حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



ولذلك نجد أن سورة قرآنية كاملة، وهي آخر سور القرآن الكريم التي نزلت على صدر نبينا محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي تنسخ سائر السور ولا ينسخها شي ء، قد سميت باسم سورة المائدة، وذلك لقصة تأريخية محورها نبي اللَّه عيسى بن مريم عليهما السلام والحواريون الذين نصروا نبيهم وكانوا بيضاً في ظاهرهم وباطنهم، حيث اجتمعوا حول نبيهم قائلين له:(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآء). وهذه المقولة رمز لتلكم الفكرة الجميلة التي تتنزل من السماء فيجتمع الناس حولها.

ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن تساؤل الحواريين بقولهم هل يستطيع ربك لا يعني تشكيكهم أو كفرهم بقدرة اللَّه سبحانه وتعالى، بقدر رغبتهم في معرفة هل أن ما يطلبونه مناسب إلى اللَّه...

وكان أول شي ء واجههم به النبي عيسى عليه السلام هو قوله: (اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ ) أي أنكم إذا كنتم تريدون مائدة من السماء فعليكم بالتمحور حول مبدأ وثقافة التقوى التي هي أفضل مائدة وأطيب كلمة.

ولم يكن أمام الحواريين الذين تربوا في ظل الرعاية النبوية إلاّ التسليم لهذه الحقيقة الربانية، ولكنهم في الوقت نفسه تمادوا في الاستكثار من الطلب، حيث طلبوا إلى نبيهم أن يسأل اللَّه لأن ينبئهم بقبول تقواهم وعبادتهم فينزل عليهم المائدة لكي تتجسد التقوى في شي ء ملموس يرونه، فكان أن قالوا:

1/ (نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا) ومن الطبيعي أنهم لم يكونوا جياعاً حتى يطلبوا أكلاً لمجرد إشباع بطونهم، بل إن الأكل من المائدة السماوية الإلهية ليتجسد لديهم رمز المحبة بينهم وبين اللَّه. وبعبارة أخرى؛ إنهم طلبوا من النبي عيسى عليه السلام أن يحملهم إلى ضيافة اللَّه بشكل مباشر وملموس، تماماً كما يستضيف اللَّه أمة نبيه محمدصلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان الكريم، حيث يضاعف اللَّه على المسلمين بركاته ونعمه ورحماته في شهر الصيام.

2/ والأهم من الأكل الظاهري هو أنهم قالوا: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) إذ نحن - الحواريون - مؤمنون بأنك روح اللَّه وكلمته وأن الكتاب والحكمة قد أنزلها اللَّه عليك، ولكننا نريد تكريس هذا الإيمان. فأن يسعى المرء إلى حقيقةيطمئن إليها قلبه، فإنه في واقع الأمر يسعى إلى هدف مقدس.

3/ وبعد اطمئنان القلب؛ قلب الحوارين لنبيهم (قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَاوَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ )(المائدة/113) فإنك - يا نبي اللَّه - حينما بشرتنا بالجنة، نريد أن نرى شيئاً منهاعلى هذه الأرض، وهذه كلها رموز لها مصاديقها، تماماً كما بشر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالجنة وبشرهم أيضاً بأنهم سيكونون ملوكاً في الأرض أيضاً، وقد تحقق لهم ذلك، فصدقهم الرسول.

4/ وحينما يطمئن القلب، ويتضاعف الإيمان بمزيد من العلم، وتشبع البطن، ويقوى الجسم، هنالك يتوجب على المرءأكثر من أي وقت مضى أن يقوم بدوره التأريخي، فيكرس كل جهده ليرفع راية كلمة السماء الطيبة، فيشهد لها بين الناس ويحثهم على اتخاذها محوراً في حياتهم.

5/ وحينما اطمأن النبي عيسى عليه السلام إلى عهدهم دعا ربه بقوله: (اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَاعِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا وءَايَةً مِنكَ ) نظراً إلى أن إطمئنان القلب وتضاعف الإيمان وقوة الجسم يعني تجدد الحياة،وهذا هو معنى العيد والعودة إلى ممارسة الواجبات وتحقيق المسؤوليات. وها هم المسلمون حينما يلتزمون بواجبات شهر الصيام ويستوعبون القدر الممكن من حكمته فإنهم يحتفلون بالعيد، ليس لانتهاء أيام هذا الشهر الكريم، وإنمإ؛ّّلأنهم تزودوا منه بخير الزاد، فتراهم يعودون إلى تحقيق وتطبيق ما تعلموه من مفاهيم ربانية طيلة الشهور القادمة حتى يحل عليهم شهر رمضان آخر فيعيدون الكرة من جديد...

ولم يكن طلب النبي عيسى عليه السلام - الناطق باسم الحواريين - من ربه مجرد طلباً مؤقتاً، بقدر كونه طلبه أبدياً يعم أول المؤمنين كما يعم آخرهم إلى يوم القيامة، حيث تكون قصة نزول المائدة مبعثاً للأجيال لأن يتذاكرونها فيزداد ايمانهم وحيويتهم.

