قيمة الوقت
خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وقدرها تقديراً، وجعل الشمس والقمر بحسبان، وسخرهما ليجري كل منهما الى أجل. وخلق الانسان وجعل لـه أجلاً، كما جعل لكل أمة أجلاً، فلا يعذبهم حتى يوافيهم أجلهم، فاذا جاء ذلك الأجل فإنه لا يؤخر، وقد جعل ربنا لكل أجل كتاب، وجعل الصلاة للمؤمنين كتاباً موقوتاً، وجعل الأدلة لمعرفة عدد السنين والحساب. عن هذه البصائر نتحدث باذن الله في فصول ثلاث.
أولاً: وعي الأجل في الكائنات
1/ كان الله ولم يكن معه شيء، ثم قدر الأشياء بعلمه، ثم أفاض عليها بقدرته الواسعة نور الوجود فخلقها خلقاً بعد خلق، وتجلت ربوبيته في خلقها، إذ جعل خلقه لها في أيام. كما خلق الانسان من نطفة تمنى، ثم جعلها علقة فمضغة، ثم سواها رجلاً. كذلك خلق السماوات والأرض في ستة أيام، حيث كانتا رتقاً ففتقها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، وجعل من الماء كل شيء حي. وهكذا تحقق نموها بفضله تعالى، وتجلّت هيمنته فيها، واستواءه سبحانه على عرش القدرة فيها.
(والذي نستفيده من هذا التكامل التدريجي في خلقة السماوات والأرض، إن عنصر الزمان الذي قد يكون هو في حقيقته تجدد الخلق وتعاقب مراحله، إنه عنصر أساسي في الخليقة). وقد قال ربنا سبحانه: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والاَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالاَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (الاعراف/54) ونستفيد من الآية بصائر هامة في معرفة الزمان، وهي:
أ- إن الزمان (ستة أيام) ظرف الخلقة، وباعتبار أن الربوبية توحي بتنمية الشيء طوراً فطوراً، فإن الله أعطى السماوات والأرض كمالها في عرض ستة أيام، وعلى إمتداد هذا الزمان.
ب- إن الله كان متصفاً بصفة الخالقية إذ لا مخلوق، ثم خلق الأشياء فتجلّت خالقيته في خلقه. كما أنه كان متصفاً بصفة العلم إذ لا معلوم، فلما خلق المعلوم وقع علمه عليه دون أن يتغير هو شيئاً، سبحانه وتعالى عن صفة المخلوقين.
ولعل ذلك معنى لفظة «ثُمَّ» إذ دخل على فعل استوى على العرش، إذ قدرته سبحانه وسلطانه وخالقيته تجلت بعد خلقه السماوات والأرض وظهرت فيهما. ولعل ذلك أيضاً معنى «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ» حسبما ورد هذا النص في آية أخرى إذ قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ اَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَآ إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ» (هود/7) ج- نستفيد من قوله « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ» إن حركة الليل والنهار هي من فعل الرب. فهو الذي يضفي على ظلام الليل نور النهار، فكأنه يلبسه رداءً أو إهاباً ثم ينزع منه الرداء، فإذا بالظلام يعود ويسلخ منه الإهاب (إهاب النهار) فيصبح عارياً من النور.
من هنا فإن تعاقب الليل والنهار (وهما وحدتا الزمان عندنا)، هو من فعل الرب، ودليل قدرته.
2/ كما خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكما هو يغشي الليل النهار، فهو مهيمن على خلقه، فله أمره، وأنه يمنحه بركته ورحمته. وأنت الانسان المخلوق تحيط بك بركة الرب ورحمته، فإذاً أطلب منه ما تشاء تضرعاً وخفية، حيث قال سبحانه: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَيُحِبُّ الْمُـعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَرْضِ بَعْدَ اِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُـحْسِنِينَ» (الاعراف/55-56) فالزمان بالنسبة إليك فرصة تلقي رحمة الله، وظرف تجلي بركته فيك. وإنما بالدعاء تستدر الرحمة، وتستنزل البركة؛ شريطة أن يكون دعاؤك بضراعة وانقطاع إليه وبلا رياء، وأن يكون خوفاً من إنقطاع رحمته وطمعاً في زيادتها.
3/ ومن حقائق بركة الله في خلقه، أنه سبحانه قدر في الأرض أقواتها في أربعة أيام. قال الله تعالى: «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ اقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِلسَّآئِلِينَ» (فصلت/10) ونستفيد من الآية؛ إن بركة الله تجلت في توفير شروط الحياة في الأرض، بما أودع فيها من الأقوات. ومعروف كم هي كثيرة وعظيمة شروط الحياة المتوافرة في الأرض بفضل الله تعالى.
4/ والنظرة السطحية الى الأشياء، وبالذات الى الكائنات الضخمة توحي بأنها حقائق ثابتة وجامدة، حتى أن القدماء من الفلاسفة كانوا يزعمون أن التحول محال في السماوات. ولكن النظرة العلمية تدعونا الى الايمان بأن كل شيء متحول، وحتى الجبال الراسيات التي نحسبها جامدة تسير سير السحاب. ولدى تجزئة الأشياء الى جزئيات متناهية في الصغر وجدناها ذرات تكاد تنعدم الكتلة فيها، مما حدى ببعض الفلاسفة المعاصرين الى تبني مذهب المثالية الفيزيائية التي ترى العالم لا شيء. وهكذا حملنا العلم، وبالذات بعد إكتشاف الذرة، أن الحركة والصيرورة والتحول من حال لحال، أنها سمة الأشياء. وهذه الحركة التي نجد مثالاً ظاهراً لها في حركة الشمس والقمر والكواكب، وفي اختلاف الليل والنهار تدعونا الى معرفة واقع الخلق. وأن ما له بداية لا بد أن تكون لـه نهاية، وأن الأجرام تجري لأجل مسمى. وهكذا ذكرنا ربنا سبحانه بأن الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى، فقال تعالى: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» (الرعد/2) 5/ ذلك لأن كل شيء خلقه الله سبحانه بقدر، حيث قال تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر/49) وما له قدر يكون له أجل، لأنه يستنفد طاقته في يوم من الأيام. وبتعبير آخر؛ الذي ينقص ينتهي عند نقطة معينة.
