حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حضارة الإسلامیة، آفاق و تطلعات - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



إن الكسل لا يفرز إلا الفشل ، والأنانية لا تفرز غير التبعية، والجهل لا يولد سوى التخلف.. وهذه الصفات السلبيةوغيرها لا يمكن أن تعطينا سوى التمزق، والتباغض، فلا يسعها أن تفرز وحدة أو حضارة، أو تهب للمجتمع التقدم والرقي.

فالإنسان لا يستطيع تغيير وحلحلة الوضع المتخلّف الذي يعيشه إلا بسعيه ومثابرته، لا بالكسل والأنانية والجهل والجبن، كما يؤكد ربنا عز وجل ذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَابِأنفُسِهِمْ )(الرعد/11)، وقوله سبحانه: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى )(النجم/39).

فالدين الإسلامي يؤكد على أساس البناء الحضاري للأمة، والقرآن الكريم صريح في ذلك، فهو - على سبيل المثال-يقول بصراحة فيما يتعلق بالإيثار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، وفي قضية العلم يوجدفي القرآن ما يقرب من ثلاثمائة آية تتحدث حول العلم كقوله تعالى:(وَقُل رَبي زِدْني عِلما)(الكهف/20). وهكذا الحال بالنسبة إلى العمل الصالح، حيث يأمرنا القرآن الكريم في مائة وعشرين آية بضرورة القيام بالعمل الصالح وربطه بالإيمان:(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ). وكذلك يدفعنا هذاالكتاب العظيم إلى التوكل على اللَّه، كما يدفعنا إلى التسلح بسائر الصفات الحميدة والرفيعة كقوله:(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ).

وعلى هذا؛ فإننا لا نجد في القرآن ما يحثنا على الكسل ، والجبن، والتبعية، والعجز... بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، حيث تأمرنا آياته المباركة بالاستقلال، والطموح، والعمل الجاد، والتطلّع نحو الأفضل.

ولما كان القرآن داعياً إلى انتهاج النهج السليم، والاتصاف بالصفات المثلى بهذا الوضوح والصدق، بات حتماً على المسلمين - بعد اتضاح هذه الحقائق - أن يلقوا باللائمة على أنفسهم، وعلى الطريقة الخاطئة التي فهموا القرآن من خلالها؛ فهم لم يدركوا من القرآن ولم يفهموا منه إلا حروفاً ورسماً، فتركوا معانيه وحقائقه وبصائره؛ فهم لا يؤمنون إلابالقرآن الذي يتلى بصوت حسن جميل في المناسبات، ولعلّهم يفخرون عندما يقرؤون عشر آيات منه في كل صباح!

وهنا أتساءل: هل إننا نقرأ القرآن بصفته برنامج عمل يوميّ، وهل نقرأه من أجل تغيير أنفسنا، أم إننا نتلوه لكي نفسره حسب أهوائنا وآرائنا، فنعمد إلى الآية التي تحثنا على العطاء، وتدفعنا إلى العمل، فنحرّفها إلى آية للكسل والتقاعس؟

فالآية القرآنية التي تقول:(وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة/195)، تأمرنابالعطاء والإنفاق، ولكننا نجد البعض يفسرها بالجبن والتخاذل، ليبرر هزيمته، غافلاً عن أن القرآن لا يبرر الهزيمة، ولايدعو إليها، بل يأمرنا بالصمود والاستقامة والتحدي.

القرآن تعاليم حياتية

إن القرآن عبارة عن مجموعة تعاليم حياتية وقيم رفيعة؛ تعلّمنا كيفية العيش بكرامة وسعادة في هذه الدنيا، وكيف ينبغي لنا أن نحيى لنسعد في الدنيا والآخرة معاً. وهذه هي خلاصة محتوى القرآن ورسالته.

وهكذا، وبعد أن علمنا أن الفهم الخاطئ للقرآن هو السبب الرئيس الكامن وراء تخلف المسلمين وانحطاطهم وتبعيتهم أصبح لزاماً علينا أن نحذر من تكرّر هذه الحالة التي ستؤدي بنا - إن استمرّت- إلى ما لا يحمد عقباه.

