كيف ينعكس الايمان بالله العظيم وباسمائه الحسنى، وانه الحكم العدل، وانه الحكيم العليم، وانه ليـس بظلام للعبـيد ؛ كيف ينعكس هذا الايمان في ضمير المؤمنين وفي سلوكهم ؟ انما ينعكس بالمسؤولية ، وحمل امانة الحرية الممنوحة للانسان، ليختار طريق الهدى بكامل وعيه وارادته ، و( ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة ) . ومن ابعاد الرحمة الالهية انه سبحانه لا يحمّل أحداً مسؤولية اعمال الاخرين ، ولكن لا يعني ذلك الغاء مسؤولية الانسان عن هلاك او نجاة قومه . وكما ان المجتمع ككل مسؤول عن تقدم او تخلف حضارته ، فان أحسنَ أحسنَ لنفسه ، وان أساءَ أساءَ لها . والانسان مسؤول عن فكره ، كما هو مسؤول عن جوارحه التي هي نوافذ فكره . بل هو مسؤول عن هواجسه ونياته . وهكذا من دون السعي المناسب ، لا يمكنه نيل ثواب الله في الاخرة . ولا مهرب عن المسؤولية . فلا الالهة تغني شيئا عنه ، ولا الانبياء يتحملون عنه مسؤولياته . بل ولا يشفعون له إلاّ من بعد اذن الله ، ولا المتقون يتحملون عنهم شيئا . وحتى الانبيـاء مسؤولون عن افعالهم . فلو افترضنا -جدلاً- انهم افتروا الرسالة ، فعليهم - حاشا لله - اجرامهم . ولكن مع صدقهم ، فالناس مسؤولون عن عدم تصديقهم .
المسؤولية الجماعية :
المسؤولية هي القيمة التـي يحدثنا عنها السياق القرآني في سورة الاسراء بصورة مركزة، ولعل هذه السورة تدور حول هذا المحور في الآيات (7 - 13 - 14 - 15 - 17 - 36). والانسان مسؤول عن نفسه ومسؤول عن مجتمعه ، مما يصنف المسؤولية نوعين : الجماعية ، والفردية . وفي سورة الاسراء يذكرنا الله سبحانه عنهما جميعا . 1 / فالآية (7) هي التي تحدثنا عن المسؤولية الجماعية ، حيث يتحمل كل فرد مسؤوليته عن المجتمع وعن حضارته وتقدمه ، كما يتحمل المجتمع ككل المسؤولية عن نفسه . فيقول ربنا سبحانه وتعالى ضمن آيات اخرى : « وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الاَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فإِذَا جَآءَ وَعْدُ اُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَآ اُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِاَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً » (الاسراء / 4-6) . ثم يؤكد المسؤولية الجماعية بقوله سبحانه : « إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا » ( الاسراء / 7 ) . من هذا السياق نستوحي ؛ ان بصيرة القرآن عن التاريخ ، تبدأ من الانسان نفسه ، ومدى مسؤوليته عن افعاله . فإذا تقدمت امة او تخلفت ، فهي بسبب ما احسنت او اساءت . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ألا كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته . فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم". ([1]) 2 / وهكذا تتوسع دائرة المسؤولية عند الانسان ، حتى تبلغ الكرة الارضية . فالفساد الذي ينشأ مــن انحراف البشر ، ينتشر في الطبيعة من حوله . فاذا بالتلوث يصيب البر ، ومنه ينتقل الى البحر . واذا بالبيئة كلها تفسد بفعل الانسان . وقال الله سبحانه : « ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » ( الروم / 41) . وقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن ابيطالب عليه السلام : " اتقوا الله في عباده وبلاده ، فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم ". ([2]) 3 / في قصص الغابرين عبر كثيرة ؛ كيف اصابتهم سيئات افعالهم ؟ وذلك هو عين مسؤوليتهم . وهكذا البشر اليوم لا يمكنهم ان يردوا عن انفسهم آثار أفعالهم السيئة (ظلمهم) . قال الله تعالى : « فَاَصَابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلآءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ » ( الزمر / 51) . 4 / وما من مصيبة تصيب البشر ، إلاّ بسوء افعاله . فهو اصلها ، واليه مردها (من ذنب يقترف ، او حسنة تترك ، او غفلة تحيط به) . وان الله يعفو عن كثير من الذنوب التي تقتضي المصائب ، ( فلا يغـر احداً انه يذنب فلا يصاب ، ولا يحمله على العود) . قال اللـه تعالـى : « وَمَآ أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَـا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ» (الشورى/ 30) . وفي تفسير هذه الآية قال أمير المؤمنين علي عليه السلام : " ليس من التواء عرق ، ولا نكبة حجر ، ولا عثرة قـدم ، ولا خدش عـود ، إلاّ بذنب ، ولما يعفو الله اكثر . فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيـا ، فان الله أجـل وأكرم وأعظم من ان يعود في عقوبته في الآخـرة " . ([3]) وقد احاط الله بالبشر حفظة يحرسونه من الاخطار ، فلا تصيبه صدفة أو خطأ . كلا ؛ بل تصيبه المصائب صغيرها وكبيرها حسب تقدير الهي . والتقدير الالهي بدوره حكيم ، ويرتبط بما يسعاه وما يكسبه . فلا يغير الله نعمة اسبغها على مجموعة بشرية (كنعمة الأمن والرفاه والتكامل) ، إلاّ إذا غيروا من فكرهم وسلوكهم ؛ فعموا بعد الاستبصار ، وافسدوا بعد الصلاح ، واضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات . قال الله سبحانه : « لَهُ مُعَقِّبَـاتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْــهِ وَمِنْ خَلْفِـهِ يَحْفَظُونَـهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّـِرُوا مَا بِاَنفُسِهِـمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِــهِ مِن وَالٍ » ( الرعد / 11) .
