وتختلف المعاملات في ذلك إختلافاً فاحشاً، فبعضها يتوقف إقامة القسط فيها على الدقة فيها (بالكتابة أو الإشهاد)؛ مثل المعاملة على العقارات الكبيرة فلا يترك، وبعضها يخشى من ضياع الحق من دون التدقيق؛ مثل المعاملة على السيارة فينبغي ذلك (ويستحب)، وبعضها لا يتوقف عليه مثل المعاملة على أمر يسير يداً بيد، فلا يجب ولا يستحب.ويبدو لي إن على الفقهاء أن يصدروا أحكاماً خاصة في الموارد المختلفة، حسب شهادة الخبراء بمدى توقف القسط على التدقيق.2- الاهتمام بالشهادة، حيث قال سبحانه: «وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ » (البقرة/282) ولعل معناها ان تكون المعاملة من الوضوح بحيث يمكن الشهادة عليه، فلا يكون غامضاً أو معتمداً على حسن النية من الطرفين.ويبدو أن الوضوح هو طريق إقامة القسط، فاذا اختلفا وكان العقد مكتوباً، أمكن الإستشهاد بالكتابة عليه.ويمكن أن نستفيد من الآية ضرورة الصراحة في كلمات العقد. أما نسبة هذه الصراحة الضرورية شرعاً، فهي بنسبة توقف الشهادة عليها. ولأن ضرورة إمكانية الشهادة تأتي من ضرورة القسط، فإن الواجب منها هو المقدار الذي يتوقف عليه القسط.3- الاهتمام بنفي الريب، حيث قال سبحانه :« وَأَدْنَى اَلاَّ تَرْتَابُواْ» (البقرة/282) ولعل نفي الريب هدفه إقامة المعاملة على الثبات والاستقرار، ونفي أسباب الخلاف في المجتمع، وهو بدوره- وسيلة لاقامة الشهادة وتحكيم العدالة. وقد ذهبت المدرسة الألمانية في فقه القانون الى أن العقد ظاهرة إجتماعية وقانونية، ومن هنا اعتمدوا الإرادة الظاهرية وفضّلوها على الإرادة الباطنية.وبنــاءً على تفسيرنا لهذه الكلمة تكـون في الآية إشارة الى ذلك، والفقيه الخبيـر بالظــــروف الاجتماعية يتمكن من بيان الوسائل الكفيلة بدرء خطر النـزاع واشاعة الريب في المعاملات. إلاّ أننا نتصور إن كثيراً من الأحكام الشرعية التي بينها الفقهاء في المعاملات، هدفها إبعاد خطر النـزاع وما يفسد العلاقات الاجتماعية.ومن هنا قال في الجواهر: إن المعاملات شرعت لنظام أمر المعاش المطلوب لذاته، ويتوقف أمر المعاد عليه، ([146]) وهي مثار الاختلاف ومنشأ التنازع والترافع. فوجب ضبطها بالأمر الظاهر الكاشف صريحاً عن المعاني المقصودة بها من العقد والحل والربط والفك ، وإلاّ لكان نقضاً للغرض الداعي الى وضع المعاملة واثباتها في الشريعة. ([147])
الأصل في الشروط
وبالنسبة الى سائر الشروط التي قيد بها البعض صورة العقود، فإن الأصل عدم إشتراطها، اللهم إلاّ أن يثبّت بنص صريح أو يكون مقدمة لتحقيق العدالة، واقامة الشهادة، ودرء الريب، وبالتفصيل الذي قدمناه. ([148]) وقد أسهب الفقه الاسلامي -كما القوانين الوضعية - في تحديد صورة العقود (صيغتها) وبيان الأحكام والأنظمة التي ترسم حدودها. وبالرغم من إن بعضها خاضع للظروف التي تحيط بالعقود، وبالتالي فهي من متغيرات الفقه التي لا بد من الرجوع فيها الى فتاوى الفقيه وأحكام القضاء، وكذلك الى اللوائح القانونية التي تتطور من عصر لعصر ومن بلد الى بلد.بالرغم من ذلك، إلاّ أن أكثرها أصبحت ثابتة، وتحولت الى عرف سائد في المعاملات. ومن هنا فإنا نستعرضها فيما يلي، ولكنا نؤكد مرّة أخرى إن بالإمكان تطوير قسم منها إذا دعت الحاجة إليها على أن نراعي عند تطويرها البصائر والحكمة التي استوحيناها من نصوص الوحي. وهكذا يمكن أن يضيف الفقيه أحكاماً جديدة إستناداً الى تلك البصائر.ولأننا قد ذكرنا أصول الأحكام الشرعية في العقود وبصائرها، فاننا لا نخوض عند بيان الأحكام في التفاصيل ونقتصر على ذكر رأينا في الأحكام، على أن هناك آراء أخرى لسائر الفقهاء يمكن مراجعتها في الكتب الفقهية المفصَّلة.1/ عقد البيع وغيره من المعاملات إيجاب وقبول، ويكفي فيهما كل ما يدل عليه من قول أو إشارة أو كتابة؛ مشافهة أو عبر الهاتف، أو عبر الفاكس والانترنيت، أو اية وسيلة أخرى.ويكفي أن يكون التعبير عن العقد ظاهراً في المقصود عند الطرفين، كما يكفي التوقيع على عقد المعاملة، كما يكفي العقد بأية لغة، ولا يجب أن يكون بصيغة الماضي؛ مثل بعت، بل يصح المضارع مثل أبيع. ولا يضر اللحن الذي لا يغير المعنى.2/ ينبغي أن يسبق الإيجاب القبول، ولكنه لا يجب إذا أفاد الكلام المعنى؛ مثلاً إذا إشترى شخص البيت ولكن المشتري وقع العقد قبل البائع، صح.3/ لا بد أن يتصل القبول بالإيجاب عرفاً حتى يعتبر عقداً، أما إذا وقع بينهما فصل طويل يتنافى عرفاً مع حالة التعاقد، لم ينعقد .بلى؛ إذا كانت خصوصية التعاقد تقتضي مثل هذا الفصل فلا بأس، كما إذا أجرى الموجب صيغة العقد بلغة لا يعرفها المشتري ثم قبل المشتري بعد أن ترجمت لـه، كفى . كذلك لو أرسل الموجب العقد بالبريد ليوقعه المشتري فلما وصل اليه وقعه بعد أن درسه جيداً أو إستشار آخرين، صحّ.والمعيار هو أن يعتبر العرف عملهما متصلاً ببعضه. أما إذا انفصل عن بعضهما - مدة لم يعتبر العرف القبول رداً على الإيجاب - بطل.وفي هذا الأمر يمكن للفقيه الإستيناس بالأنظمة الحديثة باعتبارها وسيلة الى فهم العرف، وفـي هذه الأنظمة اعتبر مجلس العقد معياراً، حيث يقول د. السنهوري: إذا كان التعاقد بين حاضرين في مجلس واحد، ولم يقترن الإيجاب بأجل للقبول، ([149]) فان الإيجاب يبقى قائماً، _ويجوز أن يقترن بالقبول _ مادام مجلس العقد لم ينفض، فاذا إنفض سقط الايجاب وامتنع القبول. ([150]) ومراده من مجلس العقد ما بيّنه تالياً: إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد، دون أن يُعيَّن ميعاد للقبول، فإن الموجب يتحلل من ايجابه إذا لم يصدر القبول فوراً. ([151]) ويشرح لاحقاً معنى مجلس العقد في القانون: وليس الملحوظ فيه (مجلس العقد) المعنى المادي للمكان، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلين بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر. ([152]) ويستنتج من ذلك بأنه لم تعد الفورية في القبول لازمة، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد، ويبقى الموجب على ايجابه. ([153]) ويلحق بالمجلس كل إتصال؛ سواءً بالهاتف أو الفاكس أو البريد الالكتروني (ايميل) أو ما أشبه.