<a name=aaa27> </a> العفو؛ آثاره، وحاجتنا إليه - أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أخلاق عنوان الإیمان و منطلق التقدم - نسخه متنی

السید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



من جانب آخر؛ فان الاندفاع نحو المظاهر قد يؤدي الى ما هو أسوأ من ذلك؛ الأمر الذي قد يتسبب في اختلاط المقاييس لدى البشر. فقد كان الدافع الأساس وراء انتخاب الشعب الامريكي لكل من "جون كندي" و"بيل كلنتون" كرئيسين للولايات المتحدة هو وسامتهما، بينما انتخب "رونالد ريغان" في مطلع الثمانينات لكونه ممثلاً سينمائياً. وليست هناك علاقة منطقية بين الوسامة والشهرة السينمائية من جهة، وإدارة سياسة بلد بحجم وموقع الولايات المتحدة في العالم من جهة ثانية. وما يثير الاستغراب هو ثقة هذا العدد الهائل من البشر برجل - لكونه وسيماً أو أنيقاً- سيمتلك أخطر قرار على الصعيد الدولي، وهو قرار إطلاق الصواريخ النووية!!

وهكذا أصبحت البشرية أُلعوبة بيد هذه المؤسسة الدعائية أو تلك القناة التلفزيونية.. مما فسح المجال لأعدائنا كي يتحكموا بعقولنا ويقرروا لنا أسلوب حياتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

إذن؛ فماذا نفعل حيال هذا الواقع ؟ وكيف نهتدي الى الحق وسط هذا العدد الهائل من سُبل الضلال؟

إجابة على ذلك نقول: علينا ان نزيّن رؤوسنا بتاج الحكمة، لأنه السلاح الأجدر في مواجهة الفتنة والتضليل، وأن نحتذي حذو لقمان عليه السلام الذي لم يكن يمتلك ذلك المظهر الأخّاذ أو الشكل المتميز، بل يؤكد التاريخ على أن مظهره كان كأبسط ما يمكن أن يكون عليه مظهر أي إنسان عادي، إلاّ أن حكمته في الحياة كانت الميزة التي أعطته تلك المكانة العظيمة، بحيث كرر الله ذكره في القرآن الكريم، فقال تعالى عنه: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ».

ويوضح القرآن الكريم شكل هذه الحكمة فيقـول في سورة الزمــر: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» فقد تميز هؤلاء الذين سمّاهم الله بالـ "عباد" عن سائر البشر بعقولهم النيرة التي باركها الله وأضاف عليها نور الوحي، فتمتعوا بالنورين معاً؛ نور الوحي ونور العقل. وكانوا للبشرية النموذج الأمثل والأرقى على الاطلاق، لكونهم لا يسمحوا لشاردة أو واردة من الكلام أو الفعل أن تمر دون أن يخضعوها للتمحيص والتجزئة والتحليل، فيأخذوا ما هو حق منها ويجتنبوا الباطل. وهو النموذج الذي يجدر بنا أن نتبعه ونقلد خطواته. فلا نسمح للكلام المسموم الذي يلقيه البعض كالحلوى من على المنابر أومنصات الخطابة أن يترك أثره على عقولنا، بل بالعكس نجعل من عقولنا مختبراً لكل ما يفد إلينا؛ فنفرز ما يوافق ديننا وشرائعنا ومنهجنا الفكري ونضرب بالباقي عرض الحائط، وأن نتعامل مع ما نسمعه من الحديث كما يتعامل الطير مع طعامه فيلتقط الجيد من الحبّ ويترك الردئ.

ولقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الانحرافات الفكريـة التي تخلقهـا الافتـراءات عليه، قائـلاً: "قد كثرت عليَّ الكذابـة وستكثر فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي فما وافق كتاب الله وسنّتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به".([59]) وبذلك يفضح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الحفنة من أشباه الرجال الذين يتقولون ويفترون عليه لطمس الحقائق وتزوير الوقائع، وذلك لضرب الدين والقضاء على المبادئ. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك لنا مرجعية أساسية نتردد عليها لتقييم كل ما يوفد إلينا، إذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتي. وقد أكد الأئمة الأطهار عليهم السلام على هذا المبدأ في أكثر من حديث. وقد قال المسيح عليه السلام: "كونوا نقّاد الكلام"([60])؛ أي تعاملوا مع الكلام كما يتعامل الصرّاف مع النقود، فيميز المزيف من الأصلي منها؛ إلاّ أن خسارة الإنسان ستكون أبهض ثمناً إن خدعه الكلام المزيف.

إذن؛ فالحكمة في التعامل مع الكلام هو أن تكون ناقداً للكلام. أما فيما يرتبط بباقي الأمور، فقد أكد أئمتنا عليهم السلام على أن الحكمة من التعامل معها هي النظر الى عواقبها، لأن من الطبيعي أن لا يسلك الانسان طريقاً لمجرد أن ظاهره أنيق أو لكثرة الأنوار المضاءة على جانبيه؛ بل القاعدة أن يعرف الانسان مؤدى أي طريق قبل أن يسلكه، لأن البداية لا تعبر دائماً عن النهاية. ولهذا نصحنا رسول الله صلى الله عليه وآله بضرورة التدبير في الحياة بقوله: " التقدير نصف المعيشة".([61])

والكثير منا يفعل عكس ذلك تماماً، وخصوصاً في المجال الاقتصادي والتجاري؛ فالبعض عندما يخطط لمشروع ما لا يضع أي اعتبار لتقلبات المستقبل. وهذا ما حدث بالفعل لأحد الأشخاص مؤخراً، فقد بدأ منذ سنوات ببناء بيت واسع وكبير له، وحرص أن يستخدم لتشييده أجود أنواع المواد اللازمة للبناء، بل وأفرط في ذلك بحيث أخذ يبتاع بعض هذه المواد من بلدان بعيدة وبأسعار باهضة، وما أن فرغ من بنائه حتى جاء ملك الموت وأسكنه داره الأبدية، ففارق الحياة دون أن تطأ أقدامه هذا البيت الجديد.

وقد يفتقر البعض منا الى الحكمة على صعيد التجارة، فنجده يرصد كل أمواله لمشروع واحد دون أن يفكر بخطورة عمله هذا. وما أكثر من خسر جميع أمواله في لحظة واحدة لهذا السبب.

والنظر إلى عواقب الأمور أيضاً تشمل علاقة بعضنا ببعض؛ فالعاقل هو من لا يبلغ بصداقته الى حد الافراط، أو بعدائه إلى حد التفريط؛ بل يترك خطاً للرجعة بين هذا وذاك، حيث ينصحنا الأئمة الأطهار عليهم السلام أن نصادق بالهون أي بالهدوء والرصانة وليس بالاندفاع والعجلة، وذلك هو نموذج العلاقة الاجتماعية الحكيمة. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: "احبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما". ([62])

ومن الحكم الأساسية التي بيّنها القرآن الكريم عندما يأتي على ذكر لقمان الحكيم، هي حكمة الشكر، فيقول تعالـى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ».

فالانسان ينظر الى الحياة بعينين: إحداهما إيجابية والأخرى سلبية، ومع اختلاف البشر تتفاوت نظرتهم الى الحياة. ومثال الكأس الممتلئ حتى النصف أبسط دليل على هذا الاختلاف، فالبعض يرى نصفه الممتلئ والآخر يرى نصفه الفارغ، لكن الحقيقة هي أن أكثر الناس يرون الجانب السلبي من كل شيء، وهذا ما نكد عليهم حياتهم. فهم ينظرون الى المستقبل بعين الخوف والريبة، وهو ما جعلهم يلهثون وراء الدنيا لجمع ما أمكنهم جمعه منها. لكن آمالهم تبقى معلقة ما بين السماء والأرض، لأنهم غفلوا عن قول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "ابن ندم؛ إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فان أيسر ما فيها يكفيك، وان كنت إنما تريد ما لا يكفيـك فان كل ما فيها لا يكفيـك".([63]) فالطغيـان والجشع لا يبقيـان أثــراً للعقل والحكمة، لهذا يجب أن نعجب لحال ذلك الأحمـق الذي دفعـه طغيانه الى بناء صرح من طين ليطّلع منه الى إله موسى، ولحال أولئك الذين أرادوا أن يتحدوا السماء بصاروخ أسموه " تشالنجر" والذي يعني ( التحدي) فما أن انطلق من قاعدته حتى عاد إليها حطاماً.

فمثل هؤلاء البشر منعهم حرصهم وجشعهم من التمتع بما منّه الله عليهم من النعم، لهذا فهم يتذمرون من أبسط النواقص، على الرغم من كل النعم التي يعيشون في بحبوحتها ولا يحمدون الله عليها.

وقـد روي عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام، أنه قـال: "لا والله ما أراد الله من الناس إلاّ خصلتين؛ أن يقروا له بالنعم فيزيدهم، وبالذنوب فيغفرها لهم". ([64])

إذن؛ فروح الحكمة هي شكر الله على النعم، والمزيد من الشكر يعرّف الانسان بربه أكثر فأكثر. فهو الذي خلق الانسان من نطفة، وهو الذي رعاه وشايعه حتى بني عوده واكتمل فرعه، وهو الذي حمله من ظلمة الى ظلمة ومن طور الى آخر حتى تمت الولادة بسلام، وخرج من بطن أمه وهو في أحسن تقويم. ولم تتوقف حينها الرعاية الالهية، بل استمرت.. حتى وقف الانسان عند لحده، وهناك قد تركه مشيّعوه من أولاده وأهله وحيداً بين التراب. فيالحسرته ومسكنته ووحدته، فمن له بعد أن تفرّق عنه الناس وابتعدوا، فيأتيه النداء المبارك يخاطبه: عبدي؛ هل تركوك وحيداً وذهبوا، وهل تفرّقوا عنك وارتحلوا؟.. لكن؛ لا تخف فأنا معك وأنا بك أرحم منهم.. إنه نداء الله تبارك وتعالى الذي لم ينس عبده للحظة في الدنيا مع كثرة الناس من حوله، فكيف به وقد صار وحيداً بعد موته. فهلا بنا أن نذكر هذا الرب العظيم ولو لبضع لحظات؟ إنه لم يطلب منا سوى شكره على تفضله إلينا ليمن علينا بعد ذلك أيضاً، ويزيدنا فضلاً وكرماً، وينوّر قلوبنا بنور حكمته ورحمته.

