بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
دال : وإذا عاد الكفار والتزموا بحرمة المسجد الحرام (وكذلك بسائر الحرمات) ، عاد المسلمون ايضاً الى احترامه ، لان الله غفور رحيم . 5/ ونستفيد من آية كريمة ؛ ان الذين يتركون الدفاع عند وجوبه ، يكونون اقرب الى الكفر يومئذ منهم الى الايمان . قال الله سبحانه : « وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِاَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ » (آل عمران/167) 6/ عندما يبدء العدو بهجوم شامل (ثقافي عسكري) ، فعلى المسلمين ان يستعدوا لقتالـه . قال الله سبحانه : « وَإِن نَكَثُوا أَيْمَانَهُم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لآ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِاِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ » (التوبة / 12-13) نستفيد من الآيات في هذا السياق البصائر التالية : أ : يجب الوفاء بالعهد الذي بين المسلمين والمشركين ، مادام استقام المشركون به . ب : ان نكث المشركون عهدهم ، جاز قتالهم . ج : انما القتال يهدف اقامـة الدين . ومن هنا فان المفروض قتـال أئمة الكفـر ، لانهم لا أيْمان لهم ( ولا عهد ولا ذمة ) . د : دواعي قتال المشركين (وبالذات الأئمة منهم) ، هي نكث العهد (والميثاق الأمني بينهم وبين المؤمنين) ، ومحاولة اخراج الرسول (وتهديد أمن الرسول في بلده) ، والبدء بالقتال. ويبدو ان كل واحد من هذه الأسباب كافٍ للقتال . فان نكث الأيْمان (وبالذات العسكرية منها) سبب مشروع للقتال ، وكذلك تهديد الأمن (وبالذات أمن الدعاة الى الله)، وأخيراً البدء بالقتال . والله العالم . 7/ وعند اقتتال طائفتين من المؤمنين يجب على عامة المسلمين السعي للاصلاح بينهما (على اساس امر الله) ، فان بغت (بعد الصلح) احداهما على الأخرى ، فلابد من القتال ضدها حتى ترجع الى أمر الله (حكمه) ، عندئذ يتوقف القتال. قال الله سبحانه : « وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَاَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » (الحجرات / 9) نستفيد من الآية ؛ ان الدفاع عن أمر الله ضد الفئة الباغية ، سبب مشروع للقتال . وهذا الحكم قريب من حكم قتل الذين يسعون في الأرض فساداً (المحاربين) ، حيث ان الفئة الباغية لاتخضع للاحكام الشرعية التي يجمعها « أَمْرِ اللَّهِ » . فمن أجل اخضاعها ، لابد من القتال . كما ان هذا الحكم يشبه الحكم الالهي بالقتال لقطع دابر الفتنة (ومنع الظلم) ..
جيم : دفاعاً عن القيم
1/ لقد جعل الله الامة الاسلامية شهداء على الناس ، كما جعل الرسول عليهم شهيداً . قال الله تعالى : « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ » (البقرة / 143) 2/ وقال تعالى : « وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ » (الحج / 78) 3/ وقد أمر الله المسلمين ان يكونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله . قال الله تعالى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإِن تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً » (النساء / 135) 4/ وقال تعالـى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » (المائدة / 8) 5/ وهكذا فرض عليهم القتال ، دفاعاً عن المستضعفين . قال الله تعالى : « وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيـراً » (النساء / 75) 6/ وكذلك أوجب عليهم القتال ضد الذين يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا اولياءه . قال الله تعالى : « وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ » (الانفال /34) نستفيد من هذه الآيات الكريمة (وبالتدبر ايضاً في آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وآيات الدعوة الى الله ، والتبشير والانذار ، نستفيد منها جميعاً) البصائر التالية :- أولاً : شهادة الأمة على الناس تكون بذات الاتجاه الذي تكون عليه شهادة الرسول على الأمة . وهي -حسبما يبدو من الآية- الشهادة بالقسط والعدل ، وهي مقتضى كون الأمة أمة وسطاً ، لان الوسطية هي العدالة. والشهادة بالعدل تكون بالحكم بـه ، ( وهو حكم الله الذي أراه رسوله ) ، وبالدعوة اليه (وهو مقتضى وحي الله سبحانه) ، وربما باقامته التي أمر الله بها حينما أمر بان نكون قوامين بالقسط . ونظير هذا المعنى نستفيده من سياق آية سورة الحج ، التي أمر الله تعالى في مطلعها بالجهاد ، ثم بيّن ضرورة شهادة الأمة على الناس . والله العالم . ثانياً : ومعنى القيام لله ، والقيام بالقسط ، والشهادة لله ؛ هو القيام بأمر الله في القسط والعدل ، ومن مصاديقه - حسب الظاهر- إقامة القسط والشهادة عليه لله سبحانه ، وبالتالي العمل بما يحقق القسط . والله العالم . ثالثاً : القتال في سبيل الله ولانقاذ المستضعفين واجب ، شريطة ان يطلب المستضعفون ذلك بان يدعو الله ربهم بان يجعل لهم ولياً من عنده ، ويجعل لهم نصيراً . والولي والنصير هما من المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله . رابعاً : القتال من أجل تحرير المسجد الحرام (وسائر المقدسات الاسلامية) من ايدي الذين يصدون عنها ، قتال مشروع . لان الله سبحانه بعد ان ذكر ان الله قد يعذبهم لانهم يصدون عن المسجد الحرام ، بالرغم من أنهم ليسوا بأولياءه (في الآية 34 من سورة الانفال) ، أمر بقتالهم (في الآية 39 من سورة الانفال). وهكذا يمكن ان نستفيد ؛ انَّ من اهداف القتال ، خلع يد الكفار (والظالمين) عن التحكم بالمسجد الحرام من دون حق . والله العالم .