6/ وهذه النظرة الواقعية الى الكائنات المخلوقة تزيدنا وعياً بحقيقة الزمان، وبقيمة الوقت، وبأهمية المسارعة لتحقيق الأهداف، لأنك إذا أنعمت النظر تجدك تسبح في تيار الزمن المتدفق الذي يحملك الى نهايتك بسرعة قصوى. فعليك أن تسبح بعكس التيار، لعلك تأخذ من نفسك لنفسك نصيباً قل أو كثر.
ثانياً: وعي الأجل في الانسان
1/ والانسان يعيش في عالم كل شيء فيه بقدر وبحسبان، وقد جعل الله القمر نوراً وقدره منازل، لكي يعلم البشر عدد السنين والحساب. فكلّما مضى إثنى عشر شهراً على الانسان، إنصرم من عمره عام. ثم ليعلم الانسان الحساب من يوم لآخر، فيضبط حياته. قال الله سبحانه: «وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَاُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَاُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (الرعد/5) 2/ ومن فوائد الحساب الذي يعرفه الانسان من حركة الليل والنهار ومن منازل القمر، الإحساس بالمسؤولية. فاذا كان كل شيء بحسبان، كيف يترك البشر سدى بلا حساب؟ قال الله سبحانه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً» (الاسراء/12-13) 3/ وإذا كانت الشمس والقمر والكواكب ومنها الأرض وما فيها من بحار وجبال ومخلوقات كبيرة أو صغيرة في حالة الصيرورة الى نهايتها، فكيف بالانسان إنه هو الآخر يسير باتجاه أجله. وقد ذكر القرآن الكريم بأن أجل الانسان مقضي عند خلقه، فقال تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» (الانعام/2) ونستفيد من ذلك؛ إن هناك صلة بين الخلق والأجل، فالمخلوق قد أوتي من عند الخالق قدراً معيناً من النور (نور الوجود، طاقة الحركة، وما أشبه)، وهذا النور يتناقص الى أن ينتهي.
4/ وعند بيان طور من أطوار خلقة البشر في الأرحام، يذكرنا الرب بالأجل أيضاً. قال الله تعالى: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الاَرْضَ هَامِدَةً فإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (الحج/5) 5/ وقال ربنا سبحانه: «فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» (المرسلات/21-22) فالقدر الذي خلق به الخلق كله، يشمل البشر أيضاً. إن كل شيء فيه بحسبان (وليست طاقاته وإمكاناته فرصة لا محدودة). ومعنى ذلك، إنه يتناقص؛ ومن كان كذلك، فإنه يسير باتجاه الفناء.
والذين يتأملون هذه الحقيقة، يزدادون وعياً بأهمية الطاقة التي يستنفذونها، وبالذات الزمن الذي يسيرون في تياره. وحسبما يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض روائع حكمته، ذات التأثير البالغ في النفوس الواعية: من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان الى النقصان أقرب، ومن كان الى النقصان أقرب فالموت خير له من الحياة. ([1]) وقال عليه السلام لإبنه الإمام الحسن عليه السلام: واعلم يا بني إن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن كان واقفاً. ([2]) وفي رائعة أخرى للإمام عليه السلام يقول: فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق. ما فات اليوم من الرزق رجي غداً زيادته، وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته. الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي. ([3]) والامام الباقر عليه السلام يتضرع الى ربه سبحانه في دعائه الذي علّم أبا حمزة الثمالي، ويقول: "ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري وأرى نفسي تُخادعني وأيامي تُخاتلني وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت". ([4]) وفي دعاء شريف يقرءه المؤمنون في مسجد زيد بالكوفة، نقرء ما يلي:
"ويلي كلما كبر سني كثرت ذنوبي، ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي، فكم أتوب وكم أعود أما آن لي أن أستحيي من ربي". ([5]) كل هذه الروائع المأثورة تزيد المؤمن وعياً بقيمة الوقت الذي يتناقص، ويتناقص المرء معه، فكأن كل يوم بسمار يدق في نعش البشر. وحسب حديث قدسي معروف: "يابن آدم إنما أنت أيام فاذا مضي يوم فقد مضى بعضك"، وفي حديث حكيم: "نفس المرء خطاه الى أجله.." ([6]) وحسبما يقول الشاعر:
دقّــات قـلـب الـمـرء قـائـلـة لهــا إن الحيـــاة دقــائــق وثـوانـــي إنك لو رسمت في بيتك خطاً بيانياً لعمرك التقريـبي، ثم لونت ما مضى منه بلون أصفر، أحسست بقيمة الوقت الذي قد يضيع في غفلة من الإنسان.
وإذا غرست في بيتك شجرة، فاعلم بأنها كلما كبرت فإنك تصغر بذات النسبة. هناك تحس ماذا يعني إختلاف الليل والنهار، وماذا يعني تقادم الأسابيع والأشهر والسنين.