وهكذا برَّروا الجرائم التي ارتكبوها بحق الناس من غيرهم. ومثل هذه الثقافة يروّجها المستكبرون فيما بينهم، لإستغلال البلاد النامية.3/ وقارون الذي يضرب به المثل لهذه الطبقة المترفة، خرج على قومه في زينته (لإشاعة ثقافة الإستهلاك)، فإذا بالبسطاء من الناس يتمنون أن يؤتوا مثلما أوتي. وقص علينا ربنا قصته لنعتبر بها؛ دعنا إذاً نتدبر فيها، ونستفيد من كل آية آية منها. قال الله سبحانه: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِيــنَ * قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُـجْرِمُونَ» (القصص/76-78) نستفيد من الآيات البصائر التالية:أ- إن البغي أخرج قارون من زمرة قوم موسى عليه السلام، ولعل هذا البغي كان وراء ثروته الهائلة.ب- إنه خرج عن طوره، فلم يعد يتبع أوامر الرسول؛ بل فرح بما آتاه الله، والفرح دليل رضاه من نفسه ومغالاته في الثقة بأفكاره ومناهجه دون الإستماع إلى موعظة الناصحين.ج- ونصحه قومه (المخلصون) بثلاث نصائح لم يعمل بها، وإنما كان يعمل بما يخالفها، نصحوه بأن ينفق ثروته في سبيل الدار الآخرة, بينما أخذ يبذرها على شهوات الدنيا. ونصحوه بالإحسان إلى الناس، فاستأثر بالخيرات لنفسه. ونصحوه بألاَّ يبغي الفساد، ولكنه نشر الفساد (ولعله أفسد الإقتصاد بالظلم، وأفسد الناس بالزينة).د- وطغى قارون إلى درجة زعم أن قوته الذاتية هي التي أوصلته الى هذه الثروة، وكأنه تحدى إرادة الله، دون أن يلتفت الى أن الله قد أهلك من القرون من كان هو أشدُّ منه قوة وأكثر جمعـاً.ويبدو أن هذه هي صفات الكثير من المترفين الغافلين عن ذكر الله.4/ وقال الله سبحانه: «قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُـجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ اُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيـــمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ» (القصص/78-80) ونستفيد من الآيتين، البصيرتين التاليتين :أ- إن قارون إستخدم ثروته في إفساد الناس، حيث خرج على الناس في زينته، حتى أثار في الناس الرغبة في الإقتداء به (وانتشرت عندهم ثقافة الترف) .ب- قاوم العلماء بالله هذه الظاهرة الفاسدة، ونشروا في الناس ثقافة الإيمان والعمل الصالح. ومعروف كيف خسف الله بقارون وبداره الأرض، وأنقذ الناس من التأثر به وبثقافة المترفين.
ثالثا: في السياسة والحكم
يتسلل المترفون في مرحلة متقدمة من إفسادهم في الأرض ليصلوا إلى قمة الهرم في المجتمع ، حيث يهيمنون على السلطة السياسية بشراء ضمائر الحكام أو بتقاسم المصالح معهم، وهناك يعم الفساد. فإذا لم يقم المصلحون ضد هذا الوضع، ينهار المجتمع وينـزل العذاب.1/ يقول الله سبحانه: «وَإِذَا أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً» (الاسراء/16) فالمترفون هنا أضحوا في رأس السلطة، ولذلك توجه أمر الله المتمثل في الإنذار إليهم. ولكنهم رفضوا أمر الله، فتمت عليهم الحجة، وحق عليهم قول ربنا بعذاب المفسدين بعد إتمام الحجة عليهم، فدمرهم الله تدميراً.والتدمير لم يخص المترفين، بل عمّ الساكتين عنهم من الناس، ولذلك حقت عليهم جميعاً كلمة العذاب.2/ ولكن مع وجود طائفة مصلحة بين الناس، قد يؤخر العذاب عنهم، إذ يرجى صلاحهم. هذا ما نستوحيه من قوله سبحانه: «فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ » (هود/116-117)
هاء: تحدي الإستكبار
أكثر ما سحق كرامة الإنسان عبر التاريخ وحتى اليوم، إستخدام القوة ضد إرادته، والذي يتمثل اليوم في الدول الديكتاتورية (المستبدة) التي تقمع شعوبها، وفي الدول المستكبرة التي تفرض هيمنتها على سائر الشعوب عبر إخضاع الدول الممثلة لها. ولعل النمط الأول يسمى في منطق القرآن بالطاغوت، بينما يسمى النمط الثاني بالإستكبار. وهما سيان في المحصلة النهائية، إذ إنهما بالتالي يحاولان سحق كرامة البشر وقدراته، وتطويعه بالإرهاب.ويضع القرآن الكريم شرائع ومناهج لمقاومة كل ألوان الإرهاب، ويبث في روع الإنسان بصائر التحدي والإستقامة حتى النصر.وقد تحدثنا عن ذلك في مناسبة أخرى، وإنما نشير هنا إلى بعض البصائر في ذلك تتميماً للبحث.1/ الإرهاب قد يستخدم ضد قوم آخرين، كما فعلت عاد، حيث قال الله سبحانه: «فَاَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ» (فصلت/15) فهذه عاد كانت قد استكبرت في الأرض، وفرضت سيطرتها على الناس، وبطشت بهم بطش الجبارين.2/ وقد يُستخدم الإرهاب ضد المجتمع الذي يحكمه المستكبر نفسه، مثلما فعل فرعون، حيث قال الله سبحانه: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الاَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (القصص/4) 3/ والمستكبرون هم الذين يكفرون برسالات الله؛ أوليست الرسالات تناهض بطشهم، وتجاهد من أجل الإنسان الذي يستضعفونه ويسحقون كرامته؟ قال الله تعالى: «قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِن رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ اُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ» (الاعراف/75) ونستفيد من الآية؛ إن المستضعفين هم الذين يسارعون إلى الإيمان بالرسل، ويحاول المستكبرون منعهم من ذلك بشتى الوسائل (بالإرهاب أو بالدعاية).4/ وقال الله سبحانه عن قصة النبي شعيب عليه السلام: «قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِـينَ» (الاعراف/88) 5/ والله سبحانه يحاسب المستضعف يوم القيامة على طاعته للمستكبر واتباعه له، كما يحاسب المستكبر على بطشه وإرهابه. قال الله سبحانه: «وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَآءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ» (غافر/47-48) 6/ ذلك أن الله قد أمر عباده بألاَّ يعبدوا سواه، ولا يتخذوا من دونه أنداداً، وأمرهم بأن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه، وأمرهم بأن يهاجروا من الأرض التي يستضعفون فيها، وأذن لهم بأن يقاتلوا من يخرجهم من أرضهم، ووعدهم النصر إن هم نصروه. فإذا استرسل الناس مع المستكبر ولم يقاوموه فقد شاركوه في جريمته، وأن الله يجمعهم معه في النار -والعياذ بالله-.إن كرامة الانسان أعزّ ما فيه، ولا يجوز لأحد أن يفرّط فيها، وإن الله قد منّ على عباده بأن أكرمهم ورفع شأنهم من أن يعبدوا سواه. ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، فيشركون بالله ما لم ينـزل به سلطاناً. هكذا تكلم يوسف الصديق عليه السلام لصاحبيه في السجن. كما جاء في القرآن الحكيم: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» (يوسف/38) كان سجيناً ولكنه كان كريماً، ما خدش كرامته بطش الطاغية، بل ازداد اعتزازاً بربه، وفخراً بعبوديته وحده. وقال الله سبحانه وهو يقص قصته: «مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلآَّ أَسْمآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ» (يوسف/40) وهكذا تستطيل كرامة الإنسان في ظل تعاليم الوحي على كل صور الإستلاب والإستغلال، وتتحدى كل من تسول نفسه تحويل البشر إلى أداة طيّعة لثروته أو لجاهه أو لقوته أو لدعايته أو لأية قيمة زائفة يتذرّع بها؛ ويبقى الإنسان السوي عبداً لله وحده، لا لأحد سواه.
