للعقد شروط، ويتصل بعضها بصورته الخارجية (صيغته)، وبعضها بمحتواها الداخلي (محل العقد)، والثالث بطرفيه (المتعاقدين). - تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



والذي يفسد القرض إشتراط النفع، أما من دون الشرط فلا بأس بإسداء المقترض نفعاً الى المقرض، حيث جاء في الحديث عن خالد بن الحجاج قال: سألته عن الرجل كانت لي عليه مأة درهم عدداً قضانيها مأة وزناً. قال: لا بأس مالم يشترط. قال: وقال: جاء الرّبا من قبل الشروط، إنما يفسده الشروط. ([74]) 4/ عند إشتراط النفع يفسد العقد، ولم يفد ملكاً، حيث يبقى المال في ملك صاحبه. وقد اختلف الفقهاء في هذا الفرع، حيث رأى جمع منهم أن الحرمة تقتضي فساد العقد. وقال بعضهم: إن إشتراط النفع يفسد العقد لقوله عليه السلام: إنما يفسده الشروط. والظاهر عودة الضمير الى عقد القرض، وإلاّ فالربا فاسد من أصله..

وقال البعض: إن الشرط إن لم يك ركناً في العقد (أي أساسياً عند الطرفين، بحيث لولاه لما تعاقدا)، لم يفسده. فاشتراط الزيادة قد لا يكون كذلك، فلا يفسد العقد. وقد يستدل عليه بقوله سبحانه: «وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»، (البقرة/279) حيث إن الآية مشعرة بصحة العقود الربوية فيما سوى مقدار الربا.

وهذا الرأي يبدو أقرب إلى الصواب. ومن هنا توقف المحدث البحراني في بطلان العقد الربوي (فيما سوى مقدار الرّبا)، حيث حكي عنه قوله: إنه ليس في شيء من نصوصنا ما يدل على فساد العقد بذلك، بل أقصاها النهي عن اشتراط الزيادة. ([75]) 5/ إن ما يفسد العقد إشتراط الزيادة، أما إذا تبرع المقترض بزيادة، فذلك الفضل من عنده. وقد جاء في حديث عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي إبراهيم (الإمام موسى الكاظم) عليه السلام: الرجل يكون له عند الرجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة، فينيله الرجل الشيء بعد الشيء كراهية أن يأخذ ماله، حيث لا يصيب منه منفعة، أيحل ذلك؟ قال: لا بأس إذا لم يكن يشرط. ([76]) وعلى هذا يحمل الحديث التالي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضاً ويعطيه الرهن إمّا خادماً وإمّا آنية وإمّا ثياباً، فيحتاج إلى شيء من منفعته، فيستأذن فيه، فيأذن لـه. قال: إذا طابت نفسه فلا بأس. قلت: إن من عندنا يروون أن كل قرض يجرّ منفعة فهو فاسد؟ فقال: أوَ ليس خير القرض ما جرّ منفعة. ([77]) فالقرض الذي يجر نفعاً، هو الذي يكون العطاء من قبل المقترض بلا شرط، بل بطيبة نفسه. أوَ ليس القرض هو من صنائع المعروف، أوَ ليس تبادل المنفعة يشد أواصر المجتمع ببعضها؟ فقد روي عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام، أنه قال: خير القرض ما جرّ منفعة. ([78]) ويبدو أن الباعث الذي لم يبلغ درجة الإشتراط، لا يدخل في إطار الربا؛ مثلاً إذا كان شخص يرد الدَين مع الفضل، وكان الناس يفضلون إقراضه طمعاً في الفضل، ولكن لو لم يتفضل عليهم فلا يحق لهم مطالبته، فذلك جائز. لأن الباعث لا يدخل في أركان العقد أنى كان نوعه، وفي أي عقد، كما تقدم الحديث عن ذلك فيما مضى.

وعلى هذا نحمل الحديث التالي عن أبي بصير، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام قال: قلت له: الرجل يأتيه النبط بأحمالهم فيبيعها لهم بالأجر، فيقولون لـه: أقرضنا دنانير فإنا نجد من يبيع لنا غيرك، ولكنّا نخصّك بأحمالنا من أجل أنّك تقرضنا. فقال: لا بأس به، إنما يأخذ دنانير مثل دنانيره، وليس بثوب إن لبسه كسر ثمنه، ولا دابّة إن ركبها كسرها، وإنما هو معروف يصنعه إليهم. ([79]) ولكن مع ذلك، يستفاد من بعض الأدلة كراهة التعامل مع الدَين بهذه الصورة، فراراً من شبهة الربا كما جاء في الأحاديث التالية:

عن إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح (الإمام موسى الكاظم) عليه السلام قال: سألته عن رجل يرهن العبد أو الثوب أو الحليّ أو المتاع من متاع البيت، فيقول صاحب الرّهن للمرتهن: أنت في حلّ من لبس هذا الثوب فالبس الثوب وانتفع بالمتاع واستخدم الخادم. قال: هو له حلال إذا أحلّه وما أحبّ له أن يفعل. ([80]) وعن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قال: سألته عن الرّجل يسلم في بيع أو تمر عشرين ديناراً ويقرض صاحب السّلم عشرة دنانير أو عشرين ديناراً. قال: لا يصلح. إذا كان قرضاً يجرّ شيئاً، فلا يصلح. قال: وسألته عن رجل يأتي خريفه وخليطه فيستقرض منه الدنانير فيقرضه، ولولا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه. فقـال: إن كان معروفاً بينهما فلا بأس، وإن كان إنّما يقرضه من أجل أنّه يصيب عليه، فلا يصلح. ([81]) ونستفيد من هذا الحديث الفرق الدقيق بين المنفعة المحرمة، والمنفعة الحلال. فالمحرمة هي حسب تعبير العلامة النجفي: إشتراط المنفعة صريحاً، أو إضماراً قد بني العقد عليه من غير فرق بين كون المنفعة عيناً أو وصفاً. ([82]) وقد يقال بأن معيار المكروه من المنفعة هو الباعث الذي يحول علاقة المؤمنين ببعضهم الى علاقة مادية بحتة، أما إذا كان الباعث هو التعاون وما يزيد التلاحم الاجتماعي فلا كراهة في المنفعة، لأن الهدف أساساً من القرض إشاعة المعروف بين الناس. وعلى هذا نحمل الأحاديث التي تقول إن خير القرض ما جرَّ نفعاً. وكذلك الحديث التالي عن هذيل بي حيّان أخي جعفر بن حيّان الصيرفي قال: قلت لأبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام: إنّي دفعت الى أخي جعفر مالاً، فهو يعطيني ما أنفق وأحجّ منه وأتصدّق، وقد سألت من قبلنا فذكروا أن ذلك فاسد لا يحلّ، وأنا أحبّ أن أنتهي إلى قولك. فقال لي: أكان يصلك قبل أن تدفع إليه مالك؟ قلت: نعم. قال: خذ منه ما يعطيك، فكل منه واشرب وحجّ وتصدّق، فإذا قدمت العراق فقل جعفر بن محمد أفتاني بهذا. ([83]) بلى؛ علينا أن نرد الفروع الى الأصول، والمصاديق الى القواعد الكلية. والأصل هنا النية الصالحة أو الفاسدة، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى، والله العالم.

6- أما لو شرط شرطاً يجر نفعاً الى المقرض؛ مثل أن يشترط الدراهم الصحاح عوض المكسرة التي يقرضها، فقد قيل يجوز، ولكن الوجه عند المحقق الحلي رحمه الله المنع.

وفي الأمر معيار وتفصيل؛ أما المعيار فهو صدق الربا عرفاً، فإذا إعتبر الناس العقد ربوياً، فإنه محرم، سواءً كانت الفائدة عيناً أو منفعةً أو شرطاً ينتهي الى النفع أو ما أشبه. أما إذا لم يعتبر العرف العقد ربوياً أو شك الناس في كونه ربوياً، فالعقد صحيح؛ وتفصيل القول فيما يلي:

أ- الزيادة الحُكمية التي ترجع بالتالي إلى منفعة الدائن بصورة أو بأخرى، غير جائزة، لأنها منفعة، ولأن الناس يعتبرون هذا القرض ربوياً.