لمسؤولية الفردية :
1 / اوضح صور المسؤولية الفردية ، تتجلى عندما يوقف كل فرد امام ربه وقد حمل كتابه الذي كان من قبل معلقا على عنقه ، فإذا به يراه منشورا في ذلك اليوم ، ثم يؤمر بأن يقرء ما فيه ليكون بنفسه عليها حسيبا . (يحاسب نفسه بعد ان يرى اعماله تتجسد عقاباً او ثواباً) وكفى به على نفسه شاهداً . قال الله سبحانه : « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَّنِ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » ( الاسراء / 13 - 15) وروي عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير الآية : «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ » قال : " قدره الذي قدر عليه ". ([4]) وتبين الآية مسؤولية الانسان عن اهتدائه . فمن اهتدى فانما اهتــدى لنفســه ، وفي ذلك اليوم يجد نور هدايته ساطعاً . واما من ضل فإنما يضل على نفسه ، ويجد ضلالته ظلاماً وعذاباً . ولا يمكن ان يتحمل احد حمل غيره ، فكل يحمل وزره ، وعقبى عمله بنفسه دون الاخرين . 2 / وتتجلى مرة اخرى سنة المسؤولية في يوم الفصل ، عندما يأتي النداء صارخاً بان يوقف المجرمون ليسألوا . قال ربنا سبحانه : « وَقِفُوهُمْ اِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ» (الصافات/24) . 3 / وكل انسان يملك ما اقترفه من الاثم . قال الله سبحانه : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُم مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ » ( النور / 11) . 4 / وما كسبه الانسان من خير او شر يحيط به ، فهو رهينه . وقال الله سبحانه : « كُلُّ امْرِئِ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » ( الطور / 21) . 5 / وقال الله سبحانه : « كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » ( المدثر / 38) . 6 / وسيبقى الانسان رهين اعماله حتى يجازى بها . فهنالك يفك رهنه ، وذلك يوم القيامة ، حيث لا يظلم ربك احداً . قال الله تعالى : «الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ » (غافر / 17) . 7 / وقال الله تعالى: « وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ » (الجاثية/22). 8 / تصدر من الانسان ظواهر شتى ؛ من طاقة تستهلك ، وهواء يتنفس ، وهواجس تعتريه .. ولكن الذي له ليس إلاّ سعيه . فهو يملك سعيه ، وجزاء سعيه لا اكثر حتى لو تمناه ، ولا اقل حتى ولو خشيه . وهكذا فلا احد يتحمل عن الانسان حمله . انه الوحيد الذي يملك سعيه ، ويتحمل وزره ، وغداً يرى جزاء فعله وافيا غير منقوص . وان هذه البصيرة هي خلاصة رسالات الله الاولى ، حيث يقول ربنا : « أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى » ( النجم / 36 - 41) . واليوم الذي توفى كل نفس جزاءها كاملاً غير منقوص ، هو يوم القيامة ؛ حيث تأتي ساعة الجزاء ، والتي يكاد الرب يخفيها (كما يخفي الاستاذ أسألة الامتحان) حتى يتبين الحق ليكون الجزاء عادلاً . (فلو عرف الناس وقت الساعة قريباً او بعيداً ، فقد يؤثر في طبيعة سعيهم ولا يكون الامتحان دقيقاً . فالذي يعرفها قريبة لو عرفها بعيدة لما سعى ، ومن عرفها بعيدة سوّف التوبة وترك السعي - والله العالم - ) . قال الله سبحانه : « إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ اُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى » ( طه / 15) .
لا لتنابذ المسؤولية :
1 / كما يتـرامى الصبيـة الكرة ، تجد اقواما يتنابذون المسؤولية ، فبعضهم يلقاها على الاخر . كلا ؛ ان كل نفس تتحمل عاقبة سعيها بنفسها . يقول ربنا سبحانه : « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » ( الانعام / 164 ) ( فاطر / 18 ) ( الزمر / 7 ) . وهذا يعني ان الانسان الذي يحمل الاخرين مسؤولية افعاله لا يحرز نجاحاً ولا يهتـدي سبيلاً . 2 / ولـن يجــد الانسان بديلا عنه في احتمال وزره ، وعاقبة سعيه . كذلك اخبرنا الرب بقوله تعالى: « وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لايُؤْخَذْ مِنْهَآ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ اُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا » ( الانعام/ 70) .
لا واقي من الله :
1 / بكل ما اوتـي الانسان من قوة الجدل ، وممارسة الخداع الذاتي ، يكابد حتى يتهرب من مواجهة رب العباد العادل الحكيم ، حتى لا يحتمل وزر افعاله . وقال الله تعالـى : « وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْـمِ مَالَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ » ( الرعد/37) . ولعل الولي الشخص الذي ينصرك ، بينما الواقي هو الشيء الذي يحفظك . فقدرة الرب فوق ولاية الاولياء ، وحفظ الاشياء . 2 / وكل الاماني التي تتوالى في مخيلة الناس وبالذات اهل الكتاب الذين زعموا ان ادعاءهم الفارغ بالتدين يغني عن المسؤولية ، تلك الاماني لا تجدي نفعاً ، بل الانسان يجـز بافعالـه ، ولا ولي ينصـره ولا حيلة تنفعـه ، قال الله سبحانـه : « لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ وَلآ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّـاً وَلاَ نَصِيــراً » ( النساء / 123) .
لا يغنيه ما كسبه :
1 / عندما تحين ساعة الجزاء ترى سعيك المتراكم يتلاشى ، فالاموال التي جمعتها ، والاصحاب الذين اكتسبتهم ، والشفاعات التي علقت الامل عليهم .. كلها تبخرت ، وبقيت وحدك تواجه مسؤوليتك . أفرأيت اذا كنت في طائرة تعبر محيطا ، وواجهت الطائرة حالة طارئة . فلا ثروتك تنفعك ، ولا اصــدقاؤك يفيدونك شيئا .. كلا؛ انما انت هناك وربك الذي تخلص له الدعاء . وكذلك عند مواجهة جزاء افعالنا يوم القيامة ، لا شيء ينفع سوى العمل الصالح . قال الله تعالى : « فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُـونَ * قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِـمْ فَمَآ أَغْنَـى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » ( الزمر / 49 - 50 ) . 2 / ولعل احد اهداف البشر في جمع المال ، هو التخلص من جزاء افعاله ، والتهرب من قبضة العدالة . ولكن هيهات ، فان القرآن يؤكد ان المال لا يغني عنه ولا ما كسب . فهذا ابو لهب قد تبت يداه ، ولحقته لعنة جريمته ، وسيصلى نارا ذات لهب . وفي كل الاحوال ما اغنى عنه ماله ، وما كسبه من جاه او سلطان . قال ربنا سبحانه : « تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ » ( المسد / 1 - 3 ) . 3 / وشاهد صدق اخر على مواجهة الانسـان مسؤوليته ، ما فعل الله بالغابرين ، حيث دمروا شـر تدمير ، وهناك لم ينفعهم ما جمعوا لمقاومــة سخط الرب . قال الله تعالى : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الاَرْضِ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (غافر / 82) . 4 / واما الأفّاك الأثيم الذي يبشره الرب بعذاب أليم ، لأنه يسمع آيات الله ثم يصر على كفره استكباراً من ما سمعه ويستهزء بآيات الله ، فإنه هو الاخر لا ينفعه ما اكتسبه من ثروة وجاه وسلطة لدرء جزاء جريمته . كلا ؛ بل هو مجزي بأعماله . قال الله سبحانه : « وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ » ( الجاثية/9- 10) .
