بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
فمادام الرشد قد تبين ، فانه لا اكراه في الدين . ومن هنا فعلينا ان نبني الانظمة المختلفة (تربوية - ثقافية - سياسية وغيرها) على قاعدة المسؤولية . فالوالدان هما اول من يزرعان في نفس الطفل ؛ اما الاحساس بالمسؤولية وحرية الانتخاب ، وإما الاستسلام والخنوع . وكذلك المعلمون والمشرفون على الاجهزة الثقافية والاعلامية ؛ فاذا كان حديث هؤلاء حديثاً خطابياً قائماً على اساس اثارة العواطف وفرض الاراء الجاهزة بها ، فانهم سوف يحطمون نفسية المجتمع ويفرغونها من روح المسؤولية والحرية . بينما اذا كان حديثهم قائماً على المنطق ، وبيان مختلف الاراء ، والدعوة الى انتخاب افضلها ، كان الوضع مختلفاً جداً . وكذلك النظام السياسي اذا كان فيه انفراج كافٍ لانتخاب الناس ، اما على اساس التعددية وتبادل السلطة ، واما على اسس اخرى ، فان ذلك كفيل بنمو روح المسؤولية . وهكذا .. زاء : ومن ابعاد المسؤولية ؛ تحمل الانسان تبعة التزامه (العهد) ، سواءً امام طرف آخر (العقد) او من جانب واحد (الايقاع) . وقد تحدثنا عن ذلك بحمد الله في ملف العهد . وقاعدة سلطان المشيئة ، ناشئة من المسؤولية . حاء : ومن المسؤولية ، ما يسمى بالمسؤولية التقصيرية ، التي توجب الضمان ؛ سواءً كانت المسؤولية ناشئة من عقد ، او ناشئة من واجب شرعي ، او عقلي . فالتقصير فيها يوجب التعويض . مثل من اخل بمقتضيات العقد فعليه ان يعوضها ، ومثل من اتلف مالاً لغيره او ألحق به ضرراً فعليه ان يعوّض الخسارة . طاء : ومن ذلك مسؤولية الانسان عن فعل الغير ، لو كانت المحافظة عليه من واجبه . فمن قصر في واجبه ، كحارس حتى سرق المال ، او كمراقب في برج المطار حتى سقطت الطائرة ، او في تنظيم المرور حتى اصطدمت السيارات ، فانه ضامن للخسائر . وكذلك الذي قصر في رعاية ابنه حتى تضرر او أضر بالاخرين . والخطأ والغفلة والنسيان والنوم وما أشبه ، لا يعد عذراً إذا كان بسبب الاهمال وعدم الجدية . ولعله لذلك جاء في الحديث : من اتلف مال الغير فهو له ضامن . مما يشمل العمد وغيره . والله العالم .
الفقه المقارن للآيات
تمهيد :
كلمة المسؤولية ؛ هي الأمثل والأبلغ لاداء معنى جملة الواجبات المفروضة على الانسان ، او التي يحس بها كل انسان تجاه نفسه والمحيط الخارجي منه .. فلو استخدمنا مثلاً كلمة الالتـزام ، فان ظلال الكلمة تنحسر عن تلك الواجبات التي لا يحس الفرد بالالتزام تجاهها ، او التي لم يسبق وان التزم بها ، بل فرض عليه فرضاً من قبل القانون او الشرع او العرف او ما أشبه .([6]) وكذلك كلمة التعهد او العقد الاجتماعي ، والحق الشخصي والحق العيني ، وسائر الكلمات التي استخدمها القانون ، قصرت عن آفاق معنى المسؤولية . على ان تلك الكلمات - بعكس كلمة المسؤولية - لا تنطلق من حكمة الاسلام في الواجبات والحرمات ، بل تنطلق من فلسفات بشرية قاصرة . فالحكمة الالهية تبصّر البشر بامانته التي تحمّلها في الميثاق الأول ، والتي اشفقت السموات والارض والجبال عن حملها .. وهي امانة العقل والمشيئة الحرة . والقدرة والعلم ، وبالتالي تلك الانوار التي ميزته عن سائر الأحياء وسائر الاشياء وجعلته مسؤولاً عن سعيه . وهذه البصيرة النافذة للمسؤولية واصلها الفطري ، تسع آفاقاً لا يبلغها أي قانون وضعي . الانسان - اذاً - مسؤول امام ربه ؛ عن نفسه في مختلف الابعاد (عن هدايته وفلاحه ، عن روحه وجسده ، عن صحته وأمنه ، عن تقدمه ورفاهه ، عن عقله وعلمه ، عن حبه وبغضه و .. و ..) ، كما هو مسؤول عن أهله الاقربين (اولاده وزوجته واسرته وعشيرته) ، كذلك هو مسؤول عن المجتمع المحيط به ، الأقرب فالأقرب . وتتسع آفاق مسوؤليته ، حتى تشمل مسؤوليته عن بقاع الأرض وهوامها ، وعن البيئة المحيطة به .. لأنه قد حمل الأمانة ، ولأنه تحملها في الميثاق ، ولأنه قد سخرت له ما في الأرض ، ولأنه سيد الكائنات المحيطة به . فكيف لايكون مسؤولاً عنها ؟ اذاً ؛ مسؤولية الانسان تتصل بقدراته . بنعم الله عليه ، وحدودها واسعة . قال الله سبحانـه : « اِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْـنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَـا الاِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومـاً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَـى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيمــاً » (الاحزاب / 72 - 73) . والتأمل في الصلة بين الآيتين يفيدنا علماً ، بان تلك الأمانة كانت حكمة عذاب المنافقين والمشركين ، وحكمة التوبة على المؤمنين . فلأن المنافقين خانوا تلك الأمانة ، وكذلك المشركون عذبوا . بينما المؤمنين صدقوا الله ما عاهدوا عليه ، فتاب عليهم (وعفا عن بعض الهنات التي ارتكبوها بعد الايمان ، او عن السيئات قبل ايمانهم) .