6/ (قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ )(المائدة/115) وهذا قانون سماوي صارم لا يقبل التغيير والتبديل مطلقاً.

بعد هذه الاطلالة القرآنية على ما دار بين النبي عيسى عليه السلام وحواريه، لابد أن نقول: إن النبي عيسى عليه السلام وقصته ليس للمسيحيين فقط، كما أن النبي موسى عليه السلام وسيرته ليسا حكراً على اليهود؛ بل وحتى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ليس للمسلمين فقط، وإنما هو رحمة للعالمين.

إن أساس الحكمة الربانية من بعثة النبي عيسى خصوصاً والديانة المسيحية عموماً إنما يكمن في التبشير بخاتم الأنبياءوالرسل محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال اللَّه تعالى في ذلك: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَآئِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرَاً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌمُبِينٌ )(الصف/6). فكان دوره الأول البشارة ودوره الأخير هو البشارة أيضاً، حيث سيأتي يوم ينزل اللَّه فيه النبي عيسى عليه السلام من جديد ليبشر الناس بظهور الإمام الحجة المهدي عجل اللَّه فرجه الشريف، وهذه هي حكمةخلقة وبعثة النبي عيسى عليه السلام.

وعليه فإن الديانة المسيحية ليست إلاّ تمهيداً للديانة الإسلامية؛ أي ان الديانة المسيحية كلما توسعت كلما تضاعفت فرص انتشار الدين الإسلامي، لذلك تجد القرآن الكريم يذكرنا بأن أقرب الناس إلى المسلمين هم. (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّالنَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارى ذلِكَ بِاَنَ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون )(المائدة/82) لأن فيهم قسيسين يقرأون الكتاب ويصبحون من ذوي العلاقة بالإسلام.

الحضارة الحقيقية

إن الحضارة الحقيقة هي الحضارة الإلهية، ولم يتبق من نماذج هذه الحضارة سوى حضارتين، وهي المسيحيةوالإسلامية، وقد أثبتت حقب التاريخ أن ما لم يتصل بالسماء مصيره إلى الفناء الحتمي، وقد قال غورباتشوف -آخررئيس سوفياتي- لدى انهيار الاتحاد السوفياتي: إن سبب هذا الإنهيار هو أن الإتحاد السوفياتي لم يكن يؤمن باللَّه.والمهم هو أن هذا الكيان السوفياتي قد عاد مرة أخرى إلى الإسلام والمسيحية، وقد سبق أن قلنا بأن المسيحية مقدمةلانتشار الإسلام.

من هنا أدعو إلى حوار الحضارتين المسيحية والإسلامية دون غيرهما، لأنهما هما المسيطرتان على الفكر البشري، كماأدعو إلى أن يكون جوهر هذا الحوار حول السعي نحو اقناع المسيحيين بفكرة أنهم مبشرون للإسلام؛ فالإسلامي هوالدين الناسخ لكل الديانات، لأنه الخاتم، ولأنه الأحدث، ولأنه الديانة الوحيدة التي أمنت من التحريف بفضل اللَّه ورحمته.

اقول: لما كان من الخطأ على المسلم أن يطلق تسمية الحضارة على الوجودات التاريخية غير القائمة على أفكار السماء،فإنه من الخطأ أيضاً أن يطلق على حواره معها تسمية حوار الحضارات، فهل الحضارة هي إهرامات مصر، أم قلاع بعلبك، أم بقايا آثار بابل وسومر وجدار الصين؟

كلا؛ فهذه مجموعة من نماذج البناء البشري الذي سرعان ما تهدم... وتهدم لأنه لم يقم على أساس الفكر الإلهي، وإنما قام على أساس ظلال وآثار ذلك الفكر المقتبس من الآخرين.

فأية حضارة هذه التي تعتمد عبادة البقر في الهند؟

وأية حضارة هذه القائمة على مبدأ العنصرية كما في اليونان؟

وأية حضارة هذه القائمة على أساس استغلال الضعفاء والفقراء كما حصل في الصين القديمة؟

وأية حضارة هذه ا لتي تجبر الناس على عبادة الملك من دون اللَّه كما كان شأن مصر الفرعونية؟

فإذن؛ العقل البشري لا يسمح مطلقاً بأن يسمي صفحات التاريخ المليئة بالظلم والطغيان والقتل والاستعباد والعنصريةبالحضارة والمدينة.

الفصل الثاني

في السلوك الحضاري

التعارف منطلق الحضارة الإيمانية

(يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(الحجرات/14-13)

لا شك أن الإنسان بحاجة ماسة إلى هزة عنيفة، أو إلى هزات عنيفة متواصلة لئلا يصاب بداء الخلود إلى الأرض؛الأرض ذات الجذب الشديد، بما فيها من الرغبات الجامحة إلى إبقاء ما كان على ما كان، واستصحاب التراث،واستصعاب التغيير والتحول والتطور، والبقاء على ما هو عليه.. تبعاً إلى أن حقيقة التغيير والتطور بحاجة إلى ثمن مناسب، عادةً ما يبخل المرء في بذله..