دال : من أجل الدين
1/ قتال اليهود والنصارى ، قتال مشروع للاسباب التي سنذكرها انشاء الله ، ولكن الى حين دفعهم للجزية صاغرين . وهذا هو المستفاد من قوله عز وجل : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلايُحَرِّمُونَ مَاحَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » (التوبة / 29) ونستوحي من الآية الكريمة؛ ان اليهود والنصارى والمجوس (وربما سائر أهل الكتاب) لم يكونوا مؤمنين حقاً بالله واليوم الآخر، ولذلك شرع الدين قتالهم . أما إذا كانوا كذلك ، فان المفهـوم من آيات قرآنية أخـرى هو امكانية التعايش معهـم ، كقوله سبحانـه : « قُلْ يَآ أَهْـلَ الْكِتَابِ تَعَالَـوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَـوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئـاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّا مُسْلِمُونَ » (آل عمران / 64) وقـال تعـالى : « إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » (البقرة / 62) وقد مدح الله سبحانه بعضاً من أهل الكتاب ، فقال تعالى : « لَيْسُوا سَوَآءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ » (آل عمران / 113) وقال تعالى : « وإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِاَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» ( آل عمران / 199) 2/ ومن أبرز اسباب القتال مع أهل الكتاب ، انهم يشركون بالله . فهم لايؤمنون بالله إلهاً واحداً ، ولا يؤمنون باليوم الآخر، (لانهم يزعمون ان الله لايعذبهم فيه إلاّ اياماً معدودة لانتمائهم الى عزير ، او المسيح) . وهذا هو المستفاد من قوله سبحانه : « وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِاَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » (التوبة / 30) 3/ ومن الاسباب أنهم لايحرمون ما حرّم الله، بل يحرمون ما حرّم عليهم الاحبار والرهبان، لانهم اتخذوهم ارباباً من دون الله، كما اتخذوا المسيح بن مريم رباً من دون الله سبحانه. قال الله تعالى : « اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » (التوبة / 31) 4/ ومن الاسباب أنهم لايدينون دين الحق ، فتراهم يصدون عن سبيل الله ، ويحاولون اطفاء نور الله بافواههم (وبشبهات يبثونها ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله ) . قال الله سبحانـه : « يُرِيـدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُـورَ اللّهِ بِاَفْوَاهِهِـمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلآَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَـرِهَ الْكَافِرُونَ » (التوبة / 32) 5/ ولعل من الاسباب ايضاً ظلمهم للناس باسم الدين ، وأكل أموال الناس بالباطل . قال الله تعالى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الاَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » (التوبة / 34)
هاء : من اجل الدعوة
هل يجب على امام المسلمين ان يقودهم الى قتال الذين يلوونهم من الكفار كل عام مرة او مرتين ؟ وفي غياب الأئمة المعصومين عليهم السلام هل تنتقل هذه الفريضة الى الفقيه العادل المبسوط اليد ؟ في الاجابة عن السؤال الأول : ذهب اغلب الفقهاء الى وجوب الجهاد الابتدائي على الامام المعصوم ، وعدم وجوبه في عصر الغيبة ، مما يجعل البحث امراً نظرياً . قال العلامة النجفي في الجواهر : لا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة ، بل هو كالضروري خصوصاً بعد الأمر به في الكتاب العزيز في آيات كثيرة . ثم قال : فرضه على الكفاية بلا خلاف اجده بيننا ، بل ولا بين غيرنا . ثم قال : يشرط وجود الامام عليه السلام وبسط يده ، او من نصبه للجهاد . وأضاف : بل اصل مشروعيته مشروط بذلك فضلاً عن وجوبه . ثم ذكر : ان المراد من الجهاد هو الذي يكون "ابتداءً" من المسلمين للدعاء الى الاسلام، وهذا هو المشروط بالشروط المزبورة ، والذي وجوبه كفائي . ([15]) ونقل - في موضوع آخر - ؛ الاجماع على اشتراط وجود الامام المعصوم في الجهاد . ولكنه قال : لكن ان تم الاجماع المزبور فذاك ، وإلاّ أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم ادلة الجهاد فترجح على غيرها .([16]) ويبدو ان الجهاد لا يختص بالجهاد الابتدائي الذي هدفه نشر الدعوة فقط ، بل الجهاد يشمل كل تلك الصور التي بحثنا عنها سلفاً ؛ من مواجهة الفتنة ، والدفاع عن النفس ضد الطاغوت ، وللدفاع عن المستضعفين المسلمين ، وللدفاع عن بلاد المسلمين ضد العدو الداهم ؛ ذلك لأن معاني كلمات القرآن سبقت الفقه ومصطلحاته . أما اشتراط الولاية الالهية في مشروعية القتال ، فسيأتي الحديث عنه انشاء الله في احكام الجهاد . وسوف نقول ان الأقرب هو امتداد الولاية بعد عصر المعصومين عليهم السلام فيمن يتصدى لها من الفقهاء العدول ، حيث ان فريضة القتال ضد اعداء الدين لا تخص عصراً دون عصراً ، ولا مصراً دون آخر . يبقى الحديث حول أدلة القتال من أجل الدعوة ، الذي لا مبرر له سوى نشر الاسلام ، حيث استدل له بما يلي :
أولاً : أدلة الجهاد الابتدائي
ألف : الاجماع . ولكن فقهائنا رحمة الله عليهم حيث اشترطوا وجود الامام المعصوم في مشروعيته ، فان اجماعهم في وجوبه في عصر المعصومين لاينسحب الى عصورنا ، على أنه اجماع مستند الى الأدلة الأخرى . فعلينا مراجعة تلك الأدلة ، لنرى مدى حجيتها وظهورها في هذا الرأي . باء : الآيات القرآنية الظاهرة في وجوب القتال بصورة عامة ، وهي التالية: 1/ مثل قول الله سبحانه : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » (البقرة /216) حيث قال مؤلف موسوعة الجواهر فيها ما يلي : لاريب ان الأصلي منه (من الجهاد) قتال الكفار ابتداءً على الاسلام ، وهو الذي نزل فيه (وذكر الآية) ([17]) ثم استدل بآيات أخرى ، فقال : خصوصاً بعد الأمر به في الكتاب العزيز في آيات كثيرة . 2/ كقولـه تعالـى : « َيآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّـارَ وَالْمُنَافِقِيـنَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِـمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » (التوبة /73) 3/ وقوله تعالى : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلايُحَرِّمُونَ مَاحَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » ( التوبة/29) 4/ وقوله تعالى : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِـن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُـوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُـمْ » (محمد/4) 5/ وقولـه تعالـى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً » (النساء /71) 6/ وقوله تعالى : « فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً » (النساء / 74) 7/ وقوله تعالى : « فَإِذَا انسَلَخَ الاَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الْصَّلاَةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (التوبة /5) 8/ وقوله تعالى : « يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُمْ مِاْئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَيَفْقَهُونَ » (الانفال /65) وهكذا استدل العلامة النجفي بالآيات التي تليت على وجوب الجهاد ، والذي اعتبر في نص آخر ان الاصلي منه هو القتال على الاسلام ابتداءً .