ولعل المراد هو الرجل الذي يحلف من دون حاجة..وقد ذكر المحدث الحر العاملي (ره) أنه يستحب للمدعى عليه باطلاً، أن يختار الغرم على اليمين. ([375]) ثم ذكـر الحديث التالي: عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام إنّ أباه كانت عنده امرأة من الخوارج (قال الراوي) أظنه قال: من بني حنيفة فقال لـه مولى لـه: يا ابن رسول الله إنّ عندك امرأة تبرء من جدّك فقضى لأبي أنّه طلّقها، فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أميـر المدينة تستعديه. فقال له أمير المدينة: يا علي إمّا أن تحلف وإمّا ان تعطيها. فقال لي: يا بنيّ قم فاعطها أربعمائة دينار. فقلت له: يا أبة جعلت فداك ألست محقاً؟! قال: بلى يا بنيَّ ولكنّي أجللت الله أن أحلف به يمين صبر. ([376]) وذكر المحدث العاملي أيضاً إستحباب إختيار الغرم على الحلف ان بلغت الدعوى ثلاثين درهماً فما دون، واستدل بالحديث التالي: عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: "إن ادّعي عليك مال ولم يكن عليك فأراد أن يحلفك فان بلغ مقدار ثلاثين درهماً فأعطه ولا تحلف، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه". ([377]) 2/ وقد سبق الكلام في مدى فضاعة الأيمان الكاذبة وكيف أنها تهدم أساس المدنية البشرية وتدع البلاد العامرة بلاقع من أهلها.. ولكن تتأكد الحرمة في اليمين الغموس التي يسعى صاحبها أكل أموال الناس بها ظلماً. وقد جاء في الحديث عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: " الأيمان ثلاث: يمين ليس فيها كفّارة، ويمين فيها كفّارة، ويمين غموس توجب النار. فاليمين التي ليست فيها كفارة الرجل يحلف على باب برّ أن لا يفعله فكفّارته أن يفعله، واليمين التي تجب فيها الكفارة الرجل يحلف على باب معصية أن لا يفعله فيفعله فيجب عليه الكفارة، واليمين الغموس التي توجب النار الرجل يحلف على حق إمرء مسلم على حبس ماله". ([378]) وقد وردت أخبار بضرورة أن تكون اليمين على قدر علم الإنسان. منها ما روي عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: "لا يحلف الرجل إلاّ على علمه". ([379]) وعن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: "اليمين الغموس التي توجب النار، الرجل يحلف على حق امرء مسلم على حبس ماله". ([380]) عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المناهي قال: "ونهى عن اليمين الكاذبة وقال: إنها تترك الديار بلاقع. وقال: من حلف بيمين كاذبة صبراً ليقطع بها مال امرء مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان إلاّ أن يتوب ويرجع" . ([381]) 3/ ولكن يجوز أن يحلف المرء دفاعاً عن حقه أمام ظالم يريد البغي عليه، ولو كان ظاهر كلامه كذباً مادام الحق معه، والأمثلة نجدها في متن الأحاديث التالية:عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام يقول وسئل عما يجوز وعمّا لا يجوز من النية والاضمار في اليمين فقال: يجوز في موضع ولا يجوز في آخر؛ فأما ما يجوز فاذا كان مظلوماً فما حلف به ونوى اليمين فعلى نيته، وأما إذا كان ظالماً فاليمين على نية المظلوم. ([382]) عن اسماعيل ابن سعد الاشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف. قال: لا جناح عليه. وعن رجل يخاف على ماله من السلطان فيحلف لينجو به منه. قال: لا جناح عليه. وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه كما يحلف على ماله؟ قال: نعم. ([383]) عن يونس عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام في رجل حلف تقية فقال: إن خفت على مالك ودمك فاحلف تردّه بيمينك، فان لم تر أنّ ذلك يردّ شيئا فلا تحلف لهم. ([384]) وعن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: "ما آمن بالله من وفى لهم بيمين". ([385]) وهكذا ألزم الائمة الأطهار عليهم السلام شيعتهم بمحاربة الطغاة بكل وسيلة ممكنة وعدم الوفاء لهم بيمين- لأن الكفر بالطاغوت شرط الإيمان الحقيقي بالله الواحد الأحد سبحانه.بل وبيّن الأئمة عليهم السلام أن في اليمين التي يسعى صاحبها نجاة نفسه أو إخوانه من المهالك، لأجراً عند الله حتى ولو كانت كاذبة في الظاهر، لأن هدفها إصلاح المجتمع.قال الإمام الصادق عليه السلام: "اليمين وجهين.. إلى أن قال: فأمّا الذي يوجر عليها الرجل إذا حلف كاذباً ولم تلزمه الكفارة فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرء مسلم أو خلاص ماله من متعد يتعدّى عليه من لص أو غيره". ([386]) وعن معمر بن يحيى قال: " قلت لأبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام إنَّ معي بضايع للناس ونحن نمرّ بها على هؤلاء العشّار فيحلفونا عليها فنحلف لهم. فقال: وددت أنّي أقدر على أن أجيز أموال المسلمين كلّها وأحلف عليها، كلّما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة، فله فيه التقية. ([387]) 4/ ولا يجوز - في حال من الأحوال أن يحلف المرء بالبراءة من دينه حتى ولو كان صادقاً. إستمع إلى الأحاديث التالية:عن ابن أبي عمير رفعه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وآله رجلاً يقول: أنا بريء من دين محمد. فقال لـه رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك إذا برئت من دين محمد، فعلى دين من تكون؟ قال: فما كلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مات. ([388]) وعن محمد بن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من برئ من الله صادقاً كان أو كاذباً فقد برئ من الله". ([389]) وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام يقول: في قول الله عز وجل «فَلآ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» يعني به البراءة من الائمة عليهم السلام يحلف بها الرجل يقول: إنَّ ذلك عند الله عظيم. ([390]) 5/ وكما لا يجوز اليمين الكاذبة، كذلك لا يجوز الاستشهاد بالله سبحانه كذباً؛ كأن يقول الإنسان الله يدري كذا وكذا وهو كاذب فيما يدعيه، حيث وردت الأحاديث بحرمة ذلك.قال الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قال: الله يعلم فيما لا يعلم أهتزَّ لذلك عرشه إعظاماً له". ([391]) وقال عليه السلام: "إذا قال العبد: علم الله وكان كاذباً، قال الله عز وجل: أما وجدت أحداً تكذب عليه غيري؟!". ([392]) 6/ ويجب تصديق اليمين بالله أنى كان الأمر، لأن في ذلك إعظاماً لله سبحانه، وتكريساً لشرف التوحيد في المجتمع الإسلامي، حيث جاء في حديث (سبق وأن ذكرناه لك) عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: "إنَّ الله عز وجل ليبغض المنفق سلعته بالأيمان". ([393]) ولا يجوز الاقتصاص من مال الغريم بعد أن استحلفه، حتى ولو كان عالماً بأن حقه عليه.عن ابراهيم بن عبد الحميد، عن خضر النخعي في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده قال: "فان استحلفه فليس له ان يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه". ([394]) ولكن إذا تاب الرجل وجاء بحقه برضاه، جاز لـه أن يأخذه من دون أن يكرهه على ذلك. هكذا نستفيد من الحديث التالي عن مسمع أبي سيّار قال: قلت لأبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام: إني كنت استودعت رجلاً مالا فجحدنيه وحلف لي عليه، ثمَّ إنه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إياه. فقال: هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ. فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ورفعت المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه حتى أستطلع رأيك فما ترى؟ فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلّله، فانَّ هذا رجل تائب والله يحب التوّابين. ([395])
الوعـد
من شرف المؤمن وكرامته عند نفسه وصدقه، وسموه، وفاؤه بوعده، كما يفي بعهده ونذره وما انعقدت عليه يمينه.والله صادق الوعد، والرسل صادقون فيما يعدون الناس، والنبي اسماعيل ضرب به مثل في صدق الوعد حين انتظر من تواعد معه سنة كاملة، وكذلك نبينا ذو الخلق العظيم كان في منتهى الصدق بوعده، أفلا نقتدي بهم؟الايمان وصدق الوعد
1/ على المؤمن أن يتخلق بأخلاق ربه المجيد، والله يصدق وعده؛ أوليـس هـو القادر الكريم؟ قال ربنا سبحانه: «وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَاوَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَاَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (الاعراف/44) علينا أن نثق بوعد الله، فانه الحق والصدق، سواء فيما وعده عباده الصالحين من النصر في الدنيا إن هم نصروه، حينما قال سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ »(محمد/7) أو وعده في الآخرة، حينما قال: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَشْهَادُ» (غافر/51) 2/ وعرف الناس صدق الرسول بصدق وعده، فقالت ثمود للنبي صالح عليه السلام ما بيّنه الرب تعالى: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (الاعراف/77) فعلامة صدق رسالته، صدقه فيما وعدهم من عذاب ربهم.3/ وقد وعد النبي ابراهيم عليه السلام أباه (آزر) أن يستغفر لـه ربه (حينما كان يرجو توبته وهدايته)، فاستغفر لـه، ووفى بوعده، ولكنه لما تبيّن أنه عدوّ الله تبرأ منه. قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ اَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيمٌ» (التوبة/114) 4/ وقد مدح الله النبي اسماعيل، وأمر بأن يذكر في الكتاب (ليكون قدوة) عندما ضرب مثلاً في صدق الوعد، فقال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً» (مريم/54) وقد جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: "إن اسماعيل نبي الله وعد رجلاً بالصفاح فمكث به سنة مقيماً وأهل مكة يطلبونه لا يدرون أين هو، حتى وقع عليه رجل فقال: يا نبيَّ الله ضعفنا بعدك وهلكنا. فقال: إنَّ فلان الطاهي وعدني أن أكن ها هنا ولم أبرح حتى يجيء. فقال: فخرجوا إليه حتى قالوا لـه: يا عدوَّ الله وعدت النبيَّ فأخلفته؟ فجاء وهو يقول لاسماعيل عليه السلام: يا نبيَّ الله ما ذكرت ولقد نسيت ميعادك. فقال: أما والله لو لم تجئني لكان منه المحشر. فأنزل الله «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ»". ([396]) وهكذا روي عن أبي عبد الله عليه السلام، أنه قال: "إن رسول الله وعد رجلاًً الى صخرة، فقال: أنا لك ههنا حتى تأتي. قال: فاشتدَّتِ الشمس عليه، فقال أصحابه: يا رسول الله لو أنّك تحوَّلت الى الظل ِّ. قال: قد وعدته الى ههنا، وإن لم يجيء كان منه المحشر". ([397]) 5/ والوعد قرين الصدق. قال الله سبحانه : «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (الاحقاف/22) وقد جاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله، قد يرى الحُوَّل القُلّب وجه الحيلة، ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين. ([398])في رحاب الأحاديث
