والملاحظ هنا أن اللَّه سبحانه استخدم صفة الرأفة والرحمة عندما تحدث عن ضرورة أن يكن المؤمنون الحبّ لبعضهم البعض. وهذا معناه أننا عندما نريد أن نتحدث عن التعاون، والوحدة بين الأصدقاء، فإن علينا أن لا نتحدث معهم بلغةالجبار، ولغة عذاب اللَّه، بل بلغة رحمة اللَّه ورأفته.إن على الإنسان أن يتخلّق بأخلاق ربه، فعندما تريد أن تتعاون مع الآخرين فلا تحصِ أخطاءهم. فاللَّه سبحانه وتعالى هو الذي يتولى المحاسبة والمراقبة، وهو الذي من أجله نعمل، وهو الغفور الرحيم.إن هذه هي الصورة الحقيقية للحضارة كما يرسمها لنا القرآن الكريم، فهي ليست مجرّد كلمات وشعارات، أو إنجازات مادية، بل هي مكاسب معنوية قبل كل شي ء، وهي تعاون ينطلق من حالة الإيثار.ثمّ يصوّر لنا القرآن الكريم الجانب المخالف للحضارة، فيقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَروا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ اُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَيُنصَرُونَ ).ترى من أي فريق نريد أن نكون؟ إننا يجب أن نجتهد اليوم من أجل أن نكون من الفريق الأول، وللأسف فإن الكثير منّا يرفع شعار الوحدة، ولكنه عندمإ؛ّّيواجه الواقع العملي سرعان ما ينهار، فتزلّ قدمه بما يرفع من شعار.إننا نعلم أن هناك خلافات، وأن هناك وجهات نظر مختلفة، وأسباباً تدعو إلى الشقاق، ولكن لابد أن نتمتّع بتلك النفسيةالرحبة التي تستطيع أن تستوعب الجميع، ولابد من أن نصمد أمام الخلافات، فلا نستسلم لأي إنسان يثيرنا بصورة أوبأخرى بحيث تشتعل حرب لا تبقي ولا تذر بسبب أمور ثانوية تافهة.أن من العار علينا أن ندخل في صراع مع بعضنا البعض، فالأعداء يتربصون بنا الدوائر، والقرآن الكريم يأمر أن نكون أشداء على الكافرين، أذلّة مع المؤمنين الذين يتمثلون اليوم في التجمعات الإسلامية، والمؤسسات الدينية. صحيح إن هناك الكثير من النفوس الطيبة، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن أن الشيطان قد تكون له بعض الخطوط في هذه التجمعات والمؤسسات، وقد يستطيع النفوذ إلى مواقع قريبة من القيادة، ويمرّر إليها بعض الأوراق الصفراء المليئة بالتهم ضد هذاوذاك، فإن لم تكن هذه القيادة متصفة بصفة الإيمان الحق، والحكمة، والرشاد، والتريّث في الأمور فإنها ستقع لا محالة في تلك المزالق الشيطانية.إن الشيطان قد لا يخدعك -كقائد- بشكل مباشر، ولكنه يخدع من وراءك، كصديقك ومن يعمل معك، أو يخدع الطفيليين الذين يدورون حولك، ويجعلك تنخدع من خلالهم. فلتعلم القيادات أنّها -هي الأخرى- قد تكون طعمةسائغة للدوائر الاستعمارية، لأن وحدتنا تهددهم، وتشكل الخطر الرئيسي عليهم، ولتتذكر قياداتنا إن شياطين الإنس لهم طرق خفية ، فلا تنس هذه القيادات أن مواقعها خطيرة، وعليها أن لا تتورّط في الصراعات، ولا تنسى أن بعض من يحوم حولها قد يثير الخلاف باسمها، وفي هذه الحالة سيضطرّ القائد إلى خوض الصراع بسبب عدم انتباهه وحذره.وبالطبع؛ فإنه لا بأس أن يعتمد القائد على مجموعة أو أجهزة معينة، ولكنّ القرار النهائي يجب أن يكون بيده، كما يقول عز وجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ )(آل عمران/159).فالحذر الحذر من أن يتدخّل الآخرون سلبياً في قرارات القائد، وخصوصاً في قضايا الصراع، فإنهم في هذه الحالةسيشعلون نار هذا الصراع، ويتركون القائد يحترق في نارها دون أن يشعر.إن من الواجب على الأمة الإسلامية أن تنصح القيادة، وربّما يكون من أبرز معاني النصيحة أن تقول لها الحق، ولاتحاول التأثير على قراراتها من خلال التقارير الكاذبة. وهذه هي من أهم واجبات من يحيط بالقيادات في المؤسسات الدينية، أو التجمعات الإسلامية.