([18]) ولكن هذه الآيات بحاجة الى دراسة تفسيرها وعلاقتها بسياقاتها من جهة ، وبسائر الآيات القرآنية من جهة ثانية . هذه الدراسة التي وفقنا لها في هذا الفصل بنسبة معينة ، وذلك في أول هذا الموضوع ، ونسأل الله ان يوفقنا للمزيد في البحوث التالية ، وهي لا تدل دلالة صريحة على القتال ابتداءً على الاسلام ، بل اكثرها ظاهرة في أصل وجوب الجهاد او في التحريض عليه . بينما تتكفل سائر النصوص (من آيات وروايات) بتفاصيل أمرها . وبتعبير آخر ؛ القتال قد كتب على المسلمين ، ولكن متى وكيف ؟ هذا النص لايتكفل بيانه ، فعلينا مراجعة سائر النصوص. كما ان الصيام قد كتب عليهم بقوله سبحانه : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » (البقرة/183) ، ثم فصلت الآيات الأخرى ما كتب عليهم من الصيام كذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله بجهاد الكفار والمنافقين لا يعني بالضرورة قتالهم ، فقد يكون الجهاد بالكلمة او بالهجرة . كما لايعني ضرورة الجهاد ابتداءً ، خصوصاً بالنسبة الى المنافقين ، حيث اننا نعرف وجود شروط معينة لقتالهم . بلى ؛ الآية الكريمة حول قتال أهل الكتاب عامة ، وفيها ظهور على القتال الابتدائي . اما قوله سبحانه : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ » (محمد/4) فانه بيان لاحكام القتال ، وليس لأصله . وكذلك سائر الآيات التالية . 9/ وقد استدل بعضهم ايضاً بقوله سبحانه : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (البقرة /244) . حيث استدل العلامة الطباطبائي في تفسيره بهذه الآية على وجوب الجهاد الابتدائي ، ولكنه رأى ان الهدف من هذا الجهاد ليس سوى نشر الدين ، لا سلطة بعض الناس على بعض . واضاف ما خلاصته ؛ ان هذا الجهاد بدوره جهاد دفاعي ، لان اتباع الأديان الأخرى كانوا يريدون ابادة المسلمين او الغلبة عليهم .([19]) ودلالة الآية بالنظر الى سياقها ليست ظاهـرة فـي ذلك ، لان القرآن الكريم يجمل القول ثم يفصله . وهذه الآية - فيما يبدو - بيان اجمالي لوجوب الجهاد ، اما التفصيل فتقرءه في قصة بني اسرائيل الذين أخرجوا من ديارهم وابنائهم ، وجعل الله لهم طالوت ملكاً ، وقاتلوا تحت لواءه حتى نصرهم الله . ذلك لأن الله سبحانه قد بيّن تفصيل القتال مع الكفار في الآيات (246) الى (251) من سورة البقرة ، بعد ان رغب في اقراض الله قرضاً حسناً في الآية (245) من سورة البقرة ، وهو بمثابة الجهاد بالمال . وقد بيّن حكمة القتال بقوله سبحانه : « وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ » (الحج/40) . فسمّى هذا الفرع من القتال دفاعاً . فهل يبقى للآية الأولى (244) من سورة البقرة ، ظهور في الجهاد الابتدائي ؟
ثانياً : الأدلة المخالفة للجهاد الابتدائي
ويستدل على عدم وجوب الجهاد الابتدائي بالأدلة التالية : 1- يبيّن ربنا سبحانه في القرآن سنن الذين كانوا من قبلنا ، ويقص علينا ما جرى بين الانبياء والأمم ، وكيف كانت دعوة الانبياء دعوة سلمية ، وبالكلمة الطيبة اللينة ، وبالموعظة الحسنة ، وبالجدال بالتي هي احسن . ولكن ردّ الأمم كان عنيفاً ، حيث كان يتحول بعد التهديد الى الاخراج من البلاد ، والى الرجم (بالكلمات البذيئة) ، والى القتل . وسنن الله في الأولين والآخرين واحدة ، حسب الظاهر . 2- قال الله سبحانه : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ » (البقرة /193) نستفيد من الآية ؛ ان غاية القتال قطع دابر الفتنة ، واذا انقطعت فلا عدوان إلاّ على الظالمين . ويبدو ان الظالمين هم مثيروا الفتن ، والعدوان هنا بمعنى الحرب . فالحرب لاتكون إلاّ مع الظلمة الذين يعتدون على حقوق الآخرين ويرهبون عباد الله . إذاً الحرب انما هي دفاعية (بالمعنى الأوسع لكلمة الدفاع الشامل لمقاومة الظلم) . وهذه الآية تخصص النصوص الآمرة بالقتال بوجه عـام ، مثل قوله سبحانه : « قَاتِلُوا الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلايُحَرِّمُونَ مَاحَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » (التوبة /29) 3- قال الله تعالى : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » (الانفال /39) ودلالة الآية على انتهاء القتال بانتهاء الفتنة واضحة . 4- قال الله سبحانه : « وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ الْسَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (الانفال /61) والآية وردت في الكفار الذين ينقضون عهدهم ، فانهم يحارَبون حتى يجنحوا للسلم . ودلالتها ظاهرة في ان نهاية الحرب انتهاء سببها من نقض العهد . والله العالم . 5- قال الله تعالى : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » (البقرة / 190) نستوحي من الآية ؛ ان ابتداء القتال عدوان ، وان الله لايحب المعتدين .. وسيـاق الآية ذات دلالــة ظاهرة على هذه الحقيقة ، حيث يقول ربنا في آية أخرى : « فَإِنِ انتَهَوْا فإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (البقرة/192) مما نستوحي منه ان انتهاء الكفار من الفتنة يقتضي انتهاء الحرب . وعلى العموم نستفيد من مجمل الآيات ؛ ان القتال مع الكفار ذات أسباب واضحة ، هي التي استفدناها من الآيات القرآنية التي توجنا الحديث بها . أما القتال بلا سبب فلم نطمئن الى أدلته . والله العالم . بلى ؛ كانت الحرب في العصور السابقة هي الحالة السائدة ، ولذلك كان المسلمون في حالة حرب دائمة . وربما كان بعض الحكام يشنون الحروب من أجل بسط سلطتهم والحصول على المزيد من الغنائم ، والتي نهى الأئمة المعصومون عليهم السلام منها . ويمكن ان نستدل على ما سبق بالأحاديث التي وردت في متاركة الترك والحبشة ما تركونا ، مثل : قال رسول الله صلى الله عليه وآلـه : تاركوا التــرك ما تركوكم ، فان أول مــن يسلب أمتي مُلكها وما خولها الله لبنو قنطور بن كركر وهم الترك . ([20]) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضاً انه قال : تاركوا الحبشة ما تركوكم ، فوالذي نفسي بيده