مقارنة قانونية :
اما القانون الوضعي الذي لم يهتد بنور الوحي ، فقد بحث فكرة المسؤولية بصورة تجزيئية ، ومن دون اساس واضح لها . وفيما يلي نستعرض بايجاز شديد تطور هذه الفكرة عبر الاجيال ([7]) . الف : ففي المجتمعات البدائية ؛ ان اساس المسؤولية الاستقرار العام ، وان من يلحق ضرراً بأحد او يخالف العهد معه ، فإنه قد يتسبب في غضب الالهة ، لانهم قد يستجيبون لدعاء المظلوم وينزلون على البلاد كلها بلاء الطاعون او الصاعقة . ([8]) وهكذا المسؤولية تتحدد عندهم في أمرين ؛ جبران الخسارة ، والوفاء بالعهد . باء : وفي القانون الروماني كانت البداية لفكرة الالتزام (او ما نسميه بالمسؤولية) دعاوي الاسترداد ؛ أي استرداد شيء معين او مبلغ معين مستحق الاداء بمقتضى وعد ، ويسمى القانون الروماني على الضرر الاهانة . ([9]) جيم : وفي مرحلة متقدمة وضع علماء القانون اساسين للالتــزام ؛ احدهما الضرر الذي يجب ان يجبر ، والثاني الوعد الذي يجب ان يوفى به . وفصلوهما عن بعضهما ، بعكس القانون البدائي والروماني الذين جمعوهما في قاعدة واحدة ([10]). (الاستقرار ؛ الدم عند البدائي ، والاهانة عند الروماني) . دال : وأدخل القانون في فترة لاحقة حسن النية (الوجدان والضمير الحي) في فكرة المسؤولية . فأخذوا يتجاوزون حرفية النصوص الى القيم العقلانية ، التي اعتقدوا بها مقتضى القانون الطبيعي([11]) . وهكذا لم يعتبر رجال القانون القواعد التقليدية على انها قواعد سحرية اكتشفها الاباء والاجداد ، بل نظروا اليها على انها تعبير عرفي لمبدء من مبادئ القانون الطبيعي . ([12]) هاء : وفـي مرحلة متقدمة تحولت النظرة الى فكرة المسؤولية ، باعتبارها واجب اخلاقي ، وكانت القاعدة عندهم " عدم الاضرار بمصالح الاخرين " او " اعطاء كل ذي حق حقه " ثم احيلت كل حالة من حالات المسؤولية الى مصدري الجرم المدني والعقد . فالمسؤولية بلا خطأ سميت بشبه الجرم ، والمسؤولية التي يفرضها حسن النية كمنع الاثراء غير المشروع سميت بالمسؤولية التعاقدية . واصبحت الفكرة المركزية في موضوع المسؤولية ، تدور حول متطلبات حسن النية بالنسبة للعمل المقصود . ([13]) ياء : وفي القرن الماضي ( التاسع عشر الميلادي ) اصبحت الحرية محور فكرة المسؤولية ، حيث اعتبر القانون ككل انعكاساً لقيمة الحرية . حيث اعتقدوا ان على القانون ألاّ يفرض واجبات سوى تلك الضرورية لاعطاء الارادة اثرها ، او للتوفيق بين ارادة الفرد وارادات الآخرين . وقد ارتكزت المسؤولية على اساسين هما ؛ السلوك الخاطئ ، والمعاملات القانونية . ([14]) وهذان الاساسان يعتمدان بالنهاية على الارادة . ويمكن ان تدخل كل الجرائم التي يعاقب عليها القانـون ( الغصب ، الاعتداء ، السرقة والغش ) ضمن اطار الارادة ، حيث ان الفاعل قد ارتكب بارادته ما تحمل المسؤولية بها ، كذلك الذي يلحق ضرراً بآخر . ولكن هناك بعض المسؤوليات التي تفرض التعويض على الشخـص ، لاتدخل في اطار الارادة ؛ مثل مسؤوليـة الولي عن اتـلاف المولـى عليـه ، فالطفل والمجنون والحيوان الذي يلحق خسارة بأحد ، يرجع الخاسر الى الولي عنهـم ([15]) . وهكذا قبطان السفينة او صاحب النزل (الفندق) او صاحب الاسطبل مسؤولون جميعاً عن فعل يرتكبه غيرهم . فاين موضع الارادة في هذا المجال ؟ ولكنهم قالوا ان الخطأ الذي ارتكبه امثال هؤلاء ، يتمثل في تقصيرهم في واجبهم ؛ من حفظ المولى عليهم ، او رعاية شؤون ولايتهم على السفينة ، او الاسطبل ، وما أشبه . وهكذا سميت هذه المسؤولية بالمسؤولية شبه الجرمية . ولكن بقيت المشكلة عندهم ، وهـي فقدان الارادة (نية الخطأ) التي جعلوها محور المسؤولية . " مع العلم بانه لم يكن من الضروري في هذه المسؤولية اثبات الخطأ ، كما ان انتفاء الخطأ لم يكن ينفي المسؤولية ". ([16]) ولقد قبل رجال القانون المدني ، في كل مكان هذه النظرية البسيطة للمسؤولية التقصيريـة ، حتى اواخر القرن التاسع عشر . وهي مازالت الى اليوم ، تعتبر النظرية الاصليـة . وقد قبل القانون الفرنسي بوجود مسؤولية بدون خطأ ؛ مثل مسؤولية ارباب العمل ، حيث لا يقبـل منهم أي عذر فمسؤوليتهم مطلقة . وكذلك البناء اذا سقط بسبب عيب فيه وسبّب ضرراً ، فالمالك مسؤول مسؤولية وضعية مطلقة ، ولا قيمة لادعائه بانه لم يكن يعلم بوجود عيب او ما أشبه . ([17]) وهكذا يفترض القانون (الفرنسي) في هذه الحالات وجود الخطأ ، إلاّ إذا اثبت المدعـى عليه عكس ذلك . وحتى ذلك لم يكن كافياً عند فقهاء القانون في فرنسا ، بل تراهم يبحثون عن نظرية جديدة للمسؤولية التقصيرية . ([18]) وهكذا رفض المؤلف " بندنج " بعد تحليل نظرية الخطأ تحليلاً شاملاً ، رفض القبول بهـا . وتبعه في ذلك رجال القانون في سويسرا والمانيا بشكل عام . ([19]) وهكذا نشهد ضعف وضمور نظرية الارادة ، ومحوريتها في المسؤولية . ورجعنا الى السؤال الأول : ماهو معيار المسؤولية اذا لم يكن الخطأ ، ولا الالتزام ، ولا الارادة الاخلاقية ؟ اقول : اذا لم تكن كل هذه المعايير كافية ، خصوصاً مع تطور الحياة المدنية ، بحيث بدء الجميع يشعرون بوجود مسؤوليات من نوع التقصير او الاهمال او ما أشبه . يقول روسكو باوند جواباً عن هذا السؤال : لننظر الى موضوع المسؤولية من زاوية اخرى . فبدلاً من الانطلاق من فكرة الارادة الحرة ، لننطلق من الحاجات والمطالب التي نراها في المجتمع المتحضر ([20]) . وبعد ان يفسر نظريته بان قواعد الاستقرار في المجتمع المدني تستدعي فرض نوع خاص من السلـوك على كل فـرد ، ليطمئن الاخرون في حياتهـم ، يقـول : ثم اننا نفترض افتراضاً مماثلاً عندما نقول : بانه يجب في المجتمع المتحضر ان يكون في مقدور الناس الافتراض بان الاخرين سيتصرفـون بالعناية المطلوبة (أي العناية التي يتطلبها الفهـم الاعتيادي ، والحس الخلقي للمجموع) ، بحيث لا يعرضونهم لخطر غير معقول من الضـرر ([21]) . وبعـد شرح مفصل حول هذه النظرية ، ومناقشة النظرية الارادية ؛ بعدئذ يقول : فالامور الاساسية ليست الجرم والعقد ، بل الافتراضات المشروعة التي لها ما يبررها والتي يفترضها الناس بالنسبة للطريقة التي سيتصرف وفقها الاخرون في مجتمع متحضر وفي حالات عديدة مختلفة . ([22]) ويضيف قائلاً : اضحت الطريقة التي يعمل بها الانسان تهدد الاستقرار العام ، بقدر ما يهدده العمل الذي يقوم به . وعليه يصبح الاهمال مصدراً للخطر على الاستقرار العام ، اشد خطراً واكثر شيوعاً من العدوان نفسه . ([23])
بصائر من الوحي :
ومن خلال التأمل في بصائر الوحي ، نستلهم عدة حقائق نستعرضها تباعاً : 1/ قاعدة المسؤولية ؛ امانة الله التي احتملها البشر ، وهي نعم الله التي خوّلها اليه ، وفي مقدمتها نعمة المشيئة والعقل وما سخر به الكائنات . 2/ في حدود نعم الله على الانسان ، تتسع مسؤولياته . فالمسؤولية تكبر وتتسع بقدر وسع البشر ، وقد قال سبحانـه : « لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِــقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً » (الطلاق / 7) . ([24]) 3/ والمسؤولية الشاملة التي أمام الله سبحانه ، هي مسؤولية اخلاقية . وقد سبق عنها الحديث آنفاً ، عند تفسير آياتها المباركة . ولكن هذه المسؤولية قد تتحدد ضمن قواعد وتشريعات (قانونية) ، وهي التي نتحدث عنها . 4/ تجاوز حق الاخرين هو الظلم ، والظلم مرفوض ، ويجب دفعه ورفعه . 5/ والحق هو الواجب على الانسان تجاه غيره ، والواجبات الاجتماعية هي بايجاز اهداف التشريع وقيمه . فالحرمة (الاستقرار) والقسط (العدالـة) والخير (التعالي والتقــدم) ، هي الاهداف السامية للمجتمع الاسلامي ([25]) ، وتحقيقها من واجب كل فرد . ولكل انسان حرمته ( أمنه ) وقسطه ( نصيبه العادل ) و ( خيره ) ، وعلى كل فرد رعاية هذه القيم بالنسبة الى جميع ابناء المجتمع . واذا لم يؤد واجبه هذا فقد ظلم ، والظالم يعاقب عقاباً جسدياً او مالياً او معنوياً .. وقد سبق في الحديث المأثور : " كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته " . وعندما نتلو آيات المسؤولية في سورة الاسراء ، نجد تذكرة بأهم حقوق الناس الى بعضهم ( الآيات 23 - 39 ) . حق الله ، وحق الوالدين ، وحقوق الاقارب ، وحق المجتمع ( حرمة الاسراف ) ، وحرمة الزنا ( أمن العائلة ) ، وحرمة النفس ( أمن الفرد ) ، وحرمة مال اليتيم ( احترام الملكية ) ، واحترام العهد ( احترام الالتزام ) ، وايفاء الكيل والوزن بالقسط ( العدالة ) ، وحرمة العرض ( احترام الشخصية ) ، وعدم التعالي على الآخرين ( احترام الناس ) . 6/ وضمن هذه القاعدة الثابتة والشاملة ، تدخل ما سبق الحديث عنها من قواعد المسؤولية . فالجرم ( الخطأ العمدي ) من اظهر مصاديق الظلم ، والالتزام ( العهد ) من اسباب المسؤولية ، وكذلك الاهمال والتقصير ؛ ( مثل تقصير الولي في حفظ الصغير ) . ويدخل ضمن الاهمال ما يثبته القانون اليوم ، من مسؤولية القبطان والحارس وولي الطفل وصاحب الحيوان ومالك الفندق وما أشبه .. 7/ وتتسع هذه القاعدة لتشمل ما اثبته القانون بصورة جزئية او لم يثبته ، وهو مايلي : ألف : جعلت التشريعات الحديثـة رب العمل مسؤولاً عن الاضرار الناجمة عن الطوارئ ، التي تصيب العمال اثناء العمل ، دون وجود خطأ ما . وذلك التشريع يهدف الضغط على رب العمل ليبذل ما في وسعه من عناية لمنع حدوث اصابات . والهدف النهائي من ذلك ، المحافظة على الاستقـرار والسلامة الهامين ([26]) ؛ أي تحقيق امن العامليـن . باء : وللمحافظة على الاستقرار والأمن ، وبالتالي لتحقيق العدالة الاجتماعية ، ولاقامة دولة التقدم والرقي ، اصبحت الدولة ( ومن خلالها كل فرد فرد من ابناء المجتمع الذين تمثلهم الدولة ) مسؤولة عن حماية الافراد وتوفير الأمن لهم بكل أبعاده ، وتوفير مستوى لائق من الحياة لهم (القسط) . يقول باوند : اصبح الاستقرار يشمل حماية المرء من خطأه ، ومن عدم تبصره ، ومن حظه السيء ، وحتى من عيوبه المسلكية . ([27]) ويضيف : الفكرة الانسانية الحديثة تتطلب تعويض كل خسارة تصيب الشخص ، بصرف النظر عن كيفية او سبب حدوثها . ويبدو ان المجتمع الحديث يفترض ان لكل شخص الحق في ان يحيا حياة اقتصادية واجتماعية كاملة ، وعلى الدولة ان تحقق هذه التوقعات . ([28]) وهكذا نجد ان المسؤولية الاجتماعية تجاوزت حدود الاضرار ، او الالتزام الى افق تحقيق قيم الأمن والقسط والخير . فمن حرم نصيبه من هذه القيم ، فقد ظلم ، وعلى المجتمع رفع هذا الظلم . وفي آيات سورة الاسراء التي استوحينا منها هذه القاعدة ؛ قرأنا أمراً إلهياً بالاحسان