وقد يصبح الواحد منّا قائداً في المستقبل، وأنا أوجّه تحذيراتي هذه بالدرجة الأولى إلى الشباب الرسالي، وإلى طلاب العلم الذين من الممكن أن يتصدّوا لمراكز قيادية في المستقبل، فالفتيا لا تنحصر في مسائل الدماء والطهارة وما إلى ذلك من أبواب الفقه، بل إن المواقف هي فتاوى بحدّ ذاتها، فلنتخذ مواقفنا هذه بوعي وعمق، ولنفكّر ونجيل النظر فيها قبل أن نتخذها. فالفقيه من الممكن أن ينفق عشرات الأيام من أجل أن يعرف حكم مسألة شرعية قد لا يبتلي بها إلا القلةمن الناس، أما بالنسبة إلى المواقف فيبغي أن ننفق عليها أضعافاً مضاعفة من الأيام لكي لا نقع في أخطاء فادحة تسبب الضرر إلى الأمة كلها.وكل ذلك من الممكن أن نتفاداه من خلال تطبيق الأسس الحضارية التي أشارت إليها الآيات القرآنية السابقة، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على الأساس الأكبر المتمثل في سيادة روح المحبة، والتآلف والتعاون بين صفوف المؤمنين.
بصائر الحضارة في سورة المائدة
الحديث عن علاقة الدين بالحضارة حديث ذو شجون، وقد أسهب في تفصيلها وشرحها الكثير من المؤلفين والباحثين.وخلاصة رؤيتنا فيها؛ إن الحضارة والدين يشتركان في الطريق، ولكن الحضارة البشرية -وأعني بها الجوانب الإيجابيةمن مدنية الإنسان- تتوقف عند الحياة الدنيا، بينما يستمر الدين في تنظيم حياة الإنسان في الآخرة أيضاً .وفي هذا أود أن أتحدث عمّا توصلت إليه من خلال التدبر في سورة المائدة التي نستطيع أن نقول: إنها تحدثنا عن حضارةالمسلمين.والمعروف عن هذه السورة أنها آخر سورة نزلت على قلب النبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها آية إكمال الدين حيث يقول تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(المائدة/3).ونحن نجد في هذه السورة أيضاً الملامح الخاصة بشخصية الأمة الإسلامية، التي تميّزها عن شخصية المعتنقين للديانات السماوية الأخرى وخصوصاً اليهودية والنصرانية.مقياس تسمية السورة القرآنيةوقبل أن نتحدث عن البرنامج الحضاري الذي نستخلصه من هذه السورة المباركة، نود أن نقف قليلاً عند كلمة(المائدة) التي سميت السورة بها، بل لماذا سميت السور القرآنية -أساساً- بالأسماء المعروفة عنها؟إن اللَّه تبارك وتعالى ينتزع أسماء السور من الواقع، وبالذات من أكثر الحقائق والظواهر إثارةً في هذا الواقع؛ فعندمايحدثنا القرآن الكريم في سورة (البقرة) عن التقوى، ودورها في بناء شخصية الفرد والمجتمع، فإنه على الرغم من ذلك يطلق عليها اسم (البقرة) لأن قصة أصحاب البقرة قصة مثيرة، وهي تتكرر في حياة المجتمعات،حيث أن أغلب الناس يزعمون أنهم متدينون، وأنهم ليسوا منافقين بالمعنى المعروف عن النفاق، ولكنهم - في نفس الوقت - ليسوا مؤمنين بالمعنى الحقيقي للإيمان، وإنما هم عناصر تحب أن تكون مؤمنة، إلا أنهم -في ذات الوقت-يحاولون الالتفاف حول الدين، والقيم، والأحكام، وخصوصاً تلك التي تبدو صادقه وحاسمة وشديدة الوقع عليهم.ولذلك فقد أطلق اسم (البقرة) على هذه السورة المباركة استناداً إلى الفكرة المستوحاة في قصة بني إسرائيل المعروفة.وهناك سورة مباركة أخرى تحدثنا عن القيادة الإسلامية التي تمنح المسلمين الانسجام والتكامل والتفاعل، وقد أطلق على هذه السورة (آل عمران )، لأن وجود القيادة النزيهة الطاهرة المختارة من قبل اللَّه جل وعلا هو ركيزةوحدة الأمة، ولذلك سميت هذه السورة ب (آل عمران ).أمّا السورة التي تحدثنا عن المجتمع الإنساني وخصوصاً المجتمع الإسلامي فتحمل اسم (النساء)، ذلك لأن الموقف من المرأة هو سمة أساسية في حضارة المجتمعات، وفي تقدمها، أو تخلّفها.