في الأحاديث تأكيد شديد على الوفاء بالوعد وعلاقته بالإيمان، وإن الغدر شعبة من النفاق. تعالوا نتأمل في طائفة منها.1/ عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن الإمام علي عليهم السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "عدة المؤمن نذر، لا كفّارة له". ([399]) 2/ عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لمالك الأشتر: "وإياك والمنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المنَّ يبطل الإحسان، والتزيّد يذهب بنور الحقِّ، والخلف يوجب المقت عند الله وعند الناس. قال الله سبحانه: «كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ» ". ([400]) 3/ عن الرضا عليه السلام قال: "إنّا أهل بيت نرى ما وعدنا علينا ديناً، كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله". ([401]) 4/ ذكر الحسن بن فضل الطبرسي في مكارم الأخلاق: عن أبي الحميساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يبعث، فواعدته مكاناً فنسيته يومي والغد، فأتيته يوم الثالث، فقال صلى الله عليه وآله: (يا فتى) لقد شققت عليَّ، أنا ها هنا منذ ثلاثة أيام. ([402]) 5/ عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "ثلاث من كنَّ فيه أوجبن لـه أربعاً على الناس: من إذا حدَّثهم لم يكذبهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم، وجب أن تظهر في الناس عدالته، وتظهر فيهم مروءته، وأن تحرم عليهم غيبته، وأن تجب عليهم أخوَّته". ([403])الكفالة
ماهي الكفالة؟ الكلمة تحتمل معنيين؛ الأول: تحمل مسؤولية الشخص من رزقه وحفظه. الثاني: ضمانة الشخص عند حاكم أو غريم، وربط ذمته بذمة الشخص.ويشترك المعنيان في تحمل المسؤولية، ولكن المعنى الأول هو الأكثر استخداماً في القرآن الحكيم.والكفالة تتصل بشرف المؤمن كما العهد والعقد واليمين، فإن واقعها إشغال ذمة الكفيل بمسؤولية جديدة يتحملها بوعيه. ومن لم يتحمل مسؤوليته، فإنه يخل بشرفه..ولأن المؤمن يحترم نفسه ويكرمها، فإنه لا يخفر ذمته في الكفالة، كما في سائر مصاديق التعهد والالتزام.1/ ونستفيد معنى التكفل من قول الله سبحانه: «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ» (القصص/12) فأهل بيت موسى عليه السلام هم أقرب الناس الى تكفله، ولأنه إبنهم العائد إليهم.2/ وكذلك نستفيد معنى التكفل من قول الله سبحانه: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (آل عمران/37) الصديقة مريم سلام الله عليها التي أنبتها ربها نباتاً حسناً، قد وفَّر لها سبحانه أفضل من يتكفل أمورها، وهو النبي زكريا عليه السلام.وهكذا ينبغي لمن يتكفل أحداً أن يكون براً به، ومهتماً بشؤونه، وألا يضيعه في أي وقت، كما أهل بيت موسى عليه السلام بإبنهم، وكما النبي زكريا عليه السلام بالصديقة مريم.3/ أما الكفالة بمعنى الضمان، فإننا نجدها في قوله سبحانه: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَاتَفْعَلُونَ» (النحل/91)فقه الآيات
