تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 7

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 7

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ثانياً : خصوص قوله سبحانه : « وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَاَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ اَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (البقرة/191-192) .

ثالثاً : جملة الأحاديث التي استفاضت حول حرمة المسجد الحرام ، وحرمة رواده من البشر والحيوان ، وحتى حرمة النباتات فيه . انها جميعاً سالمة من التخصيص او النسخ إلاّ ما سبق ، وان نقلناه عن الراوندي في فقه الآيات ، حيث نسب النسخ الى قيل .

وحكى في الجواهر عن الكنز ما يدل على انه مستند القول بالنسخ ، حيث ان الفقيه السبزواري استند ايضاً بذلك على النسخ ، ([100]) فقال حكاية عن الكنز ما يلي : هذه الآية (البقرة/187) ناسخة لكل آية فيها امر بالموادعة او الكف عن القتال ، كقوله : « وَدَعْ أَذَاهُمْ » (الاحزاب/48) ، وقوله : « لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ » (الكافرون/6) ، وامثاله . لان حيث للمكان ، أي في أي مكان ادركتموهم من حل او حرم ، وكان القتال في الحرم محرماً ثم نسخ بهذه الآية وأمثالها . فصدرها ناسخ بعجزها . ([101])

ولنا ملاحظات على ما قال :

أولاً : ان كلام الكنز ليس حجة بذاته ، لولم يستند الى حجة .

ثانياً : إن عموم الأمر بالقتال يخصص بحرمة القتال في الحرم ، وليس العكس . وهذا هو المعتمد عند الفقهاء في الأصول ، فكيف ولماذا انعكس ؟ وإذا فتحنا باب نسخ الأوامر الخاصة بالأوامر العامة ، فإنه يستلزم انشاء فقه جديد .

وهكذا نرى ان آيات حرمة الحرم محكمة ، وعلينا العمل بها ، وصيانة حرم الله من كل خوف ، وحياطته بكل أمن ، والله المستعان .

الركن السابع : أسلحة القتال

قال الله سبحانه : « وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ » (الانفال/60)

وقال تعالى : « فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ » (محمد/4)

نستفيد من هذه الآيات وآيات أخرى؛ ان تحقيق النصر واجب بكل الاسلحة الممكنة، وان القتل من وسائل الحرب التي لا غنى عنه. ولكن هناك بصائر نستوحيها من النصوص

الشرعية ، نذكرها فيما يلي :

1/ ان الحرب حالة غير طبيعية ، وكذلك ما تحتوي عليها الحرب من عمليات الابادة والتخريب .. وذلك لان الله سبحانه خلق الخلق ليرحمهم ، لا ليعذبهم . وقد سميت الحرب بالاعتداء ، حتى الجائز منها ، حيث قال سبحانه : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » (البقرة/194)

وقد جعلت الغايات التي من أجلها يحارب المؤمنون ، جعلت غاية للحرب (بمعنى انتهاء الحرب عند بلوغها) ، حيث قال سبحانه : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ » (البقرة/193) ، « حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ » (التوبة/29) ، « فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ » (البقرة/193) .

ويستفاد من هذه الآيات ؛ ان الحرب وسيلة مشروعة لتحقيق هدف ، فاذا تحقق انتفت شرعيتها .

وكما الحرب ذاتها وسيلة شرعية محدودة باسبابها واهدافها ، كذلك حقائق الحرب . فالقتل والتخريب والافساد وما أشبه .. انما هي محدودة بقدر الاسباب والغايات . فلو أمكن الانتصار بقتل مأة ، اقتصر عليهم ، ولا يسرف في قتل ألف ، لان الحرب تنتهي عند قتل مأة . فلماذا الزيادة ، أولم يقل ربنا سبحانه : « فَإِنِ انتَهَوْاْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ » (البقرة/193) ؟

وكذلك لو ان العدو يستسلم باحتلال قسم من اراضيه او ضرب قسم من منشآته ، اكتفي بذلك القسم .

2/ استخدام اسلحة الدمار الشامل (الذرية والكيماوية والجرثومية) لايجوز اذا كانت الدولة الاسلامية قد وقعت على معاهدة منع انتشارها ، لان العهود محترمة عند الدين ولا يجوز هتكها إلاّ إذا هتكها العدو ، حيث قال سبحانـه : « فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ » (التوبة/7) . ([102])

3/ إذا لم تكن الدولة قد التزمت بميثاق حول اسلحـة الدمار ، فان استخدامها حرام إذا

كانت غير ضرورية ، وكانت الاسلحة التقليدية تكفي مؤنتها . وذلك لما سبق وان بيّنا بأن علينا الاكتفاء بأقل قدر ممكن من الدمار والقتل في الحرب .

4/ أما عند الضرورة ، فقد قال المحقق الحلي : ويجوز محاربة العدو بالحصار ، ومنع السابلة دخولاً وخروجاً ، وبالمناجيق وهدم الحصون والبيوت ، وكلما يرجى به الفتح . ويكره قطع الاشجار ، ورمي النار وتسليط المياه إلاّ مع الضرورة . ويحرم القاء السم ، وقيل يكره وهو أشبه . فان لم يمكن الفتح إلاّ به جاز . ([103])

وحكي عن الشهيد في كتابه الدروس ، حرمة قتل المشركين بمنع الماء مع الاختيار . ([104])

وجاء في أحاديث النهي عن قطع الاشجار إلاّ عند الاضطرار ، انه روي عن الامام الصادق عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد ان يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ ان تضطروا إليها ، وأيّما رجل من أدنى المسلمين او افضلهم نظر الى احد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام الله ، فان تبعكم فأخوكم في الدين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه ، واستعينوا بالله . ([105])

اما القاء السم ، فقد روي النهي عنه في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله ان يلقى السمّ في بلاد المشركين . ([106])

وأما استخدام سائر الاسلحة ، فقد جاء في الحديث التالي حكمه ؛ عن حفص بن غياث قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مدينة من مدائن الحرب ، هل يجوز أن يرسل عليها الماء او تحرق بالنار او ترمى بالمنجنيق حتى يقتلوا ومنهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار ؟ فقال : يفعل ذلك بهم ولا يمسك عنهم لهؤلاء ، ولا دية عليهم للمسلمين ، ولا كفارة الحديث . ([107])

وحسب القواعد الفقهية ومدى استفادتنا منها نفصل القول فيما يلي :

أ- أي عمل يؤدي الى اضعاف العدو ولا يسبب فساداً عريضاً (مثل قتل الابرياء وهدم الحياة) ، فإنه جائز .

ب- عند توقف الفتح يجوز كل عمل ، واستخدام كل سلاح على إشكال في اسلحة الدمار الشامل ، حيث ينبغي تقييم الأمر من قبل الفقهاء والخبراء في كل حالة معينة لمعرفة مدى ضرورة الفتح ، وقياسها بمدى الفساد الذي يحدثه استخدام تلك الأسلحة .