حقائق المسؤولية :
والمسؤولية تتجلى في حقائق ، وهي : مسؤولية الانسان عن أفكاره ، وهواجسه ، وسعيه .
الف : مسؤولية الانسان عن افكاره
العين تبصر ، والاذن تسمع ، والقلب يقرر ؛ والانسان مسؤول عن عينه اين يوجهها لتبصر ، وعن اذنه كيف يصرفها لتسمع ، وعن قلبه كيف يفكر ثم كيف يقدر ويقرر . 1/ وهكذا يأمرنا الله سبحانه ( بان نتبع العلم ) ، وألاّ نخطو خطوة غير علمية ، لأن الانسان مسؤول عن اتجاه حركته ، ووجهة مساعيه . وكل جارحة فيه تساهم في تحديد مساره ، فهو مسؤول عنها . يقول ربنا سبحانه : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً » ( الاسراء / 36) . هنـا تستخدم كلمة المسؤولية ، مما يوحي بان مسؤولية الانسان عن افكاره ليست باقل من مسؤوليته عن افعاله . 2 / وانها لجريمة كبرى ؛ ان يفتري المرء على ربه ، فيصوغ فكرة خاطئة ثم ينسبها الى الله سبحانه ، لكي يلبسها كساء الشرعية زوراً . (انها مناقضة تماماً لحالة التسليم للحق ، واتباع العلم لبلوغ الحقيقة ، وانها تستوجب عذاباً شديداً) . وهكذا يأمر الله رسوله بأن يتحمل وحده مسؤولية كلامه ، ويقول لأمته انه لو افترى على الله فلا احد يتحمل عنه مسؤولية افتراءه . قال الله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَّ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » (الاحقاف / 8 ) .
باء : المسؤولية عن الهواجس
1 / قبل ان يقرر البشر شيئـاً يفكر فيه، وتدور في خلده الهواجس المختلفة. وكل هاجسة، ناشئة نزعة نفسية شيطانية او رحمانية . واختيار هاجسة على اختها ، وفكرة على اخرى ، يتم بوعـي وبـارادة ، والانسان مسـؤول عـن تلك الارادة . قال الله تعالى : « رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاَوَّابِينَ غَفُوراً » ( الاسراء / 25) . هذه الآية تؤكد على مسؤولية الانسان عما في نفسه . 2 / الجزاء على العمل ، ولكن المسؤولية تشمل النية . ولذلك فمن نوى شرا ثم انصرف عنه يعفو عنه الرب ، حيث يقول ربنا سبحانه : « لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » ( البقرة / 284) . هكذا استفاد الفقهاء من الآية ؛ ان النية التي لا يعمل بها صاحبها تغتفر له ، بدليل قوله سبحانه : « فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ » وسواءاً دلت هذه الآية ام لا ، فانها لا ريب صريحة في محاسبة الله الانسان عما يختلج في ضميره ، سواءاً أبداه أم أخفاه .
جيم : مسؤولية الانسان عن سعيه
1 / من حقائق سنة المسؤولية ؛ ان الله جعل السعي للاخرة ثمن الجنة ، شريطة الايمان (والتقوى . اما التمني على اللـه من دون سعي واجتهـاد ، فانه لا يثمر إلاّ خداعاً ذاتياً ، وضــلالاً بعيداً) . قال الله تعالى : « وَمَنْ أَرَادَ الاَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَاُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً » ( الاسراء / 19 ) . والآية تهدينا الى ثلاثة شروط لجزاء الاخرة ؛ اختيار الاخرة على الدنيا ، ( النية الصالحة ) والسعي لها ، والايمان ( ويشمل التقوى ) . وبيّن ان الله يشكر السعي بقدره ، فكلما كان اكبر كان الجزاء اعظم . 2 / ويوم القيامة - عندما يرى المؤمنون جزاءهم الاوفى - هنالك يتم الله نعمته عليهم بالقول : ان هذا جزاء اعمالكم ، وان سعيكم كان مشكوراً . (فعلمهم بأن جزاءهم كان نتيجة سعيهم يزيدهم سرورا ، لأن فطرة الانسان تقتضي الفرح بانجازه) . قال الله تعالى : « وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُوراً » ( الانسان / 20 - 22) . 3 / وهم الاعذار ؛ وقد غرّ الشيطان ابناء آدم بطائفة الاعذار التي سوّل لهم ، انها ترفع عنهم أمر المســؤولية . وها قد بددها القرآن الكريم ، ومنها :
أولاً : شفاعة الالهة
لا شفاعة ترتجى من الالهة أبداً . فقد اتخذ البشر آلهة لعلهم ينصرونهم على سنة المسؤولية ، وقد صرفوا طاقات هائلة في الدفاع عن هذه الالهة ، حتى اذا حانت ساعة المواجهة الحاسمة بين البشر وبين تلك السنة الالهية ، انهارت الالهة وانهارت معها فلسفة التبرير ، التي غر الشيطان البشر بها . 1/ وهكذا يضـرب القـرآن امثلة بالغة الوضـوح في الآيات (26-99) من سورة هود ، من واقع الامم الغابرة ؛ قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط واصحاب مدين وفرعـون ، ويقص علينا كيف كفرت برسالات الله ، وتحدت رسله ، واعتمدت على الالهة . فلما جاء اجلهم (وحانت ساعة الجزاء) دمرهم الله ، فما اغنت عنهم آلهتهم شيئا . ويقول الله سبحانه : « ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ الَّتي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ » ( هود / 100 - 101 ) . هنا سقطت كل الانتماءات ، وكل العلاقات التي كان يزعم الكفار انها تنفعهم يوم القيامة، وبقـي عملهم الذي قادهم الى النار . فاذا كانت الالهة تنفعهم في يوم الكريهة ، فلماذا دمروا ؟ واذا كانت هذه الالهة تقربهم الى ذي العرش ، فلماذا أخذهم الجبار بعزته أخذ مقتدر ؟ 2 / ومن هنا قال مؤمن - يس - لقومه بصراحة عن زيف الالهة ما يقصه علينا . قال الله تعالى : « إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً » ( يس / 23 ) . 3 / الملائكة المكرمين عند الله ، لايملكون من دون الله شيئا . اذا عبدوا من دون الله ، فلا تغني عبادتهم شيئا . قال الله تعالى : « وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى » ( النجم / 26) . بلى ؛ اذا اذن الله بشفاعة الملائكة ، ورضي قولهم في الشخص ، فإن الشفاعة تنفع . وهكذا تكون الشفاعة خارجة عن دائرة السنن الالهية العليا . 4 / وهكذا كان محور رسالة الانبياء ، النهي عن عبادة الاصنام (الاحجار او الاموات) ، لانها لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئاً . قال الله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَآ أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً » ( مريم / 41 - 42) .
