، السلام على أبي الأئمة وخليل النبوة والمخصوص بالأخوة، السلام على يعسوب الدين والإيمان وكلمة الرحمان، السلام على ميزان الأعمال ومقلب الأحوال وسيف ذي الجلال وساقي السلسبيل الزلال، السلام على صالح المؤمنين ووارث علم النبيين والحاكم يوم الدين، السلام على شجرة التقى، وسامع السر والنجوى، السلام على حجة الله البالغة ونعمته السابغة ونقمته الدامغة، السلام على الصراط الواضح، والنجم اللائح والإمام الناصح، والزناد القادح ورحمة الله وبركاته، اللهم صل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أخي رسولك ووليه وناصره ووصيه ووزيره ومستودع علمه وموضع سره وباب حكمته والناطق بحجته الداعي إلى شريعته وخليفته في أمته، ومفرج الكرب عن وجهه، قاصم الكفرة ومرغم الفجرة، الذي جعلته من نبيك بمنزلة هارون من موسى، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله والعن من نصب له من الأولين والآخرين، وصل عليه أفضل ما صليت على أحد من أوصياء أنبيائك يا رب العالمين.


















قراءة في حديث المنزلة





حديث المنزلة من الأحاديث التي أجمع علماء الإسلام حفاظا ومؤرخين ومفسرين وفقهاء على صحته وسلامة وروده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ناهيك على من قال بتواتره كالزبيدي والكتاني وابن عساكر والسيوطي وغيرهم، لكن الذي يدعو للغرابة والتعجب أن سوادهم مر عليه مرور الكرام، غافلين أو متغافلين عن معانيه ومقاصده، بل منهم من سعى إلى إفراغ الحديث من حقيقة معناه، ففسره بهواه تفسيرا أعرج مواكبا للسياق التاريخي للخلافة كالنووي في هامش مسلم حيث قال: والمستدل بهذا الحديث على أن الخلافة له (أي لعلي عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زائغ عن الصواب، فإن الخلافة في الأهل في حياته لا تختص الخلافة في الأمة بعد مماته (مسلم ج 7ص 120 باب فضائل الإمام علي)






الحديث:






قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي"(1)






الحديث في نظري وعند من لم تؤثر على عقله وفؤاده لوثة الهوى، وعمى حب الدنيا، لا يحتاج إلى بيان وتوضيح، بقدر ما يستوجب إلى إشارة وتلميح، فيكفيك أن ترجع إلى القرآن الكريم لتعلم منزلة هارون من موسى، فتدرك بها مقام علي عليه السلام من رسول الله (ص).






ماذا يقول الباري تعالى عن تلك المنزلة؟






تناولت منزلة هارون من موسى آيتان قرآنيتان هما:






1- قوله تعالى: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا "(2).






منازل هارون من موسى حسب ما جاء في الآية الكريمة:






أ - النسب والقرابة (هارون أخي)






ب - الوزارة (شد الازر والاشراك في الامر)






2- قوله تعالى: " إذ قال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين "(3)






الولاية على القوم (هي ولاية صلاح هداية لا افساد وغواية)






و الولاية كما ذكرها الله تعالى في كتابه عامل هداية وإقامة للحق والعدل في مواجهة قوى الغواية والشر والإفساد في الأرض.






حديث المنزلة وتطابقه مع الإمام علي عليه السلام






إن المتأمل في سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يدرك دون عناء مدى تطابق شخصية الإمام وسيرته بحديث المنزلة، فطهارته وعلمه وشجاعته وتقواه وحلمه وزهده وتواضعه وصبره وقوته، صفات وعلامات رسمت حياته، وسجلت كل حركاته وسكناته.






كان أول من أسلم وصدق وأول من جاهد. شهد المشاهد كلها، وبذل مهجته في سبيل الله ودفاعا ونصرة لدينه ورسوله (ص) حتى أثار التساءل والعجب قاسم المسلمين قتلى المشركين في بدر حتى نادى جبريل عليه السلام في بدر: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي(4) ونصر دين الله في بقية الغزوات نصرا مؤزرا فماذا أقدم؟ أبدرا أم أأحد أم الخندق أم خيبر أم ذات السلاسل....