ج- واما مع عدم الضرورة ، فان كل سلاح يؤدي الى قتل الابرياء وهدم المدن ، ينبغي تجنبه . وإن كان خبر حفص بن غياث السابق قد سوّغ استخدام مثل هذه الاسلحة ، إلاّ ان حمل هذا الحديث على حالة توقف الفتح افضل من تخصيص القواعد العامة . ولعله من هنا قال المحقق الحلي بعد بيان جواز استخدام هذه الاسلحة ، قال : وكلما يرجى به الفتح . ويبدو ان في كلام هذا نوعاً من تعليل الجواز بانه انما يجوز ذلك لأنه سبيل الفتح ، والله العالم .

5/ النصر أعظم اهداف الحرب ، وآيات الذكر قد ذكّرتنا باهداف الحرب ، وتحقيق تلك الأهداف يتوقف على النصر . قال الله سبحانه : « وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ » (الصف/13) ، وقال تعالى : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ » (محمد/7) ، وقال تعالى : « وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ » (الشورى/39) .

ومن هنا فما يتوقف عليه النصر يجب استخدامه ، حتى ولوكان في الحالات العادية غير جائز . مثلاً من الواضح انه لايجوز الافساد في الأرض ، لان الله تعالى يقول : « وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا » (الاعراف/85) . وقد يكون الافساد قطع الاشجار ، ولكن ذلك يجوز في الحرب عند توقف النصر عليه ، حيث يقول سبحانه : « مَا قَطَعْتُم مِن لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ » (الحشر/ 5) .

ونستوحي من قوله سبحانه : « وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ » ؛ انه اذا كان هزيمة الفاسقين متوقفة على قطع الاشجار جاز ، والله العالم .

ومن هنا قال المحقق الحلي : ولو تترسوا بالنساء والصبيان منهم ، كف عنهم ، إلاّ في حال التحام الحرب . وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين وإن قتل الاسير ، إذا لم يمكن جهادهم إلاّ بذلك . ([108])

وهكذا يعتمد جواز قتلهم على توقف الفتح على ذلك ، او على عدم امكان تجنب قتالهم من دون ذلك ، كما في حال التحام الحرب .

بلى ؛ استثنى العلامة النجفي من ذلك القاء السمّ ، واستظهر عدم جوازه حتى إذا توقف النصر عليه ، فقال : بل قد يتوقف في الجواز في الأول (اي القاء السم) ، وإن توقف الفتح عليه لاطلاق الخبر المزبور (وهو الخبر الذي نهى عن القاء السم) .

وقد سبق ان استخدام مثل هذا السلاح يجب ان يخضع لتقييم دقيق ، لكي يعرف مدى اهمية الفتح بالنسبة الى ضرر استخدام هذا السلاح . فان كان الفتح ضرورياً (كأن يخشى على بيضة الاسلام مع عدمه) ، جاز استخدامه .

الركن الثامن : الهجوم والانسحاب في المعركة

قال الله سبحانه : « وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » (الانفال/16)

نستفيد من الآية ومن آيات أخرى ؛ حرمة التولي وقد سبق الحديث عنها ، إلاّ ان المتحرف للقتال والمتحيز الى فئة لا يعتبران متولين من القتال .

ومن هنا نستفيد البصائر التالية :

1/ يجوز الانسحاب الذي يكون لمصلحة الحرب، والذي يسمى بالانسحاب التكتيكي. ومن حقائقه :

أ- البحث عن وضع جغرافي للحرب ؛ مثل سفح جبل ، او عمق غابة ، او مخالفة قرص الشمس ، او موافقة حركة الريح ، او الاحتماء بخندق او ساتر او خط دفاعي ، ومنه العودة الى الحصن او القلعة للاحتماء بهما .

ب- الاحتماء بمقاتلين يزيدون الفرد قوة مادية او معنوية، ومنه الاحتماء بمظلة دفاعية؛ مثل مدى المدفعية ، او حماية صاروخية ، او حماية جوية .

ج- الانسحاب لترتيب وضعه التسليحي او التزود بالوقود والمؤن . فلو عاد من المعركة ليحصل على ماء او غذاء او معدات او لاصلاح سلاحه العاطب او تبديله بافضل منه .. كل ذلك يعتبر من التحرف للقتال ولا يعتبر تولياً . ولذلك قال المحقق الحلي بعد ان بيّن حرمة الفرار ، قال : إلاّ لمتحرف كطالب سعة ، او موارد المياه ، او استدبار الشمس ، او تسوية لامته ، او متحيزاً الى فئة قليلة كانت او كثيرة . ([109])

2/ يجوز الخروج من المعركة إذا انعدمت قدرته القتالية ، بحيث كان بقاؤه غير نافع أبداً . ومن حقائقه :

أ- ان ينفد عتاده او مؤنته ، بحيث لايرجو المدد او النجدة .

ب- اذا جرح جراحة بالغة او مرض مرضاً شديداً او انهك عن القتال ، بحيث اضحى كَلاً على رفاق السلاح ، فله ان ينسحب ؛ إلاّ إذا كان في انسحابه مفسدة ، كبث الوهن ، وشياع الفشل في صفوف الجيش الاسلامي .

ومن هنا قال المحقق الحلي : لو تجدد العذر بعد اقتحام الحرب ، لم يسقط فرضه على تردد ، إلاّ مع العجز عن القيام به . ([110])

وقال الشهيد الثاني : لو تجدد العذر بعد اقتحام الحرب ، فان كان (العذر) خارجاً كرجوع الأبوين (عن اذنهم له ، كأن يأمرانه بالعودة من الجبهة) ، و (مثل) رجوع صاحب الدين ، لم يعتبر رجوعه (وانما عليه الاستمرار) لعموم الأدلة الدالة على الثبات حينئذٍ . وإن كان (العذر) ذاتياً كالمرض والعمى والاقعاد ، ففي السقوط (اي سقوط القتال عليه) قولان ، اقربهما ذلك (اي السقوط) لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب . وقال ابن الجنيد: يجب الثبات هنا ايضاً ، وهو ضعيف . ([111])

ج- قال المحقق الحلي : ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل . ([112]) ثم قال : وان كان المسلمون اقل من ذلك لم يجب الثبات ، ولو غلب على الظن السلامة استحب . ([113])

وقد قال ربنا سبحانه : « إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ » (الانفال/16) وقد وردت في تفسير الآية الرواية التالية ، حيث جاء عن الامام الصادق عليه السلام في حديث طويل ، قال : ان الله عز وجل فرض على المؤمن في أول الأمر ان يقاتل عشرة من المشركين ليس له ان يولى وجهه عنهم ، ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار . ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم ، فصار الرجل منهم عليه ان يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من الله عز وجل ، فنسخ الرجلان العشرة . ([114])

ويستفاد من الآية ؛ ان حكمة نسخ الحكم (من مواجهة الواحد لعشرة الى مقابلة الواحد لاثنين) هو تحول المسلمين من حالة القوة المعنوية الى حالة الضعف . وهذا يعني ان المعيار هو مدى قوة المسلمين او ضعفهم ، واما العدو فهو معيار في الأغلب ، والمراد بيان دور القوة المعنوية في ادارة القتال .