ثانياً :الاولياء لا يغنون شيئا
1 / وكما الالهة لا تنفع ، كذلك الاولياء - من دون الله - لا يغنون شيئا يوم القيامة ، حيث الموازين الحق . والذين يتخذون اولياء لعلهم يشفعون لهم عند الله ، لا ينفعونهم الا اذا امر الله باتباعهم ، واذن لهم بالشفاعة ، ورضي لهم قولا .. قال الله تعالى : « يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَن مَوْلىً شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ » ( الدخان / 41) . 2 / قـال اللـه تعالـى : « وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيْئـاً وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ » ( الجاثية / 10) . 3 / وفي يوم القيامة ، لا ينفع الذين اتبعوا تابعيهم شيئا ،(إلاّ إذا كان الاتباع باذن الله سبحانه وامره) . يقول الله سبحانه عنهم : « إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ » ( غافر / 47) .
ثالثاً : لا تغني المكاسب المادية
1/ من دواعي الحرص البشري على الاموال والاولاد ، التحصن بها ضد القوى الاخرى. ولكن سنة الجزاء لا تنحسر عن احد ، اذ انها من سنن الله العدل الحكيم . ومن هنا فإن القرآن بيّن قاطعاً ( وبصيغة النفي المطلق المعبر عنها بحرف لن ) انه لا ينفع المال والاولاد شيئا (وبصورة مطلقة ، وبنفي الفكرة) . قال الله تعالى : « لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلآ أَوْلاَدُهُم مِنَ اللَّهِ شَيْئاً » ( المجادلة / 17) . 2 / ولذلك اذا احاطت بالمجرم ذنوبه يوم الجزاء يقــول : ما اغنى عنه ماله ، ( ذلك المال الذي جمعـه ليغني عنه من الله شيئـا ) . قال الله تعالى : « مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ » ( الحاقة / 28 ) . 3 / ان المال والولد نعمة الهية ، اسبغها الله عليهم ليستفيدوا منها ( بصورة مؤقته ) في الدنيا ، (وهي - بالتالي - ليست اداة لمواجهة سنة المسؤولية) . قال الله سبحانه : « مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ » ( الشعراء / 207) . 4 / وشاهد هذه البصيرة ما يراه البشر في حياته ، ان المال لا يغنيه شيئا في الدنيا اذا تردى . فهل يمنع المال عن صاحبه الموت إذا جاء اجله ؟ ( ولعل هذا مراد الله سبحانه بقوله) : « وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى » ( الليل / 11) .
رابعاً :وما انا عليكم بوكيل
1/ لان الانسان يتحمل مسؤولية فعله بذاته ، فان الانبياء ( وكل الدعاة الى الله ) لا يتحملون عـن الامم مســؤولياتهم ، ولا ينبغي ان يبتئسوا بما يعملون . قال الله عز وجل مخاطباً نبيه نوحاً عليه السلام : « وَاُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ » ( هود / 36) . 2 / وقـال الله تعالى : « أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ » ( هود / 35) . 3 / وهكذا يتحمل الرسول مسؤولية الدعوة ، وهم يتحملون مسؤولية الاستجابة ، (ولم يكلف الرسول باكراههم على قبول الدعوة ) . قال الله تعالى : « فَإِن تَوَلَّوْا فإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ » ( النور / 54) .
خامساً :الرسول لا يشفع إلاّ باذن ربه
والبعض ينتظر شفاعة الرسول ، لكي يتخلص من المسؤولية . كلا ؛ ان الرسول لا يشفع إلاّ باذن الله . وهكذا جاء الخطاب الالهي محذراً نوحاً عليه السلام ، ألاّ يخاطب الله في الظالمين ، ولا يسأل الشفاعة لهم ، لأن جزاء الظالم يحيط به لا ريب فيه . يقول الله تعالى : « وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِاَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذينَ ظَلَمُـوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ » ( هود/37).