إننا لو أخذنا الجانب الاقتصادي لوجدنا أن القرآن يأمرنا بأن نسلك مسلكاً سليماً لا تبذير فيه ولا إسراف، بل يدعوفيه إلى الاقتصاد والإنفاق المعتدل، كما تشير إلى ذلك الآية: (وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)(الفرقان/67). فلا إفراط ولا تفريط ولكننا إذا نظرنا إلى طريقة تعاملنا الاقتصادي في حياتنالوجدنا أن حياتنا بعيدة كل البعد عمّا اختطّه الإسلام، وأراده القرآن لنا، فهي حياة تبذير وإسراف، إذ أن حياةالاقتصاد والإنفاق المعتدل تعني - على سبل المثال- أن لو كان مرتبك الشهري خمسين دولاراً فإن عليك أن تنفق خمسة وعشرين دولاراً منه لاحتياجاتك، وتهب عشر دولارات منه للفقراء والمساكين، وتدّخر الباقي ليوم الحاجة،أما إذا أخذت مرتبك وأنفقته بأكمله، واستقرضت بالإضافة إلى ذلك مبلغاً آخر ولم يكن ذلك من أجل الإنفاق في سبيل اللَّه، وإنما في سبيل الاستهلاك، فحينئذ ستكون حياتك حياة إسراف وتبذير.

وللأسف فإننا - بصورة عامة- مستهلكون أكثر منا منتجون، في حين أن القرآن يأمرنا أن نعطي أكثر مما نأخذ، وأن ننتج أكثر مما نستهلك، كما تشعر بذلك الآية التي تقول: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاًوَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الُْمحْسِنِينَ )(الأعراف/56). فحياتنا العملية قائمة على أساس الإسراف والتبذير، ولعل طريقة تعاملنا مع الماء الذي نتوضأ به، والطعام الذي نأكله، والملابس التي نرتديها، وسائر الأدوات والأمتعة التي نقتنيها ونستعملها، ليست طريقة إصلاح؛ بل هي طريقة إفساد. وبمعنى آخر؛ فإن حياتنا استهلاكية رغم إننا ندّعي بأننا دعاة إلى اللَّه سبحانه، وأدلاء إلى سبيله، ومبلّغون لرسالاته، فما بالك بالأشخاص العاديين!

أهمية معرفة لغة القرآن

إننا نحمل اليوم رسالات أنبياء اللَّه على عواتقنا، وما علينا سوى أن نصوغ شخصياتنا بهذه الرسالات المقدسة قبل أن نصوغ شخصيات الآخرين بها، وأهم أمر في صياغة أنفسنا أن نبدأ من تعرّفنا على لغة القرآن العميقة، وكيفية تطبيقهاعلى أنفسنا؛ فعندما تخاطبنا آيات الذكر تذكّرنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان يُجزَ به، وإن كان مثقال ذرة: (وَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيراً يَره، ومَن يَعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّة شَراً يَرَه )(الزلزلة/8-7).

فما الذي يريد أن يقوله لنا القرآن، ويوصله إلى أذهاننا عبر هذه الآية؟

إن القرآن الكريم يريد أن يوجد فينا عبر لغته الراقية والدقيقة حبّ العمل الصالح، والوله به. فآيات القرآن واضحة في هذا المضمار، وهي تبعث دوماً على النشاط، والعمل، والجهاد، ولكنّ هناك من لا يفهم لغة القرآن، فيعمد في البدء إلى تنفيذ العمل الملقى عليه برغبة منه أو دون رغبة، إجباراً أو اندفاعاً، وفي المرة الثانية تراه يتردد قائلاً: ألا يوجد أحدغيري يقوم بهذا العمل؟، أما في المرّة الثالثة؛ فإنه يهرب نهائياً من العمل!!

وفي هذه الحالة يهاجم الشيطان الإنسان بالتبريرات الجاهزة، ليقعده عن القيام بالعمل الصالح، ويلقي بالأعذار في ذهنه من قبيل التذرّع بالتعب، أو عدم جدوى القيام بهذا العمل... في حين أن الإنسان الذي يعمل وهو مرغم، أو لا يعمل أساساً لأنه يقدم جملة من التبريرات سلفاً، فإنه لا يمكن أن ينجح في الحياة، ولا يكن أن تنجح رسالته التي يحملها، لأنه ليس مخلصاً ومتفانياً في سبيل تحقيق أهدافه.

أما المؤمنون الحقيقيون؛ فإنهم يعشقون العمل الصالح، ويعلمون أن لكل شي ء حسابه الخاص به في يوم القيامة، ولذلك فهم يجتهدون ويتنافسون في أعمال الخير، لأنهم عرفوا ووعوا منذ البداية لغة القرآن، ومعانيه العميقة الواسعة.

ونحن جميعاً ينبغي أن نعمل، لأننا نؤمن بيوم الحساب، ونعلم بأن الدار الآخرة هي دار حساب ولا عمل، والدنيا دارعمل ولا حساب، وأن العمل الصالح هو الشي ء الوحيد الذي يجب أن نتسابق إليه، ونتنافس فيه قبل حلول الأجل وفوات الفرصة.

