بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
وفي الركن الثالث نستعرض بتفصيل اسباب مشروعية القتال ، حيث نبين عوامل الحرب في القسم الأول ، ونبين كيف نواجه الطاغوت في القسم الثاني من هذا الركن . اما الركن الرابع فقد خصص لبيان احكام ذوي الاعذار الذين يسقط عنهم القتال . بينما نفصل في الركن الخامس الحديث عن ولاية القتال وقيادته .. وبالذات في العصور الراهنة، حيث ننتظر القيادة المعصومة . وفي هذا الركن نتلو الحديث الشريف الذي يفصل القول في أمور الجهاد ، وشروط المجاهدين وشروط قادتهم .. وفي الركن السادس الى الثامن نتحدث بالترتيب عن القتال المحرم في الأشهر الحرم وعند البيت الحرام ، وعن الأسلحة التي تستخدم في المعركة ، وعن احكام الهجوم والانسحاب فيها . وفي الركن التاسع يفصل القول عن المواثيق في الحرب باقسامها ، ومن الاقسام العامة المهادنة (اتفاقية السلام) والاجارة والذمام ، واحكام الاقامة في البلاد الاسلامية ، واتفاقية التحكيم (ومنها الرجوع الى المحاكم الدولية مثل محكمة لاهـاي ومجلس الأمن الدولي)، واحكام الجعالة في الحرب . اما في الاركان الأخيرة ، من العاشرة الى الثالث عشر ، فانها تتناول احكام ما بعد المعركة ؛ مثل احكام اسرى الحرب ، واحكام الجزية ، وغنائم الحرب والله المستعان .
الركن الأول : تحقيق حكمة الابتلاء
1/ لأن حكمة الله في الجهاد الابتلاء ، فان علينا الاستفادة من هذه الحكمة في خضم القتال ، وذلك بالوسائل التالية : أ- رصد الساحة بدقة وبوسائل علمية ، لمعرفة العناصر الجبانة في أجهزة الدولة ، ومحاولة اصلاحهم او تبديلهم . ب- كذلك رصد العناصر الكفوءة لترفيعهم ، وايكال المهام الحساسة اليهم . ج- وهكذا يجب اختيار الرجال القياديين الذين تفرزهم جبهات الحرب ، ليس فقط للحروب القادمة ، بل لقيادة الأمة في سائر مرافقها الحيوية . لان الرجل الكفوء في الحرب ، هو عادة كفوء في ادارة الحياة . 2/ من أجل ممارسة الرصد بفاعلية كافية ، فان الجيش بحاجة الى جهاز معلومات دقيق وصالح ، والى تقديم هذه المعلومات بامانة الى القيادة الرشيدة والحكيمة . 3/ (الانفال /45) ؛ لان الجيش الاسلامي يتمتع بروحية عالية جداً ، تسمو على معنويات العدو سمواً كبيراً . من هنا كان على علماء الدين والمرشدين وسائر القيادات ان يوجهوا الجنود بصورة دائمة الى أهمية الثبات والاستقامة ، وذلك بما يلي : أ- بتركيز قيمة الثبات وجعلها من أهم محاور التوجيه العسكري ، وجعلها قيمة اساسية . ب- بتذكير الجنود بالله سبحانه ، وتركيز حب الله في نفوسهم ، وتكثير البرامج الروحية (من صيام وصلاة ودعاء وتوسل وذكر سيرة الأئمة والأولياء وشجاعتهم ومصائبهم وما جرى عليهم في سبيل الله وصبرهم ) . ج- ينبغي لكل مقاتل ان يديم ذكر الله ، وذكر اسماءه الحسنى ، ونعماءه وآلاءه والاستغفار اليه والاستغاثة به .. فان ذلك (سبب الثبات و) الفلاح .