والانفاق ، ونهياً صريحاً عن الاسراف . وهذا هو التكافل الاجتماعي ، من اجل اقامة مجتمع الأمن والعدل والخير . جيم : ومن ذلك ، واجب المسارعة الى مساعدة المنكوبين . فاذا ضرب الزلزال بلداً او اجتاحته السيول او الاوبئة او ما أشبه .. فان على الجميع ان يتحملوا مسؤوليتهم في مساعدتهم ، وانقاذ من تبقى منهم . يقول باوند : ففي حالة جديرة بالاهتمام تقدم فيها القانون تقدماً كبيراً في جميع انحاء العالـم ؛ تم نقل العبأ من الشخص المتضرر ، الذي يؤدي به سوء طالعه الى تحمل الاصابـة ، الى الجمهور كافة . ([29]) دال : للحفاظ على امن الناس وسلامتهم ، تفرض الدولة جملة قوانين على منتجي العقاقير الصحية او الأطعمة المختلفة او صانعي الادوات الكهربائية او العاملين في حقل تمديدات النفط والغار والكهرباء او حتى على شركات الحمل والنقل وما أشبه . وما ذلك إلاّ لان الضرر الذي قد يلحق بالناس بسبب ضعف الرقابة ، يهدد سلامة الناس . والسلامة هدف من اهداف القانون ، وقيمة من قيم الشريعة ، ولذلك فان القانون يفرض على المسؤولين عن هذه الأمور تحمل عبأ الضرر ، بالرغم من عدم تقصيرهم او تعهدهم او خطأهم ، بل لمجرد تحقيق الأمن والسلامة في المجتمع . هاء : والعقد الذي يتم بين طرفين ، والعهد الذي قد يتم من طرف واحد ( ويلحق به النذر واليمين ) يتبع ارادة من يمارسه . ولكن ليس بصورة مطلقة ، لان الفرد يعيش في مجتمع ولا يمكنه ان يمارس حقه بصورة منفصلة عن المجموع . لذلك يضع القانون كما سنت الشريعة من قبل المزيد من الانظمة والاحكام المقيدة لارادة المتعهد والعاقد ، هدفها تحقيق القيم المثلى من الأمن والقسط والخير . فالاسلام نهى عن بيع الضرر والربا ، كما اشترط في النذر الرجحان . وهكذا القانون يضع مئات الحدود للعقود ، كلها بهدف تحقيق المسؤولية الشاملة . واو : مالم يذكره القانون إلاّ قليلاً ؛ مسؤولية الانسان عن حياة الاخرين ؛ مسؤولية تفرض عليه القيام بعمل معين من أجلها لو تعرضت لخطر . فلو قصر ضمن ، للاهمال الذي يعتبره القانون سبباً ثابتاً للمسؤولية . والأمثلة كثيرة ؛ فمن بصر بغريق وكان بإمكانه انقاذه من دون خوف منه او حرج عليه فلم يفعل حتى مات ، او الطبيب الذي كان بامكانه انقاذ حياة مريض فلم ينقذه حتى قضا نحبه ، وهكذا عابر السبيل لو ترك الجريح دون ان يحمله الى المستشفى فمات .. أوليس هؤلاء مسؤولين بسبب التقصير في مهامهم الشرعية والعقلية ؟ واخطر من ذلك ، من عرف بوجود مؤامرة على سلامة البلد وأمنه ، فلم يخبر الجهات المسؤولة ، ولم يقم بدوره في افشالها ، أوليس مسؤولاً ؟ ومن أوتي علماً ينفع الناس ، أو ينقذهم من امراض فتاكة او أخطار كبيرة ، أفلا يكون مسؤولاً عن هداية الناس اليه ؟ وكلمة أخيـرة : لقد هبط الروح الأمين على الرسول الكريم صلى الله عليه وآلـه ليبشـر العالم بحياة طيبة . ونجد تفصيل القول في هذه الحياة ، في الكتاب والسنة على صورة قيم وقواعد وشرائع . والقيـم والقواعـد هي الاصول ، والشرائع هي الفروع . ونحن قد تمسكنا ببعض الشرائع ، ونسينا القيم والقواعد إلاّ حظاً بسيطاً منها . وسمّيناها تعاليم اخلاقية ، وكأنها مثل عليا تخص الرجال المخلصين وحدهم ، وليست لها قيمة اجرائية عمليـة . واليوم وحيث تتقدم البشرية باتجاه المثل العليا للاسلام ، وتسن الدول المزيد من التشريعات القانونية لتطبيقها ؛ مثل قوانين تنظيم العلاقات الاسرية ، واخرى للعقود والمعاملات ، وايضاً قواعد السلوك المدني ، وبالتالي قوانين حقوق الانسان والبيئة وما أشبه .. اقول : في هذا العصر يجدر بنا ان نضيق الفجوة غير المبررة بين القيم والقواعد التي نزل بها الوحي ، وبين الاحكام الشرعية . فعلينا ان نستوحي المزيد من الاحكام الفقهية من تلك القيم ؛ مثلاً جـاء في الحديث الشريف : " من اتلف مال الغير فهو له ضامن " ، ومن هذا الحديث استوحى الفقه جملة احكام (قوانين) . ولكن الحديث الشريف الآخر الذي يقول : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ، هو الآخر حديث مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله ، فلماذا لا نستوحي منه قوانين للتكافل الاجتماعي ؟ فذاك حديث وهذا حديث ، ولكل منهما قيمة تشريعية . وكذلك استفدنا من الحديث الشريف : " لا ضرر ولا ضرار " مجموعة من الاحكام في نفي الاضرار بالناس ، وفي تحديد الاحكام والمعاملات بحدود الضرر البالغ . ولكن لم نستفد من قول الامام علي عليه السلام : " اتقوا الله في عباده وبلاده ، فانكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم " ما ينفعنا في تنظيم علاقاتنا بالبيئة ، وفي منع الاسراف في الطاقة التي تستنزف موارد البشر ، ومنع تلويث الجو ، وردع افساد الغابات ، وصيد الحيوانات النادرة ، وما أشبه . بلى ؛ تبقى التعاليم الاخلاقية أوسع أفقاً من التشريعات (القانونية او الفقهية) ، حيث لايمكن ان نحوّل كل التعاليم الى احكام . ولكننا وبسبب تقدم وسائل العصر ، وتقدم البشرية في افاق العلم والتربية ، وايضاً تزايد الحاجة الى ضبط الأمور ؛ بسبب كل ذلك ترانا بحاجة الى استنباط المزيد من الاحكام الفقهية من المصادر الغنية للدين ، التي لم تدع جانباً من رحاب الحياة إلاّ واضاءته بنور الوحي . والحمد لله .