لايستخرج كنز الكعبة إلاّ ذو الشريعتين . ([21]) وكذلك يمكن ان نستدل على تغيير وجهة الجهاد الاسلامي في أيام حكومة الخلفاء بالحديث التالي : ج - كتب أبو جعفر (الامام الباقر) عليه السلام في رسالته الى بعض خلفاء بني أمية : ومن ذلك ما ضيّع الجهاد الذي فضله الله عز وجل على الاعمال ، وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة "والرحمة" ، لانه ظهر به الدين ، وبه يدفع عن الدين، وبه اشترى الله من المؤمنين انفسهـم وأموالهم بالجنة بيعاً مفلحاً منجحاً ، اشترط عليهم فيه حفظ الحدود . وأول ذلك الدعـاء الى طاعـة الله من طاعـة العباد ، والى عبادة الله من عبادة العبّاد، والى ولاية الله من ولاية العباد . فمن دعى الى الجزية فابى قتل وسبي أهله، وليس الدعاء من طاعة عبد الى طاعة عبد مثله . ومن أقرّ بالجزية لم يتعد عليه ولم تخفر ذمته ، وكلف دون طاقته ، وكان الفيء للمسلمين عامة غير خاصة ، وان كان قتال وسبي سيّر في ذلك بسيرته ، وعمل فيه في ذلك بسنته من الدين ثم كلف الأعمى والأعرج والذين لايجدون ما ينفقون على الجهاد بعد عذر الله عز وجل إياهم ويكلف الذين يطيقون مالا يطيقون ، وانما كان أهل مصر يقاتل من يليه يعدل بينهم في البعوث فذهب ذلك كله ، حتى عاد الناس رجلين : أجير مؤتجر بعد بيع الله ، ومستأجر صاحبه غارم بعد عذر الله ، وذهب الحـج وضيـع وافتقر الناس . فمن اعوج ممن عوج هذا ، ومـن أقوم ممن اقام هذا ؟ فردّ الجهاد الى العباد ، وزاد الجهاد على العباد ان ذلك خطأ عظيـم . ([22])
الركن الثالث : حكمة الجهاد
الدنيا دار ابتلاء ، وقد جعل الله الناس بعضهم فتنة لبعض . ومن ابرز مصاديق هذه الفتنة الحرب ، حيث يبتلي المسلمين بالكفار فاذا هم يتمايزون . يتساقط المنافقون على اطراف المسيرة ، وهم أولاً : الذين يفضّلون منافعهم المادية على الجهاد (ولا يرون انفسهم جزء من الأمة) . ثانياً : الذين يبحثون عن الرئاسة (ويقولون هل لنا من الأمر شيء) . ويزداد المؤمنون طهراً ونقاءً ، وتتمخض ساحات الجهاد عن الشهداء الذين يصلحون لقيادة الأمة. 1/ الحرب من أشد الفتن التي يتعرض لها البشر ، فبها تبلو سرائر الناس ، وتظهر حقائقهم . وهذه هي من حكم فرض الله القتال على المسلمين . وكان الله قادراً على ان ينتصر من الكفار ، كما انتصر لدينه من عاد وثمود وآل فرعون . ولكن الله يبلو بعض البشر ببعض ، فاذا بالمؤمنين الصادقين يتمايزون عن المنافقين المندسين في صفوفهم . قال الله سبحانه : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنتَصَـرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُـوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُـوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ » (محمد/4) ويتساءل البعض ؛ إذا كان الابتلاء هدف الحرب ، فماهو مصير الشهداء في المعركة ؟ والجواب ؛ ان عملهم محفوظ عند ربهم ، حيث يهديهم ربهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة . 2/ وأول الابتلاء ظهور حقيقة المنافق الذي يبحث في المعركة عن مصالح ، ولا يرى نفسه جزءً من الأمة . ومن هنا فاذا اصابت الأمة مصيبة (لم يرف له جفن ، لانه لايهتم إلاّ بنفسه) ، ويحمد الله على أنه لم يشهد المعركة حتى يصاب باضرارها ، (وكأن الذين اصيبوا ليسوا منه وليس منهم) . وكذلك تراه في المغنم يتحسر ، لانه لم يكن مع المسلمين حتى يغنم شيئاً . (فهو لايرى إلاّ نفسه ، ولا يعيش إلاّ هَمّ ذاته ) ، وكأنه ليس بينه وبين المسلمين مودة . قال سبحانه : « وإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَاَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً » (النساء /72-73) 3/ وتظهر بالابتلاء في الحرب حقيقة الباحثين عن الرئاسة ، (وهم الانتهازيون الذين يريدون النصر العاجل على الاعداء ليحصلوا على مكاسب ذاتية ، ولعل الواحد منهم يُصبح رئيساً او قائداً او صاحب شهرة) . ولذلك ترى اعينهم على المكاسب أبداً ، ويقولون هل لنا من الأمر من شيء ؟ (وهل نصبح شيئاً مذكوراً في نهاية المطاف ؟ وامثال هؤلاء يتهربون من التضحية ، لان من يقتل لا يستفيد من نتائج المعركة) . ويسمي القرآن هذا ظناً من ظنون الجاهلية ، (حيث كان الفرد يبحث عن مكاسبه الذاتية او عن الحميات والعصبيات) . وهكذا كانت الحرب من أجل كشف سريرة هؤلاء ، ولكي يبلغ الصادقون درجاتهم بالشهادة في سبيل الله . قال الله سبحانه : « ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الاَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الاَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (آل عمران/154) ومن أهداف القتال تمحيص ما في القلوب ، لتطهر نفوس المؤمنين من شوائب الشرك والشك والحمية والمصلحية ، وكل الحجب المادية التي تمنعهم من تسنم الدرجات العلى عند ربهم . قال الله سبحانه : « وَلِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ » . 4/ عندما يدخل المؤمن في خضم الحرب يتعرض لموجات من الفتن المتلاحقة ، حيث يرى نفسه في كل فتنة بين العقل والهوى ، بين رضوان الله ووساوس ابليس ، بين الاقدام في سبيل الله والاحجام عنه اتباعاً لحب النفس .. وعندما يختار في كل مرة الطريق الصحيح ، فانه يزداد عزماً وهدى وايماناً ، ويقترب من رضوان الله ونوره . وهكذا يمحَص قلبه ويُطهَر من الشوائب . بينما الكافر في الطرف الآخر يختار محاربــة الدين ، وتنمـاث في قلبه بقايـا الوجـدان ويمحق الى الأبد . قال الله سبحانه : « وَلِيُـمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ » (آل عمران/141) 5/ وفي الحرب يتفاضل المؤمنون ؛ فيبرز منهم فريق يتدرجون في معارج الايمان والكفاءة الى اسمى درجة ، وينالون بذلك حب واحترام وتقدير المجتمع ، فيصبحون قادة فيه وشهداء عليه . (وهذا النوع من الانتخاب الطبيعي للقيادات أسلم نوع ، حيث لايجد الانتهازيون سبيلاً الى المراكز القيادية . بعكس سائر الانواع ، كالاقتراع فانه كثيراً ما يسمح لغير الصالحين بالصعود الى المراكز الحساسة فيفسدونها). قال الله سبحانه : « إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » (آل عمران /140) وفي الآية تذكير بحقيقة هامة ، هي سنة الصراع في الحياة ، وان القرح يصيب الكفار كما يصيب المسلمين . ولذلك فان على الانسان سواءً كان كافراً او مسلماً ، ان يخوض صراعاً ويصاب بقرح ، فليكن قرحه في سبيل الله ليكون عنده مجزياً ومرضياً . وذكَّرت الآية بسنة الهية مهمة ، ألا وهي : ان قيادة الحياة ليست دائمة لهذا الفريق او ذاك ، وانما يداول الله الايام بين الناس . اما لصلاحية هؤلاء وعدم صلاحية اولئك ، واما لامتحان البشر بعضهم ببعض .
