<a name=aaa14> </a> خطوات على طريق تزكية النفس - أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم - نسخه متنی

السید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



وفي مجال حضور القلب، واستشعار الخشية والرهبة من الله تعالى يروى عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه كان يصلّي ذات يوم، فسقط الرداء عن أحد منكبيه، فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك فقال: ويحك أتدري بين يدي من كنت؟، أنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه، فقال الرجل: هلكنا، فقال: كلاّ إنّ الله عز وجل متمّم ذلك بالنوافل.

كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في مجال حبّه للصلاة، وتعلّقه بها قوله: "وجعل الله جلّ ثناؤه قرّة عيني في الصلاة، وحبّب اليَّ الصلاة كما حبّب الى الجائع الطعام، والى الظمآن الماء، وأنّ الجائع إذا أكل شبع، وأنّ الظمآن إذا شرب روي، وأنا لا أشبع من الصلاة".([30])

التقوى في المجال السياسي

وهذه الحقيقة لا تقتصر على الصلاة فحسب؛ بل تشمل السياسة أيضاً؛ فاذا أردنا أن نكون سياسيّين فانّ علينا أن نحذر من تحوّل السياسة إلى أداة للسيطرة والتجبّر، ولنتّخذ الرسول صلى الله عليه وآله قدوة لنا في هذا المجال؛ فعندما دخل مكّة فاتحاً منتصراً، طأطأ رأسه حتّى التصق براحلته تواضعاً لله سبحانه وتعالى.

ولكنّ هناك أناساً لو أعطي لهم مجـرّد منصب بسيط شابتهم حالة مـن

الخيلاء والزهو والتصرّفات الشاذّة، ناسين أنّ هذه المناصب هي امتحان وفتنة، فلو وجدت في نفس الإنسان ذرّة من الحسد فانّ الله تعالى يمتحنه عشرات المرّات حتى تخرج هذه الذرّة؛ فإمّا أن يستغفر الله منها ويصلحها، وإمّا أن توقعه في نار جهنّم.

وفي الحقيقة؛ فانّ الروح القشريّة التي تدفع الإنسان الى عبادة الظواهر، هي السبب في معظم المشاكل التي نعاني منها، فلقد أصبحنا رجال شعارات، ولم نفكّر في المشكلة الحقيقية مع انّنا كثيراً ما أطلقنا الشعارات، وكتبنا، وألقينا الخطب الرنّانة، ولكنّنا لن نفعل شيئاً لأننا لم نتّجه الى العمق.

إنّ الهدف من السياسة، والوصول الى الحكم يتمثّل في قوله تعـالـى: «الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ» (الحج/41)، فإذا خلت السياسة من هذه التعاليم فلعنة الله عليها وعلى أصحابها، فما قيمة سياسة تجرّ وراءها المتاعب والصعوبات، وتدخل الناس في اُتون الحروب؟ وقد روى في هذا المجال أن عبد الله بن عباس قال: "دخلت على أمير المؤمنين علي عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من أمركم إلاّ أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً".

وهكذا يجب علينا أن نكون جدّيين في أعمالنا، ولا نخطو خطوة الاّ بعد أن نحسب لها حسابها، كما يشير الى ذلك الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فانّ في القيامة خمسين موقفاً مثل ألف سنة ممّا تعدّون"، كما جاء في الروايات أنّ هذه الحواجز والمواقف مرتبطة بنفس الإنسان؛ فاذا كانت الأعمال منـزّهة من الكبر والعجب تجاوزتها، فينبغي على الإنسان المسلم أن يكون دقيقاً لأنّ الحياة ليست هزلاً، ونحن لم نأت الى الدنيا لنلعب ونلهو، كما أنّ الله عز وجل لم يخلقنا عبثـاً.

خطوات على طريق تزكية النفس

لكلّ عمل منهاج وبرنامج، ولتزكية النفس منهاج وبرنامج. وإذا استطاع الإنسان أن يعرف سبل السلام في الحياة، ومناهج الوصول الى أهدافه وتطلّعاته عبر التجارب والعلوم البشريّة، فانّ الوصول الى تزكية النفس لا يمكن إلاّ من خلال القرآن الكريم، وعبر أولئك الذين فسّروا القرآن بأقوالهم وأفعالهم؛ إذ لا أحد يعلم كنه النفس البشريّة سوى خالقها وبارئها، ولا يعلم مداخلها ومخارجها وثغراتها وسبل نفوذ الشيطان فيها إلاّ من خلقها، وهو الله سبحانه وتعالى.

سبيل تحقيق الأهداف

وإذا كان هدف الإنسان الأسمى، وتطلّعه الأعلى، هو تزكية النفس باعتبارها ضامنة لسعادة الإنسان وفلاحه، كما يقول الله تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس/7-10) فانّ الفلاح والسعادة يكمنان في تزكية النفس؛ لأنّ كلّ شيء إنّما يحصل الإنسان عليه بسعيه. ومن المعلوم أنّ سعي الإنسان محدود بإرادته التي هي بدورها خاضعة لنفسه إلاّ إذا عمل على تزكيتها.

والسؤال المهمّ في هذا الخصوص هو: كيف يزكّي الإنسان نفسه، وما هو برنامج هذه التزكية؟

أوّلاً؛ وقبل كل شيء لابدّ للإنسان من أن ينظر الى عمليّة تزكية النفس كأخطر مهمّة كلّف بها، ثم يسعى من أجل ذلك. أمّا إذا جعل تزكية النفس ضمن سائر الأهداف الحياتية، أو جعل هذه العمليّة مرادفة للوصول الى الثروة والسلطة والأهداف الدنيوية الاخرى، فانّه سوف لن يستطيع الوصول الى تزكية النفس؛ لأنه وضع أمامه هدفين في مستوىً واحد من الانتماء، أحدهما أصعب وأخطر من الآخر. وبطبيعة الحال فانّ الإنسان في هذه الحالة سوف يحقّق الهدف الأسهل، ويترك الهدف الأصعب.

تزكية النفس بحاجة إلى روح اقتحاميّة

وهكذا فان عمليّة الوصول الى تزكية النفس ليست بالأمر السهل، كما يقول ربنا عز وجل: «فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» (البلد/11)؛ بل تحتاج الى الاقتحام. ومن المعلوم أنّ الاقتحام بحاجة الى الشجاعة والبطولة وتركيز الإرادة وشحذ العزيمة، لأنّ الإنسان في هذه الحالة يريد أن يتحدّى شهواته، ويزكّي نفسه، ويطوّع شيطانه، ويروّض هذه النفس الأمّارة بالسوء. ولذلك فانّ الله سبحانه وتعالى جعل الفلاح الذي هـو خلاصة القيم والتطلّعات البشريّة- مساوياً لتزكية النفس في قوله السابق: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس/7-10). ومعنى «دَسَّاهَا» الذي يدسّ نفسه في تراب الشهوات، وفي وحل التطلّعات الشخصيّة الأنانية. فهذا الإنسان قد خسر كلّ شيء، وعمل وسعى ولكن دون أن يصل الى النتيجة المرجوّة. ومن أهم الخطوات على طريق تزكية النفس ما يلي:

1/ في مقدمة الأهداف

إنّ أوّل منهاج لتزكية النفس، هو أن يجعل الإنسان هذا الهدف (تزكية النفس) في مقدّمة تطلّعاته، وفي قمّة أهدافه، وأن لا يجعل هذا الهدف في مستوىً واحد مع سائر الأهداف؛ فالعلم والعمل لا ينفعان إلاّ بالتقوى والورع، والإخلاص لا يفيد إلاّ بالعاقبة الحسنة.. وهكذا الحال بالنسبة الى الأمور الأخرى، فانّها لا تجدي نفعاً إلاّ بتزكية النفس، لأنّ كلّ شيء يتّصل ويرتبط بالانسان سوف ينتهي ويزول لبتقى النفس معه، فانّ زكّاها فسوف تكون سبباً لسعادته في القبر، وفي المحشر، وفي الجنة أيضاً. وإن دسّاها فانّها ستكون سبباً لشقائه، وعذابه في جميع مراحل حياته.

2/ مراقبة النفس

على الإنسان أن يراقب نفسه مراقبة شديدة وواعية، وعلى سبيل المثال فانّه إذا عرف أنّ وراء تلّ ما عدوّاً يتربّص به الشرّ، فانّ من الطبيعي أن يبادر إلى وضع مراقبين وعيون فوق هذا التلّ لكي يكشف تحرّكات العدو. ولكنّ مشكلة هذا الإنسان إنّه لا يراقب نفسه الأمّارة بالسوء التي هي أعدى أعدائه؛ هذه النفس التي تعتمل وتموج فيها الوساوس والهواجس والتمنيات والأحلام لتبعدها عن ذكر الله، وذكر نعمه، وشكرها، وبالتالي فانّها تهلكه من دون أن يشعر.