وفلسفة الشكر تلخّصه الآية الكريمـة «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لإِبْنِهِ وَهُـوَ يَعِظُـهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ» فتؤكد على أن من أهم صفات الانسان الشاكر، هي أن يعرف أن ما يتنعم به مصدره هو الله تعالى على الاطلاق، ويجدر به أن لا يلوّث هذا النبع الزلال بإشراك من لا يستحقه.

ويأمرنا الله أن نشكر في المرتبة الثانية أولئك الذين هم الوسيلة في وصول نعمه إلينا، وعلى رأسهم الوالدين. فقد حثنا المعصومين عليهم السلام على معاملتهم بأحسن ما يكون، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ما من رجل ينظر الى والديه نظر رحمة، إلاّ كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة. قيل: يا رسول الله؛ وإن نظر إليه في اليوم مائة مرة؟ قال: وإن نظر إليه في اليوم مائة ألف مرة.([65]) كما إن الدعاء عند قبرهما مستجاب، فيقول الله تعالى: «ووَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ».

ويأمرنا الله تعالى أن نسدي بكل هذا التقدير والاحترام لوالدينا اللذين حرصا على منحنا جسم سليم ومعافى، فكيف بمن حرص على تربية أخلاقنا وتهذيب سلوكنا وهم الرسول الأكرم والأئمة المعصومون عليهم الصلاة والسلام. فالأولى أن يكون تقديرنا وشكرنا لهم أجزل، وشكر هؤلاء يتم من خلال إحياء ذكرهم في ذكرى ميلادهم ووفاتهم وما ترتبط بهم من مناسبات.

إذن؛ فملامح الحكمة هي الشكر وتقييم الكلام والنظر الى عواقب الأمور وعدم الانخداع بالمظاهر، فمتى ما التزم الانسان بهذه الأمور تساعد على تحقيق حياة سعيدة في الدنيا والآخرة.

العفو؛ آثاره، وحاجتنا إليه

من المعلوم إنّ القرآن الكريم هو كتاب الحياة، وكلّما استطاع الإنسان أن يتقرب من هذا الكتاب علماً وعملاً، ازداد حيويّة ونشاطاً، واستطاع استيعاب المعاني الحقيقية للحياة، ذلك لأنّ الحياة على درجات؛ فهناك من الأحياء من هو ميّت، كما أنّ هناك من الأموات من هو حيّ يرزق.

إنّ الإنسان الجاهل كلّما توغّل وأمعن في جهله كلّما توغّل في الموت، وعلى سبيل المثال فانّ الإنسان الذليل كلّما كانت ذلّته أكثر شمولاً لكيانه، كلّما كان الموت هو الصبغة الطاغية عليه.

والفقر، والذلّ، والجهل، كلّ ذلك هو من علامات الموت، في حين إنّ العلم والعمل الصالح هما من علامات وآيات الحياة، والقرآن الكريم يزيدنا حياة لأنّه يزيدنا عزّاً ونشاطاً وعملاً.

العفو وصيّة القرآن الكبرى

ومن أهم الوصايا التي أوصانا بها الخالق جلّت قدرته، والتي أكّد عليها في كثير من المواضع، أنّه قد أوصانا بأن يعفو بعضنا عن البعض الآخر. فما هو العفو، وما هي الفوائد التي ترتجى من هذه الصفة، وما هي الحكمة من ورائها؟

للعفو حدود

في البدء لابدّ أن نقول إنّ العفو له حدود، فلا يجوز العفو عن الظالم إن كان هذا العفو يزيده تجبّراً على الله تعالى وظلماً للعباد. فهذا ليس من العفو في شيء، فان قال الضعيف إنّني أعفو عن القويّ، فانّ عمله هذا لا يسمّى عفواً، بل هو ذلّ وصغار وحقارة؛ بل العفو أن تصفح عمّن هو مثلك، أو دونك، ولذلك أكّدت الأحاديث على ضرورة العفو عند المقدرة. فعندما يكون الإنسان المؤمن مقتدراً، فان صفة العفو لابدّ أن تتجلّى عنده، لأنّه سيعفو عن الإنسان الذي هو دونه في حين إن يده هي العليا، وهو قادر على أن يأخذ حقّه.

فلسفة العفو

إنّ فلسفة العفو ليست دفع الإنسان الى التمادي في الجرائم، أو ترك حدود الله سبحانه وتعالى، بل إنّ فلسفته الحقيقيّة محاولة إبعاد جوّ الذنب والجريمة عن المجتمع، وبناء على ذلك فان الدين الإسلامي يتوخّى تحقيق عدّة أهداف منها: القضاء على الذاتيات والأنانيّات؛ فمن المعلوم أنّ النسبة الأكبر من الصراعات الاجتماعية منشؤها حبّ الذات، والجري وراء المصالح الذاتيّة. فتفكير كلّ إنسان في مصلحته يسبّب حالة نموّ الصراعات، في حين أنّنا بحاجة إلى تآلف القلوب وتحاببها وصفائها، وبحاجة إلى أن لا تقوم بيننا حجب الضغائن والأحقاد وسوء الظنّ لكي نستطيع أن نتعاون في سبيل تحقيق أهدافنا. فعندما تكون في قلب الإنسان المؤمن تجاه أخيه المؤمن الأحقاد والضغائن، فانّ قدرته على التآلف والتعاون ستنخفض الى الصفر. فمن طبيعة الإنسان أنّه إذا أحبّ أحداً، فانّه يحبّ أن يلتقيه، ويتحدّث إليه، ويتعاون معه. أمّا إذا كان قلبه مشحوناً بالضغينة والحقد تجاه أخيه، فانّه سوف لا يستطيع أن يتعاون معه؛ بل لا يكون بمقدوره أن يندفع في العمل. فالإنسان إنّما يعمل بنشاط عندما يكون قلبه نقيّاً، أمّا إذا كان مشغولاً بإضمار الحق للآخرين والبغضاء وخوض الصراعات الاجتماعية، فانّ هذه الحالة سوف لا تشجّعه على القيام بالمزيد من العمل.

وعلى هذا فانّ القلب المتشتّت والمشحون بالهموم المختلفة لا يمكن لصاحبه أن يركّز في تفكيره، ويخرج بنتيجة إيجابية من هذا التفكير. أما الإنسان الذي يحظى بالتشجيع على العمل الصالح من قبل الأشخاص المحيطين به فانّه سوف يجد في نفسه إندفاعاً الى القيام بالمزيد من هذا العمل. وعلى العكس من ذلك الإنسان الذي يواجه التثبيط والتهم من قبل أفراد مجتمعه والمقرّبين إليه، فانّه سوف يُشغل فكره بهذه الموقف السلبيّ تجاهه، وبالتالي فان قدرته على العمل سوف تنخفض الى حدّ كبير.

ولذلك؛ فانّ القرآن الكريم يأمرنا بالعفو، لأن الإنسان يعيش عادة حالة التوهّم بأنّه مظلوم، وأنّ الآخرين يحقدون عليه، ويهضمون حقوقه.. وهذا هو أحد الأساليب التي يستخدمها الشيطان لشلّ قدرة الإنسان على العمل، ولذلك ترى هذا الإنسان يفكّر دائماً في نفسه، ويتصوّر أنّه أكبر مما يراه الآخرون.

أمّا الإنسان المؤمن فانّه يطلب من الله تعالى دائماً أن لا يرفعه بين الناس إلاّ ويضعه عند نفسه بقدر تلك الرفعة. فهو ينظر الى نفسه بحيث يراها أقلّ من حجمها، فلا يصاب بحالة التكبّر، وقد جاء في دعاء كميل في هذا المجال: "اللهم إنّي أسألك سؤال خاضع متذلل خاشع أن تسامحني وترحمني وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً وفي جميع الأحوال متواضعاً". فالإنسان المؤمن يطلب من الله جل وعلا أن يرزقه صفة التواضع في جميع الأحوال.

ومع ذلك فانّ الغالبية العظمى من الناس يزعمون أنّهم أكبر من حجمهم، فيتوهّمون أنّ الآخرين يهضمون حقوقهم ويظلمونهم ويسلبون منهم المناصب والمراكز التي من المفروض حسب زعمهم أن يشغلوها... ومن أجل أن يعالج القرآن هذه الحالة فانّه يحثّ الإنسان على العفو عن الآخرين إن كانوا حقّاً قد ظلموه. وعندما ينمّي الإنسان هذه الخصلة في نفسه، فانّ قلبه سيبقى محافظاً على صفائه ونقائه، فلا يكون فيه حقد على الآخرين.. وبالتالي سيندفع نحو العمل، وتكون سجيّته العفو والصفح والتغاضي عمّا يرتكبه الآخرون بحقّه. وفي هذه الحالة فانّ الله جلّت قدرته سيلقي محبّته في قلوب الآخرين، فهو تعالى الذي يؤلّف بين قلوب المؤمنين، وهو الذي يجعل المحبّة بين القلوب المتنافرة.

