إن الإنسان خلق في أحسن تقويم. وقد كان أبونا آدم وزوجه في الجنة، وإنما أخرجهما الشيطان منها، وعلينا أن نجتنب غواية الشيطان حتى يدخلنا الله جنته الخالدة مرة أخرى. وإن الإنسان يبلغ من العلو درجة يكون جليس ربه، بل إنه لا يستريح إلاّ عند ربه، ولا يسكن قلبه إلاّ بذكر الله خالقه، ولا يرضى تمام الرضا إلاّ إذا رضي عنه مولاه، ولا يشبع طموحه إلاّ إذا نظر إلى نور وجه سيده.وهكذا كان عباد الله المخلصون، ومنهم سيدنا الإمام زين العابدين عليه السلام الذي يقول في بعض ما ناجى به ربه:(الهي كسري لا يجبره إلاّ لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلاّ عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكّنها إلاّ أمانك، وذلّتي لا يعزها إلاّ سلطانك، وامنيّتي لا يبلغنيها إلاّ فضلك، وخلّتي لا يسدّها إلا طولك، وحاجتى لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغُلّتي لا يبرّدها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي إليك لا يبلُّه إلا النظر الى وجهك، وقراري لا يقرُّ دون دنويّ منك، ولهفتي لا يردّها إلاّ رَوحك، وسُقمي لا يشفيه إلاّ طبُّك، وغمّي لا يزيله إلاّ قربك، وجرحي لا يبرئه إلاّ صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلاّ عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلاّ أمرك. فيا منتهى أمل الآملين، ويا غاية سؤل السائلين، ويا أقصى طلبة الطالبين، ويا أعلى رغبة الراغبين، ويا وليَّ الصالحين، ويا أمان الخائفين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا ذخر المعدمين، ويا كنـز البائسين، ويا غياث المستغيثين، ويا قاضي حوائج الفقراء والمساكين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين، لك تخضّعي وسؤالي، وإليك تضرّعي وابتهالي، أسئلك أن تنيلني من رَوح رضوانك، وتُديم عليّ نعم امتنانك، وها أنا بباب كرمك واقف، ولنفحات برّك متعرّض، وبحبلك الشديد معتصم، وبعروتك الوثقى متمسّك، إلهي إرحم عبدك الذليل، ذا اللسان الكليل، والعمل القليل، وامنن عليه بطولك الجزيل، واكنفه تحت ظلك الظليل، يا كريم يا جميل يا أرحم الراحمين). ([1]) وهكذا تتبلور فطرة الإنسان حينما يعرف نفسه، والحكمة من خلقه، وآفاق التقدم أمامه، تلك التي لا تُحدّ بالدنيا ولا بالشؤون المادية ولا حتى بالجنة، بل تصل الى حيث النظر الى وجه الله والجلوس في مقعد الصدق عنده والفوز بمناجاته.
باء: التوكل على الله سلم الطموح
وهذه النظرة الشامخة الى الإنسان، تتجلى حقاً عند الإنسان المؤمن بالله والعارف بأسمائه الحسنى، والتي منها أنه هو البرّ الرحيم، وأنه غافر الذنب، قابل التوب، ذي الطول، وانه قريب إذا دعي، مجيب إذا سئل. وكلّما ازداد المؤمن وعياً باسماء الله سبحانه، كلّما ازداد نعمة وطموحاً. أوليس العبد يعتز بربه الرحيم الحنّان، الذي دعاه الى فضله ورحمته ولم يقطع إحسانه إليه ولا لحظة واحدة، بل دعاه أبداً ودائماً الى الاستزادة من فضله؟ وقد قال الإمام الحسين في دعائه الذي ناجى به ربه في يوم عرفة، قال: "لقد خاب مــن رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً، كيف يُرجى سواك وأنت ما قَطعــتَ الاحسان، وكيف يُطلَبُ من غيرك وأنت ما بدّلت عادة الامتنان. يا من أذاق أحبائهُ حـــلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملّقين، ويا من ألبس أوليائهُ ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفريــن". ([2]) وهكذا يصول الإنسان المؤمن ويجول، لا بحوله وقوته، وإنما بحول الله العظيم وقوته القاهرة. وعندما يتطلع إلى قمة، فهو يضع في حسابه ما يحصل عليه من فضل ربه وما يستدر من رحمته الواسعة. وبهذا يستطيل ويستطيل حتى يصبح مثلما يصفهم الإمام الحسين في رائعة من دعائه يوم عرفة: (أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أولياءك حتى عرفوك ووحّدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائُك حتى لم يُحبوا سواك، ولم يلجئوا الى غيرك. أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم). ([3]) إن سمو الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين الى مستوى جعل الملائكة يعيشون العجب حتى باهى بهم ربهم ملائكته، إن ذلك لدليل على مدى قابلية الإنسان إذا اتصل قلبه بنور ربه أن يسمو وأن يتعالى بفضل الله.1/ ومن بين صفات الرب وأسمائه الحسنى التي تزيد قوة الإنسان وثقته بنفسه حب الله سبحانه للمتوكلين عليه، حيث يقول تعالى: «فَبِمَـا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران/159) 2/ وان من توكل عليه فهو حسبه. قال الله تعالى: «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (الطلاق/3) 3/ إن قدرات البشر كبيرة، لأنه بالاضافة الى ذخائر القوة المادية والعلمية الهائلة التي أودعها الله سبحانه عنده، والتي بها يسخر ما في الخليقة من أحياء أو أشياء؛ بالاضافة الى ذلك، فانه سبحانه قد وعده الاستجابة إذا دعاه، وبذلك يسخر المزيد من الكائنات له بقدرته المهيمنة على كل شيء. ولكن الاستفادة من هذه الطاقات الهائلة جداً بحاجة الى عزم وإرادة من عنده، وهذا العزم بحاجة الى إندفاع داخلي، والى ارتفاع الموانع المحتملة. والمشكلة تكمن هنا بالذات، حيث إن ابليس لا يدع ابن آدم يعقد العزم على تفجير طاقته؛ أما بالوسوسة والتشكيك في إمكاناته، وإما باثارة الخوف من الانطلاق، أو بالتسويف، أو بما أشبه ذلك مما نفصل الحديث عنه إن شاء الله لاحقاً.. فكيف نتغلب على مكر الشيطان، ونمضي قدماً في عقد العزم؟ إنما بالتوكل، ذلك لأن لحظة إتخاذ القرار لحظة حاسمة جداً، حيث إن الشياطين تتراكم على القلب وتنفث فيه يمنة ويساراً، وفي تلك اللحظة يؤدي التوكل على الله دور سفينة النجاة في بحر الوساوس. فلو إتصل القلب بنور الرب، واستمد منه القوة والعزم، ووثق بعونه ونصره، وقال: (ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلاّ بالله)، تنقشع عن نفسه سحب الوساوس، ويمضي قدماً في عزمه، ويفجر طاقاته، ويضيف إليها المزيد من الطاقة من فضل ربه.تعال لنضرب مثلاً؛ فرعون تسلط على بني اسرائيل واستضعفهم وقمعهم بكل وسيلة، فجاءهم النبي موسى عليه السلام برسالة الخلاص. ولكن البلاء استمر ووصلوا الى نقطة حرجة وكادوا ينهارون، فماذا حصل ؟ يبين القرآن الكريم القصة بايجاز: «وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ وَيَذَرَكَ وءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الاَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (الاعراف/127-128) 4/ وفي لحظة المواجهة بين الأنبياء عليهم السلام والأمم الكافرة، كان التوكل هو السلاح الحاسم. قال الله سبحانه: «قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَاَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» (ابراهيم/11-13)