في رحاب الأحاديث
1/ جاء في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، في قوله تعالى : « وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه » يقول : "خيره وشره معه حيث كان ، لايستطيع فراقه حتى يعطى كتابه يوم القيامة بما عمل ". ([30]) 2/ وروي عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير الآية « وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه » قال : " قدره الذي قدر عليه ". ([31]) 3/ وروي عن الامام الصادق عليه السلام ، في قول الله تعالى : « اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً » قال : " يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه ، حتى كأنه فعله تلك الساعة ". ([32]) 4/ قال الامام علي بن الحسين عليهما السلام : " ليس لك ان تتكلم بما شئت ، لان الله عز وجل يقول : « ولا تقف ما ليس لك به علم » ، ولان رسول الله صلى الله عليه وآله قال : رحم الله عبداً قال خيراً فغنم ، او صمت فسلم . وليس لك ان تسمع ما شئت ، لان الله عز وجل يقول : « ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولاً ». ([33]) 5/ وفي خطبة له يصف فيها هول يوم القيامة ، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : " ختم على الأفواه فلا تكلم ، وتكلمت الأيدي وشهدت الارجل ونطقت الجلود بما عملوا ، فلا يكتمون الله حديثاً ". ([34]) 6/ روي عن النبي صلى الله عليه وآله ، أنه قال في تفسير قوله عز وجل : " « وقفوهم انهم مسؤولون » انه لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع ؛ عن شبابه فيما أبلاه ، وعمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت ". ([35]) 7/ قال الامام علي بن أبي طالب عليه السلام : " اوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسؤولون واليه تصيـرون ، فان الله تعالى يقول : « كل نفس بما كسبت رهينة » ، ويقـول : « ويحذركم الله نفسه واليه المصير » ، ويقول فوربك لنسئلنهم عن الصغير من عملكم والكبير ... " ([36]) 8/ في الدعاء بعد صلاة يوم الغدير ، قال الامام الصادق عليه السلام : يا صادق الوعد ، يا من لا يخلف الميعاد ، يا من هو كل يوم في شأن ، ان انعمت علينا بموالاة اوليائك المسئول عنها عبادك ، فانك قلت وقولك الحق : « ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم » ، وقلت : « وقفوهم انهم مسؤولون ». ([37]) 9/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ان الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه ، أحفِظ ذلك أم ضيعه ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ". ([38]) 10/ قال أميـر المؤمنين علي عليه السلام : " كل امرئ مسئول عما ملكت يمينه وعيالـه ". ([39]) 11/ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : " قال الخضر لموسى عليه السلام : يا موسى ان أصلح يوميك الذي هو أمامك . فانظر أي يوم هو ، وأعد له الجواب ، فانك موقوف ومسؤول . وخذ موعظتك من الدهر ، فان الدهر طويل قصير . فاعمل كأنك ترى ثواب عملك ، ليكون اطمع لك في الآخرة . فانما هو آت من الدنيا ، كما قد ولى منها ". ([40]) 12/ قال الامام علـي بن الحسين عليه السلام فـي رسالته المعروفة برسالة الحقوق : "... وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه ، فمثاب على ذلك ومعاقب . فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذِّر الى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه ، ولا قوة إلاّ بالله ". ([41]) 13/ من مواعظ النبي صلى الله عليه وآله لابن مسعود ، قال : يابن مسعود ؛ لا تتكلم إلاّ بالعلم بشيء سمعته ورأيته ، فان الله تعالى يقول : « ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصـر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولاً » وقال : «ستكتب شهادتهم ويسئلـون » ... ([42]) 14/ من مواعظ الامام علي بن الحسين عليهما السلام الى محمد بن مسلم الزهري ، انه قال : " فانظر لنفسك ، فانه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول ". ([43]) 15/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " كل نعيم مسؤول عنه يوم القيامة ، إلاّ ما كان في سبيل الله تعالى ". ([44]) 16/ وجاء في عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام الى حذيفة بن اليمان : " وإني آمرك بتقوى الله وطاعته في السر والعلانية ، فاحذر عقابه في المغيب والمشهد . واتقدم إليك بالاحسان الى المحسن ، والشدة على المعاند ، وآمرك بالرفق في أمورك ، واللين والعدل في رعيتك ، فانك مسؤول عن ذلك ." ([45]) 17/ عـن الثمالي قـال : كان علي بن الحسيـن عليه السلام يقـول : " ابن آدم ؛ لاتـزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك ، وما كانت المحاسبة من همك ، وما كان الخوف لك شعاراً ، والحزن لك دثاراً . ابن آدم ؛ إنك ميت ومبعـوث ، وموقوف بين يدي الله عز وجل ، ومسؤول فأعدّ جواباً ". ([46]) 18/ روي عن الامام ابو جعفر الباقر عليه السلام ، انه قال : " يا ابا النعمان ؛ لا تحققن علينا كذباً ، فتسلب الحنيفية . يا أبا النعمان ؛ لا تستأكل بنا الناس ، فلا يزيدك الله بذلك إلاّ فقراً . يا أبا النعمان ؛ لا ترأس فتكون ذنباً . يا أبا النعمان ؛ انك موقوف ومسؤول لا محالة ، فان صدقت صدقناك ، وان كذبت كذبناك . يا أبا النعمان ؛ لا يغرك الناس عن نفسك ، فان الأمر يصل إليك دونهم . ولا تقطعن نهارك بكذا وكذا ، فان معك من يحفظ عليك . وأحسن ، فلم أر شيئاً أسرع دركاً ولا أشد طلباً من حسنة لذنب قديم ". ([47]) 19/ روي عن الامام الصادق عليه السلام ، انه قال : " البنات حسنات والبنون نعم . والحسنات يثاب عليها ، والنعم مسؤول عنها ". ([48]) 20/ روي عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام ، انه قال : " أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلاّ به ، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به ، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك ، وأظهر لك فساده . وأحمد العلم عاقبة مازاد في علمك العاجـل . فلا تشتغلن بعلم ما لا يضرك جهله ، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه ". ([49]) 21/ روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، انه قال : " كل نعيم مسؤول عنه صاحبه ، إلاّ ما كان في غزو او حج ". ([50]) 22/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ان الله تعالى اذا بعث الخلائق يوم القيامة ، نادى منادي ربنا نداء تعريف الخلائق في ايمانهم وكفرهم .... ثم يقول المنادي : اشهد ان محمداً رسول الله . فيقولها المسلمون أجمعون ، ويخرس عنها اليهود والنصارى وسائر المشركين . ثم يناد مناد آخر من عرصات القيامة : ألا فسوقوهم الى الجنة لشهادتهم لمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة . فاذا النداء من قبل الله عز وجل : لا ؛ بل قفوهم انهم مسؤولون . يقول الملائكة الذين قالوا سوقوهم الى الجنة لشهادتهم لمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة : لما يقفون يا ربنا ؟! فاذا النداء من قبل الله : قفوهم انهم مسؤولون عن ولاية علي بن أبي طالب وآل محمد ... فمن جاء بها فهو من الفائزين ، ومن لم يأت بها فهو من الهالكين ...". ([51]) 23/ روي عن الامام ابي جعفر عليه السلام ، انه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " يا معاشر قرّاء القرآن ؛ اتقوا الله عز وجل فيما حملكم من كتابه . فاني مسؤول ، وانكم مسؤولون . اني مسوؤل عن تبليغي ، وأما انتم فتسألون عمّا حمّلتم من كتاب ربي وسنتي ". ([52]) 24/ روي عـن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما رجع من حجة الوداع ، انه قال : " انه نبأني اللطيف الخبير اني ميت وانكم ميتون ، وكأني قد دعيت فأجبت ، واني مسؤول عما أرسلت به اليكم ، وعما خلّفت فيكم من كتاب الله وحجته ، وانكم مسؤولون . فما أنتم قائلون لربكم ؟". ([53])
النهي عن المنكر
القيم سور الأمة ، فإذا ثلم انهارت الأمة ، والمؤمنون يدافعون عن هذه السُور بكل وسيلة . والنهي عن المنكر واحدة من أقرب الوسائل . والله سبحانه قد نهى عن الفحشاء والمنكر . والرسول اتبع الوحي في النهي عن المنكر ، والمؤمنون اتبعوا الرسول في ذلك ، وكانت الأمة الاسلامية خير أمة أخرجت للناس لانها كانت تدعو الى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . ومن بين ابناء الأمة طائفة هي الأكثر إهتماماً بهذه الفريضة ؛ وهي طائفة الربانيين والأحبار (الفقهاء) والمجاهدين الذين يتحملون هذه الرسالة الإلهية ، فهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وهم الذين يهدفون اقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى تمكنهم في الأرض .