العفو والنشاط الجسميّ

ولذلك؛ فانّ من المستحبّ في صلاة الليل أن يدعو الإنسان لأربعين مؤمناً بأسمائهم، فعندما يدعو لهم في جوف الليل حيث يشعّ قلب الإنسان إيماناً، فانّ المؤمنين بدورهم سوف يدعون له. وهكذا ستسود المحبة أفراد المجتمع، وعندما تزداد القلوب المتحابّة المتآلفة فانّها سوف تستطيع أن تصنع المعجزات. وبالإضافة الى ذلك فانّ القلب عندما يكون نقيّاً طاهراً خالصاً من الأحقاد، فانّ صاحبه سيكون في حالة راحة واطمئنان نفسيّين على الدوام. فلقد أثبت علم النفس الحديث أنّ خمسين بالمائة من حالات التعب والارهاق، إنّما هي نتيجة امتلاء القلب بالهموم والمشاغل والصفات الأخلاقية السلبيّة التي سبقت الإشارة إليها.

وهكذا؛ فانّ الإسلام إنّما يأمرنا بالعفو لأنّ الإنسان عندما يكون ديدنه العفو والصفح عن الآخرين فانّ قلبه سيكون نقيّاً مطمئناً، ولا يمكن أن يصاب بالتعب والارهاق، لأن الإرهاق يظهر نتيجة للحالات النفسيّة المتمثّلة في الحزن والغمّ لا نتيجة لعمل الجسم.

العفو موجب للعـزة

وبالإضافة إلى ذلك فانّ (العفو) يكون موجباً لعزّة الإنسان كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "عليكم بالعفو فانَّ العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّاً فتعافوا يعزّكم الله".([66]) فاذا ما عفا أحدنا عن الآخر، سيتحوّل المجتمع الى مجتمع عزيز. فعندما يعفو بعضنا عن البعض الآخر، فانّ أعمالنا سوف تسمو، وتكون أفضل، وبالإضافة إلى ذلك سيكون المجتمع مجتمعاً متماسكاً. وعلى العكس من ذلك فعندما يكون المجتمع منشقّاً على نفسه، وتسوده الصراعات الداخليّة، وتنخر في كيانه، فانّه لا يلبث أن يتحوّل الى مجتمع ذليل، لأنّ صراعاته كلّها سوف تكون متجهة الى نفسه بدلاً من أن تكون متّجهة الى العدوّ.

إنّنا إذا أردنا أن يعفو الله تعالى عنّا، فانّ علينا أن نعفوا عن إخواننا المؤمنين. فالانسان المؤمن عندما يتّخذ موقف العفو عن أخيه المؤمن، يجدر به أن يعلم بأنّ الله عز وجل أولى بالعفو منه".

وللأسف؛ فانّ هناك البعض ممّن هو غير مستعدّ مطلقاً لأن يعفو عن الآخرين، فتراه لا ينسى الأخطاء والذنوب التي ارتكبت بحقّه، فيفكّر فيها، ويعاني منها حتّى تتحوّل الى عقدة في نفسه. في حين إنّه لو فكر وتأمّل قليلاً، فانّه سرعان ما يكتشف أنّ الأذى النفسي الذي سبّبه لنفسه بسبب التفكير في تلك الأخطاء هو أكبر بكثير من الآلام النفسيّة التي يعاني منها بسبب عدم صفحه عن الآخرين، وتفكيره غير المجدي في المواقف السلبيّة التي بدرت منهم إزاءه، وبالاضافة الى ذلك؛ فانّ تغاضيه عن أخطاء الآخرين من شأنه أن يجعل قلبه نقيّاً طاهراً، ومن شأنه أيضاً أن يقلّل من مشاكله.

العفو عند القدرة

والعفو - كما أشرنا إلى ذلك ترتفع قيمته عندما يكون في موضع القدرة، وخصوصاً إذا كان هذا العفو صادراً من الحاكم والممسك بزمام أمور المجتمع؛ فهو إن أخذ الناس بالعنف والشدّة فانّهم سوف لا يحتملون ولا يطيقون شدّته، وبالتالي فانّهم سوف يثورون عليه، فلا يمكنه أن يحكمهم ويسيطر عليهم.

والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله إنّما استطاع أن يملك الجزيرة العربيّة، بل وقلوب جميع المسلمين في أنحاء الأرض بعفوه وصفحه وتسامحه. فمن المعروف أنّ قبيلة قريش شنّت حروباً عديدة ضدّه صلى الله عليه وآله، وكانت هذه الحروب حروباً شرسة وقاسية، وكانت ممارساتهم ضدّ النبي صلى الله عليه وآله قبل الهجرة ممارسات وحشيّة غير إنسانية، وقد بلغت هذه الممارسات ذروتها من القسوة والوحشيّة عندما عمدوا الى قتل عمه حمزة بطريقة وحشيّة، ولكنّه مع ذلك عفا عن قريش عندما فتح مكّة متناسياً تلك الأعمال الوحشيّة التي مارسوها معه ومع أقاربه وأصحابه قائلاً: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".([67]) في حين إنّه كان بامكانه أن ينتقم منهم، ويبيدهم عن آخرهم، ويقتلهم شرّ قتلة، ومع ذلك فقد عفا عنهم عند المقدرة.

وعلى هذا؛ إنّنا بحاجة اليوم الى مثل هذه الأخلاق الرفيعة السامية، لأنّنا نعيش ظروفاً قاسية، والحياة التي نحياها حياة صعبة، وإذا ما لم نتمتّع بصفة العفو عن بعضنا البعض، فانّ قسوة الحياة سوف تؤثّر فينا سلبيّاً، فاذا بالواحد منّا يتحوّل إلى برميل بارود بسبب المصائب والمشاكل التي يواجهها مثل هجرته من بلده، ومعاناته الغربة، والمشاكل التي يصادفها من قبل المجتمع المحيط به، وإذا ما أصبحت هذه الحالة جماعيّة فانّ خطر التمزّق والتشتّت سوف يهدّد المجتمع برمّته.

وبناءً على ذلك فانّنا اليوم أحوج ما نكون الى تربية الصفات الإيجابية في أنفسنا؛ هذه الصفات التي تقف في مقدّمتها صفة العفو، والتسامح، وكظم الغيظ.. فالعاملون في سبيل الله عز وجل بمسيس الحاجة إلى هذه الأخلاق؛ فهم يعيشون حالة الصراع مع أعدائهم، ولذلك فانّهم يحتاجون إلى أن تكون صدروهم رحبة واسعة لكي ينطلقوا في مجالات العمل الرسالي.

العفو من عزم الأمور

بالنسبة إلى بعضنا البعض، وعلى صعيد علاقاتنا الداخليّة، فقد قال ربنا سبحانه: «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ» (الشورى/43).

ولعلّ هناك تفسيرات عديدة لعبـارة: «إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ» ولكنّ التفسير الأقرب أن نقول إن هذه الأمور نحن بحاجة فيها الى عزم، فـاذا ما أراد الانسان أن يحمل حملاً ثقيـلاً فانّه يحتاج إلى إرادة وعزيمـة، وإلـى استعداد نفسيّ لكي يكون بإمكانه حمل هذا العبء.

وهكذا الحال بالنسبة إلى العفو، فانّه يعتبر من ضمن الأخلاق التي من الصعب على الإنسان أن يتحلّى بها، ويحوّلها الى ملكة وسجيّة له في نفسه؛ بل هي بحاجة إلى استعداد وتمرين وتدريب طويل، ولذلك أشار الله سبحانه وتعالى إلى أنّها من عزم الأمور؛ أي من الأمور التي لا يمكن أن تصدر من الإنسان إلاّ إذا كان ذا إراداة قويّة، وعزم لا يلين على كظم عواطفه، ومشاعر غضبه إزاء الأشخاص الذين يسيؤون إليه.

الأمل طريق الانتصـار

الانسان المؤمن متفائل دوماً حتّى وإن واجه مئات الهزائم المادّية، لأنّه مستعد دائماً لصنع النصر، ومؤمن أنّ العاقبة للمتّقين في الدنيا كما في الآخرة.

والآيات القرآنية تؤكد دائماً على حتميّة انتصار الإيمان دون أن تعيــر أيّ اهتمام لسيطرة الطغاة، وانتشار المفسدين في الأرض، حيث يقـول الله تعالـى: «وَقُلْ جَـآءَ الْحَقُّ وَزَهَـقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقـاً» (الاسراء/81).

الأمل مصنع الانتصار

إنّ هذا التأكيد يجسّد واقعيّة الإيمان عبر شحن نفس الإنسان المؤمن بالأمل الصادق، لا بالآماني الكاذبة. فالأمل المرتبط بالله سبحانه وتعالى يزكّي النفس، ويربّيها، وينمّي فيها الطاقات الخيّرة، وبالتالي فانّه يصنع الانتصار للإنسان المؤمن.

أمّا الهزيمة النفسيّة التي كثيراً ما تنجم عن الأماني التي لا تتحقّق، فهي التي تخلق الهزائم الحقيقيّة. فالنصر هو عزيمة في القلب تتجسّد في الواقع عبر الحركة، كما أنّ الهزيمة في النفس لابدّ وأن تنعكس على السلوك.

ومن هنا؛ فانّ القرآن الكريم يريد أن يصنع الانتصار للإنسان في واقعه الخارجيّ من خلال شحنه بروح النصر والأمل والتفاؤل، لأنّها العامل الأساسيّ للعطاء والاستمرار في البذل، وحينئذ فانّ الإنسان المؤمن سوف لا يستسلم للطبيعة، بل يتحدّاها ويتغلّب على صعابها؛ ولا يقف مخذولاً أمام العدو، بل يتحوّل الى جبل صامد أمامه.