جيم: الاقتداء بهدى الأنبياء
1/ كثيراً ما ذكر الله سبحانه الأنبياء الذين اصطفاهم وأثنى عليهم وبيّن صفاتهم المثلى، وشرح لنا كيف إجتباهم في الدنيا ونصرهم على أعدائهم وجعل لهم لسان صدق من بعدهم وأورثهم أرض أعداءهم، وفي الآخرة إختار لهم أعلى درجات جنته ثم دعا عباده الى الإقتداء بهداهم، فقال سبحانه: «اُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ » (الانعام/90) 2/ ووعد الله عباده الصالحين بأن يلحقهم بأولئك، إن هم سلّموا لله وأطاعوه، فقال تعالى: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفِيقاً» (النساء/69) 3/ وأمرنا بأن نكرر هذا الدعاء كل يوم في صلواتنا، ونقول: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ» (الفاتحة/6-7) وهكذا تتكامل حوافز الاقتداء بالانبياء عليهم السلام عند المؤمنين، فينبعثون في طريقهم طامحين اللحوق بهم في الجنة.4/ وقد جعل اللحوق بالصالحين من التطلعات السامية عند المؤمن، حيث يقول سبحانـه: «رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ » (يوسف/101) ومعروف كم هو تأثير القدوة في إثارة فطرة التطلع عند البشر. فالإنسان قد جُبل على النظر إلى نظرائه من الخلق، والاقتباس من سيرتهم. ولذلك فهو يبحث أبداً عن قدوة وإمام، وقد وفّر الله للبشرية أفضل القدوات وخير الأئمة، وهم الأنبياء وأوصيائهم الكرام عليهم جميعاً سلام الله وصلواته.
ثانياً: التحرر من الاصر والأغلال
فطرة التطلع عند الإنسان هي محركه الذاتي، ولكن الإصر والأغلال تستهلك كثيراً من طاقته وتحد من اندفاعه. فاذا تخلص منها، انطلق قدماً لا يلوي على شيء.فما هو ذلك الأصر وتلك الأغلال، وكيف نتخلص منهما؟ نشير فيما يلي الى عناوين أساسية للأغلال إشارة، أما التفصيل فربما نوفّق له في مناسبة أخرى باذن الله سبحانه.عناوين الأغلال، هي: الهوى والجبت والطاغوت والخشية من الطبيعة، ويشمل كل واحد من هذه العناوين على سلسلة من مفردات الأغلال، والشرك هو الجامع لكل هذه الأغلال التي تصد البشر عن تحقيق تطلعاته.
ألف: الهوى
1/ بالايمان والعلم توفرت لـه فرصة التعالي، ولكنه اتبع هواه فأخلد الى الأرض، ذلك مثل الذي إنسلخ من آيات ربه. يقول ربنا تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَاَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ اَخْلَدَ إِلَى الاَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِاَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (الاعراف/175-176) الآيات الإلهية هي العلم الذي كان ينبغي لهذا المنافق أن يتبعها، ولكنه إتبع هواه؛ فبدل أن يرفعه الله بالآيات إذا كان يطيع ربه، أخلد الى الأرض وضيّع فرصة النهوض. كذلك كل من يتبع هواه، فلا يفكر إلاّ في شهواته العاجلة.2/ وكما يهوي إلى الدرك الأسفل من يتبع هواه، كذلك يسقط في مهاويه من يطيعه. ولذلك فقد نهى ربنا عن اتباع من أغفل قلبه عن ذكر الله، فقال سبحانه: « وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (الكهف/28) ونستفيد من الآية؛ إن الغفلة عن ذكر الله سبب إتباع الهوى.3/ ولكن كيف يخلد من يتبع هواه إلى الأرض، ويضيع فرصة التسامي؟ إنه يخدع نفسه ويعتمد الانتظار والتربص منهجاً بدل أن يعتمد الاقدام والمبادهة سبيلاً، ويشكك نفسه في الحقائق، ولا يتبع علم وهدى ربه فلا يعمل، ويغتر بالأماني بدل أن يعتمد منهج العمل والاجتهاد، ويستمر في هذه الأماني التي يخدع نفسه بها الى الأبد. كما كانت الحال عند اليهود، الذين قالوا بأن الله لا يعذبهم إلاَّ أياماً معدودة (لأنهم أبناء الله وأحباؤه). وأخيراً ترى هؤلاء يتبعون الشيطان، الذي يتولونه، ويستولي على مشاعرهم. وهذه هي البصائر التي نستوحيها من قوله سبحانه: «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» (الحديد/14) ومن هذه العاقبة السوئى يحذرنا الإمام علي عليه السلام، حين يقول: "لا تجعلوا عِلمَكُم جهلاً، ويقينَكُم شكّاً. إذا عَلِمْتُم فاعمَلُوا، وإذا تيقّنتُم فأَقدِموا". ([4]) من هنا نقرء في الأدعية المأثورة الاستعاذة بالله سبحانه من تلك الأغلال التي يضعها الهوى في عنق البشر، يقول الامام الباقر عليه السلام: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والفشل، والهم والجبن، والبخل والغفلة، والقسوة والمسكنة". ([5]) 4/ وفي سورة الحديد كما في كثير من سور الذكر الحكيم، آيات لو ألقى الإنسان سمعه لها ووعاها، لتخلص من إصر الهوى وأغلال الشهوات باذن الله؛ لأنها تذكّرهُ بالله العظيم وبنعمة الجنة التي يدعوه إليها، ويحرضه على التصدق والجهاد، ويهوّن عليه شأن الدنيا التي ليست إلاَّ متاع الغرور. يقول ربنا سبحانه: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ اُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضَاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» (الحديد/16-18) وجملة القول؛ إن الله أنزل كتاباً يحيي القلب بإذن الله، لو شاء صاحبه وسعى سعيه لأجله، ويفك بذلك أغلاله ويتسامى الى حيث النور. وقد أبلغ سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين عليه السلام في بيان هذه البصيرة عندما ناجى ربه قائلاً: "الهي ألبستني الخطايا ثوبَ مذلّتي، وجلّلني التباعدُ منك لباسَ مسكنتي، وأماتَ قلبي عظيمُ جنايتي، فاَحْيِه بتوبةٍ منك يا أملي وبُغيتي، ويا سؤلي ومُنيتي". ([6]) وكان يشكو الى ربه من النفس الأمارة بالسوء، فيقول: "الهي إليكَ أشكو نفساً بالسوءِ أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولَعة، ولِسَخَطك متعرّضةً، تَسلكُ بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل إن مسّها الشرُّ تجزع، وإن مسّها الخيرُ تمنع، ميالةً الى اللعبِ واللهو، مملوّةً بالغفلة والسهوِ، تُسرع بي الى الحوبة، وتُسوّفني التوبة". ([7]) هكذا يفك المؤمن أغلال نفسه بالاستجارة بالله منها، وبالاستعانة به عليها، وبالعزم على التوبة إلى الله، تلك التوبة التي تطهر القلب من إصر الهوى، وغل اللهو والسهو واللعب والغفلة، والتعلل بالاعاذير والتربص والتسويف، وبالهلع والجزع والبخل والمنع.. هذه الأغلال هي التي تتساقط بالتوبة، ويتحرر القلب، ويندفع الإنسان نحو الجد والاجتهاد والتعالي باذن الله تعالى.