ومن هنا قال (العلامة) الفاضل : وفي جواز فرار مأة بطل من المسلمين من مأتين وواحد من ضعفاء الكفار اشكال ، (لان هناك دليلين مختلفين ؛ احدهما دليل امكان الفرار إذا اخذنا بعين الاعتبار ظاهر النص ) من مراعاة العدد . (ولكن ادلة وجوب الثبات مطلقة، وهي تدل على معيارية القدرة على المواجهة) ، ومن (ضرورة) المقاومة لو ثبتوا . و(اما دليل) العدد ( فانه ليس دليلاً مطلقاً ، لان العدد) مراعى مع تقارب الاوصاف . وكذا الاشكال في عكسه ، وهو فرار مأة من ضعفاء المسلمين من مأة وتسع وتسعين من ابطال الكفار . فان راعينا (حرفية النص و) صورة العدد لم يجز ، وإلاّ جاز . ([115])

والواقع ان الذي يؤثر في مصير المعارك جملة عوامل :

أ- السلاح والعتاد وما أشبه من المتغيرات .

ب- التدريب والقوة البدنية وما أشبه .

ج- المعنويات والقوة الروحية .

والآية الكريمة في صدد بيان تأثير العامل الثالث ، وهذا لايعنى الغاء سائر العوامل . فعلينا أخذ كل العوامل بنظر الاعتبار ، ثم تقييم الوضع والافتاء بجواز او حرمة الفرار .

و خلاصة المعيار ؛ تقييم القوة والضعف من جميع الابعاد ، فان كان الجيش من القوة بحيث يرجى بها الفتح ، فعليه ان يقاوم ولا يأبه بخور العزيمة . ولكن إذا علم القادة بأن جيشهم ضعيف الى درجة تكون هزيمتهم مؤكدة ، فان بامكانهم الانسحاب . وقد يكون الانسحاب واجباً حسب تفصيل سيأتي انشاء الله ، على ان نأخذ بعين الاعتبار الروح المعنوية التي يبعثها ايمان الجندي بالله واستعداده للشهادة في سبيل الله . وهذا كله ما نستفيده من كلمة "الضعف" التي جاءت في النصوص . والله العالم .

د- قال المحقق الحلي قدس سره : وإذا غلب العطب ، قيل يجب الانصراف ، وقيل يستحب وهو أشبه . ([116])

وينبغي ان تقسم المسألة شطرين :

أولاً : عند رجاء فائدة عسكرية من الاستقامة .

ثانياً : عند عدم رجاء ذلك .

فاذا كان يرجى فائدة، ارتبط وجوب الثبات بطبيعة تلك الفائدة. فمثلاً قد يقرر انسحاب

الجيش الى الخطوط الخلفية ، ويحتاج الى حماية للانسحاب . فالذين يتطوعون او يختارون للحماية يجب عليهم الثبات حتى ولو ابيدوا عن اخرهم ، لانهم دون ذلك يعرضون كل الجيش للهزيمة . مثلما وقع للمرابطين في الثغر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله في حرب أحد ، حيث كان عليهم الثبات حتى ولو انهزم المسلمون ، ولكن بعضهم ترك موقعه فعرّض جيش الاسلام لهزيمة نكراء ، حيث استشهد سيد الشهداء حمزة سلام الله عليه .

واذا لم تكن هناك أية فائدة من استمرار القتال غير الشهادة ؛ فقد قال الشيخ الطوسي في كتابه "المبسوط" : فان غلب على ظنه انه يُغلب ويهلك ، فالأولى ان له الانصراف . وقيل إنه يجب عليه الانصراف . وكذلك القول فيمن قصده رجل ، فغلب على ظنه إنه ان ثبت له قتله ، فعليه الهرب . ([117])

واستدل في الجواهر على وجوب الانصراف (والانسحاب) بما يلي : لوجوب حفظ النفس وحرمة التغرير بها . ([118])

واضاف في موضع آخر ، وهو يستدل على رجحان الانصراف باعتبار حصول البقاء (واستمرار الحياة عبر الانسحاب) الذي هو سبب لكثير من العبادات والطاعات والمبرات . ([119])

ولكنه ذهب -بالتالي- الى القول بجواز الثبات، بل استحبابه. واستدل على ذلك بقوله : ما يستفاد من الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة ، ومن كون النصر باذن الله ، وغير ذلك (من الأدلة) مما يكون اقل مراتبه الجواز ، ولعل المتجه الندب ، ضرورة ظهور الأدلة في رجحانه . ([120])

إلاّ ان المسألة بحاجة الى المزيد من التحقيق ، حيث ان الحياة هي هدف الشريعة ، وهي قيمة متسامية ، والتنازل عن هذه القيمة انما يجوز لتحقيق غاية سامية ، ومن دونها يستبعد جواز التعزير بها ، وقد قال سبحانه : « وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ » (البقرة/195) .

واوامر الثبات ، والنصوص المرعية في الشهادة متصرفة عن مثل هذا المورد ، والله العالم .

الركن التاسع : المواثيق والعهود

من أبرز مصاديق التقوى في القتال ، احترام المواثيق والوفاء بالعهود . وقد بيّنت آيات الذكر واحاديث السنة حرمات العهود في جملة واحدة ، كما فصّلت القول في حقائق عديدة ، وضربت فيها الأمثال . ونحن - تبعاً لما استوحيناه منها - نستعرض الحديث باذن الله في قسمين :

القسم الأول : حرمة العهد في القتال

نستهدي بالآية الرابعة من سورة التوبة ؛ الحقائق التالية :

أ- حرمة العهد المبرم مع المشركين، إن هم التزموا بكافة بنود العهد ولم ينقصوا منه شيئاً، ولم يعينوا احداً من الأعداء على المسلمين. كما نستوحي ان العهد مع المشركين عهد محدود بمدة، وهذا يؤيد القول المشهور بين فقهائنا الذي يحرّم المعاهدة الابديـة مع المشركيـن .

