تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



إن وعي سنة الله في خلقه المتجلية في التقدير، يزيد الانسان حكمةً وايماناً، وينفعه علماً وعرفاناً.

1/ فالله سبحانه خلق كل شيء بقدر، فهو قدّر كل شيء قبل أن يخلقه، وجعل له أجلاً ووزناً وطبائع، وموازين بالغة الدقة، فقال سبحانه: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» (القمر/ 49).

2/ والله هو الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً، لأنه الملك الحق الذي لا شريك لـه في ملكه، فقال سبحانه: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» (الفرقان/ 2).

3/ وهكذا كل شيء عنده بمقدار؛ فهو يعلم وزنه وأجله، ومبتدأه ومنتهاه. قال الله سبحانـه: «اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ اُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ» (الرعد/8).

4/ وتتجلى هذه السنة في الحياة، وتتجلى في وعي البشر صبراً وأناةً وتوكلاً. قال الله سبحانه: «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (الطلاق/3) .

ونستفيد من الآية البصائر التالية :

ألف: إن المتقي (وهو الذي يراقب حدود الله ولا يتجاوزها) يجعل لـه الله تعالى مخرجاً، (وهو السبيل الذي يهديه اليه الرب بين عشرات الموانع والسدود والحدود التي تحيط به).

باء: إن رزق الله مقدّر للانسان؛ فهو يرزق المتقي من حيث لا يحتسب، (لأنه لم يحط علماً بكل السنن الإلهية).

جيم: والتوكل على الله، (والثقة بنصره، والعزم على العمل إعتماداً عليه، والتفاؤل والايجابية في العمل والدعاء إليه)، إنه قوة، لأن الله ينصره وكفى به نصيراً.

دال: إن الله سبحانه لطيف لما يشاء، وإنه بالغ أمره (يحقق ما يريد، ويفعل ما يشاء، ولا شيء يمنعه في هذا السبيل).

هاء : إن لكل شيء قدراً جعله الله. (وهكذا ينبغي ألاّ يستريح البشر الى رخاء، ولا يقنط عند بلاء) .

5/ وهذه السنة تتجلى في أمر الله سبحانه؛ فهو يأمر بحكمة ، والخلق كله يستجيب لأمره. ومن حكم الله سبحانه لنبيه أن يتزوج مطلقة زيد الذي كان ولده بالتبني، حتى لا يتحرج الناس من بعده نكاح زواج أدعيائهم. قال الله سبحانه: «مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً» (الاحزاب/ 38) .

6/ ومن حقائق أمره المقدور، أنه لا ينـزل من خزائنه (الرزق والرحمة) إلاّ بقدر معلوم. قال الله تعالى: «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (الحجر/ 21) .

7/ ولعل ليلة القدر هي الظرف الزمني للتقدير الشامل، ومن أجل ذلك فهي خير من ألف شهر، (إذ تتجلى فيها رحمة الرب تعالى). قال الله عز وجل: «إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (القدر/ 1- 3) .

ونستوحي من السورة أنّ مصير البشر يتحدد في ليلة القدر، التي هي خير من عمر ممتد ثمانين سنة ونيفاً. فينبغي لمن أراد السعادة والفلاح، أن يستدر رحمة الله في هذه الليلة، ليكون من السعداء.

8/ ومن أبعاد التقدير الإلهي، تقديره أقوات الأرض في أربعة أيام. قال الله سبحانه: «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ اقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِلسَّآئِلِينَ » (فصلت/10).

ونستلهم من الآية؛ إن لكل شيء رزقاً مقدراً معلوماً، يحافظ على بقائه، حتى الجمادات.

9/ وتقدير الله سبحانه للأشياء يقتضي أن يكون لكل شيء أجل معلوم، وبالذات فيما يتصل بخلقة البشر من نطفة يحفظها في الرحم الى وقت معلوم. قال الله تعالى: «أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِن مَآءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ» (المرسلات/20-23).