كل انسان يحمل وزره :
1 / ان الانسان هو المسؤول الاول عن افعاله ، اما الاخرون فانهم ليسوا مسؤولين بديلا عنه . يقول الله تعالى : « وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ » ( يوسف / 69) . وهكذا نصح يوسف عليه السلام أخاه ، بان لا يبتئس بما كان اولئك القوم يعملونه من اعمال مخالفة . ذلك لانهم هم يتحملون وزر اعمالهم. وهو بريء عنها. فلماذا يبتئس بها ؟ 2 / وان ذلك من تجليات العدل الالهي ، ألاّ يحمل أحد وزر افعال غيره . ان الانسان هو بنفســه مسؤول عن افعاله . يقول ربنا سبحانه : « وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » ( الانعام / 69) . حيث يبدو ان تفسير الآية - بالنظر الى سياقها - ان الذين يتقون الله لا تلحق بهم مسؤولية الظالمين وان جالسوهم لأن كل نفس بما كسبت رهينة . 3 / وكان الكفار يزعمون ان الرسل الكرام والدعاة الى الله وكلاء بهم ، - وبالتالي - يتحملــون عنهم مسؤولياتهم . ولعلهم استنتجــوا ذلك من اصرار اولئك في دعوتهـم الـى الدين ، فنفى القرآن ذلك وامرهم بأن يقولوا لهم : ان كلاً مسؤول عما اقترفه . قال الله تعالى : « قُل لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ » ( سبأ / 25) . والانبياء عليهم السلام قالوا للامم ، انهم لا يتحملون وزر كفرهم . كما انهم لو افتروا على الله الكذب ، فان الناس لا يتحملون وزر افتراءهم . قال الله سبحانه : « أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ » ( هود / 35) . 4/ وفي الدنيا يرتبط الناس ببعضهم في حيـاة اجتماعية . فيزعم البعض ان ذلك يعني نفي المسؤولية الفردية ، بينما في الاخرة ينكشف الغطاء ، فإذا لكل شخص شأن يغنيه عن شـؤون غيره . قال الله تعالى : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » ( عبس / 37) .
اختلاق المعاذير :
1/ لقد اتخذ الكفار الاعتراض على الرسالات الالهية ، وسيلة ( للتملص من المسؤولية) . فردهم الله بأن لله ملك السموات والارض ، وانه هو الحاكم المطلق ، ولا احد يقدر على انقاذهم من تبعة اعمالهم ، - وبالتالي - فان اعتراضهم لا يغنيهم شيئا عن مسؤوليتهم . وهكذا نسف السياق القرآني قاعدة اعتراضهم ، والاساس النفسي لكلامهم ، وكأنه قال لهم ؛ ماذا ينفعكم الاعتراض مادامت المسؤولية لا تنحسر عنكم ، انى قلتم وانى فعلتم ؟ قال الله تعالى : « مَا نَنَسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ » ( البقرة / 106 - 108 ) . 2 / ومن المعاذير ؛ انهم زعموا بان قربهم النسبي الى الانبياء الصالحين ، يخفف عنهم العذاب . فحتـى لو ادخلوا النـار ، فانهم لا يمكثون فيها طويلا . فجاء الرد ؛ كلا .. لا عهد بينهم وبيـن ربهم على ذلك . قال الله تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُواْ نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُــونَ * ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ » ( آل عمران / 23 - 24) . كان من خطأ الكفار من اهل الكتاب، الاعراض عن كتاب الله وعدم التحاكم اليه، زعماً بأنهم فوق القانون ، وانهم لا يتحملـون مسؤولية اعمالهم . وردهم القرآن بأنهم قد اغتروا بما افتـروه ، - وبالتالي - خدعـوا انفسهـم ببعض الاماني الكاذبة التي لا تغني عنهم شيئـاً . 3 / ومثل ذلك قولهم نحن ابناء الله واحباؤه ، للتهرب من تبعة افعالهم . ولكن الله ردهم بانهم مسؤلون عن افعالهم في الدنيا . والدليل الواضح على ذلك ، ان الله يعذبهم بأفعالهم في الدنيا (والدنيـا ليست دار جزاء) ، وهذا دليل على انهم ليسوا ابناء الله واحباءه، بل بشر ممن خلق . قال الله تعالى : « وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ » (المائدة / 18) . 4 / والله سبحانه لم يعطهم عهداً بألاّ يعذبهم بذنبوبهم إلاّ أياماً قليلة ، وانما هم يقولون على الله مالا يعلمون ، (بل هو مجرد اماني يتهربون بها عن المسؤولية بزعمهم) . وهكذا يؤكد القرآن سنة الجزاء ، وان من احاطت به خطيئته فان مصيره الى النار خالداً فيها . قال الله سبحانه : « وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » ( البقرة / 80 - 82) .
التواكـل :
1/ كانت بنو اسرائيل امة متواكلة ، لم تفجر طاقاتها ، بل ألقت المسؤولية على قيادتها . ويقص علينا قصتهم القرآن الحكيـم ، وكيف ادت هذه الحالة بهم الى الضلالة في التيه أربعين عاماً . وبذلك يحذرنا من التواكل ، حيث يقول ربنا سبحانه : « قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَآ أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّـكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَا هُنَـا قَاعِـدُونَ » (المائدة/24). 2/ ثم يقول ربنا سبحانه عن عاقبة التواكل : « قَالَ فإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ » ( المائدة / 26) .
المسؤولية ؛ لا السحر :
قال الله تعالى : « وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيَمانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ اُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَالَهُ فِي الاَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » ( البقرة / 102) . السحر (وما اليه من الشعوذة والكهانة) ؛ هذه الوسائل الشيطانية تأتي لتقوم مقام الوحي في زعم الاتصال بالغيب . والامة التي تقع على طريق الابتعاد عن الوحي (بالحيلة والتبرير) والالتفاف على الاحكام الالهية ، تنتهي - بالتالي - الى التشبث بالسحر كبديل عن الوحي ، ولملأ الفراغ الذي يحس به الناس . والقرآن يبين وببعض التفصيل " قصة تسريب السحر " الى بني اسرائيل ، من خلال اتباع ما تلته الشياطين على ملك سليمان . وبعد ذلك يحدث السياق عن الداعي النفسي وراء اتباع السحر ، وهو التملص عن المسؤولية . قال الله تعالى : « وَقِفُوهُمْ اِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ » ( الصافات / 24) .