وبناء على ذلك فانّ على الإنسان أن يراقب نفسه، وأن يفكّر فيها قبـل أن يفكّر في خارجها، فاذا تحدّث مع صاحبه، فانّ عليه أن لا يفكّر فيمــا يقول، بل كيفيّة الاستماع إليه باخلاص، ووفقاً للرقابة العقليّة؛ فهـل يستمع إليه بحبّ و إقبال، أم ببغض وامتعاض ورفض؟ وفي هذا المجال يقول القرآن الكريم: «فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (الزمر/17-18). فالانسان عندما يستمع الى صاحبه فلابد أن يـراقب كلامـه، ويـراقب نفسه، ويـراقب كيفيّة الاستمـاع إليه. فمـن الصعب على الإنسان أن يستمع الى نصيحة الناصح الذي هو عدوّه، بـل لابدّ أن يخالفـه.

ومن المعلوم أن إبليس هو أعدى أعداء الإنسان، ومع ذلك فانّ هذا المخلوق الرجيم كان يأتي الى بعض الأنبياء لينصحهم، وكان الله سبحانه وتعالى يأمر أنبياءه بالاستماع الى نصائحه، ولكنّ الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا يستمعون إليه من دون رقابة. فهم يراقبونه، ويراقبون أنفسهم في نفس الوقت، لكي لا يأخذوا بجميع نصائحه، فقد يقدّم لك أحد ما نصيحة حقّ مغلّفة بالباطل، أو باطلاً مغلّفاً بالحق.

وكمثال على ذلك؛ أن يأتي إليك إنسان آخر وينصحك في حالة الغضب الشديد، فالنصيحة في هذه الحالة تكون صادرة من إنسان متكبّر متجبّر لا ينصحك بكلمة حسنة. وبناءً على ذلك، فلأن النصيحة من الصعب على الإنسان تقبّلها، فانّ الناصح يجب أن يغلّف نصيحته بغشاء ليّن برّاق كأن يقول للإنسان المخطئ إنّ له فضائل ومناقب كثيرة، ولكنّه يعاني من بعض الأخطاء البسيطة، فينصحه بلسان ليّن وأسلوب مناسب لكي يتقبّل نصيحته، ويفتح قلبه له. ولكنّ الناصح قد يكون في بعض الأحيان في حالة غضب شديد، فيصبّ على صاحبه جام غضبه، ويحصي عليه كلّ أخطائه. وفي هذه الحالة التي يتعرّض فيها الطرف المقابل لهذا الهجوم العنيف والمفاجئ، سيندفع الى الانتقام. ومثل هذه النصيحة ينطبق عليها مصداق الكلام الحق المغلّف بالباطل، فمحتوى كلام الإنسان الناصح حق ولكنّ اُسلوبه باطل.

فلو لم تراقب نفسك، ولم تهيمن عليها وعلى غضبها، فانّك لن تستطيع أن تستمع الى النصيحة برحابة صدر.

وعلى العكس من ذلك، فقد يأتي إليك أنسان يغلّف كلامه باُسلوب حق، فيقول لك إنّك إنسان مؤمن فلماذا مثلاً لا تؤم المصلّين في هذا المسجد، فالإمام له من الثواب ما هو أكثر من ثواب المأمومين.. إنّ هذا الكلام هو في الظاهر كلام صحيح، ولكن عليك أن تفكّر فيه مليّاً، فمن الممكن أن يريد هذا الإنسان أن يدفعك الى منافسة صاحبك الذي يؤم المصلّين في ذلك المسجد.

إنّ الكثير من الناس يخدعون بمثل هذه الشبهات والأساليب، لأنّهم ليسوا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، فهم لا يراقبون أنفسهم. فان كنت على سبيل المثال راضياً عن عبادتك واجتهادك فقل لنفسك؛ انّني لم أكن مرابطاً في خنادق المجاهدين أو في معتقلات الطغاة، وإنّ ثواب هؤلاء أكثر من ثوابي، ثم إنّني لا أعلم هل أنّ عملي مقبول عند الله أم لا؟... وهكذا فانّ عليك دائماً أن تراقب نفسك، وأن لا تدع الغرور يدخل الى قلبك، لأنه أوّل صفة تنفذ في قلبك ثم تخرج على لسانك لتظهر على أعمالك فتحبطها.

وبناء على ذلك فانّ على الإنسان أن يكبح جماح نفسه من خلال تصغير هذا العمل عند نفسه، ومن خلال حمد الله سبحانه وتعالى وتسبيحه. ففي كثير من الأوقات يفكر الإنسان في كيفيّة خداع الآخرين، وصبّ الحسد عليهم، فعليه أن لا يجعل تفكيره، وهواجس نفسه تنطلق من دون مراقبة. فمن الممكن خلال لحظة واحدة أن لا تراقب نفسك، وتغفل عنها فتؤدّي بك هذه اللحظة الى أن تقوم بعمل تندم عليه.

3/ الذكر الدائم لله

إنّ الإنسان مخيّر بين أمرين؛ فإمّا أن يخضع لله سبحانه وتعالى، وإمّا أن يخضع لعدو الله الذي هو الشيطان الرجيم. فإن ترك ذكرا لله وحمده، ولم يتذكّر نعمه عليه، فانّه سيقع لا محالة في شرك الشيطان. فايّاك وأن ينسيك الشيطان ذكر الخالق عز وجل، وحاول أن تكون دائماً في حالة ذكر له. وعلى سبيل المثال؛ عندما تنهض من النوم، وقد كانت روحك خارجة عن جسمك ثم أعادها الله جل وعلا إليك، وقد كان من الممكن أن تصيبك عشرات الأخطار، فدفعها الله عنك، ففكّر في نفسك، واحمد بارئك على هذه النعمة، واشكره لأنه جعل جسمك سليماً، ومنحك الصحّة والعافية.. واعلم أن خليّة واحد في جسمك إن أصابها الفساد، فانّها سوف تؤدي الى فساد خلايا أخرى، مما تسبب لك معضلات قد لا تخطر على بالك أبداً.

4/ الحذر من التمنيّات والأحلام

عليك أن لا تتمنّى ولا تعيش في عالم الأحلام، فانّ الله سبحانه وتعالى يقول: «أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى» (النجم/24) فالتمنيّات الخالية من السعي لا يمكن أن تنفع، كما يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي ولكنَّ الإيمان ما خلص في القلوب وصدقته الأعمال".([31]) فان أردت تحقيق هدف مخطّط له، فضع برنامجاً أمامك، فالانسان الذي يتمنّى قد تدخله تمنيّاته في الباطل، وتجعله يعيش في عالم آخر ناسياً وغافلاً عن قضاياه الرئيسية، وعمّا خُلق له والأهداف الحقيقية التي يجب أن يسعى من أجل تحقيقها. فالاغترار هو الذي يدفع الإنسان الى نار جهنم، كما يقول ربنا عز وجل، واصفاً مصير الكافرين الغافلين عن ذكره: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الاَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ» (محمد/12)

وهكذا فان مشكلة الإنسان الأساسية هي تمنيّاته وغروره بنفسه، فعليه أن يتحدّى هذه المشكلة من خلال تزويد نفسه بالبصائر القرآنية، من خلال مراقبة النفس وتزكيتها، وعدم فسح المجال للشيطان بأن ينفذ إليها عبر وسائله الخبيثة، وأساليبه الماكرة التي لا يستطيع أن ينجو منها إلاّ من تزوّد بالوعي، والبصيرة الإيمانية المستوحاة من القرآن الكريم.

أسقاط الحجب فريضة إيمانية

«يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُـوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي اْلأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُواعِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِـرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُـمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (آل عمران/ 156-158)

لماذا لا يخشع قلبي عندما تتلى عليَّ آيات القرآن ؟ ولماذا لا أكون خاشعاً في الصلاة امتثالاً لقوله تعالـى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ» (المؤمنون/1-2)، ولمـاذا لا اعتبـر من المـوت عندما أرى أعزتي وأخوتي يوارون الثرى ؟

تلك كانت تساؤلات كثيراً ما يطرحها الانسان المؤمن على نفسه؛ فنحن نسمـع عن المؤمنيـن الصالحيـن أنهم إذا تليت عليهـم آيات الله اقشعرت جلودهم، ودمعت عيونهم، وكادت قلوبهم تنخلع من ذكـر الله. أمـا نحـن فإننا نستمع إلى القرآن والشيطان يوسوس إلينـا فـي أن نتحـدث مع أصحابنا فيما لا يجـدي نفعــاً، فـاذا القـرآن فـي وادٍ ونحـن فـي وادٍ آخر!