الأهداف لا تتحقق بالشعارات

وعليه؛ فإن الأهداف العظيمة التي نحملها لا يمكن تحقيقها بالشعارات والهتافات، لأنها - أي الأهداف- بحاجة إلى تربية ذاتية، تغيّر من خلالها الشخصية تغييراً كاملاً. فالتراخي والتوالي والأنانية هي أمور لا يمكن أن تصنع حضارة أوتحقق تقدماً وازدهاراً؛ وأن الشي ء الوحيد الذي تحتاج إليه شخصية الإنسان هو الاجتهاد؛ أي بذل المزيد من الجهدوالعطاء.

ونحن عندما ننظر إلى ما أنجزه الغربيون من التقدم، علينا أن نتأكد بأنهم لم يسبقونا ويتفوّقوا علينا بالكلام والشعارات،بل كان سر تفوقهم هو العمل والمساعي العلمية والاقتصادية.

وكما أسلفنا؛ فإن السعي والعمل يتّمان عبر تربية النفس على حب العمل الصالح، وأن نقرأ القرآن لنقاوم به ضعف أنفسنا،وجبننا، وكسلنا، وأنانيتنا، وفشلنا، وجميع المظاهر السلبية في حياتنا لنصنع - بالتالي- جيلاً قرآنياً يزرع النجاح والأمل والتفاؤل في كل مكان.

السبيل إلى الإصلاح الحضاري

من أين بدأت بإصلاح المجتمع أو إصلاح الحياة، فإنك لابد أن تصل إلى سائر الأبعاد، لأن في الحياة عوامل متكاملةمتفاعلة وذات تأثير متقابل.

ترى من أين نبدأ عملية الإصلاح الحضاري في الأمة؛ من الفرد لإصلاح المجتمع، أم من المجتمع لإصلاح الفرد، وهل نبدأمن المجال الاقتصادي أم السياسي أم الاجتماعي؟

للجواب على ذلك نقول: إنّه ليس المهمّ تحديد نقطة الانطلاق في عمليّة الإصلاح الحضاري، فجميع مساعينا في هذاالمجال تصبّ في قناة واحدة؛ فإن أصلحنا الفرد فإنّه سيكون الّلبنة الأولى لبناء صرح المجتمع، وسيبث روحاً جديداً فيه.وإذا بدأنا بإصلاح المجتمع فإن قوانين هذا المجتمع وديناميكية نظامه ستؤثّران بشكل مباشر في إصلاح الفرد أيضاً، وإذاأصلحنا الاقتصاد فإن السياسة هي الأخرى سينعكس عليها الإصلاح، وإذا أصلحنا الأخلاق أثّر هذا الإصلاح مباشرة على الثقافة.

وبناءً على ذلك؛ فإننا نستطيع من خلال بيان هذه الحقيقة أن نحسم الجدال الذي استهلك جهود وأوقات الكثير من الخبراء والعلماء حول تعيين منطلق عملية الإصلاح الحضاري، بل إنّ هذا الجدال جعل البعض منهم يعيش ضمن دائرةمفرغة لا يعلم من أين يدخل فيها، ومن أين يخرج منها، فالمهمّ ليس معرفة هذا البعد أو ذاك بقدر ما هو الانطلاق والمبادرة .

ونحن -كمسلمين- نصاب في بعض الأحيان بشلل الإرادة ، وقد ينعكس هذا الشلل في تأخير اتخاذ القرار؛ متذرّعين بأنّنا لا نعرف من أين نبدأ عملنا، وكيف نتحرك، ومن الذي سيساعدنا.. في حين أنّ من الواجب علينا أن نتوكّل في هذاالمجال على اللَّه تقدّست أسماؤه، الذي يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(العنكبوت/69).

وثمة سؤال لا يصح التغافل عنه؛ ما هو السبيل إلى إنشاء مؤسسات اجتماعية حضارية فاعلة، وكيف نحوّل مساجدنا إلى جامعات، ومنتديات علمية ومراكز اجتماعية وخدماتية..؟

من أجل أن نقوم بكلّ ذلك وغيره، علينا أن نتّبع الخطوات التالية:

إسقاط الحواجز

1/ لابد أن نسقط الحواجز بيننا كأفراد؛ فنحن نعيش فيما بيننا سواء في الأسرة، أم في المسجد أو حتى في التنظيمات السياسية، ولكن هذا التعايش هو تعايش مادّي بحت، أمّا الأرواح فإنها متنافرة، فكل واحد منّا يعيش في وادٍ،والآخرون في وادٍ آخر.