الأمل مفجّر الطاقات

الإنسان يمتلك كتلة من الطاقات لا تحدّ آفاقها، ولا تحصى أبعادها. فهي تمتدّ أفقياً لتنعكس في صورة أعمال واختراعات مدهشة يشهدها العالم. فالانسان هو عالم مصغّر من الطاقات والقدرات الهائلة، ومفتاح هذه الطاقات والقدرات هو الأمل.

فالإنسان يمكنه -بفضل تلك الطاقات- أن يكون فوق المادّة والشهوات، وأقوى من الشيطان. فلا يمكن للشهوات والمادّيات أن تهزمه، بل سينتصر عليها وعلى الشيطان رغم أسلحته الخبيثة.

ولا ريب أنّ سلب الأمل من قلب الإنسان هو أقوى أسلحة الشيطان. فاليأس هو عموماً جنديّ ماكر من جنود إبليس؛ فلا حياة للإنسان اليائس، إذ لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة؛ ولأنّ الأمل هو الفاعل والمؤثّر في واقع والإنسان هو أكبر عامل في التغيير الطبيعي والحضاري، فانّ الأمل هو وقود حركة الإنسان، في حين أنّ اليأس يشلّ هذه الحركة.

الإيمان مجلبة للبركات

إنّ حركة الإنسان هي من أبرز العوامل الطبيعيّة والحضاريّة في الكون، أمّا الطبيعيّة فلأن جميع مظاهر الطبيعية وخيراتها وأحداثها رهن بارادة الإنسان المرتبطة بإرادة الله عزّ وجل. فالمؤمنون الصادقون يستجلبون بركات السماء والأرض بالدعاء، فإذا شاع التديّن والإيمان تفجّرت الخيرات والبركات، وإذا التزم الناس بالتعاليم الإلهية زالت عنهم النكبات؛ فالخلق الحسن يبعد عن الأرض الكوارث، والصدقة تدفع البلاء وهكذا الحال بالنسبة الى الدعاء.

وهكذا نجد أنّ الظواهر الطبيعيّة كالزلازل، والعواصف، والسيول مرتبطة بارادة الإنسان الذي هو محور هذه التغيّرات، وبهذا المفهوم أيضاً كان الإنسان محور التغيّرات الحضاريّة. فلو تأمّلنا في ظاهرة سيادة بعض الأمم وسقوط أخرى، لوجدنا أنّ الإنسان هو المحور والسبب؛ فعندما يعمل ويستقيم ينتصر، وعندما يتقاعس وينهزم ويغلّفه اليأس فأنّه يسقط لا محالة.

القرآن مفتاح الأمل

ويبقى القرآن هو مفتاح الأمل نفسه من خلال آياته الكريمة التي تحمل مفتاح الحياة، وتشعّ بالنور، وتبعث الأمل في القلوب.

وفي الحقيقة؛ فانّ الأمل يعدّ أمراً طبيعيّاً بالنسبة الى الإنسان المؤمن، فهو يرى أنّ السماوات والأرض مطويّة بيد الله تعالى، وقائمة بإذنه، وما من شيء إلاّ ويسبّح بحمده، ويخضع لملكوته.

وإذا ما اتّصل الإنسان المؤمن بالملكوت الأعلى، واعتصم بحبل الله، فانّه سيرى بعين البصيرة العاقبة الحسنة التي ستكون في انتظار المتّقين، وهذا هو السبب الواقعيّ للأمل.

الفصل الرابع:

من مذام الأخلاق

الغفلة؛ داء البشرية المزمن

«لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَاتٌ لِلسَّآئِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى اَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفي ضَلالٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَآ أَبَانَا مَالَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدَاً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذاً لَخَاسِرُونَ» (يوسف/7-14)

لا شك أن قارئ الآيات الكريمة يجد في ظاهرها حكماً وأمثلة وقصصاً عديدة ومتنوعة، إلاّ أن القليل ممن يتصفح القرآن الكريـم يتوغـل فـي أعماقه الغنية بالنور. وهذه القضية بحد ذاتها تجسد حكمة ونـوراً خاصـاً أشار إليها القرآن الكريم نفسه حيث يؤكد إنه «لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» (الواقعة/79) أي أن من لم يكن على طهارة شرعية لا يحق له مس حروفه وآياته، بالاضافة الى ما يمكن فهمه عبر التدبر الذي يوصلنا الى حقيقة عجز الانسان غير الطاهر القلب والسريرة عن مس معانيه الحقيقية والخفية. وبما أن ظاهر القرآن تحكمه الأناقة والروعة والجمال والجذابية الخارقة، فاننا نجد أن أكثر الناس ينبهرون به ولا يتوغلون الى أعماقه الأعظم والأروع. فالقرآن المجيد كتاب لا يتمكن كل انسان من الوصول الى حقيقته دون توفير عوامل روحية وفكرية يقف في مقدمتها تطهير القلوب من الشهوات والصحوة والتوجه المتكامل الى الله سبحانه وتعالى.

ومن هذا المنطلق أريد -في هذا المقام- أن أفتح لكم ولنفسي بعداً من أبعاد القرآن الحكيم، ومفهوماً من مفاهيمه التي تذكرنا به الآيات الكريمة المتقدمة.

فتوصيات النبي يعقوب سلام الله عليه لأبنائه بالمحافظة على ابنه الأقرب إليه -النبي يوسف عليه السلام- وتحذيره إياهم من الغفلة عن يوسف واحتمال تعرضه للأخطار، تشير هذه التوصية الى أكثر من درس قرآني توضحه لنا هذه الآيات الكريمة لنكون في حالة استنفار دائم تجاه الأخطار الشيطانية والدنيوية المحيطة بنا.

إن أول علامات الغفلة التي كان النبي يعقوب عليه السلام يحذر أولاده منها، هي الغفلة عن صيانة النفس من الحسد والبغضاء الذي من الممكن أن يحملهم على كيل الأذى لأخيهم النبي عليه السلام. وليست المكانة التي كان يحظى بها النبي يوسف عليه السلام عند أبيه نتيجة لرغبة أبوية صرفة، بل إنها كانت انعكاساً طبيعياً للمنـزلة الإلهية المباركة التي كان النبي يوسف عليه السلام يستحقها. وأبعد من ذلك إن النبي يعقوب عليه السلام كان حريصاً كل الحرص على عدم إثارة حفيظة أبنائه على أخيهم، ولا أدل على ذلك من أن النبي يعقوب عليه السلام قد أمر ولده يوسف عليه السلام بعدم قص رؤياه المباركة على إخوته.

غير أن إخوة يوسف لما ظنوا بأن أباهم يفضل يوسف عليهم أجمعوا أمرهم بعد جدل طويل على أن يضعوه في البئر. فجاؤوا أباهم قائلين: أرسل معنا يوسف الذي أصبح في مأمن من الأخطار، مؤكدين أن الفترة فترة لعب وصيد وترفيه، واصفين له روعة الجو واعتدال الطبيعة. فقال لهم أبوهم: إنه ليحزنني أن تذهبوا به، باعتباره لم يكن ليستطيع الصبر على مفارقته ساعة واحدة، مؤكداً لهم خوفه من أن يتعرض أخوهم يوسف لخطر الذئب أثناء انشغالهم بالصيد واللعب، بقوله عليه السلام: «وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ»

الغفلة داء مزمن

يهمنا ونحن نتلو الآيات القرآنية في سورة يوسف، أن نتدبر معنى الغفلة التي استخدم النبي يعقوب عليه السلام لفظتها وحذر أبناءه منها. الغفلة عن استفحال ضعفهم أمام الرضا بقضاء الله وقدره وما قسم لهم ولأخيهم من منازل، والغفلة عن الأخطار الخارجية المحيطة بأخيهم يوسف عليه السلام.

وتمثل الغفلة موضوعاً بالغ التعقيد في تكوين النفس الانسانية، بل إن من أسباب تسمية الانسان بالانسان، لأنه عرضة للنسيان الذي ينضم تحت سياق الغفلة؛ «وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَن أَذْكُرَهُ» (الكهف/63) فالذكر واليقظة لواجه النسيان والغفلة.

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى بني آدم الى هذه الدنيا التي هي دار لهو ولعب، لتتكامل حقيقة النفس البشرية. فتركيبة الدنيا تركيبة تتحدى أعظم الناس عقلاً ويقظة في استمرار يقظته. ومن المتاح لأي شخص منا أن يخوض تجربة التحدي هذه، إذ بإمكانه تدوين برنامج عمل يملأ كل لحظات يومه، ولكن نهاية النهار كفيلة بأن تذكره بما غفل عنه من بنود برنامجه الذي أعده. ويصل الأمر بالبعض منا الى أنّك تراه يبحث مهموماً عن حاجة ما لمدة مديدة، وحينما يستسلم أمام العثور عليها تراه ينتبه الى أن هذه الحاجة كانت في يده طوال مدة بحثه عنها..

إن فلسفة وجود الانسان في دار الدنيا تأتي في سياق الامتحان الإلهي للإنسان، لإثبات الحجة عليه في الفترة التي قضاها من عمره حذراً متيقظاً إزاء محاولات الشيطان الرجيم لإغفاله وإلهائه. ولو كان الله عز وجل قد خلق الانسان بهيئة متفاوته؛ هيئة تمتاز باليقظة الدائمة والحذر المستمر، لما عاد هناك من حكمة في أن يتعرض للامتحان، ولما كانت للانسان أهلية الحصول على الثواب؛ بل إن الخالق عز وجل خلق الناس خلقاً حسناً، وبيدهم هم لا غيرهم أن يحددوا واقعهم ومصيرهم.

