وكما يقول الإمام علي عليه السلام: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر". ([7]) 6/ وكما الأفراد، كذلك الأمم تسير نحو آجالها المعلومة. والمدنيات الكبرى ولدت فشبت ثم شاخت فانتهت عندما حان أجلها، وقد قال الله سبحانـه: «قُل لآ أَمْلِكُ لِنَفْسِــي ضَـــرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ اُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلايَسْتَقْدِمُونَ» (يونس/49) ونستوحي من الآية؛ وجود آجال معلومة لكل أمة، كما توجد لكل انسان، ولكن قد تقصر هذه الآجال بسبب الذنوب.7/ وقال ربنا سبحانه: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَيَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ» (النحل/61) 8/ ونستوحي من الآية؛ إن فرصة التوبة بالنسبة الى الأمم ليست بلا نهاية. إنها فرصة محدودة بأجل، فإذا جاء نزل عليهم العذاب، ولا تنفعهم التوبة. وقصة قوم يونس فريدة، إذ يقول ربنا سبحانه: «فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهآ إِيمَانُهَآ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (يونس/98) والتدبر في خاتمة الآية يذكرنا بأن إمهال هذه الأمة أيضاً كان الى حين، وليس بلا حدود.9/ وقد وعد الله تعالى قوم نوح عليه السلام بأنهم إن آمنوا أخّرهم إلى أجل مسمى، فقال الله سبحانه: «يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (نوح/4) ونستفيد من هذه الآية والتي سبقت؛ إن هناك أجلاً مسمى عند الله، لا علاقة لـه بايمان الأمم أو كفرهم، كما الأجل المقدر للإنسان إنه لا علاقة له بصحته وسقمه.بلى؛ أن الأمم قد ينـزل عليها عذاب الاستيصال بسبب كفرهم، كما أن الفرد قد يموت بسبب مرض او صدمة أو ما أشبه. والأنبياء عليهم السلام إنما كانوا يحذرون الأمم من عذاب الاستيصال، الذي انتهت به أكثر الأمم، كما أن الطبيب انما يحفظ الفرد من الموت إذا استجاب لـه. أما أجل الأمم المقدر عند الله فإنه إذا جاء لا يؤخر، كما أن الأجل المحتوم للفرد إذا نزل به فإنه لا يؤخر. والله العالم.
ثالثاً: وعي الوقت في الفرائض
والفرائض قد وقتت في الأهلة والأيام والساعات.1/ فالحج أشهر معلومات، وقد جعل الله الأهلة مواقيت لها. قال الله سبحانه: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة/ 197) 2/ وهكذا شهر رمضان، واحد من أشهر السنة، حيث قال الله سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ اُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة َوَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (البقرة/185) 3/ والأشهر الحرم التي يجب تعظيمها، هي أربعة بذاتها، لا يمكن تغييرها أو تأخيرها. وقد قال الله سبحانه: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » (التوبة/36) 4/ وقد جعل الله الأهلة مواقيت للناس والحج، فقال سبحانه: «يَسْألونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِاَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهِا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (البقرة/189) ونستفيد من هذه الآيات؛ أن علينا ضبط الأشهر والتقيد بأداء الفرائض فيها، مما يجعل الانسان يعي إختلافها وتقادمها ومضي الوقت عليه بسببها. وهكذا يزداد وعياً بحركة الزمن، فاذا شاء اعتبر بها.5/ والأيام ذات تمايز، فقد جعل الله الجمعة يوم إجتماع الناس لذكر الله، حيث قال سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (الجمعة/9) 6/ وفي اليوم ليست الساعات واحدة، وإنما هي مقدرة تقديراً دقيقاً. وقد قـال الله سبحانــه: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطآئِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (المزمل/20) 7/ والصلاة مفروضة في أوقاتها، لأنها كتاب موقوت. قال ربنا تعالى: «فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً» (النساء/103) 8/ وأمر ربنا سبحانه بإقامة الصلوات في ساعات معينة، فقال تعالى: «أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُوداً» (الاسراء/78-79) والتهجد بالليل مقاومة النعاس، وهو الهجود مثل التقمل، أي إلقاء القمل. ومثل كلمة "فزّع" بالتشديد، أي إلقاء الفزع والتحرر منه.وهذه الكلمة توحي بضرورة مغالبة النعاس لقيام الليل. وهناك آيات تبين أن من صفات المؤمنين قلة المنام في الليل، والإستغفار بالأسحار. وبهذا نعرف مدى ترغيب الدين في المحافظة على الوقت بقلة النوم، وقد جاء في الحديث عن الامام علي عليه السلام: "ما أنقض النوم لعزائم اليوم".([8]) وجاء في حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "انّ أول ما عُصي الله عز وجل به ستُّ: حب الدنيا، وحبّ الرياسة، وحبّ الطعام، وحبّ النوم، وحبّ الرحة، وحبّ النساء". ([9]) وجاء في وصية أم سليمان لابنها: "إياك وكثرة النوم بالليل، فإن كثرة النوم تدع الرجل فقيراً يوم القيامة".