حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



أصالة الحضارة

عندما اجتمع الكفار واستشكلوا على أهلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة متذرعين بأنه يتيم الأبوين، ولا يمتلك من الأموال والثروة ما يؤهّله لقيادة العرب، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى آيات بينات تؤكد على أن الرب الجليل هو مقسم الرزق بين العباد، وأن الثروة ليست مقياساً للحق والباطل أو المجد والضعة، وبالتالي فإنه لا يحق لأي إنسان أن يقرر على من يجب أن تهبط الرسالة، لأن الرسالة أعظم مجد من الممكن أن يحظى به الإنسان، وهي عطاء اللَّه تبارك وتعالى لخيرة عباده.

لقد قال الكفار في هذا المجال كما جاء في القرآن الكريم: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )(الزخرف/31)؛ أي على رجل عظيم من مكة أو الطائف، فأجابهم اللَّه تعالى قائلاً: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاًسُخْرِيّاً)(الزخرف/ 32).

التفاوت ليس مقياس الأفضلية

إن الدرجات التي يتفاوت بها الناس ما بين فقير وذي ثروة طائلة، وأسير ومأمور، وصحيح الجسم وسقيم... كل ذلك ليس دليلاً على أن اللَّه سبحانه وتعالى يفضلّ بعض الناس على بعض دون سبب، بل هي تدبيرات إلهية لتنظيم حياةالبشر. فاللَّه تبارك وتعالى وزّع المعادن فوق كوكبنا بحيث تمتلك بعض المناطق معادن لا توجد في المناطق الأخرى،والحكمة في ذلك أن يحتاج الناس إلى بعضهم البعض، وأن تتشابك مصالحهم، ويتعاونوا في الحياة الدنيا.

ومع ذلك فإن رحمة اللَّه، ورسالاته وقيمه خير من حطام الدنيا الذي يتكالب عليه أبناء البشر، كما يشير إلى ذلك قوله عز من قائل: (وَلَوْلآ أَن يَكُونَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَايَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرراً عَلَيْهَا يتَّكِئُونَ )(الزخرف/34-33).

فلولا أن اللَّه يعلم أن حيازة الكفّار لمباهج الدنيا وزخرفها تؤثر في الناس، وتجمعهم في ملّة الكفر، لخصّهم بهذه النعم الزائلة، كما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا عنده (عند اللَّه ) تعدل جناح بعوضة لماسقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء)(26).

التطوّر لا يعني تفوق المذهب

إن تلك الآيات والأحاديث تؤكد قضية هامة ترتبط بالتقدم والتخلف، فهناك الكثير من الناس عندما يرون التقدم التكنولوجي والعملي، وتكدّس الثروات، وتراكم الإمكانات في الغرب ينبهرون وينهارون أمامها، فيقولون مستندين إلى تصوّراتهم الخاطئة هذه: مادام اللَّه قد أعطى اليابانيين - مثلاً - هذه الأدمغة الممتازة التي صنعوا بها المخترعات الإلكترونية، ومادام الأمريكيون يمتلكون قوّة هائلة، ويبعثون بمركباتهم الفضائية إلى الكواكب البعيدة، ومادام الروس يتمتعون بقوة عسكرية هائلة يستطيعون بها تدمير الكوكب الذي نعيش عليه... فإن دينهم لابد أن يكون هو الأفضل،وأخلاقياتهم وسلوكياتهم هي المثلى، وعليه؛ فلا مناص لنا من أن نخضع لمناهجهم ونتبعها!

إن هؤلاء يتجاهلون التشريعات الإلهية التي تقول أن التقدم المادي ليس دليلاً على سلامة المذهب والمنهج لسببين:

التقدم ليس محكوماً بالإرادة دائماً

1/ إن تقدم أمة ما ليس محكوماً بإرادتها فحسب؛ فالهنود الحمر - مثلاً - لو لم يقعوا لسبب من الأسباب فريسةلمجموعة من العوامل الطبيعية والحضارية المختلفة لكانوا أكثر تقدماً من الشعب الأمريكي، إلا أن الأخير وبسبب توفرالعوامل الخارجية والذاتية فيه، وبسبب هجرة العقول إلى تلك المنطقة، وانعدام الضمير لدى المهاجرين الأوائل إلى أميركا استطاع أن يقطع أشواطاً طويلة من التقدم على حساب تخلف السكان الأصليين، ولو كانت تلك العوامل قدتوفرت لهؤلاء السكان لكان التقدم من نصيبهم.