إصلاح النفس

ترى كيف نصل الى درجة أولئك المؤمنين الخاشعين؟ وإذا كان القرآن لا يزيدنا خشوعاً، والموت لا يكون واعظاً لنا، ومواعظ المؤمنين لا تؤثر فينا، فما هو السبيل الى إصلاح نفوسنا ؟

للجواب على تلك التساؤلات نقول: إن بيننا وبين القرآن حجاباً، وبيننا وبين مواعظ النبي صلى الله عليه وآله والائمة عليهم السلام حجاباً، وما دامت هذه الحجب قائمة فاننا لا نستطيع أن نستفيد من هذه المواعظ، فلابد - إذن - من أن نتخلص من تلك الحجب، وذلك من خلال عملية التطهير الذاتي. فقلب الانسان يجب أن يتخلص من الشرك، والحقد، والجهل، والجبن.. وجميع أنواع الحجب الأخرى، وبذلك يستطيع أن يستقبل الآيات القرآنية والمواعظ. أما القلب الذي تراكمت ورانت عليه الحجب، فلا يمكن أن يتأثر بالمواعظ مهما بلغت من الصدق، وقوة التأثير.

تطهير القلوب

والتساؤلات التي تفرض نفسها هنا، هي: كيف نستطيع أن نطهر قلوبنا، وما هي تلك الحجب التي تمنعنا من الاتصال بنور الرب سبحانه، وكيف نعمل على إزالتها، وكيف نجعل قلوبنا تخشع وتقبل على القرآن؟

إن علينا من أجل أن نعثر على إجابات شافية أن نعود الى قلوبنا؛ فعلامة القلب المريض هي أن صاحبه لا يحب القرآن، ولا يقبل على الصلاة بشوق.. ومثل هذا الانسان يجب أن يزيل الحجب التي تمنع نور القرآن من النفوذ الى قلبه. ومن ضمن هذه الحجب أن الانسان لا يريد التبرؤ من أعداء الله، وأنه يخلط عادة بين الحق والباطل؛ في حين أن القرآن الكريم عندما يأمرنا بالتوحيد فإنه يقول: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» (البقرة/256) فالانسان يجب عليه أولاً أن يطهر قلبه من الشرك ليذوق طعم التوحيد.

وهنا من حقنا أن نتساءل: كيف نتبرأ من أعداء الله؟

سبيل البـراءة

إن القضية تبدو سهلة للوهلة الأولى، فقد يتصور الانسان أنه يكفي أن يلعن الشيطان بلسانه ثم لا بأس عليه أن يتبعه بأفعاله وسلوكه. ولكن ما فائدة مثل هذا اللعن، وكيف يجوز لي أن أتبرأ من أعداء الله في حين أن يدي بأيديهم؟

إن الانسان الذي يجتنب الطاغوت وآثاره في قلبه، ويتبرأ من أعداء الله هذا الانسان باستطاعته أن يفهم الحقيقة. والطاغوت هو كل ذي قوة يريد أن يسيطر عليك بقوته، فمن الممكن أن أكون طاغوتاً بالنسبة الى ابني عندما أريد أن أفرض سيطرتي عليه بالظلم. وقد قيل في هذا المجال: "كل انسان يضمر ما أظهره فرعون". ففرعون ادعى الألوهية، وتحدى الله جل جلاله في كبريائه، وأنا أيضاً من الممكن أن أقول ذلك ولكن في حدودي، فأجعل نفسي فرعوناً ضمن التجمع الصغير الذي أقوده.

ولذلك؛ فإن بداية الفهم الصحيح للاسلام والقرآن والمواعظ، هي أن يضمر الانسان في نفسه نية العطاء؛ أي أن يقرر دفع ثمن ذلك الفهم، وهذا هو المعنى الصحيح للايمان. فالايمان يعني أن يكون الانسان مستعداً للتضحية والعطاء، وآنذاك سيكون في مستوى فهم الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة. وهنا تبرز لنا قيمة الشهداء الذين علموا البشر كيف يرفضون الفكر الخاطىء، ويقولون: (لا) للانحراف والطاغوت والجبت، فاكتملت عندهم كلمة التوحيد، وهذا هو الذي يجعل الشهيد شاهداً على أمته، وقدوة للآخرين على مدى العصور.

الولاية الحقيقية لله

والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه المفارقة بين إنسان مستعد لأن يسقط الحجب بينه وبين الله عز وجل، وبين الانسان الذي يكرس تلك الحجب في قلبه. فالانسان الأول قد يضمر الحب لهذا الشخص أو ذاك، ولكن هذا الحب لا يمكن أن يقف أمام تيار حبه لله. «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ» (البقرة/165). فحبه الحقيقي الخالص وولاؤه لله وحده، وهو لا يمتلك ولاية أخرى أقوى من ولاية خالقه. وهذا ما يجعل هذا الانسان في قمة الايمان، فلا شيء يقف بينه وبين الباري جل وعلا.

والقرآن الكريم يؤكد على أن لا يكون المجتمع الايماني مجتمعاً يتأسف ويتحسر على الذين استشهدوا من طلائعه الجهادية، كما يشير الى ذلك ربنا تعالى في قوله: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي اْلأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُواعِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا» (آل عمران/156)، فنحن - كمؤمنين - يجب أن نبتعد عن مثل هذه الكلمات التثبيطية التي ينفذ بها الشيطان الى قلب الانسان. فنحن نرى بعض الناس يتكلمون ضد المصلين، في حين أنهم لا توفيق لهم في الصلاة، فتراهم يحسدون أولئك الذين يصلون بخشوع. وقد نرى رجلاً من أهل الخيـر قد بنى مسجداً، ثم نرى رجلاً أخر يمتلك الأموال الوفيــرة فيحــاول أن ينقص من قدر ذلك الذي بنى المسجد، كأن يقول أنه قد بناه رياءً فيحاول بشتى الأساليب أن يبحث عن عيب في المسجد الذي بناه صاحبه، ذلك لأنه لم يوفق الى هذا العمل الخيري، والله تعالى يقول عن هــؤلاء: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» (آل عمران/156)

الحياة والموت بيد الله

ثم يقول رينا عز وجل: «وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» (آل عمران/156).

فالحياة والموت بيد الله، ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً في هذا المجال. وعدم استشهادنا في سبيل الله تعالى لا يعني أننا غير مؤهلين للشهادة، فقد يكون الله قد ادخرنا لمواقف أخرى نستشهد فيها، وفي نفس الوقت فإننا قد نكون غير متمتعين بأهلية الشهادة، فيجب علينا في هذه الحالة أن نبحث عن عيوب أنفسنا، ونعمل على إصلاحها، لكي نصل الى المستوى الرفيع للشهادة.

ومن ثم يقول ربنـا سبحانه: «وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِن مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (آل عمران/157-158). فلا فرق بين أن يقتل الانسان في سبيل الله أو يموت ما دام في حالة جهاد في سبيله، وهذا ترغيب من الله تبارك وتعالى يتدرج في طرق معينة هي:

1- إن الله يرغب الانسان ويقرر لـه حقيقة أن الموت والحياة بيد الله، فالقتال ليس معناه بالضرورة أن يقتل الانسان، كما إن القعود عن القتال لا يعني هو الآخر أن يبقى الانسان بمنجىً من الموت.

2- إن الانسان لا يبقى في هذه الدنيا من أجل أن يحصل على الأموال، وهو إذا ما حصل عليها فإنه سرعان ما سيتركها عند الموت، فالافضل لـه - إذن - أن ينفقها في سبيل الله جل جلاله.

3- المغفرة الإلهية؛ فلا ريب أن كل واحد منا قد سود صحيفة أعماله بما لا يعلمه من الذنوب ليشتري بها نيران جهنم، أما الانسان الذي يموت مختوماً له بالخير، ومستشهداً في سبيل الله تعالى، فإنه سيغسل بدمه تلك الصحيفة السوداء، ليفتح الله عز وجل لـه ملفاً جديداً.

4- الدعوة الالهية للدخول الى الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ومن هنا؛ فإننا عندما نكرّم الشهداء فإننا نكرّم فيهم هذه القيمة، والبصيرة الايمانية، ونقدر فيهم هذه الروح، وفوق كل ذلك فإن الله عز شأنه قد اختارهم ليكونوا جلساءه، وليغفر لهم ذنوبهم.

وبمجرد أن تتوفر لدينا هذه النية في قلوبنا - نية الشهادة - فإن آفاقاً واسعة ستتفتح أمامنا على الآخرة، ولذلك فقد طُلب منا - عندما نقف أمام قبور أصحاب الإمام الحسين عليه السلام- أن نقول بصدق وأخلاص: "فيا ليتني كنت فأفوز معكم".([32]) فهذه الكلمة عندما تخرج من القلب، فإنهـا تعنـي استعداد الانسان النفسي لأن يكون شهيداً في سبيل الله. وهذا الانسان عندما يختار خط الشهادة فإن الحجب ستتساقط من قلبه ومن أمام عينيه، والانسان الذي يجعل في باله أن تختم حياته بالشهادة فإنه لا يخاف من أي شيء سوى الله. فليس هناك من أمر أصعب على الانسان من الموت، كما يشير الى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "فوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه بر".([33])

وهكذا فإن الانسان إذا ما أحب الموت في سبيل الخالق، فإنه سيبقى يتحرك ويعمل، وحينئذ ستسقط عنه الحجب، ويبدأ قلبه بالاستفادة من المواعظ.