ب- ونستفيد من ذات الآية وآيات أخرى ؛ امكانية اقامة علاقات طيبة مع الكفار ، حتى المشركين منهم إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك . وانه ليست الحرب هي السمة الوحيدة بين الأمة الاسلامية وسائر الشعوب او الدول ، وقد قال سبحانه : « لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » (الممتحنة/8)

ج- وبما أن هذه العلاقة السلمية قائمة على اساس المعاهدة والميثاق ، فان أمرها بيد القيادة الشرعية ؛ فهي التي تقرر بنود الاتفاقية ومدتها مع الاهتمام بمصالح المسلمين وعزة

الدين الحنيف .

د- ومن ذلك قبول الدولة الاسلامية بالمواثيق الدولية التي انتظمت اليوم في محور الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها ، والتي تحافظ - في الأغلب - على القيم المثلى للدين ، ولا تختلف بوجه عام مع مصالح المسلمين . بلى ؛ هناك بعض المواثيق التي يجب اصلاحها ؛ مثل حق النقض (الفيتو) الذي تستخدمه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن ضد مصالح المسلمين في كثير من الاحيان . فعلى الأمة الاسلامية ان تسعى جاهدة لاصلاح ذلك وأمثاله . إلاّ ان وجود بعض المواد الخاطئة ضمن الاتفاقات الدولية لا يعني مخالفتها ، لانها من حيث العموم تحقق أهم مصالح الأمة ؛ وهو الأمن والتعاون الدوليين . أما الأمن فانه من أشد ضرورات الانسانية والمسلمين منهم ، في ظل أسلحة الدمار الشامل التي لو استخدمت لأخذت الأرض وما عليها . وأما التعاون فانه ايضاً في مصلحة البشرية والمسلمين بالذات ، وهو تحقيق لمبدء التعارف (الاعتراف المتبادل) ، انطلاقاً من قوله سبحانه : « يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات/13)

ذ- ويستفاد من الآية الأولى من سورة التوبة ؛ امكانية فسخ العهد (إذا كان من بنوده ذلك ، او إذا لم يف الطرف الآخر بالتزاماته) ، ولكن يجب اعلام الطرف الثاني بالفسخ ، وربما اعطائه مهلة لكي لايعتبر ذلك خيانة بالنسبة اليه . وقد قال سبحانه : « وإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللّهَ لايُحِبُّ الْخَآئِنِينَ » (الأنفال/58)

ر- ومن ذلك أنه إذا استجار أحد بالمسلمين ، فإنهم يجيروه حتى يسمع كلام الله، فان لم يقتنـع أبلغـوه مأمنه ثم نابذوه العداء، كما قال سبحانه : « وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَاَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ » (التوبة/6)

وقال الفقهاء ان شبهة الامان (والذي هو نوع من العهد) تقتضي اعادة الفرد الى مأمنه . وقد جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال : لو ان قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنوا أنهم قالوا : نعم ، فنزلوا اليهم كانوا آمنين . ([121])

وهذا يدل على مدى الاهتمام بالعهد .

ز- يعتبر قبول مشروع السلام المقترح من قبل العدو او من قبل طرف محايد ، ومن ثم الوفاء به ، يعتبر كل ذلك من أخطر القرارات وأشدها وطأً على القيادة السياسية . إذ يحتمل ان يستغل العدو الأمن الذي توفره له اتفاقية السلام للاستعداد للحرب ثم الانقضاض على المسلمين على غفلة .. من هنا أمر الله سبحانه نبيّه بالتوكل على الله عند قبول السلم ، فقال تعالى : « وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ الْسَّمِيعُ الْعَلِيمُ » (الانفال/61)

وقد عبرت آية كريمة عن الالتزام بالعهد في الحرب بكلمة الاستقامة التي توحي بصعوبته البالغة . قال تعالى : « فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» (التوبة/7)

و- وقد اهتم الدين بالعهد الى درجة نهى عن الحرب مع أهل الغدر ضد من غدر به . وقد روي عن أبي عبد الله عليه السلام ، حيث قـال (الراوي) : سألته عن قريتين من أهـل الحرب لكلّ واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ، ثم إنّ أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء الى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة . فقال أبو عبد الله عليه السلام : لا ينبغي للمسلمين ان يغدروا ولا يأمروا بالغدر ، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ، ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفـار . ([122])

عن أبي عبد الله عليه السلام أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يجيء كل غادر بامام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار . ([123])

وروى الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة : أيها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، إلاّ انّ لكلّ غدرة فجرة ، ولكل فجرة كفرة . الا وإن الغدر والفجور والخيانة في النار . ([124])

القسم الثاني : حقائق العهد

للعهد في القتال وفي العلاقات الدولية مصاديق وحقائق مختلفة ، وهي :

1- ميثاق الصلح (عدم الاعتداء)، ويسمى المهادنة .

2- الاجارة والذمام .

3- الاقامة .

4- التحكيم

5- الجعالة

أولاً : المهادنة

(التوبة/4) ، (التوبة/7) ، (الانفال/61-62) ، (الممتحنة/8-9) ؛ نستفيد من هذه الآيات ضرورة احترام الميثاق الذي يتعهد به المسلمون للكفار ، مادام الطرف الآخر يحترمه . وتبصرنا الآيات بالحقائق الآتية :

أ- يجب الوفاء بالعهد مادام الطرف الثاني ملتزماً به .

ب- يجوز ابرام العهد مع المشركين الى مدة معلومة .

ج- العهد عند المسجد الحرام أشد .

د- إن العدو إذا جنح للسلم (واختاره على الحرب) ، فعلى المسلمين قبول ذلك والتوكل على الله .

هـ- على الرسول التوكل على الله عند ابرام الصلح مع العدو .

ونستفيد من هذه الحقائق ومن بصائر أخرى ذكرت في آي الذكر وفي السنة ، المسائل الشرعية التالية :

ألف : جواز المهادنة عند قلة المسلمين

قال المحقق الحلي في كتابه الشرائع : المهادنة وهي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة ، وهي جائزة إذا تضمنت مصلحة المسلمين ، إما لقلتهم عن المقاومة او لما يحصل

به الاستظهار ([125]) او لرجاء الدخول في الاسلام مع التربص . ([126])

وقال العلامة النجفي في كتابه الجواهر تعليقاً على كلام المحقق : بلا خلاف أجده فيه ، بل الاجماع بقسميه (منقولاً ومحصلاً) عليه . ثم تلا الآيات القرآنية التي تلوناها آنفاً . واستشهد كذلك بفعل النبي مع كفار قريش ، حيث هادنهم وصالحهم . ([127])

واحتمل أن يكون الجواز في كلام المحقق ، بمعنى عدم الحرمة مما لايتنافى والوجوب، واستدل عليه بما دل على وجوب حفظ النفس و (حفظ) الاسلام من عقل ونقل . ([128]) ثم قال : ربما فصل بين الضرورة والمصلحة ، فأوجبها في الأول وجوّزها في الثاني، ولا بأس به . ([129])

أقول : ان اتخاذ قرار الهدنة من قبل القيادة الشرعية يعتمد على دراسة العديد من العوامل المتغيرة . والقيادة لايجوز لها اتباع الهوى والعواطف فيما يتصل بمصالح المسلمين وقيم الدين الحنيف ، ولذلك فلو رأى المصلحة في الهدنة وجب عليه اعلانها ؛ إلاّ ان يحتار بين المصالح المتضاربة ، فيجوز له ان يتحرى الحقيقة قدر المستطاع فيختار واحداً. وهذا فرض نادر ، ولكنه إذا وقع فهو من باب الاختيار في التزاحم . والله العالم .