التوجيهات الحضارية في سورة المائدةوالسورة التي نحن بصددها -أعني سورة المائدة- فإنها سميت باسم المائدة التي نزلت على بني إسرائيل في عهد النبي عيسى عليه السلام.والمائدة -هنا- لا تعني الخوان الذي ينضد عليه أنواع الطعام والشراب، بل إنها تعني -بمفهوم أشمل- ما يسترزق الإنسان به، أو ما يستريح له من طعام وشراب، أو ما يسبّب الرفاه له.في الآيات الأولى من هذه السورة المباركة تطالعنا فكرتان:1/ نموّ التعاون.2/ النهي عن مجموعة من المحرمات؛ كأكل الميتة، والمتاجرة بالقمار، وأنواع السحت.ترى ما هي العلاقة بين هاتين الفكرتين من جهة، وبين بناء الحضارة الإنسانية المتطوّرة من جهة أخرى؟الجواب؛ إن الحضارة هي الحضور؛ أي تفاعل الإنسان، وتعاونه مع نظيره الإنسان، وهذا التفاعل والتعاون قائمان على أساس قانون؛ إذا التزم به الجميع فإن التعاون سيسير بانتظام وتصاعد؛ أما إذا لم يلتزموا به، فإن التعاون لا يلبث أن يتحوّل إلى فوضى.وقد تضمنت سورة المائدة جملة بنود للحضارة، ونذكرها كما يلي:1/الالتزام بالقانون ولذلك نجد في الآية الأولى من سورة المائدة أن اللَّه تقدست أسماؤه أمر بالالتزام بالقانون في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة/1). وهذا هو البند الأول من البرنامج الذي سبقت الإشارة إليه، فعلى الجميع أن يلتزموا بالقانون، ويفوا بالعقود التي تمثل القوانين والالتزامات التي يضعها الإنسان في مجال التعامل مع غيره، أياًكان نوعها.وهناك من العقود ما هو تجاري، وما هو اجتماعي، ونحن جميعاً سمعنا بنظرية العقد الاجتماعي التي تحاول أن تصوغ النظام السياسي للمجتمعات، فهي قائمة على فكرة أن الإنسان حرّ ولكنه قادر على أن يربط نفسه بعقد، فيكون ملتزماًبه ولا يجوز له أن يتحلل منه، وتقرّر هذه النظرية أن السلطة السياسية تقوم على هذا الأساس؛ أي على أساس أن العلاقة بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة تقوم من خلال عقد سياسي.وبناءً على ذلك، فإن الركيزة الأولى للمجتمع المتحضّر هي الالتزام بالعقود والمعاهدات كما يقول تعالى: (يآ أَيُّهَاالَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).2/ اجتناب المحرّمات وأما عن البند الثاني يقول القرآن الكريم: (أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم ).وبعد ذلك يذكر لنا القرآن مجموعة من المحرمات، وهنا علينا أن نلاحظ نوع هذه المحرمات، فهي من النوع الذي لابد من تثبيته لتصفية الحضارة من الطفيليات. فهناك من المجتمعات من هو مبتلى بالطفيليات كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان؛بمعنى أن هناك بعضاً من أفراد المجتمع يعملون، ولكن هناك مجموعة منه تعيش عالة على غيرها، مثل الإنسان المرابي الذي يجلس في بيته وفي نهاية الشهر أو السنة تأتيه الأرباح والفوائد دون أن يبذل أي جهد، وفي الحقيقة فإن هذه الأرباح مبتزّة من جهد سائر أفراد المجتمع.والنموذج الآخر من المحرمات التي نهى عنها الإسلام هو الأطعمة الخبيثة التي يشير إليها تعالى في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّمَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب ).إن هذه المجموعة من المحرمات هي من نوع آخر فهي ليست من الطفيليات، بل هي من أنواع المحرمات التي لو شاعت في المجتمع فإن روح التكاسل ، والتقاعس سوف تنتشر فيها. فالإسلام يطلب من الإنسان القادر الذي يمتلك النشاطوالقوة أن يعمل، كأن يزرع الأرض، أو يصطاد الحيوانات الحيّة المحلّلة، وينهاه بشدة عن أكل الميتة، أو ما يتبقى من لحوم الحيوانات بعد أن تأكلها الحيوانات المفترسة، أو الحيوانات الميتة نتيجة تعرضها لحادثة من الحوادث كالسقوط والنطح والقتل.. كل ذلك لكي ينمي في الإنسان روح العمل والنشاط وعدم الاتكال على الغير. فالحضارة التي تقوم على أساس تلك الصفات السلبية هي حضارة منهارة لا محالة ، بينما الحضارة المثلى لابد من أن تقوم على أساس النشاطوالاجتهاد والسعي.