الركن الثاني : المتخلفون عن القتال
(محمد/20) ، (التوبة/42-43) ، (التوبة/45) ، (التوبة /49) ، (التوبة/81-84) ، (التوبة/90) ؛ ينبغي للمؤمن ان يحدث نفسه بالغزو في سبيل الله ، ويكون مستعداً للجهاد حتى في أقصى الأرض ، ولا يأبه بالحر والبرد ، ولا يستأذن النبي (والقائد الرسالي) للتهرب من القتال ، ولا يرتاب في أمر الله . ومن هذه البصيرة نستوحي الاحكام التالية : 1/ كما ان من الواجب الاعداد المادي للقتال ، حيث أمر الله بذلك وقال : « وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ » (الانفال/60) ، كذلك يجب الاعداد النفسي (والمعنوي) للقتال ، حيث ينتظر المؤمنون دائماً أمر الله بالجهاد . وقد جاء في حديث نبوي : "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزاة ، مات ميتة جاهلية" . ونقرأ في بعض الزيارات المأثورة "منتظراً لأمركم" . ولعل هذا أحد معاني الانتظار الذي جاء في الحديث ، انه من أفضل اعمال الأمة المرحومة . 2/ لايجوز التمرد على أمر القيادة بالجهاد ، حتى ولو كان القتال في مناطق بعيدة . ولا يجوز التعلل بالمعاذير الكاذبة للفرار من الجهاد ، ومنها الاعتذار عن القتال بعدم معرفة فنونه ، كما لايجوز التعلل بالحر والبرد . 3/ المتمرد على القتال يطرد من صفوف المقاتلين . فاذا وقعت حرب أخرى وطالب بالانضمام الى الجيش ، يرفض طلبه ، لانه تمرد أول مرة . وإذا مات المتمرد لا يصلي عليه القائد ولا يقوم على قبره (ليستغفر له) ، لانه فاسق . 4/ لايجوز التهرب عن القتال بطرق ملتوية ، مثل استيذان القيادة بعلة او بأخرى . 5/ لابد من رصد حركة المنافقين (والعناصر المشبوهة) لكي لا يثيروا الفتن ، ويُشيعوا الوساوس الشيطانية . ذلك لان معنويات الجيش الاسلامي ذات اهمية قصوى . أوليست الحرب الاسلامية حرب دينية ذات غايات الهية ، وان المقاتل يبتغي بجهاده مرضاة ربه ؟ أوليست الدعايات المغرضة ، وبث الاشاعات ، واثارة الحميات ، قد تفسد هذه النية الخالصة عند المحارب ، وتكون له آثار سلبية كبيرة على نتائج الحرب ؟ ومن هنا كان على القيادة رصد هذه العناصر ، ورصد الاقوال التي تشيع بين المقاتلين ، وكشف مصادرها ، ومواجهة سلبياتها ، ورد شبهاتها .. لكي لا تتفاجأ بفتنة عمياء يبتلى بها الجيش ، مثلما حدث في بعض معارك المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وآله ، حيث اراد عبد الله بن أُبيّ ان يثير الفتنة بين المهاجرين والانصار ، حيث نزل المسلمون بعد معركتهم مع بني المصطلق وانتصارهم عليهم باذن الله ، نزلوا على ماء فتدافع رجل من بني الغفار كان أجيراً عند احد المهاجرين ، ورجل من الانصار . فانتصر بعض المهاجرين لذلك الغفاري وغضب ابن أبي أُبيّ وقال : اما والله لان رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . يعني بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله . ونزلت سورة المنافقون بهذا الشأن ، حيث نقرأ في بعض آياتها : « يَقُولُونَ لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ » (المنافقون/8) ونستوحي من هذه البصيرة الاحكام التالية : ألف : على المسلمين ان ينقلوا الى القيادة ما يجري بينهم ويسألوها رأيها فيه ، ولا يجوز لهم ان يخوضوا في الاشاعات قبل ان يعرفوا وجه الحق فيها. وقد قال ربنا سبحانه: « وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلَى اُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً » (النساء/83) ونستفيد من هذه الآية عدم جواز اذاعة امور الحرب والسلم والأمن والخوف ، من دون مراجعة السلطات الشرعية للسؤال منها والتفقه في حكم تلك الأمور . باء : على القيادة الاسلامية ان تشكل -لدى الحاجة- جهازاً أمنياً لرصد العناصر المشبوهة في الحرب ، وانما تلجأ الى ذلك عندما لا تكفيها التقارير العفوية التي تتلقاها من الجماهير . جيم : من المهم جداً المحافظة على وحدة صف المقاتلين ، اذ الوحدة عصب النصر في الحرب . وقد قال الله سبحانه : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ » (الصف/4) ومن هنا فان القضاء على الفتن الطائفية ، والحميات الجاهلية ، من أهم واجبات القيادة الرسالية في الحرب . والله العالم . 6/ من الضروري جداً مكافحة حالات التجسس في الحرب الاسلامية، لكي لا يحصل العدو على معلومات عسكرية تخص المسلمين . وقد كان لنا اسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وآله في اتباع السرية في تحركاته الجهادية، وفي مكافحة التجسس. وقصة الرجل الذي تجسس لقريش في فتح مكة مثل واضح لهذه المكافحة، حيث كان الرسول يستعد لفتح مكة، فبعث الرجل بخبر ذلك الى أهلها عبر امرأة، وارسل النبي صلى الله عليه وآله سرية بقيادة الامام علي عليه السلام حيث قبضوا عليها واخذوا الرسالة منها . ومن سبل رصد الجواسيس ؛ رصد العناصر المنافقة التي يسقط فريق منها في شرك الأعداء ويصبحون جواسيس لهم على المسلمين . والقرآن الحكيم فضح المنافقين ببيان صفتهم ، ومن ابرزها ؛ انهم يفرحون إذا عانى المسلمون من هزيمة او نكبة ، ويسخطون اذا اصاب المسلمون نصراً او فتحاً .