أبعـاد المعنـى :
أولاً : النهي .
بالرغم من ان لفظة النهي تدل على النهي القولي ، إلاّ ان هناك بعض الأدلة التي تهدينا الى ان التغيير باليد ايضاً نوع من النهي عن المنكر . فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. ولاريب ان الصلاة لا تنهى بالقول، وإنما اثرها هو المنع عن المنكر . وفي الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه ، فان لم يستطع فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء من الإيمان" وفي رواية : "ان ذلك اضعف الايمان". (1) واذا كان الردع عن المنكر بازالة اسبابه من النهي عن المنكر ، فإن تحطيم الأصنام ، وسد ابواب البارات ومراكز الفحشاء ، ومنع كتب الضلال.. كل ذلك يعتبر من النهي عن المنكر. ولعل ذلك هو المراد من قوله سبحانه : « الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ » (الحج/41). فإن الذي يتوقف على التمكن في الأرض ، والوصول الى السلطة وامتلاك القوة السياسية ، ليس مجرد النهي القولي عن المنكر ، فإنه يتسنى للمؤمن قبل التمكن في الأرض ايضاً. وانما هو ازالة المنكر بالقوة ، فإنه لايمكن إلا بعد التمكن في الأرض . وهذا ما نستوحيه من الأحاديث التي وردت في انكار المنكر بالقلب أو باليد ، أو باظهار الغضب أو بالقيام من عند فاعله والتباعد منه . وسوف نقرء معاً طائفة من هذه النصوص باذن الله تعالى .
ثانياً : المنكر .
1/ اصل الانكار الجهل وعدم المعرفة ، حيث يقول سبحانه : « وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَاَيَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ » (غافر / 81) . 2/ وقال سبحانـه : « إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ » (الذاريات / 25) . 3/ ولكن يستخدم هذا اللفظ في التجاهل ايضاً، حيث قال سبحانه : « يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ » (النحل / 83) . فالانكار هنا تسبقه المعرفة ، مما يدل على أنه نوع من الجحود . 4/ ولعل منه العذاب النكر، الذي يقول عنه سبحانه : « وَكَأَيِّن مِن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً » (الطلاق / 8) . 5/ وهكذا المنكر يكون الفعل الذي لا تقبله فطرة البشر ، ويرفضه العقـلاء من النـاس ؛ ومنه القتل الذي تأباه الفطرة . قال الله سبحانه : « فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً » (الكهف / 74) . 6/ ومنه الشذوذ الجنسي، الذي كان يمارسه قوم لوط . فقال سبحانه : « أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلآَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » (العنكبوت / 29) . 7/ وقول الزور ( وان يدعي الشخص ان ظهر زوجته عليه كظهر أمه ) . قال الله سبحانه : « الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نِسَآئِهِم مَا هُنَّ اُمَّهَاتِهِمْ إِنْ اُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ » (المجادلة / 2) . ومن المنكر قول الإثم وأكل السحت، كما نقرءه في آية كريمة: « لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ اِلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (المائدة / 63) .
من القيم الإيمانية :
من التجليات الكبرى لروح الإيمان بالله ، والتسليم للرسالة ، النهي عن المنكر . لأن به يتصدى المسلم لمسؤوليته الاجتماعية . 1/ والله سبحانـه هو الذي نهى عن المنكـر . قال الله سبحانـه : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (النحل / 90) . وهذه خلاصة رسالة الله، المنزلة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله. والعدل (بمعناه الأعم ) إعطاء كل شيء حقه ، بينما الفحشاء (بالمعنى الواسع) تجاوز الحد في كل شيء . اما الاحسان فهو الانفاق واسداء المعروف الى الاخرين ، بينما المنكر هو بخس الناس اشياءهم بالغش والربا والفحش وما أشبه .. وايتاء ذي القربى أوضح معاني الإحسان بينما البغي افحش انواع المنكر . والله العالم . 2/ ولان عقلاء البشر يجدون في رسالات الله هذه المعاني السامية، التي يتقبلها وجدانهم ، وتستريح اليها فطرة عقولهم . فهم يستدلون بذلك على انها من عند الله ، وكذلك فيما يتصل بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث يقول سبحانه : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي اُنْزِلَ مَعَهُ اُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (الاعراف / 157) . فهذه هي رسالة الله الى البشرية؛ انها رسالة الخير والرحمة. فعطرها الفواح يدعو أصحاب الفطرة السليمة اليها ، فيسارعون الى الايمان بها . وكان الرسول صلى الله عليه وآله يقرن الدعوة بالعمل . فهو ينكر المنكر بكل وسيلة ممكنة . ففي حديث شمائل النبي صلى الله عليه وآله :" له عرق يدرّه الغضب - الى ان قال - فاذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء ، حتى ينتصر له .." . ([54]) 3/ وعند إيمان الصالحين بالرسالة ، تولد الأمة الاسلامية، التي هي خير امة اخرجت للناس . قال الله سبحانه : « كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ » (آل عمران / 110) . 4/ وطليعـة هذه الأمـة ؛ هم الفقهاء (الربانيون والأحبار) والمجاهدون. فهم الطائفة الأكثر اهتماماً بفريضة النهي عن المنكر، والتي يقول عنها سبحانه : « وَلْتَكُن مِنكُمْ اُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْـرِ وَيَأْمُـرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَــوْنَ عَـنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُـونَ » ( آل عمران/104) . وقد جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال : سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الأمة جميعاً ؟ قال: "لا". قيل : ولِمَ ؟ قال : "وانما هو على القوي المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر. لا على الضعفة الذين لايهتدون سبيلاً الى أي من أي ، يقول من الحق، أم من الباطل. والدليل على ذلك ( من ) ([55]) كتاب الله ، قول الله « وَلْتَكُن مِنكُمْ اُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » فهذا خاص غير عام ، كما قال الله تعالى : « وَمِن قَوْمِ مُوسَى اُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ » ولم يقل : على أمة موسى ، ولا على ( قوم ) ([56]) ، وهم يومئذ أمم مختلفة ، والأمة واحد فصاعداً ، كما قال عز وجل « إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ اُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ » يقول : مطيعاً لله ، وليس على من يعلم ذلك في الهدنة من حرج ، اذا كان لا قوة له ولا عدد ولا طاعة " . ([57]) 5/ وهذه الطليعة هي التي تحافظ على وحدة الأمة ، وعلى نضارة القيم المثلى فيها ، حتى ولو قل الاهتمام بها من لدن الأغلبية، ويكون حالها حال أولي البقية في الأمم السابقة؛ مثلاً في بني اسرائيل، حيث يقول سبحانه عنهم : « لَيْسُوا سَوَآءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اُمَّـةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُـدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَــوْمِ الاَخِــرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ » (آل عمران / 113-114) . 6/ ومثلهم الذين قال عنهم ربنا سبحانه : « فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ » (هود / 116) . 7/ وهؤلاء هم المجاهدون في الأمة المرحومة، الذين نذروا انفسهم لله سبحانه ، فقال عنهم تعالى : « إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّآئِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ » (التوبة / 111 - 112) . 8/ وهذا الهدف الأسمى للمجاهدين يحققونه - بأجلى صوره - عندما يمكنهم الله في الأرض ، فيقول سبحانه : « الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ » (الحج / 41) . وهكذا جاء في بعض الأحاديث، أن الناهي عن المنكر والآمر بالمعروف هو خليفة الله ورسوله . منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة رسوله". ([58]) 9/ والنهي عن المنكـر كما الأمر بالمعروف ، هما محور العلاقة بين ابناء الأمة ، وهما - بالتالي- رمز الولاية الإلهية. قال الله سبحانه : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (التوبة / 71) . 10/ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور (الذي يحتاج الى ارادة صلبة ، وعزم راسخ). قال الله سبحانه : « يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ » (لقمان / 17) .