إن طريقنا الى الايمان الحقيقي هو البراءة من أعداء الله، وتطهير القلب من الشرك، وأن نحرر أنفسنا من أسر الدنيا، وسجن الذات، والأحقاد، وأهواء النفس.. وحينئذ سنرى كيف أننا سننطلق في رحاب الحقيقة، ونكون أحراراً في الدنيا والآخرة، ونكون عند الله تقدست أسماؤه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

الروح الإيجابية أساس تزكية النفس

من الحقائق التي أكدها القرآن الكريم، وأكّد عليها علم التربية الحديث؛ أنّ نفسيّة الإنسان هي التي تهيمن على مسيرته، كما يشير إلى ذلك ربنا عـز وجل بقولـه: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً» (الاعراف/58). فعندما تكون نفسيّة الإنسان الفرد، والأمـة، والمجتمع نفسيّة طيّبة، فانّ كلّ ما ينبت من فوق هذه النفسية من سلوكيّات وأفكار ومواقف وإفرازات أخرى سوف تصبّ جميعاً في الاتجاه الصحيـح؛ في حين إذا كانت النفسية خاطئة منحرفة، فانّ كلّ ما يصدر منها سيكون نكداً.

تكريس الحالة الإيجابية في النفس

إن الله سبحانه وتعالى يأمر عبر القرآن الكريم بأن نصلح أنفسنا ونزكّيها، لأنّ كل صلاح في النفس سينتهي بالتالي الى صلاح في المجتمع. وأهم ما في النفس الصالحة، الحالة الإيجابية التي يصطلح عليها علماء الأخلاق باسم الشكر، والرضا، والتوكّل، والصبر وما إلى ذلك من مصطلحات تشترك جميعها في أنّ الروح التي تقف وراء هذه الخلقيّات الفاضلة هي الروح الإيجابية.

وللأسف؛ فانّ هناك قسماً من الناس تعيش أرواحهم ونفسياتهم في ظلمات، فهم ينظرون الى كلّ شيء في الحياة بمنظار أسود قاتم، ومثل هؤلاء لا يمكنهم أن يقوموا بدور، ولذلك جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة، وأبى الله لصـاحب الخُـلق السيء بالتوبة. فقيل: يا رسول الله؛ وكيف ذلك؟ قال: أمّا صاحب البدعة فقد اُشرب قلبه حبّها، وأمّا صاحب الخُـلق السيء فانّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم من الذنب الذي تاب منه".([34])

السلبيّة مصدر الذنوب

والسبب في ذلك أنّ الإنسان السيّء الأخلاق لا يخرج من ذنب إلاّ ليدخل في ذنب آخر. فالإنسان القلق، المضطرب، المتشائم، السلبيّ، الحقود.. هذا الإنسان تفيض من جوانبه الأفعال السيّئة؛ فتراه يغتاب، فإن سكت عن الغيبة بادر الى الاتهام، وإذا ما كفّ عن التهمة قام بتوجيه السباب والشتائم، وهو فيما عدا ذلك متشائم، يركّز على الجوانب السلبيّة في الحياة.

هذا في حين أنّ الإنسان الذي يتمتّع بنفسيّة إيجابية متفائلة، تراه لا يخرج من عمل صالح إلاّ ليدخل في عمل صالح آخر. وفي هذا المضمار يقول الله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» (الاسراء/84) فكما إنّ صورة الإنسان تختلف من شخص لآخر؛ فهناك اُناس صورهم الظاهريّة جميلة جذّابة أنيقة، في حين أن هناك أشخاصاً آخرين يحملون صوراً قبيحة ذميمة، فانّ نفوس البشر هي الأخرى ذات أشكال ونوعيات مختلفة؛ فهناك نفوس جميلة وهناك نفوس قبيحة، وإذا كانت النفس جميلة فانّ جميع الأفعال التي تصدر من هذه النفس ستكون جميلة حتّى وإن صدر خطأً عملٌ غير جميل من هذه النفس، لأنّ الله تعالى سيغفر للإنسان هذا العمل.

خلفيّات الظلم

فلنفكّر في خضم العمل السياسي والاجتماعي في خلفيّات الحياة، ولنفكّر كيف ينبت من أرض معيّنة الحكام الطغاة المستبدّون المتمرسّون في الجريمة.. إنّ الكلمات والتعابير تعجز في بعض الأحيان عن وصف حقيقة هؤلاء الأشخاص الذين تسبّبوا في قتل الملايين من الأبرياء، إنّنا في بعض الأحيان لا نفكّر في هؤلاء الأشخاص وإنّما في تلك الأرضية الخبيثة التي أنبتتهم. فهم يمثّلون خطأً وتياراً فاسدين؛ أي إنّ هناك رجالاً فاسدين ومجرمين، وهناك طبقة معيّنة فسدت فخرّجت مثل هؤلاء الأشخاص.

وفي هذا المجال يقول الله تعالـى: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً »(الانعام/129). فالإنسان الظالم لا يكون حاكماً إلاّ على ظالم مثله.

وهنا علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: أين تكمن المشكلة، وهل هي متمثّلة في شخص، أم خطّ، أم أنّها تمثّـل حالـة ثقافيـة متردّية علينـا أن نعالجها؟ وعلى سبيل المثال فانّ مشكلة النازيّة لم تكنّ تتمثّل في شخص هتلر، فقد كان يؤيّده في حربه النازية عشرة ملايين إنسان، فالمشكلة إذن لم تكن تتمثّل في الحزب النازي فحسب، بل في تلك الأرضية التي أنبتت مثل هذا الحزب، ألا وهي أرضية العنصريّة المقيتة التــي تشبّعت بها نفسيّة الشعب الألماني في تلك الفترة. فهذه العنصرية هي التي ولدت هذا الحزب، وهذا الحزب هو الذي خرّج هتلر، وهتلــر - بدوره - هو الذي أفرز تلك الحرب المدمّرة.

وهكذا الحال بالنسبة الى طغاة التأريخ الآخرين أمثال يزيد، فمن الخطأ أن نتصوّر أنه كان شخصاً واحداً، فقد كانت هناك طبقة فاسدة تأمّر عليها رجل فاسد مثل يزيد.

وقد حاول الأنبياء عليهم السلام وكبار المصلحين الذين اتّبعوهم أن يعالجوا هذه الأرضية، وهذا هو في الحقيقة الحلّ المنطقي والسليم لمشكلة الطغيان والفساد؛ فأنت حينما ترى شجرة غير سليمة فانّك لا تعمد الى قطع أغصانها لتعرف علة فسادها، بل إنّ عملك من المفروض أن يبتدئ من التربة لتحلّلها وتكتشف الفساد والنقص اللذين تعاني منهما. وبعد أن تستيطع معالجة هذا الفساد والنقص، سرعان ما تتحوّل تلك الشجرة الفاسدة الى شجرة يانعة. وهكذا الحالة بالنسبة الى الاشجار الأخرى النابتة في هذه الأرض، فانّها هي الأخرى سوف تصلح.

سوء الخلق فيروس الفساد

وهذه القاعدة تنطبق علينا أيضاً نحن البشر، فنحن يجب علينا أن نقضي على فيروس الجريمة، وهذا الفيروس هو في الحقيقة (الخُلق السيّء) كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى؛ وعلى سبيل المثال فانّ ظاهرة توجيه السباب والشتائم هي من الظواهر الشائعة في مجتمعاتنا، وهذا السباب يمثّل الوجه القبيح لثقافة الإنسان. وقد نهت الشريعة الإسلامية عن هذه الصفة نهياً شديداً، وطالبت الإنسان المؤمن أن يترفّع، وينـزّه نفسه عن مثل هذه الممارسات. فقد نهته حتّى عن توجيه السباب الى أعداء الدين، فما بالك بسبّ بعضنا البعض، وما بالك بتوجيه الشتائم الى الزمن والأشياء الجامدة التي لا تمتلك خطأً من العقل والتفكير؟!.

إنّ هذه الظاهرة أدّت إلى ظهور حالة نفسية سلبيّة، وهذه الحالة النفسيّة هي التي ولّدت الحكام الدكتاتوريّين.

وربّما نتساءل في هذا المجال متعجّبين: ترى كيف تؤدّي ظاهرة السباب الى حدوث الجرائم؟!

والجواب على هذا السؤال بحاجة إلى خبير في علم الأخلاق والاجتماع والسياسة لكي يفصل لنا كيف أنّ هذا الفيروس الصغير يتوالد ويتكاثر حتّى يؤدّي إلى انهيار المجتمع برمّته. فالفيروس المادّي الذي لا نستطيع أن نراه بالعين المجرّدة بإمكانه أن يقضي على حياة الناس الأقوياء الأشدّاء من الناحية الجسميّة، وهكذا الحال بالنسبة إلى السباب.