التعاون
التعاون في الخير قيمة ايمانية بعد الاستقامة بالله العظيم. والواجب هو التعاون على البرّ، كإقامة الصلاة، وبث الدعوة الإسلامية، وخدمة المجتمع.. وعلى التقوى، كحفظ حدود الله في المجتمع، والنهي عن المنكرات.ويحرم التعاون على الإثم، مثل نشر الفساد واشاعة الحمية الجاهلية، كما يحرم التعاون على العدوان وظلم الآخرين.ويلحق بالبحث التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.
أولاً: معنى التعاون
1/ ضعف البشر عن تحقيق أهدافه يجعله يطلب العون عليها من الآخرين، والمؤمن يستعين بربه في الشدائد. (وحتى عند طلبه العون من العباد، يرى إن العون الحقيقي يأتيه من ربه). قال الله سبحانه: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (الفاتحة/5) 2/ وقال الله سبحانه: «وَجَآءُوا عَلَى قَميِصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَاتَصِفُونَ» (يوسف/18) 3/ وقد يطلب المؤمن العون من الناس على الخير بعد الاستعانة بالله. وقد طلب الملك الصالح (ذو القرنين) من الناس أن يعينوه بقوة، فقال ربنا سبحانه: «قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَاَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» (الكهف/95)
ثانياً: حقائق التعاون
وقد جمع الله سبحانه حقائق التعاون في آية كريمة، فقال سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلآئِدَ وَلآ ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِن رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ اَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (المائدة/2) ونستفيد من الآية البصائر التالية:أ- موقف الانسان من الآخرين قد ينبعث من عواطفه، وهو موقف خاطئ؛ وقد ينطلق من الحق، وهو موقف صحيح. وهكذا نهى الكتاب المؤمنين من أن يدعوهم (حقد قريش عليهم) صدهم عن المسجد الحرام الى الاعتداء، (بل عليهم أن يتمسكوا بالعدالة والتقوى حتى مع العدو).ب- أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضاً على البرّ، وهو كل معروف؛ والتقوى التي هي التمسك بحدود الله، وتتجلى في النهي عن المنكر. وكأن الآية هنا تدعو الى التعاون في الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر ومقاومته قولاً وعملاً.ج- وفي ذات الوقت ينهانا كتاب ربنا من إعانة بعضنا بعضاً على الإثم، وكل منكر؛ كما ينهانا عن التعاون على العدوان وظلم الآخرين، كالاعتداء على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم.د- وقد ذكرتنا خاتمة الآية بأن الله شديد العقاب، تحذيراً لمن سولت له نفسه التعاون على الإثم والعدوان.
ثالثاً: التناجي
والتناجي يمهد السبيل الى التعاون. وإذا كان محور التناجي الصدقة والمعروف وطاعة الرسول، كان نافعاً. أما إذا كان محوره الإثم والعدوان ومعصية الرسول، فهو حرام ومنهي عنه. وقد قال ربنا سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيهِ تُحْشَرُونَ» (المجادلة/8-9)
فقـه الآيـات
ونتحدث هنا عن فقه آية التعاون وذلك عبر قسمين؛ الأول عن التعاون على البر والتقوى، والثاني عن التعاون على الإثم والعدوان.
أولاً: التعاون على البر والتقوى
في هذا القسم نتحدث عن خمسة جوانب؛ ألف: آفاق التعاون، باء: عقبات التعاون، جيم: سبل التعاون، دال: أخلاق التعاون، هاء: التعاون والتعددية.
ألف: آفاق التعاون
لأن تطلعات المسلمين كأفراد وكأمة، تطلعات سامية جداً، فإن تحقيقها لن يكون إلاّ بالتعاون. ومن هنا فان من يدعي أنه يتطلع الى تحقيق هدف كبير ثم يكف يده عن الآخرين، فإنه في ضلال بعيد.إن أمام الهادفين واحداً من مسلكين؛ فإما أن ترتفع لديهم درجة الاندفاع إليها الى مستوى إكتساح كل الموانع وتجاوز جميع العقبات، ثم المضي قدماً على طريق تحقيقها كما تفعل الكاسحة (البلدوزر). والطريق الثاني تعبيد الطريق الى الأهداف أولاً، وتمهيده بالخطط الرشيدة ثم السير نحوها، كما سيارة شخصية عندما تسير على طريق معبّد، وعندئذ يقطعون مسافات كبيرة بأقل قدر من طاقة الاندفاع.والحضارات البشرية الكبرى نمت على المسلك الثاني، بينما الاندفاعات العاطفية التي نجدها عند الجماعات البشرية الأقل تحضراً نجحت بصورة موقتة ثم اندثرت (الاجتياح التتري للعالم الشرقي مثلاً).ومن أبرز وسائل تعبيد طريق التطلعات؛ التعاون. إنه يخفف الحمل ويزيد الحيوية، ويضمن إستقرار العمل وعدم إنهياره أو تلكأه بسبب طرد الضعف عند العاملين. ويجمع شتات القوة، وشتات المعرفة، وشتات الرأسمال؛ يجمعها في وحدة، مما يوفر فرصة القيام بأعمال كبيرة.من هنا لا بد من تذكر أهدافنا الكبرى عندما نواجه عقبة في أمر التعاون، لنعلم إن تحقيقها لا يكون إلاّ بهذا التعاون.
باء: عقبات التعاون
كما أن التقوى كلمة واحدة ولكنها تعني نظاماً سلوكياً متكاملاً يشمل حقول الحياة جميعاً، كذلك التعاون كلمة واحدة ولكنها تعني منظومة متكاملة من مناهج العمل، تشمل كافة أبعاد السلوك. فالتعاون هو السبيل الى التقوى. ومن هنا يقول ربنا سبحانه: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» (المائدة/2) ومن دون فهم هذه الشمولية في معنى التعاون، نقع في أخطاء كثيرة. كيف؟ قبل بيان ذلك أضرب مثلاً؛ أمام النجار كومة من الاخشاب يريد أن يصنع منها كرسياً، ماذا يصنع؟ يهيئ الأخشاب، أولاً يقيسها حسب الكرسي المتصور، ثم يقطع الزوائد منها، ويسوّي قطعاتها، ويصقل سطوحها الواحدة بعد الأخرى، ثم يجعلها تتداعم حتى تصبح كرسياً. كذلك البشر قبل أن يتداعموا (ويتعاونوا) لا بد أن تصقل نفوسهم وتسوّى، وتصقل لتنسجم مع بعضها البعض. فكيف تصقل النفوس؟ بالأخلاق والآداب. مثلاً؛ إذا كانت نظراتهم الى بعضهم سلبية نابعة من الحقد والحسد والحمية، لا يستطيعون التعاون. وإذا كان كل واحد يريد أن يأخذ أكثر مما يُعطي، لا يقدرون على التعاون.وهكذا كانت الأخلاق الفاضلة والآداب الرفيعة هي دعامة التعاون.وإنما كانت الأخلاق الحسنة أساس الحضارات، لأن حقيقة الحضارة هي التعاون، والأخلاق شرطه الذي لا بد منه.والاسلام دين الحضارة، وقد احتوت تعاليمه على منظومة متكاملة من الوصايا الخلقية، حتى روي عن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله قوله الكريم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ومن هنا استفاضت النصوص الدينية في الأخلاق.وكما الأخلاق الحسنة، كذلك الآداب الرفيعة تساهم في تسهيل التعاون. فآداب الزينة والسلام والتهادي، والقول بالذي هو أحسن، وسائر آداب العشرة التي نجدها بوفرة في تعاليم ديننا الحنيف، إنها تشكل أسس التعاون.وإلى تلك الوصايا الخلقية والتعاليم القيمة في الآداب، نحن بحاجة الى كل خلق فاضل أو أدب رفيع يساهم في تدعيم أسس التعاون، حتى ولو لم نستوحيه من النصوص، لأن التعاون مأمور به، وكل ما يؤدي إليه مأمور به بالتبع.إن النظر التجزيئي إلى الشريعة الغراء، وبالذات الى الوصايا الأخلاقية فيها جعلنا لا نأبه بطائفة من الأحكام والتعاليم لعدم معرفتنا بمدى أهميتها. ولأن البعض منا يزعم أن الوصايا الأخلاقية ليست واجبة، فإنك تراه يستخف بها. كلا؛ إن كثيراً من الوصايا الخلقية واجبات شرعية مؤكدة.