هذا في العقد بين حاضرين، أما إذا كان بين غائبين فالمجلس يبدء من حيث وصول الاتفاق بيد الطرف الثاني. ويقول القانون في هذا الشأن: وإذا صدر الإيجاب لغائب دون أن يُحدَّد ميعاد للقبول، فإن الموجب يبقى ملتزماً الى الوقت الذي يتسع لوصول قبول يكون قد صدر في وقت مناسب وبالطريق المعتاد. ([154]) 4/ والتطابق بين الايجاب والقبول شرط في العقد. فلو تم إيجاب البائع على بضاعة أو بشرط معين، بينما قبل المشتري بضاعة أخرى أو بشرط آخر، فإن العقد لا يكتمل.والمعيار هنا أيضاً العرف؛ فإن العقد الذي لا يتراضى طرفاه على شيء واحد، لا يعتبر عقداً عند العرف، إلاّ إذا كان الإختلاف في بعض التفاصيل غير المهمة عند الطرفين، بحيث يتم في الواقع تراضيهما وتوافق ارادتيهما.وفي مسألة عدم توافق الارادتين، يقول د. السنهوري وهو يبين معنى الغلط المانع: كما إذا أعطى شخص لآخر نقوداً على أنها قرض وأخذها الآخر على أنها هبة، أو في ذاتية المحل كما لو كان شخص يملك سيارتين من صنفين مختلفين فباع أحديهما، والمشتري يعتقد أنه يشتري الأخرى، أو في السبب كما إذا إتفق الورثة مع الموصي لهم على قسمة العين الشائعة بينهم ثم يتضح إن الوصية باطلة. ([155]) ولكن إذا كان الإختلاف في الأمور القانونية، فالأمر مختلف.وتأسيساً على ضرورة التوافق بين الايجاب والقبول، قال الفقيه السبزواري: لو قال البائع بعت هذا من موكلك، فقال الوكيل: اشتريته لنفسي، لم ينعقد. ([156]) بلى؛ لو كان قصده البيع لشخص من دون خصوصية للوكيل والموكل صح العقد. ([157]) ولو قال: بعتك هذا بألف، فقال: إشتريت بعضه بألف أو بخمسأة، لم ينعقد. ([158]) وهنا نقول أيضاً: لو كان البائع يريد بيع كل واحد بدينار مثلاً دون أن يختلف عنده الحال بأن يبيع ألف واحد بألف أو خمسأة بخمسمأة أو أقل أو أكثر، فان البيع ينعقد. بلى؛ ظاهر الكلام لا يدل على ذلك، بل علينا مراجعة القرآئن، وطبيعة المعاملة وعرف السوق، من أجل معرفة نية البائع.والقانون الحديث يرى القبول غير الموافق للايجاب نوعاً من الإيجاب، ويعتبر رد البـائع قبــولاً لـه. يقول د. السنهوري: أما إذا كان (القبول) غير مطابق لـه (للإيجاب)، بل إختلف عنه زيادة أو نقصاً أو تعديلاً، فإن العقد لا يتم، ويعتبر مثل هذا القبول رفضاً يتضمن إيجاباً جديداً. ([159]) ثم قال: وهذا الحكم هو الذي تنص عليه المادة 96 من القانون الجديد، إذ تقضي بما يأتي: إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو تقييد منه أو يعدل فيه، اعتبر رفضاً يتضمن ايجاباً جديداً. ([160]) ونحن بدورنا نؤكد على ما أسلفنا من أن ذلك إنما يتم إذا كان اقتراح القابل يتنافى مع إرادة البائع، وأما إذا انسجم مع جوهر إرادته أمكن أن يكتفي بالقبول، وذلك إذا كان اقتراحه مجرد تغيير في الأمور القانونية التي لا تؤثر في العقد.5/ أهلية الموجب حين الايجاب، وأهليّة القابل حين القبول، إنها شرط في صحة العقد، ولكن هل إن أهليتهما شرط أيضاً في حال إنشاء الآخر؛ فلو أوجب الطرف الأول العقد، ثم نام أو جن أو مات، ثم قبل الثاني، فهل يصح العقد أم يبطل؟ وبالعكس لو افترضنا أن العقد كان غيابياً وأوجبه الطرف الأول في حال جنون الطرف الثاني، ولكنه أفاق وقبل، فهل يصح العقد؟ إختلف علماؤنا في هذه المسألة، كما إختلف علماء القانون الحديث، ومنشأ الإختلاف عدم معرفة صدق العقد على مثل هذه المعاملات..من هنا ذهب الشيخ الأنصاري (قدس الله سره) الى بطلان العقد، بينما رأى العلامة الايرواني (رحمه الله) الى صحة العقد، أما السيد الطباطبائي (رحمه الله) فقد إشترط في بعض فروع المسألة أن يكون القابل كامل الأهلية عند إنشاء الموجب، بينما ذهب السيد الحكيم (رحمه الله) الى إشتراط أهلية الموجب عند إنشاء القبول. ([161]) وذهب الفقيه السبزواري (رحمه الله) الى أن القابل إذا كان واجداً للأهلية عند الإيجاب، ثم فقد الموجب الأهلية عند قبوله، إنعقدت المعاملة. ([162]) أما المرجع الشيرازي (حفظه الله) فهو يرى صحة العقد في كل الصور.وكما إختلف فقهاؤنا، كذلك إختلفت المدارس القانونية؛ فالمدرسة الألمانية والسويسريــة ذهبتـا الى صحة العقد، بينما المدرسة الفرنسية رأت بطلانه، وإختار القانون الإيراني هذا الــرأي. ([163]) وكل الآراء تقريباً تعتمد على معيار واحد هو؛ إن مثل هذه المعاملة هل هي عقد عرفاً أم لا؟ ونحن نرى إن الأعراف تختلف، ولهذا ينبغي أن نراجع القضاء في كل واقعة واقعة لكي نستنبط رأي العرف الخاص بكل عقد عقد وبظروف المتعاقدين لمعرفة صحة العقد أو بطلانه. وفي بعض المعاملات قد يصدر القاضي حكماً بالصلح.ومع صدق العقد عرفاً ورضا الطرفين المسبق به، لم نجد في الشرع دليلاً على بطلان العقد..6/ وقد يستغنى عن القبول اللفظي بما يقوم مقامه من سكوت، أو فعل، أو إذعان، أو ما أشبه. والمعيار في ذلك كله وجود ما يدل على إرادة الالتزام غير القول. ومادامت الإرادة (النية) قد وجدت وقد ارتبطت بالإرادة من الطرف الآخر (الموجب)، فقد إكتملت المعاملة وصدق أنها عقد أو بيع أو تجارة عن تراض. ولأن هناك دلالة كافية من غير اللفظ على الرضا، فإن الإبهام يزول ولا يبقى محل للارتياب.والموارد التالية التي نضربها كأمثلة لهذه الحالة، نستفيدها من الأنظمة الحديثة باعتبارها نافذة على العرف؛ والأمثلة هي التالية:ألف: إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف التجاري أو الظروف المحيطة تدل على أن السكوت يكفي قبولاً، كما إذا ارسل المصرف كشفاً لعميله وذكر فيه أن عدم الاعتراض يعد إقراراً لـه. أو كان تعامل سابق، كما إذا إعتاد عميل إستيراد البضائع التي يريدها من تاجر بالكتابة اليه فيرسل له التاجر ما يريد دون أن يؤذنه بالقبول.