الشكر يساوي الإيجابية

وفي هذا المضمار يقول ربنا عز وجل: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِاَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» (الانعام/53) والقرآن الكريم يريد أن يقول لنا هنا إنّ هناك رجالاً يتفوّقون على رجال آخرين، وأنّ هناك أشخاصاً يسبقون أشخاصاً آخرين، والسبب في هذا التفضيل هو أنّ الطبقة التي فُصِّلت تتمتّع بخصلة الشكر.

والشكر يعني نفسيّة إيجابية مبادرة تتمتّع بصفة الاستباق الى الخيرات، والمسارعة نحو العمل الصالح؛ وعلى سبيل المثال نفترض أنّ هناك شخصين كلاهما يؤدّيان الصلاة، ولكنّ الأول بمجرّد أن يسمع هتاف (الله أكبر) ترى قلبه ينتفض ويهتزّ، وجوارحه تخشع، فيسارع للتوجّه الى القبلـة لينهمـك فـي أداء الصلاة. أمّـا الثانـي فـانّـه يــؤدي الصــلاة هـو الآخـر ولكنـه يماطل، ويسوّف في أدائها، فتراه مثلاً يؤخّر صلاة الظهـر والعصــر الى قبيـل غروب الشمس فيصلّيها بأسرع ما يمكن لئلاّ تفوتـه هذه الصـلاة، فتتحول كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله: "نـقر كنقر الغراب".([35])

وفـي هذا المجـال يقـول الله عـز وجــل: «فَوَيْـلٌ لِلْمُصَلِّيـنَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُـرَآءُونَ * وَيَمْنَعُـونَ الْمَاعُونَ» (الماعون/4-7) فالله عندما أمرنا بالمسارعة إلى أداء الصلاة في ندائه "حي على الصلاة" فانّ من المفترض فينا أن نقوم مسرعين لأدائها.

وفي مجال حياتنا اليوميّة نرى مثلاً أنّ هناك موظّفاً قابعاًً وراء طاولته، ولكن القلق والضجر يسيطران عليه في جميع أوقات دوامه، فعندما يأتيه مراجع فانّه ينظر إلى وجهه وكأنّه ينظر إلى ملك الموت. في حين إنّنا قد نصادف موظّفاً لطيفاً، حسن الأخلاق ذات نفسيّة منشرحة وإيجابية، ويتمتّع بصفة المبادرة والمسارعة الى خدمة الآخرين، فتراه ما أن يفرغ من أعماله حتّى يبادر إلى إنجاز أعمال زميله.

مجتمع سلبيّ

وللأسف فلأنّ مجتمعنا هو مجتمع سلبيّ تراكمت عليه الأغلال النفسية والثقافية، فانّنا نكره العمل أساساً، ولا نعرف الواجب، ولذلك ترانا في حالة تقهقر وتراجع؛ في حين أنّ الشعوب الأخرى تتقدّم لأنّها تعشـق العمل، ففي بعض البلدان عندما تشير الساعة الى الثانية بعد الظهــر حيـث من المفترض في الجميع أن يغادروا أماكن عملهم، ترى الموظّف في بعض الأحيان يعمل حتّى الساعة الثالثة أو الرابعة الى أن ينبّههه صاحب العمـل.

وبالطبع فانّ العمل يعتبر من الأمور اللطيفة في الحياة، وقد ربّانا الإسلام على أساس حب الحياة، وحبّ العمل، والكدح في سبيل التقدم، ولكنّ الروحيات السلبيّة السائدة في أوساطنا جعلت كلّ واحد في مجتمعنا يتكاسل، ويتقاعس في أداء عمله؛ فترى العالم لا يؤدّي دوره بالكامل، وكذلك الحال بالنسبة إلى الطبيب والمهندس والعسكري... وهذا ما يؤدّي الى تخلّف المجتمع وبالتالي إلى ابتلائه بأشخاص طغاة، وبأوضاع متدهورة كهذه الأوضاع التي نلمسها الآن.

وفي المقابل؛ فانّ النفسيّة الشاكرة هي على العكس من ذلك تماماً، وإذا ما تتبعنا تأريخ القرآن الكريم فانّنا سنرى أنّه قد نزل فـي بيئـة الجزيــرة العربية حيث كانت الروح السلبيّة قد بلغت الحضيض؛ فقد كان الأب يقتل ابنته، بل كان يقتل حتّى الأولاد الذكور، وعندما يسأل عن سبب سلوكه هذا يجيب بأنّه لا يمتلك امكانيّات يؤمّن مـن خلالهـا معيشتهم، وقد نهى القرآن الكريم عن هذه الممارسة المغلوطة المنحرفـة قائلاً: «وَلاتَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِنْ إِمْلاقٍ» (الانعام/151).

وفي مثل هذه البيئة السلبيّة نزل القرآن الكريم، فبثّ الروح الإيجابية، وبعث الأمل، وأمر بالشكر، وبثّ روح الصبر والاستقامة والتحدّي والحيويّة، فترى هذا الكتاب العظيم قطعة من الحياة والنور.

لماذا اليأس والقنوط؟

إنّ علينا أن نعرف أنّ وراء الليل وظلامه ووحشته، نهاراً وفجراً، وأنّ الدنيا لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحدّ، فلماذا اليأس والقنوط؟

إنّ الحكام الظلمة الجائرين سينتهون، لأن سنّة الله تعالى في الظالمين أن لا يبقوا كما يشير إلى ذلك قوله الكريـم: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» (الشعراء/227).

وللاسف فإنّ هناك البعض يعيشون في هذه الحياة وكأنهم ينتظرون موتهم؛ فلا يتحرّكون، ولا يعملون، ولا يفكّرون.. في حين أنّ الحالة النفسيّة التي نعتقد على أساسها أنّ الدنيا منتهية هي حالة سيئة. وفي هذا المجال يروى أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على رجل يعوده وهو شاك فتمنّى الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تتمنّ الموت فإنّك إن تك محسناً تزدد إحساناً إلى إحسانك وإن كنت مسيئاً فتؤخّر لتستعتب فلا تمنّوا الموت".([36])

الحضارة في القرآن

إنّ من جملة ما نقرؤه في القرآن الكريم سورة المائدة، وإنّ كلمة (المائدة) هي رمز الى الحضارة. فهي لا تعني مجرّد الأكل، بل هي رمز الى مجموعة من الظواهر والأمور؛ أي إنّ هناك تجمّعاً بشريّاً حول الطعام، ومن المعلوم أنّ كلمة الحضارة مشتقّة من (الحضور)؛ أي حضـور بعض الناس عند البعض الآخر، والمائدة فيها أيضاً معنى (الحضارة) ولكن ليس حضوراً عبثياً بدون معنىً، بل حضور أعلى من الطعام، وعلى مصلحة مشتركة، فبالاضافة الى الحضور المجرّد هناك أيضاً حضور، وتمحور حول مصلحة.

ثم إنّ القرآن الكريم عندما يتحدّث حول (المائدة) فانّه يضرب لنا مثلاً حول أهدافها فيقول وقوله الحق-: «إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَـا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآءِ» (المائدة/112) وبذلك يتّضح لنا أن المائدة على نوعين هنا؛ مائدة من الأرض، ومائدة من السماء؛ أي حضارة أرضية، وحضارة إلهيّة سماويّة، وعلينا أن نسعى من أجل أن نبعث الحضارة الإلهيّة في الأرض.

التقوى مبدأ كلّ حضارة

والحضارة الإلهية يفسّرهـا القرآن الكريم في قولـه أولاً: «اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ» (المائدة/112)؛ أي إن التقـوى هي بداية كلّ حضارة. فنحن عندما نلتزم بحدود الله تبارك وتعالى، فانّه بدوره سـوف ينـزّل علينا مائدة من السماء، كما يستفاد من قوله تعالى: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» (الطلاق/2-3). وعلى هذا فانّ التقوى هي طريق الرزق، والخيرات، ونـزول الموائد السماويّة.

من لا معاش له لا معاد له

ومـن ثم يقول ربنـا عز وجــل: «اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا

نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا» (المائدة/112-113) فالحواريّون الذين كانوا يمثّلون نخبة واعية، طاهرة، لا تشوب حياتهم شائبة من الذنوب والخطايا، وكانوا متفرّغين لله سبحانه وتعالى، وللعمل الرساليّ، أقول: إنّ هؤلاء الحواريّين أظهروا رغبتهم في أن يأكلوا من تلك المائدة وكأنّهم يريدون أن يقولوا لنا إنّ الذي لا يأكل الخبز لا يمكن أن يؤدّي الصلاة، وإنّ من لا معاش له لا معاد له. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرق بيننا وبينه؛ فلولا الخبز ما صمنا ولا صلّينا ولا أدينا فرايض ربنا".([37]) أي إنّ الخبز يمثّل الحاجة الأولى التي يفتّش عنها الإنسان، فتوفير الحاجات المادّية هو بداية بناء الحضارة.