ونحن نستطيع من خلال ذلك التحريم أن نستوحي بصيرة ورؤية خاصة بطبيعة الاقتصاد في المجتمع الإسلامي، تقوم على أساس لغو كل نوع من أنواع العمل الكاذب. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات الناجحة رأينا أن تلك الحضارات لم تكن لتقوم وتزدهر لو كان فيها مجموعة من تلك الأعمال الكاذبة، فكلما استطعنا أن نحذف الوسائط ونلغيها كلّمااستطعنا أن نقترب من المفهوم الحقيقي للحضارة.3/ الإقبال على الطيّبات البند الثالث يشير إليه سبحانه في قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا اُحِلَّ لَهُمْ قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )(المائدة/4).هذا هو شعار المجتمع الإسلامي، والحضارة الربانية، وتفسير ذلك أن النفس البشرية تعتريها حالتان هما؛ حالةالانغلاق، وحالة الانبساط. فحالة الانغلاق تساوي حالة التخلّف، أما حالة الانبساط فتعادل حالة التحضّر.ونحن نعلم أن الغالبية العظمى من البشر تسودهم حالة الرهبة والخوف من بعض الأشياء والظواهر المحيطة بهم؛ أي أنهم يمتلكون نظرة تشاؤمية تجاه ما حولهم، وإذا ما درسنا تأريخ الشعوب البدائية وجدنا أنها كانت تعبد الظواهر الطبيعةالمخيفة الموجودة في بيئتها كالبحار والأنهار، والأصوات الغريبة، والصواعق.. لأنهم كانوا يخافون منها، ومن أجل أن يأمنوا شرها -حسب زعمهم- فقد كانوا يعبدونها.وعلى هذا الأساس؛ فإن الإنسان عندما يكون بدائياً متخلّفاً فإننا نراه يهاب ويخاف كل شي ء، ونراه يعمد إلى تحريم كثير من الطيبات والأرزاق على نفسه، بل إن الأصل عنده هو الحرمة، أما الحلّية فإنها استثناء بالنسبة إليه، ولذلك فإن الناس في ذلك العصر سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: (ماذا أحل لهم ) ولم يقولوا: (ماذا حرّم عليهم )لأنهم يعتقدون أن كل شي ء حرام باستثناء أشياء معدودة.أما القرآن الكريم؛ فقد أعطاهم القاعدة العامة في ذلك، فقال: (قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )، وقدّم لهم قاعدة :(كل شي ء حلال حتى تعلم أنه حرام )، شريطة أن تكون (الطيبات ) هي المدار في الحلّية،ذلك لأن الإنسان إذا اندفع معتقداً بأن كل شي ء حلال فعله يعمّم اعتقاده هذا حتى على الخبائث، وهذا مما لا يجوز،وعليه في هذه الحالة أن يعود إلى عقله وضميره ووجدانه.وعليه؛ فإن الإقبال على الطيّبات وتجنب المحرمات هما بند أساسي من بنود الحضارة التي أشار إليها تعالى في قوله:(اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ )؛ أي الاستغلال الصحيح للطبيعة وما فيها، والقرآن الكريم يفتح لنا الآفاق الواسعة في هذا المجال.4/ النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسيةبعد أن يقرر اللَّه سبحانه وتعالى أصل الحلّية في الاستفادة من نعمه، يصل بنا إلى بند آخر هو بند النظرة الإيجابية إلى المتعة الجنسية. فالإنسان المتحضّر من المفروض فيه أن ينظر نظرة إيجابية إلى متعة الجنس في حدودها الشرعيةوالطبيعية، في حين نرى أن الإنسان البدائي المنغلق على نفسه يتصور خطأً أن التمتّع مع الجنس الآخر هو جزء من الحرام إلا في حالة الاضطرار، ونحن نرى هذه الظاهرة لدى بعض الديانات إذ تحرّم على رجال الدين ممارسة العلاقة الجنسية.