باء : هل تجوز الهدنة مع القوة

قال المحقق : ومتى ارتفع ذلك ([130]) وكان في المسلمين قوة على الخصم لم تجز ([131]) (المهادنة) . واستدل في الجواهر على ذلك بقوله : لعموم الأمر بقتلهم مع الامكان في الكتاب والسنة ([132]) . واضاف : (و) ما كان يوصي به النبي صلى الله عليه وآله امراء السرايا من الأمر بالمنابذة معهم إلاّ مع الاسلام او الجزية من أهلها . وختم استدلاله بقول الله سبحانه : « فَإِذَا انسَلَخَ الاَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » (التوبة/5) ، وقوله سبحانه : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ » (محمد/35)

وهناك أدلة على جواز المهادنة ، وهي التالية :

1- الآية التي تليت آنفاً من سورة الممتحنة (الآية/8-9) ، فبالرغم من أن مطلع السورة يأمر المؤمنين بالبراءة من اعداء الله وألاّ يلقوا اليهم بالمودة ، إلاّ ان الآيتين (8-9) تدلان على استثناء المسالمين من الكفار الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ويزداد القول وضوحاً في الآية (9) ، حيث يعبّر القرآن الكريم بحرف الحصر ويقول : « إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ» (الممتحنة/9) .

وفي الآية (1) اشارة الى هذه البصيرة ، حيث قال سبحانه في بيان سبب البراءة منهم : «ِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ» (الممتحنة/1) .

فالبراءة واجبة على المؤمنين فقط من اولئك الكفار الذين يحاربونهم على دينهم .

2- وقد سبق الحديث حول الجهاد الابتدائي ، وقلنا ان آيات الكتاب لاتدل عليه دلالة واضحة ، انما آيات الجهاد وآيات القتال تدور اكثرها حول محور محاربة الكفار الذين يبدءون المسلمين بالاعتداء ، كقوله سبحانه : « وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة/190)

3- بما ان أكثر الفقهاء الامامية لايرون الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة الذي يسمى ايضاً بايام الهدنة ، فان الكف عن القتال في هذا العصر- إلاّ دفاعاً - هو ذلك السلم الذي نسميه بالهدنة .

4- آيات القتال التي استدل بها في الجواهر مخصصة بحالة الجنوح للسلم التي ذكرت في القرآن الكريم : « وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا » (الانفال/61) ، وكذلك قوله سبحانه : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ » (محمد/35) ، حيث ان الدعوة الى السلم من موقع الوهن هي التي نهت عنها الآية ، لا السلم مطلقاً . ويحتمل قوياً ان يكون نهي القرآن عن الدعوة الى السلم بعد الاقتتال خوفاً وجبناً ، وطلباً للراحة ، حيث جاءت هذه الآية في سياق مواجهة الكفار الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ، وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى (محمد/32) . ومواجهة الكفار الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله (محمد/34) . ثم قال ربنا سبحانه : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ » .

أما وصايا الرسول لأمراء السرايا والأدلة الأخرى التي تدل على عدم قبول الجزية من غير أهل الكتاب ، فانما هي في الأعداء الذين يحاربون المسلمين . أما أهل الهدنة فلا ، بدليل ان الرسول صالح كفار مكة عشر سنين ولم يكونوا من أهل الكتاب عشر سنين ، وذلك في صلح الحديبية . فكيف نوفق بين ذلك وبين آيات القتال؟

من هنا نحتمل صحة القول ، بأن حالة السلم هي العلاقة الأولية بين المسلمين وبين سائر الشعوب ، وأما الحرب فان لها اسبابها المعينة التي لو تحققت وجب على المسلمين خوضها ، وإلاّ فلا . والله المستعان .

ومن هنا نرجح ما ذكره المحقق الحلي بقوله : وهل تجوز (المهادنة) أكثر من أربعة اشهر؟ قيل: لا ، لقوله تعالى : « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ » . وقيل نعم لقوله تعالى : « وإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا » . والوجه مراعاة الأصلح . ([133])

وهذا القول هو اختيار جمع من الفقهاء ، حيث قال العلامة النجفي تعليقاً عليه : كما في المنتهى والمسالك وحاشية الكركي ومحكي التحرير والقواعد . ([134])

واضاف المحقق الحلي : ولا تصح الى مدة مجهولة ولامطلقا إلاّ ان يشترط الامام عليه السلام لنفسه الخيار في النقض متى شاء . ([135])

واستدل على ذلك العلامة النجفي فقال : لا أجد فيه خلافاً بينهم (بين الفقهاء) في المستثنى ، والمستثنى منه الذي هو مقتضى الأصل بعد ظهور المفسدة في ذلك . ([136]) واضاف : وخصـوص الحديث النبوي المروي من طرق العامة، انه لما فتح خيبر عنوةً بقي

حصن فصالحوه على ان يقرهم ما أقرهم الله ، فقال لهم نقركم ما شئنا . ([137])

وما ذكره جيد ، ولكن ينبغي اضافة حالات الضرورة التي قد تكون الاساس في الصراعات العسكرية . فاذا اقتضت الضرورة شيئاً ، فان الأمور المحظورة تصبح مباحة . والله العالم .

جيم : عدم اعادة النساء المهاجرات

قال المحقق الحلي : لو وقعت الهدنة على مالا يجوز فعله ، لم يجب الوفاء ؛ مثل التظاهر بالمناكير، واعادة من يهاجر من النساء ؛ فلو هاجرت وتحقق اسلامها لم تعد ، ولكن يعاد عن زوجها ما سلّم اليها من مهر خاصة . ([138])

وينبغي ان نفصل القول بين حالات الضرورة ، فان لها احكامها ، والحالات العادية . فلا يجوز القبول بأي شرط مخالف لنصوص الشرع ، إلاّ ان يكون ما يشترطه المسلمون على العـدو في مقابل ذلك أهم ؛ مثلاً إذا كان الأعـداء يتسللون الى بلاد الاسلام ويعيثون فساداً ، فقرر امام المسلمين الهدنة مع العدو لضبط حدودها في مقابل عدم قبول انتقال بعض المسلمين من بلاد الاعداء الى دار الاسلام . فاذا كانت المصلحة تقتضي ذلك صح الشرط . وهكذا روي ان النبي صلى الله عليه وآله ردّ أبا بصير الى المشركين بعد ان رجع اليه . ([139])

بلى ؛ قـد نصت الآية الكريمة على عدم جواز ردّ النساء المهاجرات ، حيث قال سبحانه : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَآ أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَسْأَلُوا مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَآ أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (الممتحنة/10) .