ترى كيف السبيل إلى إسقاط هذه الحجب، وتجاوز هذه الحواجز والعقبات؟ من أجل العثور على إجابة شافية على هذاالسؤال، لابد أن نعود إلى كلمة نبينا الأعظم محمدصلى الله عليه وآله وسلم التي يقول فيها: (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق )(31)، إلا أننا عادة لا ننظر إلى التعاليم الأخلاقية باعتبارها قضايا أساسية. فنحن قليلاً ما نتأثّر بالنصائح والمواعظ الأخلاقية، فالكثير منّا عندما يجلس في مجالس الوعظ والإرشاد فإنّه يسمع المواعظ والإرشادات بإذن ليخرجها من الأذن الأخرى، فترى كل واحد ينظر إلى ساعته ليرى متى ينتهي المجلس، في حين أن هذه الدقائق محسوبة عليه، وهذه المجالس نحن مسؤولون عنها يوم القيامة، فلعلّ حديثاً نسمعه في هذا المجلس أو ذاك من شأنه -إذا لم نطبّقه- أن يقف أمامنا يوم القيامة ليمنعنا من دخول الجنّة، فهذا الحديث يعتبر بالنسبة إلينا نذيراً وبشيراً. صحيح أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بيننا، ولكن كلامه ما يزال بيننا، فالخطيب إنما يتحدث إليك بالنيابة عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،وعندما لا يترك فيك هذا الحديث الأثر المطلوب فإن هذا يعني أنك لم تأت لكي ترتفع، وتحدث تحوّلاً حقيقياً في نفسك، وتتغيّر تغيراً جذرياً، ولذلك فإن الحديث سوف لا ينفعك، ولا ينفذ إلى أعماقك لأنك لم تكن مستعداً له من الناحية الذهنية والنفسية.

إن التربية الأخلاقية تمثّل عملية متطورة، وهي بإمكانها أن تحدث قفزة هائلة في حياتنا، ونحن إذا أردنا أن نتمسك بتعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام الخلقية، فإننا نحتاج إلى عزيمة تشبه عزيمة الإنسان الذي يريد أن يقتلع جبال الهملايامن جذورها، والسبب في ذلك أن نفس الإنسان بتجبّره متكبرة، طاغية، كما أن الوساوس الشيطانية، والثقافةالجاهلية، وغفلة الإنسان وشهواته تزيد من تلك الصفات السلبية في النفس.

إن الحواجز التي تفصلنا عن بعضنا لابد وأن نهدّمها لكي نبني المجتمع الحضاري من خلال تصوّر أن هذه الحواجزستمنعنا أولاً من دخول الجنة لقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام في وصيته لهشام بن الحكم في إطار بيانه للأثر الذي سيتركه في يوم القيامة حاجز من تلك الحواجز: (وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائدألسنتهم )(32)، فالكلمة الواحدة من الممكن أن تهوي بالإنسان في نار جهنم سبعين خريفاً، ولكننا - للأسف الشديد- ترانا نجلس لنخوض مع الخائضين، ولنوزّع التثبيطات يميننا وشمالاً، في حين أن الكلمات المثبطة التي نتفوّه بهامن الممكن أن تصبح بالنسبة إلى الطرف المقابل بمثابة فرامل توقف مسيرته. فقد تكون هناك عشرات البرامج في ذهن هذا الإنسان يريد أن يطبّقها، ولكنّ تلك الكلمات أوقفتها.

هذا في حين أننا مسؤولون عن الكلمات التي ننطبق بها، وسوف نحاسب عليها يوم القيامة حساباً عسيراً؛ فالغيبة،والتهمة، والنميمة... كل ذلك نحن مسؤولون عنه، وفي القرآن الكريم آيات عجيبة تتوفر على معالجة أمراض النفس شريطة أن يعي الإنسان هذا العلاج، كقوله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ )(الأنعام/120). ففي بعض الأحيان قد لا يغتاب الواحد منّا إنساناً آخر بشكل مباشر، وقد يرتكب ذنوباً لفظية أخرى فتترك آثارهاالضارة والسلبية على الآخرين دون دخولنا الجنة، وتمنعنا بذلك من الوصول إلى أفضل ما نصبو إليه.