ولعل الفرق الأساسي بين الإنسان من جهة، والحيوانات والنباتات والجمادات من جهة أخرى يكمن في أن ابن آدم ذوقابلية وقدرة على التطور، بل وذو فطرة تدفعه إلى التحول.. ولكن انجذابه إلى الأرض هو الذي يؤثر فيه ويحاول قمع تلك الفطرة النزيهة. ولكن المخلوقات الأخرى المشار إليها مجبولة على الثبات والبقاء والمراوحة في مكانها؛ فالجماد -كماهو واضح ومعروف- يبقى في مكانه ما شاء اللَّه، حتى يأتي من يحركه ويزحزحه عن مكانه الذي هو قابع فيه.

إن الإنسان السويَّ الأصيل معابٌ عليه أن يبقى على حاله، لأن رأس ماله الوحيد هو عمره وأيام حياته في الدنيا، فإذالم يحصل على الفائدة المرجوة -التي لا تتحقق أبداً دون تغيير وتطور- والمغنم الجديد، سيكون كمن قدّم ما لديه دون قبضه شيئاً وثمناً لذلك أبداً.

لقد ورد في الرواية الكريمة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخريومه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب، ومن كان إلى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة)(9). فالعمر يتجه إلى الانقضاء، ولا توقف - أبداً - في هذا التوجه والمسيرة،في حين أن ابن آدم قد يصرف عمره ولا يحصل على ما ينفعه، وهو إن لم يحقق التطور والتغيير والتحول في كيانه وفيماحوله، فإن حياته ستكون إلى غبن وخسران وهباءٍ..

واستناداً إلى هذا المنطلق وهذه الاستراتيجية السامية نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يحدّث الإنسان كأكرم مخلوق - أوهكذا يفترض فيه-، يبعث في ضميره صاعقةً تجري في دمه كما التيار الكهربائي القوي، ليوقظه من غفلته، ولينفض عنه غبار الكسل والجمود.

وقد أخذ القرآن الكريم عيّنة مثيرة وجديرة بالتوجه لإثبات هذه الحقيقة، وهي قصة الأعراب الذين قالوا آمنا ولم يكن الإيمان قد دخل إلى قلوبهم بعد .. نظراً لأنهم يعيشون في الصحراء ويتنقلون بين منازلها، بحثاً عن الماء والكلأ، فلايجدون فرصة لتحصيل العلم والمطالعة والتثقف.. حتى أن اللَّه سبحانه وتعالى قال عنهم في كتابه: (الاَعْرَابُ أَشَدُّكُفْراً وَنِفَاقاً)(التوبة/97)، ولعلهم كانوا من بني سليم الذين نزلوا المدينة فوجدوا أهل المدينة أناساً متثقفين بثقافة الإسلام على يد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ويقرؤون القرآن ويتداولون الأحاديث النبوية الشريفة.. فظنوا جهلاً أن القضية قضية يسيرة؛ لا تعب ولا نصَب فيها.. ف (قَالَتِ الاَعْرَابُ ءَامَنَّا). فقال لهم اللَّه عز وجل: (قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). إذ الإيمان أمر بحاجة لئن تستوعبه الأفئدة وتمارسه الجوارح.

ففي هذه القصّة والعيّنة القرآنية أوضح اللَّه تبارك أسمه مجموعة حقائق تمثل محور الإسلام ونظرته إلى ما ينبغي أن يكون عليها الإنسان، وأكد القرآن عبر ذلك أن للإيمان شروط ثلاثة:

1- القول وتلفظ الشهادتين، كمدخل إلى الإيمان، في حين أن الأعراب اكتفت -جهلاً- بهذا المقدار.

2- العقد بالقلب، وهذا هو أصل الإيمان وجوهره.

3- العمل، وأشار إلى ذلك قوله سبحانه: (لاَ يَلِتْكُم مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً). فقولٌ بلا قلبٍ، وقلبٌ بلا عملٍ، لايعني شيئاً أبداً، إذ الكل جزءٌ لا يتجزأ مهما تقلبت الأحوال واختلفت الظروف.. (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ )(الزلزلةِ/8-7)، و(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَاسَعَى )(النجم/39)، وكفى بالعمل شعاراً رفعه الإسلام على مدى التاريخ.. العمل الذي يقف خلفه قلب نظيف.

وهذه هي الهزة العنيفة والصعقة التوحيدية التي نزل بها الوحي المقدس على قلب الإنسان ليحرك فيه فطرته، ويبعث فيه روح التطور والتحول إلى الأحسن.

يقول اللَّه تقدست أسماؤه: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا...)فاللَّه لم يخلق الناس بجنسيات أو ضمن حدود جغرافية معينة. فالأرض كانت كلها لآدم وحواء عليهما السلام دون حدود أو تمايز أو حواجز، وكان دم الإنسان واحداً وتركيبته واحدة. ثم إن اللَّه سبحانه قسم الناس تقسيماً كانت الحاجةإليه ضرورية لإحراز التكامل الإنساني وبنائه، فجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويعترفوا بالعوامل المكمّلةلبعضهم البعض.