قال في الجواهر : وفي المروي من طرق العامة " ان ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت مسلمة ، فجاء اخواها يطلبانها ، فانزل الله تعالى الآية ( التي تليت من سورة الممتحنة) . وقال النبي صلى الله عليه وآله : " ان الله منع عن الصلح في النساء" . ([140])

ويبقى السؤال ؛ ماهو معيار الشرط المخالف للدين الذي لا يجوز تجاوزه في الهدنة من قبل امام المسلمين إلاّ في حالات الضرورة يتبين الجواب بما يلي ؛ ان من الأمور ماهو موسّع مثل حقوق المسلمين ومصالح الدفاع عنهم ، فأمر ذلك الى الامام ، ينظر ماهو الأهم فيقدمه على ماهو المهم . ومن الأمور ما هو مضيّق ؛ مثل احكام الله ، كعدم جواز ارجاع النساء المهاجرات الى أزواجهن الكفار . وعلى القيادة السياسية ألاّ تتهاون في مثل ذلك إلاّ عند الضرورة . وقد أشار الأسكافي الى ذلك بقوله : ولا نختار لأحد إذا كان مختاراً غير مضطر ان يشترط في عقد ولا صلح يعقده ، مالا يبيح الدين عقده مما هو محظور . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما كان عن شرط ليس في كتاب الله فهـو باطل ولم يجز ولا عليه ([141]) وقد روي ان ثقيف سألت رسول الله صلى الله عليه وآله : أن لايركعوا ولا يسجدوا وان يتمتعوا باللات سنة من غير ان يعبدوها ، فلم يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله الى ذلك . ([142])

دال : اعادة الرجال المهاجرين

قـال المحقـق الحلـي : وأما اعادة الرجال ، فمن آمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة وما مائل ذلك من اسبـاب القوة ، جاز اعادته ، وإلاّ منعوا منه . ([143]) ولو شرط في الهدنة اعـادة الرجال مطلقاً ، قيل : يبطل الصلح ، لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه ، يتناول من لا يؤمن . ([144])

وقد استدل في الجواهر على هذه الأحكام بالاجماع ، وقال : كون الحكم مفروغاً منه بين من تعرض له على وجه يظهر منه كونه من المسلمات . ([145])

وقد استدل الفقيه السبزواري بان اعادة الرجال مع خشية الفتنة تسبب اثباتهم على الكفر ، وهو حرام . ([146])

واستدل المرجع الشيرازي على ذلك بالقرآن فقال : يجب انقاذ المسلمة والمسلم والمستضعف ، رجلاً وأمراة وطفلاً من بلاد الكفر ، إذا كانوا في خطر وتمكن من ذلك . قال الله تعالى « وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين» (النساء/75) واضاف : وفي الحديث : " من نادى يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم " . ([147])

ولكن حرمة اعادة الرجال ، انما هي من القضايا التي يمكن التفاهم حولها في عقد الهدنة ، وليست مثل حرمة اعادة النساء ، التي لا يصار اليها إلاّ عند الضرورة القصوى .

بلى ؛ يمكن للمسلمين اضافة شروط معينة من أجل تخفيف الوطأ على الرجال ؛ مثل اشتراط عدم تعريضهم لأذى . وقد جاء في التاريخ ان المشركين اشترطوا على رسول الله في صلح الحديبية ألاّ يقبل من جاءه مسلماً ، فلما قدم اليه ابو بصير مسلماً أرسل أهل مكة رجلين الى النبي صلى الله عليه وآله في طلبه فخلى النبي بينه وبينهم ، وقال له : لايصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ، ولعل الله ان يجعل لك فرجاً ومخرجاً . فلما رجع مع الرجلين قتل احدهما وهرب الثاني ثم رجع ابو بصير الى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله قد ارضى الله ذمتك، وقد ردني الله اليك وانجاني الله منهم. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله ولم يلمه، بل قال : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال . ([148]) فلما سمع أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز اليه ابو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة ، فجعلوا لا يمرّ عير لقريش إلاّ عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها . فأرسلت قريش الى النبي صلى الله عليه وآله تناشده الله والرحم ان يضمّهم اليه ، ولا يرد اليهم أحداً جاء . ففعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك . ([149])

وهذا الحديث يعتبر سابقة هامة في أمر الصلح بين المسلمين واعداءهم ، وبالذات فيما يتصل بقوى المعارضة الداخلية التي تتشكل في صفوف الأعداء . فأفضل طريقة للتعامل معها هي ما نجده في هذه القصة التاريخية ، حيث ان الرسول لم يعرّض الدولة الاسلامية الفتية لخطر الحرب من أجل سلامة أبي بصير وبضعة أفراد من المسلمين الجدد . ولكنه في ذات الوقت لم يعاقبهم على معارضتهم الذاتية لكفار قريش ، مما دفعهم بالتالي الى الاعتماد على الله ، ثم على مواهبهم الذاتية وتكوين قوة عسكرية على ساحل البحر تهدد تجارة قريش ، مما دعا كفار قريش الى ان يطلبوا من الرسول قبولهم في دولته . فالعلاقة بين الدولة الاسلامية وبين القوى المعارضة من المسلمين في صفوف الكفار قد تتفكك من أجل مصلحة الدولة ، وقد يكون ذلك في صالح المعارضة ايضاً ، اذ انها تعتمد آنئذ على نفسها وتصبح قوة مستقلة تنفع المسلمين في نهاية المطاف .. والله المستعان .

هاء : من احكام الهدنة

(النساء/90) ، (النساء/92) ، (الانفال/72) ؛ نستفيد من الآيات الكريمة ؛ وجوب الوفاء بالمواثيق التي بين المسلمين واعداءهم ، في الوفاء بحقوقهم كاملة ، وذلك في الموارد التالية التي يمكن ان نعتبرها مثلاً لسائر المصاديق التالية التي تدخل ضمن عموم الوفاء بالميثاق الذي أمرنا به في الكتاب والسنة :

أ- قد يقتل المنافق الذي لا يهاجر ، ويتولى (فلا يخضع للقيادة الشرعية ، بل يتمرد عليها ويناهضها) . ولكن إذا كان هذا المنافق ذات صلة بقوم (معاهدين) بينهم وبين المسلمين ميثاق ، فانهم لايطاردون ولا يقتلون .

ونستوحي من ذلك ان المعاهد محترم الدم ، وتجري عليه أحكام خاصة حسب الميثـاق .