10/ ومن تجليات تقديره في الخلق، أنه جعل الشمس ضياءً والقمر نـوراً. قال الله تعالــى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (يونس / 5) .

11/ وقال الله تعالى: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» (يس /39) .

ألا ترى أن الله الذي خلق الشمس والقمر، هو الذي خلق الانسان وقدر لـه الاستضاءة بنور الشمس التي جعلها نوراً . وتحديد أوقات الليل والنهار حسب منازل القمر، ليعرف عدد السنين والحساب. إن ذلك يهدينا إلى أن الله إنما خلق الخلق بالحق ، وعلينا أن نعي حقانية الخلق، فلا نجعل حياتنا ميداناً للهو واللعب والباطل.

12/ ومن أبعاد تقديره، أنه ينـزل من السماء ماء بقدر. قال الله سبحانه: «وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» (القمر/12) .

13/ ومن تجليات تقديره، أنه يرزق من يشاء، بما يشاء. فهو يبسط لمن يشاء الرزق ، ويقدر عمن يشاء. ولهذا التقدير حكمته، وإن الذين لا يرضون بذلك في ضلال مبين تماماً. كما كان أصحاب قارون، الذين تمنوا أن يكونوا مثله، فلما خسف الله به وبداره الأرض صعقوا، وقالوا ما أخبر عنه ربنا سبحانه بقوله: «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالاَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يُبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلآ أَن مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (القصص/82) .

ومرة أخرى نعرف أن تقدير الله خير من تمنيات البشر، وأنه إنما قد بسط الرزق لبعض عباده إمتحاناً لهم، وربما إستدراجاً، بينما قدر رزق آخرين رحمة بهم وفضلاً.

14/ ولأن الله قد قدّر الليل والنهار، فقد أوصى الى عبده ورسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وآله كيف ينظم الوقت، وتاب على المسلمين فلم يأمرهم بأن يقوموا الليل كله بالعبادة، لأنه يعلم أنهم لن يحصوه، وإنما أمرهم بأن يقرأوا ما تيسر من كتابه. قال الله سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطآئِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (المزمل/20) .

ونستفيد من الآية البصائر التالية :

أ- القاعدة هي إشتغال المؤمن بعبادة ربه، وقراءة القرآن، وبالذات في الليل. ولكن لأن في الناس مرضى ، وتجاراً ومقاتلين، فان الله تاب على المؤمنين، فأمرهم بأن يتلوا من القرآن ما تيسر لهم. ثم أمرهم بجملة واجبات لا يجوز لهم التهاون فيها، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً (بالانفاق فيما يبدو) .

ب- على المؤمن أن يقسم وقته بين واجبات دينه وضروريات حياته، على أن يجعل القاعدة عبادة ربه.

15/ والله سبحانه الذي قدّر، هو الذي هدى الى تقديره إما بصورة فطرية، حيث قدّر قوت كل حي وهداه الى حيث يحصل على ذلك الرزق؛ أو بصورة وحي، حيث قدّر للانسان أنظمة صالحة فأوحاها الى رسله. قال الله سبحانه: «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى» (الأعلى/ 3) .

16/ والانسان مخلوق مقدّر، فكل ما فيه من أبعاد جسدية ونفسية وعقلية، وكثير مما يجري عليه من حوادث فيما بينها معيشته، ومحياه ومماته مقدّرة. قال ربنا سبحانه: «مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ» (عبس /19).

17/ ورزق البشر مقدّر، ومن رزقه غيث السماء الذي ينـزله الرب بقدر. يقول عز من قائل: «أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَاَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ» (الرعد/ 17) .

إن الأودية تستوعب من الماء بقدر سعتها ، فلكل واد نصيب من الماء هو بقدر سعتها وحاجة أهلها.

18/ والماء النازل من السماء مقدّر، وهدفـه نشـر بلـدة كانت ميتــاً، حيث يقـول ربنـا سبحانـه: «وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُـونَ» (الزخرف/ 11) .