ولكن المقدس الأردبيلي مال إلى جواز الزيادة الحُكمية، وإستدل على ذلك بأصالة الجواز، حيث لم يثبت إجماع على عدم الجواز، ولم يثبت أنه ربا. وأما الأخبار الآتية المشعرة بالحرمة فإنما تدل بمفهومها على وجود البأس، والبأس لا يدل - بالضرورة - على الحرمة، بل قد يعني الكراهة.

ولكن العلامة النجفي أكد على حرمة الزيادة الحكمية، واستدل على ذلك بمفهوم جملة من الأحاديث التي مرّ ذكرها، وبصريح صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام، أنه قال: من أقرض رجلاً ورقاً فلا يشترط إلاّ مثلها، فإن جوزي أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه. ([84]) وهذه الرواية بالغة الصراحة في حرمة الزيادة الحُكمية.

ب- ومن الزيادة المحرمة، إشتراط ما يرجع الى منفعة؛ مثل أن يشترط بيع شيء لـه بيعاً محاباتياً؛ أي بأقل من ثمن المثل، كأن يقرضه عشرة آلاف دولار الى أجل، على أن يبيعه سيارته بأقل من قيمتها العرفية.

وقد ذهب البعض الى جواز مثل ذلك فراراً من الرّبا الحرام الى البيع الحلال، واستدل بالحديث التالي عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قال: سئل عن رجل لـه مال على رجل من قبل عينة عينها إياه، فلما حلّ عليه المال لم يكن عنده ما يعطيه، فأراد أن يقلب عليه ويربح، أيبيعه لؤلؤاً أو غير ذلك ما يسوي مأة درهم بألف درهم ويؤخّر؟ قال: لا بأس بذلك، قد فعل ذلك أبي رضي الله عنه، وأمرني أن أفعل ذلك في شيء كان عليه. ([85]) وعن عبد الملك بن عتبة قال: سألته عن الرجل يريد أن أعينه المال أو يكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب مني مالاً أزيده على مالي الذي لي عليه، أيستقيم أن أزيده مالاً وأبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم، فأقول: أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهراً؟ قال: لا بأس. ([86]) ولكن هذين الحديثين وغيرهما موضوعهما تأخير الدَين وبعقد ثان، والجواز فيه لا يدل على جواز الاشتراط بالبيع المحاباتي.

ج- وقد يكون من الزيادة الحُكمية اشتراط تسليم المبلغ بأرض أخرى، إذا كانت هناك منفعة مالية لذلك. أما إذا لم يكن، فلا بأس به، وعليه يحمل الحديث التالي، المروي عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قال: قلت: يسلف الرجل الورق على أن ينقدها إياه بأرض أخرى، ويشترط عليه ذلك. قال: لا بأس. ([87]) ومثله غيره؛ ونحمل مثل هذا الحديث على عدم وجود منفعة مالية معتدة في الأمر، وإن كان من مصلحة صاحب الدين ذلك. إذ الحرام العقد الربوي، والربا لا يصدق على مثل هذه المنفعة.

د- وليس من الزيادة مطالبة الدائن رهناً على الدَين، إذا لم يكن وجود الرهن عنده، بحيث يستفيد منه ويعد منفعة معتد بها ويعد رباً عند العرف.

بلى؛ لو أخذ رهناً وصادف أن إستفاد منه؛ مثلاً أخذ سيارة رهناً على دينه، ثم إتفق أن إحتاج إليها فركبها، لا بأس بذلك كما جاء في الحديث الشريف عن إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح (الإمام موسى الكاظم) عليه السلام قال: سألته عن رجل يرهن العبد أو الثوب أو الحليّ أو المتاع من متاع البيت، فيقول صاحب الرهن للمرتهن: أنت في حلّ من لبس هذا الثوب، فالبس وانتفع بالمتاع واستخدم الخادم. قال: هو له حلال إذا أحلّه وما أحبّ له أن يفعل. ([88]) هـ- أما إذا اشترط الدائن على المقترض أن يعطيه رهناً على دين آخر لقاء اقراضه، فقد يعتبر نوعاً من المنفعة الحرام، لأنه ربا. ولكن البعض اعتبر ذلك جائزاً، لأن الحرام هو الربا الذي هو زيادة في مال القرض، واشتراط الرهن على دين آخر يعتبر شرطاً خارجاً عن مال القرض. وهكذا جاء في القواعد وجامع المقاصد إن الأقرب جواز اشتراط ذلك (الرهن) على دَين آخر محتجاً عليه في الأخير (جامع المقاصد) بأن ذلك ليس زيادة في مال القرض وإنما هو شرط خارج عنه. ([89]) وناقش العلامة النجفي في ذلك، بأن المستفاد من الحديث النبوي وهو: كل قرض جرّ نفعاً فهو حرام. ([90]) المنع عن كل نفع للمقرض.

ولنا أن نقول: إن إنشاء عقد القرض حق من حقوق الدائن، وله أن يستفيد من هذا العقد بما يشاء؛ مثل أن يشترط أداء دينه السابق، أو إيداع رهن يستوثق منه أداءه حتى يقدم على عقد القرض. وهذا لا يسمى رباً عند العرف.

ولكن مع ذلك يبقى المعيار الأساسي عندنا حكم العرف بأنه زيادة في الدين وفائدة في القرض، أم أنه شرط مسبق لاجراء عقد الدين. فما اعتبره العرف رباً وزيادة في المال حرم، ومالم يعتبره جاز.

و- وإذا وقع الدين شرطاً في عقد آخر مما جعل نتيجة ذلك العقد زيادة في الدين، فهل يجوز؟ ومثله ما يجري الآن في بعض البلاد من إيجار الدار لقاء ثمن معين شريطة أن يقرض المستأجر صاحبها مبلغاً من المال. والهدف الحقيقي من هذه المعاملة إستفادة الدائن من المال الذي يستلم في مقابل إنتفاع المستأجر من الدار، والوجه الآخر للعقد إعطاء دين لشخص في مقابل الإجازة له بالاستفادة من الدار التي وضعت عنده كرهينة.

والبعض يرى المعاملة ربوية، إذ إنها تتشابه مع الاقراض شريطة البيع بأقل من ثمن المثل.

وبالرغم من إن هذه المعاملــة لا تخلو من شبهة الربا، إلاّ أن هدف المعاملـة إذا كــان الايجــار وليس القرض، فإن الجواز أقرب لأنه إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام؛ أي الحرمة والحلية ترجع إلى طبيعة العقد. فالعقد هنا عقد إيجار وهو صحيح حتى ولو كان بأقل من ثمن المثل. أما الدَين فإنه شرط في عقد الإيجار، وهو صحيح أيضاً، ولا زيادة في مقدار ما يرجعه من المال، والله العالم.

ز- وإذا أقرضه مبلغاً وشرط عليه أن يبيعه بضاعة بثمن المثل، فلا يبدو أي إشكال فيه، لأنــه لا يرى العرف زيادة في مال القرض، اللهم إلاّ أن نعتبر بمجرد تخصيص هذا الشخص بالبيع دون غيره، نوعاً من النفع الذي يجره القرض. ولكن مادام العرف لا يعتبر ذلك من الربــا، لا يحرم.