ب- اعطاء الدية لأهل المقتول خطأ ، ولو كانوا كفاراً ، باعتبار ان اشتراكهم في الميثاق مع المسلمين جعل دماءهم محترمة .

ونستفيد من الآية ؛ ضرورة اعطاء دية الاعضاء اليهم ايضاً ، بل دفع كل غرامة تكون لمسلم عند الاعتداء عليهم من قبل بعض المسلمين .

ج- يجب نصر المؤمنين الذين يعيشون في بلاد الكفر ، إن هم استنصروا المسلمين . ولكن إذا كانت بين المسلمين وبين تلك البلاد معاهدة (عدم الاعتداء) ، فلا يجوز نقض المعاهدة .

ونستفيد من هذه البصيرة ؛ ان أمن الوطن الاسلامي هام جداً ، وقد يكون أعظم حرمة من أمن الأقلية المسلمة في البلاد الاجنبية . ومن هنا فلو رأت القيادة الشرعية للأمة ، أن اقامة علاقات السلام مع الدولة الكذائية أهم من مصالح المسلمين المعارضين من ابناء تلك الدولة ، فإنها لا تدافع عنهم عند استغاثتهم ، ولعل الله يجعل لهم مخرجاً .

د- وقد سبق الحديث حول رد المهر الى الزوج إذا كان من الكفار المعاهدين وهاجرت زوجته الى المسلمين ، كما جاء في القرآن الكريم . كما سبق الحديث حول اعادة المهاجرين من الرجال وعدم حمايتهم إذا اشترط في الميثاق ، اقتداءً بسيرة الرسول صلى الله عليه وآله .

من كل هذه المصاديق الخاصة في المعاهدة ؛ نعرف مدى ضرورة الوفاء بالميثاق وبنوده، حتى ولو خالفت احكاماً أولية مثل ملاحقة المنافق او نصرة المسلم المستضعف او عدم اعطاء الدية لأهل المقتول إذا كانوا كفاراً أو ما اشبه . فإن حكم الميثاق حكم ثانوي يتقدم على الأحكام الأولية ، إذا كانت في الميثاق - اساساً - مصلحة عليا او ضرورة قاهرة . والله العالم .

واو : احكام الهدنة والظروف المتغيرة

تختلف ظروف انشاء المعاهدة مع الأعداء ، مما يؤثر في اختلاف طبيعة هذه المعاهدة :

أ- فقد تكون المعاهدة بين طرفين متكافئين ، لايجدون في الحرب وسيلة لتحقيق أهدافها .

ب- وقد تكون المعاهدة بين الطرف الاسلامي المنتصر ، والعدو المغلوب على أمره .

ج- وقد تكون بين طرف قاهر والطرف الاسلامي المنهزم . والسابقة التي يضرب بها المثل للقسم الأول تتمثل في صلح الحديبية ، حيث يبدو كل من المسلمين وكفار قريش متكافئين من الناحية العسكرية في الظاهر . وقد كانت شروط النبي صلى الله عليه وآله في هذه المعاهدة صرفة ، حيث قبل ببعض الشروط التي رأى بعض المسلمين أنها كانت غير متناسبة مع قوتهم المتنامية . ولكنهم كانوا خاطئين إذ ان هدف المعاهدة ليس فقط كسر شوكة العدو ، وانما قد يكون الهدف استمالته لتحقيق قيم الأمة العليا .

أما السابقة التاريخية التي مثلت القسم الثاني ؛ فقد كانت في اتفاقية الصلح بين المسلمين وبين بعض اليهود ، الذين نقضوا عهدهم مع الرسول وتآمروا على سلامة المسلمين في حرب الأحزاب . وبعد انتهاء محاصرة المدينة من قبل الأحزاب وعودة قريش وحلفاءهم ، فوجئ هؤلاء بالقوة الاسلامية تحاصر قلاعهم وتستفرد بهم فاعترفوا بالهزيمة وقبلوا بمبدء التحكيم . وكانت النتيجة قتل بعضهم، وجلاء بعضهم، وامتلاك ثرواتهم . فهنا ترى المعاهدة ذات صبغة تأديبية .

واما القسم الثالث فنجده في معاهدة الامام الحسن عليه السلام مع معاوية فيما سمي بصلح الامام الحسن عليه السلام ، حيث ان الحرب انتهت بسلطة معاوية على البلاد الاسلامية بعد قبوله بمعاهدة الصلح التي كانت قاسية على الفئة المؤمنة ، مما جعل بعضهم يعترضون عليها ، ولكنها كانت ضرورية في تلك الظروف .

ومن هنا فان على القيادة الشرعية تقييم الظروف المحيطة بانشاء معاهدة الصلح لتنظيم بنودها حسب الأولويات الممكنة . ولكن هناك بعض البصائر التي ينبغي وعيها في هذا الحقل :

أولاً : على القيادة الشرعية دراسة الأهداف والقيم العليا للرسالة الالهية ، الى جانب اعتبار المصالح السياسية للأمة الاسلامية . ومن هنا فاذا كانت الغلبة للمسلمين فلا يفرضوا على الطرف الآخر شروطاً قاسية ينفرهم عن الدخول في الدين الحنيف ، ويثير فيهم العداوة الدفينة . وإن لنا في سيرة النبي الكريم في أهل مكة بعد فتحها ، وسيرة الامام امير المؤمنين بعد حرب البصرة ، اسوة حسنة حيث انهما عفيا عن الأعداء . حتى قال الشاعر فيهم وفي اعدائهم :

ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح

وفي العصور المتأخرة ، وبالذات في القرن التاسع عشر الميلادي ، كانت المعاهدات تتضمن شروطاً قاسية ضد الدول المقهورة ، حيث كانت تنطوي على التعسف . وقد اتفق الأطراف في معاهدة ورساي دفع غرامة حربية قدرها (700) مليار فرانك ذهبي ، مما كان سبباً لردود أفعال سلبية . ([150])

ولعل أهم أسباب الحرب العالمية الثانية ؛ كان روح الانتقام التي سادت معاهدات الصلح بعد الحرب العالمية الأولى . بينما كانت روح التسامح التي أبداها النبي والامام علي بعد فتح مكة وفتح البصرة ، كانت سبباً لانتشار الاسلام ، ولعدم القسوة في الحروب الداخلية التي نشبت بين المسلمين .

ثانياً : إذا كانت الغلبة للاعداء ، فعلى القيادة الاسلامية ان تنظم معاهدة الصلح بحيث تؤمّن الحد الممكن من المصالح الاسلامية الأهم فالأهم ، وبالذات المحافظة على كيان الأمة (بيضة الاسلام) . وإننا نجد في معاهدة الصلح بين الامام الحسن السبط عليه السلام ومعاوية بنداً حول حماية شيعة الامام علي عليه السلام من بطش السلطة .