جيم: سبل التعاون
ما يمهد السبيل الى التعاون نوعان؛ ثابت ومتغير. فالثابت يتمثل في الأخلاق الحسنة والآداب الرفيعة، والمتغير يتمثل في أطر التعاون؛ أي في المؤسسات التي يتم عبرها التعاون، مثل الأحزاب السياسية، والتنظيمات المهنية، والنقابات العمالية، والاتحادات الطلابية، والجمعيات الفلاحية، والشركات الاقتصادية، والتكتلات النيابية، وغيرها. فإن هذه الأطر ضرورية لتعاون مجموعة من الناس، ولا بد منها إذا أردنا أن يبدء وأن يستمر التعاون. ولا يجوز لمن يريد التعاون أن يدع الاهتمام بها، وإلاّ فإن ارادته تمنّي وكلامه عبث. وهنا تكمن مشكلة بلادنا؛ إننا ندعي الاهتمام بالتعاون، ولكننا لا نهتم بما يحققه من الأطر المؤدية إليه.وأطر التعاون تختلف من عصر لعصر، ومن منطقة لأخرى، ومن فرد لآخر. فعلينا أن نعصر أدمغتنا عصراً، حتى نعرف أفضل إطار للتعاون بالنسبة لكل فرد فرد منا، والله المستعان.
دال: أخلاق التعاون
بالرغم من أهمية كل السلوكيات الخلقية وآداب العشرة في تحقيق التعاون، إلاّ إن بعضاً منها يؤدي دوراً أساسياً فيه، حيث أن ضعف الاهتمام به يمثل عقدة التعاون في بلادنا، وهي التالية:أ- الاهتمام بالقيادة كقيمة حضارية أساسية. وبالرغم من أن الدين الاسلامي - وبالذات حسب بصائر أهل البيت عليهم السلام - قد أولى اهتماماً بالغاً بأمر القيادة، إلاّ أن التخلف الحضاري والهزيمة النفسية عند كثير من أبناء الأمة، جعل القيادة أقرب إلى حالة رمزية منها الى قيادة فعلية ذات أثر واقعي.وإذا أردنا تفعيل قيمة التعاون في الأمة، فعلينا أن نفعل فيها قيمة القيادة، وجعلها أقرب الى الواقع منها الى الرمز.ب- وضعف الاهتمام بالمناهج الإدارية الأكثر فاعلية وإنتاجيته، مسؤول هو الآخر عن تراجع الاهتمام بالتعاون، حيث إنك تجد أن الأعمال التي يقوم بها الفرد أكثر نجاحاً من تلك التي يتبناها مجموعة (لجنة - مجلس الشورى مؤسسة.. وهكذا) مما ينعكس سلباً على التعاون. وهكذا يفضّل الناس العمل الفردي على العمل الجمعي، والسر يكمن في ضعف الأساليب الإدارية. والدول المتقدمة تولي الإدارة أهمية قصوى، لأنها عرفت مدى أهميتها في تطوير العمل الجمعي، الذي هو السبيل الوحيد للتقدم.ج- الانتظام قيمة حضارية، وهو الذي يجعل القرار القيادي أو الإداري يؤدي دوره في تفعيل التعاون. والانتظام روح قبل أن يكون سلوكاً، لأنه إذا كان الفرد يخضع للقرارات من دون قناعة كافية بها، فإن عمله يكون ناقصاً وربما فاشلاً، لأنه سوف لا يتقنه. وروح الانتظام هي التي نفتقر إليها اليوم ومع الأسف، مما يضعف حالة التعاون فيما بيننا.د- ولعل كل هذه الأمور تنشأ أساساً من ضعف الاهتمام بالعمل المنظّم القائم على أساس خطة واضحة. ذلك لأن الانسان المتخلف يُعاني من الفوضى في قراراته، والاعتماد على ردود الأفعال، والاندفاع العاطفي..
هاء: التعاون والتعددية
التعاون لا يعني الانصهار القسري لكل القوى في بوتقة واحدة، إذ لو كان الأمر كذلك، لم يكن هناك طرفان حتى يتعاون طرف مع الثاني. إنما التعاون يعني وجود طرفين، أو أطراف ذات استقلال (أفراد أو تجمعات أو شعوب)؛ وقد تكون متنافسة، ولكنها لن تكون متصارعة الى درجة نفي طرف للآخر أو إضعافه أو الحد من سرعته، بل يعني وحدة الاستراتيجية في ظل تعدد المنهج، بل وتنافس العاملين وتسابقهم الى الخيرات. وهذا ما نتحدث عنه إن شاء الله لاحقاً.
ثانياً: التعاون على الإثم والعدوان
أما التعاون على العدوان وعلى الإثم فهما محرمان، وأما النفع العائد الى الانسان منهما فهو سحت. وفي هذا الموضوع الهام الذي ابتلي به المؤمنون على إمتداد التاريخ نفصل باذن الله الحديث في محورين رئيسيين، نبحث في الأول في التعاون على العدوان، وفي الثاني في التعاون على الإثم.
ألف: التعاون على العدوان
وفيه ثلاثة بحوث رئيسية؛ الأول: حول إعانة العدو الكافر. الثاني: إعانة الظالم الحاكم في بلاد المسلمين وحكم اجتنابه. الثالث: إعانة المجرم في عدوانه.