الركن الثالث : اسباب مشروعية القتال
(الحج/39-40) ، (البقرة/246) ، (البقرة/191) ، (البقرة/217) ، (الممتحنة/8) ، (النساء/ 76) ، (آل عمران/195) ، (المائدة/32) ، (الانعام/151) وغيرها من الآيات .. نستفيد من آيات الذكر الكريمة ؛ ان الفتنة من ابرز اسباب القتال، لان الفتنة اكبر من القتل، والفتنة تتمثل في اخراج الناس من بلادهم ، (كما الآية 191 والآية 217 / البقرة) . كما تتمثل ايضاً في الصد عن المسجد الحرام (حسبما نستفيد من الآية 39 / الانفال) ، مع ملاحظة الآيات السابقة حول الصد عن المسجد الحرام وهي التي تدعو المؤمنين الى الهجرة ، حيث يقول ربنا سبحانه : « ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ » (النحل /110) ([25]) وإذا عرفنا أن مجانبة الطاغوت واجبة ، اذ قال الله عز وجل : « وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ » (الزمر/17) ، وان الكفر به من التوحيد ، اذ قال الله تعالى : « لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة/256) ، وان الذين كفروا يحاربون في سبيل الطاغوت ، حيث قال ربنا عز وجل : « الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً » (النساء/76) ، وإذا علمنا ان الطغيان هو اكراه الناس على قبول سلطة غير سلطان الله، حيث يقول ربنا سبحانه : « قُلْ يَآ أَهْـلَ الْكِتَابِ تَعَالَــوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُـدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّا مُسْلِمُونَ » (آل عمران /64) ([26]) اذا عرفنا كل ذلك نهتدي الى ان مواجهة السلطات الظالمة التي تحكم بالارهاب ، وتفرض هيمنتها على الناس بغير حق ، وتدعو الى عبادة احد من دون الله .. انها من اسباب القتال . وكثيرة هي الآيات القرآنية التي تفصل القول في هذا النوع من القتال ، ولذلك فان علينا دراسة مسهبة لها ، وذلك من خلال البصائر التالية :
ألف : في مواجهة الظالمين
خلق الله البشر من نفس واحدة ، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ، واسبغ عليهم من نعمه ما شاء . وجعل لكل واحد منهم حقوقاً ، كما فرض عليه واجبات . وجعل فيما بينهم حدوداً ، فمن اعتدى على غيره فقد بغى عليه وظلمه في حقه . وكان للمظلوم ان ينتصر منه ، وعلى الناس ان يعينوه في استعادة حقه . هذه هي البصيرة الاساسية التي تعتمد عليها اغلب شرائع الدين ، التي تنظم العلاقة بين بني آدم . قال ربنا سبحانه : « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » (الحديد/25) فالقسط هو غاية شرائع الله ، وعلى الناس ان يقيموه فيما بينهم . والرسل بلّغوا عن الله قواعد القسط عبر كتب الله ، والميزان (الامام والقاضي وادوات التحديد) . والحديد اداة تنفيذه على من لم يسلم به ، والمجاهدون هم المنفذون . ويتفرع من هذه البصيرة طائفة من الاحكام تتصل بجملة احكام الجهاد ، حيث ان الانسان يدافع عن نفسه وماله وحرماته لكي لا يقع عليه الظلم ، فاذا ظلم انتصر لنفسه حتى يأخذ حقه . وهو كذلك يدافع عن معتقداته الدينية ضد الطغاة والجبابرة ، ويواجه الذين يحاولون فتنته عن دينه . كما انه يدافع عن منافعه ومصالحه ، ويدافع عن المظلوميـن . وهذه ستة شعب للقتال المشروع الذي تخوضه الأمة في سبيل الله تعالى .