لماذا تأخير الجزاء ؟
1 / يستعجل المجرمون الجزاء ، ويزعمون ان تأخير العقوبة دليل ضعف سنة الجزاء . كلا ؛ ان رحمة الله الواسعة اقتضت تأخير الجزاء ، لان افعالهم التي كسبوها اقتضت بتعجيل العذاب - لولا رحمة الله وسنة الابتلاء في الدنيا - . قال الله تعالى : « وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَهُم مَوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً » ( الكهف / 58) . 2 / بل ان الفساد العريض الذي احدثه الكفار ، كان يسبب دمار الارض كلها حتى لا تبقى عليها دابة، لولا رحمة الله الواسعة، وانه يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار. قال الله تعالى : « وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ » (فاطر/45). 3 / وقد يـؤاخَذ الناس ببعض ما كسبوا من الذنوب ، بينما يعفو عن كثير . فقد يأمر الريح بأن يسكن في وســط المحيط او يهيـج ليهلك السفن العابرة ، جزاء افعال اهلها . قال الله تعالى : « إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ » ( الشورى / 33 - 34) .
في الآخرة تتجلى المسؤولية :
متى تتجلى المسؤولية البشرية واضحة صارخة ؟ الجواب ؛ في الاخرة ، وبالذات في يوم الدين ، يوم الفصل ، يوم التغابن ، ويوم القيامة . 1 / في ذلك اليوم تتمثل اعمالنا التي كسبناها ظاهرة ، لا يمكن لنا انكارها ، وتبدى امامنا تلك الحقائق التي كفرنا بها . قال الله سبحانه : « وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » ( الزمر / 48) . 2 / وهناك ترى الذين ظلموا خائفين مشفقين من اعمالهم التي كسبوها ، وأوزارهم التي حملوها، ويتمنـون لو كان بينهم وبينها بعد المشرقين ولكنها واقعة بهم ، قال ربنا سبحانه : « تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِنــدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيـرُ » ( الشورى/22) . 3 / وكيف ينكرون اقترافهم تلك الاعمال ، وان ارجلهم تشهد عليهم ، وايديهم تنطق بكل تلك الافعال التي ارتكبوها . قال الله الحكيم : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» ( يس / 65) .
القرآن كتاب المسؤولية :
1 / والقرآن يهدي للتي هي اقوم . ومن آفاق هدايته ، بشارة المؤمنين بحسن جزاءهم عند الله . وبكلمة اخرى ؛ بيان سنة الجزاء ، التي هي حقيقة المسؤولية . يقول الله تعالى : « إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً » ( الاسراء / 9 ) . 2 / والكتاب الذي انزلـه الله علــى رسوله ، كان بهدف الانـذار والذكـرى (وهما طرفا المسؤولية . فالانذار لمن كفر ، والذكرى لمن تذكر) . قال الله سبحانه : « كِتَابٌ اُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ » (الاعراف / 2) . 3 / وهذه من حقائق الحكمـة في الكتاب ؛ الانذار والتبشير ، (وهي حقيقة المسؤولية) . قال الله تعالى : « الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا » (يونس / 1 - 2) . وهكذا تذكرنا فواتح السور القرآنية بسنة المسـؤولية . واذا تدبرنا بعمق في الكتاب ، لرأينا انه - بكلمة واحدة - كتاب مسؤولية ، حيث لا تخلوا آياته الكريمة من التذكـرة بهـا ، وبتعابير شتى .
بصائر الآيات
1/ تنعكس اسماء الله الحسنى ، وانه حي قيوم يحكم بالعدل ، ويقوم بالقسط ؛ تنعكس في ضمير المسلم بوعي المسؤولية ، واحتمال الامانة الكبرى . 2/ ومن الرحمة الالهية ؛ ان كل انسان مسؤول عن نفسه . « أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى » ، إلاّ ان كل فرد مسؤول بقدر عن مجتمعه . 3/ ومسؤولية الانسان تبدء بمسؤوليته تجاه هـواجس نفسه ( نيته ) ، وعن ركائز علمه ( عينه وسمعه وفؤاده ) . 4/ ولا يمكن الفرار من المسؤولية ، فليست هناك آلهة تمنعه من جزاء عمله ، ولا شفعاء يشفعون له من دون اذن ربه . 5/ والانبياء عليهم السلام هم بدروهم مسؤولون امام رب العزة . 6/ والمسؤولية صنفان ؛ فردية ( حيث كل انسان مسؤول عن نفسه ) ، وجمعية ( حيث المسؤولية عن الآخرين ) . 7/ واذا تقدمت امة او تخلفت ، فبما كسبت ايديهم . ان احسنوا احسنوا لانفسهم، وان اساءوا فلها . 8/ وتتوسع دوائر المسؤولية ، حتى تسع البر والبحر . فان ظهر الفساد فيهما ، فبما كسبت ايدي الناس . وقد اصاب الناس من قبلها ما اصابهم لمسؤوليتهم . ونحن مثلهم ان فعلنا ما فعلوا ، وما نحن بمعجزين ، والله يعفو عن كثير من الذنوب . ولكن الذين يصيبنا من المصائب ، فبما كسبت ايدينا ، لان الحافظ هو الله سبحانه . فاذا غيّرنا ما بأنفسنا (من الاستقامة) ، غير الله ما علينا (من نعم) ، ولا مردّ من قضائه . 9/ وكل انسان يلزم طائره (الذي يكتب فيه ما فعل) ، وغداً ينشر امامه ليحاسب نفسه بنفسه . فان اهتدى فقد اهتدى لنفسه ، وان ضل فعليها . وهكذا يوقف المجرمون يوم القيامة ليسألوا ، وكل انسان يحمل ما كسبته يداه ، وهو رهين عمله يجازى غداً به ؛ ان خيراً فخير ، وان شراً فشر . وهكذا ليس للانسان إلاّ ما سعى ، وانه لا تزر نفس حمل غيرها ، لانها قد حُمّلت ما يكفيها من المسؤولية . 10/ وهكذا لايجوز ترامي المسؤولية . فلا يؤخذ منها أي عدل ، ولا ينفعها أي شفيع ، ولا أي ولي من دون الله سبحانه ، ولا واقي للانسان من الله . وكل الاماني التي يخدع الانسان بها نفسه للتهرب من المسؤولية ، انما هي خداع ذاتي . فمن يعمل سوءً يجز به ، ولا احد ينصره من دون الله او يدافع عنه . 