البحث الأول: إعانة العدو الكافر
قال المحقق الحلي في الشرائع: "و (يحرم) ما يفضي الى المساعدة على محرم كبيع السلاح لأعداء الدين". وقال العلامة النجفي في شرحه: مع قصد الاعانة أو كانت الحرب قائمة للنهي عن الاغاثة. ([43]) ولقول الصادق عليه السلام في خبر السراد أو مرسله في جواب سؤاله عن بيع السلاح "لا تبعه في فتنة". ([44]) وأضاف: وما في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام في خبر حماد بن أنس: يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة: ... "إلى أن قال:" وبايع السلاح من أهل الحرب". ([45]) ثم استفاد العلامة النجفي من الآية شمول الحرمة لموارد أخرى، فقال: فلا فرق حينئذٍ بين السلاح وغيره فيما يحصل به التعاون، ولا بين المشركين وغيرهم، ولا بين حال الهدنة وغيرها. كما لا يخفى على من له أدنى نظر وتأمل. وعلى كل حال فقد ظهر لك أنه لا حرمة فيما لا تعاون فيه، ولا هو مندرج في إطلاق النصوص المزبورة كبيع السلاح وغيره عليهم في حال الهدنة مع عدم القصد. ([46]) ويشمل العون التجسس لمصلحة الكافر، والدعاية لـه في ظروف الحرب، وإمداده بالمال أو بالطعام أو بأية خدمة في أيام الحرب أو في أيام الهدنة التي تنتهي الى الحرب.بل يلحق بذلك أي نوع من العون يقدم للكافر، ويؤدي الى إستعلائه في الأرض وغلبته على المسلمين، بل وعلى المستضعفين، فهو مخالف لروح الشريعة. خصوصاً إذا صدق عليه التعاون على العدوان، فإنه محرّم بنص الآية الشريفة.وقد أجاز بعضهم بيع السلاح على الكفار إذا تقاتلوا فيما بينهم، حيث قال: فقد ظهر لك أنه لا حرمة فيما لا تعاون فيه، ولا هو مندرج في إطلاق النصوص المزبورة كبيع السلاح وغيره عليهم في حال الهدنة مع عدم القصد، وفي حال الحرب بينهم ولو مع قصد إعانة بعضهم على بعض. ([47]) وهذا القول بعيد عن روح الشريعة التي نزلت رحمة للعالمين، ودعت إلى السلم والحياة، وحرّمت القتل بغير حق، ونهت عن الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل، وبالذات إذا صدق عليه التعاون على العدوان.نعم؛ بيع السلاح والمؤن للدفاع عن النفس أو الدفاع عن حرمات المسلمين جائز ولو كان للظالم. وقد ورد في الحديث ما يلي:عن هند السرّاج قال: قلت لأبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام: أصلحك الله؛ إني كنت أحمل السلاح الى أهل الشام فأبيعه منهم، فلمّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت: لا أحمل إلى أعداء الله. فقال لي: إحمل إليهم وبعهم، فإن الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم يعني الروم، وبعه، فاذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل الى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك." ([48])
البحث الثاني: إعانة الظالم
والإعانة على أقسام:
أولاً: تولي المناصب للظالم
وتحرم إعانة الظالم بالدخول في جهازه العسكري والسياسي والاداري، إلاّ إذا دعت الضرورة الى ذلك؛ كما إذا كانت الولاية للظالم والتعاون معه مقدمة لأمر شرعي أهم، مثل إقامة القسط والعدل وإعانة الملهوف والمستضعف. ومن هنا قال المحقق الحلي: الولاية من قبل السلطان العادل جائزة، وربما وجبت كما إذا عيّنه إمام الأصل، أولم يمكن دفع المنكر أو الأمر بالمعروف إلاّ بها. وتحرم من قبل الجائر، إذا لم يأمن إعتماد ما يحرّم. ولو أمن ذلك، وقدر على الأمر بالمعروف (والنهي عن المنكر) استحبت، ولو أكره جاز لـه الدخول دفعاً للضرر اليسير على كراهية، وتزول الكراهية لدفع الضرر الكثير؛ كالنفس أو المال أو الخوف على بعض المؤمنين. ([49]) وقد فصل العلامة النجفي القول في أمر الولاية للجائر، ونقل عن السيد الطباطبائي حرمتها بالأصل، وإنما تجوز لدليل خاص مثل حرمة الميتة إلاّ للمضطر.ونقل عن كتاب المنتهى للعلامة وعن فقه القرآن للراوندي: إن تقليد الأمر من قبل الجائر جائز إذا تمكن من ايصال الحق لمستحقه بالاجماع المتردد والسنة الصحيحة وقوله تعالى: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف/55)، مضافاً الى ظهور جملة وافرة من النصوص في الجواز.وحكى عن بعض الفقهاء من متأخري المتأخرين التفصيل في أمر الولاية للجائر، فاذا كان قبولها للرئاسة وجمع المال فممنوعة، وإذا كان ذلك بهدف قضاء حوائج المؤمنين وفعل بعض الطاعات جازت، حتى ولو كان دافع حب الرئاسة وجمع المال موجوداً لدى الشخص فهو من باب خلط العمل الصالح بالعمل السيئ.أما العلامة النجفي فقد حمل نصوص المنع من تولي الجائر على الولاية على المحرمات، أو الممزوجة بالحرام والحلال. ونصوص الجواز على الولاية على المباح كجباية الخراج ونحوه. واعتبر جواز ذلك رأفة بحال المؤمنين، ورفقاً للضيق والحرج في هذا الزمان ونحوه من أزمنة التقية. ([50]) والذي دعا الفقهاء الى تبني آراء تفصل بين أنواع الولاية وظروفها المختلفة، إنما هو اختلاف الروايات التي سنذكر باذن الله سبحانه بعضاً منها. فمنهم من جعل إجازة الولاية للجائر أصلاً، بينما جعل المنع منها بسبب إشتمالها على الحرام. ومنهم من جعل الحرمة أصلاً، والاجازة للضرورة أو لتسهيل الأمر على الشيعة في ظروف التقية..ويبدو لي أن علينا ردّ الروايات عند تشابهها واختلافها؛ ردّها الى محكمات القرآن المجيد والسنة الشريفة. وكتاب ربنا صرّح في حرمة التعاون على الإثم والعدوان، وولاية الجائر بذاتها عدوان، فكيف يجوز إعانته فيها، وأية إعانة أكبر من الانخراط في أجهزته؟ على اننا أمرنا بنص الذكر الحكيم بتجنب الطاغوت وحرمة التحاكم إليه، فكيف يجوز تولي أموره؟ وقد أفتى الفقهاء جميعاً، ومنهم المحقق الحلي على حرمة التحاكم الى الجائر (الطاغوت)، وحكى العلامة النجفي الاجماع على ذلك، بل واعتبره من كبائر الذنوب كما يأتي الحديث عنه إن شاء الله لاحقاً.فكيف يكون الأصل جواز الولاية لهم؟..من هنا نرى أن الأصل هو حرمة تولي المناصب من قبل الجائر، إلاَّ لضرورة بالغة أو لظروف التقية. والدليل على ذلك انه إعانة على ظلمه، ومخالفة لاجتناب الطاغوت، وقد بيّن الإمام الصادق عليه السلام حكمة هذه الحرمة الشديدة في الحديث المأثور عنه في كتاب تحف العقول. إذ بيّن أن الولاية ذات جهتين؛ فولاية الحاكم العادل جائزة، ثم قال: وأما وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجائر، وولاية ولاته والعمل لهم والكسب لهم بجهة الولاية معهم حرام محرم معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن كل شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر.وذلك أن في ولاية والي الجائر دروس الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلـم والجــور والفساد، وابطال الكتب، وقتل الأنبياء، وهدم المساجد، وتبديل سنة الله وشرائعه.. فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم، والكسب معهم إلاّ بجهة الضرورة، نظير الضرورة الى الدم والميتة". ([51]) وجاء في حديث آخر عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام عن أعمالهم، فقال لي: يا أبا محمد لا، ولا مدة قلم. إن أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلاّ أصابوا من دينه مثله. ([52]) فإذاً الولاية للجائر بذاتها محرمة، إلاَّ إذا اقتضت الضرورة فتجوز، مثل أن يكره الفرد عليها في ظروف الهدنة، أو يرى الفقيه أن الانخراط في سلكهم ينفع الأمة، فتجوز، وعليها تحمل الأحاديث التالية:عن زياد بن أبي سلمة قال: دخلت على أبي الحسن موسى (الإمام الكاظم) عليه السلام، فقال لي: يا زياد؛ إنك لتعمل عمل السلطان؟ قال: قلت: أجل. قال لي: ولم؟ قلت أنا رجل لي مروّة، وعليَّ عيال، وليس وراء ظهري شيء. فقال لي: يا زياد لئن أسقط من حالق فأتقطع قطعة قطعة أحبّ إليَّ من أن أتولى لأحد منهم عملاً، أو أطأ بساط رجل منهم إلاّ لماذا؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن، أو فك أسره، أو قضاء دينه. يا زياد؛ إنّ أهون ما يصنع الله جلّ وعزّ بمن تولّّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادق من نار الى أن يفرغ "الله" من حساب الخلائق "الخلق". يا زياد؛ فإن ولّيت شيئاً من أعمالهم فأحسن الى إخوانك، فواحدة بواحدة، والله من وراء ذلك. يا زياد؛ أيّما رجل منكم تولّى لأحد منهم عملاً ثم ساوى بينكم وبينه، فقولوا لـه: أنت منتحل كذّاب. يا زياد؛ إذا ذكرت مقدرتك على الناس، فاذكر مقدرة الله عليك غداً، ونفاد ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إليهم عليك. ([53]) وخالق اسم جبل حسبما جاء في تعليقة العلامة النجفي. والحديث واضح في بيان أن القاعدة الأولية حرمة الولاية للظالم، وإنما الحلية إستثناء. وجاء في حديث آخر عن اسماعيل بن بزيع عن الامام الرضا عليه السلام: إن لله تعالى بأبواب الظلمة من نور الله به البرهان. ومكّن له في البلاد ليدفع عن أوليائه، ويصلح الله تعالى به أمور المسلمين، لأنهم صلحاء المؤمنين. ([54]) أما في عصر الهدنة، فإذا رأى الفقيه أن الأولوية في التداخل مع أئمة الجور لعدم إمكانية إزالتهم، ومن ثم العمل من خلال قدرات السلطة لاقامة القسط وإغاثة الملهوف والدفاع عن بيضة الاسلام وما أشبه، فإنه جائز، بل وقد يكون واجباً إذا كانت الأهداف ضرورية، وإذا أمر الفقيه شخصاً معيناً لذلك. وقد طلب النبي يوسف الصديق عليه السلام من عزيز مصر أن يجعله عن خزائن الأرض، فبذلك تمكن من الأرض. وقد قبل الإمام الرضا عليه السلام ولاية عهد الخليفة العباسي المأمون، حينما رأى مصلحة الدين والمسلمين في ذلك.وهذه المسائل من متغيرات أحكام الشريعة، التي نحتاج فيها إلى رأي الفقيه بعد مشاورة الخبراء . والله المستعان.