1/ عند مواجهة الخطر المباشر
ان للانسان الدفاع عن دينه ونفسه وعرضه وماله ومقدساته .. وهو الدفاع الشرعي الذي فصّل الحديث فيه عبر هذه الموسوعة في باب الحصن والاحصان ، وقد تحدث الفقه عنه في مناسبات شتى وبالذات في كتاب الحدود . كما ان المحقق الحلي اشار اليه في باب الجهاد ، حيث قال : وقد تجب المحاربة على وجه الدفع ، كأن يكـون (أي شخص) بين أهل الحرب ويغشاهم عدو يخشى منه على نفسه، فيساعدهم دفعاً عن نفسه، ولا يكون جهاداً. وكذا كل من خشي على نفسه مطلقاً، او ماله اذا غلبت السلامـة .([27])
2/ دفع الظلامة
عند وقوع الظلم يجوز للمظلوم ان ينتصر لنفسه بالقصاص ، وبأخذ الغرامة ، وبالوسائل الأخرى . وقد بيّن الكتاب ان الانتصار من بعد الظلم من صفات المؤمنين ، حيث قال سبحانه : « وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ » (الشورى/39) وقال سبحانه : « إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ » (الشعراء/227) وهذا الانتصار كما يشمل الفرد نفسه يشمل قومه ، لأن أخذ الحق من الظالم لايكون بصورة فردية ، ولأن التعاون على البر والتقوى قيمة شرعية ، ولأن ذلك من مصاديق الشهادة لله والقيام بالقسط . من هنا قال العلامة النجفي في الجواهر ، شرحاً لما قاله المحقق الحلي في الشرائع ، قال : يجب الدفاع على كل من خشي على نفسه مطلقاً او ماله او عرضه او نفس مؤمنة او مال محترم او عرض كذلك (محترم) اذا غلب ظن السلامة .([28])
3/ للتمسك بالاسلام والمذهب المختار
من أسمى الحرمات للانسان حرمة دينه ، والتي تشمل حرمة كتابه ورسوله ومسجده . وهذه الحرمة هي محور رسالات الله التي جاءت لتحرر الناس من عبادة الطاغوت والجبت ، وتدعوهم الى عبادة الله وحده . وقد جاهد الانبياء والربيّون والصدّيقون من أجل المحافظة على هذه الحرمة . وانما هاجر المؤمنون (واخرجوا من ديارهم) من أجل سلامــة دينهم ، وانما قتل من قتل منهم دفاعاً عن هذه الحرمة . وقد قال ربنا سبحانه : « الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلآَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ » (الحج/40) وقال سبحانه : « فَهَزَمُوهُم بإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءَاتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ » (البقرة /251)
4/ مواجهة الفتنة
حين تتشكل الأمة ، فان حرماتها هي ذات حرمات ابناءها . فمن أراد استلاب حرمة الدين منهم ، او المس بمقدساتهم (المساجد) ، او صدهم عن شعائر دينهم (الصد عن المسجد الحرام مثلاً) ، او منعهم عن اقامة حدود الدين وشرائعه (عن الصلاة والحج مثلاً) ، فان ذلك من الفتنة التي هي أكبر من القتل وأشد من القتل . وعلى الأمة ان تهبّ للدفاع عن حرماتها . وهذا من أبرز اسباب القتال في سبيل الله سبحانه .
5/ مواجهة أعداء الأمة
وهكذا لو تعرضت مصالح الأمة للهجوم ، ومصالح الأمة هي مصالح ابنائها . فالنفوس والأموال كما هي محترمة على مستوى الفرد ، كذلك هي محترمة على مستوى الأمة . ومن هنا فعلى الأمة أن تدافع عن أرضها وحقوقها ، وعن ابنائها والمنتمين اليها أنى كانوا . وهكذا أمرنا الله سبحانه ان نقاتل الذين يقاتلوننا ، حيث قال سبحانه : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ » (البقرة /190)
6/ دفاعاً عن المظلوم
هل يجب الدفاع عن كل مظلوم في الأرض ، وبالذات إذا استغاث بالمسلمين ؟ يمكن ان نستشهد بالأدلة التالية على ذلك : أ- ان ذلك من مصاديق الشهادة التي جعلها الله سبحانه للامة الاسلامية . ب- ان الله تعالى أمر المسلمين ان يقوموا بالقسط ، والقسط هو هدف رسالات الله ، وعلى كل مسلم تحقيقه . ج- انه من الانتصار من الظالم . د- ان ربنا أمرنا بالقتال من أجل المستضعفين . وهذه الأدلة ليست بتلك الصراحة والوضوح ، لان الشهادة على الناس لا تستلزم تطبيق القسط ، بل يكفي فيها الدعوة اليه والحكم به . كذلك القيام بالقسط هو تطبيق العدالة في القول والعمل فيما يتصل بالفرد نفسه ، كقوله تعالى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى اَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ » (المائدة/8) . وهكذا الانتصار انما هو الانتصار للنفس بعد اصابتها بالبغي ، ولا يشمل الانتصار للغير . والقتال في سبيل الله وللدفاع عن المستضعفين ، قد يفسر بالمستضعفين من المؤمنين ، ولايدخل في اطلاقه المستضعفون من غيرهم . وكلمة أخيرة : اثبات مثل هذا الحكم بحاجة الى أدلة ابلغ صراحة وأشد وضوحاً ، وهي التي لم احط بها علماً . ([29]) بلى ؛ هناك أحاديث شريفة ترغّب في نصرة المظلوم ، نذكر طائفة منها : عن أبي عبد الله عليه السلام قال : " قال عيسى بن مريم لبني اسرائيل : لا تعينوا الظالم على ظلمه فيبطل فضلكم ".