أقول: إن المادة الإنسانية الأولى كانت واحدة، ولكن التقسيمات جاءت على أساس ضروري وعادل لحكمة أخرى.

إن التعارف هو الاعتراف، فضلاً عن المعرفة والتعرف. فيعترف البعض بحقوق الآخرين ويسلّم بوجودهم، فلا يسخرقوم من قوم، ولا يحتقر بعض بعضاً، حتى يكون الجميع على صعيد واحد، ينظرون إلى الحياة على أنها ميدان للتكامل من جهة، وللتسابق إلى الكمال والسمو من جهة أخرى.

وهذا يعني امتناع الأغنياء عن احتقار الفقراء، وامتناع الأقوياء عن مصادرة حقوق الضعفاء..

إن الإنسان المسلم لا يعترف بحق المسلمين فحسب، بل هو مأمور وملزم بالاعتراف بحقوق كل إنسان.. والحديث الشريف المروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد بهذا الصدد: (لكل كبدٍ حرّا أج)ر؛(10) أي أن المسلم إذا صادف كافراً مشرفاً على الهلاك عطشاً في صحراء - مثلاً - عليه أن يسقيه الماء، ليحصل على الثواب والأجر. وهكذا عمل أمير المؤمنين عليه السلام في معركة صفين، حيث أباح الماء لجيش معاوية الذين جاؤوا لقتاله، وهو الجيش نفسه الذي كان قدمنع على أصحابه الماء بادئ الأمر، رغم أن علياًعليه السلام كان بإمكانه منع جيش معاوية من الماء كردّ المثل بالمثل. وهكذاأيضاً قام الإمام الحسين عليه السلام بسقي الذين خرجوا لحربه الماء، رغم علمه بأنهم قاتلِوه لا محالة، ورغم أنه يعلم ويعي حقيقة أن الخارج على إمام زمانه محكوم بالكفر، ولكنه سقاهم - حتى بيديه الكريمتين مباشرةً - ليؤكد لهم وللتاريخ الأصل الإسلامي الأصيل القائل بضرورة احترام حقوق الإنسان كإنسان. وقد قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في معرض عهده لمالك الأشتر النخعي حينما بعثه إلى مصر والياً: (فإنهم (الناس ) صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق )(11). وهذا لعمري إقرار تام وصريح ومطلق بحرمة الإنسان، وهو دعوة مباشرةللاعتراف بحقوق الإنسان في المبدأ والعيش .

إن من الواجب الصريح على كل إنسان أن يسعى جهده ليسد أبواب الظلم والبغي والاعتداء والخداع، وليفتح باباًواحدة هي باب التنافس الشريف والمسابقة إلى الخير. فكل منّا ليس له الحق في مصادرة حق جاره أو صديقه، بل على الجميع أن يبحثوا عن طريق لاستصلاح الأرض والاستفادة من الإمكانات الواسعة والطائلة في هذه الأرض،فيحصلوا على رزقهم، دون المساس برزق الآخرين عن طريق الغزو والاعتداء والتطاول. وقد قال تبارك وتعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ). فابن آدم في غناً مطلقٍ عن حطام الدنيا والتشاجر من أجله عبر الحروب وافتعال الأزمات التي يقع ضحيتها الفقير والضعيف.

ها هو كتاب اللَّه؛ خالق الخلق جميعاً، يخاطبهم بقوله المبارك: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ )، ويدعوهم إلى التعارف، لأن التعارف والاعتراف ينتجان المحبة والتفاهم، ولذلك كان من الأمور الهامة في الإسلام هو التعرف إلى الناس والسير في الأرض. وقد كان من الفوائد الجمة لفريضة الحج هو أن يشهد الناس منافع لهم، لأن الجميع يجب عليهم أن يقصدوا بيت اللَّه الحرام ومجمل البقاع المقدسة هناك ليتعارفوا فيما بينهم.

إننا كمسلمين وموالين لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ملزمون بالتعايش السلمي فيما بيننا، وملزمون بأن ندعوالآخرين إلى ذلك، فنعترف ببعضنا، ونتنافس تنافساً شريفاً وكريماً قائماً على أساس التقوى، وليس على أساس العدوان. فإذا كانت دعوتنا إلى الناس هي التعايش والتنافس، فيكون من الأحرى بنا أن ندعو أنفسنا قبل ذلك بهذه الدعوة.

لقد أضحى من المؤسف جداً أن القاعدة التي تقوم عليها مجتمعاتنا قاعدة هشة مضطربة، إذ ما أن تحدث مشكلة ما، أويقع اختلاف بين مجموعتين أو شخصين مشتركين في العمل، حتى تراهما يفترقان في خضم جوٍ من تبادل التهم والافتراءات.. وهذا الواقع المؤسف ليس هو الذي حرضنا عليه ربنا وشريعتنا في الحياة!!