وبتعبير الفقهاء: إذا كان السكوت في مقام البيان ذا دلالة على القبول ([164])، ومنه سكوت الشخص بعد أن يهب له الآخر شيئاً مما يدل على رضاه بالقبول.باء: كذلك قد يقوم تنفيذ العقد عملياً مقام قبوله، كما إذا عرض أحد بضاعته عليك.. فأخذتها وقدمت له ثمنها دون أن تصرح بالقبول. ([165]) جيم: في عقود المزاد جرى العرف أنه عندما يرسو المزاد على شخص يعتبر ذلك قبـولاً منــه. ([166]) والواقع إن المشتري - في هذه الحالة - كان قد قبل بالصفقة قبل ايجابها، وذلك عند إشتراكه في المزاد. وهكذا يعتبر هذا العقد من مفردات تقديم القبول على الايجاب الذي سبق أنه ممكن.دال: في عقود الاذعان حيث لا يسع الفرد إلاّ القبول به؛ مثل عقود المواطنين مع دوائر الكهرباء والماء والهاتف وما أشبه، يعتبر القبول نوعاً من الاضطرار، حيث إن رفض هذه العقود يعرض المواطن لأخطار. ومن ذلك العقد مع مصلحة سكك الحديد ومع الخطوط الجوية ومع البريد والهاتف وشركة الغاز وما أشبه. ([167]) ومجرد عدم رفض هذه العقود يعتبر قبولاً من المواطن لكافة التفاصيل المذكورة في العقود، ولا مناص لـه منها أبداً.والواقع إن عقود الاذعان حالة وسطية بين العقد الفردي والعهد الاجتماعي، حيث إن قبول المواطن للحياة العصرية يفرض عليه القبول بمثل هذه العقود. وطريقة مواجهة الحيف فيها، هي وسيلة مواجهة الحيف السياسي خصوصاً في الدول ذات الأنظمة الشمولية.هاء: ومثل عقود الاذعان، العقود النموذجية التي تضعها الجهات الرسمية لبعض المعاملات؛ مثل عقد الايجار للمساكن، وعقد النكاح، وعقد الاستخدام في الشركات وفي المصانع وما أشبه. فإن على الفرد إما الاستجابة لكافة الشروط الرسمية، وإما رفضها. وباعتبار إن الرفض غير واقعي لحاجته اليها، فإن الاستجابة لها قبول منه لها.والواقع إن القبول بالشروط المذكورة في هذه العقود، إنما هي أنظمة وأعراف وشروط ضمنية لها قوة القانون، وهي من الناحية الشرعية غير ملزمة إلاّ إذا إتفق الطرفان عليها، أو اقتضتها الضرورات الاجتماعية حسب تشخيص أولياء الأمر الشرعيين.
عن أحكام المعاطاة
1/ عقود التعاطي لا تحتاج الى التعبير اللفظي، وقد سبق الحديث ([168]) عن ضرورة إظهار العقد (الذي هو إلتزام باطني) بقول أو بفعل. وإن العقد الذي لا يعبر عنه بمظهر، غير صحيح على الأرجح. ولكن طائفة من فقهائنا اشترطوا اللفظ في العقود، فقال المحقق الحلي: ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإن حصل من الامارات ما يدل على إرادة البيع، سواءً كان في الحقير أو الخطير. ([169]) ونقل العلامة النجفي في شرحه الإجماع على هذا الرأي، ولكنه نقل عن الشيخ المفيد في المقنعة قوله: ينعقد البيع عن تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع لـه إذا عرفاه جميعاً، وتراضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان. ([170]) ثم حكى عن المحقق الكركي قوله: المعروف بين الأصحاب أنها أي المعاطاة بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم. ([171]) ولكننا نرى أن المعاطاة بيع ولازم، وهي جارية في كل العقود إلاّ ما استثني مثل النكاح والطلاق. ([172]) أما القانون الوضعي فقد ذهب بعض الأنظمة الى أن التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالاشارة المتداولة عرفاً، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكاً في دلالته على حقيقة المقصود. ([173]) واليوم أضيفت الى الكلام والتعاطي بصفتهما معبِّـرين عن العقود أمورٌ أخرى؛ مثل التوقيع وبصم الأصابع ووضع الإعلان في الصحف وما أشبه. ومادام العرف يرى كل هذه الوسائل ذات دلالة واضحة على العقد (الذي هو إلتزام إرادي)، فانها كافية.ولا بد من بيان هذه الحقيقة؛ ان تمايز العقود عن بعضها ومستلزمات كل عقد منها يقتضي توضيح آفاق التراضي، سواءً باللفظ أو بالكتابة أو بالاشارة الى اتفاقات معلومة عند الطرفين، حتى لا يقع الخلاف .وقولنا بالاكتفاء بالتعاطي، لا يعني تمييع الحدود بين أقسام العقود، وفتح باب المنازعات.2/ ولأن الحياة قد تعقدت، ولان هناك ثغرات كثيرة في بعض العقود قد سببت في مشاكل، فإن العرف قد وضع لوائح وأنظمة لمختلف العقود المهمة، ولحدود الالتزام فيها. ومن هنا فإن من الأفضل رعايتها من قبل الأطراف، وذلك باحالة توافقهم على ما هو المعهود. كما أن الفقه الاسلامي ينبغي أن يدرس هذه الأنظمة ويقرر ما هو الواجب إتباعه منها، وما هو المحبّذ إتباعه.ولا يمكننا اليوم أن نكتفي بما سبق، وإن بيّنه الفقه في حدود المعاملات، ونحكم بأن غيرها لا يجب الالتزام بها، لأن الظروف اليوم غيرها في السابق. ولكي يصبح الفقه حاكماً، فعليه أن يجاري التطورات، وأن يبيّن الحكم الشرعي فيها.ومما يخفف العبأ على الفقه، إن المعاملات هي في الأكثر أمور عرفية، وأغلب الأنظمة المرعية اليوم فيها مستوحاة من العرف، أو من الضرورات التي شهد بأهميتها الخبراء، والفقه يحيل مثل هذه الأمور إليهم. ومن هنا فإن من المرجح فقهياً إتباع ما يراه العرف ضرورياً في الاتفاقات الهامة، درءً لخطر النـزاع، أو رعاية للعدالة الاجتماعية، أو إحتياطاً على حق قد يضاع. مثلاً؛ في شراء العقارات هناك أنظمة مرعية، القسم الكبير منها تبدو ضرورية؛ مثل التسجيل الرسمي مع الشهود والتوقيع، وفيها درء لخطر النـزاع خصوصاً بعد تعاقب الايدي.وكذلك في عقود الاستخدام هناك أنظمة مرعية تحتاط للعدالة ولحق المستخدم من حيف رب العمل.وفي عقد النكاح الرسمي هناك أنظمة مرعية تختلف من دولة لدولة، إلاّ أن هدفها المحافظة على حقوق المرأة (وهي الضعيفة في مثل هذا العقد). وهكذا في سائر العقود المهمة.