الصفات السلبية سبب المأساة

2/ لنتصوّر أن هذه المآسي التي تحلّ بنا - نحن المسلمين- بما فيها من فظاعة وآلام قد كان السبب فيها تلك الأخلاقيات السيئة التي نعاني منها، فاللَّه سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

ترى ما هي هذه الصفات السلبية التي تكّرست فينا وسبّبت هذه المآسي والأزمات؟ لابد أن هناك أنواعاً أخرى من الذنوب، ألا وهي الذنوب التي نستهين بها ونستصغرها والتي تعتبر أخطر الذنوب على الإطلاق، لأن الذنب الذي يستصغره الإنسان لا يمكن أن يغفره اللَّه جل وعلا؛ فكلّ واحد منّا يتصوّر امتيازه عن الآخرين ببراءة خاصة، فيقرّرأن جميع الناس كفار، ومنافقون، وأن عليه أن يحطّمهم.. ومثل هذا الإنسان سوف يعذبه اللَّه تعالى مرتين؛ مرّة لأنه ارتكب ذنباً، ومرّة ثانية لأنه استحلّ حرمة إنسان مؤمن.

وأنا أرى في هذا المجال أن الذنوب التي تنزل نقمات الرب، وتحول بيننا وبين معالجة وإصلاح أوضاعنا، هي نوع من الذنوب الخفيّة؛ مثل سوء الظنّ، والتكبّر، والتفاخر، والاستهزاء بالآخرين، والحط من شأنهم.

فلنقرأ - مثلاً- سورة الحجرات، ولنطبّقها على أنفسنا، ولنتدبر في هذه الآية: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِن نِسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ )(الحجرات/11). فكيف يحق لنا أن نقرّر أن جماعتنا هي أفضل من تلك الجماعة، وكيف استطعنا أن نضمن خلاصنا من نار جهنم لكي ندخل الآخرين فيها؟

إن هذه الصفات السلبيّة المذمومة هي حواجز بيننا كأفراد، وهذه الحواجز تمنعنا من التعاون، وعندما ينعدم التعاون سيوجد الذل والفقر وسائر الصفات السلبية الأخرى.

وللأسف؛ فإنّني قد أرى اثنين من الإخوان المؤمنين الملتزمين بالتعاليم الدينية لا يستطيعان أن ينسجما مع بعضهما في مشروع واحد، رغم أن هذا المشروع هو مشروع دينيّ ليس من ورائه مصلحة شخصية، في حين أن الأعمال الحضاريةهي - عادة- أعمال جماعية، ومثل هذه الروحية لم تنمُ فينا بعد، لأنّنا نعاني من تلك الأخلاقيات السلبية، وقد يكون الواحد منا اكتسب هذه الأخلاقيات منذ الطفولة.

توظيف الاختلاف في التكامل

إن القرآن الكريم يقول صراحة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة/2)، ولكن الواحد منّا لا يريدأن يعمل مع الآخرين بحجّة أنه لا ينسجم معهم! في حين أن القضية ليست قضية هوى نفس، فالأيادي لابد أن تتلاحم مع بعضها، والتجارب والخبرات لابد أن تتجمّع مع بعضها. صحيح أن اللَّه تقدست أسماؤه قد خلق كل إنسان على شاكلة معيّنة، وأن الاختلاف من طبيعة كل إنسان، ولكنّ هذا الاختلاف يجب أن يُوظّف لمصلحة التكامل، من أجل أن نشكل به المجتمع الواحد المكتفي من خلال ذلك الاختلاف اكتفاء ذاتياً. فاللَّه تبارك وتعالى لم يخلقنا مختلفين لكي نتنافرونتصارع مع بعضنا، فهو يقول: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات/13).

وعلى هذا فإن الحكمة من الاختلاف هو الوحدة، والتكامل، والتفاعل. أما أن نتمسك بالاختلاف الذي بين نفوسناوطبائعنا، وأن يبغي كل واحد منا أن تكون له مؤسسة خاصة به لا يدخل فيها عليه أحد، فإن هذه الظواهر هي من صفات المنافقين الذين يعصون من فوقهم، ويظلمون من تحتهم، فلا يستطيعون التوحّد والانسجام مع من هو أعلى منهم، ولا مع من هو أصغر منهم.

إن علينا أن ننتزع هذه الصفات السلبية من نفوسنا، وعندما نتخلّص منها فإننا سنستطيع أن نبدأ مسيرة الحضارة.

وكذلك الحال بالنسبة إلينا فإن من الواجب لكي نصل إلى تلك المستويات الرفيعة أن نلتزم بجميع الأخلاقيات الإيجابية، وأن لا ندّعي أننا مبرّؤون من الآثام والذنوب؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك بعضاً من الذنوب تصدر من العقل الباطن، ومن بعض المؤثرات غير الشعورية دون أن نحس بها، ومثل هذه الذنوب يجب أن نتخلص منها وأن لاندّعي إننا منزّهون عنها.

حسن الخلق في الروايات

وفيما يلي سأنقل للقراء الكرام بعض الروايات التي تتحدّث عن فضيلة حسن الخلق، هذه الفضيلة التي تقود إلى أعلى المستويات الحضارية:

- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق )(33).

- وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أربع من كنَّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق )(34).

- وقال عليه السلام: (ما يقدم المؤمن على اللَّه عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبُ إلى اللَّه تعالى من أن يسع الناس بخلقه )(35).

- وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم القائم )(36).

- وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (.. وأكثر ما يدخل به الجنة، تقوى اللَّه، وحسن الخلق )(37).

- وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد)(38).

- وقال عليه السلام: (إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطى المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح )(39).

- وقال عليه السلام: (إذا خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك عليه العليافأفعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له خلق حسن، فيبلّغه اللَّه بخلقه، درجةالصائم القائم )(40).

وهذا يعني إن الأخلاق الحسنة تسدّ، وتكمل النواقص الموجودة في أعمال الإنسان.

فالتمسك بالأخلاق الحسنة، وطرد الأخلاق السيئة، وخصوصاً الاجتماعية منها، من شأنه أن يرفع ويحطّم الحواجز بيننا،تلك الحواجز والعقبات النفسية التي تحول دون سيادة حالة التكافل والتعاون والانسجام والحضور الضرورية لتشييدصرح الحضارة الشامخ. فمن دون أن نتسلح بالأخلاقيات الحضارية التي تقف الروح الجماعية في مقدمتها سنظل نرسف في أغلال الجهل، والتخلّف، والانحطاط، وسنبقى تابعين لغيرنا.

الثقافة منطلق المسيرة الحضارية

مما يؤلم كل ضمير حيّ في هذه الأمة، ويحز فيه هو حالة التخلف والجهل والفقر التي تعيشها أمتنا الإسلامية منذ أمدطويل وإلى حد الآن، فالواحد منا ينام ليله وهو يحلم في رغيف الغد كيف سيحصل عليه، ويأتي به إلى أطفاله لكي يسدبه رمقهم ورمقه. فإلى متى -يا ترى- سنظل نعيش حضيض التخلف، في حين أن العالم الآخر يخطو خطوات واسعة،ويقفز قفزات عملاقة في دنيا التكنولوجيا المتطورة، والاقتصاد المزدهر؟

بين البلدان المتخلفة والبلدان المتطوّرة

في بعض البلدان الفقيرة قد لا يمر العام الأول على الأطفال فيموتون خلال أشهرهم الأولى ولم يحتفلوا بعد بعيد ميلادهم الأول، في حين توقد الشموع لأطفال أوروبا وأميركا واليابان كل عام حتى يهرموا، وإذا افترضنا أن أولادنا قد كتبت لهم الحياة فإنهم سينمون نحيفين أو مشوّهين لأنهم لم يزودوا في صغرهم بلقاح بسيط لا تتعدى كلفته الدولار الواحد،فيكونون عندئذ ضحايا الشلل، أو الجدري وغير ذلك من الأوبئة والأمراض، بينما توضع برامج التغذية الخاصة لأطفال العالم الصناعي بالإضافة إلى الدواء والعلاج الذي قد لا يحتاجونه، لأن الأمراض والأوبئة قد رحلت من بين أوساطهم منذ زمن ليس بالقصير.

ترى لماذا تعصف ببلداننا أمواج الفقر والكوارث، فيموت أبناؤها ضحايا الأمراض والجفاف والجوع الذي يسحق الألوف المؤلفة؟

منذ مئات السنين والعيش الرغيد الهني ء حسرة على كثير من الشعوب المسلمة وقلوب أطفالهم، ولو كان هناك جهدمن الإنسان الغني في هذه المنطقة الإسلامية أو تلك لما وصل الفقر إلى هذه الدرجة المتأزمة الحادة التي عليها الآن،ولكن الصبغة العامة - للأسف- ليست هي صبغة الغنا والرفاهية والازدهار، بل هي صبغة التخلف والفقر والهوان والذل والتبعية، وما إلى ذلك من الظواهر السلبية المقيتة.

ترى هل خُلقنا لكي نعاني ونتألم... أم لأننا مسلمون فكان قدرنا هذا الواقع المرير، أم أننا زهدنا في الدنيا وابتغيناالآخرة ورجوناها، فكان الازدهار والتقدم والنعيم في هذه الدنيا من نصيب الآخرين؟

كلا؛ فحاشى للَّه تبارك وتعالى أن يكون قد قدّر لنا كل ذلك، بل لابد أن نفتش عن أسباب وجذور واقعنا المظلم المتخلف، فإذا أردنا معالجة أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية علاجاً آنياً وموقتاً دون البحث في العمق، ودون دراسة خلفيات وجذور هذه الأوضاع وما يسفر عنها من نتائج، فإن بحثاً وعلاجاً كهذين إنما هما عبث في عبث.