أما الإسلام؛ فيفتح أمام الإنسان الأفق في هذا المجال موضحاً أن العلاقة الجنسية في حدودها الشرعية لا ضير منها؛ بل إنها تعتبر واجبة في بعض الأحيان كان يشعر الإنسان بأنه سيندفع إلى ارتكاب المحرّم في حالة عدم زواجه.وبناءً على ذلك؛ فإن ممارسة العلاقة الجنسية تعد أمراً طبيعياً من وجهة النظر الإسلامية إذا ما تمت على ضوء أحكام الشريعة الإلهية، وأن ليس هناك من داعٍ إلى أن يشعر الإنسان بتأنيب الضمير والكآبة بعد ممارستها، فقد أثبت علم النفس والتربية الحديث أن شعور الإنسان بالندم والكآبة بعد ممارسته للجنس يعد حالة غير طبيعية ناجمة عن عوامل تربوية خاطئة.وقد أشار سبحانه إلى هذا البند المهم من بنود الحضارة في قوله بعد أن يوضح أن طعام أهل الكتاب حلّ للمسلمين وبالعكس: (...وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالُْمحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ اُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَ اُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين )(المائدة/5)ونحن نستوحي من هذه الآية الكريمة أن التعامل مع الجنس يتم خلال مرحلتين؛ المرحلة الأولى باعتباره ضرورة،والمرحلة الثانية بوصفه أكثر من ضرورة. وحسب ما يبدو لي فإن الآية تحدّثنا عن هذا الجانب، فهي لا تقرّر أن الجنس هو ضرورة اجتماعية فحسب، بل يجب أن يتحول إلى متعة بريئة طاهرة، فيكون هناك عقد، ويكون هناك دفع للأجور،وأن يكون بريئاً من السفاح واتخاذ الأخدان. ونحن إذا درسنا تأريخ الحضارات، فأننا سندرك أن هذا البند يمثل نوعاًمن التقدم فيها.5/ الالتزام بالنظافةإن النظافة هي من أصول الحضارة الإسلامية، فعلى الواحد منا أن لا يتصور أنه يقوم بعمل دوني وضيع عندما يعمد إلى تنظيف الوسط الذي يعيش فيه، بل إن هذا العمل هو من صميم دورنا في الحياة، والقرآن الكريم يرفع مستوى التنظيف إلى درجة بحيث يجعله في بعض الأحيان من الواجبات المقدسة كما يشير إلى ذلك تعالى في قوله بعد أن يأمر بالتوضؤقبل الصلاة: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(المائدة/6)الحضارة مجموعة من القيم السامية أولاًوفي نهاية هذا البحث لابد أن نذكّر بأن الحضارة ليست مجرد تقنية، وتكنولوجيا، وتوفير للوسائل الترفيهية، بل هي قبل كل شي ء مجموعة من القيم الرفيعة السامية التي يلتزم بها الإنسان، ومن هذه القيم؛ القيم الجمالية، فالإنسان الذي لايستطيع أن يتذوق مظاهر الجمال في الحياة ليس جديراً بأن يكون متحضراً. فنحن إذا أردنا أن نصل إلى مستوىً حضاريّ رفيع، فلابد من أن نهتم بالجوانب الجمالية كما نهتم بالجوانب الأساسية في حياتنا، وأن لا نقصر اهتمامنا على الجوانب المادية من الحضارة فحسب، فنتصوّر إن الحضارة هي التقدم في الجانب التكنولوجي والعلمي فقط، بل علينا-بالإضافة إلى ذلك- أن نهتم بالمظهر، وأن نحرص على تكريس المظاهر الجمالية في حياتنا، كالاهتمام بالنظافة، والسعي من أجل أن نكون منضبطين ومنظمين في جميع أمورنا، لأن النظام بحد ذاته- مظهر من مظاهر الجمال التي من شأنها أن تجعل حياتنا جميلة مشرقة في ظاهرها وفي باطنها، علماً إن الإسلام قد وجّه اهتمامنا إلى هذه الناحية في نصوص كثيرةفي نفس الوقت الذي لفت أذهاننا فيه إلى ضرورة تحقيق التقدم في المحتوى والمضمون.
الإسلام ضمانة الحضارة المنشودة