الربا في بيع الصرف

يرى أكثر فقهائنا حرمة بيع الصرف (النقدين) نسيئة، ووجوب التقابض فيهما فوراً. وقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن بيع الفضة بالذهب من دون التقابض بالمجلس. بينما وردت أحاديث أخرى تجيز بيعهما نسيةً (بالدَين) مما حدى بالبعض إلى العمل بهذه الأحاديث وحمل تلك على الكراهة. فهنا يبدو سؤالان:

الأول: لماذا التقابض شرط الصحة في بيع الصرف أو هو محبذ لا أقل؟ الثاني: كيف نتعامل مع أحاديث هذا الحقل المختلفة؟ 1/ حكمة الحكم تصور أن أحداً يريد أن يقترض بربا، فيشتري منه عشرة دنانير ذهب بمأة وخمسة دراهم نسية (المفروض إن كل دينار عشرة دراهم). وهكذا بعد شهر يرد عليه مأة درهم التي تقابل عشرة دنانير، ويضيف إليه خمسة دراهم زيادة عليه، وهي الفائدة والربا.

فلكي نسدّ باب الربا نشترط التقابض في المجلس في بيع الصرف، حتى لا يتحايل المرابون على الشرع.

وهكذا يظن إن حكمة حرمة بيع الصرف نسيةً هي سد باب من أبواب الربا، وهناك إشارة في بعض الأحاديث إلى هذه الحكمة التي نجد مثلها في بعض النواهي الشرعية الأخرى، والتي سوف نشير إليها إن شاء الله لاحقاً.

2/ الأحاديث وسبب إختلافها نهت أحاديث كثيرة من بيع الصرف إلاّ يداً بيد، منها ما يلي:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يبتاع رجل فضة بذهب إلاّ يداً بيد، ولا يبتاع ذهباً بفضة إلاّ يداً بيد. ([91]) وعن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألته عن الرجل يشتري من الرجل الدّرهم بالدنانير فيزنها وينقدها ويحسب ثمنها كم هو ديناراً، ثم يقول: أرسل غلامك معي حتى أعطيه الدنانير. فقال: ما أحبّ أن يفارقه حتّى يأخذ الدنانير. فقلت: إنما هم في دار واحدة وأمكنتهم قريبة بعضها من بعض، وهذا يشـق عليهم. فقال: إذا فرغ من وزنها وانتقادها فليأمر الغلام الذي يرسله أن يكـــون هو الذي يبايعه ويدفع إليه الورق ويقبض منه الدنانير حيث يدفع إليه الورق. ([92]) وأيضاً عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قال: سألته عن بيع الذهب بالفضة مثلين بمثل يداً بيد. فقال: لا بأس. ([93]) بينما أجازت أحاديث أخرى ذلك، منها ما يلي:

عن عمار بن موسى الساباطي، قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام يقول: لا بأس أن يبيع الرجل الدنانير بأكثر من صرف يومه نسية. ([94]) وعن زرارة، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام قال: لا بأس أن يبيع الرجل الدنانير نسية بمأة أو أقل أو أكثر. ([95]) وأيضاً عن عمار، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام عن الرجل هل يحلّ له أن يسلف دنانير بكذا وكذا درهماً الى أجل؟ قال: نعم لا بأس. وعن الرجل يحلّ لـه أن يشتري دنانير بالنسية؟ قال: نعم إن الذهب وغيره في الشراء والبيع سواء. ([96]) وفي تفسير هذا الإختلاف، نجد ثلاثة إتجاهات:

الإتجاه الأول: ردّ أحاديث الجواز إلى أهلها، لأن أكثرها مروية عن عمار الساباطي، وبينما رواة الأحاديث الناهية طائفة من الأصحاب، فالأشهر رواية هي الأولى بالقبول. ومن هنا قال الشيخ: هذه الأخبار الأصل فيها عمار، فلا تعارض الأخبار الكثيرة السابقة. ([97]) وقال العلامة النجفي: وهو يؤيد القول باشتراط التقابض. وفي (كتاب) الغنية: الإجماع عليه، بل ظاهره إجماع المسلمين حيث نفى الخلاف منا ومنهم. وفي محكي السرائر لا خلاف في هذا الشرط وفي البطلان بدونه. ([98]) ثم ذكر أدلة الاشتراط وأيدها، ثم استعرض بعض أحاديث نفي الاشتراط وردّها بالقول، إلاّ أن الجميع قاصرة عن الأدلة السابقة من وجوه. ([99]) خصوصاً مع عدم صراحة بعضها، فالأولى طرحها - كما جاء في (كتاب) الدروس (للشهيد الثاني) - أو تأويلها. ([100]) الإتجاه الثاني: الجمع بين الروايات بالقول: إن التقابض مستحب وخلافه مكروه ولكنه جائز كما ذهب إليه إبن بابويه والصدوق، ويظهر من العلامة النجفي ميل بعض متأخر المتأخرين إليه. ([101]) وفعلاً ذهب بعضهم الى ذلك وأيّد مذهبه بأن قال: بعد أن نقل أحاديث الاشتراط هذه الأخبار الدالة على كراهة بيع النّسية في النقــد، لأن هذه الأخبار مع كثرتها ليس في خبر منها فضلاً عن الأكثر- (خبر) ناطق بحرمة البيع نساءً في النقد، بل المحكم منها بأسرها (يدل على الكراهة) أي ما هو (من الخبر يورث) اليقين منها (بمعنى) الذي ليس فيه إحتمالان (وهذا المحكم يدل على) الكراهة وأما الحرمة فمشكوكة. ([102]) ثم قال: ومن هذا البيان المأمون ظهر أنه لا تعارض بين هذه الأخبار وبين الأخبار الناطقة بعدم البأس بنساء النقد. ([103]) وحمل بعض الأخبار الصريحة في النهي عن بيع النقدين نسيةً، حمله على التقية. علماً بأن المحدث الحرّ العاملي قد حمل كل أخبار عدم الاشتراط على التقية، فيبقى السؤال: ماهو رأي سائر المذاهب؟ لقد سمعت آنفاً حكاية رأيهم بالاشتراط من كتاب الغنية، ويقول الاستاذ الزحيلي حول شرائط بيع الصرف عند سائر المذاهب ما يلي: التقابض قبل الافتراق بالأبدان بين المتعاقدين. ([104]) ويبين حكمته بالقول: منعاً من الوقوع في ربا النسيئة ولقوله صلى الله عليه وآله الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد، وقوله صلى الله عليه وآله: لا تبيعوا منهما غائباً بناجز.

فإن إفترق المتعاقدان قبل قبض العوضين أو أحدهما فسد العقد عند الحنفية، وبطل عند غيرهم لفوات شرط القبض، ولئلا يعيد العقد بيعاً لكالي بالكالي؛ أي الدين بالدين فيحصل الربا وهو الفضل في أحد العوضين والتقابض شرط سواءً إتحد الجنس أو إختلف. ([105]) من هنا لا يمكن حمل الروايات التي لا تشترط التقابض على التقية، بل العكس قد يكون صحيحاً.

الإتجاه الثالث: ويمكن لنا أن نرد متشابه الأحاديث الى محكم الكتاب. وهذا أحد سبل الجمع بين الأحاديث المختلفة والتي أمرنا بها من قبل الشرع، والمحكم هنا هو قوله سبحانه: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» (البقرة/275) فما كان رباً فهو حرام. وقد يكون بيع النقد نسيئة رباً فلا يجوز، وقد لا يكون فيجوز. وتفصيل القول؛ إذا كان هدف الطرفين من بيع النقد نسيئة هو البيع ذاته كما يبيع أحدنا أية بضاعة، فلا بأس. كما إذا باع الصراف ألف دولار بسبعمأة جنية مؤجلاً، فلا فرق في ذلك بين أن يكون البيع بأغلى من القيمة السوقية أو بأقل. وإلى ذلك تشير الرواية السابقة التي تقول: إن الذهب وغيره في الشراء والبيع سواء. ([106]) أما إذا كان الهدف الإقراض ولكن بصورة البيع وأخذ الربا مما اعتبر العرف أنه ربا فإنه محرم، لأن العبرة ليست بظاهر العقد، بل بواقع العقد. وقد أشار المحدث الحرّ العاملي إلى إحتمال أن يكون البيع بنحو القرض وإن الزيادة تكون من غير شرط، فقال: ويحتمل كون الأخذ بطريق القرض، فإنه يجوز ردّ العوض بحسب التراضي فيما بعد من غير شرط ولو بزيادة. ([107]) وهذا الإتجاه الثالث هو الأقرب الى الأصول التي أمرنا باتباعها، وإن لم نجد عليه شاهداً كافياً من الأحاديث في هذا الباب. وعلى العموم فالاحتياط يقتضي التقابض في كل عقود الصرف.