باء: الجبت
نفس البشر معقدة، وهي قادرة على خداع الذات، وهي أكثر شيء جدلاً وعقدة، لها تخوم وتخوم . وبالكاد يستطيع الإنسان إستكشاف نفسه، فكيف بنفسية غيره؟ ومن عقدها تغطية أهواءها الذاتية بالحميات، التي يلبسها لباس القداسة والتقدير، ويعبدها من دون الله. وقد يضع لها رموزاً وأسماءً وأصناماً، فيحبها أشد من حب الله. ولعل ذلك معنى الجبت، والتخلص منها شرط التحرر في رحاب التعالي. فما هو السبيل إلى ذلك؟ علينا أن نعرف الجبت ومصاديقه، ومن ثم نتخلص منه.فالحسد والبخل، وعصبية الأسرة، وإتباع الآباء، وحمية العشيرة والتمسك بعادتها، والعنصرية والتأثر بثقافتها، والطبقية والتقيد بأفكارها، والقومية والوطنية وطاعة رموزهما طاعة عمياء.. كل ذلك أغلال تقيد حركة البشر، كما تحجب عقله وتمنعه من التفكير السليم.وقد ذكر الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الصفات، واعتبرها ألواناً من الظلم الذي يرتكبه الفرد بحق الناس واستغفر الله منها، وقال في بعض أدعيته: "وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيُّما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه، أو في عرضه، أو في ماله، أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى أو أنفة أو حمية أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحياً كان أو ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات، وهي مستجيبة لمشيئته ومسرعة إلى إرادته أن تصلي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت". ([8]) هكذا نجد كيف يعتبر الإمام عليه السلام هذه الحميات من المظالم، التي لا بد أن نسترضي أصحابها، وعند العجز نسأل الله أن يغفرها لنا.وقد عانت البشرية طويلاً من ويلات هذه الأغلال، حتى جاء الاسلام بنور الوحدة التي تجعل البشر نظراء في الخلق، لأن الناس جميعاً من آدم وآدم من تراب. وقد سبق الحديث عن هذه الأغلال ومنهجية التخلص منها.
جيم: الطاغوت
الطاغوت كل إنسان يستضعف الناس بغير الحق، وفرعون أمثولة بارزة للطغيان والاستكبار في الأرض بغير حق. وقد صد المستكبرون البشر عن سبيل الله، وعن الصلاح والفلاح، وعن التقدم والازدهار، وعن تسخير الطبيعة لمصلحتهم، وعن النهوض والتحرر. ومن دون الكفر بالطاغوت، وتجنب سلطته، وازاحته عن موقع السلطة، أو الهجرة من دياره يبقى البشر مرتهناً بالتخلف، ولا يحقق شيئاً من تطلعاته. ليس فقط لأن الطاغوت يصده بالقوة عن التكامل، بل وأيضاً لأنه يمنع عنه نسيم الحرية، وثقافة التحرر، وبصائر الحياة، ومعارف التقدم.ونستفيد من آية كريمة؛ إن إجتناب الطاغوت (والتحرر من ثقافته ومن الخشية منه وتحدي إعلامه) شرط الاستماع الى القول (الحق) والانتخاب السليم، حيث قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِِ» (الزمر/17-18) وهكذا كان اجتناب الطاغوت، والإنابة إلى الله، والاستماع الى القول ثم إتباع أحسنه (بعد إنتخابه) من وسائل الهداية الإلهية ومن شرائط البشرى.وقد ذكرنا الله سبحانه بأن الكفر بالطاغوت والايمان بالله، هو العروة الوثقى التي يتمسك بها المؤمنون. قال الله سبحانه: « فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَانفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة/256) وهكذا ضمن الرب لعباده الأمن من خوف الطاغوت، إن هم كفروا به وآمنوا بالله.
دال: الخوف من الطبيعة
الخوف حالة طبيعية وضرورية للدفاع عن النفس، ولكنه إذا كان مصدره غير حقيقي فإنه يصد البشر عن التكامل. والخوف من الطبيعة واحد من أبرز مصدات التكامل، وعقبات السمو..إذاً تعال ندرس هذا الخوف، ونعرف كيف نتحرر منه.حينما يكون مصدر الخوف الذي يعتري الإنسان حقيقياً، ويبعث الفرد إلى بذل جهد من أجل الدفاع عن نفسه تجاهه، يكون الخوف مشروعاً. فلقد خاف النبي موسى عليه السلام من بطش آل فرعون، فهاجر إلى حيث الأمن، وعبّر النبي يعقوب عليه السلام عن خوفه على يوسف من الذئب، فحاول منع إخوته من اصطحابه؛ والمرأة قد تخاف من زوجها نشوزاً أو إعراضاً، فلا بأس عليها لو تنازلت عن بعض حقوقها صلحاً.أما إذا كان مصدر الخوف الجهل والجبن وينتهي الى الاستسلام والانطواء على الذات، فإنه لا يكون خوفاً حميداً.من هنا فإن الخوف يزول بالمعرفة والشجاعة، والتوكل على الله، والاستعانة به لمقاومته.1/ مثلاً كان قوم النبي إبراهيم عليه السلام قد سقطوا في هاوية الشرك بالله، خوفاً من ظواهر الطبيعة.. فإذا بهم عبدوا الكوكب والقمر والشمس ظناً منهم أنها مؤثرات حقيقية في أحوالهم.فأراد الله سبحانه أن يبدد خوفهم من الطبيعة، ويسفّه شركهم بالله بسببه، فإذا بإبراهيم عليه السلام يحاربهم ويقول للكوكب أنه ربه، فإذا أفل يقول إنه لا يحب الأفلين. ويفعل مثل ذلك بالقمر ثم بالشمس، حتى إذا أفلت أعلن حنفيته الطاهرة وايمانه الخالص بالله وحده. قال الله سبحانه (حكاية عنه): «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا اُحِبُّ الاَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ اِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الانعام/76-79) لقد تدرج النبي ابراهيم عليه السلام مع قومه الضالين في ثلاث مراتب؛ ففي البداية ذكّرهم بفطرتهم التي لا تحب إلهاً آفلاً، حيث إنه لا يمكن أن يكون الآفل مقدر الليل والنهار والمهيمن على شؤون الإنسان، مما يستدعيه صفة الربوبية. ثم ذكرهم بأن بزوغ القمر لا يكفي في إثبات الربوبية ما دام هو الآخر آفلاً، وأن الرب هو الذي ينبغي أن يهدي المربوبين الى معرفته. أوليس الرب يهيمن على شؤون مربوبيه، أوليست الهداية منه؟ وهكذا لا بد أن تأتي الحجة من عنده على معرفته، والله سبحانه (وليس القمر) يدل على ذاته بذاته ويشهد على وحدانيته، وأنه القائم بالقسط. وفي المرتبة الأخيرة أعلن النبي ابراهيم عليه السلام أنه بريء من شركهم ومما يشركون به، وذلك حينما جاراهم في ربوبية الشمس ثم تحداهم عندما أفلت. وفي هذه اللحظة ذكرهم بفاطر السماوات والأرض، الذي لم يتخذ شريكاً من خلقه. أوليس قد فطرهما وما يحتويان جميعاً، فكيف يكون له منهما شريك وهم مخلوقون مربوبون مسخرون بأمره، يطلع الطالع منهم بأمره سبحانه، ويأفل بقهره تعالى عما يشركون؟ 2/ ولم يستجب قوم النبي إبراهيم عليه السلام لفطرتهم، لأنها كانت محجوبة بالخوف من الظواهر الطبيعية التي قدسوها خشية منها على أنفسهم، ولذلك تراهم يحذرونه بألاّ يكفر بالشمس وبالقمر ولا بالكوكب.. لأنها قد تسبب لـه أذىً. أما النبي إبراهيم عليه السلام فقد تحداهم بأن الله أحق بالخشية مما خلقه. قال الله سبحانه: «وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» (الانعام/80) 3/ وأخيراً ذكرهم بأن الذي يعيش في ظلال التوحيد، ويأوي الى ركن الحنفية، هو الجدير بالأمن لا الذي يشرك بربه مالم ينزل به سلطاناً. قال الله سبحانه: «وكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُـمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَاَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ اُوْلئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ» (الانعام/81-82) وهكذا نستوحي أن الدين الحنيف الذي لا يلبس بالشرك، يقي الإنسان من خشية ما في الطبيعة من أشياء، ويفك قيد هذا الأصر الثقيل من جوانح الإنسان، حتى ينطلق قدماً في تسخير ما في الأرض..واليوم حيث يسخر الإنسان النار والحديد وسائر المعادن، ويفتق الذرة ويهندس الجينات، ويسبر غور المحيطات، وينفذ في أقطار السماوات والأرض بإذن الله؛ اليوم نعرف مدى أهمية نزع قيد الخوف من الطبيعة، الذي أمر به الدين الاسلامي وهدى إليه كتاب الله الكريم..بينما في السابق حيث كان الناس يزعمون أن لكل شيء روحاً، ويخشونها؛ كانوا يعبدون الشمس في مصر ويصنعون لها معابد، ويعبدون النار في فارس ويبنون لها مواطن، ويعبدون الاحجار في الحجاز ويعتقدون أن لها أرواحاً، ويعبدون الأشجار والحيوان في الهند ويقدسون حتى الأبقار.. وهكذا كانوا يلجأون إلى أرواح الموتى والجن. فكم كان الناس يومئذ مقيدين في حياتهم بأغلال الخوف، ونعرف بالتالي إلى أي مدى كان فضل الله على البشرية كبيراً، حيث أنقذها من الخوف حين أرسل نبي رحمته محمداً صلى الله عليه وآله بنور الكتاب، فوضع الله به الإصر والأغلال عن البشرية.
هاء: الدعوة الى التطلع
حينما تتجلى نظرة الإنسان الشامخة الى نفسه ويتوجه الى ربه واسمائه الحسنى، وتفك عنه الأغلال المختلفة، تأتي الدعوة الصريحة الى التطلع الأسمى في عدة حقائق؛ منها دعوته الى المسارعة الى الخيرات والتسابق فيها، ومنها أمره بالاجتهاد والتهجّد بالليل، ومنها أمر المسلمين في الحرب بالضربات القاضية، ومنها الحصول على أكبر قوة ممكنة.وهذه البصائر وغيرها نستوحيها من الآيات التالية.1/ حكمة إختلاف الشرائع الاستباق الى الخيرات، حيث قـال الله سبحانــه: «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة/148) وقد سبق الحديث - في فصل آخر - عن حكمة تنوع البشر الى شعوب وقبائل، وهو التعارف، ثم يقول ربنا سبحانه: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات/13) نستوحي من ذلك؛ إن حكمة التنوع التنافس على المكرمات، وأكرم الناس أتقاهم.2/ وفي الآية التالية بيان لحكمة إختلاف الشرائع المتمثلة في الإبتلاء، (والذي نستفيد منه استخراج معادن الناس)، وفي استباق الخيرات (باعتبار التنافس أحد سبل الإبتلاء). قال الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونََ» (المائدة/48) 3/ وفي أكثر من آية مدح الله سبحانه الأنبياء والأولياء بمسارعتهم في الخيرات. قال الله سبحانه: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران/114) 4/ وقال الله سبحانه: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينََ» (الانبياء/90) 5/ وقال الله تعالى: «اُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (المؤمنون/61) والخيرات التي أمرنا بالمسارعة إليها والاستباق فيها والمنافسة عليها، هي قمة التطلع الإنساني.6/ وقد أمرنا الله تعالى بالتهجّد بالليل، وفائدته الإنبعاث الى المقام المحمود. قال ربنا سبحانه: «وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً» (الاسراء/79) 7/ وقد وصف الله عباده بأنهم يتطلعون إلى إمامة المتقين، حيث قال سبحانه: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» (الفرقان/74) 8/ وحينما أمر الله الأمة بالاستعداد للحرب، قال سبحانه: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ» (الانفال/60) نستفيد من الآية بصيرتين:الأولى: إن الأمة الاسلامية كما أبناءها مدعوة الى التطلع إلى أن تصبح قوة مرهوبة الجانب.الثانية: باعتبار أن الحرب تمثل قمة التحدي بين الأمم، وفيها تظهر حقائقها وركائز قوتها ومواطن ضعفها؛ وباعتبار تفجر الحرب طاقات الشعوب وتستخرج معادنها، حيث كانت سبباً لأكثر الاكتشافات والاختراعات.. لكل ذلك كان الاستعداد للحرب وبهذه الصورة التي أمرنا بها (اي بلوغ كل قوة ممكنة) كانت طموحاً عظيماً على مستوى الأمة، وتطلعاً سامياً، بل وتحدياً صارخاً على مستوى الأمة.