الحضارة الفضلى الرفيعة التي تصبو إليها الإنسانية المعذبة، والتي وعد بها الإسلام، وبشّرت بها رسالات اللَّه سبحانه وتعالى، هذه الحضارة ترتسم لنا تباشيرها في سورة المائدة الكريمة، وهي خاتمة السور القرآنيّة التي نزلت على قلب نبيّنا محمدصلى الله عليه وآله وسلم.وإذا ما أمعنّا النظر وتدبّرنا في المعنى العميق لكلمة (المائدة) لوجدنا أنها تجسّد لنا معاني السعادة الإنسانية،والأمن، والاستقرار، وراحة النفس والروح، ذلك لأنّ ظلالها وامتداداتها أوسع وأكبر من مصطلح الحضارة، ومفهوم (المدنيّة)، حيث أنّ لهذين المصطلحين آثاراً بعيدة عن الصحة والصواب في أطر المفاهيم المادية السائدة،والرؤى السطحية للحياة المعاصرة.الإسلام روح الحضارةإنّ الحضارة الحقّة التي تفي بمعنى تلك الكلمة، هي التي تجلّت تباشيرها في رسالة السماء الخاتمة، كما تجلّت من قبل في الرسالات السابقة، والتي تجعل من الإنسان وتكامله محور حركتها؛ فهي تعتمد هذا المخلوق الناطق الذي كرّمه اللَّه تبارك وتعالى على كل مخلوق، فلا تلغي دوره أو تهمل جانباً من حياته، بل هي حضارة عدم الإفراط والتفريط في جميع جوانب الحياة الإنسانيّة، وفي أي بعد من أبعادها؛ وهي الحضارة ذات البناء المتكامل، وهي في داخل الإنسان حضارة الروح والنفس والعقل والجسم، وهي في الحساب الزمني حضارة العصر الحاضر، والزمن الماضي، والمستقبل الآتي. ثم إنّها حضارة المعنويات السامية، والمعاني النبيلة، والقيم والمفاهيم الرفيعة، وحضارة الإصلاح والإحسان والازدهار والتقدم، وهي الحلقة الرابطة بين الدنيا والآخرة، بل هي مقدمة الحضارة الأخروية ، والمبشرة بها.والحضارة التي ترسمها لنا رسالات السماء وخصوصاً الإسلام في هذه الدنيا هي بمثابة المدرسة التي تصنع الإنسان وتصوغه، فيتخرّج منها البشر الصلحاء الذين يصبحون أهلاً لحضارة الآخرة.الدعوة السامية إلى البناء الحضاري ومن بين ثنايا السورة المباركة نفهم وندرك الدعوة السامية إلى البناء الحضاري القائم على الركائز والأسس الإلهية التي تضمّنتها كل رسالات السماء؛ فلو كان الذين اتبعوا النبي عيسى بن مريم عليه السلام قد أخلصوا في اتباعهم ومناصرتهم له، ولوأنّهم أخذوا بالإنجيل طبقاً لما هو في الأصل، وطبّقوه في حياتهم وانتهجوا خطوطه في مسالكهم، ولو أنّ الذين سبقوهم-أعني اتباع النبي موسى عليه السلام- أخذوا بالتوراة كما أنزلها اللَّه سبحانه وتعالى، بلا تحريف ، ولا إضافة، ولا تزييف، ولوكانوا قد تجنّبوا الداء الذي مزّق شمل ووحدة الإنسانية في أطر الأفكار الضيقة والأطروحات الاستعلائية الجاهلية.. لوأنّهم فعلوا كل ذلك لاعتُرف بهم من وجهة النظر الإسلامية والمنظار القرآني شريطة أن يطهّروا عباداتهم وتشريعاتهم من تلك الأفكار والمفاهيم الدخيلة التي تشربت ونفذت إلى معتقداتهم، كفكرة الحلول والخلوص في المسيحية، وفكرةالعنصرية التي دخلت في اليهودية.ونحن نلحظ ونلمس في الآيات القرآنية إشارات واضحة وعديدة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الإسلام زرع لنا بذورالأمل والبشرى بقيام حضارة الإنسان المتكامل، ومن تلك الإشارات الواضحة قوله عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(المائدة/69)وفي آية أخرى من سورة آل عمران يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَاوَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّامُسْلِمُونَ )(آل عمران/64)هل تحققت الحضارة التكامليّة؟وقد يعترض معترض في هذا المجال فيقول: إنّ شيئاً بمعنى (الحضارة التكاملية) لم يتحقق على يد الرسل والأنبياء على امتداد التأريخ الطويل، ولم نلمسه نحن حتى الآن، علماً أن ألفاً وأربعمائة عام أو يزيد قد انطوت على عمرالرسالة الخاتمة. ولكنني أقول جواباً على هذه الشبهة إن هذه المدّة ليست بالزمن الذي يذكر عندما نقارنه بالآلاف المؤلّفة من السنين في عمر الرسالات المديد، وعمر الإنسانية على هذه البسيطة. فالإنسان ربما عاش على هذه الأرض كما يرى ذلك علماء الجيولوجيا والتاريخ- منذ أربعة ملايين عام- على تقدير البعض، وربمّا يستمرّ في بقائه عليها إلى ملايين أخرى... ولكن نظرتنا السطحية واستعجالنا للأمور، سببهما أعمارنا الضئيلة قياساً بتلك المدة المتطاولة.