وعلى أي حال فاشتراط التقابض في المجلس يشمل سائر النقود ولا يختص بالذهب والفضة، بالرغم من أن بعض الفقهاء حصروه بهما جموداً على النصوص. ([108]) ولكن يبدو لي أن المراد من النقدين هنا وفي سائر الأبواب ما يقع ثمناً للمعاملات فيشمل سائر النقود، كما أن حكمة اشتراط التقابض لو عرفناها وهي سد باب الربا تشمل سائر النقود لا أقل من أن ذلك يوافق الاحتياط.

ثانياً: ربا المعاوضة (الفضل)

قال المحقق الحلي في كتاب الشرائع: كل شيئين يتناولهما لفظ خاص، كالحنطة بمثلها والارز بمثله، فيجوز بيع المتجانس وزناً بوزن نقداً، ولا يجوز مع الزيادة، ولا يجوز إسلاف أحدهما في الآخر على الأظهر، ولا يشترط التقابض قبل التفرق إلاّ في الصرف، ولو اختلف الجنسان جاز التماثل والتفاضل نقداً، وفي النسيئة تردد والأحوط المنع. ([109]) يستعرض المحقق في هذا النص جملة من فروع ربا المعاوضة، والذي يسمى أيضاً ربا الفضل. وفيما يلي نبحثها ببعض التفصيل.

1/ لماذا لا يجوز بيع جنسين متماثلين بتفاضل؟ لأنه ربا، ولأن ما يساوي الجنس الآخر يعتبر عوضاً، وما زاد يعتبر أكلاً للمال بالباطل. هكذا وردت رواية مأثورة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، أنه كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: وعلّة تحريم الرّبا لما نهى الله عز وجلّ عنه، ولما فيه من فساد الأموال، لأن الإنسان إذا اشترى الدّرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً. فبيع الرّبا وشراؤه وكس على كلّ حال؛ على المشتري، وعلى البائع. فحرّم الله عز وجلّ على العباد الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتى يونس منه رشد. فلهذه العلّة حرّم الله عز وجل الربا، وبيع الدرهم بالدرهمين. وعلّة تحريم الربا بعد البيّنة لما فيه من الإستخفاف بالحرام المحرم وهي كبيرة بعد البيان، وتحريم الله عز وجلّ لها لم يكن إلاّ إستخفافاً منه بالمحرم الحرام، والإستخفاف بذلك دخول في الكفر. وعلّة تحريم الربا بالنسيّة لعلّة ذهاب المعروف، وتلف الأموال، ورغبة الناس في الربح، وتركهم القرض، والقرض صنائع المعروف. ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال. ([110]) وهذه العلّة لا تشمل ما إذا كان الجنس الآخر قد عمل فيها حتى زادت قيمته؛ مثل بيع الحنطة بالخبز. من هنا فقد اشترط بعض المذاهب شروطاً معينة لتحريم هذا النوع من الربا، كما يأتي إن شاء الله.

قال الدكتور الزحيلي عن علة تحريم هذا النوع من البيع: وقد حرّم سداً للذرائع؛ أي منعاً من التوصل به إلى ربا النسيئة، بأن يبيع شخص ذهباً مثلاً إلى أجل ثم يؤدي فضة بقدر زائد مشتمل على الربا. ([111]) ونقل عن ابن كثير قولـه: وإنما حرمت المخايرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمزابنة وهي إشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه، والمحاقلة وهي إشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض. إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف. ولهذا قال الفقهاء الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرّموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية الى الربا والوسائل الموصلة إليه. ([112]) وبعضهم يرى إن حكمة جملة من المناهي في البيع، هي دفع الغبن عن الناس وعدم الاضرار بهم، مما قد يظن بأن في أحد الجنسين معنى زائداً عن الآخر.

وأضاف: كما في أخذ كثير رديء في قليل جيد، فزيادة الرديء تقابل بجودة الجيد، لكنه مع ذلك حرام، لأن هناك غرراً كبيراً لا يعلم معه أيما غبن. ([113]) ولكن البعض منهم أجاز بيع المصوغات الذهبية والفضية المباحة الاستعمال كالخاتم والحلية للنساء بأكثر من وزنها ذهباً أو فضةً رعاية للصنعة ولحاجة الناس الى ذلك. ([114]) وهكذا أجازوا بيع المثل بالمثل نوعاً وقدراً وإستيجار الشخص المشتري ليعمل فيه لقاء أجر؛ مثلاً يبيع (الخباز) صاعاً من الحنطة بصاع منها على أن يصنع منه خبزاً لقاء نصف صاع منها، فكأنه باع صاع ونصف من الحنطة بصاع من الخبز. وسيأتي الحديث إن شاء الله عن هذا التفصيل.

2/ وقد اختلفت المذاهب الاسلامية في معيار ربا الفضل، بعد إتفاقهم على تحريم سبعة أشياء تقع فيها الربا، وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب والملح. فقال لا يحرم إلاّ في هذه السبعة (وهم الظاهرية)، وذهب أحمد وأبو حنيفة الى تحريم كل مكيل أو موزون بجنسه.

أما الشافعي فقد خصّ ربا الفضل بالنقدين أو بالطعام، وله قول آخر يخصه بالطعام حتى إذا لم يكن مكيلاً أو موزوناً، وهو قول سعيد بن المسيب. وهناك قول يخص الربا بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك. ([115]) والإمامية يرون تعميم الحرمة في كل مكيل أو موزون سواءً كان مطعوماً أم لا، وفيه كلام نفصله فيما يلي:

3/ والأصل عندنا بعد محكمات الآيات، مسندات الروايات فلننظر فيهما. أما المحكم في القرآن فهو النهي عن الربا. فما كان فيه الربا عرفاً كان محرماً وما أفضي إليه حرام أيضاً، وما كنا نشك فيه فلا. أما الأحاديث فهي مختلفة، وفيما يلي نستعرض طوائف منها:

أ- تنفي هذه الطائفة أي رباً بين أنواع البضاعة التي لا توزن ولا تكال؛ مثل الحديث التالي عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام، قال: لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن. ([116]) وهذا الحديث لا يثبت الربا في كل موزون أو مكيل.

ب- وتنهى الطائفة الثانية عن بيع المثل بمثلين، وهي تحرم المضاعفة ولا تحرم أي زيادة؛ مثل الحديث التالي عن أبي الربيع الشامي قال: كره أبو عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام قفيز لوز بقفيزين لوز، وقفيزاً من تمر بقفيزين من تمر. ([117]) والحديث جاء بلفظ الكراهة، وهي ذات إيحاء بعدم الحرمة، وهي خاصة باللوز والتمر وربما كل طعام، فلا يقاس به غير الطعام.

ج- وتجيز طائفة منها الزيادة في غير المكيل والموزون؛ مثل الحديث التالي عن مصور، قال: سألته عن الشاة بالشاتين، والبيضة بالبيضتين؛ قال: لا بأس مالم يكن كيلاً أو وزناً. ([118]) ومفهوم آخر الحديث يدل على ما دلت عليه الطائفة الأولى.

د- وهناك طائفة من الروايات تبين ان الشعير من الحنطة، وتنهى عن بيع أحدهما بالآخر مثلين بمثل، كالحديث التالي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام: أيجوز قفيز من حنطة بقفيزين من شعير؟ فقال: لا يجوز إلاّ مثلاً بمثل. ثم قال: إنّ الشعير من الحنطة. ([119]) ودلالة هذه الطائفة في الطعام والبيع المضاعف جيدة. أما في غير الطعام مما يكال أو يوزن فلا، بل وحتى في الطعام في غير البيع المثل بمثلين، بل وحتى فيه إذ إنه في مقام بيان كون الشعير من الحنطة، فيمكن حمل النهي فيه على الكراهة بقرينة التعبير بالكراهة في غيرها من الروايات.