فإلى مَ نعيش مثل هذه الأجواء الموجودة؟ ومتى نحاسب أنفسنا ونقودها باتجاه ما أوصى به القرآن وما دعانا إليه النبي وأهل بيته عليهم السلام؟

وقد قال الشاعر:

الأممُ الأخلاقُ، ما بقيت بقوا

وإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

أما الحديث الشريف المروي عن الإمام محمد الباقرعليه السلام، يقول: (وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها)(12). فترى ما هي العلاقة بين اليمين الكاذبة وبين انهدام المجتمع وتلاشي الحضارة وخراب البلاد؟!

والجواب؛ إن ما يجمع الناس هو الثقة، وأن أساس الحضارة هو الثقة المتبادلة بين أفرادها، فإذا تبخرت الثقة تبخرت معها الحضارة وتهدمت وتلاشت. واليمين الكاذبة لا تعني إلا محاولة قائلها استغفال الآخرين لاستغلالهم، وحينما تتفشى ثقافة الاستغلال هذه تذهب الحرمات. ولا شك أنه لا حضارة دون قوانين وحرمات، والالتزام بالقوانين ورعايةللحرمات..

وبهذا الصدد يقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي كلمة جميلة - رغم تحفظنا عليها من وجهة النظر التاريخيةوالعقائدية-: لقد ارتفعت الأمة الإسلامية وسمت يوم آخى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنصار والمهاجرين.. ولكن العدالعكسي لهذا الارتفاع سرعان ما بدأ حينما اقتتل المسلمون في حرب صفين، فأصبح مجتمعاً بلا أُخوّة.

ورغم ذلك أقول: نحن لدينا - بتوفيق اللَّه - بقايا من آثار الوحي، وبقايا من أخلاق أجدادنا وآبائنا، ولدينا بقايا من تعاليم ديننا.. ولكن هذه البقايا لم تعد تكفي لبناء حضارة، والأمر الملحّ هنا هو تعميقها وتكريسها وتوسيعها ووضعهاعلى أسس واضحة.. فلا يكون أكبرُ همِّ أحدنا التفكير بنفسه، بل لابد من التفكير بالآخرين ومطالبهم واحتياجاتهم وحقوقهم وحرماتهم. ومن طريف ما يذكر نتيجة الإحصائية التي أجريت في الولايات المتحدة الأميركية، حيث علم أن معظم الكلمات المتبادلة عبر الهاتف هي كلمة (أنا) مما يعني تصاعد حدة الأنانية في هذا البلد ذي المظهرالقوي..

نعلم وتعلمون أن الحضارة تعني التقدم والازدهار، ولكن هذا التقدم والازدهار ليس له أن يحدث في ظل السعي الفردي البحث، إذ اليد الواحدة عاجزة على التصفيق..

فتعالوا إلى البدء بالضد من ذلك، فنفكر بالفقراء في مقابل كل مرة نفكر بأنفسنا، ولنسعَ إلى نجدة المحتاجين إزاء ما نوفرلأنفسنا المستلزمات، ولننظر إلى من هو أدنى منا، كما نتمنى مواقع من هم أعلى منّا.. وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:(من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم )(13). فإن كنا عاجزين عن تقديم خدمات إلى الناس، فلنهتم بهم ونتعاطف معهم على الأقل، لأن ذلك ينتهي إلى أن ننصفهم من أنفسنا من جهة، وإلى أن اللَّه سبحانه وتعالى حينما يرانا نهتم بالآخرين، فإنه سينزل علينا رزقه الكريم ويفتح علينا أبواب رحمته إن شاء اللَّه تعالى.

التوكّل وقود الحضارة

هناك نظريات عديدة تقول: إنّ أمام المجتمعات دورات عديدة يجب أن تمرّ بها قبل أن تصل إلى ذروة الحضارة، فكما أن الإنسان لابد أن يمرّ بدورات حتى يصل إلى مرحلة الكمال في النموّ، فكذلك الحال بالنسبة إلى المجتمعات فإنها تعيش هي الأخرى ضمن دورات حياتية؛ فتترعرع كما يترعرع الأطفال ثم تنمو حتى تدخل مرحلة المراهقة، ثم تنمو أكثرلتعلن عن حضارتها، ثم لا تلبث بعد ذلك أن تعيش في حالة الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم لتزول بعد ذلك وتنهار.

وهناك البعض يرى أن تحديات معيّنة تعيشها الشعوب، تبعث فيها الحضارة، وإذا كانت هذه التحديات عنيفة غايةالعنف فإنها تتسبب في إلحاق الهزيمة النفسية بهذه الشعوب، وخصوصاً إذا كانت ضعيفة خائرة الهمّة.

أما إذا كانت التحديات بقدر همة الإنسان فلا هي ضعيفة، ولا قوية، فحينئذ ستبدأ الحضارة. والقائلون بهذا الرأي يضربون أمثلة تاريخية عديدة على نظريّتهم هذه.