ثانياً: إعانة الظالم بالسلاح والمؤن
والقاعدة في إعانة الظالم الحرمة، لأنها من حقائق التعاون على الإثم والعدوان. والاستثناء هو الحلية، إذا كانت هذه الإعانة تخدم مصالح الأمة الأهم. وفي ذلك نقرء الحديث التالي:عن هند السرّاج قال: قلت لأبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام: أصلحك الله إني كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلمّا عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك، وقلت: لا أحمل الى إعداء الله. فقال لي: إحمل إليهم وبعهم، فإن الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم يعني الروم. وبعه فإذا كانت الحرب بيننا، فلا تحملوا. فمن حمل الى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا، فهو مشرك. ([55]) نستفيد من الحديث جواز بيع السلاح للدفاع عن حرمات الأمة. والحديث التالي يستثني حالة الهدنة مع النظام الجائر، فيقول: عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام، فقال لـه حكم السّراج: ما تقول فيمن يحمل الى الشام السّروج وأداتها؟ فقال: لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، إنكم في هدنة، فاذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السّروج والسلاح. ([56]) وعلينا في كل معاملة تجارية سواءً في بيع الأسلحة أو العتاد أو المؤن أو كل ما يخدم بقاء الظالم ويقوي كيانه، علينا أن نرجع فيه الى محكمات القرآن والحديث. فمن القرآن الآية الكريمة التي نصت على حرمة التعاون على الإثم والعدوان، ومن الحديث ما جاء في رواية الامام الصادق عليه السلام المأثورة في كتاب تحف العقول من حرمة ما فيه الفساد، حيث قال: وأما وجوه الحرام من البيع والشراء، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه.. (إلى أن قال عليه السلام) فهذا كله حرام محرم. ([57]) وفي تفسير الإجارات المحللة، إستثنى الإمام إجارة من يكون وكيلاً للوالي أو والياً للوالي. ([58]) وهكذا نعرف أن الأصل هو مقاطعة الظالم، واجتنابه واجتناب التحاكم إليه أو التعامل معه حسبما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، وإنما يحل ذلك بصورة استثنائية..
ثالثاً: إجتناب الطاغوت
وقد أمرنا الرب سبحانه باجتناب الطاغوت. والطاغوت هو الشخص الذي يتجاوز حده، ويتولى الناس بالقوة، ويحرم ما أحل الله، ويحلل ما حرّم الله، ويطاع من دون إذن الله سبحانه. واجتنابه يعني عدة حقائق:1/ عدم الاستماع إليه، حيث قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» (الزمر/17-18) 2/ ويشمل اجتناب الطاغوت؛ ترك التحاكم إليه، وعدم جعله قاضياً في المنازعات. قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً» (النساء/60) واعتبر الفقهاء التحاكم الى الطاغوت منكراً ومن الكبائر. قال المحقق الحلي قدس الله سره: ولو امتنع (الخصم عن التحاكم الى قاضي العدل) وآثر المضي الى قضاة الجور، كان مرتكباً للمنكر. وشرح العلامة النجفي هذا القول بما يلي: لأن ذلك كبيرة عندنا كما في المسالك، وقد عرفت وجوب النهي عن المنكر على الناس كفاية. وقال الإمام الصادق عليه السلام: أيّما مؤمــن قدّم مؤمناً في خصومة الى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم. ([59]) وفي حديث آخر عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما الى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى طاغوت. وما يحكم لـه، فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ». ([60]) ثم قال العلامة النجفي: الى غير ذلك من النصوص المعتضدة بالاجماع بقسميه. ([61]) 3/ ومن أظهر حقائق عون الظالم، الادلاء إليه، لأكل أموال الناس بالباطل؛ والاستقواء به على الناس، بهدف السيطرة عليهم واستلاب حرياتهم . قال الله سبحانه: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة/188) 4/ ويبدو أن من مظاهر اجتناب الطاغوت؛ ترك العمل بعاداته وتقاليده وشعائره أنى استطاع المؤمنون سبيلاً. ذلك أن البشر قد جبل على إحترام القوي، والتأثر به، وتقليده في أموره. واجتنابه يشمل فيما يشمل مقاطعته من جميع النواحي، ومقاومة كل ما يمت إليه بصلة، والاستعانة بالله عليه لطرده والقضاء عليه. مثلاً كان طغاة بني العباس قد اتخذوا اللون الأسود شعاراً لهم، فوردت أحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام بكراهية هذا اللون، حسب تفسير الفقهاء لعلة الكراهة. كما أن التشبه بالكفار يعتبر من المحرمات الشرعية..5/ ومن حقائق اجتناب الطاغوت؛ تجنب الدفاع عنه، وتبرير أفعاله الارهابية، وتجنب إرضاءه بما يسخط الرب، حيث جاء في الحديث الشريف: من أرضى سلطاناً جائراً بسخط الله خرج من دين الله. ([62]) وجاء في حديث آخر: لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق. ([63])
رابعاً: إعانة المعتدي
وتشمل الآية الكريمة حرمة إعانة المعتدي من الناس؛ مثل إعانة المحاربين لله وللرسول، والمفسدين في الأرض، وإعانة عصابات التهريب للاسلحة والمواد المخدرة، وإعانة المجرم على قتل أحد أو جرحه أو انتهاك حرمة من حرماته. وفيما يلي نتحدث بايجاز عن هذه المفردات باذن الله.1/ إعانة المحاربين والمفسدين وتشمل كلمة المحارب، الذين يستخدمون السلاح في المجتمع، من أجل مطامح ذاتية، ويخرجون على القانون الشرعي. أما المفسد في الأرض فيشمل أيضاً العصابات التي تنشر الفساد السياسي أو الأخلاقي أو الإقتصادي. وكل هؤلاء معتدون، والتعاون معهم يكون من حقائق التعاون على الإثم والعدوان.أما الأحكام الجزائية، فسوف نتعرض لها لاحقاً إن شاء الله.2/ إعانة المجرمين فلا يجوز أن يُعان القاتل في قتله بتوفير السلاح لـه، أو كشف مخبأ الضحية، أو إيوائه المجرم قبل أو بعد ارتكاب فعلته. كما لا يجوز إعانة السارق بفتح الأبواب له، والدلالة على مواقع المال أو إيوائه. ولا يجوز كذلك إيواء الجناة الذين يتعرضون لأعراض الناس، أو أموالهم بأية صورة.