البـاب الثالث التطلع معراج الإنسان
آفاق التطلع في القرآن الفصل الأول: الإنسانية فوق الفروق الفصل الثاني: المكارم قصب السبق الفصل الثالث: القوة في خدمة الحق
آفاق التطلع في القرآن
لكي يسمو الإنسان الى أعلى مراتب الكمال، ويحقق تلك الكرامة التي منحه الرب تعالى إياها، ولكي يبلغ المنـزلة الرفيعة التي خلق لها، ويكدح جاهداً الى ربه حتى يأتيه اليقين، ويحظى بلقاء ربه راضياً مرضياً حتى يتبوء عنده في مقعد الصدق عند مليك مقتدر؛ لكل ذلك يكرّس المنهج القرآني كلمة التطلع وقيمته في نفس الإنسان ويتدرج معه في ثلاث مراحل.
الأولى: إستثارة فطرته التي انطوت على التسامي والتطلع.
الثانية: فك الأغلال التي تمنعه من تحقيق تطلعاته.
الثالثة: تذكيره وتعليمه بقائمة التطلعات السامية التي يمكنه بلوغها.
ونحن في هذه الدراسة نمضي قدماً مع كتاب ربنا عبر هذه المراحل التي نبحث عن كل واحدة منها في فصل خاص.
أولاً: الإنسان ذلك الطموح
فطرة التسامي مغروزة في ضمير البشر، وداعية لـه أبداً الى العروج الى الأعلى؛ وإنما تدس هذه الفطرة في ركام الوساوس والأوهام، والأفكار الشيطانية. فلا تعد ترفعه نحو الأسمى، أو يضل صاحبها السبيل فيرى في الحرص على الدنيا والبغي على الناس تسامياً وعروجاً.. وسواءً الوساوس أو الانحراف عن الصراط، فإنهما من رجس الشيطان، والله سبحانه هو المعتصم والمستعاذ من رجس الشيطان وغروره. والسؤال كيف نتخلص من ركام الوساوس والثقافة الشيطانية؟ إنما بالدعاء إلى الله وبالعمل من أجل تزكية النفس وتطهيرها من الإصر والأغلال، وتصحيح نظرة البشر الى ذاته، ليعلم أنه كائن فوق مادي، خلق ليدخل الجنة ويحظى برضوان الرب. ويسمو إلى معرفة الله والاتكال على قدرته التي لا تحد، وعطاءه الذي لا يجذ، ورحمته الواسعة، واستجابته لدعوات عباده، ولكي تنفتح فطرة البشر الداعية لـه إلى التسامي وتتبلور غريزة التطلع عنده، ضرب القرآن المجيد الأمثلة البليغة والنافذة من واقع الأنبياء والأولياء الذين بلغوا أسمى الدرجات بما استجاب لهم ربهم دعواتهم، ثم ذكر الإنسان بتفاصيل الأغلال التي أحاطت به وأصبحت عقبات في سبيل تساميه، ودعاه للتخلص منها والمسارعة إلى السمو والكمال.
هذه هي سبل إستثارة الفطرة؛ دعنا نمضي قدماً في توضيح هذه السبل وتفصيلها.
ألف: الإنسان كائن متميّز
1/ هل أنا وأنت وسائر الناس أحياء، كسائر ما يدب على الأرض أو يطير في السماء، تطورنا صدفة في طفرة طبيعية، وكان جدنا الأعلى قرداً؟ كلا؛ لقد خلق الله أبانا آدم من طين لازب، ونفخ فيه من روحه، وأسجد لـه ملائكته. أما ابليس الذي أبى السجود له، فقد رجمه ولعنه. قال الله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (المؤمنون/13-14) 2/ وقال الله سبحانه: «إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلآَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلآَّ اِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَآ إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِيــنٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ » (ص/70-77) من هنا نعرف إن الإنسان مخلوق متميّز، ولا يمكن قياسه بسائر الأحياء التي في الأرض، وبنسبة تميّزه يزداد طموحاً ومسؤولية.
3/ وقد دعا الله عباده الى جنته ورضوانه، وحذرهم من الشيطان الذي أخرج أباهم من الجنة، فقال سبحانه: «يَا بَنِي ءَادَمَ لاَيَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُو َوَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَتَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ» (الاعراف/27) 4/ وقال الله سبحانه: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَاْلأَرْضُ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران/133) 5/ بل دعا عباده الى أن يكونوا من المكرمين، الذين حظوا بقربه؛ فقال سبحانه: «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» (القمر/55) 6/ وقال الله سبحانه: «يَآ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي» (الفجر/27-30) وهكذا نستوحي من آيات الذكر عموماً البصائر التالية: