قال : لا . قال : أ فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كان وجهه قمر يضيئ ليلة الظلام الداجي ؟ قال : لا . قال : أ فمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال : لا . قال : أ فمن أهل الندوة أنت ؟ قال : لا . قال : أ فمن أهل الرفادة ؟ قال : لا . قال : أ فمن أهل الحجابة ؟ قال : لا . قال : أ فمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا . فاجتذب أبو بكر زمام ناقته ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله . فقال دغفل : أما و الله لو وقفت لاخبرتك إنك زمعان قريش ( 1 ) أو ما أنا دغفل . قال علي عليه السلام : فلما سمع ذلك رسول الله تبسم . و قلت أنا لابي بكر : لقد وقعت من الاعرابي على باقعة ( 2 ) . قال : أجل يا أبا الحسن لكل طامة موكل و البلاء موكل بالمنطق . 1 - الزمع : جمع زمعة و هي الزائدة من وراء الظلف أي مؤخر قريش . 2 - باقعة : أي معيبة .
(386)
ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة و الوقار . فتقدم أبو بكر ، فسلم ، فردوا عليه السلام . فقال : ممن القوم ؟ قالوا له : من شيبان بن ربيعة . فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فقال له : بأبي و أمي أنت ليس بعد هؤلاء عز في قومهم . و كان في القوم مفروق بن عمرو ( 1 ) ، و هاني بن قبيصة ( 2 ) ، و المثني بن حارثة ، و النعمان بن شريك . و كان مفروق بن عمرو قد أربى علهيم جمالا و لسانا . و كانت له غديرتان ( 3 ) تسقطان على تريبته ، و كان أدنى القوم من أبي بكر مجلسا . فقال له أبو بكر : كم العدد فيكم ؟ قال . إنا لنزيد على ألف . و لن تغلب ألف من قلة . قال : فكيف المنعة فيكم ؟ قال : علينا الجهد و لكل قوم جد . قال : فكيف الحرب فيما بينكم و بين عدوكم ؟ قال : إنا أشد ما يكون حين نغضب ، و أشد ما يكون غضبا حين [ التلقى ] ، و إنا لنؤثر جيادنا على أولادنا ، و السلاح على اللقاح ، و النصر من عند الله عز و جل بديل لنا و بديل علينا ، لعلك أخو قريش . 1 - و هو النعمان بن عمرو بن ( الاصم ) بن قيس بن مسعود الشيباني . و اسم مفروق أشهر ، من سادات بني شيبان ، فارس شاعر جاهلي . قتله قعنب بن عصمة يوم الاياد ، و دفن بين الكوفة و فيد سميت بعده ثنية مفروق . 2 - هاني بن قبيصة بن هاني بن مسعود الشيباني أحد الشجعان الفصحاء ، أسرة وديعة اليربوعي يوم الغبيطن ( و هو بين تميم و شيبان ظفرت فيه تميم و أسر هاني ) . 3 - الغديرة واحدة ضفاير الشعر .
(387)
قال : إن كان قد بلغكم أمر رسول الله صلى الله عليه و آله فهو هذا - و أشار إلى رسول الله صلى الله عليه و آله - . قال : قد بلغنا أنه يقول ذلك . و أقبل على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال : ما تدعونا اليه يا أخا قريش ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله تؤوني و تنصروني ، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله عز و جل و كذبت رسوله و استغنت بالباطل عن الحق إلا من عصم الله عز و جل منها و وفقه لدينه و الله غني حميد . قال : و إلى ما تدعونا أيضا ؟ فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه و آله " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا " إلى قوله : " ذلكم وصاكم به " ( 1 ) . قال : و إلى ما تدعونا أيضا ؟ فتلا عليهم : " إن الله يأمر بالعدل و الاحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون " ( 2 ) . قال مفروق بن عمرو : دعوت و الله إلى مكارم الاخلاق و محاسن الاعمال . و لقد أفك قوم ظاهروا عليك و كذبوك - و كأنه أحب أن يشركه هاني بن قبيضة في الكلام - . قال : و هذا هاني بن قبيصة و هو شيخنا و صاحب ديننا . فتكلم هاني بن قبيصة فقال : يا أخا قريش قد سمعنا مقالتك ، 1 - الانعام : 151 . ( 2 ) النحل : 90 .