القسم الرابع: شروط المتعاقدين
يشترط الفقه في طرفي العقد عدة شروط تتصل بأهلية المتعاقد، وهي: البلوغ والعقل وحرية الإرادة (عدم الإكراه) والملك (حق التصرف). ويجمع الشرطين الأولين الرشد، حيث يتحقق بالبلوغ والعقل، والذي يتنافى مع صحة عقد الصبي غير المميز والمجنون، بل حتى المميز والسفيه.ويفصل الحديث عن الإكراه (عدم الرضا التام) معناه ومعياره ووسائله، وهل يعتبر الحياء نوعاً منه، وهل يصح عقد المكره اذا لحقه الرضا.ثم نتناول بحث حق التصرف أو الملكية كشرط أساسي في المتعاقد، ونتحدث عن عقد الفضولي الذي يتفضل أو يتطفل بالعقد عن المالك ونذكر أولاً علة هذا البحث وحكمة صحة عقد الفضالة، ونقسّم ثانياً من لا يملك حق التصرف بقسمين؛ المتفضل المحسن والمتطفل غير المحسن (كالغاصب) ونناقش القسم الأول، ونبحث عندئذ عن إلتزامات المتفضل، وعن مصيبة الموت لو وقعت عليه أو على صاحب الملك (رب العمل)، وعن إلتزامات المالك (رب العمل).ثم نتحدث عن القسم الثاني (عقد المتطفل)، وعن مدى تصحيح عقده، وعن أحكام ذلك العقد؛ مثل ضمانه لعين المال ومنافعه. ثم نتدرج في البحث عن الفروق بين المتفضل والمتطفل، وعن تصرف المتفضل، وعن الغرامة وكيف تلحق بالجاهل بأمر الفضالة، وما حكم العالم بالفضالة.وتبعاً لشرط الملكية نتحدث عن أحكام الشخص الذي يبيع ما يملك، وما لا يملك.وفي نهاية البحث نتحدث عن القاعدة التي استحدثت في القانون الجديد وسميت بقاعدة الإثراء بلا سبب، والتي نسميها بقاعدة نفي الظلم والضرر، حيث نتحدث عن مصدرها وأركانها ورأي الفقه فيها. والله الموفق.ثم إن شروط هذا الفصل تتصل جميعاً بالإرادة (الرضا)، والشرط الأخير هو الذي يستجمعها، حيث إن من لا سلطة لـه، لا يمكنه أن يلتزم لغيره بشيء. وسلطة التصرف قد يفقدها الفرد، لأنه طفل، أو لأنه معتوه، أو لأنه مكره (لا قرار له)، أو لأنه غير مالك للشيء ولا ولاية له عليه.ولأن هذه الشروط لا تقتصر على المعاملات فقط، بل تشمل كافة الحقول الشرعية، إبتداءً من التكاليف الشرعية (كالصلاة والصوم والحج)، فإن القدرة على التصرف شرط فيها، وهي تشتمل على تلك الشروط بصورة أو بأخرى. أقول: إبتداءً بالتكاليف الشرعية، وإنتهاءً بالأحكام (الحدود والديات)، ومروراً بالعقود والايقاعات (كالطلاق والهبة و..).ومن هنا فإن الحديث عنها ينبغي أن يكون حديثاً عاماً وفي بحث مستقل، إلاّ أننا نشير هنا الى ما يتصل بالعقود مختصراً، ونوالي الحديث عن الشروط تباعاً.
1/ البلـوغ
وقد إشترطــوه في العقـود جميعاً، ويدل على إشتراطه في المعاملات الماليـة قولـه سبحانـــه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُـوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيَّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً» (النساء/6) والآية تدل على إشتراط البلوغ، قبل ايتاء أموالهم اليهم. ومعلوم إن الايتاء هنا بمعنى السماح لهم بالتصرف فيها، مما يدل على أن الطفل محجور عليه قبل البلوغ وقبل الرشد، إذ يتأخر الرشد العقلي عن البلوغ الجسدي، إذ قد يبلغ الطفل سفيهاً ثم يرشد وقد لا يرشد أبداً.أما رشد الطفل قبل البلوغ فهو إن كان فنادر، ولا يمكن أن يكون موضوعاً لحكم عام.والذي نستفيده من الآية الكريمة؛ إن الصبي لا يكون حراً في التصرف في أمواله كما السفيه ولا يدل على أن تصرفاته لا قيمة لها أبداً، فإذا كانت باذن الولي فإنها تكون مشروعة.ومن هنا جرت سيرة المسلمين على الاستفادة من الأطفال في البيع والشراء، ولكن تحت نظارة أولياءهم، وفي حدود الإذن لهم. وقد إستدل بالسيرة هذه السيد صاحب الرياض وغيره. ([174]) ولكن المحقق الحلي قال: فلا يصح بيع الصبي ولا شراؤه ولو أذن لـه الولي، وكذا لو بلغ عشراً عاقلاً على الأظهـر. ([175]) وإستدل العلامة النجفي على ذلك بالإجماع، وبالحديث التالي المأثور عن حمران - أو حمزة بن حمران- المروي في المستطرفات: إن أبا جعفر (الامام الباقر عليه السلام) قال: الغلام لا يجوز أمره في البيع والشراء، ولا يخرج عن اليتم حتى يبلغ خمس عشر سنة. ([176]) وجاء في حديث آخر مروي عن الامام الصادق عليه السلام: أنه سئل أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى يجوز أمره ؟ قال: حتى يبلغ أشده. قال: وما أشده ؟ قال: إحتلامه. ([177]) والواقع إن هذين الحديثين يشعران بأن الطفل لا يمكن أن يكون مستقلاً في التصرف قبل البلوغ، فجواز الأمر تعبير عن نفاذ قراره.وهكذا لا يدلان على سلب عبارته، وعدم الاعتناء به أبداً. وفي فقه القانون يقسمون العقود الى أنواع أربعة بالنسبة الى الأهلية (وبالذات أهلية الصبي)؛ عقود اغتناء (كالهبة بالنسبة الى الموهوب لـه)، وعقود إدارة (كالايجار بالنسبة الى الموجر)، وعقود تصرف (كالبيع)، وعقود تبرع (كالهبة بالنسبة الى الواهب). ويرون أن الصبي المميز يمكنه مباشرة عقود الاغتناء (بقبول الهبة) وعقود الادارة (فيصبح موجراً)، وأنه لا يصلح وحده (وبلا إذن الولي) مباشرة عقود التصرف والتبرع. ([178]) ويرى القانون المصري أنه إذا كان الصبي مميزاً، كانت تصرفاته المالية صحيحة متى كانت نافعة نفعاً محضاً، وباطلة متى كانت ضارة ضرراً محضاً. وأما التصرفات المالية الدائرة بين النفع والضرر، فتكون قابلة للإبطال لمصلحة القاصر. ([179]) كما أن القانون يستثني الصبي المميز في ادارة ماله الذي كسبه من عمله الخاص متى بلغ السادسة عشرة. ([180]) ومعلوم أن هذا السن هو سن البلوغ عندنا، فالموضوع خارج عن دائرة البحث. كما ورد في السنة بجواز وصيته وعتقه وطلاقه. ([181]) والبحث عن هذه الموارد موكول بأبوابها الخاصة.