ترك التناهي :
1/ وترك التناهي من الصفات السيئة، التي تجعل الساكتين عن المنكر يشتركون في جزاء مرتكبيه . قال الله سبحانه : « فَلَمَّا نَسُوا مَاذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ » (الأعراف / 165) . وروي عن الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول؛ في مواعظ المسيح عليه السلام، قال: قال: "بحق أقول لكم؛ ان الحريق ليقع في البيت الواحد ، فلا يزال ينتقل من بيت الى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة ، إلاّ ان يستدرك البيت الأول ، فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النار معملاً. وكذلك الظالم الأول ، لم يؤخذ على يديه ، لم يوجـد من بعده إمام ظالم فيأتمون به ، كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً . بحق أقول لكم ؛ من نظر الى الحية تؤمّ اخاه لتلدغـه ولم يحذره حتى قتلتـه ، فلا يأمن أن يكون قد شرك في دمه ، وكذلك من نظر الى أخيه يعمل الخطيئة ولم يحذره عاقبتها حتى أحاطت به ، فلا يأمن أن يكون قد شرك في اثمه . ومن قدر على ان يغير الظلم ثم لم يغيره فهو كفاعله ، وكيف يهاب الظالم وقد أمن بين أظهركم؟! لا يُنهى ، ولا يُغير عليه ، ولا يؤخذ على يديه ، فمن أين يقصر الظالمون ؟ أم كيف لايغترون ؟ فحسب أحدكم أن يقول لا أظلم . ومن شاء فليظلم، ويرى الظلم فلا يغيره. فلو كان الأمر على ما تقولون، لم تعاقبوا مع الظالمين الذين لم تعملوا بأعمالهم حين تنزل بهم العثر ([59]) في الدنيا ". ([60]) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: "من يشفع شفاعة حسنة ، أو يأمر بمعروف ، أو ينهى عن منكر ، أو دلّ على خير، أو أشار به، فهو شريك. ومن أمر بشرّ أو دلّ عليه أو أشار به، فهو شريك". ([61]) وروي عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: "من مشى الى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوّفه ، كان له مثل أجر الثقلين من الجن والأنس، ومثل اجورهم". ([62]) 2/ فالذين انجاهم الله هم وحدهم الناهين عن السوء، أما الآخـرون فقد شملهـم البـلاء. وكذلك قرأنا مثل ذلك في سورة هود، حيث قال سبحانه : « فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ » (هود / 116) . فالذيـن انجاهم الله، هم الذين نهوا عن الفساد في الأرض . 3/ اما اليهود الذين لم يتناهوا عن المنكر ، فقد انكر عليهـم القـرآن ، لأنهم بئسما فعلــوا . قال الله تعالى : « كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ » (المائدة / 79) . 4/ اما سكوت الربانيين والاحبار عن فريضة النهي عن المنكر، فقد كان سيئاً. قال تعالى : « لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ اِلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » ( المائدة / 63) . ومن هذه الآية نستفيد؛ ان سكوت العلماء أسوء من سكوت غيرهم ، وان فريضة النهي عن المنكر آكد عليهم من غيرهم .
النهي عن المعروف :
1/ وتنعكس الآية عند المنافقين، فهم يوالون بعضهم على أساس القيم المضادة. فهم ينهون عن المعروف، ويأمرون بالمنكر. قال سبحانه : « الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ » (التوبة / 67) . وعند النهي عن المعروف يقبض المنافقون أيديهم (عن فعل الخير). فالنهي عن المعروف ينسجم مع عملهم السيء . 2/ وقد قال سبحانه عن صفات بعضهم : « وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْاَوْنَ عَنْهُ وإِن يُهْلِكُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ » (الانعام / 26) . فهم ينهون عن الإيمان بالرسول نهياً عملياً، كما انهم ينأون عنه عملياً . وهكذا تتكامل عندهم اسباب الهلاك . 3/ وهذه هي صفة الشيطان، فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر. قال سبحانه : « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (النور / 21) . وهكـذا اذا رأيت شخصـاً يأمـر بالمنكـر ( بأي تبرير كان ) ، فاعلـم بأنـه يتبـع خطـوات الشيطـان .
بصائر الآيـات
1/ النهي ظاهر في الأمر بالترك قولاً ، ولكنه قد يشمل النهي العملي مثل تحطيم الأصنام أو الأخذ على يد المذنب أو اظهار الغضب عليه أو هجره وما أشبه .. 2/ وأصل معنى المنكر ما يجهل، ولكن معناه هنا ما لا يعترف به العرف والشرع. فهو عمل غير معروف وغير مشروع؛ ومنه قتل البرئ، والشذوذ الجنسي، وقول الزور، وأكل السحت .. 3/ والله قد نهى عن المنكر، والرسول نهى عنه، وبذلك عرفه العقلاء. وبايمان الصالحين به اخرجت خير أمة، لأن فيها طائفة (من الفقهاء والمجاهدين) يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وهم البقية التي ينهون عن الفساد في الأرض، وهم الذين إن مكنهم الله في الأرض أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . 4/ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محور الولاية ، حيث ان ولاية المؤمنين لبعضهم محورها الأمر والنهي ، وهما من عزم الأمور . 5/ ومن ترك النهي اشترك في المنكر -في العقاب الإلهي-، وانما انجى الله الناهين عن المنكر من اصحاب السبت وعذب الباقين. وبئسما فعلت اليهود حين تركوا التناهي، وبالذات الربانيين والأحبار منهم، لأن مسؤوليتهم أكبر . 6/ ومن صفات المنافقين؛ أمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، والشيطان يأمر بالمنكر.