توفير الأمن من أهداف الحضارة

ثم يذكر الحواريّون هدفاً آخر من أهداف طلبهم لإنـزال المائدة في قولهم: «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا» (المائدة/113). فالقلب المهتزّ المضطرب لا يمكن لصاحبه أن يبني حضارة، بينما القلب المطمئن هو وحده الذي يستطيع أن يشيّد صرح الحضارة، وهكذا فانّ أحد أهداف بناء الحضارة هو توفير الأمن، وأبعد مدىً للأمن هو حصول الاطمئنان القلبي.

ثم يقول الله تعالى بعد ذلك على لسان الحواريّين: «وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا» (المائدة/113) فبعد الأمـن والاحسـاس بالطمأنينة يأتــي دور العلم والتكامل المعنوي الذي يمثّل أحد أهداف الحضارة.

التطلّع نحو القيادي

ثم يذكر الحواريّون هدفاً آخر من أهداف الحضارة، ألا وهو التطلّع نحو قيادة الشعوب المستضعفة، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ» (المائدة/113).

إن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربّه قائلاً: «اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا» (المائدة/114). فلننظر الى هذه الروح الإيجابية المتفائلة، فهناك فكرة أن تكون هذه المائدة عيــداً، ومناسبة للفرح والسـرور على عكس البعض من الناس الـذي يتوهّمون أنّ الحياة كلّها حزن وغم.

التكامل المعنويّ

وبالإضافة الى العيد كحالة مادّية نستبشر بها فانّنا بحاجة الى تكامل معنويّ يشير إليه النبي عيسى عليه السلام في قوله وهو يدعو ربّه: «... وءَايَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ» (المائدة/114-115) فاذا ما نزلت النعمة ثم كفر الإنسان بها فانّها ستتحوّل الى نقمة وعذاب.

تزكية النفس ؛ المرحلة الأولى للتغيير

وباختصار! فانّنا بالاضافة إلى تعاملنا، وتفاعلنا مع الأحداث السياسيّة، ووقائع حياتنا اليوميّة، لابدّ أن لا نغفل في نفس الوقت عن تربية أنفسنا، وتزكيتها بالدرجة الأولى، لأنّ الله تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم، ولأنّ المبادرة الى تزكية النفس وتطهيرها من أدران الذنوب والشوائب الدنيوية تمثّل المرحلة الضرورية الأولى في عملية الاصلاح والتغيير.

وبعد أن نتجاوز هذه المرحلة بنجاح علينا أن نتّجه بعد ذلك الى تربية الأمّة واقتلاع جذور الفساد منها، وانتشالها من مستنقع التشاؤم والسلبيّة والانطواء على النفس.. وإذا ما استطعنا أن نتجاوز هذه الحالة السلبيّة، ونبعث في أنفسنا روح التفاؤل والمبادرة وروح الاستقامة والصبر والتحدّي والاقتحام، والهمّة والعزم الذي لا يلين.. فانّنا سنستطيع آنذاك أن نصلح حياتنا، ونصلح حياة الأمم الأخرى في جميع المجالات، ذلك لأنّ الروح الإيجابية هي الأساس في عمليّة الإصلاح والتغيير.

تزكية النفس؛ مقدّمة إصلاح الواقع

يبدأ الإصلاح الحقيقي في المجتمع البشري من حيث القرار النهائي والحاسم الذي يتّخذه الإنسان على صعيد الأفراد والجماعات، ومركز هذا القرار، ومنطلق العزم هو ذات الإنسان؛ فإذا ما طابت هذه الذات قرّرت الصلاح والإصلاح، وإذا خبثت صارت الى الفساد والإفساد. والقرآن خير الشهود في هذا المجال إذ يقول: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً »(الاعراف/58)

فالإنسان بسلوكه وعمله وتصرّفاته، انعكاس وتجسيد لضميره ونفسه وما يحمل فيهما من نوايا، كما يقول الله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (الشمس/9-10) فعندما تكون النفس الإنسانية مزكّاة، فانّ جلّ حياة الإنسان سوف ينقضي في التزكية والخير والإصلاح. أما عندما تكون فاسدة ملوّثة مدنّسة، فانّ حديث الإصلاح في الحياة سوف لا يتغلغل فيها، ولا ينفعها شيئاً.

النفس منطلق الإصلاح

إنّ بداية الإصلاح في المجتمع الإنساني تبدأ من حيث مركز القرار، وهو النفس، التي لابد أن يكون صاحبها متصلاً بها لكي يكون الإصلاح؛ فإذا ما صلحت نوايا الناس ونفوسهم ظهرت بوادر الإصلاح. ولذلك كان التركيز القرآني على هذه النقطة أكثر من التركيز على أنواع الإصلاح الأخرى التي تتفرّع من مركز قرار الإصلاح في ذات الإنسان وضميره، كالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الإصلاح التربوي. ذلك لأن الحديث القرآني عن تلك الأنواع من الإصلاح لم يكن بمستوى الحديث عن إصلاح النفس الإنسانية، وتزكيتها، وتنمية مواهب الخير وبواعث الصلاح فيها.

ترى ما الذي يريده الإنسان؛ الدنيا أم الآخرة، وما هو هدفه، وإلى أين تسير به إرادته التي هي حالة نفسية كما هو معلوم؟

هذه التساؤلات وغيرها يعكس القرآن الكريم الجواب عليها في شتى الصور، كقوله تعالى: «فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة/200-201).

مشكلة الحضارة

والحضارة الجالهية الراهنة القائمة على أساس الفساد والإفساد الفكري والثقافي، لـم تنتبه الى هذه الحالة، أو ربّما تجاهلتها؛ أي كون النفس الإنسانية هي مركز القرار في حياة الإنسان، ولذلك راحت هذه الحضارة تتخبّط خبط عشواء؛ فتارة تعلّل المشكلة بالاقتصاد، وعلى ضوء ذلك مضت تبحث وتجرّب الأفكار والآراء التي وضعتها من أجل الإصلاح الاقتصادي، فاعتبرت الاقتصاد إله الأرض وعلّلت كل المشاكل، وأنواع القلق الفكري والثقافي والتربوي والسياسي الذي يسود الحياة الإنسانية بالاقتصاد وبنيته الهزيلة.

هذا من حيث الاقتصاد، وهناك من ينظر الى المشكلة (مشلكة الإصلاح)، ويرى علاجها بالاباحية، والتحلّل الجنسي، كما يرى ذلك (فرويد) الذي كان يعتقد أن عقدة الجنس مصدر كلّ فساد في الأرض، لذلك نهض يدعو الى سيادة الإباحية، والحياة البهيميّة بين الناس، حتّى يصلوا الى حدّ الاشباع الجنسي الذي يكمن فيه حسب زعمه صلاح الإنسانية والحضارة.

وهناك فريق آخر راح يعزو مشكلة الإصلاح الى الاقتصاد أيضاً، ولكن على خلاف الرؤية الماركسية، وهو ما يطلقون عليه اسم (اقتصاد السوق)؛ أي فتح الأبواب والمجالات الاقتصادية بشكل حرّ، ونتائج هذه النظرية وآثارها السلبية المدمّرة هي المعاناة التي تعيشها الكثير من الشعوب.

وعلى هذا؛ فانّ سرّ فشل الحضارة الجاهلية المعاصرة بأنواعها في عمليه الإصلاح هو جهلها وعدم معرفتها بمنطلق الإصلاح، ومركز القرار في حياة الإنسان، وهذا ما جعلها تتخبّط في مسيرها، فتتّجه مرة ذات اليمين، وأخرى ذات الشمال، وفي كل يوم نراها في مسار ينتهي بها الى الفشل، وخيبة الأمل.

وبناء على ذلك فانّ سفينة البشرية لا يمكن لها أن ترسو على شاطئ النجاة وساحل الخير إلاّ عندما تبحث عن مشكلتها في النفس الإنسانية، التي هي مركز حياة الإنسان؛ فإن صلحت صلح ما سواها، وإن فسدت فسد ما سواها.

والقرآن الكريم يحدّثنا عن هذه النقطة الأساسية والمهمّة قائلاً: «تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (القصص/83) فـإذا ما صلحت الإرادة الإنساينـة، وأضحت طيبة زاكية طاهـرة، فانّ الله تبـارك اسمـه سوف يجعل مصـير البشرية ينتهي إلى العاقبة الطيبة في الآخرة.

المادّة ليست سبباً للاصلاح

وقـد سبق الحديث قبل هذه الآية عن قارون وملكه العظيـم الذي جـاء وصفه فـي قولـه تعالــى: «وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَـآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُـوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ» (القصص/76)؛ أي إن ما كان يمتلكه قارون لم يكن يستطيع أن يحمل مفاتحه سوى مجموعة من البشر الأقوياء، فهل إن ما كان يمتلكه قارون من خزائن تمخض عن الصلاح له ولمجتمعه؟ كلا بالطبع؛ فالغنا المادي، والثروة الطائلة، والقوة الاقتصادية البعيدة عن التزكية... كل ذلك لم ينفع قارون في إصلاح نفسه، وإصلاح مجتمعه، فهو لم يكن بثرواته وكنوزه يطلب رضوان وثواب ربه تعالى، ولم يكن يريد بها وجهه الكريم، ولذلك أصبحت هذه الثروات والخزائن مصدر علوّ، وفساد في الأرض.