وبكلمة؛ إن الأمر بالاستعداد للحرب بكل قوة مستطاعة يساوي الأمر بالاستجابة للتحدي الحضاري بكل أبعاده، لأن القوة لا تخص القوة العسكرية، بل تشمل الاقتصادية والسياسية والاعلامية والثقافية والتعبوية وغيرها. وهكذا تمثل هذا الأمر «وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ» أمراً بالتطلع الى الأسمى.9/ وقد وضع القرآن المجيد أمام الأمة الاسلامية هدفاً طموحاً، أمرهم بالتطلع إليه، وذلك عندما اعتبرهم خير أمة اخرجت للناس، وأمرهم بأن يكونوا شهداء على الناس لأنهم أمة وسط يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقال تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (البقرة/143) والشهادة هنا كما في سائر الموارد تعني نوعاً من الريادة والقيمومة، بل والقيادة. ولا تكون الأمة كذلك، إلاّ إذا كانت مقتدرة عزيزة مرهوبة.10/ ومن حقائق الشهادة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال سبحانه: «كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ » (آل عمران/110) 11/ ومن حقائق الشهادة، القيام بالقسط، حيث يقول ربنا سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ » (النساء/135) ولا يخص القيام بالقسط في إطار الأمة داخلياً، بل يشمل إطلاقه القيام به على مستوى العالم كله. وأي هدف أسمى وأعظم طموحاً من إقامة القسط في العالم؟ 12/ ومن حقائق الشهادة، الدفاع عن المستضعفين في الأرض ولو باستخدام القوة ضد المستكبرين، حيث يقول سبحانه: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً» (النساء/75) 13/ وفي الحرب وضع القرآن للأمة إستراتيجية الهجوم الصاعق، الذي يبعث الرهب في أفئدة كل الأعداء، ويصبح رادعاً عن التفكير في محاربة المسلمين. يقول الله سبحانه: «فإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (الأنفال/57) فالهزيمة تلحق مادياً بمن شنّ الحرب ضد المسلمين، كما تلحق بالآخرين الذين يقفون وراء أولئك هزيمة معنوية. وهكذا نستفيد من الآية علو الهمة، وسمو التطلع، ووضع خطط استراتيجية بعيدة المدى للتحرك العسكري.وهكذا نستفيد من آيات الذكر مدى التطلع الذي ينبغي أن يحتمله المؤمنون كأمة، ليصبحوا القائمين بالقسط في الأرض، والمدافعين عن المستضعفين.. ولا يتحقق ذلك إلاّ باقتدار مرهوب الجانب. وهذا التطلع يتناغم وتطلع كل مؤمن في أن يبلغ أقصى كمال مستطاع، وأسمى درجة ممكنة.. إذ ان تطلع الأمة ينعكس على تطلع أبناءها، كما أن تطلعات أبناءها تخدم طموحاتها. والله المستعان.
ثالثاً: حقائق التطلع
تتلخص حقائق التطلع في كلمة جامعة يكررها المؤمن في دعائه، وهي التي نتلوها في قوله سبحانه: «رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (البقرة/201) فأي حُسن في الآخرة أو في الدنيا مطلوب للمؤمن؟ وتفصل الأدعية المأثورة هذه الكلمة الحكيمة عبر عشرات الحقائق التي تمثل الحُسن في الدنيا وفي الآخرة، وتشكل جانباً من تطلع الإنسان المؤمن.وقبل أن نستعرض جانباً من هذه التطلعات السامية، نشير الى حكمة الخلق كما استفدناها من الآيات والأحاديث، وهي الرحمة التي وسيلتها العبادة، وابتغاء الوسائل الى الله، حيث يقول ربنا سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ اُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ اُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ » (الذاريات/56-58) فاذاً كلما استدر البشر رحمةً من ربه وابتغى فضلاً منه، فقد حقق المزيد من حكمة خلقه. فالله لا يريد بعبادته أن يُطعَم، بل يريد أن يُطعِم؛ ولا يريد منك رزقاً، بل هو الرزاق الذي خلقك ليرحمك؛ ودعاك إلى عبادته ليزيد من فضله عليك، وهو الذي لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرماً..في إطار هذه الحكمة، نجد الأمر بالدعاء لأنه من وسائل استدرار رحمة الرب، كما نجد النهي عن الاستكبار عنه. قال الله تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر/60) وفي إطار هذه الحكمة أيضاً تأتي سلسلة التطلعات التي نشير إليها، فما هي تلك التطلعات؟ إنها باجمال؛ الايمان الذي يباشر القلب ويبقى حتى لقاء الرب، والتقوى والورع واليقين ومكارم الأخلاق والنجاة من النار والفوز بالجنة والرضوان ومرافقة الأنبياء.وإنها أيضاً سلامة البدن والعافية من جميع البلاء، والشكر على العافية، والأمن في الوطن، والعيش الرغد، والزوجة المطيعة، والذرية الصالحة.وإثارة هذه الحقائق التي هي قيم الحياة وألوانها المثلى؛ إثارتها في الآيات القرآنية والأدعية المأثورة تتناغم مع الفطرة البشرية التي تنطوي أصلاً عليها، وبإثارتها تتبلور أكثر فأكثر.والقيم المثلى هي موضوع هذه الموسوعة، وقد فصلنا الحديث عن أكثرها ولا تحتاج إلى إعادة البحث عنها هنا، وإنما نشير فيما يلي عن بعض هذه القيم التي جعلت في الأدعية القرآنية أو المأثورة عن النبي وأهل بيته عليه وعليهم صلوات الرب، وذلك لكي نعرف مدى الطموح الذي يزرعه الدين في نفوس تابعيه، ودور الدعاء في إثارته وبلورته.1/ الأمن والرزق من الثمرات، كانا في طليعة دعوة النبي إبراهيم عليه السلام للبلد الحرام وأهله، حيث قال الله سبحانه: «وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً ءَامِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّـمَراتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الاَخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَاُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (البقرة/126) ونقرء في الأدعية هذه الكلمة "وأرغد عيشي" أو "اللهم وأعطني السعة في الرزق"، كما تتكرر هذه الدعوة: "والأمن في الوطن.... والصحة في الجسم".([9]) إن طموح المؤمن يتجاوز نفسه، ليشمل أسرته وقومه وأهل بلاده. إستمع إلى كلمة مضيئة من كلمات الإمام الباقر عليه السلام في الدعاء الذي علمه واحداً من أصحابه يكنى بأبي حمزة الثمالي فاشتهر الدعاء باسمه، يقول: "أسألك يا رب من الخير كله ما علمت منه ومالم أعلم، أسألك اللهم من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، يا خير من سئل وأجود من أعطى أعطني سؤلي في نفسي وأهلي ووالديَّ وولدي وأهل حُزانتي واخواني فيك، وأرغد عيشي، وأظهِر مُروّتي، وأصلح جميع أحوالي، واجعلني ممن أطلت عمره وحسّنتَ عمله وأتممت عليه نعمتك ورضيت عنه وأحييته حياة طيبة في أدوم السرور وأسبغ الكرامة وأتم العيش إنك تفعل ما تشاء ولا يفعل ما يشاء غيرك". ([10]) أرأيت كيف تثير الأدعية فطرة الإنسان المتسامية، التي ترغب في الخير كله. فمادام الرب تعالى ذا فضل كبير وقدرة واسعة، فلماذا نبخل عن أنفسنا؟ وهذا هو الأدب القرآني الذي نقرءه في دعاء إبراهيم عليه السلام، فإنه لم يدع لنفسه، بل للمؤمنين كافة. أما كرم الله، فإنه أوسع من ذلك، إذ يشمل غير المؤمنين أيضاً، حيث إستجاب الله دعوة النبي إبراهيم عليه السلام بأكثر مما طلبه..ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في جانب آخر من الدعاء: "اللهم أعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد، والمقام في نعمك عندي، والصحة في الجسم، والقوة في البدن، والسلامة في الدين، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني، واجعلني من أوفر عبادك عندك نصيباً في كل خير أنزلته وتُنـزلهُ في شهر رمضان في ليلة القدر، وما أنت منزله في كل سنة من رحمة تنشرها وعافية تُلبسها وبليّة تدفعها وحسنات تتقبّلها وسيئات تتجاوز عنها". ([11]) 2/ ومن تطلعات المؤمنين التحرر من الظلمة، حيث نقرء في قوله سبحانه: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً» (النساء/75) 3/ كما نقرءها في دعوة المؤمنين من بني اسرائيل، حيث قال الله عنهم: «فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » (يونس/85) وفي الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام نقرء الكلمات التالية:"واحترز به من كل جبار فاجر، وسلطان جائر، وعدو قاهر". ([12]) كما نقرء الكلمات التالية: "بك أستجير ياذا العفو والرضوان، من الظلم والعدوان، ومن غير الزمان، وتواتر الأحزان، وطوارق الحدثان". ([13]) 4/ ومن تطلع المؤمن أن يسمو الى حيث الملك والسلطة، فان يوسف الصديق عليه السلام الذي كان في الظاهر سجيناً وغريباً في مصر، طالب عزيز مصر بأن يكون في موقع السلطة ومهيمناً على خزائن الأرض. قال الله سبحانه (عن لسان النبي يوسف عليه السلام): «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف/55) 5/ أما النبي سليمان عليه السلام الذي ورث ملك أبيه النبي داود عليه السلام، فقد تطلع الى ملك لا ينبغي لأحد من بعده، فقال عنه ربنا تعالى: «قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ» (ص/35) 6/ ولعل الحصول على الملك العادل هو المعنى المقصـود في قوله تعالــى: «وَقُـل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِي مِن لَدُنكَ سُلْطَاناً نَصِيراً» (الاسراء/80) 7/ ولا نجد تفصيلاً لهذه الدعوة في الأدعية، ربما لأن الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها، وهي مركز واحد لا يمكن أن يتطلع إليه الجميع فيفسد النظام. وقد قال ربنا سبحانه: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ » (السجدة/24) مما يدل على ضرورة توفر شروط معينة في القيادة الربانية، منها الصبر واليقين، ومنها الدخول بصدق والخروج بصدق، ومنها التهجد بالليل كما استفدناه من آيات سبقت، ومنها الزهد في الدنيا حسبما نستفيده من بعض الأدعية المأثورة.ومع هذه الشروط، لا ينبغي لكل شخص أن يطمح في منصب القيادة إلاّ لمن توفرت عنده الشروط، أو لمن سأل الله أن يوفرها فيه ثم يسوق القيادة إليه سوقاً.8/ ثم إن السلطة ليست مطلوبة بأية صورة، بل عبر السبيل المشروع، وهو أن يطلب سلطة بلا ظلم وبالرضا من الله سبحانه والقبول من قبل الناس.ومن هنا كان دعاء عباد الرحمن متمثلاً في أن يكونوا أئمة للمتقين، لا لكل الناس، حيث قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» (الفرقان/74) وقد فسرت هذه الآية بما يرجع الى الدعاء الى طلب القيادة والإمامة للمتقين، متمثلة في أصلحهم.9/ ومن أسمى التطلعات الجنة ومرضاة الله وما يصلح الإنسان ويهيئه للوصول إليهما، قال الله تعالى: «وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» (الشعراء/85) وفي الأدعية المأثورة كلمات بالغة التأثير في هذا الحقل. لنقرء معاً هذه الرائعة: "اللهم إني أسألك أن تملأ قلبي حباً لك وخشيةً منك وتصديقاً بكتابك وايماناً بك وفَرَقاً منك وشوقاً إليك يا ذا الجلال والإكرام، حبّب إليَّ لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة. اللهم الحقني بصالح من مضى، واجعلني من صالح من بقي، وخذ بي سبيل الصالحين، وأعنّي على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم، واختم عملي بأحسنه واجعل ثوابي منه الجنة برحمتك، وأعنّي على صالح ما أعطيتني وثبّتني يا ربّ ولا تردّني في سوءٍ استنقذتني منه يا رب العالمين". ([14]) ماذا نجد في هذه الرائعة؟ نجد جوامع الدعوات التي تهيء الإنسان للجنة. وهكذا يكون طلب الجنة من الله سبحانه بطلب التوفيق للأعمال الصالحة، التي جعلها الله ثمناً لجناته.10/ وهكذا كان ضمن دعوات المرسلين طلب التوفيق لصالحي الأعمال، التي تجعلهم من أهل الجنة بإذن الله. قال الله سبحانه حكاية عن النبي ابراهيم عليه السلام : «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ» (إبراهيم/40) وإنما تنفع الصلاة وسائر الفرائض والحسنات، إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم. ومن هنا نقرء في الأدعية ما يلي:"اللهم خُصّني منك بخاصّةِ ذكرك، ولا تجعل شيئاً مما أتقرّبُ به في آناءِ الليل وأطراف النهار رياءً ولا سمعةً ولا اَشراً ولا بطراً واجعلني لك من الخاشعين". ([15]) 11/ ومن النعم التي سعى إليها الصالحون، وكان ضمن طموحهم المتسامي؛ الذرية الطيبة والذكر الحسن من بعدهم، حيث نقرء في كتاب ربنا قوله سبحانه: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً» (مريم/6) 12/ وقال ربنا عز وجل: «وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ» (الشعراء/84) 13/ ومن تطلعاتهم المغفرة لآبائهم، ولمن سبقهم الى الايمان. قال الله سبحانه: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» (ابراهيم/41) 14/ وقال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ» (الحشر/10) 15/ الحياة الطوبى في الدنيا، ودخول الجنة في العقبى؛ هما هدفان عظيمان للمؤمنين، ولكنهما لا يكفيانهم. إنما تتم النعمة عندهم بالوقاية من النار، لأن بعض من يدخل الجنة يمر على النار لكي يتطهر كاملاً من الأدران وآثار الخطايا. ومن هنا كانت دعوة المؤمنين وطموحهم الكبير أن يقيهم الرب تعالى نار جهنم. قال الله سبحانه: «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَــآ إِنَّنَـــآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (آل عمران/16) 16/ وطموح المؤمن أن يقي الرب كل المؤمنين من السيئات، وهذه أيضاً دعوة الملائكـة: «وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (غافر/9) ولكن كيف يتقي الإنسان النار؟ بكلمة جامعة؛ بالتقوى، وهي تعني التحفظ من كل ما ينتهي الى العذاب. فماذا عن الذنوب الماضية؟ إن لها المغفرة؛ إنها تحجب المؤمن عن النار.ومن هنا كانت كلمة الاستغفار من أكثر الكلمات ترداداً في الأدعية. كما أن طلب التوفيق من الله سبحانه لتزكية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل، من الكلمات التي تتكرر في الدعوات المأثورة. وهناك أدعية خاصة بها مثل دعاء مكارم الأخلاق ودعاء عالية المضامين.وهكذا كانت الفضائل مطلباً أساسياً وطموحاً عالياً من طموحات المؤمنين. تعال نقرء معاً كلمات الامام زين العابدين عليه السلام في هذا الدعاء:"اللهم صل على محمد وآله وبلّغ بايماني أكمل الايمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيّتي الى أحسن النيّات، وبعملي الى أحسن الأعمال. اللهم وفّر بلطفك نيّتي، وصحح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسد مني. اللهم صل على محمد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسئلني غداً عنه، واستفرغ أيامي فيما خلقتني لـه، واغنني وأوسع عليَّ في رزقك، ولا تفتنّي بالنظر، واعزّني ولا تبتلّيني بالكِبْر، وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعُجب، وأجْرِ للناس على يديَّ الخير ولا تمحقه بالمنِّ، وهب لي معالي الأخلاق، واعصمني من الفخر. اللهم صل على محمد وآله ولا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلاَّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها. اللهم صل على محمد وآل محمد ومتّعني بهدىً صالح لا استبدل به، وطريقة حقٍ لا أزيغ عنها، ونيّة رشدٍ لا أشك فيها، وعمّرني ما كان عمري بِذْلَةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتك إليَّ أو يستحكم غضبك عليَّ. اللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلاّ أصلحتها، ولا عائبةً أؤنّبُ بها إلاّ حسّنتها، ولا اُكرومة فيَّ ناقصة إلاّ أتممتها". ([16]) وكلمة أخيرة؛ إن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وخلق له دار كرامته الجنة، وأسجد لأبيه ملائكته، جدير به أن يبلغ أقصى درجات السمو مادياً ومعنوياً، في الدنيا والآخرة، في الجسم والروح والعقل. وهذه هي التربية الاسلامية التي تستثير طموح الإنسان، وتجعل منه طاقة تحركه أبداً الى الأعلى. أفلا أكون أنا ذلك الإنسان؟ ولماذا لا؟ وسوف نتحدث في هذا الباب عن التطلع في أربعة فصول؛ الفصل الأول عن قيمة الكرامة، والفصل الثاني عن أصالة الإنسان وأنه فوق الفروق والحواجز، والفصل الثالث عن المكارم الإنسانية التي لابد أن يتسابق فيها المؤمنون، والفصل الرابع عن قيمة القوة وأن الحق يغلب القوة أنى كانت كبيرة.
الفصل الأول: الإنسانية فوق الفروق
الكرامة
من القيم المثلى التي يورثها الإيمان قيمة الكرامة. أوليس الله كرّم بني آدم حين حملهم في البر والبحر، أولم يكرم ملائكته وجعل أكرم الناس أتقاهم؟ ما هي الكرامة، وماهي حقيقتها في حياة البشر جميعاً، وماهي حقائقها في حياة المؤمنين خاصة؟ فيما نتلو من الآيات، سوف نستوحي إن شاء الله تعالى هذه الحقائق.
ألف: ماهي الكرامة؟
أنت تكرم والديك وزوجك وولدك، كيف تكرمهم؟ تلك هي أيضاً مسؤوليتك تجاه عباد الله المكرمين.1/ في قصة يوسف عليه السلام الذي أراد أخوته اهانته حينما باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، واشتراه بمصر رجل عقيم، ودفعه الى زوجته ووصاها بأن تكرمه، لعلهم يتخذوه ولداً. قال الله سبحانه: «وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لإِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (يوسف/21) تعامل ربة البيت مع فتى يخدمها، يختلف عن تعاملها مع من يريدون أن يتخذوه ولداً؛ وبالذات حينما يشعرون بفراغ، بل بعقدة نفسية لأنهم لم ينجبوا ولداً. إنهم بالطبع يحترمونه ويحبونه ويقدمون لـه أفضل ما يقدرون. هذه الكرامة التي وفّرها الله سبحانه ليوسف الصديق..2/ ومن حقائق الكرامة مدى الإحترام المتبادل بين الزوجين، ينظر كل الى الآخر بنظر الإكبار ويسعى جاهداً من أجل راحته.. حيث يقول ربنا سبحانه: «أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» (الشعراء/7) فإن الله سبحانه لم يحوج الزوج الى زوجته إلاّ بقدر ما جعلها محتاجة إليه، لكي لا يهان أحد بالافتقار الى الثاني. وتلك من أمثلة الكرامة، ليس في البشر فقط، وإنما في كل زوجين خلقهما الله سبحانه.3/ وكذلك استأدى ربنا ميثاق فطرتنا، واستثار في وجداننا ما أغرز فيه من حب الوالدين الذين هما قناة انهمار نعمه سبحانه علينا، وفرض علينا شكرهما واكرامهما. فقال تعالى في سورة لقمان: «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (لقمان/14)، وقال تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ اَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَآ اُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً» (الاسراء/23) كيف نكرم الوالدين، أليس باحترامهما وبالسعي الدائب في قضاء حوائجهما؟ كذلك الاكرام حيث تتوضح لدينا من هذه الأمثلة حقائق الكرامة، ومعانيها اللطيفة.