وقد قرر علماء الحضارات أن شعوباً كانت أكثر ذكاءً، وهمّة، وسعياً، وخلقاً فاضلاً، وتعاوناً فيما بينها، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تتقدم لعدم اكتمال أسباب وعوامل الحضارة عندها مثل انعدام الخصوبة في الأرض وما إلى ذلك، في حين توفّرت عوامل التقدم لشعوب أخرى.

فالإنسان الذي يولد في بلد نفطي تُهيّأ له أسباب المعيشة الرغيدة، ويذرع بطائرته الخاصة عواصم العالم، ثم ينسى رغم كل ذلك أن اللَّه جل جلاله هو الذي فجّر في أرضه الآبار البترولية، فإنه لا يؤدي في الحقيقة واجب شكر هذه النعمة التي تستلزم التقدم في سائر المجالات، واستثمارها في تقدم العالم الإسلامي.

التقدم ليس خيراً دائماً

2/ ليس من الضروري أن يكون تقدم مجموعة ما خيراً لها، فقدرتها على الوصول إلى القمر، وتمكنها من صنع أكثرالأجهزة تعقيداً، فكل ذلك قد لا يكون في صالحها بقدر ما هو ضرر لها. فقد تكون هذه الوسائل سبباً لدمار الإنسان وضياعه، ودافعاً لابتعاده عن قيمه وذاته، وبالتالي قد تكون معبراً لفساد ضميره، فما قيمة إنسان بلا إنسانية؟ إن من ينسى اللَّه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه فيصبح كالأنعام؛ لا يبحث في حياته إلا عن سراب وخيالات حتى تنتهي فترةبقائه فيعود إلى بارئه صفر اليدين، كما يؤكد على ذلك تعالى في قوله: (نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )(الحشر/19).

وعندما ينبهر الإنسان بأصحاب الثروات، والمسيطرين على الإمكانيات المادية، ويركز جهده على الدنيا وما فيها،فحينئذ تتهيأ نفسه لضلالات الشيطان كما يقول عز من قائل: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَلَهُ قَرِينٌ )(الزخرف/36). وكلمة (يعشو) تعني تعامي الإنسان، فمع أن عينه سليمة إلا أنه يتعامى بمحض إرادته عن الرؤية. وإذا نسي القلب ذكر الرب، وغفل عن المنعم، وابتعد عن خلقه، فحينئذ ستكون نفسه مسرحاًً وميداناً لعمل الشيطان الذي يكون له قريناً في الدنيا والآخرة.

وبمعنى آخر؛ فإن أراد الإنسان الابتعاد عن آثار الإعلام والدعايات التضليلية، فلابد أن يكون قلبه متصلاً بذكر اللَّه أبداً.

لنحذر التضليل الإعلامي

ومن المعلوم أننا الآن خاضعون لموجة هائلة من التضليل الإعلامي، فينبغي أن ننتبه لذلك حتى لا نقع ضحية الإعلام الاستكباري، وذلك من خلال الاتصال قلبياً باللَّه تقدست أسماؤه دائماً وأبداً، لأن الشيطان محدق بالإنسان، فبمجرد أن يبتعد الأخير عن ذكر اللَّه ويغفل، فإن الوساوس الشيطانية سوف تقبل عليه، لتعشعش في نفسه، وتبعده عن سواءالسبيل، وتوحي له بأنه على طريق الهدى كما يقول تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ )(الزخرف/37).

وفي أيامنا هذه نستطيع أن ندرك خبث الإعلام وطبيعة مكائده، فقديماً كان أعداء الإسلام في الشرق والغرب يشيعون أن الإسلام ضعيف، وأنه قد انتهى، ولم يعد بإمكانه أن ينظم مجتمعاً ويدير شؤونه أو أن يخلق واقعاً سياسياً، ولا يمكن أن يكون فاعلاً في الساحة.

وعلى ضوء ذلك؛ برزت في المجتمع الإسلامي تكتلات شرقية وغربية؛ فالمتأثرون بالإعلام الشرقي كانوا يبثون ادعاءات تفيد أن الأفكار الإسلامية رجعية، وداعية إلى التخلّف، فدعوا الناس إلى الانتماء إلى أحزاب الكادحين والبروليتاريا لزعمهم أنها قادرة على ضمان التقدم للعالم!

أما المتأثرون بالإعلام الغربي؛ فكانوا يوحون بأن الأفكار الإسلامية إنما هي أفكار بالية قد أكل الدهر عليها وشرب،وإن كان لابد من الإسلام فلنأخذ منه بعض الشعائر والطقوس ثم نكون بعد ذلك أحراراً في اقتصادنا وتجارتنا لنكون في مستوى العصر!