ونحن لنا رؤية أعمق وأوضح في هذا المجال تختلف عن الرؤى الأخرى، فعمر الإنسان وحياته على هذه الأرض أطول بكثير مما قيل، ودليلنا على ذلك قول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: (وقروناً بين ذلك كثي)ر(7) ثم إن مايدعم نظرتنا واعتقادنا هذين، هو ما تم اكتشافه في بعض الحفريات والآثار، حيث قدّر فريق من العلماء أن وجودالإنسان على كوكب الأرض يعود إلى ما قبل مليون عام!!ولو نظرنا إلى تاريخ البشرية على الأرض منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليها ثم المضيّ نحو المستقبل الممتد البعيد، فافترضنا-جدلاً- أن كل هذا التاريخ هو بمثابة يوم واحد، لوجدنا أن هناك طفرات هائلة في مقاطع متقاربة جداً ومتداخلة من هذه المسيرة. وبعبارة أخرى؛ لرأينا أنّ مسيرة التقدم الحضاري تتصاعد بشكل متسارع، فلو أردنا قياس عمر هذاالتطوّر الإنساني وافترضناه يوماً واحداً فسوف يتضح لنا هذا التقدّم بالشكل التالي: في الساعات الأولى لم يكن الإنسان يعرف شيئاً، وكان طبعه كطبع الحيوانات الوحشية، ثم في الساعة الخامسة من هذا اليوم اكتشف الإنسان النار،وبعدها بساعة اكتشف الزراعة، ثم بعدها بساعة أو ساعتين ظهرت الحياة الاجتماعية، وأقيمت المدن والقرى، وبعدبضعة دقائق من تلك الساعة أقيمت الحضارات، ثم اخترعت الماكنات والآلات، وقامت الثورة الصناعية، وبعد بضع ثوان صنعت المركبات الفضائية، وتم غزو القمر... وهذه هي حركة التقدم البشري، فهي بصورة متوالية هندسيةمعكوسة بالنسبة إلى العمر الزمني؛ أي إنّ الإنسان استغرق سنين طوالاً ربما كانت قروناً حتى اكتشف النار، ولكن المسافة الزمنية بين اختراع الماكنة البخاريّة واكتشاف الذرة لم تكن إلاّ قرنين، ثم ما هي إلاّ عشرات من السنين حتى وطأت قدماه أرض القمر.. وهذه هي مسيرة البشرية، وانطلاقها السريع نحو الأمام.ونحن لو أمعنّا النظر مرة أخرى في الفترة الزمنية الأخيرة التي شهدت هذا التقدم الهائل والقفزات السريعة لوجدناهاأنها إنّما حدثت بعد أن بُعث النبي عيسى عليه السلام، ثم نشطت بزخم أقوى بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم،وهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدل على أنّ رسالة الإسلام، والمؤمنين الحقيقيين بها هم أصحاب البشارة الحقيقة، والقفزات الكبرى المترقبة.
الحوار بين الحضارات الإلهية
(إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآءِ قَالَ اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُالرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/115-112)كانت الحياة خلية واحدة ثم نمت وتكاثرت وتنوعت. هكذا يقول علماء التاريخ.فالحضاري في البدء كانت كلمة طيبة ثم أخذت بالنمو حتى أصبحت شجرة وارفة الظلال كثيرة الثمار عظيمة الفوائد.وهذه الحضارات الكبرى التي تضرب بها الأمثال عبر التأريخ لم تكن سوى كلمات طيبة في صدور أولي الذكر، ثم تطورت وتنامت وازدهرت فأصبحت حضارة يشار إليها بالبنان.وكما كان أصل الحياة من اللَّه الخالق المبدع سبحانه وتعالى الذي يخرج الحي من الميت، كذلك كانت الكلمة الطيبة جذرالحضارة البشرية.وقد تتفاوت مفردات التعبير عن هذا الاصطلاح، حيث يحلو للبعض من علماء التاريخ أن يعبروا عن أساس وجذرالحضارة بكلمة الفكرة الحية ويعادلون بها كلمة (الخلية الحية) حيث تتكاثر وتتنوع حتى تصبح حياةبأنواعها، كذلك الفكرة الحية تتكاثر وتتنوع فتصبح حضارة.