الركن الرابع : الثبات في القتال
الثبات في القتال من أهم اسباب النصر في الحرب ، وقد أمر الله سبحانه به ، كما نهى ربنا عن الفرار من الزحف ، واعتبر ذلك عهداً من عند الله مسؤولاً عنه . وعوامل الثبات ؛ نصر دين الله، وذكر الله كثيراً. وقد انزل الله على عباده المؤمنين الملائكة ليثبتوا قلوبهم، فاطمأنت النفوس حتى غشيهم النعاس أمنة من الله سبحانه . 1/ اول شروط الانتصار ، هو عقد العزم على الثبات مهما كلف الأمر ، كما قال الامام علي عليه السلام لابنه محمد ابن الحنفية لما اعطاه الراية يوم الجمل : "تزول الجبال ولا تزل ، عض على ناجذك ، اعر الله جمجمتك ، تد في الأرض قدمك ، ارم ببصرك اقصى القوم ، وغض بصرك ، واعلم ان النصر من عند الله سبحانه ". ([23]) ولكن العزم على الثبات بحاجة الى تنمية الارادة وشحذ العزم ، وذلك عن طريق تحقيق الشرط الثاني للانتصار ، وهو ذكر الله ذكراً كثيراً . لان ذكر الله يوجه المرء الى أوامره الرشيدة ، والى وعده ووعيده بالثواب او بالعقاب ، والى آلائه التي تشكر ، ورضوانه الذي يرجى ، وحبه الذي يتطلع المؤمن الى الشهادة من أجله . قال الله سبحانه : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (الانفال/45) الفلاح يأتي بالنتيجة بعد شرطي الثبات عند اللقاء ، وذكر الله كثيراً . 2/ والثبات يعني عدم تولي الأدبار ، (واستمرار المواجهة الشجاعة مع العدو حتى النصر) . والاستثناء الوحيد لجواز التولي ، هو ان يكون للعودة بقوة أكبر ؛ اما عن طريق اختيار موقع افضل مثل ترك السهل الى الجبل وترك الساحة الى الخندق ، او عن طريق اختيار جماعة يتعاون معهم ضد العدو . ( ويبدو ان القرآن يذكرنا بأهمية اختيار الموقع المناسب والجماعة المناسبة لمتابعة القتال ، وعدم الاعتماد على نصر الله فقط) . والله يغضب لمن يولي العدو دبره . (وغضب الله قد يتمثل في مضاعفة الخسائر ، او حتى الهزيمة غير المنتظرة . ذلك ان الاقدام يعجل النصر ويقلل الخسائر) . قال الله تعالى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الاَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » (الانفال /15-16) 3/ والثبات هو عهد الله مع المسلم ، (سواءً عهده في عالم الذر ، أو عند البيعة مع الرسول) .. وهكذا يجب العمل بهذا العهد ، حيث انه عهد مسؤول عند الله سبحانه . قال الله تعالى : « وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْــؤُولاً » (الاحزاب/15) ويستفاد من الآية ؛ انه ينبغي للقيادة الربانية اخذ العهد من المقاتلين بالثبات، كما حصل من النبي صلى الله عليه وآله في بيعة الرضوان تحت الشجرة . 4/ مما يؤكد الثبات في المعارك ، معرفة الانسان بانه لايستطيع بالفرار الخلاص الى الأبد من الموت او القتل . فلعله يبعده عن ذلك لحظات واياماً ، ولكنه لن يكون سبباً للبقاء والاستمرار . فما يدفعه المجتمع - وحتى الانسان الفرد - بسبب الهزيمة ، يفوق ما يدفعه بالاستقامة اضعافاً مضاعفة . اذ انه بفراره من المعركة يعطي العدو زخماً من الثقة بالنفس ، فيشجعه على نفسه . قال الله سبحانه : « قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ اِن فَرَرْتُم مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً » (الاحزاب /16) 5/ ومن عوامل الثبات في المعركة الاستقامة بالله ، (والاعتصام به ، والتوكل عليه) . وحين يتذكر الانسان حالاته السابقة ، وكيف احتاج الى رحمة ربه فدعاه بحقيقة الايمان ، فاسعفه وانقذه من المشاكل . وحين يدرس تاريخ المؤمنين ، وكيف تدخلت قوة الغيب في تأييدهم، يعرف حينئذ ان التوكل على الله سر التغلب على الصعاب . (ويذكّر القرآن الأمة الاسلامية بماضيها ، وابرز المعارك الحاسمة فيه ، والتي تتكرر - دوماً - مثيلاتها ؛ مثلاً في معركة بدر حيث استغاث المسلمون فامدهم ربهم بالف من الملائكة ..) (والاستغاثة - كأي دعاء آخر - تكشف عن ارادة النجاح التي لاتقهرها حتى المشاكل المادية الظاهرة ، كما انها تكشف عن ايمان قوي بان الأمور بيد الله سبحانه) . قال الله سبحانه : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ اَنِّي مُمِدُّكُمْ بِاَلْفٍ مِنَ الْمَلآَئِكَةِ مُرْدِفِينَ » (الانفال /9) 6/ والملائكة من وسائل النصر ، ومن وسائل الثبات في المعركة . وهناك وسائل اخرى يوفرها ربنا اذا شاء ؛ مثلاً في حرب بدر كانت الاعصاب متوترة ، والنفوس ملتهبة هلعاً ، والاجسام تثقل بالاوساخ .. فبرّد الايمان والتوكل افئدة المسلمين ، حتى مالت الى الراحة والنعاس فاستراحت الاعصاب ، واستعدت لمعركة حاسمة في اليوم التالي . وهكذا حين يتوكل العبد على ربه ، يستريح في ظلال الثقة به وبقدره وقضائه ، فلا يحرق اعصابه ، بل يعيش في كنف امان ربه . والمؤمنون حقـاً هم الذين يزدادون ايماناً في ساعة العسرة ، لان تلك الساعات تكشف جوهر البشر وطبيعته الكامنة . وهكذا انزل الله على المسلمين من السماء ماء ليطهرهم به، ذلك لان كثيراً من الجراثيم التي يتلوث بها الجو - وتنتقل عبر الهواء او الماء من شخص لآخر- تموت بعد المطر ، فيرتاح منها الجيش الذي تكثر فيه احتمالات الخطر . وحين يتلطف الجو بماء السماء يسعد الناس