إذا أردنا أن نتحوّل إلى مسلمين حقيقيين علينا أن ننبذ هذه الأطروحات والمشاريع التي تستهدف القضاء على الإسلام، وحسر تأثيره في النفوس، وأن نعود إلى ينابيعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة الشريفة، وبذلك نستطيع اللحاق بركب الحضارة، وإذ ذاك سنتحوّل إلى أمة فاعلة تمارس التأثير الأكبر في مسيرة الحضارة البشرية، كما كان ذلك ديدننا في العصور السالفة عندما كانت الشريعة الإسلامية في جانبيها العقيدي والتشريعي هي التي تدفع المسلمين إلى أداء دورهم في الحياة. وبالفعل فقد أدوا دورهم كأحسن ما يكون الأداء، وإن المطلوب منّا الآن أن نحيي هذا الدور،وأن نعود خير أمة أخرجت إلى الناس.

الفصل الثالث

في البناء

الحضاري

عوامل النهوض الحضاري

إنّ التدبّر في حياة الشعوب يعطينا المزيد من القدرة على صنع مستقبلنا، وفهم واقعنا، والعوامل المسهمة في ضعفنا،وتلك المساعدة على نهوضنا. ومن جملة وقائع التأريخ المهمة نهوض الحضارة الإسلامية، هذا الحدث الذي اريد أن استنبط منه ثلاث قيم صعدت من خلالها الحضارة الإسلامية، وعليها قامت، وبسبب انعدامها هوت وتلاشت، وهذه القيم هي:

1/ القيم الاخلاقية والروحيّة

إنّ هذه الحضارة كانت مبنية على أساس القيم الأخلاقية والروحيّة، لا على المقاييس المادية. فكانت قيمة (عبادةاللَّه ) هي السائدة في هذه الحضارة، لا قيمة الخضوع للجبت والطاغوت؛ وعلى قيمة الأخوة وانعدام التفاضل إلاّبالتقوى، لا على العنصريات والعصبيات. فلقد قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أناساً ينتمون إلى قبائل مختلفة في شبه الجزيرة العربية،فكان القرشيّ إلى جانب الخزرجي، وهذا إلى جانب الأوسيّ وهكذا.. فكانت الافضليّات والأولويات العشائريةمعدومة، بل والأكثر من ذلك إنّ مجموعات أخرى كانت تجاهد جنباً إلى جنب مع العرب ممن تنتمي إلى عناصر أخرى كاليهود الذين منّ اللَّه تعالى عليهم بالإسلام؛ والروم، والفرس بعد ذلك.

وهكذا فإنّ الجميع كانوا يُحكمون بعلاقة واحدة، هي علاقة الإيمان وتوحيد اللَّه عز وجل، لا علاقة الدم أو اللغة أوالأرض وما إلى ذلك من علائق طارئة، ولذلك فإنّ العمل الصالح كان ينمو في هذا المجتمع. في حين إذا كانت ورائي عشيرة تساعدني وتحميني، سواء كنت خاطئاً أم على حقّ، أو كنت عالماً أم جاهلاً، وعادلاً أم ظالماً.. عندما أعرف أن العشيرة ستحميني في كلّ الأوقات والظروف، فحينئذ لا فرق بالنسبة لي بين أن أعمل صالحاً أو طالحاً، ولذلك فإنّ الإنسان سيختار في هذه الحالة العمل الطالح، والكسل والجهل، والتقاعس عن العمل الصالح على الهمّة والنشاط والعلم والفضيلة.. أمّا عندما أدرك أنّ عملي الصالح هو الذي سيحميني فحينئذ سأتحرّك باتجاه العلم، والعمل، والعدالة.. ومن الطبيعيّ إن هذا المجتمع الذي يتسابق فيه الناس نحو الفضيلة والعلم والعمل الصالح سينمو، ويتحرك.

2/ التكامل في الحقّ والعدالة

إنّ هذا المجتمع كان مجتمع التكامل في الحقّ والعدالة، قبل أن يكون مجتمع التنابز والتناقض. فقد كان الجميع فيه يشعرون أنّ تقدّم أيّ واحد منهم يعني تقدّمهم، ورفعة أيّ واحد منهم تعني رفعتهم. لذلك كانوا يعملون ليس من أجل أن يرتفعوإ؛77ّّفقط، وإنّما من أجل أن يرتفع الآخرون أيضاً. فكان هذا الشعور هو السائد الذي جعل هذا المجتمع مجتمعاً متكاملاًمنسجماً، يشعر الفرد فيه بانتمائه إلى المجتمع أكثر من شعوره بالأنانيّة والفرديّة.