(388)
و إنا لنرى أن ترك ديننا و الانتقال إلى دينك في مجلس نجلسه ، و لم ننظر فيه - في أمرك و لم نرتئي في عاقبة ما تدعو اليه لزلة في الرأي ، أو عجال في النظر ، و الزلة تكون مع العجلة ، و أن من ورائنا قوما يكرهون أن نعقد عليهم عقدا ، و لكن نرجع و ترجع و تنظر و ننظر - و كأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة - . فقال : و هذا المثنى بن حارثة و هو شيخنا و كبيرنا و صاحب حربنا . فتكلم المثنى بن حارثة ( 1 ) ، فقال : يا أخا قريش قد سمعت مقالتك ، فأما الجواب في تركنا ديننا و اتباعنا إياك على دينك فهو جواب هاني ، و أما الجواب في أن نؤويك و ننصرك ، فإنا نزلنا بين صيرين : اليمامة ( 2 ) و السماوة ( 3 ) . [ ضبط الغريب ] قوله : بين صيرين . الصير - في كلام العرب - : الشق . و في الحديث : من نظر في صير باب - أي في شق باب - ففقئت عينه فهي هدر . و الصير أيضا في كلامهم ، صير البقر : و هو موضع محدود كالحظيرة من أغصان الشجر و الحجارة و نحوها ، فإذا كان ذلك للغنم ، قيل زريبة . و صير كل شيء مصيره . فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله : ما هذان الصيران ؟ قال : مياه العرب و أنهار كسرى ، فأما ما كان يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور ، و عذره مقبول . و أما ما كان يلي أنهار كسرى 1 - و هو المثنى بن حارثة بن سلمة الشيباني ، توفي 14 ه . 2 - بلاد وسط الجزيرة العربية من مقاطعات نجد . 3 - بلدة في وسط العراق محافظة المثنى .
(389)
فذنب صاحبه مغفور ، و عذره مقبول . و إنما نزلنا هنالك على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثا و لا نؤوي محدثا ، و لسنا نأمن من أن يكون هذا الامر الذي تدعو اليه مما تكره الملوك ، فان أحببت أن نؤويك و ننصرك مما يلي مياه العرب آويناك و نصرناك فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : ما أسأتم في الرد إذا فصحتم بالصدق ، و ليس يقوم بدين الله عز و جل إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أر يتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله عز و جل أموالهم و يورثكم ديارهم ، و يفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله تعالى و تقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : أللهم لك ذلك . فتلا عليهم : " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا " ( 1 ) . و وثب صلى الله عليه و آله فأخذ بيدي ، و قال لي : يا علي ، أي أحلام في الجاهلية يرد الله عز و جل بها بأس بعضهم عن بعض و يتحاجزون بها في هذه الدنيا . و كان من أولئك من أسلم و و قد على رسول الله صلى الله عليه و آله و نال بما وعدهم رسول الله صلى الله عليه و آله من مملكة كسرى . و نصر عليا عليه السلام في حروبه . و في هذا الحديث من فضل علي عليه السلام : [ 1 - ] استصحاب رسول الله إياه على حداثة سنه يومئذ يعرضه مع نفسه على العرب . [ 2 - ] و إقباله عليه يخبره عن أحوالهم . 1 - الاحزاب : 46 .
(390)
[ 3 - ] و اعتماده عليه بحضرتهم ليريهم اختصاصه إياه . [ 4 - ] و مكانه منه على حداثة سنه ، و قرب عهده . و قد انتفع بذلك من لحقه منهم و نصره ، و كان مع حفظه للحديث و تركه لاعتراض ما اعترض غيره فيه ، و تقدمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله ، و الله جل من قائل يقول : " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله و الله سميع عليم " ( 1 ) . 1 - الحجرات : 1 .
(391)
[ ضرار و معاوية ] [ 743 ] إسماعيل بن عبد الله ، عن محمد بن يحيى ، باسناده ، عن محمد بن غسان الكندي ، قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار النهشلي ( 1 ) : يا ضرار ، صف لي علي بن أبي طالب ؟ قال : أولا تعفيني عن ذلك ؟ قال . أقسمت عليك لتفعلن . قال [ ضرار ] : أما إذا أبيت ، فنعم . كان و الله شديد القوي ، بعيد المدى ( 2 ) ، يتفجر العلم من جوانبه ، و تنطق الحكمة على لسانه ، يستوحش من الدنيا و زهدتها ، و يأنس بالليل و وحشته ، كان و الله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه و يخاطب نفسه ( 3 ) . كان و الله فينا كأحدنا يجيبنا إذا دعوناه و يقربنا إذا أتيناه ، و نحن مع قربه لا نبتديه لعظمته ، و لا نكلمه لهيبته . فإن ابتسم فعن مثل 1 - و هو ضرار بن ضمرة . أعيان الشيعة 7 / 404 . 2 - و في الحلية 1 / 84 : يقول فصلا ويحكم عدلا . 3 - و أضاف في الرياض النضرة 2 / 212 : يخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر و من الطعام ما جشب كان و الله .