واليوم نحن ننظر الى المجتمعات المتقدمة التي تعتبر رائدة التطوّر الحضاري المعاصر كالمجتمع الأميريكي، فهل سينفعهم ما بلغوه من تقدّم اقتصادي بعيد عن إطار الدين والأخلاق في إصلاحهم، ويحدّ من الفساد الاجتماعي والأخلاقي الذي يعيشونه اليوم، وهل سيكون في مصلحتهم ومصلحة البشرية؟؟

الجواب بالنفي طبعاً؛ فعندما تفسد النية فان مسار الإنسان سينتهي الى الدمار والخراب، ذلك لأن مثل النية كمثل سكة حديد تنتهي الى واد عميق؛ فالذي يسير على هذه السكة لابد أن يكون مصيره السقوط والهلاك. وهكذا الحال بالنسبة الى الحضارة الجاهلية المعاصرة فانّ مثلها كمثل سيّارة يقودهان رجل ثمل، فهل من الممكن أن نأمن سلامتها والركوب فيها؟

فعندما تكون البداية بداية صلاح وخير، وعندما يكون الأصل والنبع صافيين، فانّ كل الفروع المنطلقة من هذا الأصل النقي ستكون هي الأخرى صافية، نقية كصفاء ونقاء الأصل.

العصبية ليست من الدين

إنّ على الحركات الإسلامية أن تنتبه الى هذه الحقيقة القرآنية، وهي التركيز على نفس الإنسان ونيّته؛ فعندما نجمع حولنا الجماعات فعلينا أن ننظر تحت أي شعار، وباسم أي شيء نجمعها؛ هل باسم العصبية والقومية والاقليمية والطائفية، أم باسم الدين والعقيدة؟

إن العصبية ليست من الدين في شيء؛ بل إن الدين ينبذها، ويدعو الى تجنّبها بكل أشكالها، وهؤلاء المتعصّبون يخدمون في الظاهر الدين، لكنهم في الواقع إنما يخدمون عصبيّاتهم. وللأسف فانّ العصبيات هي التي تحرّك بعضنا، لا روح خدمة الهدف المشترك. ومن أجل القضاء على هذه الظاهرة السلبية، يجب أن نعتمد في أعمالنا النوايا الخالصة لله عز وجل؛ علماً إن هذا هو أول شعار حمله الإمام الحسين عليه السلام في رحلته الجهادية الى كربلاء، عندما هتف هتافه الخالد في ضمير التأريخ قائلاً: "إني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي".

فلقد كشف عليه السلام منذ البدء عن نيته، وهدفه من الخروج ضدّ يزيد، إذ كان خروجه هذا لطلب الإصلاح، لا للحكم والسلطة..

وتأسيساً على ما سبق، فانّ النية ينبغي أن تكون خالصة، والهدف مقدّساً، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".([38])

من هنا؛ يجدر بالمؤمنين أن يزكّوا أنفسهم، ويخلصوا نيّاتهم، ويجعلوا أهدافهم من وراء العمل الرسالي نزيهة يبتغون بها وجه الله سبحانه، لا من أجل منصب يبتغونه في المستقبل، أو زعامة يحلمون بالوصول إليها، ولا من أجل عزة طائفتهم أو جماعتهم أو حزبهم.. فمثل هذه العصبيات وغيرها لا تنفع يوم القيامة، بل إنّها تعود بالضرر على الإنسان، وتدنّس صفحة أعماله.

فلتكن نوايانا خالصة لوجه الله، وإلاّ فسوف لا تقبل منّا أعمالنا مهما كثرت، ومهما اجتهدنا فيها؛ وقد قال لقمان الحكيم: "وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير".([39])

تزكية النفس طريقك الى الجنة

من الصفات الخلقيّة ما هو أصل تتفرّع منه الصفات الأخرى، ومنها ما هو فرع يتبع الأصل، والفروع تختلف أيضاً في درجاتها، وسواء سعى الإنسان من أجل تزكية نفسه وإصلاحها بالنسبة الى الصفات الرئيسية أم الثانوية فان سعيه هذا مبارك من قبل الله سبحانه وتعالى الذي سوف يجزيه الجزاء الأوفى.

الإنسان العاقل يبحث عن الجذور

ومع ذلك فانّ الإنسان اللبيب هو الذي يبحث عن جذور الفساد في نفسه، ويسعى من أجل اقتلاعها لكي لا ينبت ولا ينمو هذا الفساد في نفسه مرّة أخرى.

أما أولئك الذين يهتمّون بقطع واستئصال الفروع فحسب، فانّ الذي يخشى عليهم أن تنمو في أنفسهم الصفات السلبيّة، ثم يأتيهم الموت في لحظة من اللحظات السيئة في حياتهم؛ أي أنّهم من الممكن أن يتوفّاهم الموت وهم على تلك الصفات، فيحتاجون بذلك إلى عملية تطهير عنيفة في القبر، أو في عالم البرزخ، أو في يوم القيامة، أو في نار جهنّم لكي تقتلع جذور الفساد من نفوسهم، ويتطهّروا، ثم يدخلوا الجنة طيّبين مبرّئين من الذنوب.

لا يدخل الجنة حسود!!

أما من كان يحمل في ذاته الحسد ولو بمقدار حبّة خردل فانّه لا يمكن أن يدخل الجنّة إلاّ إذا استطاع أن يقتلع جذور هذه الصفة الرذيلة من نفسه في الدنيا، فانّ ظل هذا الحسدُ عالقاً في نفسه فانّ سكرات الموت سوف تشتدّ عليه حتى يتم تطهيره من هذه الخصلة السلبية، وإلاّ فانّ عذاب البرزخ سيكون في انتظاره وسيستمر ّ هذا العذاب خلال هذه المرحلة كما يقول الله تعالى: «وَمِن وَرَآئِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (المؤمنون/100). وقد يكون هذا اليوم قريباً، وربما يكون بعيداً يستغرق الملايين من السنين الى قيام الساعة التي لا يجليها لوقتها إلاّ الله سبحانه وتعالى.

فان لم يتمّ تطهير الإنسان في القبر فانّ هول المطّلع كفيل بتطهيره في يوم كان مقداره خمسين الف سنة مما نعدّ، وقد صرّحت بعض الروايات أنّ بعض المسلمين يدخلون جهنّم ويمكثون فيها الالاف المؤلّفة من الأعوام حتّى تتزكّى أنفسهم ليدخلوا بعد ذلك الجنّة!!

ضرورة التطهّر قبل التعرّض للعذاب

لقد أضحى من الأفضل للإنسان أن يجتهد ويبذل كل ما بوسعه من أجل اقتلاع الصفات الرذيلة من نفسه في الدنيا قبل أن يتعرّض للعذاب الأليم، والشقاء المقيم الذي لا يمكن تصوّره وتحمّله، والقصد من هذا العذاب تزكية النفس، وتطهيرها بشكل كامل، فالله تبارك وتعالى خلق نفوسنا طاهرة ولا يرتضي لها إلاّ أن تعود طاهرة مرة أخرى بعد أن لوّثها الإنسان ودنّسها بأفكاره وأعماله الخاطئة.

كلّ إنسان بحاجة الى التزكية

إن ضعفنا واستسلامنا للأهواء يجعلان أنفسنا مليئة بالصفات السيئة، ومن يدّعي أنّه زكي نقي طاهر من هذه الصفات فانّه إما أن يكون إنساناً عظيماً جدّاً إذا صدق في ادّعائه هذا، وإمّا أن يكون الشيطان قد خدعه. فالإنسان ليس من حقّه أن يدعي نـزاهة نفسه، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يزكّي من يشاء، والمطلوب منه أن يبادر إلى العمل الجاد من أجل تزكية نفسه.

وقد حدّثنا الله تبارك وتعالى عن ضرورة أن يزكّي الإنسان نفسه، وينمّي صفة التقوى فيها من أجل التخلّص والنجاة من أهوال يوم القيامة، فيقول عز من قائل: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَاهُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (الحج/1-2).

أهوال يوم القيامة

والملاحظ في القرآن الكريم أنّه عندما يحدّثنا عن خلق السماوات والأرض فانّه لا يهوّل الأمر، ولكنّه عندما يتحدّث عن زلزلة الساعة فانّه يصفها بأنّها شيء عظيم. وفي الحقيقة فان أشدّ ما يكون التعلّق العاطفي هو ذلك الذي يكون بين الأمّ وطفلها الرضيع الذي تحتضنه، وتنشغل بارضاعه، ومع ذلك فانّ هول الساعة يجعل هذه الأم تذهل؛ أي تغيب من الناحية الذهنية عن أمر طفلها الحبيب إليها، فلا تستطيع أن تفكّر فيه، أو أن تفعل له شيئاً.