([30]) وعن علي عليه السلام قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وآله : للمسلم على أخيه ثلاثـون حقّاً ، لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو - الى أن قال - : وينصره ظالماً ومظلوماً ؛ فأما نصرته ظالماً فيردُّه عن ظلمه ، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ولا يسلّمه ولا يخذله ، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه ويكره له من الشر ما يكره لنفسه".([31]) وعن علي بن الحسين عليهما السلام قال : من قضى لأخيه حاجته ، فبحاجة الله بدأ ، وقضى الله له بها مائة حاجة في أحداهن الجنة . ومن نفّس عن أخيه كربة ، نفّس الله عنه كرب القيامة بالغاً ما بلغت . ومن اعانه على ظالم له ، أعانه الله على اجازة الصراط عند دحض الأقدام . ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسرَّ بقضائها فكان كادخال السرور على رسول الله صلى الله عليه وآله ... ([32]) وقال الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام : لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله من العلماء ألاّ يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سَغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ... ([33]) ومـن وصايا أمير المؤمنين للحسنين عليهم السلام : كونا للظالم خصماً وللمظلـوم عـونـاً . ([34]) وجاء في مواعظ المسيح عليه السلام انه قال : بحق اقول لكم : إن الحريق ليقع في البيت الواحد فلا يزال ينتقل من بيت الى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة ، إلاّ ان يستدرك البيت الأول فيهدم من قواعده فلا تجد فيه النار محلاً . وكذلك الظالم الأول لو أخذ على يديه لم يوجد من بعده امام ظالم فيأتمون به ، كما لولم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً . ([35])
باء : اجتناب الطاغوت
نفي الانداد والكفر بالالهة التي تعبد من دون الله ، واخلاص الدين لله سبحانه ؛ ان ذلك من حقائق توحيد الله . وانما يتحقق باجتناب الطاغوت والكفر به (والتمرد على سلطانه) . قال الله سبحانه : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلآءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلاً » (النساء/51) وقال تعالى : « لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (البقرة /256)
منهج الكفر بالطاغوت :
وفيما يلي اشارة الى منهج الكفر بالطاغوت ، ومراحل اجتنابه ، والشرائع التي سنت له في الدين الحنيف .
1/ التبريء من اعداء الله :
البراءة من اعداء الله وكل المشركين ، وهجرهم والانفصال عنهم عاطفياً ومعاشياً من الخطوات الأولى على هذا الطريق . قال الله سبحانه : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوْا بِمَا جَآءَكُم مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ» (الممتحنة /1)
2/ الدعوة الى الله :
دعوة الناس الى الدين الخالص ، كما فعل ابراهيم عليه السلام. إذ قال الله تعالى عنه : « وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» (الزخرف/26) وكما فعل المؤمن الذي يقص علينا دعوته في سورة يس ، إذ يقول تعالى : « وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لآ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ » (يس/20-27) وهذه الدعوة من خصال الانبياء والاوصياء والصديقين عليهم جميعاً سلام الله وصلواته.
3/ كتمان الايمان :
وعند فقدان الأمل في الاصلاح ، او شدة الخوف من الطاغوت ، يكتم المؤمن ايمانه كما فعل مؤمن آل فرعون . أ- حيث يقول ربنا سبحانه : « وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ » (غافر /28-29) ب- وقال سبحانه : « فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِن فِرْعَوْنَ وَملإِيْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ » (يونس/83) ج- وهذا الوضع هو الأكثر شيوعاً بالنسبة الى المؤمنين ، وهو الذي يسمى بعصر التقية، حيث يقول ربنا سبحانه عن التقية : « لاَيَتَّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِيْ شَـيْءٍ إِلآَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ » (آل عمران /28)
4/ الهجــرة :
وإذا لم يكن هناك أمل في التغيير من داخل البلاد ، يهاجر المؤمنون الى دار الاسلام ، أو الى حيث يستطيع المسلم ان يقيم شعائر الدين . والهجرة تهدف أمرين : الأول : النجاة من العدو ، واقامة شعائر الدين بحرية ، والخلاص من حالة الاستضعاف (الحرية) . الثاني : الاستعداد للقتال وتحرير البلاد من ايدي الطغاة (التحرير) . وفيما يلي نوجز الحديث عنهما :