وماذا أقول فيمن أرعب اليهود وفتح وحده حصنهم الأكبر الذي إنهزم أمامه بقية الصحابة- وقد صدع بالحقيقة غير واحد من المؤرخين كابن الأثير في تاريخه- وكان له فيه ما أذهل الناس وحير عقولهم






لقد كان الإمام علي عليه السلام الوحيد الذي كان يقود الناس بحضور النبي (ص) ولم يقده أحد غير النبي (ص) وهو الوحيد الذي كان يقضي بحضور رسول الله (ص) حتى قال فيه (ص) " أقضاكم علي "(5) وهو الوحيد الذي قال فيه رسول الله " أنت مني وأنا منك "(8).






و جاء القرآن مؤيدا لذلك فقال تعالى: "... فقل تعالوا ندعوا أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم..."(9)






فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام نفس واحدة بمنطوق الآية.






و هو الوحيد الذي قال: سلوني قبل أن تفقدوني، وهو الوحيد الذي قيل له " لولاك لافتضحنا" وهو الوحيد الذي طلق الدنيا ثلاثا وقال: " غري غيري" وهو الوحيد الذي لم تهمه نفسه أبدا وكان همه دائما إقامة الدين والدفاع عن المظلومين والوقوف إلى جانبهم فكان مأواهم وموضع سرهم ونصرتهم.






هو صاحب عمار بن ياسر وهو صاحب أبي ذر الغفاري وهو صاحب سلمان الفارسي وهو صاحب المقداد بن الأسود الكندي وحجر بن عدي وكميل بن زياد النخعي وحذيفة بن اليمان وميثم التمار..






ومختصرا هو صاحب كل أولئك المستضعفين من مؤمني الصدر الأول من الإسلام. الذين هاجر أغلبهم هجرة واحدة كان هو قائدها ونزلت فيهم الآية العظيمة: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا انك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وفتوفنا مع الأبرار ربنا وآتتا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد. فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري م تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب"
وكما حاول الطغاة والظالمون عبر التاريخ، الحط من مقامه وتغييبه عليه السلام، سعوا بالتوازي مع ذلك لطمس شخصيات أصحابه ونجبائه، الذين كانوا يدركون ما هو الإمام علي؟ وما مقامه من رسول الله صلى لله عليه وآله؟ وما قيمته عند الله تعالى؟ فكانوا تبعا له محل سخط وتتبع، لذلك فان مؤرخي السلاطين تبعا لحكامهم أهملوا شخصيات فذة، وصرفوا النظر عن قمم رواسي، لا يدرك علو هممها إلا من عرف معنى الولاية الشرعية في الإسلام الحق.






لقد كان الإمام علي عليه السلام المرجع الوحيد، والملاذ الذي عنده الخبر اليقين عن كل ما كان يلتبس على معاصريه من صحابة وتابعين، فاليه رجعت علوم الدين والدنيا، وهو الوحيد الذي نزل فيه من القرآن ما نزل كآية الولاية الأولى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون".(10)






ذكر عدد من المفسرين ممن صدع بالحق، أن عليا تصدق بخاتمه في المسجد وهو راكع، خشية أن تفوته تلك الحركة النبيلة التي كان دؤوبا عليها، فنزلت فيه، وكم كانت فرحة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله عندما جاءه الوحي مزكيا ومباركا عمل علي عليه السلام، وقد منحه الباري تعالى رتبة الولاية، كما كان قد منحها لرسوله من قبل.






وهو من شملته آية التطهير وهي: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل لبيت ويطهركم تطهيرا".(11)






وقد أجمع الحفاظ والمفسرون والرواة إلا من شذ منهم والشاذ لا يقاس عليه، حتى أعدى أعداء الشيعة ابن تيمية صرح بأن عليا هو واحد ممن شملتهم آية التطهير.






وهو أيضا من أهل البيت الذين نزلت فيهم الآيات التالية: " إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا.(12) وقصة الإطعام معروفة عند الخاص والعام.






وهو عليه السلام من الصادقين الذين أمرنا بأن نكون معهم.: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"(13) وهو ممن أمرنا بالرجوع إليهم فقال: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".(14)






وهو من أولي الأمر الذين أمرنا بالرد إليهم حيرتنا ولبسنا وجهلنا، فقال: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.(15) فهو عليه السلام من هداة الأمة ومستحفظي دينها ولم يقل أحد سلوني قبل أن تفقدوني غيره.