3/ استبعاد المصالح الشخصية

كانت الدعوة في هذا المجتمع مقصورة على العمل الصالح، لا على المصالح والمنافع الشخصية. فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صبغة هذا المجتمع؛ فلم يكونوا يكتفون بأن يقولوا خيراً للآخرين، ويقدّمون النصائح اللفظية لهم، بل كانوا يدفعونهم إلى المعروف دفعاً، ويسحبونهم من طريق المنكر سحباً. فكانت الجادّة أمام هذا المجتمع مستقيمةواضحة يعرفها الجميع، ويتواصون بها.

هذه هي الميزات الثلاث في المجتمع الرساليّ، وهي - كما أتصوّر - ملازمة لكلّ مجتمع حين تقدّمه، ونهوضه؛ فلا تستطيع أيّ حضارة أن تنمو، وتتقدّم إلاّ بها، وفي حالة انعدامها (أي انعدام هذه المزايا) فانّ مصير هذه الحضارات سيؤول إلى الدمار والانقراض.

وقبل أن تدمّر هذه الحضارات يبعث إليها الرسل والأنبياء والمصلحون؛ أي عندما تجنح تلك المجتمعات نحو الانحدارليوقفوا هذا التدهور والهبوط سواء نجحوا في هذه المهمّة أم لم ينجحوا فيها. ولذلك فانّ القرآن الكريم يركّز على هذه المراحل الزمنيّة الهامّة والخطيرة، ويطلب منّا أن نعتبر بها. فالقرآن الكريم عندما يتحدّث عن مجتمع قوم نوح فانّه لايحدّثنا عن مرحلة تقدّم هذا المجتمع، بل عن مرحلة تدهوره وطغيانه، وهكذا الحال بالنسبة إلى قوم لوط، وعاد، وثمود،ومدين...

حضارة سادت ثمّ بادت

سنتحدّث عن مجتمع مدين الذي يقول عنه القرآن الكريم: (وإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً)(الأعراف/85).وكانت الكلمة الأولى التي وجّهها هذا النبيّ إلى قومه أن قال لهم: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )(الاعراف/85). وهذه الكلمة تعني إزالة القيم الاسطوريّة الجاهليّة المتخلّفة، واستبدالها بقيمة واحدةهي قيمة (عبادة اللَّه )، والاتّصال به وحده. فنحن عندما نعبد اللَّه تعالى فانّنا سوف نعزف عن عبادة القيم الأخرى من مثل الشرف القبليّ، والعنصريّة، والأرض، والدم، والقومية.. من المفترض بنا أن ننبذ هذه الأساطيروالأصنام والأسماء والخرافات، لنعبد اللَّه وحده.

ونلاحظ هنا أن شعيباًعليه السلام يذكّر قومه بالميزة الأولى التي تحدّثنا عنها كواحدة من مزايا مجتمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان الأنبياء جميعاً يبدؤون دعوتهم بهذه الكلمة التي هي الأساس لتغيير القيم الجاهليّة. كما كان الأنبياءعليهم السلام يستهدفون أوّلاًوقبل كل شي ء إزالة السلطة السياسيّة الفاسدة من المجتمع، وإقامة سلطة سياسية إلهية محلّها، ولذلك يقول تعالى بعدذلك: (مَالَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ).

وبعد أن طالب النبي شعيب عليه السلام بنسف السلطة السياسيّة، بدء يشير إلى النظام الاقتصادي بما يرتبط بالميزة الثانية في المجتمع الحضاري الرسالي، ألا وهي ميزة (التكامل ) التي تتطلّب من كلّ واحد من أفراد المجتمع الرساليّ دفع الآخرين إلى النهوض، والتقدّم، والرفعة، والعزّة.. وعلى ضوء ذلك قال النبي شعيب عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف/85). وهذه الأمورالثلاثة تدلّ كلّها على التكامل.

وأمّا بالنسبة إلى أمر (الإصلاح ) فإنّ هناك علاقة متينة بين الإنسان والإنسان، وبينه وبين الطبيعة، ألا وهي علاقة الإصلاح. فالمجتمع الرساليّ هو المجتمع الذي تكون فيه علاقته ببعض، وعلاقته بالطبيعة هي علاقة التربيةوالتنمية والتقدّم والنهوض.. في حين أنّ علاقة المجتمع المتخلّف تكون علاقة الإفساد والاستهلاك والإسراف والترف.

الإصلاح ميزة المجتمع الرسالي

وهكذا فإنّ هذه الميزة (الإصلاح ) هي ميزة المجتمعات الرساليّة، أمّا الإفساد فيمثّل ميزة المجتمعات الجاهلية المتخلّفة، وقد قال النبي شعيب عليه السلام لقومه: (فَاَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ )؛ أي ليحاول كلّ واحد منكم أداء حقوق الآخرين، بل ليحاول إعطاءهم أكثر من حقّهم.