الغفلة الاجتماعية

من المؤكد أن انعدام التخطيط وانعدام الرؤية والوعي سبب رئيسي في تراجع المجتمعات وتأخرها عن مسيرة الركب الحضاري. فالمتصدون في الساحة الاجتماعية هم المسؤولون عن وضع برنامج متكامل للوقاية من إصابة المجتمع بالغفلة.

ولقد أدّى انعدام مناهج التربية والتوجيه من قبل معظم المسؤولين في العراق مثـلاً - إلى إصابة الناس بحالة استثنائية من الغفلة قلما يمر بها شعب من الشعوب. فلقد كنا نرى المساجد مكتظة بالمصلين؛ والأضرحة المقدسة معمورة بالزائرين، وكنا نعتقد بأن كل شيءٍ يسير بصورته الطبيعية، ولكن الأوضاع انقلبت رأساً على عقب؛ وقد يرى غير الخبير وغير المتدبر لآيات القرآن الكريم أن هذا الانقلاب قد حدث فجأة، إلاّ أن العكس هو الصحيح، فالأحزاب السياسية الإلحادية التي طغت فعالياتها على الشارع العراقي لـم تأت من فراغ، والتفكك الأسري الذي حدث في العقود الأخيرة ليس وليد اللحظة الراهنة، إنما هو نتيجة غفلة اجتماعية وانعدام الشعور الاجتماعي بالمسؤولية والافتقار الى ممارسة عملية الرقابة الدينية والروحية على الحركة الاجتماعية، وهذا الواقع وضع المخلصين من القادة والمؤمنين والمجاهدين موضعاً حرجاً أدى بهم الى بذل المزيد من الدماء الغالية للحد من الانحراف السائد في الساحة.

وعوداً على بدء، أقول مؤكداً إن الروس حينما يستطيعون القضاء على قائد اسلامي محنك مثل الشهيد جوهر دوداييف في جمهورية الشيشان عبر تكنولوجيا فائقة وأسلحة متطورة فان هذا يؤكد - وبكل إلحاح - على حرمة الغفلة عن تطوير خططنا الاقتصادية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والمخابراتية. وكما يتوجب علينا عدم الغفلة عن واقعنا المعاش ومستقبلنا المنظور، فانه من الأجدر بنا أن لا نغفل عن الاستفادة والاتعاظ بتجارب التأريخ وحركته. فعلى سبيل المثال؛ قد قرأنا بما فيه الكفاية عن أسباب سقوط الدولة العثمانية التي كان في مقدمتها الغفلة القاتلة التي أصابت السلطان العثماني وحكومته عن القفزات العلمية الهائلة التي كان يحققها المعسكر الغربي والذي كان يكيل بهذه القفزات الضربة تلو الضربة لهذه الامبراطورية الخامدة بداعي الاتكال على أن الاسلام يعلو ولا يعلى عليه، حتى وصل بها الأمر أن تسيطر عليها قوة علمانية تابعة بشكل مطلق للقوى الغربية والصهيونية التي هي بالأساس قوة معادية للاسلام والمسلمين وتعمل دوماً للقضاء عليهم. بينما نجد في الضفة الأخرى اهتماماً نبوياً واضحاً بملاحقة التقدم الصناعي في زمانه، إذ قام صلى الله عليه وآله بإرسال اثنين من شباب المسلمين فور سماعه نبأ ابتكار طريقـة جديدة لصناعـة السيوف في اليـمن ليتعلما ويعودا إليه.

إن التوجيهات الشرعية ترشدنا بما فيه الكفاية الى أن تقدم الانسان والمجتمع رهين بالدرجة الاولى بما يقف عليه هذا الانسان وهذا المجمتع من يقظة وإحاطة بتطورات زمنهما، وكلما انحسرت نسبة الوعي بهذه التطورات كلما انحسرت نسبة القوة والوجود. ولقد كان حرياً بالمسلمين ولا يزال أن ينتبهوا الى أنفسهم، من أين جاؤوا وأين يقفون وبأي إتجاه يسيرون... فيجيبوا عن كل واحد من هذه الاسئلة ضمن مناهج تضمن لهم تطبيقها استمرار الوجود والقوة. فإذا استيقنوا بأنهم يعيشون في دنيا زائلة، وأنهم صنيعة الإله القادر، وأنهم لا شك ملاقو ربهم، فهم من دون أدنى ريب سينجحون في خضم الاختبار الالهي، وإلاّ فانهم سيكونون كمن «نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (الحشر/19). وقال الله تعالى: «وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً وَاحِدَةً» (النساء/102)، وكما هو معهود أن القرآن الكريم يسلك سبيلين؛ الأول ظاهري، والثاني باطني. وهنا يبدو أن ظاهر الآية يؤكد أن أعداء الله يودون لو ننسى مواقع أسلحتنا، أو ننسى حملها. أما باطن الآية فانه يعني فيما يعني - أن أعداءنا يتمنون لوغفلنا عن الواجب الملقى على عواتقنا من تطوير أسلحتنا والتفوق عليهم. فالقرآن لا يدعونا الى عدم الغفلة عن مواقع أسلحتنا فحسب، بل ويدعونا الى عدم الغفلة عن استمرار قوة أسلحتنا وفاعليتها.

أنواع الغفلة

إن هناك نوعاً من الغفلة، وهو ما نطلق عليه بالغفلة الجبرية التي يتكرس معظم نماذجها بالغفلة التي تسبق الموت، وهناك العديد من الشواهد التي تشير إلى أن موت الأبطال كان بداعي هذه الغفلة، من قبيل مالك الاشتر، الذي قال عنه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد موته: "يرحم الله مالكاً فقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله". ([68]) ولقد قضى مسموماً بجريمة دبرها له معاوية.

ولكن هناك نوعاً آخر من الغفلة أكثر ضرراً وأشد وقعاً ينشأ من تهاون المرء في عاداته وأموره؛ الضرورية وغير الضرورية، فأنت ترى العالم الكبير المعروف بالذكاء والعبقرية؛ تراه يموت موتاً فجائياً، وإذ تبحث عن السبب تجد ان أعداءه تمكنوا من التسلل إليه ليضعوا له السم في طعامه. أو أن تلك الشخصية الاسلامية العظيمة يتم اغتيالها بمطلق البساطة. وأكثر من ذلك أن حركات إسلامية ثورية انتهت بالتمام وقضي عليها بداعي التهاون والغفلة، في حين ان القرآن الكريم يحذرنا من الغفلة، ويؤكد علينا أن نواجه الأعداء حتى في حال إقامتنا للصلاة؛ وأن تكون أسلحتنا بمتناول أيدينا. فالاعداء يتمنون أن نضع أسلحتنا بعيداً ونصلي فيفاجئونا بهجوم سريع.

أعـود وأقـول: إن الحديـث حـول مسألة الغفلـة حديث متشعب الجوانب، ولكن يجدر بنا القول إن احتمال الغفلة يطرأ على الانسان كل حين، وهي الغفلـة - تحدو ببني آدم الى ارتكاب المعصية ولا يذكروا ربهم أو ينتبهوا الى مصيرهم، فهم يشاركون يومياً تقريباً في مراسم تشييع أو دفن أصدقائهم ثم يخرجون وكأن حادثاً لم يحدث. فالبعض يعتقد بأن ميته مسافر وعما قليل سيقفل راجعاً، أو أن إيمانه بقوة بدنه وصحته يعوقه عن تذكر كونه مجرد بشر وأن الموت رسالة من الله إليه ينبغي أن يقرأها بإمعان بالغ.

إن غفلة الانسان عن الموت تصل درجة من السذاجة إلى أنه يصاب بالأرق طوال الليل بمجرد انتظاره لجلسة محاكمة قد يدان فيها يوم قابل، ولكنه لا يأبه ألبتة بما جاء في القرآن الكريم وما جاء على لسان الرسول الأكرم صلى عليه وآله والائمة عليهم السلام من أن محكمة يوم القيامة محكمة لا تمييز ولا استئناف فيها، بل هي حساب بلا عمل. وهو لا يأبه أيضاً بما تمر به من حوادث مفجعة يفقد فيها أقاربه وأصدقائه.

إذن؛ فالغفلة عن رب العالمين عز وجل هي أساس كل أنواع الغفلة، وإذا ما أصيب المرء بهذا النوع من الغفلة فانه سيكون عرضة لأنواع أخـرى من النسيان والغفلة، من قبيل الغفلة عن النفس أو العرض أو المال أو الصحة.

الحسد سجن الذات

قد يظل الإنسان يعيش في سجن نفسه، وقد يوفّق الى الخروج من هذا السجن من خلال الإرادة والتخطيط والمثابرة والاستقامة؛ بل إن الإنسان إنما جيءَ به إلى هذه الحياة الدنيا من أجل أن يخرج من هذا السجن، فان خرج منه دخل الجنة، وإن بقي فيه كان مصيره النار المحيطة بالكافرين كما يقول ربنا عز وجل: «وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» (التوبة/49).

وفي هذا المجال مجال الخروج من سجن الذات - يقول الله تعالى: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9) وبعبـارة أخرى؛ فانّ الإنسان الذي يخرجه الله تعالى من زنزانة ذاته، ويحفظه من شرّ نفسه، وينقذه من ضغوط هذه النفس الأمارة بالسوء، فانّه يكون قـد تخلّص من النار، هذه النار التي نطلب من الله تبارك وتعالى أن يقينا شرهـا كـل يوم عندما نقول فـي دعائنـا: «رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَـةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَـةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة/201).