2/ المجنون ومن بحكمه
والمجنون والسكران غير المميز والمغمى عليه والنائم ممن لا إرادة لهم، لا قيمة لعقدهم حتى ولو رضي كل منهم بما فعل بعد زوال عذره . ([182]) والأصل في ذلك إن حقيقة العقود هي التراضي والإرادة المتبادلة، ومع عدم التمييز لا تكون هناك إرادة ولا قصد. ولذلك فإن عبارات هؤلاء لا قيمة لها حتى ولو لحقها الرضا، لأن الإرادة عندهم مفقودة.وفي ذلك يقول د. السنهوري: الأهلية مناطها التمييز، لأن الإرادة لا تصدر إلاّ عن تمييز، فمن كان كامل التمييز كان كامل الأهلية. ([183]) ومن نقص تمييزه كانت أهليته ناقصة، ومن إنعدم تمييزه إنعدمت أهليته. ([184]) وإذا كان المناط التمييز، فهل يعتد بكلام المجنون الذي يملك قدراً من التمييز إذا لحقه رضاه بعد الافاقة؟ الجواب: لا؛ لأن الجنون هو ضد التمييز تماماً، وافتراض تمييز المجنون هو بمثابة افتراض افاقته.ومن هنا فإن مجرد القصد لا يكفي، لأن القصد مع إنعدام التمييز مثله مثل قصد النائم، وفي ذلك يقول العلامة النجفي بعد أن يحكي الإجماع على عدم الإعتداد بعقد المجنون، يقول: لا لعدم القصد فإنه قد يفرض في بعض أفراد الجنون، بل لعدم اعتبار قصده وكون لفظه كلفظ النائم. ([185]) وقد أجاد المحقق في جعل المناط في السكران التمييز، لأن السكران قد لا يبلغ به السكر درجة فقد التمييز. ومثله المريض الذي يهيمن عليه الوجع، أو المشدوه، أو الغاضب، أو المخدّر بالبنج أو بالمخدرات، أو الذي يغالب النعاس، كل أولئك إذا فقدوا التمييز فقدت كلماتهم قيمتها الشرعية.ونستوحي هذا المعيار من قوله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ » (النساء/43) فإن المفهوم من قوله سبحانه « حَتَّى تَعْلَمُوا » انه حتى تميزوا كلامكم..ومثل هؤلاء الهازل، فإن لفظه لا قيمة لـه، لأنه لا نية معه ولا إرادة تدعمه. لذلك إستغرب العلامة النجفي من إلتزام الصحة في الهازل. ([186]) ويبدو أن بعض درجات الإكراه ملحقة بالهازل، مثل الشخص الذي يلقن الكلام تلقينا، حتى يكون كلامه بلا قصد منه، ولعل هذا النوع من الإكراه لا يدخل ضمن حديث الفقهاء عن المكره.والغفلة تلحق بالسكران، لأنها أيضاً تفقد صاحبها التمييز.ونستلهم حكم الغافل والهازل والمعتوه ومن أشبه من قوله سبحانه: «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَيْمَانَ » (المائدة/89) وفي الأنظمة الحديثة ينص القانون المدني المصري الجديد على أن المجنون والمعتوه وذا الغفلة والسفيه تحجر عليهم المحكمة. ([187]) ولكن القانون يرى أن أهلية المجنون معدومة، لأنه فاقد التمييز. ([188]) أما المعتوه فإن كان غير مميّز فتكون أهليته معدومة، شأنه شأن الصغير غير المميز والمجنون، وقد يكون مميزاً فتكون عنده أهلية الصبي المميز. ([189]) وكذلك ذو الغفلة والسفه تعتبر أهليتهما ناقصة.. ولذلك تجري وصيتهما ووقفهما بعد إجازة المحكمة. ([190]) وهكذا ربط القانون بين الأهلية وبين التمييز، فالذي لا تمييز لـه أصلاً تكون أهليته معدومة، كالصبي غير المميز وكالمجنون، بينما الذي لديه التمييز المحدود تكون تصرفاته متوقفة على إذن الولي. وهذا الربط ليس بعيداً عن قواعدنا الفقهية.
3/ الـمكـره
والمكره لا إختيار لـه، ولذلك فإن أهليته ناقصة ولا قيمة لعقده، إلاّ إذا رضي به لاحقاً. ويتحقق الإكراه بما يسلب به إختيار الفرد؛ مثل تهديده في نفسه أو ماله أو عرضه بما لا يُحتمل عرفاً (ويكون الأمر باحتماله حرجاً عليه). ومن هنا فإن الضرر اليسير، والأذى البسيط، لا يكون وسيلة الاكراه.وإنما تسلب قيمة عقده، لأن الرضا شرط، ومن دونه يكون أكل المال بالباطل أو من دون طيب النفس فيكون حراماً، والعقد باطلاً.وقد ذكر الفقهاء فروعاً كثيرة في تحقيق معنى الإكراه. ولكن لأن حالات الأفراد مختلفة، وموارد الضغط على الأشخاص متفاوتة، فالأفضل أن نجعل وجدان الفرد حاكماً عليه فيما يتصل بالإكراه، ولدى الإختلاف يمكن مراجعة القضاء، ولدى التردد في مفهوم الإكراه يمكن استفتاء الفقيه بعد بيان خصوصيات المسألة.إلاّ إن علينا أن نذكر هنا باذن الله تعالى المعيار الذي يسري في الإكراه، ونبين بعض الفروع التوضيحية.
ماهو الإكراه؟
لكي تتوضح أكثر فأكثر حقيقة الإكراه، لا بد أن نعرف الفارق بينه وبين الالجاء، وأن نعرف معياره الذاتي ووسائله المادية.