وقد تناول الفقه والقانون قضية التعاون في الجريمة بصورة مفصلة، وأوضحت أحكام الشرع كما القانون الكثير من غوامض الفروع المتشابهة في هذا الحقل، مما جعلنا نستفيد منها في سائر الموارد المماثلة كالتعاون مع المحاربين، والمفسدين. وهكذا أرجأنا الحديث عن الجانب الجزائي إلى هذا البحث الذي نقسمه الى نقاط:أ- يفرق القانون بين المشاركة في الجريمة، وبين المعاونة عليها. فالمشارك تشمله أحكام الجريمة وعقوباتها بالكامل، بينما المعاون لا تشمله. والجريمة التي يضرب بها المثل هنا هي جريمة القتل. فما هي المشاركة في مثل جريمة القتل؟ فيها شروط؛ أولاً: المشاركة بين اثنين أو أكثر في ايراد الضربات المنتهية الى القتل. ثانياً: لا بد أن يكون فعل المشاركين في الجريمة جزءً من أسباب القتل العينية (المادية). ثالثاً: لا بد أن يشاركوا جميعاً في نية ارتكاب الجريمة (كالقتل). رابعاً: يشترط عدم تحديد المباشر الأصلي للقتل. ([64]) ويرى مؤلف الموسوعة الجنائية أن للاشتراك ركنين أساسيين؛ (واحد) اتفاق سابق على ارتكاب الجريمة، (اثنين) جريمة تنفذ او يبدء في تنفيذها في تلك الظروف من (قبل) عدة أشخاص. ويضرب مثلاً بأنه إذا اتفق جماعة وترصدوا لشخص وضربوه ضرباً أفضى الى موته، فلا وجه لتقسيم (العمل) الصادر منهم الى ضرب أفضى إلى الموت لا يتحمل مسؤوليته إلاّ من أوقع الضربة القاضية فقط، وضرب بسيط يشترك في المسؤولية عنه بقية المتهمين، لأن تقسيم الضرب الى عدة جرائم باعتبار عدد الفاعلين إنما يصح في الأحوال التي لم يكن بينهم فيها واسطة اتحاد في القصد وتعاون على الفعل. ([65]) أما في الفقه فقد قال المحقق الحلي: لو شهد اثنان بما يوجب قتلاً كالقصاص، أو شهد أربعة بما يوجب رجماً كالزنا، وثبت أنهم شهدوا زوراً بعد الاستيفاء ([66]) لم يضمن الحاكم، ولا الحدّاد ([67]) وكان القود على الشهود. ([68]) وروى مسمع عن الامام الصادق عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام قضى في أربعة شهدوا على رجل أنهم رأوه مع إمرأة يجامعها فيرجم، ثم رجع واحد منهم. قال: يغرم ربع الدية إذا قال: شبه عليَّ. فإن رجع اثنان وقالا: شبه علينا، غرما نصف الدية. وإن رجعوا وقالوا: شبه علينا، غرموا الدية. وإن قالوا: شهدنا بالزّور، قتلوا جميعاً. ([69]) ويبدو أن الفقه قد أرجع مسألة المشاركة الى العرف بالرغم من اختلاف الموارد فيها، مما يستدعي رأي القضاء. إلاّ أن ما نجده في القوانين الحديثة من شروط المشاركة وأهمها النية السابقة، يعتبر مادة مناسبة لاستكشاف رأي العرف منها. وجميع هذه الموارد تشملها آية التعاون، إذ أنها تتسع لمعنى تقديم العون الى درجة المشاركة (وهو المعنى الظاهر فيها)، كما تتسع لمعنى تقديم عون ما (وهو المعنى الذي يظهر بالتأمل في الآية).ب- المساعدة والمساعدة في الجريمة تتحقق في رأي فقهاء القانون بما يلي: أن تكون هناك جريمة أصلية معاقب عليها، وأن يكون لدى الشريك قصد الاشتراك في الجريمة، وأن يقع الاشتراك بإحدى الطرق المبيّنة في المادة 44 وهي التحريض والاتفاق والمساعدة. ([70]) وقد أوضح المؤلف شرط وقوع الجريمة، ثم قال: والقصد الجنائي في الاشتراك المعاقب عليه يتكون من عنصرين؛ العلم والارادة. فيشترط أن يكون المتهم عالماً بأن العمل الذي يشترك فيه هو جريمة، وان يكون قاصداً المعاونة فيه بعمل شخصي من جانبه. ([71]) أما في الفقه الإسلامي فعادة ما يوضح مثل هذه الأمور بالأمثال، ومن هنا فقد قال المحقق الحلي: لو حفر واحد بئراً، فوقع آخر (فيها) بدفع ثالث، فالقاتل الدافع دون الحافر. وكذا لو ألقاه من شاهق، فاعترضه آخر (بالسيف) فقدّه نصفين قبل وصوله الأرض، فالقاتل هو المعترض. ولو أمسك واحد وقتل آخر، فالقود على القاتل دون الممسك، لكن الممسك يحبس أبداً. ولو نظر إليهما ثالث ([72])، لم يضمن ولكن تُسمل عيناه، أي تفقأ. ([73]) وقد استدل على الحكمين الأخيرين بما حكاه السكوني عن الامام الصادق عليه السلام: أن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام؛ واحد منهم أمسك رجلاً، وأقبل الآخر فقتله، والآخر يراهم. فقضى في [صاحب] الرؤية أن تسمل عيناه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل. ([74]) ولعل هذا القضاء كان بسبب عدم ثبوت المشاركة بقصد الجريمة مسبقاً، وإنما كان القاتل هو القاصد بينما الآخرون كانوا مساعدين له ومعاونين معه..وقد فصل القانون بحث المساعدة، حيث تنص المادة 40/4 على أنه يعد شريكاً في الجريمة (أولاً) كل من حرّض على إرتكاب الفعل المكوّن للجريمة، إذا كان هذا الفعل قد وقع بناءً على هذا التحريض. (ثانياً) من اتفق مع غيره على إرتكاب الجريمة، فوقعت بناءً على هذا الاتفاق. (ثالثاً) من أعطى للفاعل أو الفاعلين سلاحاً أو أي شيء آخر مما استعمل في إرتكاب الجريمة مع علمه بها أو ساعدهم بأي طريقة أخرى في الأعمال المجهزة أو المسهلة المتممة لارتكابها. ([75]) ويقسم القانون التحريض على نوعين: فردي وعمومي. ويعتبر التحريض العمومي جريمة بحد ذاته إذا كان مخلاً بالأمن العام.والمساعدة قد تتم قبل الجريمة أو عندها أو بعدها. ومن أمثلة المساعدة السابقة؛ إعطاء المجرم إرشادات لارتكابها، وإعطاءه السلاح والمؤنة، وتوفير مكان مناسب لايقاع الجريمة.. وهكذا اعطاءه أية تسهيلات لايقاع الجريمة. أمّا المساعدة عند وقوع الجريمة، فهي التي لا ترقى الى مستوى المشاركة. مثلاً؛ في جريمة السرقة من يراقب الطريق يعتبر مساعداً للمجرم، أمّا من يكسر الباب فإنه أكثر من مجرد مساعد، بل شريك في الجريمة. ([76]) أما المساعدة اللاحقة فكان القانون سابقاً يعتبر إخفاء المجرم منها، ولكن القانون المعاصر يرى إخفاء المجرم جرماً بذاته. ([77]) وكلمة أخيرة؛ إن المعيار في الفقه الإسلامي تحقق التعاون على العدوان في إثبات الحرمة. أما تحول ذلك إلى مستوى الجريمة، فإن ذلك يخضع لمتغيرات كثيرة. ومعرفة القانون الحديث في هذا الحقل تساهم في بلورة فهمنا للآية على ضوء الفهم العرفي لها، لأننا نستفيد من القانون باعتباره جزءاً من العرف. مضافاً إلى أن مراجعة القانون في أبعاد المساعدة على العدوان تنفعنا في شفافية رؤيتنا في موضوع المساعدة على الإثم. بالرغم من أن القانون لم يفصّل الكلام فيها، لأن المساعدة هي المساعدة سواءً كانت على الإثم أو على العدوان.