بل؛ والتعبير بقوله لا يصلح مثل الرواية التالية عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام في حديث قال: لا يصلح الحنطة والشعير إلاّ واحداً بواحد. وقال: الكيل يجري مجرى واحداً. ([120]) هـ- وهناك طائفة من الأحاديث تنهى عن بيع الفرع بالأصل بزيادة؛ مثل الحديث التالي عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام قال: سألته عن الرجل يدفع الى الطحان الطعام فيقاطعه على أن يعطي لكلّ عشرة أرطال اثنى عشر دقيقاً. قال: لا. قلت: فالرّجل يدفع السمسم إلى العصار يضمن له لكل صاع أرطالاً. قال: لا. ([121]) ودلالة هذه الطائفة لا بأس بها، ولكنها خاصة بالطعام، وهي في مقام بيان بيع الأصل بالفرع، فقد يحمل النهي فيها على الكراهة بقرينة التعبير بها في غيرها.

و- وهناك رواية مفصّلة عن علي بن إبراهيم، وقد بيّنت أحكاماً كثيرة في باب الربا نذكر جملة منها.

روى علي بن إبراهيم عن رجاله عمّن ذكره قال: الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، وزناً بوزن سواء ليس لبعضه فضل على بعض، وتباع الفضة بالفضة. (بالذهب ظ) والذهب بالفضة كيف شئت يداً بيد ولا بأس بذلك، ولا تحل النّسية، والذهب والفضة يباعان بما سواهما من وزن أو كيل أو عدد أو غير ذلك يداً بيد ونسية جميعاً لا بأس بذلك، وما كيل أو وزن مما أصله واحد فليس لبعضه فضل على بعض كيل بكيل ووزن بوزن، فإذا اختلف أصل ما يكال فلا بأس به إثنان بواحد يداً بيد ويكره نسية. ([122]) وهذا النص جيد الدلالة، إلاّ أن المحتمل أن يكون نقلاً بالمعنى من عدة روايات، خصوصاً والمروي عنه مضمرة.

وهكذا نستخلص من مجموع هذه الطوائف من الأحاديث الشريفة؛ إن ربا الفضل في الطعام، وفي الذهب والفضة منهي عنه شرعاً. ولكن هل النهي نهي حرمة أم نهي تنـزيه وكراهية؟ الأشبه أنه نهي حرمة. ولكن هناك بعض الإشارات التي يستشم منها أن النهي نهي كراهة. ومثل تعدد كلمة لا يصلح أو يكره أو أن علياً عليه السلام كان يكره ذلك، كما جاء في الحديث التالي عن سيف التمّار قال: قلت لأبي بصير: أحبّ أن تسأل أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام عن رجل إستبدل قوصرتين فيهما بسر مطبوخ بقوصرة فيها تمر مشقّق. قال: فسأله أبو بصير عن ذلك، فقال: هذا مكروه. فقال أبو بصير: ولم يكره؟ فقال: إنّ عليّ ابن أبي طالب عليه السلام كان يكره أن يستبدل وسقاً من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر، لأن تمر المدينة أدونهما، ولم يكن عليّ عليه السلام يكره الحلال. ([123]) فهذا التعبير يوحي بالكراهية، لأن فيه تورية، حيث إن الإمام علياً عليه السلام كان يكره الحرام، ويكره المكروه أيضاً، ولكن بقدر، والله العالم.

أما حرمة بيع كل مكيل أو موزون حتى من غير الطعام، فالأشبه عدم الحرمة، والأحوط ترك ذلك أيضاً، والله العالم.

4/ وعلى القول الأظهر بتحريم بيع المتجانس بزيادة، فان بيعه باسلاف يحرم أيضاً، لأنه زيادة حُكمية. إذ إن للأجل جزء من الثمن، وقد نقل الشهيد في الدروس الإجماع على حرمة ذلك، ([124]) إلاّ أنه حكي عن الشيخ الطوسي كراهة ذلك، ([125]) واستظهر العلامة النجفي من النصوص تحقق الربا بذلك. ([126]) 5/ أما عند اختلاف الجنسين، كما إذا باع الحنطة بالسمن، فمن الواضح جواز التفاضل نقداً. أما النّسية فقد تردد المحقق الحلي فيها، ثم قال: والأحوط المنع، حيث ان بعض قدماء الأصحاب منعوا من ذلك. ولكن المشهور من علمائنا أجازوه، واعتمد الذين منعوه على الحديث التالي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام عن الزيت بالسمن اثنين بواحد. قال: يداً بيد لا بأس. ([127]) ولكن إستند المشهور على الجواز بالتعبير الذي ورد في بعض الأحاديث بـ (الكراهة) أو (لا يصلح)، وقد حوت النصوص الربا بما إذا إتحد الجنسان.

أما سائر المذاهب الإسلامية فقد ذهبوا إلى حرمة بيع المتجانسين نسيئة. قال الدكتور الزحيلي بعد بيان تحريمه، ودليل تحريمه حديث عبادة عند مسلم: فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. ([128]) وبين حكمة حرمته بما يلي: إن حكمة تحريم ربا النسيئة إجمالاً، هي ما فيه من إرهاق المضطرين، والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بالإنسان، ونزع فضيلة التعاون والتناصر في هذه الحياة. ([129]) وقال في موضع آخر: الحكمة في أنه يجوز بيع مداً من حنطة بمدّي شعير حالاً ولا يجوز نسيئه، هو إن البيع في الحالة الأولى لم يكن القصد منه هو الاستغلال، وإنما تأمين الحاجة، وفي إلزامهم المساواة بالبيع إضرار بالناس. وأما في الحالة الثانية فالبيع أقرب الى القرض، فهو مظنة لإستغلال الحاجة عند المحتاج، وتكون الزيادة مقابل الأجل فيحرم النساء سدّاً للذريعة. ([130]) ولإنتشار هذا الرأي عند المذاهب إعتبر العلامة النجفي الأحاديث الناهية صادرة على وجه التقية، حيث قال: كل ذا، مع إحتمال وروده كالنصوص السابقة- مورد التقية. ([131]) وعلى أي حال فالمسألة بحاجة إلى دراسة أوفى..

6/ قال المحقق الحلي، وهو يشرح وحدة الجنس: والحنطة والشعير جنس واحد في الربا على الأظهر لتناول اسم الطعام لهما، وثمرة النخل جنس واحد وإن اختلفت أنواعه، وكذا ثمرة الكرم. وكل ما يعمل من جنس واحد يحرم التفاضل فيه؛ كالحنطة بدقيقها، والشعير بسويقه، والدبس المعمول من التمر بالتمر، وكذا ما يعمل من العنب بالعنب. ([132]) ولكن هل الخل والتمر جنس واحد، وهل السكر والبنجر (الشوندر) جنس واحد أم مختلف؟ المعيار هو الاسم عند العرف. فالعرف يعتبر الخبز والدقيق والحنطة جنس واحد، بينما تراهم يشكون في اعتبار الهريسة المعمولة من الشعير أو الحنطة ملحقاً به..

من هنا قال العلامة النجفي بعد بحث طويل- : يمكن القول باعتبار ما كان فرعاً لأصل نحو الحنطة والدقيق، والشعير والسويق، ونحو الدهن من السمسم مما سمعته في النصوص المزبورة، لا كل فرع لكل أصل وإن كان بعيداً لا يعرفه إلاّ خواص الناس، نحو طلع الفحل، ونحو إتخاذ القند من الشوندر، وغير ذلك مما يستخرج من بعض الأجسام على وجه لا يدركه إلاّ أوحدي الناس لا أقل من الشك والأصل الجواز. ([133]) بلى؛ عند الشك نرجع الى جواز البيع. ولكن جهل عامة الناس بأصل شيء لا ينفي إتحاده معه عند من يعرف؛ مثلاً لو لم يعرف أحد تركيب السويق، وهل أنه يعمل من الشعير أو من الرز، فإن ذلك لا يجوز بيعه بأصله، والعرف معيار، ولكن شريطة معرفته بأصل الأشياء لا جهله، والله العالم.