فقـه الآيـات
1/ قال المحقق الحلي: "المنكر كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه، او دلّ عليه". وقد استفدنا قريباً من هذا المعنى من الآيات. ولكن المعيار في المنكر ليس فقط عقل الفرد الذي قد يكون محجوباً بالهوى والغفلة والكفر، وانما عقل العرف. فالمنكر ما ينكره عقلاء البشر، ودلّ الشرع على ذلك. 2/ وقال (قدس الله سره): "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان اجماعاً ، ووجوبهما على الكفاية يسقط بقيام من فيه الكفاية. وقيل بل على الأعيان، وهو الأشبه". وعلق صاحب الجواهر بالقول: "ينبغي ان يعلم ان القائل بالعينية (أي انهما واجبان كالصلاة على كل فرد) موافق على السقوط مع حصول المطلوب". ([63]) اقول: يظهر من النصوص؛ انهما واجبان على الكفاية. فلا يأثم من تركهما لو قام بهما غيره، كما غسل الميت . 3/ وقال المحقق: "والمعروف ينقسم الى الواجب والندب؛ فالأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب". واضاف: "والمنكر لاينقسم، فالنهي عنه كله واجب". وقال ابو الصلاح (رحمه الله): "النهي عن المنكر يتبع المنكر ، فان كان المنكر محظوراً، كان النهي عنه واجباً. وإن كان مكروهاً، كان النهي عنه مندوباً". ([64]) وهذا التقسيم (في المنكر والمعروف) جيد، ولكن لم نجد نصاً يدل عليه . 4/ وقال المحقق رحمه الله: "ولا يجب النهي عن المنكر مالم تكمل شروط أربعة؛ الأول: ان يعلمه منكراً، ليأمن الغلط في الإنكار . الثاني: ان يجوز تأثير انكاره. فلو غلب على ظنه، او علم أنه لايؤثر، لم يجب. الثالث: وان يكون الفاعل له مصراً على الإستمرار. فلو لاح منه أمارة الامتناع او اقلع عنه، سقط الإنكار. الرابع: ألاّ يكون في الإنكار مفسدة. فلو ظن توجه الضرر اليه او ماله او الى أحد من المسلمين، سقط الوجوب". وعلق على الشرط الثاني في الجواهر بالقول: "بلا خلاف أجده في الأخير ، بل في ظاهر المنتهى الإجماع عليه". ([65]) ولكن لنا ملاحظتان : ألف : ان النصوص الآمرة بهاتين الفريضتين، لم تصرح بسقوطهما عند العلم بعدم التأثيـر. بلى؛ هناك نص في قول كلمة الحق عند امام جائر، يدل على سقوط الفرض عند عدم سماعه. وقد ذكرناه في الروايات، وهو خاص بموضعه لإحتمال الضرر. باء : ان غلبة الظن بعدم القبول لاتكفي، إلاّ إذا بلغ الظن درجة الإطمئنان، الذي هو العلم العرفي. وهذا ما ذكره في الجواهر ايضاً . ([66]) اما الشرطان الآخران، فقد ذكر في الجواهر؛ ان لا خلاف بين الفقهاء عليهما ([67]). وتدل عليه الآية الكريمة : « وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ » (الحج / 78) . 5/ وقال المحقق رحمه الله: "ومراتب الإنكار ثلاث ؛ بالقلب وهو يجب وجوباً مطلقاً". وقال في الجواهر : "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم كون ذلك أمراً ونهياً ". واضاف: "فلابد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى، به تعد في الأمر والنهي، وهو اظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض واظهار الكراهة، ونحو ذلك". ([68]) أقول: ان الإنكار بالقلب من مراتب الإيمان، وستظهر آثاره في مواقف الفرد بصورة او بأخرى، وذلك المظهر قد يعد أمراً ونهياً. وأما كونه واجباً على الإطلاق، ومن دون اجتماع الشروط السابقة، فهو مجرد السخط بالقلب. واما مظاهره فانها مشروطة بتلك الشروط. والله العالم. 6/ وقال المحقق الحلي (رحمه الله) وهو يبين بقية مراتب الإنكار بعد الإنكار بالقلب، قال: "وباللسان وباليد، ويجب دفع المنكر بالقلب اولاً كما اذا عرف ان فاعله ينزجر باظهار الكراهة. وكذا ان عرف ان ذلك لايكفي، وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجـر وجب واقتصر عليـه. ولو عرف ان ذلك لا يرفعه، انتقل الى الإنكار باللسان، مرتباً للأيسر من القول فالأيسر. ولو لم يرتفع إلاّ باليد ، مثل الضرب وما شابهه جاز". أقول : اما الجواز فهو هنا بمعنى الوجوب، كما بيّنه في الجواهر ([69]). ولكن تبقى عدة ملاحظات على ما أفاده المحقق (رحمه الله)، وهي: ألف : يفهم من نصوص هذه الفريضة؛ أن المراد زجر مرتكب المنكر، فاذا ازدجر سقط وجوبه. أما جوازه إذا لم يؤد الى ضرر، فلا دليل على سقوطه. فلعل في النهي عنه نوع عقوبة على مرتكب المنكر، ولعله يزجر غيره او يردعه عنه مستقبلاً ايضاً . وهكذا فعموم أدلة هذه الفريضة تشمل ما اذا ارتدع المذنب بأقل منه. منتهى الأمر قد نعرف من أدلتها، انه لو ازدجر الفرد (بنفسه او بطريقة معينة) سقط الوجوب. باء : لا دليل على وجوب تحري الايسر فالايسر. بلى؛ يستفاد من بعض الروايات ضرورة الرفق في اداء هذه الفريضة . ولعله من آداب اداء هذه الفريضة، وليس من واجباتها. والله العالم . جيم : هل استخدام اليد لردع فاعل المنكر عام لكل الناس، أم خاص بصاحب الولاية؟ قال في الجواهر : ظاهر المصنف (المحقق الحلي رحمه الله) وغيره الاجماع على عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على اذن الامام عليه السلام او القائم مقامه . ([70]) واضاف : اذ لايخفى على من احاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها؛ ان المراد بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحمل على ذلك بايجاد المعروف والتجنب عن المنكر، لا مجرد القول . ([71]) ويؤيده الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله: "من رأى منكراً فلينكره بيده إن استطاع ، فان لم يستطع فبقلبه. فحسبه ان يعلم الله من قلبه، انه لذلك كاره". ([72])