([10]) 9/ وقال الله تعالى: « وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ» (هود/114) إن التقيد بالفرائض يجعل المؤمن ينظم حياته بالأشهر والأسابيع والساعات تنظيماً دقيقاً، لأن الفرائض تساهم في تنظيم وقته عموماً.10/ وعلى الإنسان أن يعرف أن عدو الوقت طول أمله. فمن ابتلي بصفة طول الأمل، ضيع العمل، وسوّف الأمور، واستراح الى المنى، واسترسل مع الهوى، وتسربل بالضجر والكسل.وإنما يطول أمل الانسان إذا نسي الأجل، وتناسى الموت، وغفل عن الحساب، واستهان بالعقاب، ولم يرج الثواب. وهكذا يتلاشى طول الأمل بذكر الموت، وإنه زائر ثقيل يفاجئه في أي وقت. أوليس الأجل إذا حان لا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة، أوليس البشر جاهلاً بمدته وميعاد أجله؟؟ ويتمنى الانسان حين ينـزل عليه الموت، أن لو تأخر عنه إلى أجل قريب، لكي يتدارك ما فات عليه من صالح العمل. ولكن هيهات. قال الله سبحانه: «وَأَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلآ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المنافقون/10-11) وهكذا يا أيها الانسان المغرور بأجله تضيع الساعات والأيام والأشهر.. بل والأعوام من عمرك، ثم تتمنى حين ينـزل بك الأجل لحظات من ذلك العمر الضائع، أن لو تأجلت وفاتك حتى تعمل في تلك اللحظات خيراً.. وهل ينفعك المنى؟ 11/ العمر الذي يعيشه المرء يكفيه للعمل الصالح وللتوبة، وقد تمر عليه فرص عديدة لكي يعود الى رشده، ويتزود لعاقبته، ويعمل لحياته الحقيقية في الآخرة، ولكنه يضيعها جميعاً. فإذا سأل ربه أن يعيده الى الدنيا، قيل لـه ما قص علينا كتاب ربنا سبحانه: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَصِيرٍ» (فاطر/37) فالعمر كان كافياً للتذكر، وشرط التذكر كان متوفراً، وهو النذير. والفرصة قد ضاعت والى الأبد..12/ وطول الأمل يلهي الانسان عن ذكر الله وعن العمل الجدي في سبيله، ويسوّف صاحبه التوبة، ويؤخر صالح الأعمال. قال الله سبحانه: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الاَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» (الحجر/3) وهكذا ذكرتنا الأحاديث الكريمة بدور طول الأمل في ضياع فرص العمل، منها ما جاء في حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "من أطال الأمل، أساء العمل". ([11]) وخطب الإمام علي عليه السلام، فقال: "إنما أهلك الناس خصلتان، هما أهلكتا من كان قبلكم، وهما مهلكتان من يكون بعدكم؛ أمل يُنسي الآخرة، وهوىً يضل عن السبيل". ([12]) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من كان يأمل أن يعيش غداً، فإنه يأمل أن يعيش أبداً". ([13]) وقال الإمام علي عليه السلام: "من جرى في عنان أمله، عثر بأجله". ([14]) 13/ وعندما يعي الانسان قيمة الوقت، يندفع نحو العمل، ويكافح من أجل الآخرة؛ لا يدع فرصه تتحول الى غصص، لأنه قد لا تعود إليه أبداً. بينما إذا تلهى بالأمل، فتراه كالبهيمة التي ترعى بكل سكينة، والقصاب يحد سكينه لذبحها. هكذا اللاهي ينشغل عما وجب عليه باللغو الذي لا ينفعه؛ أما أن يخوض فيما لا يعنيه من شؤون الناس، أو يضيع أوقاته في اللهو واللعب، أو يهتم بما لا يهمه من أمور الدنيا الزائلة ويترك الآخرة الباقية. بينما يصف ربنا المؤمنين الذين أفلحوا بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» (المؤمنون/3) 14/ ويضن المؤمنون بأوقاتهم التي هي ما تبقى من فرصهم في الحياة الدنيا، فلا يصرفونها إلاّ في الأولى والأنفع، وإذا مروّا باللغو مرّوا كراماً. قال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً» (الفرقان/72) 15/ والكفار والفساق يلهون ويلعبون وقلوبهم فارغة من ذكر الله، ومما هم قادمون عليه من الحساب والعقاب، حيث يقول عنهم ربنا سبحانه: «لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ» (الانبياء/3) 16/ وقد هيمنت عليهم الحياة الدنيا بغرورها وفجورها ولهوها ولعبها، حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً. قال عز من قائل: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (الانعام/32) فقـه الآيات الجد والاجتهاد والنشاط والحيوية من أبرز القيم التي أكدت عليها النصوص الدينية؛ سواءً بصورة مباشرة، أو غير مباشرة. ومن أبرز دوافعها، وعي الوقت والاهتمام بساعات العمر، والمبادرة الى العمل قبل مباغتة الأجل. ولكي تتصل هذه القيمة بواقع كل واحد منا، بل بواقع أمتنا في هذه المرحلة الحرجة التي تداعت فيها الأمم علينا كما تتداعى الأكلة على القصعة، علينا أن نستبين الحقائق التالية:أولاً: الضجر والكسل الضجر كما صخرة صماء على الطريق، يمنع الإنسان من الاندفاع. وللضجر (والتعب) أسبابه الكثيرة؛ ومن تلك الأسباب الفرح الذي يجعل الفرد لا يحس بالحاجة إلى التحرك، وكأنه قد أدى كل ما عليه. والمرحلة الخطيرة من صفة الفرح العبثية واللاهدفية. وقد يكون الضجر بسبب التوتر العصبي الناشئ من فواحش القلب كالكبر والحسد والحقد والاحباط واليأس وما أشبه، وقد يكون سبب الضجر التعب الجسدي وثقل الدم أو قلة المواد الضرورية لعمل المخ، والمرحلة الخطيرة منه المرض الجسدي.وأياً كانت أسباب الضجر، فإن علينا مكافحته باكتشاف أسبابه، ثم القضاء عليها بكل إصرار، لأن الضجر موت بطيء وسبب لسلسلة طويلة من الأخطار الكبيرة.