ولكنني أفضل الاستفادة من التعبير القرآني الأدق والأصح وهو (الكلمة الطيبة) استيناساً بقوله سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ)(إبراهيم/24). وإذا أردنا تعبيراً مناسباً لفكرة الحضارة، فأظن أن أرجح تعبير عن ذلك هو كلمة(المائدة السماوية).ولعل الأسباب الكامنة وراء اختيار هذه التسمية هي:1/ إن مفردة الحضارة مستمدة من الحضور، بمعنى أن يكون هناك أناس حاضرين إلى آخرين حاضرين. وبعضهم يسميها بالمدينة، إذ المجموع يجتمع في مدينة واحدة. وكان العرب من قبل يميزون بين الحضارة وغيرها على هذاالأساس، حتى قال شاعرهم:ومن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانانظراً إلى أن البدو في الصحراء القاحلة لا يجتمعون على شي ء، خلافاً للحاضرين في المدينة. وعلى هذا الأساس فإن الحضارة والمدنية شي ء واحد، باعتبار أن المدنيين يجتمعون إلى بعضهم، فلا حضارة دون مدينة، ولا مدينة دون حضارة.2/ لما كان الحضور والاجتماع هو الأساس، فهل يمكن تصور حضور واجتماع دون محور مشترك أو داع مقنع؟والجواب هو النفي قطعاً، إذ الناس لا يجتمعون ولا يحضرون في مكان واحد صدفة؛ فقد يكون الماء - الذي هو وجه الحياة - أو التجارة أو الفكرة أو المسجد أو.. أساس حضورهم. وحينما ندرس تاريخ المدن نكتشف بأن كل مدينة قدتأسست بسبب محور ما؛ فمثلاً كانت الجزيرة العربية قليلة المياه، وكان الناس يجتمعون حول الماء أينما وجدوه، ثم يتكاثر الجمع حتى يشيدوا مدينة وحضارة.. ولم تكن مدينة مكة المكرمة استثناء عن هذه القاعدة، حيث شيدت على أساس بئر زمزم التي تفجرت تحت قدمي النبي اسماعيل عليه السلام، ثم تكرست مدنية الجمع بعد أن شيد النبي إبراهيم عليه السلام بيت اللَّه الحرام، فأصبحت مدينة مكة المكرمة محوراً حضارياً لكافة المدن في الجزيرة العربية آنذاك.الحضارة روح وجسدوبعد كل ذلك علينا الإجابة عن هذا السؤال المهم، والخطير جداً، وهو: ماذا يحدث لو اختلف أفراد الحضارة إختلافاًمعنوياً؟إن ما يضمن استمرار المدنية هو القيم والمقدسات الصالحة لا غير، وقد جاء في الحديث النبوي المروي عن الإمام الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها)(8) بمعنى أن البلاد التي تنعدم فيها القيم والقوانين ستتحول بمرور الزمن إلى أرض خاوية، فكان لابد من فكرة وقانون ونظام ورؤية وإيمان تحول دون التفكك وتحفظ للمجتمع ذمته واحترامه وأمنه واستمراره في الحياة؛ أي إن الناس إذا اجتمعواوحضروا لمجرد وجود الماء دون إطار قانوني أو محتوى فكري، فإن اجتماعهم هذا سرعان ما ينتهي إلى الاختلاف والتناحر والتفرق والخراب، فتصبح البلاد بلقعاً.ومن هذه الفكرة استمد علماء التاريخ والحضارة كابن خلدون وتوينبي وآخرون مقولة إن الحضارة أساسها فكرة قبل أن تكون مصلحة مادية، أو إن المصلحة المادية تحتل مرتبة متأخرة عن الأساس الفكري للحضارة.ونحن نقول: إن الحضارة كلمة طيبة مصدرها اللَّه تبارك وتعالى، لأن اللَّه هو الطيب وهو الخير، وهو الذي يخلق الخيروالجمال، أما الإنسان فهو ربيب الدنيا والشهوة والمصلحة إذ منع على نفسه الخير والجمال.إذن؛ فالكلمة الطيبة من اللَّه سبحانه وتعالى، واجتماع الناس لابد أن يكون حول شي ء ينزل من السماء ليسمو بهم إلى الأعلى، ونسمي ذلك بالمائدة السماوية التي لا تعني مجرد الأكل والشرب، حيث قد يتحققان بمجرد تناول قرص رغيف وجرعة ماء.. بل المائدة المقصودة سفرة ممدودة وخوان متسع يجتمع الناس حوله ليأكلوا ويشبعوا من طيبه السماوي المقدس.مائدة من السماء