لابد من علاج جذري

إن مثل التخلف في أوضاعنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كمثل جبل الثلج الذي يطفو فوق البحر، فلا يظهر إلاجزء يسير من حجمه فوق سطح المياه لا يتجاوز المعشار، أما النسبة الباقية فهي غائصة لا تبدو للعيان. وهكذا الحال بالنسبة إلى أوضاعنا، وخصوصاً الاقتصادية منها، فإن النسبة الأعظم منها غائصة في بحر التخلّف.

لقد بلغ التخلف والتردي في أوضاعنا الاقتصادية والسياسية درجة بات لا ينفع معها العلاج الموقّت، لأن العلة ستبقى متأصلة تكبر وتستشري بمرور الزمن، فلابد - والحالة هذه- من المعالجة الجذرية ما دامت العلل والأسباب متأصلةوجذرية هي الأخرى.

وقد يعلّل البعض تخلّفنا وتقهقرنا بأنهما قدر إلهي كتب علينا، وحاشا للَّه -جلت قدرته- أن يجعل ذلك قدراً يقدره دون سبب، فهو تعالى ينفي ذلك عن ذاته المقدسة بشدة في قوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(فصلت/46)،فكيف يكتب الفقر على عباده وقد خلق كل ما في الوجود مسخراً لهم، ولأجل منفعتهم، وقد خلق هذه الأرض وماعليها من خيرات وما في جوفها من كنوز وثروات، والسهول، والجبال، والبحار والأنهار، والحقول والمراعي،والطيور والثروات الحيوانية.. وغيرها من النعم التي لا تعد ولا تحصى؟

نحن أغنياء ولكن...!

إن بلداننا الطويلة العريضة ما من واحد منها إلا وتجده غنياً مليئاً بالكثير من الموارد والثروات الطبيعية المختلفة؛ من نفط، وغاز، وحديد، ونحاس، وذهب ، ومياه عذبة، وتربة خصبة، وغابات .. ولعل هذه الموارد نجدها تتركز عادة في المناطق الإسلامية كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي والصين فضلاً عن البلدان الإسلامية نفسها.

إن اللَّه تقدست أسماؤه لم يكن ليقدّر لنا -نحن المسلمين- أن نعيش فقراء معوزين محتاجين إلى غيرنا، وكيف يقدّر لناالفقر وفي بلدان الخليج وحدها خمسون بالمائة من احتياطي النفط العالمي؟

وفي الوقت الذي لم يجعل اللَّه تعالى الفقر قدرنا وقضاءنا، فإنه لم يأمرنا أن نركن إلى زوايا بيوتنا لنقعد، وننتظر أن يرفدنابكل ما نحتاجه من المعاجز والإمدادات الغيبية، بل إنه تعالى أمرنا بالانطلاق في رحاب هذه الأرض، والابتغاء من فضله ونعمه.

فما هو - إذن- سبب فقرنا وتخلفنا بعد أن اتضح لنا أن الفقر ليس من اللَّه جل جلاله، وأين تكمن علّة الفقر؟

للجواب على ذلك: إن السبب هو القيود والأغلال التي كُبّلت بها أيدينا، فلم تعد قادرة على الاستثمار، والإنتاج،والإبداع، وانعدام الحرية الاقتصادية. فعلى الرغم مما تزخر به بلداننا من كنوز وثروات، ولكن استثمارها والانتفاع منها ممنوعان على أهلها وأصحابها؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أراضي خصبة بكراً تملأ الآفاق، وهناك مياه عذبةغزيرة من شأنها أن تجعل من تلك الأراضي جناناً خضراً تحمل لنا ثماراً طيبة عبر استصلاحها، وحرثها، وزراعتها،ولكنك عندما تعزم على تعزم على تنفيذ مشروعك لابد أن تصطدم بألف قانون وقانون يحول بينك وبين تحقيق هذاالهدف الاستثماري.

نعم؛ إن القوانين التي من الأحرى أن نسميّها بالموانع والعراقيل تظل تلاحق آمالنا وأحلامنا، ونحن لو أمعنا النظر في هذه القوانين لوجدنا أنها ليست إلا تركة استعمارية مقيتة.

التخلّف في المجال الزراعي

وللأسف فإن الزراعة في معظم بلداننا التي كانت في يوم من الأيام تتمتع بالاكتفاء في هذا المجال، شبه ميتة؛ فأراضيهايقتلها البوار، والمياه العذبة تذهب إلى البحار هدراً دون استغلال صحيح لها، حتى بتنا نستجدي ونطلب الصدقات من أميركا وأوروبا لتزودنا بشي ء من القمح واللحم والبطاطس بعد أن نهبوا نفطنا، وثرواتنا المعدنية، فأضحى اقتصادناأسيراً للعملات الأجنبية.