ونقرء في آية كريمة أن من صفات المنافقين الكسل في العبادات. قال الله سبحانه: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً» (النساء/142) وقد نهت روايات أهل البيت عليهم السلام منه، حيث نقرء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "يا علي؛ إيــاك وخصلتيـن؛ الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حــق، وإن كسلت لم تؤد حقاً". ([15]) وقال الإمام الصادق عليه السلام: "إياك والضجر والكسل، فإنهما مفتاح كل سوء"، وقال عليه السلام: "الكسل يضر بالدين والدنيا". ([16]) وقد دعت الأحاديث الى الحيوية والنشاط، والعمل والاجتهاد، وهي الحالة المعاكسة تماماً للضجر.قال الإمام علي عليه السلام في خطبة له: "ألا وأن اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار. ألا وأنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ولم يضرره أجله". ([17]) وقال عليه السلام: "في كل وقت عمل". ([18]) وروى الإمام الرضا عليه السلام، عن الإمام الباقر عليه السلام، أنه قال: " لا ينال ما عند الله إلاّ بالعمل". ([19]) وقال النبي صلى الله عليه وآله: "العمل كنز والدنيا معدن". ([20]) ثانياً: تنظيم الوقت ليست كل ساعات يومك، ولا كل أيام اسبوعك واحدة من الناحية الانتاجية. فقد تكون ساعة أفضل من ساعات، ورب يوم أنفع من أسبوع. تعال أيضاً هندس أوقاتك كما لو أردت بناء بيتك، أولست تجعل كل مادة من المواد الانشائية في موضعها المناسب؛ الحجارة والحديد والأبواب، كذلك الساعات الفضلى تجعلها للأعمال الأهم والأصعب ثم تتدرج الى أن تجعل أضعف ساعاتك لأسهل أعمالك أو حتى لراحتك؟ وإليك الوصايا التالية التي هي وحي تجاربي والتجارب التي استفدتها من الآخرين:أ- بعد ليلة تمتعت فيها بنوم هادئ وكافي، وفي ساعات الصباح الأولى، وإذا كنت قد أخذت قسطاً من الطعام الخفيف المفيد، وكنت في موقع هادئ بعيداً عن الضوضاء وعن إنتظـار موعد أو شخص؛ إنها أفضل ساعاتك للدراسة والبحث العلمي الدقيق.وفي يوم السبت، وقد استفدت ملياً من عطلة الجمعة، وأمامك مخطط واضح أعددته سلفاً لأعمالك، فستكون في أحسن الأيام لقضاء حوائجك.. وهكذا يروى عن الرسول صلى الله عليه وآله، أنه قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها، يوم سبتها وخميسها". ([21]) وقد تكون أفضل ساعاتك في آخر الليل، بعد أن تقوم من نومتك وتصلي لربك ركعات، وتطهر قلبك من الآثار السلبية للنهار السابق، وتستغفره من الذنوب وتحصل على سكينة النفس والتوكل على الرب.وقد تكون ساعات غيرها هي الأفضل، إلاّ أن المهم أن تختار أفضلها لأصعب الأعمال، وأهمها عندك.ب- ثم تضع سلم الأولويات، تختار لكل عمل ساعة، ولا تنس أنك كيان متنوع الأبعاد. فلا تحاول أن تشتغل بنوع واحد من العمل، فتكون كمن يأكل الطعام ثم لا يروي عطشه بشراب، أو كمن يتغذى بنوع واحد من الأطعمة فيفتقر جسده الى سائر المواد الضرورية.نظّم أوقات عبادتك أولاً، ثم اختر قبلها أو بعدها ساعات أعمالك. فالصلاة في أول أوقاتها أفضل مقسم ليومك الى أقسام، لكل قسم منها دورته الزمانية. ذلك لأن الصلاة تطهر النفس وتغسلها من أسباب الضجر والتعب، ويبدء المرء بعدها حياته من جديد. فإذا كانت الصلاة بشروطها وفي المسجد ومع الذكر والدعاء والموعظة ولقاء الأخوة، فإنها مرفأ للراحة النفسية، وسبب لتجديد الحياة، ومنطلق للحركة الجديدة. فبعدها تقوم بأفضل أعمالك، ثم الأفضل، حتى يكون قبل وقت الصلاة الجديدة قد قمت بدورة زمانية معينة بدأتها بالأفضل وأنهيتها بالأسهل.وهكذا قسم أوقاتك على حاجاتك الجسدية والروحية، وعلى واجباتك الأمثل فالأمثل. وأعط لكل جانب قسطاً عادلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، وتذكّر أن النفس البشرية يستهويها من الأعمال أسهلها، فلا بد أن تأخذها الى الأحمز بعزمك، فخير الأعمال أحمزها.ج- في كل عمل ثلاث مراحل؛ ففي بداية العمل يندفع المرء إليه بشوق، ثم وفي المرحلة الثانية يحس بانعدام الشوق ولكنه يرغب عقلياً في الاستمرار، أمّا في المرحلة الثالثة فإنه يتعب نفسياً وربما جسمياً من العمل.والعمل مع الشوق جيد، ومع الرغبة حسن، ولكنه رديء مع التعب. وهكذا توقف عن العمل واشتغل بغيره ثم عد إليه بشوق أو لا أقل برغبة.وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام قال: إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقصروها على الفرائض. ([22]) وتصدق هذه النظرية في الأعمال الدقيقة كالعبادة والتأليف والبحث العلمي أكثر من الأعمال الخشنة التي لا صلة للحالة النفسية بأداءها.ثالثاً: الاهتمام بالسرعة قدرة البشر تتمركز في طاقاته الروحية والعقلية والادارية، وهي مخلوقة ومقدرة بصورة تتناسب آماد من السرعة التي يصعب تصورها. مثلاً؛ إنك ترى أن البشر من يوم كان يمتطي الحمار الى هذا اليوم الذي يمتطي صهوة الصاروخ ليسبر أعماق السماوات، إنه هو ذاته قد تكيف مع سرعة السير، وهيمن على وسائلها. كذلك من يوم كان يستخدم الطير الزاجل أو البريد البشري في إتصالاته الى اليوم الذي يستفيد من البريد الألكتروني هو ذاته، وقد تكيف مع السرعة. إذاً علينا أن نتسارع في أعمالنا بالوصايا التالية:أ- إختر الأعمال التي يمكن إنجازها بسرعة، فإذا كنت مخيراً بين إستخدام أنواع من الأقلام، فاختر أسرعها. وإذا كنت مخيراً بين استخدام أنواع من المصانع فاختر على المصنع اليدوي الميكانيكي، وعليهما المصنع الالكتروني، وهكذا.. إذا كنت بين عمل تبذل فيه جهداً جسدياً أو جهداً فكرياً وإدارياً، فاختر الثاني. وهكذا..