19/ والماء لا ينـزل من السماء بما يفسد الأرض لكثرته، أو بما لا ينفعها لقلته. وقد تجف الوديان ويقدر الله الرزق على عباده رحمة بهم، لأنه لو بسطه لهم لبغوا وكان جزاء بغيهم عليهم نقمة شاملة، قال الله تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» (الشورى/ 27) .

20/ والله المقدر للماء، قادر على الذهاب به (فالتقدير كما أصـل الغيث رحمـة إلهيــة). قـال الله سبحانه: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَاَسْكَنَّاهُ فِي الاَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ» (المؤمنون/ 18) .

ومعرفة البشر باحتمال فقدان النعمة ، تدعوهم الى شكر المنعم، والسعي نحو المحافظة على النعمة .

21/ وتحيط بالانسان سنن التقدير منذ ابتداء خلقته حتى الوفاة، وحتى كثير من تفاصيل حياته تشملها سنة التقدير (القدر)، حيث يقول ربنا سبحانه: «إِذْ تَمْشِي اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلَى اُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى» (طه/40) .

بلى؛ للانسان هامش واسع من الاختيار يبتليه الرب به ، وفي حدود هذا الهامش يقع مصير البشر، حيث أوكله الله الى نفسه. وبعد أن هداه النجدين وجعل الجزاء تابعاً لما أراده لنفسه، فإن أحسن أحسن لنفسه، وإن أساء أساء لنفسه.

وفي ليلة القدر، وفي كثير من مظانّ استجابة الدعاء، يستطيع البشر بتوفيق الله أن يدعوه، فيتغير سوء حاله إلى أحسن الحال.

ثالثاً: قيمة التقدير حسن التقدير من الحكمة، وهو ميراث المعرفة. والجاهل لا يقدر الأمور حق التقدير، وأبرز مثال على ذلك ما نجده عند الكفار والمشركين من إنهم ما قدروا الله حق قدره. وقد أمر الله سبحانه نبيه داود بالتقدير في السرد.

1/ إن الجهل بالله جعل البعض يكفر باسمائه الحسنى، ومن أسمائه إنه قوي عزيز، (فترى الناس يعصون ربهم ولا يحسبون حساباً لقوته وعزته). قال الله تعالى: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج/ 74) .

2/ وقال الله سبحانه: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (الزمر / 67) .

فالله القوي العزيز، الذي الارض وما فيها جميعاً قبضته، والسموات مطويات بيمينه، كيف يعصى أو يشرك به سبحانه؟ 3/ ومن سوء التقدير، الكفر بالوحي للجهل بالله وأسمائه الحسنى. وهكذا ترى اليهود كفروا بالرسالة التي نزلت على النبي المصطفى. قال الله سبحانه: «وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَالَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلآ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» (الانعام/ 91) .

4/ ومن سوء التقدير ما ذهب إليه ذلك الكافر، الذي قال في الوحي أنه سحر يؤثر. قال الله سبحانه: «كَلآَّ إِنَّهُ كَانَ لاَيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرَُ» (المدثر/16-24) وهكذا ينبغي أن يكون تقدير الانسان في المعارف العليا تقديراً سليماً، وإلاّ فإنه يؤدي الى الهلاك. ولعل سوء تقديره كان بسبب فرحه بما أوتي من مال وبنين، مما جعله يتجانب الموضوعية في التقدير، حيث إنه كان لآيات ربه عنيداً، وإنه أدبر واستكبر فأخطأ التقدير.

5/ ومن التقدير في المعارف الى التقدير في الصناعة، حيث أمر الله سبحانه النبي داود أن يقدر في السرد. قال الله سبحانه: «أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَــا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (سبأ/ 11) .

6/ وفي الجنة حيث الكمال، ترى القوارير مقدرة تقديراً (مما يجعلنا نقدر أيضاً الأواني اتباعاً لكمال الجنة). قال الله سبحانه: «قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً» (الانسان/ 16) .