وفي الحقيقة؛ فان النار في الدنيا هي هذه النفس، والنار في الآخرة تتمثّل في تلك الدار التي لا رحمة فيها، رغم أن رحمة الله جل وعلا قد وسعت كلّ شيء، فنعوذ به تعالى من هذه الدار التي يقول عنها الإمام علي عليه السلام إنها نار سجّرها الجبّار لغضبه.

إن هناك فـي النفس البشرية صفات وجذوراً للفساد يجب اقتلاعهـــا،

وإلاّ فأنها لا تلبيث أن تتفرّع من جديد؛ ومن هذه الصفات المترسّخة في النفس صفة الحسد التي تتفرّع بدورها من جذر آخر وهو العيش في زنـزانـة النفس؛ أي أن يعيش الإنسـان لنفسه ولوحده، ولا يعتـرف بالآخرين، ولا يقرّ بالحق. ولذلك فانّ الانسان الحسود يعيش لوحده، ولا يعترف بالناس، وكأنّه يريد أن يعيش لوحده في هذه الدنيا، ويريد خيراتها لنفسه.. ولذلك فانّ هذا الانسان إذا ما رأى انساناً آخر سعيداً فانّه يحسده على سعادته هذه، ويدعو دعاءً باطلاً أن تُسْلَب منه هذه السعادة لتكون من نصيبه هو فقط، وكأن رحمة الله تعالى ضيّقة لا تسعه إلاّ هو! في حين إنّ من المفروض في الإنسان أن يدعو الخالق أن يعطيه، ويعطي الآخرين في نفس الوقت ويجزل لهم في هذا العطاء. فمجرّد أن يدعو الإنسان للآخرين فانّ هذا سيكون سبباً لأن يستجيب الله تعالى لدعائه. وفي هذا عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه قال: "من دعا لأخيه بظهر الغيب، وكّل الله به ملكاً يقول: ولك مثلاه ".([69])

الحسد يمنع دخول الجنّة

ولنعلم أنّ الإنسان الذي يحمل قلبه ولو ذرّة واحدة من الحسد لا يمكن أن يدخل الجنّة، لأن هذا الإنسان إذا حمل قلبه الحسد، فانّه سيعيش حالة الألم، ومن المعلوم أن لا مكان للألم في الجنة. فالأفضــل للحسـود - إذن - أن لا يدخـل الجنّـة ! لقولـه تعالـى: «لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ» (الاعراف/46) فأهل الجنة لا مكان للإنسان الحسود بينهم، فهم يعيشون حالة نفسيّة ملؤها السرور والحبّ والنقاء، كما يقول عزّ من قائل: «إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (الحجر/47) فنفوسهم تبلغ من الصغاء والنقاء درجة بحيث إن الواحد منهم يشعر بالهناء واللذّة والسعادة عندما يرى إخوانه يتلذّذون وينعمون بالنعم الإلهية في الجنة، لأن قلوبهم واحدة. فنسأل الله جل وعلا أن يرزقنا دخول الجنة، وأن نعيش تلك اللحظات السعيدة؛ بل ذلك الأبد المليء بالهناء، والفرح، والسعادة.

إن هذه الصفات يجب أن تتحوّل الى صفات حقيقيّة، بل يجب أن يحوّلها الإنسان الى أهداف سامية يسعى للوصول إليها عبر حياته، وأن يسارع الى إزالة الصفات السلبية، فالانسان من الممكن أن يتسطيع الآن القضاء على الحسد، ولكنّه سوف لا يستطيع ذلك إذا توانى في البدء.

وفي هذا المجال يروى عن السّيد بحر العلوم أنه خرج من منـزلـه ذات يـوم وهـو أشـدّ ما يكون فـرحاً وسـروراً، فلمّا سئل عن ذلك قــال: لأنّني استطعت اليوم أن أتغلّب على صفة الحسد في نفسي، وقد تمكّنت - والحمد لله - أن أقطع رأس الثعبان!!

صحيح إنّ الإنسان قد يكون من الصعب عليه في البداية أن يتغلّب على الحسد، ولكنّه يجب أن يسعى ويسعى حتّى يوفّق في النهاية الى اقتلاع هذه الصفة السلبيّة من نفسه، وحينئذ سيشعر بالراحة والاطمئنان، ويدرك أنّه قد أصبح من أهل الجنّة؛ لأنّه إذا رأى أخاه المؤمن وقد أنعم الله عز وجل عليه بنعمة، فانه يفرح لنـزول هذه النعمة عليه، ويحمد خالقه قائلاً: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ» (الحشر/10).

القرآن يعالج الحسد

وفي الآيات القرآنية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى صفة الحسد، وآثارها السلبيّة من خلال تذكيرنا بالمصير الذي آل إليه ابنا آدم اللذان قتل أحدهما الآخر: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاََقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي اُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِاِِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآؤُاْ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَاَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَاُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَاَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» (المائدة/27-31).

لقد كان بإمكان قابيل أن يتعايش مع أخيه، ولكنّ الحسد المستند الى أسباب تافهة هو الذي دفعه الى قتله، فراحت نفسه الأمّارة بالسوء توسوس له أنّ هابيل قد حصل على شيء أعظم منه وهو أنّ الله سبحانه وتعالى تقبّل قربانه، ولكنّه لم يتقبّل القربان الذي قدّمه هو. ويجيب هابيل على إحتجاجات أخيه بأنّ الذنب كان ذنبه هو، إذ قدّم لرب العالمين قرباناً هزيلاً، وإذ لم تكن لديه دوافع خالصة لوجه الله في تقديم هذا القربان، أمّا هابيل فقد جاء بغنم من أحسن ما تكون وضحّى بها في سبيل الله عز وجل.

وعندما ترك هابيل قابيل لشأنه ازداد الأخير حسداً، لأنّه رأى نفسه تنـزل الى الحضيض في حين أنّ قابيل قد صعد إلى مدارج الكمال، فما كان منه إلاّ أن جاء بصخرة كبيرة، وضرب بها رأسه وهو نائم بعد أن علّمه الشيطان الرجيم طريقة القتل، وحينئذ بعث الله سبحانه وتعالى غراباً ينبش في الأرض بعد أن قتل غراباً آخر، ثم دفن جثّة الغراب المقتول، وعندما رأى قابيل هذا المشهد استولى عليه الندم، وبادر الى دفن أخيه وهو يؤنّب نفسه ويقرّعها، لأنّه عجز أن يكون مثل ذلك الغراب فيواري سوأة أخيه.

وبعد تلك الآيات التي يذكر فيها الله جلّت قدرته قصّة أوّل حسد في تأريخ البشرية، يقول تعالى: «مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَآ أَحْيَـى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» (المائدة/32)

ثلاث حقائق أساسية

وهنا أريد أن أتوقف عند هذه الآية الكريمة؛ إذ المعلوم أنّ السياق له دلالة، فما هي دلالة هذا السياق، ولماذا تأتي هذه الآية بعد سرد تلك الحادثة مباشرة؟ وهنا أستنبط من هذه الآية ثلاث حقائق أساسية هي:

1- ربّما تدلّ هذه الآية خصوصاً وأنّها قد جاءت بعد الآيات السابقة على أنّ أكثر أسباب القتل شيوعاً صفة الحسد.

2- إنّ الإنسان إذا عاش للآخرين، فانّه لا يمكن أن يحسد، وفي هذه الحالة فكأنّه أحيى الناس جميعاً. أما إذا عاش لنفسه فانّه سوف يضمر الحسد فيها، وفي هذه الحالة يكون بمثابة من يقتل الناس جميعاً، لأن الانسان الذي يعيش داخل إطار ذاته، ولا يقيم للآخرين أيّ وزن، بل يعدمهم من حسابه، فانّه سيقتلهم في نفسه قبل أن يقتلهم قتلاً مادّيـاً، ولذلك يقول القرآن الكريم: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِـي الاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً». ذلك لأنّ الإنسان الذي يريد أن يزهق روح واحد من الناس فانّه لا يحترم الحياة، ويعيش في سجن نفسه.

3- إنّ القتل ليس هو القتل المباشر فحسب، فقد يكون هناك قتل غير مباشر، ولذلك جاء في الحديث الشريف عن محمد بن عبيد بن مدرك قال: دخلت مع عمّي عامر بن مدرك على أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام فسمعته يقول: "من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل وبين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله". ([70])

وعلى سبيل المثال؛ فان الفتوى التي أصدرها شريح القاضي بقتل الإمام الحسين عليه السلام أدّت الى أن يحتشد ثلاثون ألف إنسان في كربلاء، كلّهم يريدون قتل أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والسبب في ذلك الكلمة التي صدرت من شريح الذي كان مدفوعاً بالحسد. فالعلماء يبتلون عادة بهذه الصفة، فهذا الرجل لم يكن يكنّ الحبّ للإمام الحسين عليه السلام، فقد كان يعلم أنّه لو جاء الى الكوفة فانّ أوّل ما يفعله هو عزله عن منصبه.

إنّ الإنسان الذي يغشى المجالس العامّة، ويتحدّث بالسوء عن المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله تعالى، ويحاربون الطاغوت، ويبثّ الاشاعات حولهم، ويفشي أسرارهم، فانّما يساهم بعمله هذا في سفك دماء هؤلاء المجاهدين.

وفي الحقيقة فانّ المعلومات التي نجدها منشورة في الصحف الأجنبية، إنّما استقوها من مجالسنا، فهناك من يخوض في أسرار الآخرين بدون ورع، وبدون تقوى وخوف من الله تعالى، في حين إنّ من الحرام على الإنسان أن يهتك سرّ أخيه المؤمن، فإذا عمل عملاً رسالياً حسناً فلا يجوز له أن يكشف عن هذا العمل للسلطات الجائرة، وإذا عمل عملاً سيّئاً فلا يجوز له أن يشيع الفاحشة.

الحسد الشرك الأكبر

إن الحسد هو الشرك الأكبر الذي أعدّه الشيطان للإنسان، فلابدّ من أن نحذر من هذا الشرك وأن نبادر الى تقطيعه، لأن الشيطان يستدرج الإنسان فلا يعرف أنّه حسود في ذاته، فالشيطان يحاول إخفاء صفاته السيئة وتزيينها.

وعلى هذا؛ فانّ على الواحد منّا أنّ يستغفر الله كثيراً في كلّ يوم لئلاّ يأتي يوم القيامة وقد كتب على جبهته "آيس من رحمة الله".

إنّ هذه مجموعة حقائق استوحيناها من السياق القرآني الكريم، وهنا يمكننا أن نستوحي حقيقة أخرى وهي إنّ أساس تقدم مجموعة من الناس هو إزالة الحسد. فبقدر ما تكون هذه الصفة الرذيلة سائدة في أوساط مجموعة أو شعب أو أمّة ما، بقدر ما ينتشر التخلّف بينهم. فعندما يكنّ الإنسان الحسد فانّه سوف يبحث عن أُسلوب لإزالة النعمة عن صاحبها ثم أخذها والاستحواذ عليها.

عيش في إطار النفس

إنّ أفراد مثل هذا المجتمع يعيشون دائماً في إطار أنفسهم، فلا يستطيعون أن يفجّروا طاقاتهم في اتجاهات جديدة، ولا يستطيعون أن يكتشفوا أبعاداً أخرى.

إن حكمة تحريم الحسد، والتأكيد على اقتلاعه من الذات أو على الأقل عدم السماح لها بالظهور بقول أو فعل، هي أن تتفتّح أمام البشرية آفاق جديدة. وإنّنا إذا أردنا أن نتقدّم، فعلينا أن لا نبحث عمّا في أيدي الناس، ولا ننظر الى ما يمتلكونه، ويتمتّعون به؛ بل علينا أن ننظر الى الحياة الواسعة، وإلى الآفاق الجديدة الممتدّة فيها، فانّنا في هذه الحالة سوف لا نجد أيّة مقاومة تذكر، كما وسنلاقي استقبالاً واسعاً، وستطمئن وترتاح ضمائرنا، لأننا لم ندخل الصراعات، ولم نورّط أنفسنا في الاختلافات.

الحسد كفر بالنعم

فلنفتّش عن مجالات جديدة، ولنحاول أن تكون مكمّلين للآخرين، لا مرادفين لهم، ولنعلم أن الحسد هو نوع من الكفر بالنعم، وذلك من خلال بعدين:

1- إنّ الإنسان الذي يحسد الآخرين إنّما يكفر بتقدير الله تعالى في تقسيم النعم. فالخالق هو الذي يقسّم الرحمة طبقاً لحكمته، ولا حق للإنسان في أن يتدخّل فيما لا يعنيه!!

2- إنّ على الإنسان الحسود أن يعلم أنّه يتناسى ويتغافل عن ملايين النعم التي أسبغها الله جل وعلا عليه، ليفتّش عن النعم التي أسبغها على الآخرين، ويحسدهم عليها. في حين إنّ هذا الإنسان يمتلك القدرة على أنّ يتحرّك وينمو، ولكنّه يتناسى كلّ ذلك ليصبّ حسده على الآخرين. وهذا ما سيؤدّي الى أن يسلب الله تعالى منه هذه النعم ليبتليه بالنعمة التي حسد الآخرين عليها، ذلك لأنه عز وجل لا يرى أنّ من المصلحة أن يوفّر للإنسان الحسود كلّ هذه النعم.

الحسد في الأحاديث الشريفة

وفي هذا المجال ينقل لنا عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام روايات تتحدث عن الحسد وآثاره، منها تلك الرواية المرويّة عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، والتي يقول فيها: "إن الرجل ليأتي بأيّ بادرة فيكفر، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب". ([71])

فلنبادر -إذن- الى إيقاف هذه النار في نفوسنا قبل أن تأتي على البقيّــة الباقية من إيماننا، ولنحاول أن ننقذ أنفسنا من هذه الصفات السيّئة - وخصوصاً صفة الحسد - لكي يصبح إيماننا إيماناً حقيقياً.

وبالنسبة الى الحديث الذي نقلناه فهو يعني أنّ أيّ ذنب من الذنوب من الممكن أن يكفّر عنه الإنسان إلاّ لحسد، فانّه من الذنوب التي يصعب التكفير عنها. كما إنّه يعني أنّ علينا أن لا نتصوّر أن الكفر بعيد عنّا، فالانسان من الممكن أن ينـزلق في هاوية الكفر بأيّة بادرة بسيطة تصدر منه.

وهناك حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: "كاد الفقـر أن يكون كفـراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر".([72]) وهذا الحديث - بدوره له معنيان؛ الأول: إنّ الحسود يسهم في تقصير عمره، وإشقاء نفسه، والاستعجال على نفسه بالعذاب. والمعنى الثاني: إنّ الإنسان الحسود يقوم بنفس الدور من خلال الطرف الآخر، ولذلك يقول القرآن الكريم: «وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» (الفلق/5).

وهناك أحاديث أخرى حول ذمّ صفة الحسد، منها الحديث عن أبي عبد الله، عن أبيه عليهما السلام قال: "لا يؤمن رجل فيه الشحّ والحسد والجبن، ولا يكون المؤمـن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً".([73]) وأيضاً الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يطمعنّ الحسود في راحة القلب".([74]) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "دبّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ البغضاء والحسد".([75])

وما هذه الأحاديث إلاّ إخبار من قبل النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام بسبب تخلّفنا وتمزّقنا، وسيطرة الأعداء علينا. فنحن الآن نعيش أزمات سياسيّة وثقافية وحضارية متلاحقة، ولا يمكننا أن نتخلّص منها إلاّ من خلال القضاء على أسبابها، والحسد هو من ضمن هذه الأسباب.

فلنبدأ من أنفسنا وتجمّعنا وعلاقتنا مع بعضنا، ولنحوّل مسيرتنا المليئة بالتـزاحم والصراع الى مسيرة للبناء والابداع، والبحث عن آفاق جديدية للعمل، وحينئذ ستكون مسيرتنا هذه مسيرة مباركة يحددها التقدّم والأمل.

الحرص واليأس؛ دليلان على عجز الإنسان

هناك منهجان رئيسيّان لمعرفة الله تبارك وتعالى؛ الأول هو النظر في آفاق الكون، والثاني هو التوغّل في أعماق النفس. فهذا الكون الرحيب بما فيه من مجرّات ضخمة يُعادَلْ في منهجيّة معرفة الله بهذه النفس البشريّة.

والسبب في ذلك أن نفس الإنسان هي أقرب شيء إليه، وفي هذه النفس آفاق لعلّها تكون في مستوى آفاق الكون. فهذه النفس التي يزعم الإنسان أنها مخلوق بسيط تنطوي على عالم كبير ينعكس فيها كما قيل:

أتزعـم أنّك جـرم صغيــر وفيك انطوى العالم الأكبـر؟

فعلى الرغم من أن جسم الإنسان يعتبر آية من آيات الله العظمى، إلاّ أن نفسه أعظم دلالة، وأقوى شهوداً.

والملاحظ أنّ القرآن الكريم عندما يحدّثنا عن الإنسان كإنسان، أو عن طبيعتـه الإنسانيـة فإنـه يستخـدم كلمـة (الإنسـان)، وعندمـا يحدّثنـا عنـه كمجموعة فانه يستعمل كلمة (الناس). أما عندما يتحدّث عنه بصفاته الخيّرة فانّه يعمد إلى استخدام كلمة (بشر) في كثير من الأحيان.

وهكذا؛ فان مراد القرآن من توظيف كلمة (الإنسان) هو التأكيد على الطبيعة الإنسانية، وفي هذا المجال يشير ربنا سبحانه وتعالى الى طبيعتين مهمّتين في الإنسان؛ أحدهما الحرص، والثانية اليأس. ونحن لو أمعنا النظر لاكتشفنا أنّ هاتين الحالتين تقفان على طرفي نقيض في نفس الإنسان.

والمعروف في هذا المجال أن حرص الإنسان لا يمكن أن ينتهي، فان ملك الأرض تراه يفكّر كيف يمتلك السماء. فالانسان يبقى حريصاً متطلعاً الى المزيد من متاع الحياة الدنيا حتّى يدفن تحت التراب. فالتراب وحده هو الذي يقطع طموحات الإنسان في الحياة الدنيا، ويحدّ من حرصه فيها.

وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن الكريم في قوله: «لاَ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ» (فصلت/49). والمراد بالدعاء هنا هو طلب الخير، والبحث عن المزيد منه.

ومن جانب آخر؛ فانّ هذا الإنسان الذي لا تحدّ مطامحه وأطماعه، نراه عند مواجهة الشدائد والابتلاء بالمصائب سرعان ما يتحوّل الى كائن ضيّق الصدر، شديد اليأس، حتى تضيق الدنيا بما رحبت في عينيه. وقد بيّـن القرآن الكريم هذه الحقيقــة في قوله: «وَإِن مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ» (فصلت/49) أي أن هذه النفس التي كانت قبل لحظات تعيش الدنيا، نراها فجأة وقد ضاقت الدنيا بها لتعيش في سجن ضيّق.