أولاً : النجاة من الاستضعاف (الحرية)لقد هاجر النبي موسى عليه السلام من مصر باتجاه مدين ، فقال له شعيب -بعد ان قص عليه قصصه- : نجوت من القوم الظالمين . ويبين ربّنا هذه الواقعة بما يلي : أ- « وَجَآءَ رَجُلٌ مِنْ اقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ اُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَنَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » (القصص/20-25) ب- وقد أوجب الله الهجرة للخلاص من فتنة الظالمين ، والنجاة من حالة الاستضعاف التي تجعل الانسان يظلم نفسه بارتكاب المحرمات او ترك الفرائض . قال الله سبحانه : « فَاُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوَّاً غَفُوراً * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِـدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِـن بَيْتِهِ مُهَاجِــراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً » (النساء/99-100) ج- وقال تعالى : « يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فإِِيَّايَ فَاعْبُدُونِ » (العنكبوت/56) د- وقال عز وجل : « وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» (الحج/58) ونستفيد من الآيات ؛ ان الهجرة واجبة على من استُضعف (وسُلبت حريته) ، فلم يقدر على اقامة احكام دينه ؛ سواءً فيما يتصل باقامة شعائره الشخصية(كالصلاة والصيام) ، او الاجتماعية (كالزكاة والخمس) ، او السياسية (كالعدل والاحسان) ، او الجهادية (كالدفاع عن بيضة الاسلام) . وبالتالي يتحقق موضوع الهجرة بوجود استضعاف ، وظلم للنفس ، حيث يقول ربنا سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَاُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً» (النساء/97) . وظلم النفس يتحقق بترك أي واجب من واجبات الشريعة . كما يتحقق الاستضعاف بسلب القدرة ، وسلب حرية الارادة . وهكذا يعم موضوع الهجرة ، حالات الهجرة من البلاد التي يحكمها الكفار او الظلمة من المتظاهرين بالدين ، ويشمل حتى البلد الذي يحكمه أهل مذهب من مذاهب المسلمين ، ويصادرون حق اصحاب سائر المذاهب . فعلى اتباع تلك المذاهب الهجرة الى حيث يمكنهم تطبيق الدين الصحيح حسب اعتقادهم . وقد يقال : ان الاستضعاف بذاته قبيح ، لانه ظلم . والذي يقدر على درء الظلم عن نفسه فلا يفعل ، فقد ظلم نفسه . ولان الراضي بالظلم والساكت عليه شريكان للظالم ، فان من كان مستضعفاً حتى في شؤون حياته ، وجب عليه الهجرة طلباً للحرية ، وبحثاً عن الكرامة .. وحسب هذا الأفق الرحيب يكون معنى قوله سبحانه : « ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ» . انهم قبلوا الاستضعاف مع قدرتهم على الهجرة . وهكذا تكون الهجـــرة واجبة من أجل الحرية بكل افاقها "الدينية والحياتية" . وكل بلـد لايحمـلك ، عليـك ان تهجـره الى البلد الذي يحملك . أوليس خير البلاد ما حمـلك؟ وقدد حدّد بعض الفقهاء وجوب الهجرة ، بالهجرة من بلاد الشرك فقط . فقال المحقق الحلي : " وتجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن اظهار شعار الاسلام مع المكنة ، والهجرة باقية مادام الكفر باقياً ".([36]) وقال العلامة النجفي : وعن الشهيد ؛ الحاق بلاد الخلاف (الذي يسيطر عليه أهل مذهب السنة) التي لايتمكن فيها المؤمن(الشيعي) من اقامة شعار الايمان ، فتجب عليه الهجرة مع الامكان الى بلد يتمكن فيها من اقامة ذلك . واضاف : واستحسنه الكركي . ([37]) ولكن المؤلف عاد واستظهر عدم وجوب المهاجرة في زمن الغيبة ، وان تمكن من (الهجرة الى) بلاد يظهر فيها شعار الايمان ، لان الزمان زمان تقية حتى يظهر ولي الأمر روحي له الفداء .([38]) ولكن الآيات القرآنية ظاهرة في وجوب المهاجرة ، والأدلة التي استظهر منها العلامة النجفي عدم الوجوب، ليست مكافئة لآيات الهجرة من ناحية الظهور إذا تحقق موضوعها. والله العالم .
ثانياً :لمقاومة الاستضعاف(التحرير)بعد ان يستقر المهاجر في دار الايمان والكرامة ، ويجد ولياً من عند الله ونصيراً ، يأذن الله سبحانه بالدفاع عن نفسه ، والقتال من اجل استعادة حقوقه السليبة ، وابرزها ؛ حقه في داره التي اخرج منها بغير حق . وقد تلونا آيات الذكر التي فصلت الحديث حول هذا النوع من الهجرة ، ونستفيد من تلك الآيات طائفة من التعاليم القيمة لهذه الهجرة : أ- ان على المهاجر ان يعود الى القيادة الربانية ، ويطلب منها تعيين قائد للقتال ضد الأعداء . ب- ان يكون المهاجر مستعداً للقتال وما يتطلبه من عطاء ، لكي يستعيد وطنه وأهله . (فارادة القتال ضرورة قصوى لكسب الحرب). ج- ألاّ ينظر الى الاعتبارات الثانوية في انتخاب القائد ، وانما يسلّم للولاية الالهية ، ويهتم بكفاءة القائد . د- ان يتمتع بالصبر والتوكل على الله ، (وانتظار الفرج من عند الله سبحانه) . هـ- ان يعلم المهاجر ان مقدساته رهينة جهاده ودفاعه المستميت عنها، وإلاّ فانها تتهدم. و- ان يعمل تماماً بوصايا الدين واحكامه . ز- ان يهدف اقامة حكم اسلامي خالص لدى انتصاره على العدو باذن الله تعالى .