زاء : حكم المواثيق الدولية الراهنة

بعد الحرب العالمية الثانية التي انتهت في عام 1945 ، حيث خلّفت ورائها دماراً شاملاً في انحاء مختلفة من العالم (المانيا - اليابان مثلاً ) ، وبعد تطوير اسلحة الدمار الشامل الذي ينذر استخدامها بفساد عريض للكرة الأرضية برمتها ، وبعد جهود حثيثة من قبل حكماء العالم لمعالجة اسباب اشتعال الحروب ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً .. بعد كل ذلك انشأت جمعية الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية ، ومنظمات عالمية شتى .. ووقعت دول العالم تبعاً لذلك علـى مواثيق عديـدة ، هدفها منـع

اشتعال الحروب ومنع انتشارها لو اشتعلت ومنع استمرارها، ثم احتواء ما أمكن من آثارها.

وبالرغم من أن هذه المواثيق لم تتبين فاعليتها خلال العقود الماضية ، اذ نشبت عشرات الحروب الاقليمية ، وكان دمارها من حيث المجموع فضيعاً ومريعاً . كما ان سباق التسلح الذي هو حرب فعلية ضد اقتصاد العالم لم يتوقف أبداً ، إلاّ أن فائدة هذه المواثيق ليست خفية ، فاننا لو تصورنا العالم من دونها ومن دون المعاهدات الدولية المحدودة (مثل اتفاقية سالت بين امريكا وروسيا ، ومثل المواثيق الكثيرة بين دول اتحاد اوربا) ، اقول : لو تصورنا العالم من دونها ، لرأيناه غابة تتطاير فيها الأسلحة الذرية والكيماوية البالغة التدمير .

من هنا فان على المسلمين ان يقوموا بما يلي :

أولاً : دعم هذه المعاهدات والالتزام بها ، وحمل دول العالم على التقيد بها .

ثانياً : تطوير هذه المواثيق بما يجعلها أكثر فاعلية وقدرة على كبح جماح الحروب ، وردّ اعتداء الناس بعضهم على بعض ، وتحويل العالم الى روضة سلام وحب وتعاون .

ثالثاُ : اصلاح هذه المواثيق بما ينفع الأمة الاسلامية ، وبالذات في وضع أنظمة لحماية السلام أكثر فاعلية ، لكي لا تأتي عصابات صهيون ويغتصبوا فلسطين ، ولكي لا يهجم صدام حسين على ايران ثم على الكويت بلا رادع ، ولكي لا تنشب حروب اهلية في كثير من مناطق افريقيا وفي افغانستان وغيرها .

لقد آن الأوان لعلماء المسلمين وحكماءهم لكي يبلّغوا الى العالم كلمات الوحي المضيئة التي تنقذ البشرية من شرور انفسهم ، كقوله سبحانه : « يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات/13)

وعليهم ان يساهموا بجدية في اجتثاث جذور الاعتداء والظلم ، وفي تطوير انظمة الاحتواء والكبح ؛ مثل اشاعة روح التعاون والتنافس على الخيرات ، وتشكيل جمعيات السلم ، وتكثيف اللقاءات العالمية التي تساهم في التعارف ، وتكثير المنظمات الاقليمية والدولية للتعاون ، والتي تحتوي الروح العسكرتارية تبدلها بروح الصلح والصفاء . والله المستعان .

ثانياً : احكام الاجارة والذمام

(التوبة/6) ؛ نستفيد من الآية جواز اعطاء الذمام للكفار بهدف تبليغهم الدعوة ، وان الواجب الوفاء لهم بالذمة واعادتهم الى مأمنهم .

والذمة (كما يعرف من لفظها) مصداق للعهد الذي يجب الوفاء به ، وهو يشبه الميثاق في جوهره واحكامه . ولكنه قد يختلف عنه في مدته عادة ، حيث ان عقد الذمة قد يكون عهداً قصير المدة ، محدود الأجل . كما انه قد يختلف عنه في موضوعه ، حيث ان الذمة قد تعطى لفرد واحد او أهل حصن او قرية وما أشبه .. وفيما يلي نستعرض جملة احكام الذمام :

ألف : شروط العاقد

قال المحقق الحلي : اما العاقد (الذي يعطي الأمان) فلابد ان يكون بالغاً عاقلاً مختاراً ، ويستوي في ذلك الحرّ والمملوك والذكر والأنثى . ([151])

وعلق العلامة النجفي في الجواهر على صلاحية المملوك والأنثى لاعطاء الذمام، فقال : بلا خلاف . كما اعترف به في المنتهى في الأخير (الأنثى) ونسبه فيه ايضاً الى علمائنا ، واكثر أهل العلم في العبد . وقد جاء في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام ، إن علياً أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون ، وقال : هو من المؤمنين . ([152])

وجاء في الحديث عن اجارة أمان المرأة ؛ ان ام هاني (اخت الامام علي عليه السلام) قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله : يا رسول الله ؛ إني اجرت أحمائي واغلقت عليهم الباب ، وإن ابن أمي (تعني الامام امير المؤمنين عليه السلام) أراد قتلهـم . فقال رسـول الله صلى الله عليه وآله : قد اجرنا من اجرت يا أم هاني ، انما يجير على المسلمين ادناهم . ([153])

ولاريب ان كلمة المسلم تشمل العبد المسلم ، كما تشمل الأنثى . وبذلك تشملهما الأدلة العامة التي اجازت أمان المسلمين على بعضهم . فقد جاء في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد ان يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ، ثم يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلاّ ان تضطروا إليها . وأيّما رجل من أدنى المسلمين او افضلهم نظر الى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام الله ، فان تبعكم فأخوكم في الدين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه ، واستعينوا بالله . ([154])

وقد اشتهر الحديث النبوي الشريف الذي رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قلت له : ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله يسعى بذمتهم أدناهم؟ قال : لو ان جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان ، وجب على أفضلهم الوفاء به . ([155])

باء : حكم من دخل بشبهة الأمان

قال المحقق : ولو أذم المراهق او المجنون لم ينعقد ، لكن يعاد الى مأمنه . وكذا كل حربي دخل دار الاسلام بشبهة الأمان ، كأن يسمع لفظاً فيعتقده أماناً ، او يصحب رفقةً فيتوهمها أماناً . ([156])

وقال العلامة النجفي تعقيباً وشرحاً : او يشتمل عقد الأمان على شرط فاسد ، ولكن لايعلم المشرك افساده (للعقد وان امانه باطل ، فيدخل بلاد المسلمين بشبهة الأمان) . او نحو ذلك (من الشبهات التي قد يدخل بها الكفار بلاد المسلمين) بلا خلاف أجده فيه ، كما اعترف به في المنتهى . ([157])

/ 25