فيتامين الحضارة

وفي الفترة الأخيرة اكتشف بعض العلماء والباحثين ما أطلقوا عليه اسم (فيروس التقدم )، وأنا شخصياً لايروق لي هذا المصطلح كثيراً، لإن كلمة (الفيروس ) تستخدم عادة في الجوانب السلبية، فهي كلمة تسبب في أذهاننا تداعياً إلى حكمة المرض، ولذلك فإني سأحاول أن أغيّر هذا المصطلح لاستعيض عنه بمصطلح (فيتامين التطوّر أو الحضارة).

إنّ أولئك العلماء والباحثين يقولون: إنهم عندما درسوا تاريخ اليونانيين القدماء رأوا أن ثقافتهم كانت في بداية نهضتهم مليئة بهذا الفيتامين، ثم قلّت نسبة هذا الفيتامين بالتدرج مع هبوط مستوى الحضارة في اليونان حتى انعدم تقريباً من ثقافتهم.

ثم إن هؤلاء الباحثين أخضعوا بعض العيّنات التاريخية الأخرى للدراسة، فبحثوا في تاريخ الحضارة البريطانية أوالمجتمع البريطاني خلال أربعمائة عام، ثم بدؤوا يقيسون نسبة وجود هذا الفيتامين، فلاحظوا أنه كلّما كانت نسبته تزدادفي أفكار وثقافة وأدبيّات المجتمع البريطاني، فإن ازدهاراً في الاقتصاد كان يحدث؛ والعكس صحيح.

ثم بحث هؤلاء العلماء في مختلف الحضارات البشرية، حتى أنهم درسوا حياة بعض الشعوب البطيئة، فقد كانت هناك -على سبيل المثال- قبيلتان؛ إحداهما متحفزة دوماً للتقدم، ولديها من القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية ماهو أفضل من القبيلة الأخرى، وعندما بحثوا في ثقافة القبيلة الأولى وجدوها غنية بفيتامين الحضارة، في حين أن نسبةهذا الفيتامين كانت معدومة تقريباً لدى ثقافة وآداب القبيلة الثانية.

على أن الباحثين لم يكتفوا عند هذا الحدّ من الدراسات والتجارب، فاختاروا عيّنة من الأشخاص من مدينة هندّيةتسمى (كاكينادا)، وأجروا على هؤلاء الأشخاص تجارب عملية، فزوّدهم بهذا الفيتامين ضمن دورةمركّزة خلال عشرة أيام، ثم درسوا حياتهم بعد سنتين، فلاحظوا أن تطوّراً حضارياً كبيراً حدث في حياتهم بسبب وجود هذا الفيتامين.

حقيقة هذا الفيتامين ومواصفاته

ولعل سائلاً يسأل، ترى ما هي حقيقة هذا الفيتامين، وما هي مواصفاته؟

ولم يكن هذا الفيتامين إلا الشعور بالحاجة إلى النشاط، والتحرّك، والانبعاث، فهذا الشعور عندما يكون سائداً في آداب بلد من البلدان، أو شعب من الشعوب فإننا سنرى فيه حالة من النهضة المتصاعدة.

وفي المقابل؛ فإن هناك ظاهرة أخرى تمثل السبب الرئيسي في التخلّف والجهل ألا وهي ظاهرة التردّد، والإحجام،وعدم المبادرة؛ فهناك شعوب تقول عندما تريد أن تقوم على عمل ما: (دعنا ننتظر ونبحث ونستسف)ر كماكان الحال بالنسبة إلى بني إسرائيل بعد أن أمرهم اللَّه جل وعلا أن يقتلوا أنفسهم بعد حادثة العجل المعروفة لكي يطهّروا أنفسهم، فما كان منهم إلا أن نفذوا الأمر الإلهي، وبعد فترة خرج بنو إسرائيل من التيه، وسكنوا منطقة أخرى بعد أن فقدوا تلك الحالة من الحيوية، المبادرة إلى تنفيذ الأوامر، فوصلوا إلى حالة جديدة، هي حالة التساؤلات والاستفهامات عندما أمرهم اللَّه سبحانه أن يذبحوا بقرة، فما كان منهم إلا أن انهالوا على نبيهم موسى عليه السلام السيل من الأسئلة والاستفسارات العديمة الجدوى حول نوع تلك البقرة، ولونها، وعمرها...

وللأسف؛ فإن أكثر الناس يعيشون اليوم حالة أصحاب البقرة، فبمجرد أن يطلب منهم القائد أن يفعلوا شيئاً فإنهم يبدؤون بطرح الأسئلة والاستفسارات عليه حول فلسفة هذا الشي ء، والحكمة من ورائها ، وما إلى ذلك، فتراهم يفتقرون إلى (الفيتامين ) الذي سبقت الإشارة إليه.