ثالثاً: فوائد البنوك والديون الدولية

في عدة نقاط نستعرض مسائل فوائد البنوك والديون الدولية. ففي البدء نتحدث إن شاء الله تعالى عن تاريخ البنوك بشكلها الحالي، ونبحث ثانياً في مدى تأثيرها على واقع حياة الإنسان، وثم عن تأثير الديون الخارجية على تنمية الدول، وأخيراً عن بعض الشبهات التي تحوم حول فوائد البنوك.

1/ تاريخ البنوك الحديثة

يقال إن كلمة "البنك" أصلها إيطالي، وكانت إسماً لتلك الخشبة التي كان الصيارفة يضعون عليها النقود المختلفة. وقد نشأت منذ عصور قديمة مهنة الصيرفة، حيث كان الناس يحتاجون الى تبديل عملاتهم (في البلاد الإسلامية مثلاً تبديل الدينار بالدرهم)، ولأن بعض الناس أخذوا يرتزقون عن هذا الطريق، فتكونت طبقة الصيارفة. ولأن الصيارفة كانوا يحتفظون أبداً بكمية من العملات، فقد إخترعوا صناديق لحفظ النقود. وهنا نشأت باكورة عمل البنك إذ الناس والأثرياء منهم بالذات كانوا يودعون أموالهم عند الصيارفة للحفاظ عليها لقاء دفع أجر معين، وكان الصيرفي يعطيهم سنداً في مقابل أموالهم.

وحينما تعاظمت الثروة عند الصيارفة، فكر هؤلاء في الاستفادة منها، إذ أنهم عرفوا أن حاجة الناس إلى ثروتهم لا تزيد عن عشرة بالمأة منها، وهكذا تبقى البقية مدخرة ومجمدة بلا فائدة، حيث إن السندات التي كانوا يعطونها للناس أصبحت بديلاً عن ذات الأموال في تعامل التجار فيما بينهم.

وبسبب الحركة التجارية النشيطة في تلك الفترة في أوربا، وحاجة التجار الى السيولة، أخذوا يقترضون الأموال من الصيارفة لقاء فائدة معينة.

وإذ بدء الصيارفة بأخذ الفائدة من التجار، أخذوا يدفعون لمن يودع لديهم المال نسبة منها أيضاً.

وفي تطور آخر بدء الصيارفة - وهم قد نظموا وضعهم القانوني حتى أصبحوا أصحاب بنوك كبيرة - بدأوا بإصدار سندات تعتمد على رصيد الذهب الموجود لديهم، وربما أكثر من ذلك بكثيرة. ([134]) وهكذا تكونت العناصر الأساسية للبنوك الحالية التي تعتمد أساساً على ثروة الناس.

ولأن السندات أكثر دائماً من الرصيد، فان قيمة السندات في تنازل مستمر، مما يشكل أحد أسباب التضخم، ولأنهم بدأوا يقرضون الناس سندات لا رصيد حقيقي لها، ويحصلون بها فوائد كثيرة. وبهذا أخذوا يبتزون الناس ويستغلون حاجاتهم الفورية في عملية سرقة منتظمة ومتضاعفة.

2/ تأثير البنوك الربوية

والأدهى من ذلك لأنهم أصبحوا قوة اقتصادية، بدأوا يتدخلون في الشؤون السياسية للبلاد، ويحكمون من قبضتهم الاقتصادية التي تحيط بالناس. وعبر الرشاوى المعلنة (كالضرائب) وغير المعلنة، وعبر أجهزة الاعلام، وعبر ألف وسيلة ووسيلة تحكموا في رقاب الناس الذين أصبحوا لا حول لهم ولا قوة لمواجهتهم. ([135]) وهنا نقف إجلالاً لكتاب ربنا، والذي حرّم الربا وآذن المتعاطين لـه بالحرب، وفك عن الأمة الإسلامية طوقاً كان يمكن أن يقيده ألف عام. بينما وقعت أوربا وأمريكا في ذلك الفخ، ولا يستطيعون عنه خروجاً، ولعل مئات السنين القادمة تبقى شعوب الأرض ترسف فيها دون فائدة. ومن المعروف إن الحركة الشيوعية إستقطبت الجماهير الكادحة في مختلف البلاد تحت شعار التخلص من الطبقة الرأسمالية، ولكن هذه الحركة سقطت مرتين؛ مرة حين أصبحت هي منافسة للرأسمالية في إستغلال الناس، ومرّة حين انهارت أمام ضغــط الرأسماليــة. ولم يبــق أمــام الشعوب إلاّ دين الله الذي حرّم الربا وحرّم كل ألوان الاستغلال.

ذلك لأن دين الله لا يحرم الربا فقط، بل يحرم كل ألوان الظلم والاستضعاف، لكي لا يرفع أحدهم شعار محاربة لون من الظلم لدعم مركزه الظالم، والله المستعان.

3/ الديون الخارجية وإستضعاف الشعوب

بعد أن تشكلت طبقة الأثرياء والمترفين، وتطورت مناهجها في استغلال شعوبها، وتجذرت سلطتها عبر سن تشويهات تدعم استغلالها في بلادها. بعدئذ توجهت إلى خارج حدود تلك البلاد، وخططت من أجل حكومة المال العالمية (الامبريالية) عبر شبكة البنوك عبر البحار وعبر أجهزة دولية مثل صندوق النقد العالمي. ووجدت في مختلف بلاد العالم طبقة مترفة مثلها، فتشابكت مصالحها، وتعمقت صلاتها، وقامت تلك الطبقة بتسهيل نفوذ الامبريالية في تلك البلاد. فروّجت للديون الدولية التي كان طرف منها صندوق النقد الدولي أو البنوك المشهورة في البلاد المتقدمة، وطرف آخر منها في الظاهر- الدول النامية. ولكن في الحقيقة إنما كان الطرف الثاني تلك الطبقة المترفة في تلك الدول والتي سميت بالبرجوازية الوطنية. كانت مصلحة هؤلاء تقتضي إرتباط بلادها بالامبريالية للأسباب التالية:

أولاً: لكي تستدين الدولة النامية ملايين الدولارات، فتتسرّب الى جيوب هذه الطبقة التي تظاهرت بأنها رائدة التنمية الوطنية. فهي صاحبة الشركات التجارية والصناعية والعمرانية (شركات المقاولات)، وهي صاحبة البنوك الوطنية، وهي المديرة لجيش التكنقراط من المهندسين والخبراء، وهي ذات الصلة الوثيقة بالشركات العالمية.

فهي إذاً الوسيطة بين الأمبريالية وبين هذه الشعوب. فتصل الدولارات أولاً إلى صندوق الدولة المدينة، وعبرها تصل إلى أيدي هذه الطبقة.

ثانياً: هذه الطبقة لم تكن تهدف في الأغلب تنمية الوطن، بل تهدف تنمية ثروتها، ومن ثم إيداع فائض ثروتها في البنوك الأجنبية، ولعلها تستطيع في يوم من الأيام أن تصبح عضوة في نادي الامبريالية.

من هنا كنت تجد هذه الملايين التي اقترضتها الدولة من البنوك الأجنبية، عادت بعد فترة قصيرة إلى الخارج وأودعت في تلك البنوك ولكن بأسماء أشخاص. بينما ظلت الدولة هي المسؤولة عن أدائها، وملتزمة بدفع فوائدها.

وهكذا أصبحت الشعوب مقيدة بتلك الديون التي تتضاعف من عام لعام. بينما أصبحت التنمة التي باسمها اقترضت الدولة مجرد قرارات، ولأن الدول كانت تعجز عن سداد الديون أو فوائدها، فإنها كانت تلهث وراء أجهزة الامبريالية من أجل إعادة جدولة الديون، وربما الاستدانة من جديد من أجل سداد فوائدها.