باء: المساعدة على الإثم
والتعاون على الإثم قد يتحقق بتوافق شخصين أو أكثر على فعل محرم، وقد يتحقق بمساعدة شخص لمن يرتكب إثماً عالماً عامداً.والقسم الأول منهي عنه، لأنه يدل على هبوط مستوى الأمة إلى درجة إنهم يرتكبون الإثم بلا وازع من ضمير أو حياء، حيث تراهم يتوافقون عليه.وأما القسم الثاني؛ فهو الذي نتحدث عنه لاحقاً لكثرة موارده، ولعل بعضاً منها يعتبر غامضاً وبحاجة الى بلورة.ومن أبرز موارد التعاون على الإثم، بَيع المحرمات والاجارة لها، والتجارة بالمواد المضرة أو بالسِّلع المهربة، وما أشبه.
أولاً: بيع المحرمات
بيع المحرمات كلاً حرام، أوليس ذلك يساهم في انتشار تناولها؟ قال المحقق الحلي قدس سره: فالمحرم منه (مما يكتسب) أنواع؛ الأول: الأعيان النجسة كالخمرة والانبذة والفقاع وكل مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السماء، والميتة والدم وأرواث وأبوال ما لا يؤكل لحمه. وأضاف: والخنزير وجميع أجزاءه، وجلد الكلب وما يكون منه. ([78]) وقد جاء في الرواية المفصلة التي وردت في كتاب تحف العقول عن الامام الصادق عليه السلام، ذكر فيها بعد بيان ما يحرم من وجوه التجارة، قال عليه السلام: وأما وجوه الحرام من البيع والشراء، فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنـزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس. فهذا كله حرام ومحرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام. ([79]) وقد ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله: إن الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه. ([80]) ثم مضى المحقق الحلي في بيان ما يحرم من المكاسب، فقال: الثاني ما يحرم لتحريم ما قصد به، كآلات اللهو مثل العود والزمر، وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم، وآلات القمار كالنرد والشطرنج. ([81]) واستدل العلامة النجفي على حرمة هذه المكاسب بما جاء في رواية كتاب تحف العقول عن الامام الصادق عليه السلام:إنما حرّم الله الصناعات التي هي حرام كلها، التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج، وكل ملهو به والصلبان والاصنام وما أشبه ذلك.. (إلى أن قال:) .. فحرام تعليمه وتعلّمه، والعمل به، وأخذ الأجر عليه، وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات. ([82]) ومن المحرمات المواد الفاسدة التي تضر بالناس. مثل بيع المواد الغذائية بعد انقضاء أمدها، وكذلك الصناعات الغذائية المغشوشة التي يدخل في تركيبها ما يضر بالصحة العامة، وهكذا الأدوية الفاسدة أو الأدوية التي يضر تناولها. وحرمة كل هذه المواد ممنوعة قانوناً كما هي محرمة شرعاً. ([83]) ويدخل في هذا الإطار بيع السلع المسروقة والمهربة والمغشوشة، وبالتالي كلّما يفضي الى الحرام. ومنها المساعدة في إشاعة الحرام وذلك بغسل الأموال التي يكتسبها المجرمون من الحرام، مثل غسل أموال القمار أو أموال تجّار المخدرات وعصابات المافيا وأمثالهم.ومنها بيع العنب ليعمل خمراً، قال المحقق الحلي في ذلك: وكبيع العنب ليعمل خمراً، وبيع الخشب ليعمل صنماً. ([84]) وقد اختلفت الروايات المأثورة حول هذه المسألة، فبينما نجد أحاديث تحرمها نجد أحاديث أخرى لا ترى فيه باساً، مثلاً الحديث التالي يحرم ذلك، عن صابر قال: سألت أبا عبد الله (الإمـام جعفـر الصادق) عليه السلام عن الرجل يواجر بيته فيباع فيه الخمر، قال: حــرام أجــره. ([85]) والحديث الآخر يحلله، عن عمر بن أذينة قال: كتبت الى أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام أسأله عن رجل لـه كرم، أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال: إنما باعه حلالاً في الابان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه. ([86]) وما يجمع بين الحديثين هو أنه إذا صدق عليه التعاون على الإثم كان حراماً، وإلاّ لم يكن. ومن هنا كان تعبير المحقق السابق هكذا "ليعمل" يعني أن يكون الهدف من البيع عمل الخمر. وهكذا العلامة النجفي في الجواهر قال: لا خلاف أجدها فيها مع التصريح بالشرطية أو الاتفاق عليها على وجه بني العقد عليها. ([87]) والأقرب عندي أن نجعل المعيار صدق التعاون على الإثم، ولا ريب في صدقه عند الاشتراط وعند التوافق ولو بزيادة السعر أو التباني الذي يجعل العقد قائماً على أساس ذلك. من نوع الشرط الضمني.ومن التعاون على الإثم التعامل على الافلام الخلاعية أو كتب الضلال بطبعها وتوزيعها والإعلان عنها والتستر عليها وما أشبه.
ثانياً: إجارة المنافع المحرمة
قال المحقق الحلي: وإجارة المساكن والسفن للمحرمات.([88]) ويحكي العلامة النجفي عدم الخلاف في حرمة ذلك عند الاشتراط، مما يصدق عليه التعاون على الإثم. ([89]) والأصل في ذلك الآية الكريمة التي حرمت التعاون على الإثم ، ثم الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام في كتاب تحف العقول حيث جاء فيه:فأما وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه، أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً أو قتل النفس بغير حق أو عمل التصاوير والأصنام والمزامير والبرابط والخمر والخنازير والميتة والدم أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرماً عليه من غير جهة الإجارة فيه. وكل أمر منهي عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الانسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له إلاّ لمنفعة من استأجرته كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينجيها عن أذاه أو أذى غيره وما أشبه ذلك. ([90]) ومثل اجارة نفسه إجارة من يلي أمره، مثل العاملين عنده أو أبناءه، أو إجارة ما يملكه من مسكن أو متجر أو دار أو سيارة وسفينة وما أشبه. فمن أجرّ داره للدعارة، أو سيارته لحمل المواد المحرمة، أو تعهد لبناء كازينو قمار أو مرقص أو بار أو ما أشبه، فإن كل ذلك حرام لصدق التعاون على الإثم.أمّا إذا بنى داراً وأجرها لشخص ليسكن فيها، فعمل الشخص في الدار المنكرات، فإنما إثمه على المستأجر. وكذا لو أجر سيارته لشخص فمشى بها الى دار لهو، فإنما إثمه عليه. وهكذا.. لأنه لم يتفق على الحرام معه، فلم يصدق عليه التعاون على الإثم. والله المستعان.