7/ والتقدير في المعيشة من صفات عباد الرحمن، حيث يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» (الفرقان/ 67) .

بصائر الآيـات 1/ التقدير معرفة قدر كل شيء، ثم بسط الحقيقة عليها. فالتقدير في الزمان بسط العمل على وحدات زمانية، وفي الأشياء إعطاء كل شيء حقه ، وفي المعارف الاذعان لكل شيء بحقه، وهكذا.

2/ وسنة الله في خلقه القدر المعلوم. واذا وعى البشر تجليات سنن الله في الخلائق، فإنه يقدر حياته تقديراً سليماً بتوفيق الرب سبحانه.

3/ وقبل أن ينشئ الله الخلق، قدره وخلق كل شيء بقدر (وزناً ووقتاً وخصائص و . و .). وكل شيء عنده بمقدار، ولأنه قد جعل لكل شيء قدراً، فعلى الانسان ألاّ يجزع لمصاب ولا يهلع بنعمة.

4/ وأمر الله قدر مقدور (بحسبان وحكمة وميقات)، وهكذا فهو لا ينـزل من خزائنه (شيئاً) إلاّ بقدر (وفق حكمته)، وليلة القدر هي ليلة تقدير الأمور.

5/ ويتجلى تقدير الله في خلق الأرض، حيث قدّر فيها أقواتها في أربعة أيام. ومن تجليات قدره أنه جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب. ومن هنا فقد أمر الله سبحانه بأن يقرء المؤمنون ما تيسر من القرآن لعلمه بأنهم لن يحصوه، لأنه هو الذي قدر الليل والنهار. ( وكما قدّر الأجل والزمان) فقد قدّر رزق البشر، فأنزل من السماء ماء بقدر، ثم بسط الرزق للبعض وقدر للبعض. والحكمة البالغة في ذلك، أن يتخذ البعض بعضاَ سخرياً، على أن رحمة الله خير من حطام الدنيا.

6/ وقد هدى الله الى ما قدر (هدى الأحياء بالفطرة، وهدى البشر بها حيناً، وبالوحي حيناً).

7/ والأودية تستوعب من قطر السماء بقدرها . والغاية من الغيث نشر بلدة كانت ميتاً، (وإنما قدر الله الرزق ) لأنه لو بسطه لعباده لبغوا في الأرض . وكما قدر الله نزول الغيث، فهو قادر على أن يذهب به.

8/ والبشر يعيش في كف قدر الله، فهو الذي قدّر كم يبقى في رحم أمه (ومتى يولد، وهو الذي قدّره كيف ما شاء)، وحتى كثير من تفاصيل حياته يتم بقدر (كما كان إياب موسى عليه السلام الى مصر) .

9/ وحسن التقدير حكمة. والتقدير الصحيح يبدء من المعارف العليا (معرفة الله واسماءه ومعرفة الوحي). وكذلك التقدير في الصناعة (صناعة الدروع الواقية، وصناعة الأواني والأمتعة المنـزلية)، الى التقدير في المعيشة.. وفيما بينها تقدير الوقت، وتقدير السير في السفر .

فقـه الآيـات 1/ إنطلاقاً من وعي سنة التقدير فيما خلق الله، وفي خلق الانسان بالذات، وفيما وهبه الله لـه من نعم، ينبغي أن ينبعث المؤمن نحو التفكر في الأمور ليعرف أقدارها، ويكيف نفسه وفق تلك الأقدار. وهكذا يدع الإحساس جانباً ويتفكر بموضوعية في الأمور، سواءً التي ارتبطت بحياته الشخصية أم لا. فإن الإيمان بآيات الله من أشد الفرائض الدينية ضرورة، وهي ذات تأثير بالغ في مصيره. ومن الإيمان بآيات الله فيما يبدو الإيمان بشواهد خلقه، وعلامات سننه، وتجليات أسمائه الحسنى.