أ - بين الإكراه والإلجاء
الإلجاء هو دفع الفرد تحت ضغط شديد الى القيام بممارسة من دون إرادة؛ مثل أن توجر الخمر في حلق شخص، أو تؤخذ يده وتبصم بها على ورقة عقد، أو يضرب شخص ضرباً مبرحاً حتى يعترف ظاهراً بأمر، وهكذا.. وفي هذه الحالة لا يمكن أن ينسب الفعل الى الشخص، بل الى من ألجأه.بينما الإكراه هو إيجاد باعث للفرد على عمل بعد تهديده، وإثارة الخوف في نفسه. فالباعث كما قد يكون رغبة في خير، قد يكون رهبة من شر. والعمل في هذه الحالة ينسب الى الفاعل، ولكن يعذر عليه لوجود الرهبة.وفي ذلك يقول د. السنهوري: فالمكره ارادته موجودة، ولو انتزعت منه هذه الإرادة رهبةً، لأنه خيّر بين أن يريد أو يقع به المكروه الذي هدد به، فاختار أهون الضررين وأراد، إلاّ أن الإرادة التي صدرت منه إرادة فاسدة، لأنها لم تكن حرة مختارة. ([191]) ويقول العلامة النجفي وهو يفرق بين الإكراه والإلجاء: فالمكره القاصد للفظ ومدلوله على نحو سائر أفعال العقلاء كالمكره على الأكل والشرب ونحوهما (حكم هذا المكره) حكم الفضولي. والمكره الـذي قد جرد نفسه من قصد العقد بما يتلفظه به على وجه لم يصدر منـه إلاّ اللفظ (فعقده) باطل وإن تعقبه الرضا بعد ذلك لفوات القصد. ([192]) ولكن يشترط في الإكراه أن يكون مصدر الرهبة شخص، أما إذا كان مصدرها الضرر الناشئ من الطبيعة، فلا. مما يسمى بالاضطرار؛ كما لو أن شخصاً خاف على مريضه فباع بيته لمداواته، ولولا خوفه من موت عزيزه لما باع بيته. ولكن البيع هنا صحيح، حتى ولو تم تحت ضغط الظروف.
ب - معيار الإكراه
يبدو أن معيار صدق الإكراه هو وجود رهبة في النفس، تدفع صاحبها الى إختيار ما لا يرغب فيه لولا هذه الرهبة.والرهبة عامل ذاتي يختلف بين فرد وآخر، ومن ظرف لآخر. والعبرة أبداً بحالة المكره، فقد يكون أثر التهديد كبيراً عند شخص، بينما لا يأبه به شخص آخر.ولا فرق في التهديد بأن يتناول الشخص نفسه أو من يكون عزيزاً عليه من زوجته أو ذريته أو رفقته أو ماله وحقوقه وحتى كرامته؛ فمثلاً لو كان أحدهم يعرف سراً مهماً من تاجر، فهدده لولم يبعه بضاعته، فإنه يفضحه، مما أثار الرهبة في نفسه والخوف من شرفه وسمعته العزيزة عليه، والهامة بالنسبة اليه كتاجر، فأقدم على البيع خوفاً منه.والناس الذين يكونون أعزاء على الشخص، قد يكونون من ذوي قرابته أو لا، إلاّ أنه يعزهم، فلو هدد شخص التاجر بأنه لولم يبعه البضاعة المعينة يفضح شركاءه ممن يعزهم ويعتبر الضرر عليهم ضرراً عليه، فهنا يتحقق الإكراه.يقول د. السنهوري: ويقدر (القاضي) علاقة المتعاقد بمن يهدده الخطر، هل هي علاقة وصلت الى الحد الذي يجعل المتعاقد يتأثر من هذا الخطر بحيث تفسد ارادته، فيبطل العقد. ([193])
ج - وسائل الإكراه
قد تكون وسيلة الإكراه حسية؛ مثل الضرب والايذاء والتهديد بالقتل أو بالاعتقال أو بالتهجير. وقد تكون وسيلته نفسية؛ كالتشهير واستخدام النفوذ للطرد من الوظيفة وما أشبه.والخطر الذي يهدده به يجب أن يكون في مستوى العمل الذي يجبره عليه؛ مثلاً لو هدده بهجره لو لم يبع بيته، ولم يكن في هجره له كبير ضرر عليه، فإنه لا يعتبر إكراهاً، لأن بيع بيت السكن لا يقدم عليه الفرد بسهولة. بلى؛ لو قال لـه إما أن تبيعني قلمك أو أهجرك، وكان صديقاً عزيزاً عليه، وكان لهجره له أذىً نفسياً لـه، فقد يعتبر ذلك إكراهاً له عند العرف.كذلك لا يسمى إكراهاً لو قال إما أن تتزوج إبنتي أو أتهمك بأنك معقد. فإن تقبل هذه التهمة أهون عليه من الإبتلاء بزوجة لا يرتضيها.وفي هذا السياق يقول الأستاذ الكبير الشيخ كاشف الغطاء: إن الأحوط مراعاة التعادل بين ما يخاف على الناس، وبين ما يخافه على نفسه، وإن كان الأقوى عدم وجوبها. ([194]) ولكن العلامة النجفي جعل معيار الإكراه في كل مورد معياراً واحداً، حيث قال: ليس هو (الإكراه) إلاّ الإلزام والإلجاء من المتسلط الذي يخشى منه على النفس والمال والعرض أو أحدها على وجه لا يتحمل عادة. ([195]) أقول: يبدو أن العرف شاهد إن الإكراه في كل مورد يختلف باعتبار ما يهدد به الظالم وما يأمر به. ومن هنا فقد نفوا الإكراه في الدماء، وجاء في الحديث المشهور: لا تقاة في الدماء.
د - الإكراه للحق
وهنا سؤال: هل يجوز الإكراه للحق؛ كأن يطالب الدائن المدين بالرهن ويهدده بأنه إن لم يفعل فإنه يقدمه للمحكمة، فهل يبطل عقد الرهن لأنه قد أوقعه المدين تحت ضغط التهديد؟ يقول العلامة النجفي: صرّح غير واحد بالصحة معه. ([196]) ويرى القانون أيضاً ذلك، حيث يقول د. السنهوري: إذا كانت الوسائل مشروعة فـي ذاتهــا ويراد به الوصول الى غرض مشروع، بأن يضغط شخص على إرادة شخص آخر من طريق المطالبة بحق لـه عليه، ولا يقصد بهذا الضغط إلاّ الوصول الى حقه، فلا يبطل العقد للإكراه. ([197]) وقد ناقش العلامة النجفي في هذه المسألة بوجهين؛ الأول: إن للسلطة إجبار من عليه الحق بأن يعقد العقد عليه من دون دخالة منه في ذلك.. فلماذا الإكراه؟ الثاني: إن العقد الذي يقدم عليه الفرد المكره لا قيمة لـه، لأنه يجري بدون رضاه، فما فائدته؟ ويمكن أن نجيب عليهما بما يلي :أولاً: لا توجد دائماً سلطة تكره المماطلين، وليس لأحد غيرها ممارسة الإكراه، فما العمل؟ ثانياً: إرادة المكره ليست عديمة الفائدة ولكنها ناقصة، والحق يكملها. والمسألة بحاجة الى تمحيص أكثر.