وهو الوحيد الذي جرت على يديه كرامات عظيمة وظهرت منه آيات جليلة.






ولعل أروع ما قيل فيه، ما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي عندما سئل ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال: "احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على إمامته". وما أروعه من استدلال لمن يدرك للحق معنى.






علي عليه السلام يتحدث عن علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم






يقول الإمام علي عليه السلام في إحدى خطبة في نهج البلاغة:






ولقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل ولقد قرن الله به صلى الله عيه وآله وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.






و لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به.






ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (ص) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟






فقال ذاك الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير.(17)






بقدر ما يتساءل المسلم منا ويستغرب عن سبب تجاهل الأمة لحديث المنزلة، وهو من الأدلة القطعية، والبراهين اليقينية لإمامة علي عليه السلام، بقدر ما يستنكر ما جاء من تآويل تافهة ومفضوحة تدفع الحق الصارخ مدافعة المجنون.






وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر تأويل النووي في شرح مسلم حيث يقول: إن خلافة علي عليه السلام التي نص عليها حديث المنزلة هي في الأهل فقط(18).






و ليت شعري من أين جاء بهذه الفكرة التي هي وسوسة شيطان يريد صد الناس عن الحق، وهل تحتاج خلافة علي على الزهراء وبنيها إلى نص؟ وهل لرسول الله (ص) أهل غير الذين حددهم القرآن الكريم في آية المباهلة وآية التطهير، وكلف رسوله باظهارهم للناس، فكان يأتي باب علي وفاطمة عند كل صلاة فيناديهم للصلاة، قائلا: " الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". تسعة أشهر كما في رواية أبي الحمراء، ليعلم الناس مقامهم عند الله ورسوله (ص)؟، وعملية سد الأبواب التي كانت تفتح على المسجد إلا باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباب علي عليه السلام.






هؤلاء فقط هم أهل البيت عليهم السلام الذين أصطفاهم الخالق تعالى واختارهم على غيرهم من قراية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والناس أجمعين.






ومن لم يعجبه ذلك وقدر أن يفعل فليعترض على من أعطاهم ذلك الحق، وميزهم بتلك الميزة وخصهم بما لم يخص به أحدا من الأمة.






الخلافة المقصود بها في منزلة علي من رسول الله (ص) هي عينها المقصود بها في منزلة هارون من موسى الخلافة في القوم، وليس في الأهل كما يرجفون، لأن الخلافة في الأهل بديهية وطبيعية لا يحتاج إلى نص.






تظلم علي عليه السلام من غصب الناس لحقه






إن المتأمل في كلام علي عليه السلام بخصوص الحكومة الإسلامية بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، يرى فيها كلام صريحا، وتظلما فصيحا وإثباتا يدفع الشك أنه صاحب حق، ولم تكن أقواله غير تثبيت ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أن أمر الحكومة بعده لا يعدو الأئمة من أهل بيته، وصية من الله كما هو شأن حكومات الشرائع السابقة.






يقول عليه السلام في إحدى خطبه:






"أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا (ص) نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين فلما مضى عليه السلام تنازع المسلمون الأمر من بعده فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلما، أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب "(19)






و يقول في خطبة أخرى: " حتى إذا قبض الله رسوله (ص) رجع فريق على الأعقاب، وغالبتهم السبل، واتكلوا على الولائج ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون، من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين.(20)






وقال أيضا: " أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا وطفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجي، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا.(21)






و يقول في أخرى: " وقال قائل إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت بل أنتم والله لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب وإنما طلبت حقا لي، أنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعت بالحجة في الملا الحاضرين هب لا يدري ما يجيبني به.






اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي".(22)






لقد أظهر حديث المنزلة بما لا يدع مجالا للشك والتأويل، أن مسألة الولاية العظمى التي كان رسول الله متقلدها في حياته غير منتهية بوفاته، وإنما هي مستمرة باستمرار الشريعة والدين.






وليس هناك شيء أصلح لأحكام الله تعالى من تواجد قائم عليها يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحفظ والهداية وإقامة معالم الدين، وتلك سنة إلهية قديمة قدم رسالات السماء.