وفي تطور سيء آخر بدأت الامبريالية تفرض على الشعوب، ليس فقط برامجها الاقتصادية، بل قراراتها السياسية والثقافية. حتى إنك تجد إن صندوق النقد الدولي يشترط الى جانب رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية وتنظيم السوق على أساس العرض والطلب، يشترط أيضاً ما يسميه برعاية حقوق الإنسان ونبذ الإرهاب، بل وحتى تطبيق معايير الغرب في العلاقات الاجتماعية وبالذات في شؤون الأسرة.

وهكذا كان الربا سبباً لفساد المال ولفساد العقل، وصدق ربنا سبحانه وتعالى في صفة المرابين، حين قال: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ اِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَاُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة/275) واليوم إذ أصبحت الديون الخارجية أكبر مانع في طريق تقدم الشعوب النامية، وهم أكثر شعوب الأرض؛ مما يعني إستمرار التخلف وإنتشار الجهل والبؤس والمرض والمعاناة وبمقاييس كبيرة، أقول: اليوم نفهم مدى عظمة دين الله الرؤوف الرحيم، إذ حرّم الربا، وقال: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا». ([136])

4/ شبهات وردود حول الربا

بسبب تأثير ثقافة المترفين في الشعوب المستضعفة، وبسبب ضغط المستكبرين على مراكز القرار في الدول النامية وبالذات على بعض المراكز الاعلامية والدينية، فقد راجت ثقافة المرابين الذين قالوا: «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا» وقد تحدث الدكتور الزحيلي عن تأثيرات هذه الثقافة على بعض المراكز الدينية ومع الأسف فقال: ومن هذه الهجمة (ضد حرمة الربا) ما كتبه السيد فهمي هويدي في مجلة العربي العدد/341/ أبريل، نيسان 1987م شعبان 1407 هـ ناقلاً عن بعض العلماء القول في إباحة فوائد الإيداع في البنوك، وعدم الاعتماد على مبدء "كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا" لعدم ثبوت كونه حديثاً، وبالتالي عدم جواز الاستدلال به. ومنها فتوى هذا العالم، وهو الدكتور عبد المنعم النمر بإباحة فوائد المصارف في جريدة الاهرام (القاهرية) يوم الخميس 27 من شوال 1409 هـ الموافق 1/6/1989م، ومنها فتوى مفتي مصر الدكتور محمد سيد طنطاوي بإباحة شهادات الاستثمار بتاريخ 7/5/1410 هـ 7/12/1989 م.

والطامة الكبرى بيان مفتي مصر المذكور قبل ربيع سنة 1410 هـ وقبل نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 الذي أحل فيه الفوائد الربوية لشهادات الاستثمار والبنوك المتخصصة، وأعقبه عام 1991 بأن فوائد المصارف حلال في جميع أنحاء الأرض. ([137]) هكذا تسربت ثقافة الربا حتى إلى المناطق المحرمة عليها؛ أي إلى حيث ينبغي أن يبدء الحرب منه ضده. ولكن ما هي الأدلة التي يعتمدها مثل هذا الفريق من الناس؟ 1/ يقولون إن الله إنما حرّم الربا أضعافاً مضاعفة، والفوائد التي تؤخذ دون ذلك بكثير.. والجواب:

أولاً: كل الربا يتسبب في تكدس الثروة عند طبقة معينة وتتضاعف لديهم.

ثانياً: الأدلة الشرعية على تحريم الربا لا تختص بالآية التي نهت عن أكله أضعافــاً مضاعفـــة. ([138]) إذ هناك آيات أخرى تحرمه مطلقاً، وتصرح بأن الذي يرجع من الدين إنما هو رأسمـال المالك، حيث يقول سبحانه: «وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُــونَ» (البقرة/279) وهذه الآية تدل على أن الربا ظلم وهو كذلك؛ والظلم قبيح وحرام، كثيره وقليله.

2/ ويقولون ما الفرق بين أن يؤجر المالك داره لأحد، أو يؤجره قدراً من المال يستطيع به تأجير دار لنفسه، فالثروة هنا وهناك ذات قيمة، سواءً كانت متمثلة في دار أو في ثمنها؟ وهكذا يقولون ([139]) إن الربا المحرم هو ربا القروض الاستهلاكية أي التي يقترضها ذوو الحاجة الملحة ويؤدونها أضعافاً مضاعفة، أما القروض الإنتاجية التي يقترضها الموسرون للتشغيل في مشروعات إنتاجية- صناعية أو تجارية أو زراعية تدر عليهم ربحاً وفيراً، فليست الفائدة المؤداة ربا محرماً لعدم توافر معنى إستغلال حاجة المحتاج. ([140]) والجواب عن ذلك:

أولاً: إن الأحكام الشرعية لا تعتمد على الحالات الخاصة والمضطربة؛ ولأن أضرار الربا كثيرة، فان الشريعة لم تحرمه فقط، بل وحرمت كل الأبواب التي تفضي إليه..

والربا كما الزنا، وأخطر منه، إذا سمح لـه المجال إكتسح الساحة. ألا ترى كيف حرّم الدين الحنيف التبرج والنظر الى النساء، وأوجب الحجاب والاستيذان وسنّ عشرات الأحكام التي تساهم في منع إنتشار الزنا وزعزعة الكيان الأسري؟ ثانياً: ليس الرأسمال كل شيء في الإستثمار، وإنما عمل الإنسان والتوفيق يلعبان دوراً أساسياً فيه. ونعني بالتوفيق؛ الظروف المساعدة التي لا يستطيع حتى أفضل الخبراء معرفتها مسبقاً والتنبؤ بها، فكيف بعامة الناس. فأنت تقترض مثلاً عشرة آلاف دولار بفائدة ثابتة لكي تستثمره في إستصلاح أرض وزراعتها، وتجتهد نفسك في هذا السبيل. فهل تضمن أن يكون الموسم موسماً زراعياً حسناً؟ كلاّ؛ فإذا منعت السماء قطرها وتحطمت آمالك فإنك لست فقط مديون بعشرة آلاف دولار، بل وأيضاً بفائدتها. حسناً أنت والذي أقرضك تعيشان في بلد واحد، والجفاف يضرب هذا البلد وأنت عملت وهو قد أعطاك ثروته، فلماذا تتحمل أنت دونه ضرر الجفاف، أما هو فيبقى يجني الثروة ويضاعفها دونك؟ من هنا عجزت المدارس الاقتصادية في تبرير الفوائد الثابتة، واختلفت الأنظمة في العالم في تحديدها..

وأقوى تبرير قدمه البعض للربا ما يذكره الكاتب الشهير أبو الأعلى المودودي في كتابه الربا، حيث يقول: إن تحريم الربا شيء يتعلق بالعواطف أكثر مما يتعلق بالحقيقة، بل لا علاقة لـه بالحقيقة أصلاً، وأن ليس إقراض أحد غيره شيئاً من المال دونما شيء من الربا إلاّ سماحة خلقية قد شط الدين وجاوز حد الفطرة، إذ طالب بها الناس بمثل هذه الشدة والتأكيد. وإن الربا شيء معقول من الناحية المنطقية، وأمر نافع لا مندوحة عنه للإنسانية، وإنه لا يقبل أي إعتراض من الناحية الاقتصادية. ([141]) هذه خلاصة التبرير الذي يقدمه النظام الاقتصادي القائم على أساس الربا اليوم، ولنا عليه ملاحظات شتى:

أولاً: لا يمكن فصل الاقتصاد عن سائر شؤون البشر، حيث إن الإنسان كل لا يتجزأ، ونظرتنا الى الإنسان تؤثر في نظرتنا الى الاقتصاد..