ترى أين نحن اليوم من أمسنا؟ فأرض العراق التي كانت تسمى (أرض السواد)، حيث لم تكن بقعة منهاتخلو من الزراعة والخضرة، أصبح أبناؤها اليوم يموتون جوعاً، كما أن هذه الأرض كانت في يوم ما ملجأ لكل جياع العالم عندما يصيبهم القحط، في حين نرى الآن أن مخزون القمح فيها لا يكفي إلا لمدة أسبوعين، وإذا ما بحثنا عن السبب؛حدثنا عنه التاريخ؛ فالبريطانيون عندما جاؤوا إلى مصر منعوا وحاربوا زراعة القمح واستبدلوها بزراعة القطن ليزودوا به مصانعهم في بريطانيا، حيث بلغت الثروة الصناعية أوجها، وكانت المصانع في أمسّ الحاجة إلى المواد الخام ومن ضمنها القطن الذي يعتبر المادّة الأولية الأساسية في صناعة النسيج.

إن معظم القوانين الاستعمارية المستوردة التي يُعْمَل بها في بلداننا الإسلامية إنما وفدت علينا في إطار مؤامرة غربيةلتدمير اقتصاد المسلمين، وعرقلة عملية نموّهم وتطوّرهم؛ بل ومن أجل تجويع شعوبنا، وهدم البنى التحتية لاقتصادها؛فأماتوا زراعتنا، وزودونا بالمكائن والآلات غير الأساسية لنضيّع أوقاتنا في صناعات التجميع.

وفي الحقيقة؛ فإننا لو نظرنا إلى البلدان المتقدمة صناعياً نجد أن تقدمها هذا لم يحدث إلا من خلال التطوّر الزراعي،وزيادة الإنتاج. فالأولى بكل بلد نامٍ - إذن- أن يطوّر زراعته أولاً، ويؤمن إنتاجه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى المجال الصناعي. ولعل من الأسباب التي فجّرت الثورة الصناعية في عالم الغرب - وخصوصاً بريطانيا، وكما يرى ذلك بعض المؤرّخين - هو الفائض في الإنتاج الزراعي الذي شهدته بريطانيا، والدول الأوروبية الأخرى آنذاك.

ومن أجل علاج تلك المعضلات لعلنا نقول: حسناً؛ لنعط الزراعة حقها، فهذه الأرض مفتوحة لمن أراد أن يستثمرها،وبالإضافة إلى ذلك لنعط الحرية في الصناعة، ولنشيّد المعامل، وننتج.

غير إن هذا وحد لا يكفي؛ فالحرية بدون ضوابط وتنظيم لا تكفي، بل إنها ستتحول بهذا الشكل العشوائي إلى طبقيةمقيتة؛ فالبعض يستخدمون دهاءهم ولا يتورّعون عن ارتكاب أية جريمة، وإذا بهم يشكلون كتلاً وتجمعات اقتصاديةخاصة، ويمتصون من خلال هذه التشكيلات دماء الغالبية المسحوقة من أبناء شعوبنا، فيزدادون - بالتالي- ثراءًوترفاً، بينما يظل المسحوقون في فقرهم وفاقتهم، وتضحى الحركة الاقتصادية عبارة عن سيطرة مجاميع من البرجوازيةالكبيرة والصغيرة، والرأسمالية، والكارتلات على مقدراتنا.

الحرية الاقتصادية والسياسية معاً

وخلاصة القول؛ إننا نسلّم بحاجتنا الماسة إلى الحرية الاقتصادية، ولكن هذه الحرية لا تكفي لوحدها، إذ لابد من حريةسياسية تؤازر الحرية الاقتصادية وتوجهها، لأن الحرية الاقتصادية وحدها ومن دون خلفية سياسية تكون بمثابةضابط وموجه لها، لا تلبث أن تتحول إلى ذئب ضارٍ ينهش في جسد الأمة، ويمتص دماءها. فالضوابط والتنظيم والإدارة الحازمة التي تتولاها القوة السياسية في البلاد تعني الحيلولة دون انتشار المفاسد الاقتصادية، كالاستغلال والاحتكار والجشع والغلاء والرشوة والاختلاس. فما أهمية القانون وما معناه إذا شاعت الرشوة في البلاد أو استفحل الاستغلال والاحتكار؛ فهذه العوامل التي تشلّ اقتصاد البلد تتحوّل إلى مجموعة كارتلات تسيطر، وتخطط، وتنفذ.


/ 12