غير أنه قد يبادر إلى الذهن سؤال يقول: طالما أن الاستخلاف يندرج ضمن إطار الاصطفاء الإلهي لماذا ينكره عامة المسلمين؟ ويتشبثون بعدم وقوعه؟ وما الفائدة منه الآن؟ ألا تسهم إثارة هذه المسألة في تشتيت المسلمين في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الوحدة والألفة ورص الصفوف؟






و للجواب على ذلك نقول إن عامة المسلمين لم ينكروا نصوص الاصطفاء التي ذكرها الوحي بخصوص إمامة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في أمهات كتبهم ورؤوس مراجعهم، إنما المشكلة الواقعة تتمثل في تأويل الأحاديث والنصوص، تأويلا يصب في إطار تحويل مسار الحكومة الإسلامية المقامة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولو أنهم أقروا بشروط الإمامة كما جاءت في كتاب الله تعالى، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكما أذعن لها شيعة أهل البيت عليهم السلام، لوجب عليهم إعادة الحق إلى أهله والرجوع من مسار السقيفة إلى إمامة الهداة.






قال تعالى: " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد"






لما نزلت هذه الآية قال من حضر مجلس رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم، قد علمنا المنذر يا رسول الله فمن الهادي؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم، أنا المنذر وعلى الهادي، وبك يا علي يهتدي المهتدون".(23)






أما وجه الفائدة من معرفة أئمة الحق موالاتهم؟ فلأن المسألة متعلقة بالله تعالى لأن الإمامة وسيلة الخلق إلى الله تعالى، وجنة من الزيغ والضلال، هي السراط المستقيم وحبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها، قيمومة على الدين وحاكمة بالعدل والقسط، لها مرتبة الشهادة على الأمة يوم القيامة.






قال تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم". واتصالها بعالم لغيب متحقق لحاجة الخلق دائما إلى المدد الغيبي.






قال تعالى: "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر..." وعليه فان الفائدة من الإمام باقية ببقاء هذا الدين متجاوزة عالم الفناء إلى عالم البقاء.






هكذا إذا نخلص إلى القول بأن مسألة الحاكمية بعد النبي صلى الله عليه وآله لم تترك للناس تفويضا ولا تخييرا لاعتبارات عديدة منها ما هو متعلق بالناس كحداثة عهد أكثرهم بالدين وعدم استيعاب القدماء له فضلا عن المستجدين، ومنها ما هو متعلق بالشريعة لتمامها وكمالها، وهما صفتان غير متحققتان في حال خلو مقام الحاكمية من صاحبه.






فكان حديث المنزلة استخلافا صريحا، ونصا لا يشوبه شك في أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد نصب عليا إماما هاديا للناس بعد أن أعده لتلك المهمة فشمله برعايته الخاصة وتعليمه الدائم وأعطاه من الاهتمام والعناية ما لم يعطه أحدا، وكل ذلك كان بأمر الله تعالى وتأييد منه.






لذلك لم يكن حديث المنزلة الذي صدع به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا نتيجة نهائية لاعداده وشهادة لا يضاهيها شيئ لمقام لا يدركه إلا من صفى قلبه وطابت سريرته.






ومنزلة علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هي حصيلة صنعها ذلك آلاما الفذ العظيم، وعقد لواءها بقلبه وعقله وسقاها بعرق جهاده ودموع خشيته من الله تعالى وعمله الصالح فإن لم يقبله المستكبرون فقد اعتنقه المؤمنون والمستضعفون، علي هو الولي المرتضى من بعد أخيه المصطفى مثلما كان هارون لموسى، ولا التفات لمن يريد طمس هذه المسألة لأنه لا يرهان لديه سوى التأويل الخائب، الذي لا تقوم له حجة والسلام على من إتبع الهدى الذي لا تكون إلا من الإمام المفترض الطاعة من الله تعالى.






ودعهم يلوذون بأن للولاية معان عدة فيتيهون في أرجائها دفعا للحق.. وليس بعد الحق إلا الضلال.