في آية كريمة واحدة ذكر عقد الكفالة بصورة صريحة، وهي قول الله سبحانه: «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ» (يوسف/72) كما روي عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام... ذكر لنا أن رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران ديناً، فلم يصلِّ عليه النبي صلى الله عليه وآله، وقال: صلّوا على صاحبكم حتى ضمنها عنه بعض قرابته؟ قال أبو عبد الله عليه السلام: ذلك الحق...". ([404]) ولكن البحوث الفقهية في عقد الكفالة تشعّبت، وذلك للحاجة إليه. ومعلوم أن أصول الفقه وقواعده الأساسية مذكورة في الكتاب والسنة الشريفة، أمّا فروعها فهي قابلة للتوسع حسب الحاجة. وقد سبق الحديث عن العقود والقواعد الفقهية العامة التي ذكرت في الكتاب والسنة، والتي تنطبق على عقد الكفالة أيضاً. ولا نعيد الحديث عنها هنا، إنما نشير الى بعض ما ذكره الفقهاء، استكمالاً للبحث إن شاء الله تعالى.أ- قالوا الكفالة عقد شرّع للتعهد بالنفس، وقال بعضهم أنه ضم ذمة بذمة. والمهم في هذه الكلمات التي تعرّف العقود الإشارة إليها، وإلاّ فإن كل تعريف يرد عليه النقض لأنه ليس أصلاً نعود إليه، بل الأصل القواعد الفقهية والتي منها: قاعدة إمكانية استحداث عقد جديد حسب الحاجة إليه.ب- حكي عن فخر الإسلام إن الكفالة في مذهبنا إنما تصح بشرط أن يكون على المكفول للمكفول له حق شرعي، والحق أعم من أن يكون ديناً او عيناً، وقيل كل من يستحق إحضاره الى مجلس الشرع (المحكمة الشرعية) فإنه تصح كفالته (مثل المتهم حتى ولو لم يكن الحق عليه ثابتاً). ([405]) ج- وقال العلامة النجفي: لا تصح (الكفالة) في الحدود للإجماع المحكي عن التذكرة على ذلك، ولقوله صلى الله عليه وآله في المروي من طرق الخاصة والعامة([406]) "لا كفالة في حد". ([407]) د- وقال المحقق الحلي: ويعتبر رضا الكفيل والمكفول له دون المكفول عنه. (أي الكفيل وصاحب الحق وليس المتهم أو من عليه الحق). وقال العلامة النجفي تعليقاً على عدم اشتراط المكفول، قال: عند المشهور، بل عن التذكرة نسبته الى علمائنا. ولكن نقل عن الشيخ الطوسي وابن حمزة وابن إدريس وغيرهم إشتراط رضاه أيضاً، لأنه يشك في صدق عقد الكفالة من دون رضاه، والشك في ذلك كافٍ في بطلانها. إذ الأصل أنه لا يؤثر أثره.. ([408]) ونحن نقول إذا لم يتجاوز الحق الطرفين، يصح العقد عرفاً، أما إذا تجاوزهما فلا.هـ- وقـال المحقق الحلـي: وتصح حالّه ومؤجله على الأظهـر، ومع الإطـلاق تكــون معجلـــة. ([409]) أمّا الكفالة المؤجلة بمعنى أنه يكلف بإحضار المتهم بعد مدة معينة سنة مثلاً، فلا إشكال عندهم في صحتها.أما المؤجلة بمعنى أن عقد الكفالة يبقى فقط خلال فترة سنة، بحيث ينعدم ضمان الكفيل بعد هذه المدة. فقد إستشكل فيه العلامة النجفي، واعتمد في إشكاله على الشك في صدق الكفالة حينذاك. والواقع إن العرف إذا اعتمد على هذا النوع من العقد واعتبره صحيحاً، فلا مجال للشك في صحته لشمول أدلة صحة العقود لكل عقد يعتبره العرف صحيحاً.. ([410]) وأضاف المحقق الحلي: وإذا إشترط الأجل، فلا بد أن يكون معلوماً.واستدل العلامة النجفي على إشتراط العلم بالأجل، أولاً: بالاجماع، ثانياً: بقاعدة نفي الغرر. ([411]) ولنا أن نستشكل فيهما إذا أدت الكفالة غرضها الشرعي والعرفي من دون تأثير للجهالة فيه. والله العالم.و- وقال المحقق الحلي: وللمكفول له مطالبة الكفيل بالمكفول عنه (المتهم) عاجلاً، إن كانت (الكفالة) مطلقة أو معجلة، وبعد الأجل إن كانت مؤجلة. فإن سلّمه تسليماً تاماً، فقد برء. وإن إمتنع (الكفيل من تسليم المتهم)، كان له حبسه حتى يحضره أو يؤدي ما عليه. ([412]) واستدل على ذلك بالحديث المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه أتي أمير المؤمنين عليه السلام برجل قد تكفل بنفس رجل، وقال: اطلب صاحبك ([413]) وفي خبر الأصبغ بن نباتة "قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس، وقال له: أطلب صاحبك. ([414]) وقال العلامة النجفي تعليقاً على هذه الطائفة من الأحاديث: أنها كما ترى ليس في شيء منها التخيير بين الإحضار والأداء (أي أداء الحق الذي تكفل المتهم من أجل أداءه). ومن هنا كان المحكي عن التذكرة وغيرها عدم وجوب القبول على المكفول له. ([415]) أقول: إن عقد الكفالة يتبع الاتفاق الذي يتم بين الطرفين أو الأطراف، لأن الحق لا يتجاوزهم، وليس هناك دليل قوي على شروط شرعية إضافية تفرض عليهم مثل أن يكون الواجب إحضار المتهم بنفسه، وأنه إذا تعاقدوا على دفع غرامة يبطل عقد الكفالة. أما قصة حبس الامام علي عليه السلام للمتهم، فلعل المطلوب كان شخصه كما لو كان متهماً بالقتل. وفي مثله يتم العقد عادةً على أساس إحضاره، وليس عطاء غرامة.وعلى هذا نحمل الحديث المأثور في الصحيح أو الموثق عن أبي العباس عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: سألته عن الرجل تكفل بنفسه الرجل الى أجل، فإن لم يأت به فعليه كذا وكذا درهماً. قال: إن جاء به الى الأجل فليس عليه مال، وهو كفيل بنفسه أبداً إلاّ أن يبدأ بالدراهم، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن، إن لم يأت به الى الأجل الذي أجله. ([416]) وعلى هذا حمل العلامة النجفي هذا الحديث وما أشبهه حيث قال: ولولا ما سمعته من الإجماع المزبور (على الفتوى بنص الرواية) لأمكن القول بأن المراد من الروايتين بيان الفرق في عقد الكفالة من الاقتصار عليه فقط. وبين إشتراط أداء المال فيه مع عدم الإحضار. ففي الأول لا يكلف إلاّ النفس أبداً، وفي الثاني يغرم المال إن لم يحضر. ([417]) وهكذا اعتبر العلامة النجفي أن المعيار في عقد الكفالة التوافق الذي تم بين الأطراف، والرواية تحمل على ذلك التوافق. والله العالم.في رحاب الأحاديث
وقد تناولت الأحاديث الكفالة من زوايا مختلفة، فقد ذكرت رواية شريفة شرعية الكفالة، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: "سألته عن الرهن والكفيل في بيع النسية، فقال: لا بأس به". ([418]) ولكن حديثاً آخر بيّن كراهية الكفالة؛ قال الإمام الصادق عليه السلام: "الكفالة خسارة غرامة ندامة". ([419]) وبيّن رسول الله صلى الله عليه وآله أن الكفالة لا تصح في الحدود الشرعية، حيث روي عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا كفالة في حد". ([420])([1]) راجع الجزء الثامن من هذه الموسوعة (التشريع الإسلامي)، ص 34-40.([2]) بحار الأنوار، ج8 ، ص 279.([3]) راجع الجزء الثامن من هذه الموسوعة (التشريع الاسلامي)، ص 41-46.([4]) وسائل الشيعة، ج16، ص147.([5]) جواهر الكلام، طبعة بيروت، ج8، ص268.([6]) مبادئ القانون للمؤلفين د. همام محمد محمود و د. محمد حسين منصور، الناشر: منشأة المعارف، ص 240.([7]) الفقه الاسلامي للمؤلف، الناشر دار المدرسي، ص 186.([8]) جواهر الكلام، ج4، ص130 (الطبعة الحجرية).([9]) راجع الفقه الاسلامي، ص 208.([10]) الفقه الاسلامي، ص209.([11]) مبادئ القانون، ص254.([12]) الفقه الاسلامي، ص 196.([13]) المصدر.([14]) المصدر.([15]) المصدر، ص 197.([16]) وسائل الشيعة، ج12، ص 169.([17]) المصدر، ج 12، ص 126.([18]) المصدر، ص 127.([19]) الفقه الاسلامي، ص 112.([20]) الفقه الإسلامي، ص112.([21]) المصدر، عن كتاب العناوين ج2.([22]) المصدر ص 113، عن القاموس.([23]) راجع المصدر ص 114.([24]) جواهر الكلام (طبعة بيروت) ج8، ص 125، عن كتاب دعائم الاسلام، ج2، ص 26.([25]) راجع المصدر ص 115.([26]) وهي عبارة عن حديث مفصل في كتاب تحف العقول الذي سيأتي ذكره لاحقاً.