هـ - الحياء أو الشوكة الأدبية
هل العقد الذي يجريه الفرد حياءً باطل، كالذي يمارس عليه أبوه أو زوجته أو رئيسه أو مسؤوله الحزبي أو قائده، يمارس عليه أحد هؤلاء الضغط حتى يضطر الى إيقاع عقد، (مثلاً عقد الزواج ممن لا يرتضيه)، فهل العقد باطل؟ الجواب: إبطال العقد بحاجة الى إنعدام الإرادة، والإرادة في مثل هذه الحالة موجودة، وبواعثها ذاتية، وليست خارجية. فهي أشبه شيء بالعقد الذي يضطر اليه الفرد، كمن يبيع بيته لمعالجة إبنه من مرض عضال.والسبب إن خضوع الإبن للأب إنما هو لأنه يحترم أباه، وليس لأنه يخاف منه. وكذلك سائر أمثلة الضغط الأدبي. من هنا فإن أكثر الأنظمة الحديثة لم يبطلوا العقد بمثل ذلك.يقول د. السنهوري: لا يكفي (النفوذ الأدبي) عادة ليكون وسيلة للإكراه، ذلك إن إستعمال النفوذ الأدبي والشوكة أمر مشروع ما دام القصد من ذلك الوصول الى غرض مشروع. ([198]) ويمكن إستثناء أمرين:الأول: إذا بلغ النفوذ درجة فقد الفرد إستقلاله تماماً، أو كان خائفاً من مغبة المخالفة؛ كالبنت التي تخشى من رفض إقتراح أبيها بالزواج ممن لا تريده، لأنها تعرف أن أباها سوف يُطلق أمها في هذه الحالة، أو سوف يحرمها من الارث، أو ما أشبه. فهنا عناصر الإكراه متوافرة.الثاني: إذا قصد صاحب النفوذ الوصول الى غرض غير مشروع، حيث إن ذلك من الإستغلال المحرم.يقول في ذلك د. السنهوري: فلا يوجد في هذه الحالة ما يمنع من الطعن في العقد بالإكـــراه. ([199]) وقد سبق منا الحديث عن الاستغلال والاضطرار فلا داعي للتكرار، إلاّ أن من المهمّ جداً تطبيق قواعد العقد الأساسية عند البحث عن أية مفردة؛ مثل التجارة عن تراض، فما كانت مشمولة بها من العقود صحت، ومالم تكن لم تصح. والله المستعان.
الرضا بعد الإكراه
المشهور بين فقهائنا إن الرضا الذي يلحق عقد المكره يصححه، بينما ناقش في ذلك البعض، ولم أجد في الوسيط للدكتور سنهوري بحثاً قانونياً في إجازة المكره. بلى؛ حديثه عن إجازة الفضولي قد يكون نافعاً في موضوع المكره، لأنهما مشتركان في النظرية. ولكن الدكتور إمامي قد تحدث عن ذلك شارحاً المادة (209) من القانون المدني الايراني، حيث يبين إن سبب صحة عقد المكره بعد الرضا هو أن القصد متوفر في معاملة المكره، ولكن رضاه المعتدل (التام) هو المفقود، وليس من اللازم تقارن الرضا والعقد، ويمكن أن يتأخر الرضا عن العقد كما في معاملة الفضولي. ([200]) والدليل على تصحيح عقد المكره، إن إرادته لم تكن فاسدة حتى لا تحتمل التصحيح، كما هي في المجنون والصبي غير المميز، بل عقده عقد ناقص يكتمل بالرضا، لأن عناصر العقد الأخرى متوافرة. فالعاقد المكره قد إلتزم بدفع السلعة في مقابل أخذ الثمن، وهو قد سلّم نفسه لمثل هذا التبادل، ولكن ليس بطيب نفسه، بسبب إن باعثه نحو هذا العمل كان إكراه المكره. تماماً كما المضطر الذي يكره نفسياً ببيع سلعته، ولكنه مجبور على ذلك بسبب ضغط الظروف، وبيعه صحيح بالرغم من ان باعثه غير مرضي عنه.لماذا بيعه صحيح؟ لأن عناصر العقد متوافرة فيه، حتى طيب النفس والرضا. بينما المكره يفقد عنصر طيب النفس الذي جعل شرطاً في حلية المال كما جاء في الحديث الشريف: لا يحل دم إمرء مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه. ([201]) وهكذا يعتبر العرف عقد المكره تجارة، ولكنه ليس عن تراض. ولقد قال سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُــمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء/29) وهكذا إشترط لحلية أكل المال أن يكون عن تراضٍ. فالتجارة من دون تراض تجارة ولكنها ناقصة، فاذا لحقها التراضي اكتملت. ومثل عقد المكره، عقد الفضولي الذي سوف نتحدث عنه إن شاء الله لاحقاً.والرضا (كما الإذن في عقد الفضولي) يمكن أن ينتقل الى الوارث، لأنه من شؤون المال فهو حق عرفاً. وللبحث تتمة نتعرض له إن شاء الله لاحقاً. ([202])
شرط الملكية وعقد الفضولي
من الشروط الواضحة للعقود أن يكون العاقد مالكاً لحق التصرف في المعقود عليه (محل العقد كالبضاعة في البيع والإيجار، والبضع في النكاح والطلاق.).قال المحقق الحلي: (ومن شروط المتبايعين) أن يكون البائع مالكاً أو ممن لـه أن يبيع عن المالك، كالأب والجد للأب، والوكيل والوصي والحاكم وأمينه. ([203]) وقال العلامة النجفي في شرحه على هذا النص: بلا خلاف أجده في شيء منها، بل الإجماع بقسميه على ذلك، بل غيره من الأدلة كتاب (كتاباً) وسنة. ([204]) والبحث عن أولياء العقد في البيع والاجارة وسائر المعاملات المالية، والعقود الاجتماعية؛ كالنكاح والطلاق والعتق وما أشبه إنه بحث واحد، نرجئه لحين آخر. إنما المهم أن نعرف إن العقد أنى كان نوع من التصرف لا يمضي إلاّ ممن لـه صلاحية التصرف، كالمالك أو وكيله أو وليه.وقال المحقق الحلي عن عقد من لا يملك حق التصرف، قال: فلو باع ملك غيره، وقف على إجازة المالك أو وليه على الأظهر. ([205]) وقال العلامة النجفي: الأشهر، بل المشهور، بل قيل كاد يكون إجماعاً. ([206]) ونبحث تالياً بتوفيق الله في ثلاثة بنود: أولاً: في حكمة صحة عقد الفضولي. ثانياً: في عقد المتفضل. وثالثاً: في عقد المتطفل.