ثم يقول بعد ذلك: (وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ )؛ أي ليعترف كلّ واحد منكم بحقوق الآخرين، ومزاياهم،وليحاول الاستفادة من هذه المزايا من خلال الاعتراف بهم. فهذا ما يجعل المجتمع يتكامل ويتعاون ويتبادل المنفعة.وقال أيضاً: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)؛ أي لتكن علاقتك بالآخرين، وعلاقة الآخرين بك علاقة التكامل.

ويا ليت شعوبنا الإسلامية تعي المداليل العظيمة لهذه الآية: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)، إذن لعرفت أن هذا الاستهلاك المستمر للموارد الطبيعية، واستهلاك الصناعات والمنتوجات الأجنبيّة، إنّما هو مسامير في نعش هذه الأمة. فالأمة الرساليّة يجب أن تنتج، لا أن تستهلك، وأن لا تُستثمر؛ بل أن تتكامل مع الآخرين. فيجب أن لا يكون همّ الواحد منّا أن يركب سيارة حديثة مستوردة من الخارج وما شاكل ذلك، بل يجب أن تكون جهودنامنصبّة على الصنع لا الاستهلاك، والابتكار لا التقليد..

إنّ هذه الميزة (ميزة الإصلاح ) كانت موجودة في مجتمع النبي شعيب عليه السلام، ولكنّها انتهت وتلاشت، ولذلك فإنّ شعيباًعليه السلام قام بتذكيرهم بهذه الميزة.

أمّا الميزة الثالثة التي كان يتمتّع بها مجتمع النبي شعيب عليه السلام ثم فقدها، فهي ميزة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث انعكست هذه الميزة في قوم النبي شعيب؛ فأخذوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، بل ويضعون العقبات أمام الذين يريدون أن يعملوا المعروف ويأمروا به.

وللأسف فإن مجتمعاتنا الإسلامية انتهت إلى نفس هذا المصير، فالمصلحون في هذا المجتمعات مطاردون وكذلك الأحراروالمفكّرون، أمّا المفسدون الضالّون فهم الذين أمسكوا بزمام الأمور في هذه المجتمعات، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحالة السلبيّة الشّاذة بقوله على لسان النبي شعيب عليه السلام: (وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُالْمُفْسِدِينَ )(الأعراف/86).

انّ القرآن الكريم يصرّح في معرض حديثه عن مجتمع النبي شعيب عليه السلام؛ أنّ هذا المجتمع بلغ مرحلة من الفساد والكفردفعته إلى أن يصدّ ويعارض من يريد أن يشيع الخير والمعروف والفضيلة. وهذه هي نفس الحالة التي تسود مجتمعاتنا؛فكلّ الطرق مسدودة على المصلحين، فاذا أرادوا أن يصدروا صحيفة تشيع القيم والأخلاق الفاضلة منعوهم، كما وأنّهم لا يفسحون لهم المجال لكي يتحدّثوا في وسائل الاعلام الأخرى، في حين أن هذه الوسائل هي ملكه لا ملك أولئك الفاسدين، وإذا أراد الواحد من هؤلاء المصلحين أن يخطب في الملأ العام منعوه كذلك، وإذا أراد أن يصدر نشرة اعتقلوه وقدّموه إلى المحاكمة... وباختصار فانّهم لا يفسحون المجال، ويسدّون جميع سبل انتشار المعروف، والخير.

ومن الطبيعي إن مثل هذا المجتمع هو مجتمع فاسد، وأنّ عاقبته الدمار، كما كانت عاقبة قوم النبي شعيب، هذه العاقبة التي يحدّثنا القرآن الكريم عنها قائلاً: (فَاَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَاَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَن لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ )(الأعراف/92-91).

فلنعد إلى هذه القيم، ولنربّها في أنفسنا، ونربّي الآخرين عليها، ولنحاول تكريس تلك المزايا الثلاث في نفوسنا لكي نستطيع بناء مجتمع حضاري بإذن اللَّه.

كيف نخلق البيئة الحضارية؟

هناك ظاهرة برزت في عالمنا الإسلامي في العقود الأخيرة، ألا وهي ظاهرة هجرة الأدمغة من البلدان الإسلامية إلى البلدان الأكثر تطوّراً؛ فالإحصائيات تشير في هذا المجال إلى أن عدد الخبراء في مختلف الحقول الذين هاجروا من البلدان الإسلامية إلى الغرب قد بلغ خلال عقد الثمانينات فقط مليوني خبير، في حين بلغت خسائر الدول النامية بسبب نزيف الأدمغة هذا ما يقرب من ستين ألف مليون دولار خلال عام واحد.