وفي الحقيقة؛ فانّ اليأس والقنوط هما مثلان للضيق والانحسار، ودليلان على عجز الإنسان، وشدّة فاقتة. لأن الحرص يدلّ على الحاجة، وعدم الاستغناء؛ فأكبر الغنا وأعظمه هو غنا النفس، لأن الإنسان الذي يحرص في سبيل الحصول على المزيد من الدنيا يعيش الفقر الحاضر، لأن معنى الفقر هو التحسّس بالحاجة، والنفس الحريصة فقيرة لأنها تتحسّس بالحاجة، وتنتظر المزيد، والحاجة هي دليل المخلوقية، فالنفس إذن- هي مخلوق محتاج.

لماذا الحرص في نفس الإنسان؟

وهنا يتبادر الى الأذهان التساؤل التالي: لماذا جبلت النفس البشرية على الحرص من دون الكائنات الأخرى؟

للجواب على هذا السؤال نقول: إن النفس البشرية قد خلقت -منذ خلقت- لتجاور رب العزة، ولتكون جليسة لديه، وهذه النفس قد تخطئ الطريق، فنراها بدلاً من أن تتوجّه الى الله، وتمتلئ عزة وكرامة وسعادة وفلاحاً، تتّجه الى الدنيا؛ وهي كلّما اتجهت الى هذا الحطام، فانها لا تشبع مطلقاً، لأن الدنيا هي أساساً ليست مادة من شأنها أن تشبع النفس البشرية. في حين إنّ ساعة من الصلاة، والذكر، والتوجه الى الله جل وعلا، تعطي الإنسان الطمأنينة والراحة كما يقول الله تعالى: «أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد/28).

وعلى هذا الأساس؛ فان ذكر الله هو الذي يجعل القلب مطمئناً، أمّا الدنيا وما فيها فحتى لو حصل الإنسان عليها فانّه سوف لا يجد فيها الطمأنية والسكينة. ولذلك فان المؤمنين إنما بلغوا ما بلغوه من قمّة سامقة بتوجّههم إلى الله، وتعبّدهم، وتبتّلهم له. ونحن نقرأ في بعض الأدعية: "يـا جليس الذاكرين".([76]) فالذي يذكر الله سبحانه كأنما يجالسه، أفَلا يحبّ أحدنا أن يجالس ربّه، ويزوره، ويسمعه، ويتحدّث معه؟

إن الله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة في قوله: «لاَ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ» (فصلت/49) وفي هذه الآية التفاتة لطيفـة، حيث يقول ربنا عـز وجـل: «وَإِن مَسَّهُ» أي إذا لامست الإنسان شهيق الشرّ فانّه يسقط مباشرة من قمّة الحرص الى وادي اليأس والقنوط.

آيات الله في النفس

ثم يتحدث القـرآن الكريم عن آيات الخالق في الكون، وآياتــه فـي النفـس. والصفـة السابقـة هي من آيات الله في النفس؛ فالنفس البشريــة -إذن- بحاجـة إلى بارئها، والى الاعتصام بحبلـه، لا أن تـجري وراء طبيعتهـا، وتنساق في تيّار جبلتها، فتجتاحها - مثلاً- النـزعة الى الربوبية؛ أي أن تصل الى مقام الربوبية، ومن أجل إقناع النفس بانّ هذه النـزعة مغلوطة، فلابدّ من أن نتوجّه الى حرصها من جهة، وإلى يأسها من جهة أخرى. فهذه النفس التي تحرص في يوم، وتيأس في يوم آخر، هي في الواقع تعتبر من جانب آخر دليلاً على الحالة الأولى للإنسان، فهو يمتلك حالتين؛ الحالة الأولى هي تلك الحالة التي تحدّثنا عنها، أما الحالة الثانوية التي يمكننا أن نسمّيها حالة التربية أو الحضارة أو حالة الإيمان، فإنّها تقع بالضبط في مقابل ذلك التوجّه.

وطبقاً لهذه الحالة؛ نرى الإنسان قنوعاً حتّى وإن لم يحصل إلاّ على قوت بسيط يقيم به أوده، ونراه إيجابياً متفائلاً وإن مرّت به أسوأ الظروف. وهذه النفس إنما وصلت إلى هذه القمّة من الإيجابية، والأمل، والحيوية بفضل الإيمان، والاتّصال بالله سبحانه وتعالى.

الأنانية؛ عقبة في طريق التقدم

لا شك أنّ المشكلة الأساسية التي تعاني منها الأمّة هي الأنانية التي تتجسّد في عدّة مظاهر، ولكنّها تشترك في كونها عقبة في طريق الأمة نحو الصمود والتقدم.

مظاهر الأنانية في سلوكنا

إن العالم يفترق ثم يتحد، ويحارب ثم يصطلح، وقد يظلّ طرفان يتحاربان عشرات السنين ولكنّهما بعد ذلك يصطلحان ويتعاونان ويتبادلان مع بعضهما البعض التكنولوجيا.. وقد يستمرّان في الصراع ولكنّهما - في نفس الوقت - يتعاونان في حدود معيّنة. أما نحن الذين الذي نعتبر أخوة سائرين على خط واحد، فترانا لا نبادر الى التعاون، لوجود الأنانية المتجذّرة والمتأصّلة في نفوسنا؛ هذه الأنانية التي لم نستطع التخلّص منها، من الممكن أن تتنامى وتتجسّد في عدّة مظاهر منها:

1- إن تطوير البرامج لا يعني أبداً أن نلقي بالشتائم على من كانوا قبلنا، فقد تكون لهم أعذار معيّنة، وقد تكون ظروفهم مستوجبة لوضع البرامج التي اختاروها لأنفسهم، وقد يكون عدم الاستطاعة هو الذي أصبح عقبة في طريق تطويرهم للبرامج.. وهكذا قد يكونون معذورين لألف سبب وسبب.

إن علينا أن نبدأ ونفكّر ونقوم بعمليّة التطوير من جديد، وهذه الفكرة هي الفكرة الصحيحة التي يجب أن نحملها، لأنّ هناك طائفة من الناس يأخذون من الأمور قشورها، ويتركون اللّب، فتراهم يلقون بالمسؤولية على الأجيال السابقة، ويتملّصون منها. أما نحن فنقول ما قاله القرآن الكريـم: «تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (البقرة/134) فسواء فعلوا خيـراً أم شــرّاً، فاننا نبقى مسؤولين عن أنفسنا.

وبالإضافة إلى ذلك فانّنا يجب أن لا نلغي دور السابقين من فكرنا، فهناك نقاط إيجابية كثيرة في حياتهم، ومواقفهم، علينا أن نستغلّها في تطوير برامجنا، والسير بها نحو الأفضل.

2- إنّ الذين ينظرون الى الأجيال الماضية نظرة تشاؤميّة لا يمكن أن يدفعهم الإيمان والعمل الصالح الى مثل هذه النظرة. ومن المفترض في الإنسان أن تدفعه القدوات الصالحة الى العمل، لا أن تثـبّطه القدوات السلبيّة الفاسدة. ومن الممكن أن يكون السابقون على حق، وعلى الصراط المستقيم؛ فهم قد عملوا، وبذلوا الجهود، ونحن أيضاً يجب أن نعمل؛ فلهم ظروفهم، ولنا ظروفنا، وكلٌّ مسؤول عن ظروفه، وعمّا يجب أن يعمله في هذه الظروف بالذات.

ومن جهة أخرى فانّنا يجب أن نستلهم من جهود السابقين دروساً لمتابعة أعمالنا، فالانسان لا يمكنه أن يعمل منقطعاً ومنفصلاً عن تأريخه؛ فهو يمثّل سلسلة تتأثّر بالحلقة الأولى كما تتأثر بالحلقة الوسطى حتّى تصل إليه، وجميع هذه الحلقات يجب أن تلهمنا الدروس والعبر الصالحة. فنحن يجب أن لا نلغي دور السابقين من عملنا وفكرنا، فقد كان لهم دورهم، وكانت لهم جهودهم وأتعابهم، ومع ذلك فانّنا يجب أن لا نقتصر على هذا الدور، بل يجب أن نكمل المسيرة، والإكمال هذا هو التغيير، والتطوير هو البناء وأن نضيف شيئاً جديداً.

3- وثمة أنانية تظهر داخل الفئات المختلفة من المسلمين؛ فهناك من يعمل في العراق، وهناك من يعمل في إيران أو أفغانستان... وكلّ هؤلاء يمثّلون أخوة، وقد يكونون محقّين، فلا نلغي أدوارهم، ولا نفكّر بأنّنا يجب أن نكون أفضل منهم، ونتخذ مواقف عنصرية ازاءهم. فلكل وردة رائحة، واختلاف الأدوار هو من مقتضيات الخلق، ونحن عندما نؤدي دوراً فانّ هذا لا يعني أنّ الآخرين لا يؤدّون أدواراً أخرى.

الآثار السيئة للأنانية

إن مشكلة الأنانية تظهر بوضوح عندما نجابه العدوّ، فاذا بنا نكتشف أنّنا قد تآكلنا من الداخل، وأصبحنا أضعف ما نكون، وفقدنا القدرة على مواجهة العدو الذي استطاع في غفلة منّا أن يتكامل، ويتبادل التعاون، ويوزّع الأدوار.

وعلى هذا؛ فانّ الأدوار يجب أن لا تلغي بعضها بعضاً، فكلّ واحد منّا له دوره، فلنحاول أن نجعل بين الأدوار نوعاً من التكامل لكي نكون قادرين على مواجهة العدو، ومتمكّنين من تحقيق الانتصار بإذن الله تعالى.


/ 8