مصدر فيتامين التقدّم

وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال المهم التالي: ما هو مصدر هذا الفيتامين، وأين نجده؟ ولماذا نجد أنّ أمة من الأمم تحتوي على كميّة هائلة منه وتبدأ على ضوء ذلك انطلاقتها الحضارية في حين نجد أن أمة أخرى تفتقر إليه فتبقى متخلفة؟

لا يغيب عنا أن الحضارة هي - أساساً- فطرة الإنسان؛ أي أن فطرة الإنسان الأولية تدعوه إلى التحرك، والنهضة،والانبعاث، والتكامل؛ في حين أن الأغلال الاجتماعية، والأصر الثقافية، والمثبطات والمعوّقات هي التي تجعل الإنسان يخلد إلى الأرض، وإلا فإن الإنسان هو في الأصل كائن متحضّر. وهنا قد ينبري إلى الأذهان السؤال التالي: أين الإسلام من هذا (الفيتامين )، ولماذا يوجد في أمة من الأمم لفترة من الفترات ثم ينعدم في فترة أخرى؟؟

ومن أجل أن نجيب إجابة مفصلة عن هذه التساؤلات، فإننا نذكر النقاط التالية:

1/ إن الفكرة الحضارية المتمثلة في شعار (دعنا نبدأ) إنما تنبعث من ضمير الإنسان بسبب الثقافة الدينية.

2/ إن هذه الفكرة قد تنبعث في ضمير شعب عبر انتقال الثقافة الدينية إليه؛ أي قد يوجد شعب يتحضّر بالثقافة الدينية،كالمسلمين الذين نقلوا هذه الفكرة إلى الأوروبيين بواسطة الأندلس، فأخذ الأوربيون هذه الفكرة، وبدؤوا حضارتهم بها.

3/ قد تواجه أمة من الأمم التحديات، ولكي تعرف كيف تتعامل مع هذه التحديات فإنها تتوصل بالثقافات الحضارية الأصيلة، وتتمسك بها وتبدأ حضارتها على هذا الأساس، وأنا - هنا - أوافق (آرنولد تويمبى ) في بعض أبعاد نظريته ليس كلّها.

4/ والأهم من كل ما سبق أن الإنسان عندما يحمل قضية، وهدفاً، ورسالة، فإن فكره وثقافته سيفرزان بشكل طبيعي فكرة (دعنا نبدأ). فالإنسان إنما يبقى ويحيى وينمو بقضيته، أما الذي لا قضية له فإنه يعيش في الفراغ بدون أي أساس يستند إليه، ولذلك نجد أن أصحاب المبادئ والثوريين هم أكثر نشاطاً من غيرهم، لأنهم أكثر تمسّكاً بفكرة(دعنا نبدأ العمل ).

5/ فكرة التوكّل على اللَّه جل وعلا، فالتطلّع والهمة والطموح، هذه الشعلة الأبدية المتوقدة في ضمير الإنسان، والتي تدعوه أبداً إلى التسامي والتكامل والعروج هي غريزة فطرية موجودة في داخل كل إنسان.

وفي المقابل؛ فإن هناك فيروساً مضاداً للتطلع والأمل والطموح ألا وهو اليأس. فهناك من الناس من يمتلكون التطلع ولكنّ حاجز اليأس بحجبهم في نفس الوقت، علماً أن اليأس هو من الأسلحة الفاعلة الفتاكة التي يستخدمها الشيطان في قتل روح الحياة والنشاط في الإنسان.

التوكّل سبيل مقاومة اليأس

وبناءً على ذلك؛ فإن حاجز اليأس هو الذي يحول دون أن نحقق تطلّعاتنا، فكيف نستطيع أن نقاوم حاجز اليأس هذا؟

الجواب: إن السلاح الفاعل الذي نستطيع بواسطته القضاء على اليأس هو التوكّل على اللَّه تبارك وتعالى، ولذلك؛ فإن التوكل يتمثل أعظم فضيلة من الممكن أن يمتلكها الإنسان.

وإليك نموذجاً بارزاً في باب التوكل على اللَّه عز وجل، ذكره اللَّه تعالى لنا في سورة الأنفال، إذ قال: (يَسْاَلُونَكَ عَنِ الاَنْفَالِ قُلِ الاَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )(الأنفال/2-1).

فالقرآن الكريم يصرّح في الآيات السابقة بأن من صفات المؤمنين المتوكلين أنهم إذا تليت عليهم آيات اللَّه زادتهم خشوعاً ، ثم يذكر بعد ذلك قصة تاريخية هي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لقتال المشركين، ولكن عناصر من المسلمين عارضت هذا الخروج واعتقدوا أنه سيؤدي إلى حدوث مذبحة، أوحرب إبادة، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن استشارأصحابه، فأشار عليه بعضهم بعدم الخروج لعدم امتلاكهم للإمكانيات اللازمة للقتال، ولكن الأمر الإلهي نزل صريحاًبضرورة الخروج لمحاربة الكفار والمشركين، فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن خرج متوكلاً على اللَّه جل وعلا، وبالفعل فقدحقق الانتصار في معركة بدر.

والقرآن الكريم لا يكتفي بنقل هذا المقطع؛ بل يبين لنا جانباً آخر من التوكل. فعندما خرج المسلمون قبل معركة بدر،فإنهم كانوا يستهدفون السيطرة على قافلة تجارية، وكانوا يمنون أنفسهم بالحصول على الغنائم. ولكن اللَّه سبحانه ابتلاهم وجعلهم يواجهون جيشاً قوامه ألف مسلح جاؤوا للدفاع عن القافلة التجارية وعن مصالح قريش، وهذا مايشير إليه قوله عز من قائل: (وإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ اَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ اَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ )(الأنفال/7).