11/ وتتجلى المسؤولية المباشرة امام رب العزة عند الشدّة . فكيف اذا مسك الضر دعوت ربك وحدك ، ونسيت النعم التي علقت عليها الاماني . فما اغنت عن ابي لهب ثروته ، ولا اغنت حضارة السابقين عنهم شيئاً ، حينما جاءهم أمر الله ( فدمروا تدميراً ) ، ولا اغنت عنهم آلهتهم التي علقوا عليها الامال . 12/ والانسان مسؤول عن معرفته ، ألاّ يخطو خطوة بغير علم ، لان السمع والبصر والفؤاد ( وهي وسائل المعرفة ) كل اولئك كان عنه مسؤولاً . وهكذا لايجوز ان يقول عن الله ما ليس له به علم ، فانه من الافتراء على الله . 13/ بل البشـر مسؤول عن وساوس نفسه وظنونه ، وقد قال سبحانه : « وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » ( البقرة / 284 ) . 14/ وهكذا الالهة التي يعلق البشر عليها الامال ، انها تتلاشى في يوم الجزاء ، ولا تغني عنه شيئاً ، ولا يغني مولى عن مولى شيئاً ، ولا هم ينصرون . 15/ والقرآن كتاب المسؤولية . فهدف انزاله البلاغ ؛ انذاراً وتبشيراً . وليس الرسول وكيلاً عن الناس .. فهو بريء مما يجرمه الناس ، وانما عليه ما حمل من ابلاغ الرسالة ، وعليهم ما حملوا من قبولها . 16/ ويختلق البشر المعاذيـر للتهـرب من المسؤولية ، فيعترض مثلاً على تناسخ الآيات ، أو يسأل آيات بعينها ثم يكفر بها . وقد يزعم ان قربه من انبياء الله سبحانه واولياءه يغنيه عن المسؤولية . وقد يزعم انه حبيب الله فلا تمسه النار ، والله لم يعط عهداً له بألاّ يعذبه بالنار . وقد حرّم الله على بني اسرائيل المدنية الموعودة لما رفضوا القتال وتواكلوا . وهكذا التواكل وعدم تحمل المسؤولية عذر مرفوض . والسحر هو الآخر لايغني عن مسؤولية السعي والكدح . 17/ والبعض يعترض على سنة المسؤولية ، إذ يزعم ان تأخير الجزاء دليل على عدم المسؤولية . كلاّ ؛ انما الله رحمة بعباده ، يؤخرهم لأجل (لعلهم يرجعون) . وفي يوم القيامة تتجلى سنة المسؤولية ، حيث تبدو لهم سيئات ما كسبوا ، ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون . واذا الظالمون تراهم مشفقين مما كسبوا ، ولكن لاينفعهم ذلك ، اذ هو واقع بهم . ولا يمكنهم التكذيب بما فعلوا ، اذ تكلم الرب ايديهم فتشهد عليهم ، كما تشهد عليهم ارجلهم بما كانوا يكسبون .
فقه الآيـات
1/ (الاسراء / 7 ) و ( الرعد / 11) ؛ الانسان حيّ اجتماعي ، بعضهم من بعض ، ولذلك يتأثر وضع كل فرد بالآخرين . واذا كان وضع المجتمع ككل فاسداً ، فان صلاح الفرد وحده قليل الفائدة . قال الله سبحانه : « وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ » (الانفال / 25) وفقط الذين ينهون عن الفساد ، هم الذين ينجيهم الله . قال سبحانه : « فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ » ( هود / 116) . ورمز صلاح الأمة وفسادها ؛ قيادتها وإمارتهـا ، فقد قال سبحانه : « يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ اُنَـاسٍ بإِمَامِهِمْ فَمَنْ اُوتِيَ كِتَابَـهُ بِيَمِينِـهِ فَاُوْلَئِــكَ يَقْـرَءُونَ كِتَابَهُـمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً » ( الاسراء / 71) . وجاء في الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسـول الله صلى الله عليه وآلـه : قال الله عز وجل : "لأُعذبن كل رعية في الاسلام أطاعت اماماً جائراً ليس من الله عز وجل ، وإن كانت الرعية في اعمالها برّة تقية ... " . ([5]) من هذه البصيرة ، نستوحي الاحكام التالية : أولاً : على كل فرد ان يعرف ماذا يجري في مجتمعه ، وألاّ يكون غافلاً او لاهياً بأوضاعه الخاصة عن الوضع العام ؛ لأن تأثير الوضع العام عليه اشد من نشاطه في الوضع الخاص ، ولأن الغفلة او الانشغال عن الوضع العام يحجبه عن المساهمة في اصلاحه . ثانياً : وهكذا ينبغي ان يكون في الأمة نظام الوعي الجماهيري ؛ مثل الأجهزة الاعلامية الحرة ، ومنابر صلوات الجمعة والجماعة ، والمؤسسات السياسية المتعددة التي تحلل وتناقش وتبث الوعي السياسي ، وما أشبه .. لأن هذا النظام المعرفي العام ، ضروري لقيام كل فرد بواجبه الاجتماعي . ثالثاً : على كل فرد ان يقوم بدوره في اصلاح المجتمع ، وبالذات اصلاح النظام السياسي في المجتمع ، بكل وسيلة شرعية ممكنة وذلك عبر القنوات المتاحة ؛ مثلاً عبر مؤسسة سياسية ينتمي اليها (جمعية - حزب - اتحاد) ، او عبر محورية رمز من الشخصيات (مرجع تقليد - عالم رباني - شيخ عشيرة - رجل سياسي) ، او عبر مؤسسة اعلامية ، او ما أشبه . رابعاً : لايجوز للدولة ، ولا الدوائر النافذة في المجتمع ان تتعرض لحرية المعرفة ، ولا لحرية الرأي ، ولا لحرية تأسيس التجمعات الاصلاحية . فان كل ذلك مناف للاصل الشرعي الانف الذكر ، وهو مسؤولية الفرد عن مجتمعه . 