ثالثاً: التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول
التعاون على الإثم والعدوان حرام، فماذا عن التشاور لأجلهما والتآمر فيهما؟ إنه هو الآخر حرام، لأنه تعاون معنوي عليهما، ولأنه يؤدي الى الفساد محضاً. ومن هنا فقد ارتأيت أن ألحق ببحث التعاون على الإثم والعدوان بحث التناجي بالإثم والعدوان، والذي يبحثه القانون تحت عنوان التوافق على الجريمة، ويسميه الاعلام بالتآمر.. دعنا نبحث أولاً عن الموضوع قانونياً.
ألف: القانون والتوافق على الجريمة
لا يعاقب القانون على مجرد التصميم على إرتكاب الجرائم، ولا على الأعمال التحضيرية لها، إلاّ في أحوال إستثنائية إقتضت ذلك، محافظة على الأمن العام. ([91]) ومن الأحوال التحضيرية ما نجده في القانون المصري في المادة (47 مكررة) جريمةً قائمة بذاتها، إذ عاقب فيها على مجرد إتحاد شخصين فأكثر على إرتكاب جناية أو جنحة ما أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها. ([92]) وقد كان قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1810 يعتبر كل جمعية من الأشقياء، الغرض منها الاضرار بالأشخاص أو الممتلكات، جناية ضد الأمن العام. وكان غرض الشارع الفرنسي من هذه النصوص أن ينال بالعقاب عصابات الأشقياء وقطاع الطرق الذين كانوا منتشرين في أنحاء البلاد في ذلك العصر. ([93]) وأركان هذه الجريمة حسب القانون ثلاثة ([94]) اتحاد شخصين فأكثر، فلا عبرة غالباً بدعوة شخص إذا لم يستجب لـه أحد ([95]) حصول الاتحاد (التوافق) على ارتكاب جناية أو جنحة ما أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها فلا عبرة بتوافق عابر لا يتحول الى اتحاد مستمر. كما لا يعاقب القانون على التوافق الذي لا ينتهي إلى الجريمة أو الجنحة، مثل الاتفاق على الدعوة السلمية الى أمر معين ([96]) القصد الجنائي فلو كان الشخص غافلاً أو جاهلاً أو غير قاصد الجنائية فلا عقاب. ([97]) وبالرغم من أن القانون الذي بدأ تطبيقه في فرنسا، ثم شمل أوربا، ثم انتشر الى البلاد العربية قد بلور نسبياً أركان الجريمة، إلاّ أنه كان يعالج أوضاعاً خاصة في البلاد التي سنَّ فيها التشريع. ومن هنا فلم يبلغ جوهر الجريمة الذي أشرنا إليه في مطلع البحث، وهو التوافق على الجريمة. إذ أن مجرد التشاور وتبادل الرأي على إرتكاب الجريمة، يعتبر جريمة عندنا. لماذا؟ لا لأن النية وحدها تكفي في معاقبة المجرم، بل لأن التخطيط الجمعي وتكوين عصابة منظمة هو بذاته مخل بالأمن وبدء حقيقي في إرتكاب الجريمة. فإن من وسائل تنفيذ أية جريمة تهيئة وسائلها، ومن وسائل تنفيذ الجريمة تشكيل عصابة لها. على أن المجتمع الذي تتشكل فيه عصابات للاخلال بالأمن إنه مجتمع غير آمن فعلاً.
باء: التوافق على الجريمة عذر الشرع
وقد نزلت آية قرآنية كريمة تنص على حرمة التوافق على الجريمة، كما نزلت آيات أخرى تمهد لهذا التحريم. دعنا إذاً نتلوا معاً هذه الآيات.1/ في سياق الحديث عن طوائف من المنافقين، ينفي القرآن المجيد الخير في كثير من نجواهم، إلاّ في ثلاث: الأمر بالصدقة أو بالمعروف أو بالإصلاح. وهذا يعني إن الجانب الآخر من الصورة قد يكون النهي عن هذه الحقائق. أو لا أقل عدم وجود الأمر بهذه الأعمال الصالحة، مما يجعل مجرد التناجي أمراً غير مرغوب فيه، لأنه يفقد عنصر الصلاح. قال الله سبحانه: «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً * وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً» (النساء/114-115) ونستوحي من الآية الثانية؛ إن هدف المنافقين من التناجي كان الابتعاد عن القيادة الربانية، وعن سبيل المؤمنين بها، والتوجه تلقاء ولائج غير ايمانية. وفي آية سنتلوها إن شاء الله تذكير بهدف النجوى عند البعض، وهو معصية الرسول والعدوان والإثم. وهذه الحقائق هي: الصدقة (مقابل الإثم)، والمعروف (مقابل العدوان)، والإصلاح (مقابل معصية الرسول).2/ وقد ذكرتنا آية في سورة المجادلة التي بيّنت حقائق عن النجوى، ذكرتنا بأنـه ليست هنــاك أية بقعة في العالم يمكن التناجي فيها بعيداً عن سمع الله ونظره، والله سبحانه هو المدبر للخلق، وهو القائم بالقسط. قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ اَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلآ أَدْنَى مِن ذَلِـكَ وَلآ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (المجادلة/7) إذاً ينبغي للمؤمن أن يراقب نفسه، وأن يتقي الله في الخلأ؛ فإذا انعقدت جلسة لمجموعة مشتركة في الرؤى والمصالح (مثل حزب أو جمعية أو هيئة)، فعليهم أن يعلموا أن الله سبحانه محيط من ورائهم، فلا يخوضوا فيما يتوافقون عليه بلا رادع ولا حدود.3/ لقد نهى المؤمنون عن النجوى. والذين لم يستجيبوا للنهي هم المنافقون، وربما بعض ضعفاء النفوس من المؤمنين الذين استرسلوا في النجوى لتحقيق ثلاث غايات سيئة؛ أولاً: الإثم الذي يتحقق فيه مصالحهم المادية ويتجاوزون به حدود الله سبحانه. ثانياً: العدوان الذي يثير فيهم حب الرئاسة والتسلط على الناس. ثالثاً: معصية الرسول التي يتحقق بها الانشقاق عن القيادة. قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (المجادلة/8) وجاء في بعض التفاسير حديث عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما هذه النجوى، ألم تنهوا عن النجوى؟ فقلنا: تبنا الى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال- خوفاً منه. فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل؛ (أي رياءاً). ([98]) ونستفيد من الآية؛ إن من أهداف المنافقين تجريد النبي من صفة الرسالة، ونعته بالصفات المادية مثل قيادة الناس.. ويبقى سؤال آخر: هل هذا النهي كان نهياً تشريعياً دائماً كالنهي عن شرب الخمر مثلاً، أم كان نهياً (ولائياً) مصدره قرار سياسي مؤقت بسبب الظروف الأمنية؟ الثاني هو الأقرب، لأنه لا دلالة على حرمة النجوى بصورة عامة كحرمة شرب الخمر، ولأن كلمة "نهوا" مجملة ولا دلالة فيها على مصدر النهي ونوعه. ولو كان مصدره ونوعه النهي التشريعي، لكان الأجدر أن يقال: نهاهم الله أو ما أشبه.4/ وقد أمر القرآن المسلمين بأنهم إن تناجوا فليحذروا تجاوز حدود التقوى في النجوى، وهي الإثم وارتكاب ما حرّم الله مثل الحمية الجاهلية، وأن يسخر قوم من قوم، ثم العدوان وهو نتيجة الإثم باستلاب الناس حقوقهم وحرياتهم والتعالي عليهم وظلمهم والبغي عليهم.. ثم معصية الرسول ومشاققته. قال الله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيهِ تُحْشَرُونَ» (المجادلة/9)