ببركات الله، فتطمئن قلوبهم ويذهب عنهم الخوف والتردد، كما تذهب - بالمطر- النجاسـة الماديـة التي تؤثر في النفـس ايضاً، وذلك عن طريق الوضوء والغسل . قال الله سبحانه : « إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ اَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ اَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ » (الانفال /11-12) 7/ ويحرّض القرآن الذين آمنوا ، واستعدوا لتنفيذ أوامر الرسالة ، وعرفوا قيم الحق الذي أنزل من ربهم ؛ يحرّضهم على الجهاد في سبيل الله بنصر دينه ، ويبشرهم لقاء ذلك بالفتح والثبات . (ونستفيد من ذلك ؛ ان الانتصار للدين من عوامل الثبات) . يقول ربنا سبحانه : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ » (محمد/7) وربما جاء التعبير بنصر "الله" مع ان الله غني عن العالمين ، ليكون شاملاً لنصر كل ما يتصل بالايمان بالله ، في كل حقل وفي كل عصر ومصر ، حتى يكون المؤمن قواماً لله ، مستعداً للدفاع عن الحق أبداً في مواجهة أي شخص او قوة . وإنما جزاء النصر نصر مثله . فمتى نصرت الله بتطبيق دينه على نفسك وأهلك والأقربين منك ومجتمعك ، ودافعت عنه ضد اعداء الله ، فان الله ينصرك بذات النسبة . اما إذا اقتصر نصرك على بعض المجالات ، فلا تنتظر نصراً شاملاً .
الركن الخامس : المتخلفون عن القتال
لان القتال كره للبشر ، ترى كثيراً من الناس يتخلف عنه ، حتى إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ، رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون الى النبي وكأنه غشي عليهم مـن الموت ، ولا يثبت فيه إلاّ المؤمنون . 1/ فالمنافقون يتركون القتال ، وذلك : ألف : باهمال الاستعداد له . باء : تراهم يستأذنون النبي (والقيادة الرسالية) لكي لايحضروا الحرب ، حتى ان بعضهم يقول ائذن لي ولا تفتني ، وقد يستأذن النبي بعضهم . جيم : تراهم اذا حضروا المعركة لم يقاتلوا ، بل كانوا كلاً على المؤمنين ، ويقومون باثارة الفتن ويتجسسون للعدو. دال : اذا اصيب المؤمنون بخسارة او هزيمة تراهم يفرحون . 2/ وترى المنافقين يمنعون الناس من القتال ، ويشيعون فيهم ان الوقت صيف فلا تنفروا في الحرِّ ، (وامثال هذه الاشاعات) . 3/ يستقبل المؤمنون الحقائق بأذن واعية ، وبصائر نافذة من دون حجاب ، وبقلوب طاهرة من الجهالة والعناد والتكبر . بلى ؛ ان مثل حقائق الرسالة ومثلهم كما الأرض الموات تستقبل زخات الغيث المباركة، فاذا نزلت عليهم سورة وعوها واستعدوا لتنفيذ أحكامها ، وإذا لم تنزل عليهم تراهم يتساءلون أفلا حبينا بها ، أفلا قرت أعيننا بالنظر الى آيات جديدة؟ اما الذين في قلوبهم مرض ، فانهم على العكس تماماً . اذ يتخوفون ان تنزل عليهم أوامر جديدة تأمرهم بالقتال مع العدو ، لأنهم لايملكون الاستعداد الكافي لتطبيق الاحكام. فاذا أنزلت سورة محكمة لايمكن الجدال فيها ، وامرتهم بالقتال . هناك تبلى حقائق الرجال ، حيث ترى الذين تنطوي قلوبهم على مرض النفاق والشك (ينكفئون على انفسهم)، وينظرون الى النبي (والقيادة الرسالية) نظر الذي غشي عليه من الموت ، من فرط خوفهم . وهكذا يمتاز المؤمنون عن الذين في قلوبهم مرض ، لأن المؤمنين يثبتون في مختلف الظروف . بينما ترى هؤلاء في حالة من الرعب ، تشبه حالة المحتضر الذي يشخص ببصره فزعاً ، وهو فاقد لقدرة التركيز . قال الله تعالى : « وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ اُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فأَوْلَى لَهُمْ » (محمد /20) يبدو من آية قرآنية أن الذين في قلوبهم مرض طائفة أخرى غير المنافقين ، حيث يقول الله عز وجل : « لَئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً » (الاحزاب/60) أما كلمة « فأَوْلَى لَهُمْ » فهي كلمة تستخدم في اللعن ، واختلفوا في معناها الدقيق ، هل هو بمعنى : يليه مكروه ، او لهم الويل ، او الموت أولى لهم ؟ ويبدو ان هذه الكلمة تأتي بعد بيان سيئة من سيئاتهم فعلاً او قولاً فيكون معناها ؛ إنهم يستحقون تلك السيئة وهم أحق بها، وأولى من غيرهم. وفي المقام يكون المعنى ؛ ان هذه العاقبة السيئة التي انتهوا اليها من رفضهم لسورة القتال ، يستحقونها لما كان في قلوبهم من مرض . ذلك لأن النفاق والخوف الذي يحول بين الانسان وقتال الأعداء ، جرم كبير وضلالة بعيدة ، لأنه يجر صاحبه الى الاستسلام للطاغوت ، وفقدان استقلاله أمام الغزاة ، والتنازل عن قيمه وشخصيته خشية بطش الجبارين . وكل من ارتد عن الدين او اتبع الظالمين ، انساق الى مصيره الأسود ، بسبب تلك الامراض الخطيرة التي تمكنت من قلبه. 4/ يريد البعض ان يكون الجهاد سفرة قريبة او غنيمة حاضرة ، ولو كان كذلك لكان اول المبارزين ، ولكن الجهاد عمل شاق . قال الله سبحانـه : « لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَتّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ » (التوبة/42) القاصد هو السبيل الذي يقصد لقربه وسهولته، بينما الشقة هي المسافة البعيدة او الوعرة التي من الصعب تجاوزها والسير فيها . يتعلل المنافقون على ذلك بانهم لايقدرون القيام بالاسفار البعيدة ، ولذلك فانهم يحلفون بالله انهم كانوا يخرجون مع المسلمين لو استطاعوا . وهكذا كل كسول يزعم انه لايقدر على القيام بأي شيء ، وبهذا يهلك هؤلاء أنفسهم بسبب كسلهم وتقاعسهم عن الجهاد . اذ ان الكسل عن العمل يفقد صاحبه قدراته ومهاراته ، كما يفقده فوائد العمل ومكاسب الجهد الخارجية . ولكنهم كاذبون ، والله يعلم كذبهم . 