([27]) الوسيط، ج1، ص 398.([28]) المصدر، ص 399.([29]) المصدر، ص 400.([30]) وسائل الشيعة ، ج12، ص54-55، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، ح1. يذكر إن بعض هذا النص مأخوذ من كتاب تحف العقول.([31]) وسائل الشيعة، ج12، ص130، كتاب التجارة، أبواب ما يكتب به، الباب 42، ح 11.([32]) المصدر، ص128-129، ح4.([33]) المصدر، ص129، ح6.([34]) وسائل الشيعة، ج12، ص131-132، ح17.([35]) المصدر، ص 137، الباب 45، ح9.([36]) وسائل الشيعة، ج12، ص 139، الباب 46، ح1.([37]) المصدر، ص 140، الباب 46، ح8.([38]) المصدر، ح9.([39]) جواهر الكلام، ج8، ص87.([40]) وسائل الشيعة، ج12، ص 145، الباب 48، ح1.([41]) المصدر، ص 146، ح3.([42]) وسائل الشيعة، ج12، ص55-56.([43]) المصدر، ص 60، ح4.([44]) دراسات في المكاسب المحرمة، (الناشر: نشر تفكر، قم عام 1415 هـ )، ج1، ص 85.([45]) عن كتاب الخلاف، 3/184و185، المسألتان: 308و310.([46]) الفقه، المكاسب المحرمة، ج1، ص7.([47]) دراسات في المكاسب المحرمة، ج1، ص86.([48]) مفاتيح الشرائع (للشيخ محمد رضا المشتهر بأفضل)، ج2، ص23.([49]) المصدر، ص23.([50]) جواهر الكلام، ج8، ص8.([51]) المصدر، ص9.([52]) دراسات في المكاسب المحرمة، ج1، ص 182.([53]) شرائع الاسلام (طبعة كلية الفقه بالنجف)، ج1، ص9.([54]) المصدر، ص 10.([55]) شرائع الإسلام ج1، ص10.([56]) جواهر الكلام، ج8، ص21.([57]) شرائع الاسلام، ج2، ص10.([58]) شرائع الإسلام، ج2، ص10.([59]) جواهر الكلام، ج8، ص63.([60]) يبدو أن المراد منه آية الله الشيخ جعفر كاشف الغطاء.([61]) المصدر ص 62. يعني الذي يستأجر أحداً على عمل، انما يستأجره على عمل يملكه. والعمل الواجب لا يملكه المؤمن، لأنه لله، فكيف يبيعه للناس بالإيجار؟ ([62]) وسائل الشيعة، ج13، ص242، الباب 1 من أبواب الاجارة، ح1.([63]) وسائل الشيعة، ج12، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به ، ص 56-57.([64]) دراسات في المكاسب المحرمة، ج1، ص108.([65]) وسائل الشيعة، ج12، ص423، أبواب الربا، الباب1، ح1.([66]) المصدر، ح2.([67]) المصدر، ح3.([68]) وسائل الشيعة، ج12، ص424، ح8.([69]) المصدر، ص425، ح11.([70]) المصدر، ص429، الباب2، ح1.([71]) المصدر، ص430، الباب4، ح1.([72]) جواهر الكلام، ج9، ص6-11.([73]) الوسائل، ج13، ص108، الباب 19 من أبواب الدين والقرض، ح18.([74]) الوسائل، ج12، ص476، الباب 12 من أبواب الصرف، ح1.([75]) جواهر الكلام، ج9، ص9.([76]) الوسائل، ج13، ص106، الباب 16 من أبواب الدين والقرض، ح13. وقد سبق مثله.([77]) المصدر، ص104، ح4.([78]) الوسائل، ج13، ص105، الباب 19 عن أبواب الدين والقرض، ح6.([79]) المصدر، ص105-106، ح10.([80]) المصدر، ص107، ح15.([81]) الوسائل، ج13، ص105، ح9.([82]) جواهر الكلام، ج9، ص11.([83]) المصدر، ص103، ح2.([84]) وسائل الشيعة، ج13، ص106، الباب 19 من أبواب الدين والقرض، ح11.([85]) الوسائل، ج12، ص379-380، أبواب أحكام العقود، الباب 9، ح3.([86]) المصدر، ص380، ح5.([87]) الوسائل، ج12، ص480، الباب14 من أبواب الصرف، ح1.([88]) المصدر، ج13، ص107، الباب 19 من أبواب الدَين، ح15.([89]) جواهر الكلام، ج9، ص12.([90]) نقل عن سنن البيهقي، ج5، ص353، وقد ناقش البعض في أن تكون هذه الحكمة حديثاً عن النبي أنظر (الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي،ج5،ص3746).([91]) وسائل الشيعة، ج12، ص458، أبواب الصرف، الباب2، ح3.([92]) وسائل الشيعة، ج12، ص458، أبواب الصرف، الباب 2، ح1.