2/ ( الروم / 41) ؛ الفساد في الأرض ، عنوان عريض لجملة قيم مضادة ، وهو من اعظم المنكرات شرعاً . ومصاديقه كثيرة ؛ مثل تعكير صفو الأمن ( وبالذات أمن السبل ) ، وتخريب البيئة ، والتأثير على النظام الطبيعي .. ويأتي الحديث عن الافساد في النظام الاجتماعي ( والاخلال بالأمن ) في تفسير قوله سبحانه : « إِنَّمَا جَزَآؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً اَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الاَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ » ( المائدة / 33 ) . أما عن تخريب البيئة ، فقد قال سبحانه : « وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا » (الاعراف / 85) . والآية التي تليت في سورة الروم تدل على مثل ذلك ، وهذه الآية اكثر صراحة . والآيتان تدلان على الحقائق التالية : الف : لان الله سبحانه خلق كل شيء بحكمته بقدر مقدور ، فمن اسرف في استهلاك الطبيعـة حتى اختل نظامها فقد أفسدها . ويكون مثله كمن عمد الى ساقية ماء تروي حقلاً ، فغير مجراها الى بيته لا لحاجة ، وانما يتمتع بمنظرها ، مما سبب جفاف الحقل . ومن ذلك صيد الحيوانات بما يزيد عن الحاجة ، حتى يهدد بانقراض نوعها . مثلاً ازداد صيد الفيلة في بعض الدول الافريقية ، حتى اشرفت على الانقراض . ومن ذلك ايضاً تخريب غابات الامازون ، مما قد يسبب في تقليل نسبة الأوكسيجين في فضاء الأرض . ومن ذلك استخدام الغازات العضوية التي اثرت في الغلاف الواقي ، الذي يحفظ الله به الكرة الارضية من الاشعة الضارة . ومن ذلك استهلاك الطاقة النفطية بكميات كبيرة ، مما يسبب في استنزافها وحرمان الاجيال منها . ومنها ؛ الاستخدام غير النظيف للطاقة ، وبالذات لمشتقات البترول مما يسبب تلوث البيئة . وكذلك الاسراف في استهلاك المياه مما يسبب في شحها . باء : لان طائفة من الناس يتملكهم الجشع ، ويتجاوزون الحدود المعقولة في استهلاك مواهب الله ، فيفسدون الأرض . لذلك يجب ان توضع قوانين واضحة ، لمدى الاستفادة من الطبيعة ، وايضاً لكيفية الاستفادة منها . جيم : وباعتبار اشتراك الناس جميعاً في اكثر الموارد الطبيعية ، فان كثيراً من قوانين البيئة هي قوانين عالمية ، لا تخص بلداً دون آخر . 3/ ( الاسراء / 13-15) و ( النجم / 36 - 41) ؛ بالرغم من اثر العوامل الوراثية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها في نفس البشر ، حيث تقتضي تلك العوامل سلوكاً معيناً ، قد يكون منحرفاً . إلاّ ان عقل الانسان وارادته الحرة ، كفيلان بأن تحمّلانه كامل المسؤولية عن تصرفاته ، لأن العقل يخترق حجب التضليل ، والارادة تعلو على وسائل الضغط . فليس للانسان ان يبرر قيامه بسيئة ، بانه كان مدفوعاً إليها بسبب عامل الوراثة او عامل التربية او ضغط المجتمع او غيره .. لان هذه العوامل مهما تراكمت وتركزت ، فما هي إلاّ مقتضيات تضغط باتجاه معين ، وليست حتميات . وانما صراع البشر الدائب بين مثل هذه العوامل وبين ارادته ، ولم تتقدم البشرية إلاّ بقدر تحررها من نير العوامل الضاغطة . وباعتبار القرآن كتاب التحرر ، فقد حفل بذكر امثلة من الصراع بين المؤمنين وبين عوامل الضغط ، وكيف انتصر المؤمنون بتوفيق الله على تلك العوامل . ومن هذه البصيرة التي تركز المسؤولية الفردية بكل ابعادها ، نستوحي الاحكام التالية : الف : وعلى اساس ان الانسان مسؤول عن فعله فإن العاقل لو ارتكب جريمة استحق عقوبتهـا ، حتى ولو كان المحرِّض غيره . وهكذا لا صحة للمثل المعروف : المأمور معذور . كلا ؛ انما المأمور مأزور . ومن ذلك لو اقترح شخص على آخر السباحة في البحر ، فغرق فيه . فالمسوؤلية عليه ، وليس على المقترح ، إلاّ إذا غرّه او كان السابح غير عاقل . وهكذا لو اعطى شخص لآخر سلاحاً ، وأمره بقتل ثالث فقتله . فهو المسؤول ، وليس الآمر .. بالرغم من انه يتحمل وزر تحريضه ومساعدته على القتل . وهذا يدخل ضمن القاعدة الفقهية والقانونية : ان المباشر اقوى من السبب . باء : وهكذا الانسان يملك سعيه ، لانه مسؤول عنه . ولذلك فهو المجزي به ، حيث قال سبحانه : « وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى » (النجم / 39) . وبناءً على ذلك ، فان كل ما يسمى سعياً يكون مملوكاً لصاحبه وله قيمته . ومنه ؛ انشطة جوارحه ، كالصانع بيده او الحارس بعينه . وانشطة عقله ، كالطبيب والمهندس والمؤلف والمخترع والفنان ومن اليهم . وكذلك الحائز مباحاً فهو مالكه ، لان الحيازة سعيه . ومن هذه الآية يتبلور معنى الحق الذي لايجوز استلابه من احد ، والذي لو استلب كان ظلماً . ذلك المعنى هو : كلما يكون نتيجة السعي البشري . جيم : وقد يستفاد من الآية الكريمة « وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى » ان ما يحصل عليه البشر بلا سعي ، فهو ليس له . والمثل الظاهر لهذه القاعدة الربا ، حيث انه استفادة غير مشروعة من مال الغير او انه امتلاك بلا سعي . ولعل الثراء الحاصل للبعض في ايام الحرب ، حيث تختل الموازين الاقتصادية ، يعتبر ايضاً اثراءً بلا سبب . دال : لايجوز ان نحمل احداً وزر عمل غيره . فلا الانبياء يحملون اوزار قومهم ، ولا الدعاة المصلحون ، ولا الآباء .. انما كل يحمل وزره بقدر عمله . من هنا فان الكلمة المعروفة عند بعض السذج : ان الخير يخص والشر يعم . غير صحيحة ابداً ، لانه لا اساس لها من العقل والوحي . هاء : ومن ابعاد مسؤولية الانسان حريته ؛ فهي شرطها . وقد قال ربنا سبحانه : « لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » ( البقرة / 256) .