ب- أقصر الطرق، الخط المستقيم. ولكن اسرع الطرق الى الاعمال ليست واضحة، فلعل طريقة إكتشفتها كانت سريعة ولكنك إستطعت أن تكتشف أقصر وأسرع منها. وهكذا علينا أن نبذل طاقة فكرية كبيرة وباستمرار لاكتشاف السبل الأقصر والأقل تكلفة، ولا نتوقف عند حد، فإن السبل دائماً مختلفة، وبعضها أفضل من بعض.ج- الخير عادة، والشر عادة، والسرعة عادة، والبطئ عادة. حاول أن تعود نفسك على السرعة في كل خير, وحتى في المشي والكلام والكتابة والتفكير والاختيار، وهكذا.. لا تتردد ولا تخشى الإقدام، وإياك والهيبة فانها مقرونة بالخيبة، ولا تدع للوساوس طريقاً الى قلبك فإنه سبب بطئ الاختيار، وإذا ترددت فاحسم موقفك بالدعاء والتوكل والمشورة والاستخارة والقرعة وما أشبه، المهم أن تحترم وقتك، ولا تضيعه في التردد.
رابعاً: تجنب ما يضيع وقتك
الإسترسال مع العادات التي تضيع الوقت، مثل متابعة الألعاب الرياضية المختلفة والأفلام البوليسية والمسلسلات التافهة، ومثل الإهتمام بالكماليات الحياتية التي لا تنفع كثيراً، ومثل الاصرار على العلاقات الاجتماعية غير الضرورية التي تستنفد الوقت.. كل هذه وأمثالها تعبتر شريكاً في عمرك، وأنت مسؤول عنها. من هنا يجب أن تكون لك وقفة محاسبة ذاتية، وإعادة تقييم كل عاداتك، فتحذف منها ما يضر بأوقاتك، وتحافظ على ما هي ضرورية، ولا تؤثر جدياً على قيامك بواجباتك..وعوِّض عنها بما يتلاءم وأهدافك. فبدل الحضور في مجالس الأصدقاء، إبعث إليهم رسالة أو إكتف بالهاتف. وبدل صرف الوقت على المسلسل التلفزيوني، إختر الفديو والفيلم المفيد تتابعه في وقت الفراغ. وبدل قراءة الصحف ما غث منها وما سمن، إختر صحيفة جامعة أو إستمع إلى نشرة خبرية واحدة عند الفراغ من أعمالك..وهكذا لكل مضيعة الوقت بديل مناسب، لو فكرت جيداً لعرفته، وبجهد بسيط تبدل المضر بالنافع.وبكلمة؛ الاقتصاد في المعيشة والتدبر فيها مفيد لمال الإنسان، وإدارة الوقت والتدبير فيه مفيد لعمره، وعمر البشر أهم من ماله. وقد جاء في وصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري رحمه الله: "يا أبا ذر كن على عمرك أشحُّ منك على درهمك ودينارك ". ([23]) خامساً: أضف إلى عمرك ساعة كلما إستطعت أن تضيف الى عمرك من وقت، فهو في ربحك. فأنت إن كان أجلك يوافيك بعد 80 عاماً، ثم عشت كل يوم 10 ساعات مفيدة، فعمرك حقاً هذه الساعات المفيدة. فإذا أضفت إليها ساعة في كل يوم، فقد أضفت 365 ساعة كل عام مضروبة فيما تبقى من سني حياتك، أليس كذلك؟ وكم هو إهتمامك بإضافة عشر سنوات إضافية على الثمانين، وبالذات عندما تبلغها سالمة إن شاء الله، فلماذا لا تهتم بها إذا كانت في العمق؟ الرجال الكبار عاشوا أعماراً متوسطة، ولكنهم حوّلوها إلى إنجازات عظيمة لحسن إستفادتهم من كل لحظة في عمرهم. والوصايا التالية قد تنفعك:أ- إذا كنت تسوق سيارتك كل يوم معدلاً ساعتين، فقد تكون أثناء السياقة مشغولاً فقط بادارة السكان ومراقبة السير والاستماع الى الاذاعة بلا تركيز. وقد تخطط للاستفادة من هاتين الساعتين أو لا أقل من ساعة واحدة منهما أثناءهما، وذلك بالاستماع الى دروس مقروءة، أو محاضرات مركزة في الدين، أو في شؤون الحياة. أيهما أفضل؟ كثير من الناس يصرفون أوقاتهم في بعد واحد، في إنتظار القطار الداخلي أو الباص، أو في أثناء السير، أو في انتظار المشتري في محلاتهم أو ينتظرون المراجع في مكاتبهم أو الأساتذة أو الطلبة في جامعاتهم.. ولكنهم لا يفكرون أنهم لو أضافوا إلى هذا البعد بعداً آخر، لضاعفوا ساعاتهم المفيدة.وقد بحثت مع ثلة من العلماء كنا واياهم جالسين في قاعة الانتظار في أحد مطارات الشرق الأوسط التي تتأخر عادة مواعيد الإقلاع عندهم، تساءلت هل الله يحاسبنا يوم القيامة عن هذه الساعات، وعن تلك التي نصرفها في الطيارة أثناء تحليقها؟ وبعد حوار مفصل كانت النتيجة: بلى؛ لأن الاجابة يوم القيامة بأننا كنا ننتظر الطائرة يا رب، لا تكون كافية حسبما يبدو.. لأن الانتظار ليس عملاً.وهكذا المطلوب أن نملأ لحظات عمرنا أعمالاً مفيدة أنى استطعنا.ب- لو كنت تعيش في بلد ملوث بالهواء الفاسد وبالضوضاء، وكانت عادة الطعام عندك تقتضي أكلات دسمة تزيد في الترهل والكسل، وكنت تعاشر أصحاباً يدعونك الى اللهو.. فإن كل شروط الضياع متوفرة عندك. وبتغيير بسيط في حياتك؛ الهجرة - مثلاً- إلى حيث الهواء النقي والهادئ، والتعود على الوجبات المفيدة وغير الدسمة، وانتخاب أصحاب جديين يجعل حياتك أنفع وأكثر إنتاجية، أليس كذلك؟ عادة تنتشر إحصاءات من بعض منظمات الأمم المتحدة أو مراكز الدراسات حول معدل العمل المفيد في هذا البلد أو ذاك، وفيها أخبار مذهلة. فبينما نرى معدل العمل المفيد في كل يوم عمل 6 ساعات في هذا البلد، نجده في بلد آخر 15 دقيقة، بل 7 دقائق فقطّّّ!!والسؤال الهام: من أي نمط تريد أن تكون؟ الحساب والمراقبة الذاتية كل شيء مقدَّر تقديراً حسناً، وعلى الإنسان أن يقدر حياته بحسبان يتناسب وتقدير الرب، لكي لا يشذ عن سنن ربه في خلقه. ولكي تهون عليه المحاسبة يوم القيامة، حيث يسأل عما نوى وعما سعى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى.عن هذه البصائر نتحدث في ثلاثة عناوين؛ ففي البدء نبحث إن شاء الله الدقة المتناهية في حسبان الكائنات، ثم عن حساب الإنسان، وأخيراً عن جزائه.