و بعد إستعرضنا لحديث المنزلة يحق لنا أن نطرح سؤالا يقول هل للدين الإسلامي نظام حكم؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون؟ "






و للإجابة نقول، إن شريعة الباري سبحانه وتعالى بشقيها الأساسين (الكتاب والسنة) لم يهملا مسألة الحكومة، بل أولياها حيزا من تشريعاتهما، ففي الكتاب العزيز توالت الآيات الكريمة التي تحدث عن الحكم مصدرا ومآلا، حاثة على العمل بها والأخذ بمضامينها، ولم يكن غائبا عن أذهان الناس وقتها أن يسألوا عن نمط الحكم في الإسلام، ولا كان ذلك خارجا عن تبليغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، وكما كان صلى الله عليه وآله وسلم مكلفا ببيان كيفية العبادات، من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج لاجمال ورود الآيات بخصوصها، كان كذلك مكلفا ببيان شكل الحكومة ونوعية الحكم قانونا وتأهيلا وتربية.






إن نظام الحكم في الإسلام يعود بالأساس إلى الله تعالى لأنه مصدر الوجود والنظام، وإليه يرجع تجديد صيغته وأحكامه قال تعالى: " إن الحكم إلا لله " وقال أيضا: ألا له الحكم "






و باعتبار المولى سبحانه وتعالى مرجع التشريع، فان الرسول الأعظم (ص) مناط بمرجعية التبليغ والبيان والتأسيس، وأولوا الأمر موكولون بمرجعية الحفظ والتثبيت.






إن نظام الحكم الإلهي غير قابل للتغيير في أسسه، على مر الأزمنة والعصور، سنة الله في الذين خلوا من قبل..."






قد تتغير الأسماء دون الوظيفة، كما في الآية التالية: "إنا نحن نزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيبون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء".(25)






وعلى ذلك تكون أدوار الحاكمية مرتبة حسب ورودها في الآية ثلاثة أدوار:






الدور الأول:






الأنبياء والرسل أئمة عصورهم زيادة على دور النبوة كما في قوله تعالى لإبراهيم: "اني جاعلك للناس إماما". يمارسون في نفس الوقت دور التبليغ ودور الحكم.






الدور الثاني:






الأئمة الهداة بأمر الله تعالى، يمارسون دور الحفظ والحكومة والشهادة في الآخرة: "بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء". "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا".






الدور الثالث:






العلماء وهم الأمناء من بعد الأئمة، على تواصل الحاكمية الإلهية بما اكتسبوه من علوم إلهية صحيحة، ومارسوها وعيا وتطبيقا.






هذا من الوجهة التشريعية أما من الوجهة العقلية فان المنطق يقول باستحالة إهمال مسألة الحكومة وتركها للناس يفعلون بها ما يريدون لأسباب هي:






1- إن إهمال أمر لحكومة من قبل الباري تعالى هو تفريط في جزء تشريعي هام يتوقف عليه مصير الشريعة كلها.






2- اللطف الإلهي الواجب على الله تعالى في بيان كل ما من شأنه حسم مدة الخلاف والنزاع، وعلمه تعالى ببواطن الناس مدعاة إلى اختيار الأصلح للقيام على أمر دينه.






3- حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأفته بالأمة يدعوانه إلى النصح لها فوق ما كان يقدمه من بيانات وإيضاحات.






4- دأب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على تعيين من يقوم مقامه عند خروجه للغزو، وذلك التعيين لم يكن بمنآ ى عن الوحي فالتعيين في جزء زمني، يقتضي التعيين في جزء اكبر.






5- إن الاختيار الإلهي لمنصب الإمامة لا يمكن مقارنته باختيارات الناس، ولا يمكن اعتباره ملكا بالمعنى السائد الآن، لأن الله تعالى لا يفعل إلا الأصلح بينما تكون غالب اختيارات الناس خاطئة لقصورها عن إدراك حقائق بعضها وخباياها الباطنة التي لا يعلمها إلا الله والدليل ما نحن فيه الآن من انحراف للبشرية عن المسار الصحيح للحاكمية قد أدي إلى حيرة وتيه في إدراك النمط الأمثل لبلوغ العدل ونشر السلم والتقوى بين الناس.






6- الحكومة لابد أن تكون من جنس التشريع، وعدمها نقص والنقص غير وارد، لان الدين كامل بالنص القرآني.