وأهم ميزة للانسان حياته الاجتماعية، وإنما قامت الحضارات الشامخة في تاريخه على قاعدة القيم الاجتماعية، فإذا نزعناها فإن أسس بقاء الإنسان فوق هذا الكوكب يتزعزع، بل وينهار. واليوم مع تقدم العلم وتنوع وسائل الفتك الجماعي وازدياد وسائل القهر والابتزاز، تزداد الحاجة إلى الخلق الكريم. والإحسان صفة إنسانية لا يمكن بقاء البشر من دونه.

والإحسان يبدء من إهتمام الوالدين بالطفل، وينتهي الى إحساس كل فرد بضرورة مساعدة المحتاج. وإذا كنت تملك فائض الثروة (ويسمى بالعفو في لغة القرآن) وكان غيرك يحتاجها، فمن واجبك الإنساني أن تعطيه؛ سواءً إنفاقاً أو قرضاً.

ومن العجب إن الدول الرأسمالية تفرض على رعاياها مبالغ طائلة من الضرائب، وهي لا تعترف بواجب الإحسان.

ثانياً: في مجتمع يحرم الربا تبقى ثروات عائمة كثيرة، فإما تجد طريقها الى التجارة أو المضاربة، أو تختزن لحين الحاجة. فما أجملها أن نقضي بها حاجة الفقراء والمنكوبين، لماذا لا؟ وهم نعم الحفظة للثروة، أوَ ليسوا أفضل من صناديق الحديد؟ قد يقال إذاً نخاطر بها عندهم، إذ قد تذهب أدراج الرياح. نقول: بلى؛ ولكنها لا تذهب عند الله الذي قال سبحانه: «يَمْحَق الله الرِّبا وَيَرْبي الصَّدَقَات». والإنسان إذا دفع لأخيه قرضاً ثم لم يستطع الوفاء به، يمكنه أن يعتبره زكاة ماله. أوَ ليس الواجب عليه دفع شيء من ماله زكاة؟ ثم يمكن للمقرض أن يستوثق من المدين قبل دفع الدين له بالرهن أو الضامن أو أي نظام آخر.

ثالثاً: لقد إستمرت الحضارة الإسلامية قروناً متطاولة، وقد إتسعت رقعة نفوذها حتى شملت شعوباً كثيرة في أربعة قارات، وكان اقتصادها خالياً من الربا، بل ومما يؤدي الى الربا من الذارئع المختلفة، وكان اقتصاداً مزدهراً مما دلّ على أن الربا لم يكن ضرورة في البنية الاقتصادية.

رابعاً: لقد سبق الحديث أن الربا يوقف حركة النمو في المجتمع، لأنه يكرس الطبقية، ولأن الفقراء يزدادون بسببه فقراً، ولذلك فهم يفقدون القوة الشرائية، وبالتالي لا يساهمون في النمو الاقتصادي. بينما القرض يسبب في تنشيط الدورة الاقتصادية في البلاد، ويزداد الفقراء غنى، ولا يبخس الأغنياء حقهم.

وكلمة أخيرة؛ الحديث عن الربا ودوره السلبي، والقرض الحسن ودوره الإيجابي، حديث مفصّل ونكتفي في هذه الدراسة بما أسلفنا، عسى الله أن يوفقنا للمزيد من البحث في مناسبات أخرى، والله المستعان.

القسم الثالث: شرائط الصيغة في العقود

للعقد شروط، ويتصل بعضها بصورته الخارجية (صيغته)، وبعضها بمحتواها الداخلي (محل العقد)، والثالث بطرفيه (المتعاقدين).

وفي هذا القسم نبحث عن صيغة العقد التي اشترطوا فيها شرطين رئيسين؛ الأول: التخيير وعدم تعليق العقد على أمر يفقده شرط الرضا والعزم والإرادة التالية. الثاني: التعبير، والذي فصّل الفقه فيه القول.

ولكن ما يهمنا فيه البحث عن العقد العملي، الذي يفقد اللفظ ويكتفى فيه بالفعل، والذي يسمى بالمعاطاة. وهكذا نتحدث هنا عن المعاطاة بعد الحديث عن الأصل في الشروط عند الشك والله المستعان.

صيغة العقد

أهم سؤال في هذا الحقل عن حاجة العقد الى مُظهر من قول أو فعل أو كتابة أو إشارة، وقد استدل على ضرورة إظهار العقد القلبي بمظهر من أي نوع كان، بما يلي:

أ- إن العقد هو العهد الشديد والعزم الراسخ، أو بتعبير حديث: إلتزام. ومن دون مُظهر لـه لا يتحقق، بل يبقى أشبه بأمنية أو رغبة أو وعد.

وهذا الدليل غير كاف، إذ قد ينعقد القلب بما لا يظهره المرء؛ مثل النذر والعهد. قال الله سبحانه على لسان النبي زكريــا عليه السـلام: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ اُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً» (مريم/26) وقد ذهب الشيخان والقاضي وابن حمزة من علمائنا السابقين عليهم الرحمة الى إنعقاد النذر والعهد بالضمير دون اللفظ، واستدل لهم: بأنهما عبادة والأصل في العبادة الضمير والاعتقاد، لعموم قوله صلى الله عليه وآله: إنما الأعمال بالنيات. وإنما للحصر والباء للسببيّة، وذلك يدل على حصر العمل في النية، فلا يتوقف على غيرها. ([142]) ب- بالاجماع، حيث قال صاحب كتاب العناوين بعد أن بين ضرورة المظهر للعقود، قال: ولا خلاف لأحد فيما ذكرنا، وهو الحجة القاطعة مضافاً الى أصالة عدم ترتب الآثار. ([143]) ج- بأصالة عدم ترتب الآثار من دون مظهر من قول أو فعل. وجاء في الحديث: إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام. ([144]) أقول: إن كانت الأدلة العامة التي شرعت العقد شاملة للعقد القلبي، فلا مجال لأصالة عدم ترتب الآثار، بل الأصل عدم إشتراط المظهر.

وكذلك الإجماع المحكي ليس بحجة في هذه المسألة الفرعية، التي لم يتعرض الجميع لها. ولكن مع ذلك فإن صدق العقد الذي يعتمد على التراضي من دون أي مظهر، غير واضح. والشك في ذلك كاف في وجوب إشتراطه، لعدم إمكانية الرجوع الى العموم والاطلاق مع الشك في شمول كلمة العقد لمثله.

بلى؛ كلما صدق عليه العقد عرفاً، إنطبقت عليه الأدلة العامة، وهو يصدق عادة مع أقل مظهر ومع أي نوع من المظهر؛ لفظاً كان أو فعلاً أو إشارة أو كتابة، بل حتى ولو كان سكوتاً في مقام يرد من يريد الرد فإنه قد يكون تعبيراً عن القبول؛ مثل سكوت البكر بعد عرض الزواج عليها، فإنه يدل على رضاها إذا منعها الحياء عن الإفصاح بالقبول.

وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري: وقد يكون مجرد السكوت في أحوال خاصة من مظاهر التعبير. ([145]) وفي بعض العقود تتأكد أهمية صورها؛ مثلاً في عقد النكاح إشترطوا وجود ألفاظ خاصة وصريحة، وذلك للاهتمام الشديد في الشرع بقضية النكاح وبناء الأسرة.

وكذلك الطلاق فإن الشهادة فيه شرط تحققه، حيث قال الله سبحانه: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَاَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً» (الطلاق/2) وكذلك الشهادة في الوصية، حيث يقول سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَاَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا َنَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّآ إِذاً لَمِنَ الاَثِمِينَ» (المائدة/106) ونستوحي من الذكر الحكيم ثلاث بصائر في صورة العقد (وصيغته)، وهي:

1- الاهتمام بالقسط. فكلّما توقف عليه القسط والعدل (وإيتاء كل ذي حق حقه) وجبت مراعاته، وذلك لما علمنا من الشرع من قيمة القسط، وأيضاً لما أمرنا به الرب في المعاملات، حيث قال سبحانه: «وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ» (البقرة/282)

/ 29