5/ الكفر العملي بالطاغوت :
ربما لايوفق الناس للهجرة ، وربما لاتكون من المصلحة هجرة القيادات وسائر الناس . ففي مثل هذه الحالات على الناس ان يقوموا بالكفر العملي بالطاغوت . (العصيان المدني). ويتم ذلك في الابعاد المختلفة التالية : أ- اجتناب افكار الطاغوت وثقافته ، ومقاطعة وسائل دعايته ، وعدم الاستماع اليه .. حيث قال سبحانه : « وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» (الزمر/17-18) وبالتأمل في السياق القرآني في هذه السورة نستوحي ان من أبرز مصاديق تجنب الطاغوت ؛ عدم الايمان باقواله . ويؤيد هذا التفسير ما جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله : " من استمع الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله ، وان كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس " . ([39]) وهكذا لايجوز تبرير أعمال الظالم ونشر دعاياته في تبرير ظلمه ، حيث جاء في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام : " من عذر ظالماً بظلمه سلّط الله عليه من يظلمه ، وإن دعا لم يستجب له ، ولم يأجره الله على ظلامته". ([40]) وكذلك لايجوز الدعاء للظالم بالبقاء ، (ولعل ذلك يعتبر نوعاً من الدعاية له والتعاون معه) . ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله يقول : "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله في أرضه".([41]) ب- اجتناب ولاية الطاغوت وطاعته ، وذلك بعدم التسليم له، وعدم قبول أوامره ونواهيه ، فان في طاعته هلاك دين الانسان ودنياه . ومن هنا جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : « وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ » قال (مخاطباً لأبي بصير) : انتم هم (اي الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت) ، ومن اطاع جباراً فقد عبده .([42]) وجاء في حديث آخر عن أبي عبد الله الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ » الآية، قال عليه السلام: إنما عنى بذلك أنهم كانوا على نور الإسلام، فلما ان تولّوا كل إمام جائر ليس من الله، خرجوا بولايتهم إياه من نور الإسلام الى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار. فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون. ([43]) وروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : " الظلمة واعوانهم في النار ". ([44]) وروي ان الامام الرضا عليه السلام قال (في أعمال السلطان): الدخول في اعمالهم، والعون لهم، والسعي في حوائجهم، عديل الكفر. والنظر اليهم على العمد من الكبائر التي يستحق به النار . ([45]) عن ابن أبي يعفور قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له : أصلحك الله ؛ إنّه ربما أصاب الرّجل منّا الضّيق أو الشّدة فيدعا الى البناء يبنيه او النّهر يكريه او المسنّاة يصلحها ، فما تقول في ذلك ؟ فقال ابو عبد الله عليه السلام : ما أحبّ انّى عقدت لهم عقدة ، أو وكيت لهم وكاءً ، وأنّ لي ما بين لابتيها ؛ لا ولا مدة بقلم . إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار، حتّى يحكم الله بين العباد . ([46]) وقال الامام الصادق عليه السلام : لولا أنّ بني أمية وجدوا من يكتب لهم ، ويجبى لهم الفئ ، ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم ، لما سلبونا حقّنا ... ([47]) ج- اجتناب التحاكم الى الطاغوت ، حيث انه جعل -في القرآن- بمثابة الايمان به . قال سبحانه : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً » (النساء/60) وجاء في الحديث المشهور عن عمر بن حنظلة والذي اعتمد عليه فقهاؤنا ، انه قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما الى السلطان والى القضاة أيحلّ ذلك ؟ قال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حق او باطل ، فانما تحاكم الى الجبت والطاغوت المنهي عنه . وما حكم له به فانما يأخذ سحتا ، وان كان حقّه ثابتاً له ، لانه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله عزّ وجل ان يكفر به . قال الله عز وجل : « يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ » . قلت : فكيف يصنعان وقد اختلفا؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ، وعرف حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً ، فاني قد جعلته عليكم حاكماً. فاذا حكم بحكم ولم يقبله منه ، فانما بحكم الله استخف ، وعلينا ردّ . والرادُّ علينا كالرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله . قلت : فان كان كلّ واحد منهما اختار رجلاً من اصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما ، فاختلفا فيما حكما ، فان الحكمين اختلفا في حديثكم ؟ قال : ان الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر . قلت : فانهما عدلان مرضيّان عرفا بذلك لايفضل أحدهما صاحبه . قال : ينظر الى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما المجمع عليه بين اصحابك، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند اصحابك. فان المجمع عليه لاريب فيه ، فانما الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ حكمه الى الله عزّ وجلّ والى رسوله صلى الله عليه وآله. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات تتردّ بين ذلك. فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لايعلم . قلت : فان كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم . قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ،ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة . قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، ثم وجدنا أحد الخبرين يوافق العامة والآخر يخالف ، بايّهما نأخذ من الخبرين ؟ قال : ينظر الى ماهم إليه يميلون ، فان ما خالف العامة ففيه الرشاد . قلت : جعلت فداك فان وافقهم الخبران جميعاً . قال : انظروا الى ما يميل إليه حكامهم وقضاتهم فاتركوه جانباً وخذوا بغيره . قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : اذا كان كذلك فارجه وقف عنده حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، والله المرشد ". ([48]) د- اجتناب الركون الى الطاغوت ، حيث قال سبحانه : « وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ» (هود/113) ويشمل الركون اليهم التقرب اليهم، والعمل معهم ، واي لون من الوان التعاون معهم . فقد جاء في الحديث في تحريم التوظيف في دوائر الظلمة : قال صلى الله عليه وآله : " من تولّى خصومة ظالم أو أعان عليها ثم نزل به ملك الموت ، قال له : ابشر بلعنة الله ونار جهنم وبئس المصير ". وقال : " من مدح سلطاناً جايراً وتخفّف وتضعضع له طمعاً فيه ، كان قرينه الى النار ". وقال عليه السلام : من دلّ جايراً على جور ، كان قرين هامان في جهنم " . ([49]) وقد جاء في الحديث النبوي : " ان من اعان ظالماً على ظلمه وهو يعلم انه ظالم فقد برئ من الاسلام ". ([50]) وجاء عن الامام الرضا عليه السلام : من أحبّ عاصياً فهو عاص ، ومن أحبّ مطيعاً فهو مطيع، ومن أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل عادلاً فهو خاذل. إنه ليس بين الله وبين أحد قرابة ، ولا ينال أحد ولاية الله إلاّ بالطاعة . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لبني عبد المطلب: ائتوني بأعمالكم لا بأنسابكم وأحسابكم. قال الله تعالى: « فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ» .([51]) وفي حديث آخر عن أبا عبد الله عليه السلام يقول : "من أعان ظالماً على مظلوم لم يزل الله عزّ وجل عليه ساخطاً ، حتى ينزع عن معونته". ([52]) هـ- اجتناب القتال في سبيله . قال الله سبحانه : « وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً » (النساء/66) ونستفيد من الآية ؛ ان القتال في سبيل الطاغوت بمثابة الكفر ، وقد حرّم الدين الحنيف الرضا بعمل الظالمين ، وتبرير افعالهم . وهكذا يعزل الطاغوت وأعوانه الظلمة في المجتمع ، بينما يزداد المؤمنون منعة وقوة ، ويتخلصون من فتنة الطاغوت باذن الله تعالى . ان قوة الطاغوت تكمن في قبول ولايته من قبل ضعفاء النفوس ، وان قـوة الناس تكمـن في التمرد عليه . فمن أراد المنعة والعزة والكرامة ، فعليه ان يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فان الله سبحانه وتعالى يقول : « لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (البقرة/256). وليعلم ان اولياء الطاغوت هم عبد الشيطان ، وان كيد الشيطان كان ضعيفاً .
الركن الرابع : من يسقط عنه القتال
(التوبة/91-92) ، (النساء/95) ؛ لان الله سبحانه منَّ على هذه الأمة بالشريعة السمحاء التي لا حرج فيها ، وقال تعالى : « وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ » (الحج/ 78) ، فان القتال - كما سائر الفرائض - يسقط عند الحرج . (ومعناه -حسب الظاهر- ان تكون أعماله شاقة على الفرد ، أكثر مما تقتضيه العادة في مثله) . وكمثل على ذلك ذكر القرآن الكريم : الضعفاء ، والمرضى ، والذين لايجدون ما ينفقون . وقد فصّل الفقه الاسلامي الحديث في ذلك ، ونستعرض ذلك عبر نقاط : 1/ قال المحقق الحلي في كتاب الشرائع : ويسقط فرض الجهاد باعذار أربعة : العمى ، والمزمن المقعد ، والمرض المانع من الركوب والعـدو ، والفقـر الذي يعجز معـه عـن نفقـة طريقه وعياله وثمن سلاحه . ويختلف ذلك بحسب الأحوال . ([53]) واستشهد العلامة النجفي في جواهر الكلام على ذلك بعد الآيات بالاجماع بقسميه . ([54]) ولكنه قال - فيما يرتبط بالمريض - : الظاهر انسباق المتعذر او المتعسر معه الجهاد ، كما هو الغالب دون غيره . ([55]) وعلى هذا فليس كل مريض يسقط عنه الجهاد ، حتى إذا كان مرضه يسيراً ، أو غير مانع له عن القيام بالجهاد . بل حتى لو كان المرض خطيراً - مثل سرطان الجلد - ولكنه لم يكن مانعاً له من القتال ، كان عليه الخروج اليه . ولكن الآية مطلقة ، فكيف قيّدها العلامة النجفي ؟ يبدو أن في الآية الكريمة دلالة على ذلك من خلال كلمة "حرج" التي توحي بأن المريض انما يسقط عنه الجهاد إذا كان عليه منه حرج . ويقتضي ذلك تناسب الحكم والموضوع ، حيث يفهم العرف من خطاب الشرع بسقوط الجهاد عن المريض ، انه خاص بالمرض الذي يقعد الانسان عن الجهاد ، كما في الصوم فإنه ساقط عن المريض . ولكن هل من كان به وجع لا يضره الصيام ولا يشق عليه ، فهل يسقط عنه الصوم ؟ كلا ؛ إنما المرض المسقط للصوم هو المضر منه او المتعسر معه الصوم . ويبدو ان الحكمة في سقوط الجهاد عن المريض تتمثل في أمرين :