أولاً: حكمة الفضولي
من خصائص التشريع السليم الاستجابة لمتطلبات الحياة الاجتماعية، ولأن الناس يبتلون بالعقد الفضولي كثيراً، فمن الضروري بيان وجه الصحة أو البطلان فيه. أما كيف إن الابتلاء به كثير؟ فالأمثلة التالية شاهدة عليه:قد يعقد المرء عقداً بزعم أن لـه حق التصرف فيه، ولكنه يكتشف غير ذلك؛ كما لو باع شخص سلعته يزعم أنها لـه فتبين غير ذلك، فيكون البيع فضولياً. وقد يضطر الشخص الى عقد كما لو كانت لغيره عنده سلعة تعرضت للخطر وللفساد، فلو لم يبعها لم يستفد أحد منها، فيتصرف فيها بالبيع أو ما أشبه، فيكون فضولياً. وقد يكون الشخص وكيلاً عن آخر، فباع واشترى وتصرف في المال، ثم ظهر لـه أن المالك كان قد عزله أو أنه قد تجاوز حدود صلاحيته، فيتحقق موضوع الفضولية. وفي كثير من الدعاوى التي يطول أمر البت فيها، لا يمكن تجميد الأنشطة التجارية حتى يتبين من لـه حق التصرف، فيكون من الفضولي.وهكذا كان من الحكمة تصحيح العقد الفضولي إذا لحقه الإذن من المالك؛ أولا:ً لتسهيل أمر التجارة، وتمشية المشاريع الاجتماعية. وثانياً: للجمع بين حق المالك وحق الآخرين الذين تصرفوا في المال، وربما بحسن نية، والذين وقعوا طرفاً للعقد من دون علمهم بالأمر. ثالثاً وأخيراً: لأن من مصلحة المالك قد يكون إتمام العقد، فابطاله رأساً لايخدم مصلحته، كما لا يخدم الآخرين.
ثانياً: عقد المتفضّل
التفضّل هو الاحسان، والمتفضّل هو الذي يريد خدمة من لـه حق التصرف على أن يستأذن من بعد. بينما المتطفل هو الذي لا ينوي خدمة من له التصرف، بل خدمة نفسه أو إتباعاً لهواه. ولأن الأنظمة الحديثة قد فرقت بين الشخصين، ولأن بعض الأحكام الفقهية تختلف بينهما، فكان من المناسب بحث كل في بند مختلف.ويبدو من التعبير بلفظة "الفضولي" في لسان المتشرعة، إن مبدء البحث في عقد غير المالك قد نشأ من بحث حالة المتفضل الذي هو المحسن، ([207]) ذلك لأن للاحسان أحكامه الشرعية. ([208]) والمتفضل قد يكون وكيلاً للمالك، يتصرف أكثر من حدود وكالته من أجل خدمة موكله؛ مثلاً قد يوكل المالك شخصاً لايجار دار، ولكن الوكيل يجد صفقة فورية لبيع الدار، وفي تقديره أن المالك لو علم بالصفقة لبادر الى تنفيذها، فيقدم الوكيل على ذلك مشروطاً باجازة المالك..وقد يكون المتفضل من أصدقاء المالك، ويجد أن بيته الذي بيده مفتاحه يتعرض للهدم، فيقدم على ترميمه تفضلاً وانتظاراً لأمر المالك.. أو يجد أن جاره قد عرض بيته للبيع، وأنه من المناسب جداً شراء البيت لصاحبه، فيقدم عليه.ويشترك المتفضل والطفيلي في صحة العقد بعد الاجازة حسب رأينا، والذي سوف تناقش أدلته في البند الثالث، إلاّ أن المتفضل يمتاز عن صاحبه بعدم الضمان، بل وباستحقاق الأجر في بعض الأحوال.ولقد أفاضت الأنظمة الحديثة في البحث عن المتفضل الذي يسمونه بالفضولي، وهو المحسن، ووضعت له شروطاً وقوانين، دعنا نبحث أولاً عما قالوا، ثم نذكر آراءنا في أقوالهم.1/ جاء في القانون المصري الجديد (في تعريف الفضالة): الفضالة هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشأن عاجل لحساب شخص آخر، دون أن يكون ملزماً بذلك. ([209]) وهكذا إشترط في الفضالة ثلاثة أركان؛ فورية الشأن، وأن يكون لمصلحة المالك، وألاّ يكون ملزماً بذلك.بلى؛ نصت مادة أخرى من القانون ([210]) على أنه: تتحقق الفضالة ولو كان في أثناء توليه شأناً لنفسه قد تولى شأن غيره، لما بين الشأنين من ارتباط.2/ أما حكم الفضالة، فقد رأى القانون المصري: أنه إذا أقر رب العمل ما قام به الفضولي، فحكمه حكم الوكيل. ([211]) وقد ضربوا الأمثلة التالية على ذلك؛ قبول هبة صدرت من شخص لرب العمل، وإيجار عقار مشترك شائع بينه وبين رب العمل، وبيع محصولات زراعية له مما يسرع إليه التلف، وأن يوفي ضريبة واجبة على رب العمل توقياً للحجز الاداري. ([212]) وقالوا: قد يكون الفضولي في هذه الحالات ناقص الأهلية (مثل الصبي المميز)، لأن تصرفه بالتالي بحاجة الى إذن من المالك. بلى؛ المالك حين الإذن يشترط فيه الأهلية الكاملة، لأن إذنه يكون ماضياً فور صدوره. ([213]) بلى؛ في بعض الحالات يجب أن يكون الفضولي كامل الأهلية، مثلما إذا قام بتصرف قانوني بدلاً من المالك (رب العمل) مثل أن يتعاقد مع شخص لاصلاح بيته المشـرف علىالانهيار أو مع المستشفى لانقاذ حياته التي تعرضت لخطر. ([214]) وقد إشترطوا كون العمل ضرورياً، كما قالوا أنه لا يكون فضولياً من كان يظن أنه يعمل لنفسه فإذا به يعمل لمصلحة المالك. وذلك لأنهم إشترطوا أن يكون عمله للغير عن قصد.وقد إشترطــوا أيضـاً ألاّ يكون رب العمل قد نهاه مسبقاً عن التدخل، فإنــه لا يجـــوز لـه - حينذاك - أن يتفضل بالتدخل، وإذا فعل فإنه يتحمل الاضرار التي قد تلحق به. وعلى أي حال لا يكون محسناً أو متفضلاً..وعدم النهي قد يجتمع مع علم المالك وسكوته عما يفعله لسبب أو آخر، وقد يكون منشأ عدم النهي جهله بما يجري. وعلى العموم يستثنى من ذلك ما لو أوجب تدخله حكم القانون وحكم الشرع، فإنه يجوز لـه التدخل حتى مع نهي رب العمل؛ مثلاً لو ترك الشخص الإنفاق على من تجب عليه النفقة، ونهى غيره عن الإنفاق عليه، فإنه يجوز الإنفاق عليه من قبل المحسنين. ومثله ما لو إمتنع صاحب الميت تجهزيه ونهى غيره، فإن المحسنين يجهزونه، ولهم أن يرجعوا في الحالتين الى من وجبت عليه النفقة والتجهيز إن لم يكونوا متبرعين، وقد سمى القانون هذا النوع من الفضولي بالإثراء بلا سبب.
مناقشة في الأدلة
1/ ونحن نرى إن تسمية هذا النمط من التدخل بالتفضل لا بأس به، لأن قاعدة الفضولي الأساسية كما قلنا - هي قاعدة الاحسان. ومادام الاحسان متوفراً، فإن الفضالة موجودة. والحكم في الاحسان شرعاً قد بينته آية كريمة، حيث يقول ربنا سبحانه : «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لايَجِدُونَ مَايُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى اَلْمُـحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (التوبة/91)