أولاً: كل شيء بحسبان
1/ الشمس والقمر خلقهما الله بحسبان. (فلا الشمس تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، مع أنهما في فلك يجريان). وعلينـا - نحن البشر، حيث نعيش في عالم كل شيء فيه محسوب - أن ننظم حياتنا بدقة فلا نطغى في الميزان، بل نزن كل شيء بالقسطاس المستقيم. قال الله سبحانه: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ» (الرحمن/5-8) 2/ وقال الله تعالى : «فَالِقُ اِلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (الأنعام/96) ونستهدي بالآية إلى شمول الحساب للزمان الذي يحيط بنا، وأن الإنسان يعيش في عالم مضبوط، كل شيء فيه بحسبان. فمثلاً حركة الزمان محسوبة بدقة، تتجاوز التقدير بجزء من مليون جزء من الثانية؛ وحتى الأجرام السماوية الهائلة كالشمس والقمر والنجوم والمجرات منظمة حسب الزمان بمثل هذا الجزء المتناهي في الدقة، كما هي منظمة حسب إتجاه حركتها بجزء من مليون جزء من الميليمتر وأقل، وهي مقدرة حسب موادها بجزء من مليون جزء من الغرام وأقل.. فكيف يفلت البشر من الحساب في هذا العالم؟ بلى؛ وحركات قلبه وأنشطة كبده ورأته وجريان دمه وعدد أنفاسه وتموجات أعصابه ومواد جسمه وكل شيء فيه محسوب. وكلما إخترعنا وسائل أكثر دقة في قياس العدد والزمن والكم والكيف، كلّما رأينا من آيات ربنا في أنفسنا عجباً، حيث كانت الدقة في آماد أجسامنا أكثر وأسرع .والله سبحانه يعلم مكيال البحار، وذرات الرمال في القفار، ووزن الهواء في السماء، ووزن الضياء المنبعث من النجوم.. ويحيط علماً بكل مثقال ذرة من خردل من أعمالنا وهواجسنا ونياتنا. فأين نفلت من الحساب؟ أوَ لم يقل ربنا سبحانه:3/ « وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ» (الأنبياء/47) 4/ وقال الله تعالى : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» (ق/ 16) 5/ وهو القائل عزّ وجلّ: « لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (البقرة/284 ) فنحن إذاً في قبضة الحساب، منذ بدء النية في نفوسنا ونشاط الفكر في عقولنا، إلى أن نحرك جوارحنا، وحتى اللحظة التي نقترف فيها عملاً.6/ وعملنا مكتوب، حيث قال ربنا سبحانه: « بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (الزخرف/80) 7/ بل إن عملنا مستنسخ. قال الله تعالى: « إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَاكُنتُمْ تَعْمَلُونَ » (الجاثية/29) 8/ وعملنا محفوظ في خزانة الغيب، أوَ لم يقل ربنا : «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ» (يس/12) 9/ ولكلٍّ كتاب؛ فكتاب الفجار في سجّين، وكتاب الأبرار في عليين. قال ربنا سبحانـه: «كَلآَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجّينٍ» (المطففين/7) 10/ وقال عزّ من قائل: «كَلآَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (المطففين/18) والله يحيط بكل شيء من حولنا. فهو إذاً سريع الحساب، إذ كل شيء بحضرته، وكل شيء قد أحصي سلفاً، وكل شيء قد قدّر بحسبان.وهكذا على الإنسان تنظيم حياته وفق هذه الحقيقة؛ أولاً: بالتعقل والتدبير، والتقيد بالموازين، ومحاسبة كل حركة منه وكل فكرة وكل نية. وثانياً: بالمراقبة الذاتية، وأن يحاسب نفسه حساباً عسيراً، ويوزنها وزناً عادلاً بالقسطاس المستقيم.. وعلى هذه جاءت الأحاديث التالية:قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "جعل الله لكلّ عمل ثواباً، ولكل شيء حساباً". ([24]) وجاء في حديث مأثور عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تبعثوا". ([25]) وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر الغفاري، قال: " يا أبا ذر؛ حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فهو أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية". ([26]) وعلى الإنسان أن يختار لنفسه ساعة يحاسب نفسه فيها. إلى هذا دعانا أئمتنا عليهم السلام، وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: "حقّ على كلّ مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كلّ يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها، لئلا يخزى يوم القيامة". ([27]) ولعل الساعة المناسبة لمحاسبة النفس هي عندما يأوي المرء إلى فراش نومه. إستمع إلى الحديث التالي:قال الإمام الصادق عليه السلام: "إذا آويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك، واذكر أنّك ميّت وأنّ لك معادا". ([28]) وليكن الإنسان في محاسبته لنفسه شديداً. جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: "لا يكون الرجل من المتّقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشّريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه؟ ومن أين مشربه؟ ومن أين ملبسه؟ أمن حلّ ذلك أم من حرام؟". ([29]) أما كيف يحاسب الإنسان نفسه، فقد بيّنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما سئل: كيف يحاسب الرّجل نفسه؟ قال: "إذا أصبح ثم أمسى رجع الى نفسه، وقال: يا نفس؛ إنّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه فيما أفنيته، فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حقّ أخ مؤمن؟ أنفّست عنه كربته؟ أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، وأعنت مسلماً؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عز وجل وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله عز وجل وعزم على ترك معاودته". ([30]) وفائدة الحساب مراقبة الذات، والوقوف على العيوب مقدمة لإصلاحها، ومعرفة الذنوب والإستغفار منها. وهكذا يربح من حاسب نفسه، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن..." ([31]) وأهم ما يسأل العبد عنه يوم القيامة، هو الأجدر بمحاسبة نفسه عليها في الدنيا، وهو ما يلي:قال الإمام الصادق عليه السلام: "إن أول ما يسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله جلّ جلاله عن الصلوات المفروضات، وعن الزكاة المفروضة، وعن الصيام المفروض، وعن الحجّ المفروض، وعن ولايتنا أهل البيت، فإن أقرّ بولايتنا ثمّ مات عليها قُبلت منه صلاته وصومه وزكاته وحجّه". ([32]) ثانياً: الإنسان ذلك المسؤول بالرغم من الدقة المتناهية في حساب الإنسان، لنيته وعزمات قلبه وخواطره ووساوس نفسه، ولعمره وما ينتفع به وما ينقص منه. بالرغم من ذلك فإنه مغفول عنه نسبياً في الدنيا لحكمة الامتحان، وسوف يأتي يوم يحاسب فيه بكتاب لا يغادر شيئاً إلاَّ وقد أحصاه. وحسب حديث شريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: "ألا وإنكم في يوم عمل لا حساب فيه، ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل.." ([33]) فعلى الإنسان أن يتصور أبداً حسابه عند ربه البصير، الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، وأن ينظّم حياته وفق ذلك الحساب.1/ ينشق عن الإنسان جدثه يوم القيامة، فيلقى من يقدم لـه كتابه الذي كان طائراً في عنقه، وكان يحصي عليه كل شيء، ولكنه كان مخفياً عنه في الدنيا بهدف الابتلاء؛ يقدم إليه ذلك الكتاب، ويقال لـه: أما الآن فبامكانك أن تقرء كتابك وأن تحاسب نفسك. قال الرب تعالــى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (الاسراء/13-14) 2/ أما الكتاب (الذي سجّلت فيه أعمال الإنسان) فقد أحصى عليه كل شيء، فإذا رآه الكافرون أشفقوا مما فيه ودعوا لأنفسهم بالويل والثبور. قال ربنا سبحانه: « مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلآَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يِظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (الكهف/49) 3/ وفي أحد مواقف الآخرة التي تبلغ خمسين موقفاً، يوقف المرء ليسأل. قـال الله تعالــى: «وَقِفُوهُمْ اِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ» (الصافات/24) وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: "فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنّ أمكنة القيامة خمسون موقفاً ، كلّ موقف مقام ألف سنة. "ثم تلا هذه الآية: «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ». ([34]) والناس في الحساب ثلاث فئات؛ فمنهم من لا يحاسب، بل يدخل الجنة رأساً، وهم المصطفون. ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، وهم المقتصدون (الصالحون). ومنهم من يحاسب حساباً على إمتداد يوم القيامة. هكذا نقرء في الحديث التالي عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: "في قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ...» فأمّا الذين سبقوا، فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب. وأمّا الذين اقتصدوا، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً. وأمّا الذين ظلموا أنفسم فأولئك الذين يُحبسون في طول المحشر..." ([35]) 4/ ومن هنا فإن المؤمنين فـي الدنيا يخافون سوء الحساب (والمداقة فيــه)، ويرغبــون إمــا فـي دخول الجنة بلا حساب، لأن للحساب هيبته، أو أن يحاسبــوا هناك حساباً يسيــراً. قــال الله سبحانه: « وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَـابِ» (الرعد/21) وقد جاء في حديث قدسي: ما من عبد أنصبته للحساب إلاّ هلك.وجاء في تفسير نور الثقلين: "روي أن الحساب اليسير هو الإثابة على الحسنات والتّجاوز عن السيئات، ومن نوقش في الحساب عذّب".([36]) وهكذا يرجوا المؤمنون أن يحاسبوا بالصفح والفضل، لا بالقسط والعدل، لأنهم يخافون من عدل الله فيهم. وقد روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل محاسب معذّب. فقال لـه قائل: يا رسول الله؛ فأين قول الله عزّ وجل: «فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً» ؟ قال: ذلك العرض يعني التصفح". ([37]) 5/ ووعي المؤمن للحساب يهديه الى الدقة البالغة فيه، لكي يحاسب نفسه على حقيقة العمل، لا على مظاهره فقط. فإنما يتقبل الله من المتقين، ولا يقبل من صلاة العبد إلاّ ما توجه فيه، وإنما ينال الله التقوى من أضحيته لا دماءها ولا لحومها. وهكذا قال ربنا سبحانه: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ» (الأنبياء/47) فأي عمل وأي عامل يصمد أمام مداقة الحساب عند الرب؟ ولذلك نجد أن دعاء المؤمنين لربهم يتمثل في أن يعاملهم الله بفضله، وإنهم يتضرعون الى ربهم قائلين: ربنا عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك.ونقرء في دعاء الإمام الباقر عليه السلام: "إلهي إن عفوت فمن أولى منك بالعفو، وإن عذّبت فمن أعدل منك في الحكم، إرحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نشرت للحساب بين يديك ذل موقفي". ([38]) 6/ والتقوى في الدنيا حصن المؤمن من المداقة في الحساب يوم القيامة، حيث يقول ربنا سبحانه: « وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الانعام/69) ولعل المعنى أن المؤمن إذا أتقى ربه، وأدّى ما عليه من الفرائض، وتجنّب المحرمات، ثم انتفع بما أحل الله لـه، لم يحاسب إلاّ حساباً يسيراً ، وربما دخل الجنة بلا حساب؛ حيث جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهنَّ؛ طعام يأكله ، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه". ([39]) وجاء في حديث آخر عن أبي خالد الكابلي قال: دخلت على أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام، فدعا بالغدا، فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً قطّ أطيب منه ولا أنظف. فلمّا فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد؛ كيف رأيت طعامك أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما رأيت أطيب منه قطّ ولا أنظف، ولكنّي ذكرت الآية في كتاب الله عزّ وجلّ «... لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ». قال أبو جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام: إنما يسئلكم عمّا أنتم عليه من الحق". ([40]) 7/ وكذلك الصابرون يدخلون الجنة بغير حساب. يقول الله سبحانه: « قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر/10) وروي في تفسير هذه الآية، أن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: "إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب الجنة فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله، ونصبر على معاصي الله. فيقول الله عز وجل: صدقوا أدخلوهم الجنة. وهو قول الله عز وجل: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» ([41])
ثالثاً: الله سريع الحساب
ليس الدعاة الى الله مسؤولين عن الناس، إلاّ بقدر إبلاغهم رسالات ربهم، ثم الله هو سائل الناس عما فعلوا، كما هو سائل الرسل عمّا بلّغوا. وحساب الله سبحانه تمهيد لجزائه، وقد يُطلق ويراد به الجزاء ذاته. والله تعالى سريع الحساب للمتقين، وسريع الحساب على الكافرين في الآخرة وفي الدنيا أيضاً.1/ الحياة أكثر جدية مما نتصورها -نحن الغافلين وأشد حساباً. فحتى الرسل، ربنا سائلهم عن إبلاغهم الرسالة، ثم يسأل الناس عن إستجابتهم لهم. قال الله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ اُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (الأعراف/6) 2/ ويزعم الناس أن الرسول أو من يدعوهم إلى الخير، مسؤول عن هدايتهم، ويتكفل بهم، ويتحمل تقصيرهم. كلاّ؛ إن عليه البلاغ، وعلى الله الحساب. قال ربنا سبحانه: « وإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ» (الرعد/40) 3/ وقال الله سبحانه: « وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ وَمَا مِن حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» (الانعام/52) 4/ وقال الله سبحانه: « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ» (الغاشية/26) 5/ والحساب الذي يحاسبه الرب عباده تمهيداً لجزائهم؛ إن خيراً فخير، وإنّ شراً فشر. قال الله سبحانه: « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (النور/39) لقد وفاهم الله حسابهم بما أنزل عليهم من عقابه.6/ والعقاب هو المستوحى من قوله سبحانه: « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ» (الأنبياء/1) 7/ ويوم الحساب هو يوم الدين، وهو يوم الجزاء. قال الله سبحانه: « رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ» (ابراهيم/41) إذ المغفرة تتناسب والذنب الذي يحاسب عليه ليجازى به.8/ وفي هذا الإطار، لا بدّ أن نخشى حساب الله، ولتكون معرفتنا لحسابه داعية لنا الى تقواه. قال الله سبحانه: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا اُحِلَّ لَهُمْ قُلْ اُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (المائدة/4) 9/ وإذا ألقينا نظرة إلى ما حولنا، وإلى العذاب الذي ينـزل على القرى المحيطة بنا، وكيف يأخذها الله أخذ عزيز مقتدر، علمنا بأن الله سريع الحساب، حيث يرقب أعمال عباده ويجازيهم عليها. قال الله سبحانه: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (الرعد/41) ومن هذه الآية نعرف أن حساب الله ليس لمجرد تقدير وضعهم، بل لجزائهم؛ بل يعبر به عن ذات الجزاء؛ وليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً.وهكذا يجب أن نتقي سرعة حسابه، لأنه سبحانه قد لا يمهل المذنب على فعلـه، وقد يعجـل للمؤمن ثوابه في الدنيا. وقد وردت كلمة «اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» في الكتاب لبيان حقائق أربع.10/ إن الله سريع الحساب بالنسبة الى الداعين، فلا يظن من يدعو ربه أن الله ينساه، وهذا يشجع المؤمنين على المزيد من الدعاء. قال الله سبحانه: « وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * اُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (البقرة/201-202) ونستوحي من الآية؛ أن ربنا سريع الإجابة لدعاء الداعين.11/ وهكذا من عمل صالحاً وهو مؤمن يجزيه الله على عمله، وقد قال تعالى: « وإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِاَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (آل عمران/199) وقد سبق الحديث آنفاً عن آيات تدل على جزاء الله للقوى الظالمة، وأنه سريع الحساب بالنسبة إليها.12/ وعموماً كل نفس تجزى ما كسبت، لأن الله سريــع الحســاب. قال الله سبحانــه: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (إبراهيم/51) 13/ والله تعالى لا يظلم أحداً، لأنه سريع الحساب، (فلا خطأ فـي حسابــه أبــداً). قــال الله سبحانه: « الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (غافر/17) ما نستوحيه من آيات الذكر؛ جدية الحساب ودقته وسرعته وسرعة جزاءه، وهذه الصفات في الحساب تهدينا الى دوام التذكر وخشية الغفلة، وإلى الاجتهاد في العمل وتجنب الكسل والضجر، والى إجتناب المحرمات والمبادرة الى الفرائض، والله المستعان.
فقـه الآيـات
1/ الدنيا دار الغرور، وما فيها متاع الغرور، وهي دار اللهو واللعب، وقد زين للناس حب الشهوات، وقد أقسم إبليس يميناً بعزة الله سبحانه أن يغوي بني آدم، وفي حياة البشر الكثير من عوامل الإنحراف.من هنا فإن علينا أن نراقب أنفسنا، وأن نحاسبها حساباً شديداً، وأن نتبصر أبداً ما حولنا من آيات الله، وفي التاريخ من عبر الهالكين، وألاّ ندع الغفلة تتسرب إلى أنفسنا فنهلك مع الهالكين والعياذ بالله.2/ ولكي نحاسب أنفسنا، ينبغي أن نضع أوقاتاً معينة للمحاسبة، وآلية للحساب كأن نكتب ما نريد أن نعمله ثم نحاسب أنفسنا على مدى إنجاز ما قررنا عمله، أو نتفق مع إخوة لنا على برامج ثم نحاسب أنفسنا مجتمعين، أو نحضر عند مؤمن صالح أو فقيه رباني ونجعله يحاسبنا على مدى نجاحنا فيما تعاهدنا معه على إنجازه، وهكذا..3/ والحساب يقتضي التدقيق في الأمور إبتداءً من وضع الخطط المناسبة، وإنتهاءً بإجرائها وتنفيذها، كل ذلك لأن الأهداف الهلامية لا تتناسب والمحاسبة الدقيقة. والله الموفق.
في رحاب الأحاديث
1/ قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجـل سأله أن يعظـه: "لا تكـن ممـن يرجــو الآخــرة بغيـر العمل، ويرجئ التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبيــن". ([42]) 2/ قال رسول صلى الله عليه وآله: "وأما علامة الفاسق فأربعة؛ اللهو، واللغو، والعدوان، والبهتان". ([43]) 3/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عدّ غداً من أجله، فقد أساء صحبة الموت". ([44]) 4/ قال أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "إن للمؤمن ثلاث ساعات؛ فساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل". ([45]) 5/ قال أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "ألا إن الأيام ثلاثة؛ يوم مضى فلا ترجوه، ويوم بقي لا بد منه، ويوم يأتي لا تأمنه. فالأمس موعظة، واليوم غنيمة، وغداً لا تدري من أهله. أمس شاهد مقبول، واليوم أمين مؤد، وغد يجعل بنفسك سريع الظعن، طويل الغيبة، أتاك ولم تأته". ([46]) 6/ قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: "من أراد أن يطوّل الله عمره، فليقم أمره". ([47]) التقدير السليم التقدير السليم قيمة ايمانية، ينبعث من تجلي حكمة الرب سبحانه في تقدير كل شيء، والذي هو بدوره سنة إلهية في خلقه..فماهو - إذاً - التقدير؟ وماهي تجليات سنة التقدير في الخليقة، وبالتالي ما هي حقائق التقدير السليم؟ أولاً: معنى التقدير جعل الله برحمته وحكمته بين قوم سبأ وبين القرى التي بارك فيها (مكة المكرمة) قرى ظاهرة، وقدّر فيها السير. وذلك التقدير تجلى في تنظيم السير ليالي وأياماً.إذاً ؛ التقدير هو بسط السير على الأيام بنظم معين، أو بسط شيء على موضوعاته بنظم. قال الله سبحانه: «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ» (سبأ/ 18) .ومن خلال جملة آيات هذا الحقل نستوعب آفاق التقدير ومعانيه.ثانياً: التقدير سنة إلهية