سبب ظاهرة هجرة الأدمغة

إن بعض الخبراء يفسرون هذه الظاهرة بالشلل الإداري السائد في البلدان النامية؛ فالإنسان المتعلّم إنما بذل الجهودالمتواصلة في الدراسة والتخصّص بهدف إفادة بلده وشعبه، ولكنه عندما يتخرّج من الجامعة تراه يُزجّ في دائرة من الدوائر، ليجلس وراء المكتب، ويقبض مرتبه، ولكنه في قرارة نفسه يشعر بعدم الارتياح لعلمه بأنه لا يؤدّي خدمة في المجال الذي تخصّص فيه، ولأن التخلّف الإداري سدّ أبواب العمل في وجهه، أضف إلى ذلك أن وجود الديكتاتوريةوالاستبداد والضغط الفكري شأنه أن يمنع المتوقد الوهّاج من أن يقدّم خدمة إلى بلده، فتراه يعيش حالة من التناقض والانفصام، فيتمزّق داخلياً، ويحاول أن يستغّل أيّة فرصة للهروب والخلاص من بلده إلى البلدان المتقدمة، حيث لايتمتع بوضع معاشي أفضل فحسب، وإنما الفرص متاحة هناك أكثر لتقديم خدماته، والتعبير عن إرادته وأفكاره،وثقافته.

إن هذه الظاهرة هي -في الحقيقة- جزء من مشكلة أكبر، هي مشكلة عدم وجود بيئة للتطوّر في بلداننا.

وعلى سبيل المثال؛ فإن ما أنفقته البلدان العربية خلال عقد من الزمن على المشاريع الإنمائية يفوق أربعمائة وخمسين ألف مليون دولار، ولكن أياً من هذه البلدان لا يمكننا أن نصفه بأنه بلد متطوّر ومتقدم، وهذه مشكلة لا أطرحها أنافحسب، فهناك الكثير من الخبراء والباحثين مشغولون بمناقشة هذه المشكلة، للعثور على حلٍ لها، فتشكلت أثر ذلك الاجتماعات المكثفة، وعقدت المعاهدات الاستراتيجية للقضاء على هذه المشكلة.

والسبب - ببساطة - هو أن الجو العام السائد في البلدان الإسلامية غير مهيّأ للتنمية الاقتصادية، فعندما ندرس الثورةالصناعية في بريطانيا ونتساءل عن سبب وقوع هذه الثورة في بريطانيا وفي ذلك العصر بالذات، نجد أن الظروف كانت مهيأة لذلك. فنحن عندما نريد أن ننمّي الاقتصاد في بلد ما، فإننا بحاجة إلى وقود رخيص، وأيدٍ عاملة،واختصاصات في المجالات الفنية والتكنولوجية المختلفة، ونحن أيضاً بحاجة إلى الخبرة المكثفة، والنظام الإداري المتطور، والنظام التسويقي المناسب، والتمويل الكافي، وإلى العشرات من الظروف والعوامل المساعدة لكي ينمو البلد اقتصادياً، وإذإ؛؛؛ّّفقدنا شرطاً واحداً من تلك الشروط المتعددة، فإن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو، بل إن الاستثمار في مجال من المجالات سيعدُّ نوعاً من الحماقة والسفه.

وعلى سبيل المثال؛ ففي السودان بعض المناطق الزراعية النائية التي تسودها حالة الوفرة والغزارة في المحاصيل، ولكن هذه المحاصيل - على وفرتها - منعدمة القيمة بسبب انعدام الطرق التي توصل هذه المنطقة بغيرها من المناطق التي تعيش حالة المجاعة والعوز؛ وهكذا فإن الاستثمار في تلك المنطقة، يعدّ أمراً لا جدوى منه.

الحاجة إلى خلق البيئة المناسبة

وبناءً على ذلك؛ فإننا بحاجة إلى أن نرجع إلى قضية هامة في التطوير الحضاري لبلادنا، ألا وهي البيئة المناسبة للنموالحضاري في مختلف الأصعدة والمجالات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ أن نخلق في المجتمع الروح الإيجابية، ومن ثم إيجادحالة التعاون كما يقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة/2).

وهنا لابد من القول: إن هذه التجمعات المباركة المنتشرة هنا وهناك هي نواة الحضارة، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، ونشرع بالعمل الجدّي من خلال خلق الروح الجماعية في أنفسنا في جميع الأعمال التي نؤديها، فنبادر مثلاً إلى إنشاء لجانٍ ومؤسسات للتأليف، ومراكز دراسات وأبحاث، وتشكيل فرق العمل العلمي كأن تتخصص كل مجموعة في جانب مابعد أن تعيّن مشرفاً عليها ينسّق بينها وبين مجموعات العمل الأخرى.