فقد أنبأهم اللَّه تعالى بأنهم سيحصلون على شي ءٍ، في حين أنهم فكروا بأنهم سيحصلون على الغنائم، وقد كانوا مؤمنين بأن اللَّه قد صدقهم وعده، ولكنهم كانوا يرغبون في الحصول على غنائم سائغة يحصلون عليهم من القافلة التجارية، ولوكانوا حصلوا بالفعل على القافلة التجارية لما استطاعوا أن يحققوا نصراً خدم الرسالة الإسلامية كل الخدمة وأعظمها،ولكن اللَّه تعالى ساقهم في اتجاه استطاعوا فيه أن يكسروا شوكة الجاهلية ، فانتصر الإسلام في بدر، وانتهت المعركة في يوم بدر لمصلحة المسلمين إلى الأبد. وبعبارة أخرى؛ فإن الخالق تعالى أراد لهم أن يحققوا انتصاراً حضارياً، في حين أنهم كانوا يريدون أن يحصلوا على الغنائم، والمتع الزائلة.

ترى لماذا ابتلى اللَّه تقدست أسماؤه المسلمين الأوائل بهذا البلاء؟

الجواب نجده في الآيات السابقة نفسها حيث يقول عز شأنه: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ )(الأنفال/8)، فإذا ما حصل الإنسان على مغنم بسهولة فإن إيمانه وتوكله لا يمكن أن يزداد، ولكن اللَّه جل وعلا كان يريد لهم أن يواجهوا قوة عسكرية هائلة لينتصروا عليها فيتضاعف توكلهم على الخالق، وترتفع ثقتهم به. وبالفعل فإن المسلمين حصلوا على معنويات عالية في بدر أكثر مما حصلوا على مغانم.

التوكل في الأحاديث

وعلى هذا الأساس؛ فإننا بحاجة إلى روح التوكل، لأنها أعظم من المكاسب المادية ومن الأمور التافهة الأخرى،والإسلام يؤكد كثيراً على موضوع التوكل، والأحاديث في هذا المجال غزيرة، نذكر منها على سبيل المثال ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام إذ قال: (إن الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بمواضع التوكل أوطنا)(14).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أيما عبد أقبل قِبَلَ ما يحبُّ اللَّه عز وجل أقبل اللَّه قِبَل ما يحبُّ، ومن اعتصم باللَّه عصمه اللَّه، ومن أقْبَل اللَّه قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلةنزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة كان في حزب اللَّه بالتقوى من كل بليّة، أليس اللَّه عز وجل يقول:(إن المتقين في مقام أمين ))(15).

وقال عليه السلام: (من أُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً؛ من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية)(16).

وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قرأ في بعض الكتب أن اللَّه تبارك وتعالى يقول: (وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس أمّل غيري باليأس، ولأكسونّه ثوب المذلةعند الناس، ولأنحيّنه من قربي، ولأُبعدنه من وصلي. أيؤمّل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، ويرجوغيري، ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ فمن ذاالذي أمّلني بنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممّن لا يمّل من تسبيحي وأمرتهم أن لا يغلقواالأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحدغيري إلاّ من بعد أذني، فمالي أراه لاهياً عني؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني ردّه، وسأل غيري. أفيراني أبدأ بالعطايا قبل المسألة، ثم أُسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أو ليس الجود والكرم لي، أوليس العفو والرحمة بيدي، أولست محل الآمال فمن يقطعها دوني، أفلايخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟؟ فلو أن أهل سماواتي ، وأهل أرضي أملوا جميعاً ثم أعطيت كل واحدمنهم مثل ما أمل الجميع، ما نقص من ملكي مثل عضو ذرّة ، وكيف ينتقص ملك أنا قيّمه؟! فيا بؤساًللقانطين من رحمتي، ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني )(17).

التحدي مصنع الحضارة

ربما يسأل سائل: لماذا أُوتينا السمع والبصر وسائر الحواس؟ وهنا يأتي الجواب مباشرة: لكي نكيّف حياتنا مع الطبيعةالمحيطة بنا؛ فلولا البصر لتعثّر الإنسان في كل يوم ألف عثرة وعثرة، ولسقط في كل حفرة، وارتطم بكل جدار، ولولاالسمع لما استطاع الإنسان أن يفهم ما يريده الآخرون منه، وأما حاسة الذوق فمن خلالها نتذوق الأشياء، ونميز بين ماهو لذيذ وغيره، وبين الضار والنافع. وكذلك الحال بالنسبة إلى الخلايا الحسيّة في الجلد؛ فهي التي تشعرنا بالبرد والحر،ولولاها لمات الإنسان لأنه في هذه الحالة سوف لا يشعر بهما، وبالتالي فإنه سوف لا يبادر إلى التوقّي منهما.


/ 12