إنّ أولئك الذين يصبّون اهتمامهم على الدنيا، تراهم في ذلك اليوم سكارى ولكن لا بسبب الخمر، وإنّما لأن شدّة الزلزال في يوم القيامة تبلغ حدّاً يجعلهم لا يستطيعون الاستفادة من أفكارهم، فهم يشتركون مع السكارى في فقدان القدرة على التفكير.

الإنسان هو الذي يلوّث نفسه

ومع أنّ هذا اليوم ينتظرنا شئنا أم أبينا - وأنّنا لابدّ أن ندعى إليه ونستجيب لـه قهراً، فإنّنا نملأ نفوسنا بالصفات السلبية، ورغم أن الله تعالى قد خلقنا طاهرين منها إلاّ أننا نحن الذين اكتسبنا هذه الصفات من دون أي مبرّر سوى خداع الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء.

على أنّ الإنسان لا يكتفي بهذا الحد من تلويث نفسه، بل هو يعمد الى الجدل لتبرير سلوكياته وأفكاره كما يقول ربنا تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ» (الحج/3) وفي الحقيقة فانّ مشكلة الإنسان الرئيسية هي الجدل الذي يشكّل حاجباً بين الإنسان وبين رؤية الحقيقة كما هي حتّى يفاجأ بالعذاب وهو يعيش في الخيال والأوهام بعيدة عن الواقع.

الكبر نتاج الجدال

ومن الصفات التي تتفرّع من صفة الجدال، الكبر التي هي صفة ملازمة للإنسان منذ كان روحاً في عالم الأرواح. فعندما خلق الله تعالى البشر أرواحاً في عالم الأشباح، كانت هذه الأرواح منطوية على الكبر، وكان أصحابها يتصوّرون أنهم آلهة أو أنصاف آلهة. فصحيح إنّ الله عز وجل قد خلق روح الإنسان خلقاً قويماً وسويّاً، وصحيح أنّ هذه الروح ذات قدرة هائلة، ولكنّ قدرتها هذه لا يمكن أن تقاس بقدرة ربّها وخالقها، ولذلك أنزل الله جل وعلا هذه الأرواح الى عالم الطبيعة الدنيويّة لكي ينتزع منها حالة الكبر. وإذا ما استطاع الإنسان أن ينتزع هذه الحالة من ذاته، فانّه سيدخل الجنة بعد الموت فوراً، وإلاّ تعرّض لعمليات التطهير السابقة الذكر.

الصلاة وسيلة انتـزاع الكبر

وفي الحقيقة فانّ الصلاة بما فيها من ركوع وسجود وتسبيح لله وحمده وتكبيره، إنّما هي وسيلة لانتـزاع صفة الكبر من نفس الانسان. فهو عندما يخرّ ساجداً فانّه يضع جبهته التي هي أكرم أعضاء جسمه على الأرض، وهذا هو أقصى تعبير عن التواضع والتذلّل بين يدي الجبّار. ولكنّ هذا العمل من الممكن أن يفقد محتواه إذا كان فكر الإنسان الساجد منصرفاً الى الأمور الدنيويّة، والعلاقات الشخصية. فالسجود وغيره من الأعمال التعبديّة لا يمكن أن ينتج أثره في علاج رذيلة الكبر إلاّ إذا اقترن بالتوجه القلبيّ الى معناه ومحتواه.

الطغيان إفراز التكبّر

والإنسان لا يمكن أن يحرز هذا التوجّه القلبي المطلوب إلاّ إذا أشعر نفسه بالحاجة المطلقة إلى الله تبارك وتعالى، ولم يسمح لنفسه أن تخدعه بالاستغناء الكاذب كما يقول ربنا سبحانه: «كَلآَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَءَاهُ اسْتَغْنَى» (العلق/6-7) فهو عندما يرى نفسه قد وصلت إلى مستـوى الاستغناء المزعوم، فانّه يعمد الى الطغيان، وهذه هي طبيعـة الإنسان، فبمجرّد الخداع الذاتي يتكبّر هذا الإنسان.

والتكبّر والطغيان هذان يحصلان بمجرّد أن يتكبّر الإنسان على الآخـرين، بـل حتّـى عندما يستعلي على الحيوانات، وعلى النباتـات والجمادات، فهو في هذه الحالة إنما يتسعلي على الله جلّت قدرته. فأنت عندما تضرب على سبيل المثال في حالة التكبّر والأنانية طفلاً، فانّك في الواقع تتحدّى سلطان الله. فمن أنت لكي تتكبّر، وكيف تقول (أنا) تكبّراً واستعلاءً؟

التكبّر يحبط أعمال الإنسان

ولقد جاء عن دور التكبّر في إحباط أعمال الإنسان حديث شريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: "لن يدخل الجنّة عبدٌ في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر".([40]) فلابد لنا من إخراج حتى هذا المقدار الضئيل من أنفسنا. صحيح أنّ هذا العمل صعب جدّاً، ولكن علينا أن نبذل كل ما بوسعنا، ولنحاول أن نقتل (الأنا) في أنفسنا، هذه الأنا التي تمثّل أساس التكبّر الباطل. ولكي نضمن النجاح في هذا العمل العسير، علينا أن نستعين بالله جل وعلا ضدّ هذه الأنانية الذاتية التي يقول عنها القرآن الكريم: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9) فان استطعنا أن نخرج هذه الأنانية من أنفسنا، فانّنا حينئذ سنكون بمثابة من امتلك الدنيا برمّتها.

إنّ شعور الإنسان بعظمة الله سبحانه وتعالى كلّما ازداد وتكرّس في نفسه، فانّه سيشعر بصغره وحقارته، وبالتالي يزداد تواضعه وخشوعه الى حد بحيث لا تبقى في نفسه ولو ذرّة واحدة من الكبر، فتتطهّر نفسه من هذه الرذيلة تماماً.

النفس البشرية نار تحت الرماد

وهناك خصوصيّة في النفس البشرية يجدر بنا الانتباه إليها لخطورتها، ألا وهي إنّ هذه النفس تشبه الى حدّ كبير الثعبان الذي يستغـرق في السبـات بسبب ظـروف معيّنـة حتى يبـدو وكـأنه ميّت، ولكـنّ هذه الظروف عندما تتغيّر يستيقظ ليبتلع ما حوله، ويكون بالغ الخطـورة والشراسة. فعلينا -إذن- أن ننتبه إلى أنفسنا، وإذا وجد الواحد منّا نفسه في حالة معيّنة تتميّز بالهدوء والسكون، ولا تتفجّر فيها عوامل الشر، والصفات الرذيلة الكامنة، فعليه أن لا يأمن جانبها، أو يطمئن إلى زوال الخطر.. فبمجرد أن تتوافر ظروف وأحداث معيّنة ستثور سلبيات النفس كالحسد، والكبر، والأنانية.. فانّ هذه النفس سوف تستيقظ لتتمرّد على صاحبها الذي لم يستعدّ الاستعداد اللازم لمواجهتها، فتبتلعه كما يبتلع الثعبان الشرس ضحيته.

فالنفس البشريّة تشكّل خطراً عظيماً كامناً قابلاً للتفجّر في أي وقت، وإحداث الدمار الرهيب في وجود الإنسان، ووضع مصيره ومستقبله على كفّ عفريت!!

كيف نواجه أنفسنا؟

والسؤال المطروح هنا هو: ماذا ينبغي على الإنسان أن يفعله، وما هو السلوك الذي يجب أن يتحلّى به لكي يحيط نفسه بدرع واقٍ من هجوم نفسه ذاتها على حين غفلة منه، ويكون على الدوام في حالة استعداد كافٍ لمواجهة الخطر الذاتي الكامن في نفسه؟

بإمكاننا هنا أن نذكر ثلاثة أساليب تقي الإنسان من شرور نفسه، وتضمن له الاستقامة في الحياة دون التعرّض الى خطر الانزلاقات التي تهوي به في مهاوي سوء العاقبة، وهي:

1- الدعاء؛ وفي هذا المجال يقول الله تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِـرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّـمَ دَاخِرِينَ» (غافر/60) فالدعاء يشعر الإنسان بحالة الذل والصغار أمام الله سبحانه وتعالى. وهذا الدعاء عادة ما يكون صعباً على الإنسان عندما يكون في حالة الرخاء، حيث يشعر بالحاجة الى شيء، لأنّ نفسه في هذه الحال تكون أكثر ميلاً إلى الاستكبار والطغيان والغرور، حتّى في حالة تعاملها مع الرب الخالق الرزاق.

ومع ذلك؛ فانّ رحمة الله عز وجل التي وسعت كلّ شيء اقتضت أن يسلّط على عباده بعض الشدائد والصعوبات، ويقدّر عليهم رزقه في بعض الأحيان، لكي يشعروا بالعجز والحاجة، ومن ثم تتوجّه نفوسهم الى الله القوي الغني عن طريق الدعاء الذي هو جوهر التوسّل والتضرّع الى الخالق العظيم الذي له ملك السماوات والأرض وهو على كلّ شيء قدير.


/ 8