وهذا النوع من العمل الجماعي نحن بحاجة إلى ممارسته في جميع المجالات العملية، كالفقه والتفسير والأصول، والفروع الأكاديمية في الجامعات.. ليتوسّع إلى أن يتحول إلى نواة للحضارة، وهذه الحضارة إنما تبدأ منّا، وتنطلق من نفوسنا،وتستند إلى مبادرتنا.

والإسلام يأمرنا بالتعاون، لأنّه أرضية الحضارة، فمن المستحيل إن يبني شخص من الأشخاص حضارة أو عملاً كبيراًبمفرده، وعلينا في هذا المجال أن نتأمل حياة الشعوب المتطوّرة التي استطاعت أن تحقق نجاحات باهرة في مجال التقدم التكنولوجي، لكي نستفيد من تجاربها وخبراتها في هذا المجال.

ففي فرنسا - على سبيل المثال- كانت واسطة النقل الوحيدة في باريس هي (المترو)، وكانت أكثر تطوّراً من وسائط النقل الأخرى، ومع ذلك فقد اجتمع الخبراء ليخترعوا واسطة نقل أخرى أكثر سرعة، فصنعوا(مترو) آخر تحت المترو السابق، وأطلقوا عليه اسم الخط السريع الذي يقطع المسافة بين أقصى نقطة في باريس إلى أقصى نقطة خلال دقائق معدودة.

السبيل إلى البيئة الحضارية

إن شعوب العالم المتقدمة تحسب حساب الثواني واللحظات، في حين إننا مازلنا نضيّع الساعات الطويلة في الأمورالتافهة التي لا جدوى منها، والسبب في ذلك أن بيئة التطوّر لدينا غير مهيأة، فكيف السبيل إلى تهيئة هذه البيئة، وكيف نصنع البيئة المتحفّزة، والإنسان الحضاري؟؟؟

إن علينا - من أجل الوصول إلى هذا الهدف - أن لا يمنع بعضنا البعض الآخر من التحرّك السريع، وبذل النشاط،والمبادرة إلى تبيّن مشاريع التطوير. فلابد من أن نتخذ مقياساً جديداً في تجمّعنا، وهو مقياس التحرّك، لكي نسرع جميعاً في تحرّكنا، فإذا ما أسرعنا معاً، وخلقنا بيئة وظروفاً مناسبة للسرعة فإن هذه السرعة سوف تنفعنا، لأن البيئةكلها غدت متلائمة مع السرعة.

وللأسف؛ فإن أكثر ظواهر تضييع الوقت السائدة بيننا سببها أن علاقاتنا الاجتماعية غير قائمة على الأسس الصحيحة،وفيما يلي سنذكر بعضاً من الظواهر السلبية التي يفرّط من خلالها أبناء مجتمعاتنا بأوقاتهم.

1/ مجالس البطالة التي تقام أساساً لتضييع الوقت، في حين أن الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسين عليه السلام يقول:(يابن آدم إنما أنت أيام كلما مضى يوم ذهب بعضك )(27)، فالوقت هو جزء من طبيعة الإنسان، وهوخطانا نحو الموت كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (نفس المرء خطاه إلى أجله )(28).

فلنلغِ -إذن- مجالس البطالة لأن هذه المجالس تسهم بشكل فاعل في تأخرنا عن مسيرة التقدم في الحياة، والتي ستكون سبب حسرتنا يوم القيامة، لأننا أهدرنا أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه، وإذا ما اضطررنا بسبب الظروف المختلفة أن نشترك في مثل هذه المجال فلنمرّ عليها مرّ الكرام، أو لنحاول أن نبدّل وجهة الحديث فيه من خلال طرح بعض الأفكاروالمقترحات، وإثارة جو النقاش في القضايا المهمة والساخنة والمصيرية...

2/ المواعيد غير المنتظمة والدقيقة، فإنها مضيعة للوقت، كأن تواعد أحد أصدقائك بأن تأتيه إلى المكان الفلاني في الساعة الخامسة - مثلاً- ثم يأتي صديقك حسب الموعد أما أنت فتسوّف في هذا الموعد فلا تأتي إلاّ في الساعةالسادسة، أو قد ينعكس الأمر، فيكون المتأخّر هو صديقك، وهذه الظاهرة في تضييع للوقت تنتهي بالإضرار بكلاالطرفين، في حين أن القرآن يؤكد علينا في أن نكون دقيقين ومنضبطين في مواعيدنا، وقد قال اللَّه سبحانه وتعالى بشأن النبي إسماعيل عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ)(مريم/54)، وعن سبب نزول هذه الآية يقول المفسرون: إن هذا النبي العظيم انتظر رجلاً سنة كاملة في نفس المكان الذي وعده فيه لكي يثبت للآخرين أهمية وقدسيّة الوعد الذي يقطعه الإنسان على نفسه بالنسبة إلى الآخرين، والمثل المعروف يقول في هذاالمجال: (وعد الحرّ دين ) أي إن الوعد هو بالنسبة إلى الإنسان الحر دين عليه أن يؤدّيه.