5/ حين تتقاعس طائفة من ابناء المجتمع عن الجهاد والتضحية ، ويشيعون حولهم الافكار السلبية ، يخشى ان يتأثر الآخرون بهم ، لولا قيام الطليعة الواعية باعطاء الناس رؤية واضحة تجاه هذه الطائفة المصلحية التي يجسدها المنافقون في المجتمعات المؤمنة، التي كانت ترضى بالقعود برغم ان القائد الرسالي كان يقود المعركة . وان قعود امثال هؤلاء - في الوقت الذي يخرج رسول الله للجهاد - دليل على انهم لايريدون الجهاد ، وان تبريرهم ببعض الأقوال لم يكن سوى غطاء لقعودهم ، حيث كانوا يقولون لبعضهم : لاتخرجوا في الصيف . ولكن السؤال : هل يستطيع المسلم ان يدرء عن نفسه نار جهنم من دون اقتحام ساحات الجهاد ؟ كلا ؛ فالنار أشد حراً من حر الصيف ، والمجاهد يطفئ بالجهاد نار جهنم . (حتى مصاعب الدنيا لن تزول من دون تحمل بعض الصعاب . فاذا هاجمك العدو في أيام الحر او البرد ، فهل تستطيع ان تقول له انتظر الى ايام الربيع او الخريف ، أم ان ذلك مجرد حلم؟) ان الذين يهربون من المشاكل سوف تتضاعف عليهم المصائب والويلات ، وعليهم ان ينتظروا أياماً حالكة ، فيبكوا كثيراً بعد ان ضحكوا قليلاً . قال الله سبحانه : « فَرِحَ الْمُـخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لاتَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فإِن رَجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً اِنَّكُم رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاتَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ » (التوبة/81-84) ان المؤمنين الصادقين يبادرون في أيام رخائهـم وقدرتهـم بالاعـداد والعمل الجاد ليوم الشدة ، وانهم مستعدون لخوض غمار المعركة في أشد الأيام ، لذلك فان اعداءهم يرهبون جانبهم ، وفي ظل القوة يستمرون في حياة آمنة كريمة . وبعض المنافقين يحاولون العودة الى أحضان العالم الاسلامي ، لا ليكونوا مواطنين صالحين وصادقين ، بل ليستفيدوا من المكاسب بعد ان نصر الله عباده المجاهدين ، وليستغلوا نفوذهم المادي ، ويتسلطوا على رقاب المؤمنين ولكن باسم الدين هذه المرة ، كما فعلت بنو أمية في التاريخ الاسلامي . ولكن القرآن يحذر من ذلك ، وحكمته في ذلك قد تكون ؛ ان أيام الشدة امتحنت النفوس المؤمنة فعلاً ، وفرزتهم عن الجماعات الوصولية التي تميل مع القوة اينما مالت ، وتحاول ان تستفيد من كل وضع بما يتناسب وشعارات ذلك الوضع . واساساً فلسفة الجهاد في الاسلام هي انقاذ الجماهير غير الواعية من شر هذه الجماعات الطفيلية النفعية . لذلك يجب ان تكون القيادة الرسالية حذرة جداً ، فلا تسمح لهؤلاء بالعودة الى الساحة السياسية أبداً . ومن هنا أمر الله النبي بأنه إذا رجع الى طائفة منهم واستأذنوه بالجهاد معه ، فليرفض ، لانهم رضوا بالقعود اول مرة . 6/ للمنافقين الذين تكشفهم الحرب عدة صفات لابد ان نعرفهم بها : ألف : ان المنافقين لا يريدون الجهاد بدليل انهم لم يعدوا له عدة ، ولو أرادوا الخروج للحرب لهيأوا وسائله سلفاً . لذلك ثبطهم الله ، وسلبهم عزيمتهم ، وجعلهم يقعدون مع الذين لايملكون قدرة الخروج . باء : ولو تحاملوا وخرجوا للحرب فانهم لايريدون الجهاد فعلاً ، ولذلك تراهم يصبحون كلاً على المسلمين . جيم : وفي ارض المعركة يثير المنافقون الفتنة ، ويفسدون علاقة المؤمنين ببعضهم باثارة الحمية الجاهلية . دال : وهم - بالتالي - جواسيس وعيون للاعداء على المؤمنين ، والله يعلمهم ويعلم طبيعتهم الظالمة . والدليل على هذه الحقائق تاريخهم السابق ، حيث كانـوا - من قبل - يحاولون اثارة هذه النعرات ، وتغيير مسار الاحداث باتجاه مضاد للرسالة، ولكن الله أظهر أمره وهم كارهون . ومن المنافقين من يقول للرسول : اعطني اذناً بالتخلف عن المعركة حتى لا اضطر الى ترك أمرك وعصيانك . بينما هذا الاستئذان ذاته عصيان وتخلف عن الواجب ، وان جهنم محيطة بالكافرين . فسواء خرجوا او تخلفوا فانهم في النار ، لانهم أساساً من الكافرين ، والكافر لايصلح عملاً ولا يفلح مصيراً . هاء : ومن علامات المنافقين انهم يفرحون كلما ينهزم المسلمون ، ويحزنون كلما ينتصرون . ويزعمون ان انفصالهم عن ركب الرسالة دليل على كمال عقلهم وحذرهم ، لانه لم يصبهم ما أصاب المؤمنين . ويردّهم القرآن حيث يقول ربنا : ان المصائب مكتوبة على الانسان ، ومقدرة من قبل الله سبحانه . والمؤمنون لايخشون المستقبل لانهم يتوكلون على ربهم ، ونهاية ما يمكن ان يصيب المؤمنين هو القتل في سبيل الله ، وهو احدى الحسنين ، او الانتصار فهو عاقبة حسنى معروفة . بينما المنافقون إما يموتون فيعذبون عند الله ، او يبقون فيعذبون على يد المؤمنين . اذاً الوقت في صالح المؤمنين ، والنهاية لهم على أية حال . قال الله سبحانه : « وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ » (التوبة/46) 7/ في كثير من الاحيان يزعم الانسان انه مؤمن ، بينما قلبه مرتاب يشك في الله واليوم الآخر . والاعمال الصعبة كفيلة بكشف هذا الانسان لنفسه وللاخرين ، والريب ينعكس في عدم القدرة على اتخاذ القرار الحاسم . وهكذا ترى المنافقين يترددون في ريبهم ويتقاعسون عن الجهاد . قال الله سبحانه : « إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لايُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ » (التوبة/45) 8/ ان بعض المنافقين يريدون تطويع الدين لشهواتهم واهوائهم ، ويطالبون القيادة الدينية بان تسمح لهم بارتكاب بعض المحرمات ، زعماً منهم ان لهم الحق في ذلك . ويهددون القيادة بانها لو لم تأذن لهم بمثل ذلك لتركوا الدين ولخالفوا أوامر الله ، وتكون الخطيئة على عاتق القيادة التي استصعبت عليهم الأمور . فهل هذا صحيح ؟ كلا ؛ اذ ان الدين هـو المهيمن على تصرفات البشر والقائـد لمسيرتهـم ، لا العكس كما يريده المنافقون ، وبالتالي يجب ان يَتبع الدين لا ان يُتّبع . ومن جهة اخرى محاولة المنافقين بتطويع الدين لشهواتهم ، ومطالبتهم بالاذن لمخالفة تعاليم الدين . هذه المطالبة ذاتها خروج عن الدين وكفر به ، اذ ليس بدين ذلك الذي يتخذ مطية لأهواء المنافقين . وهكذا ترى البعض يقول للقيادة الرسالية : إئذن في ترك الجهاد لكي لا امتحن امتحاناً صعباً ، ولكن هذا الاستيذان بذاته دليل على سقوطه في الفتنة. قال الله سبحانه : « وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ » (التوبة/49) ولعل معنى احاطة جهنم بالكافرين ، ان سيئات اعمالهم وما كسبته قلوبهم وانفسهم من الرذائل والخطايا هي بذاتها نيران كامنة ، او عقارب وحيات ، وانها سوف تظهر في صورة نيران ملتهبة وعقارب لاذعة وحيات لاسعة في يوم القيامة . ومادام البشر قد اختار طريقاً منحرفاً ، فان كل أعماله ستكون وبالاً عليه؛ كما اذا اتخذ قائد الجيش استراتيجية خاطئة، فان أساليبه وعملياته ستكون كلها باطلة وغير نافعة . 9/ (من فوائد الجهاد والاعمال الصعبة التي يكلف بها المؤمنون ، فرز العناصر المؤمنة المخلصة عن العناصر الكسولة المتجمعة حول الرسالة طمعاً في الجاه والمال . ذلك لان تواجد هؤلاء في مجتمع الرسالة يربك القيادة ويضعف المجتمع . فلا تستطيع القيادة اعطاء اوامر حاسمة لعدم ايمانها بتنفيذها ، كما لا يستطيع المجتمع تنفيذ الخطط الطموحة . وغالباً ما تكون هذه العناصر من شريحة المتملقين ، الذين يشغلون المناصب الحاسمة في المجتمع . فعن طريق تكليفهم بالواجبات الصعبة وعدم قيامهم بها ، يتم تعريتهم ومن ثم تصفيتهم . لذلك يعاتب الله رسوله على اعطاء هؤلاء اذناً بعدم الاشتراك في الجهاد ، حيث كان ذلك الاذن غطاء لعدم كشفهم على واقعهم امام المجتمع . وهكذا) قال الله للرسول لم أذِنت لهم (تبياناً لواقعهم الفاسد ، وتذكيراً برحمة النبي صلى الله عليه وآله) . قال الله تعالى : « عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ » (التوبة/43) 10/ وهكذا كشف الكتـاب واقع الذيـن يستأذنون لترك المعركـة ، وبين واقع الاعراب الذين لمّا يدخل الايمان في قلوبهم والذين يعرفون ظاهراً من الدين . وهؤلاء جاؤوا الى الرسول صلى الله عليه وآله ليأذن لهم بالانصراف عن الحرب بعد ان انتحلوا عذراً ، وما كانوا يريدون إلاّ الفرار من الجهاد . لذلك عبر القرآن الحكيم عنهم بالمعذّرين ، حيث يبدو من معنى كلمة (المعذر) انه الذي يتكلف عذراً ويختلقه . والهدف من مجيئهم كان الاذن للانصراف ، لا الاستفهام الحقيقي عن واجبهم الديني . وفسّر بعض المفسرين هذه الآية بطريقة أخرى ، فقال : الظاهر ان المراد بالمعذرين هم أهل العذر ، كالذي لايجد نفقة ولا سلاحاً ، بدليل قوله : « وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » (التوبة/90) الآية ، والسياق يدل على ان في الكلام قياساً لاحدى الطائفتين الى الأخرى ، ليظهر به لؤم المنافقين وخستهم وفساد قلوبهم وشقاء نفوسهم ، حيث ان فريضة الجهاد الدينية والنصرة لله ورسوله ، هيّج لذلك المعذرين من الأعراب ، وجاءوا الى النبي صلى الله عليه وآله يستأذنوه ، ولم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئاً . ([24]) أما المكذبون فقد قعدوا عن الحرب دون استئذان ، وذلك بسبب تكذيبهم الله ورسوله . قال الله سبحانه : « وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » (التوبة/90)
ثانياً : فقه القتال
تمهيد :
في فقه الآيات نستعرض انشاء الله جملة من أحكام القتال باعتبارها من القضايا الفقهية العامة ، والتي كانت محور بحوث مسهبة سابقاً ، وقد تجددت فيها مسائل كانت بحاجة الى دراسة مقارنة مع القوانين الحديثة المرعية . ومن هنا فسوف نبحث في ثلاثة عشر ركناً موضوعات الجهاد : في الركن الأول نبحث عن ضرورة دراسة المجتمع الاسلامي على ضوء المعايير الجهادية ، لان حكمة الحرب هي ابتلاء المجتمع واستخراج معادنه وكشف الكفاءات لجعلهم الشهداء والقادة في هذا المجتمع ، وكشف العناصر الضعيفة لاصلاحهم او ابعادهم عن المراكز الحساسة . وفي الركن الثاني نستعرض احكام التخلف عن القتال وكيفية التعامل مع المتقاعسين عنه .