باء: الانسان ذلك الكريم
ولقد أكرم الله بني آدم بكرامات عامة وأخرى خاصة.1/ لقد سخّر الله لبني آدم قوى الطبيعة بما وهب لهم من قدرات، لم يعطها لغيرهم من الأحياء على الأرض. فقـال سبحانـه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الاسراء/70) لقد وهب الله للانسان العقل والارادة، وخلقه خلقاً سوياً؛ ساعده كل ذلك على تسخير الطبيعة، والهيمنة على سائر الأحياء. فامتطى صهوة الريح بالطائرات، وخاض عباب البحر بالسفن العابرة للقارات، وفلق الذرة وغزى الفضاء واستفاد من أطيب اللحوم والثمرات.. إنها تكريم عظيم.2/ وكرّم بني آدم بالهداية بالرسل والكتب، وكذلك بالشرائع التي نظمت حياتهم الاجتماعية ووفرت لهم فرصة بناء الحضارات الشامخة.إن الله سبحانه أكرم بني آدم كرامة بالغة حينما أمره بعبادته وحده، ونبذ عبادة الطبيعة أو عبادة بعضهم لبعض. أوليس ذلك تعالياً للبشر الى أعلى مستوى ممكن، حيث أغناهم بعبادته عن عبادة ما سواه؟ قال الله سبحانه على لسان يوسف الصديق: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلآَّ أَسْمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُــونَ» (يوسف/ 38-40) حقاً؛ إنها نعمة كبيرة وفضل عظيم أن يعبد الإنسان ربه وحده، ولا يكون عبداً للشيطان أو عبداً للسلطان أو عبداً لصاحب مال أو بطش أو جاه، أو عبداً لجمال إمرأة أو صوت مطرب أو سحر منظر خلاّب أو جذابية قصر منيف.3/ وتلك كرامة بالغة للانسان أن يسجد لله وحده، لكي لا يسجد لصنم أصم، أو طاغٍ أرعن، أو ثري مستكبر. قال ربنا سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الاَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَـالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَـلُ مَا يَشَآءُ» (الحج/18) إن أولئك الذين أكرمهم الله بالسجود لـه، أنقذهم من هوان وصغار. أما أولئك الذين ردّوا نعمة التوحيد، وسجدوا لغير الله، فلا مكرم لهم أبداً.4/ ومن خلق الله من أكرمهم الله بالهداية إليه، وإخلاص العبودية لـه، وهم الأنبياء عليهم السلام، حيث رفعهم الله الى مقام التسليم لـه، فأكرمهـم بذلك أيما كرامة. قال الله سبحانه: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِاَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (الانبياء/26-27) يبدو أن تسليمهم التام لما أمر الله به هو وسيلة الكرامة الالهية لهم، والتي تجلت في اجتبائهم رسلاً من لدنه الى سائر البشر، كما تجلت في تسخير الطبيعة لهم بصورة خارقة وإظهار الكرامات العظيمة على أيديهم، حتى ظن الجهلاء أنهم أولاد الله سبحانه وتعالى.5/ وممن أكرمهم الله الشهداء الذين اختارهم الله ليكونوا أحياء عنده يرزقون، مثل صاحب يس، حيث أنه قال بعد أن استشهد وأحرق وأذري برماده، قال كما جاء في كتاب ربنـا: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِيــنَ» (يس/26-27) 6/ والله سبحانه يكرم أهل التقوى، ويجعل أتقى الناس أكرمهم عنده، حيث قال سبحانه: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات/13) فاذا كان الهدف من تنوع فئات البشر في إطار الشعوب والقبائل، التعارف والاعتراف المتبادل ببعضهم، تمهيداً لطريق التعاون واستباق الخيرات والمسارعة الى مغفرة من الله وجنة عرضها كعرض السموات والأرض. فان الأكرم عند الله منهم هو الأقرب الى الله باتباع شرائعه، وهو الأتقى. ولعل حقيقة التقوى هي الاهتداء الى الله والايمان به ومعرفة مراضيه والاجتهاد فيها.7/ وعلينا أن نكرم من أكرمه الله؛ الأنبياء والشهداء والمتقين، الأمثل فالأمثل. كما أن علينا أن نكرم سائر عباده، كل بقدر إكرام الله له؛ نكرم الآباء والأولاد والأزواج، ونكرم الضيف، حيث قال سبحانه: «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» (الذاريات/24) وقد جاء في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "حبّب إليَّ الصوم بالصيف، وقرى الضيف، والضرب في سبيل الله بالسيف". ([17]) وقد جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله: "الخلق كُلّهم عيال الله، فأحبهم الى الله عز وجل أنفقهم لعياله". ([18]) 9/ وممن أمرنا باكرامهم اليتيم، لأنه بحاجة الى العطف والعاطفة؛ الى الرحمة والحب؛ الى العطاء والحنان. فلا يكفي إشباع جوعته، وإكساء عورته، وتوفير ضرورات حياته. إنما هو بحاجة ماسة الى الكرامة التي كان يجدها عند والديه، تلك الكرامة الانسانية التي جعلها الله حقاً لكل إنسان، وجعل من وسائل توفرها ظلال الوالد الرؤوف والأم الحنون.من هنا عاب كتاب ربنا قوماً جعلوا المال كل شيء في حياتهم، فإذا أغناهم الله من فضله زعموا أن الله قد أكرمهم.بلى؛ إن النعمة كرامة، ولكن بشرطها وشروطها، ومن شروطها أن يطيب مكسبها، ويحسن صاحبها التصرف فيها، ولا يُصبح عبداً لها. فاذا إمتلكت بيتاً من كسب شريف، ثم جعلته مأوى لكل ضعيف، ولم تبطر به الى درجة الغرور والكبر، فان البيت نعمة وأية نعمة. ولكن إذا انتهب أحدهم أموال اليتامى، وبنى بيتاً على أساس الظلم، واغتر به وافتخر على الناس، فإن هذا البيت نقمة عليه وليس نعمة لـه. ألا تقرأ قول الله سبحانه: «فَاَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَاَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً »(الفجر/ 15-20) ونستوحي من الآية؛ إن كرامة الإنسان تتمثل في إكرام اليتيم، وإطعام المسكين، والتورع عن المكسب الحرام؛ مثل أكل التراث، والتسامي عن حب المال حباً جماً.فيا أيها الإنسان، لقد كرّمك الله سبحانه، فكيف تسمح لنفسك أن تصبح أسيرة الثروة، أو عبدة الشهوات؟!10/ وتتمثل كرامة المؤمن أيضاً في التعالي عن جهل الجاهلين، وعدم الخوض معهم في لغوهم وجدلهم وفحشهم. قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماًً» (الفرقان/72) 11/ والله قد بشّر عباده برزق كريم، وبأجر كريم، وبدار الكرامة وهي الجنة، حيث قال سبحانه: «اُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» (الانفال/4) وهكذا خلق الله الانسان وكرّمه، وأراد لـه في الدنيا حياة كريمة بالتقوى، وبشره بدار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
فقـه الآيـات
كرامة الانسان قيمة إيمانية سامية، تفيض منها تشريعات إسلامية شتى، وإليك بعض التفصيل..1/ الكرامة الانسانية تقتضي ألاّ يجوع الإنسان، ولا يضحى؛ بل من أبسط حقوقه توفر الرزق الكريم، والمأوى المناسب لـه، وكذلك توفر الرعاية الصحية الكافية.2/ وكرامة الإنسان تقتضي حرمته، فلا يضيع حق من حقوقه؛ فدمه وماله وعرضه وجهده محترم، ولابد أن يحمي النظام ويحمي المجتمع كل هذه الحرمات، وأن يوفر له كافة الحقوق القضائية.3/ والكرامة الانسانية تقتضي كفالة حرية الناس في المعتقد والانتماء وفي الإقامة وفي إبداء الآراء السياسية، وسائر الحريات التي ينظم القانون منهج إستخدامها في كل بلد وعند كل قوم.4/ والكرامة الانسانية تقتضي أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لشعب على شعب، ولا لطائفة على غيرها، ولا لطبقة إجتماعية على أخرى، وهكذا..5/ والكرامة الانسانية تقتضي أخيراً كفالة القانون لحق الانسان في تحقيق طموحاته المشروعة في التسامي، عبر درجات العلم والثروة والمنصب (الجاه) من دون تمييز.وهذه الحقوق التي تقتضيها الكرامة الانسانية، هي بعض ما نجده في التشريع الاسلامي من أحكام بشأن حقوق الانسان، وليس كلها.