وبناءً على ذلك فإذا أردنا أن نصوغ المجتمع المستعد للتطور الحضاري وإذا أردنا أن نهيئ أرضية التقدم والتحضّر فيه،فلابد من الالتزم بجميع القيم والعناصر والتعاليم الحضارية التي ذكرتها نصوصنا ومصادرنا الدينية، والتي كان المسلمون الأوائل ملتزمين بها أشد الالتزام.

العمل طريقنا إلى بناء الحضارة

من السهل على الإنسان أن يحمل هدفاً ورسالة، أما أن يحقق ذلك الهدف وتلك الرسالة فإنه أمر شاق للغاية، كما يؤكدعلى ذلك الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن أمرنا لصعب مستصعب لا يحتمله إلاملك مقرب، أو نبيٌّ مرسل، أو مؤمن أمتحن اللَّه قلبه للإيمان )(29).

وفي هذا الصدد تثار أسئلة عديدة تفرض نفسها، وتطالب بالجواب عليها بإلحاح وهي:

1/ ما هي المسافة بين العمل ونجاحه؟

2/ ما هي المسافة بين الهدف والرسالة وتحقيقها؟

3/ كيف يمكن لنا أن نقطع هذه المسافة؟

الاعتقاد وحدة لا يكفي

وفي إطار الإجابة على التساؤلات السابقة نقول: إن الكثير منا يزعم أن مجرد اعتقاده بالحق وإيمانه بقيم الرسالة يكفيانه في تقديم إجابات مقنعة على تلك الأسئلة، غافلاً عن خطأ هذا التصوّر، فقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:(إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً)(30)؛ أي إن الإيمان الذي لا يتحول إلى عمل، والعقيدةالتي لا تفرز واقعاً حضارياً حياً، لا قيمة لهما.

ونحن الذين نؤمن بالإسلام؛ رغم أن إيماننا هذا هو إيمان لفظي، ولكننا عندما نراجع أوضاع المسلمين نجد أنهم يمثلون أكثر شعوب العالم تبعية وتمزقاً، وقد تفشى فيهم الفقر، والمرض، وسائر الظواهر الدالة على التخلف والانحطاط.فالإنسان، والقيم، والعدالة، والحرية، والكرامة.. كل ذلك بات من أرخص القضايا في البلدان الإسلامية.

أما في الأنحاء الأخرى من العالم؛ فإننا عندما نراهم يتحدثون عن الطفولة - مثلاً- وعن ضرورة الاهتمام بالطفل، نجدأن أطفالهم مكرّمون ومحترمون بالفعل، ففي بلدان العالم نجد منظمات عديدة تهتم بالطفولة، ومن أبرز هذه المنظمات منظمة (اليونيسيف ) التي تولت مؤتمراتها وبحوثها في العقود الأخيرة ضرورة الاهتمام بالطفل، حتى خصصواله عاماً هو عام الطفل.

انعدام الكرامة

إن كل ما حدث ويحدث في بلداننا من انتهاك لحقوق الإنسان، وهدر لكرامته، وعدم إعطائه مكانته الإنسانية اللائقةبه؛ كل ذلك سببه الكرامة التي نزعت عن الأمة، لأن الأمة المفرغة من القوة والوحدة والحرية.. التي لا وجود حضاري لها في هذا العالم، هذه الأمة لا كرامة لها. فالطفل، والرجل، والمرأة - والإنسان بصورة عامة - ليسوا مكرمين فيها،وبالتالي فإن الإنسان والقيم أصبحا رخيصين فيها، بل إن كل شي ء فيها أضحى تافهاً لا أهمية له.

ترى هل هدانا اللَّه عز وجل للدين الإسلامي لكي نكون على هذه الشاكلة، وهل يعني الإسلام التمرق والتخلّف والتبعية والكبت والدكتاتورية؟

كلاّ؛ ليس هذا هو الإسلام الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى لعبادة؛ فهو لا يطلب لنا سوى الرحمة والكرامة، وقد جاءبالإسلام ليسعدنا ويرحمنا ويكرمنا به، وليرزقنا الفلاح في الدارين بواسطته، وبناءً على ذلك فإن المسلمين هم المسؤولون - دون غيرهم - عما يعيشونه من تردد وتخلّف وتراجع.

أساس البناء الحضاري


/ 12