7- جريان سنة الاختيار الإلهي في الشرائع السابقة ينسحب على الشريعة لخاتمة.






8- إصرار أتباع مدرسة السقيفة على عدم وجود نص رغم تظافر عدد منها، وحملهم لمعاني المنزلة والمولى على غير محملهما يؤكدان على مراء لا طائل من ورائه واستماتة في مواجهة الحق، بضنون وتأويلات لا تقوى على الوقوف أمام الحجج الدامغة، والبراهين التي لا يرقى إليها شك. متابعة لمواقف الظالمين والطغاة الذين كان دأبهم تظليل الناس وابعادهم عن الإسلام الحق، لانه لا يمكن أن يكون الطاغية والظالم على الحق، مدافعا عن تشريع يستهدفه بالذات.






9- إن معالم الحكومة الإلهية لابد أن تكون مبينة ومحددة بشروط لان الشورى وحدها غير كافية في تحديد الأصلح.






10- إن مبدأ الشورى الذي رفعه المعارضون للنص لا يمكن اعتماده لمخالفته النصوص القرآنية والروائية من جهة، ولبطلان الشورى مضمونا لعدم قيامها على مدى عام وشامل، ولو حضر الغائبون عنها بحكم الواجب الأكيد في تجهيز رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم ودفنه، لما عدلوا بها إلى غيرهم.











1- مسلم النيسابوري ج 7 ص 120 باب فضائل الإمام علي عليه السلام حديث المنزلة أخرجه كل من البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي (ص) بعدة طرق ومسلم كتاب فضائل الصحابة (4 طرق) الترمذي وكتاب طبقات ابن سعد ج 1403 مسند أبو داود ال205 إلى 209 و213 مسند أحمد بن حنبل ج 1 و170 173-174 175- 177-179 182- 184 185-330 ج 3 ص 32- 438 483 ج 4 ص 164 165 ج 5 ص 204 ج 6 ص 369 439 أبو يعلى الطبراني في معجمه الكبير والأوسط - البزار لقط الآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة ص 31- 32 أورده السيوطي في الأزهار المتناثرة عن عشرة أنفس وتتبع ابن عساكر طرقه في تاريخ دمشق فبلغ عدد الصحابة نيف وعشرون صحابيا. تاريخ بغداد ج1ص325 وج3ص406 وج9 ص365 وج 10 ص430 وج 12 ص223 حلية الأولياء لأبي نعيم الاستيعاب لابن عبد البر ج3 ص34 تاريخ البخاري ج1 ص115






2- سورة طه الآية35






3- سورة الأعراف الآية 142






4 السيرة الحلبية






5 فتح الباري في شرح صحيح البخاري






6- فتح الباري في شرح (صحيح) البخاري لابن حجر






7 سورة آل عمران الآية61






8 نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.






9 سورة آل عمران الآية 190






10- سورة المائدة الآية 55






11 سورة الأحزاب الآية 33






12 سورة الدهر أو الإنسان الآية 5 /22






13- سورة التوبة الآية 119






14- سورة النحل الآية 43 والأنبياء الآية 7






15 سورة النساء الآية 82






16 نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.






17- نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام.






18 النووي بهامش مسلم باب فضائل الإمام علي عليه السلام






19 تفسير ابن كثير الآية تفسير الطبري الآية.






20 سد الأبواب إلا باب علي عليه السلام: مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص25 حديث 3062 خصائص النسائي ص 64 الإصابة لابن حجر ج 2 ص509 كنز العمال للمتقي الهندي ج 15 ص 101... الخ






21 نهج البلاغة






22- نهج البلاغة






23- نهج البلاغة






24- نهج البلاغة الخطبة الشقشقية (الثالثة) ج1 ص25






25 سورة الرعد الآية 7






26 ت. الطبري ج13 ص108 /ت. الرازي ج5ص270 /ت. ابن كثير ج2 ص502 /ت. الشوكاني ج 3 ص 70 /مستدرك الحاكم ج3 ص 129.






27 سورة الإسراء الآية 71






28 سورة القدر الآية 4






29 سورة الأنعام الآية 57 يوسف الآية 40 سورة الأنعام الآية63






30 سورة المائدة الآية44






31 سورة البقرة الآية 124






32 سورة فاطر الآية 32










/ 34