إذاً: التقدير الحسن في التفكر مما ينبغي ألاّ يتركه المؤمن الذي من صفاته المثلى أن سكوته فكرة ونظره عبرة.

2/ ويدعوه حسن التقدير الى معرفة أفضل بنفسه، وما أودع الله فيها من طاقات وأقدارها وآجالها. فلا يُهمل طاقة مما وهبه لـه، ولا يسرف في أخرى، ولا يضيع فرصة وينشغل بغيرها. فهو في صباه مجتهد في الدراسة، وفي شبابه مجد في أنشطته، وفي كهولته مراعٍ لصحته، وبالتالي يدير نفسه كأفضل ما يدير رئيس للعاملين معه.

ما هو أفضل الأعمال الذي يقوم به الآن، وكيف يقوم به بأفضل صورة، وما هي الطريقة المناسبة له للحصول على المال، وما هو التدبير الأفضل لانفاقه وفي أي المصارف؟ ينظر الى طعامه، فيختار من أزكاه رزقاً مناسباً لحاجته، من دون قتر أو إسراف. ينظر الى مواقيته فينظمها بدقة، ويقدر لكل ساعة منها عملاً مناسباً لها. فلا يفرط مثلاً في الدراسة، ولا يهملها لحساب فيلم يحبه. ولا يقتر على نفسه فضيلة العبادة والصلاة التامة، ولا يسرف في النوافل الى حد الارهاق وضياع سائر الواجبات. وهكذا في نومه فلا يقلله الى حد التفريط ولا يكثر منه الى حد تعطيل حياته، بل يقدره تقديراً حسناً. ينظم أوقات اليقظة والمنام حسب حاجات جسمه، وحسب فرائض يومه.

وهكذا يهتم بصحته من دون وساوس فيها، ويهتم بأمنه من دون الاصابة بالتردد والهلع، ويهتم بزوجه وذريته بقدر الحاجة بلا افراط ولا تفريط. فهو دائماً يقدر أموره الحياتية حسب طاقاته، وحسب ما يقدره من حاجة كل مورد مورد منها.

وإذا احتاج الى السياحة، فإنه يختار الأنفع لجسمه وعقله ودينه. وهكذا يكون حسن التقدير رائداً.

3/ في مواقفه من الناس، ومن التيارات الاجتماعية، وفي علاقاته مع ذوي قرباه والمرتبطين به، يتمتع المؤمن بتقدير حسن. فلا يفرط في حبه أو بغضه، قربه أو بعده من هذا التيار أو ذاك؛ من هذا الشخص أو ذاك من قراباته؛ بل يقدر استحقاق هذا أو ذاك من التيارات والاشخاص من حبه وقربه، أو بغضه وشنآنه، حسب قيمه ومصالحه، وليس حسب إحساسه وعواطفه.

4/ وفي تدبير معيشته يتمتع المؤمن بتقدير حسن لموارده ومصارفه. فيكون لـه ميزانية رشيدة لسنته بلا سرف أو قتر، وبلا إستجابة لضغط أهله أو عواطفه، وبلا مجاراة مجتمعه وتظاهر بما ليس فيه من غنى يفاخر الآخرين به أو تظاهر بالفقر بهدف تضييع حقوق الناس.

إن التقدير في المعيشة يوفر للإنسان الكثير من راحة البال، والاستقرار وعدم الوقوع في المهالك.

4/ وكما عند الفرد، كذلك في المجتمع الرشيد، يؤدي التقدير الحسن الى الاستقرار وتجنب الوقوع في الأزمات. ومن الأزمات ما تدمر المجتمع تدميراً، مما يجعل التقدير ضرورة قصوى شريطة أن يكون قائماً على أساس حساب الحاجات والطموحات من جهة، وحساب الطاقات المتوفرة والفرص المتاحة من جهة ثانية، ثم التخطيط وفق استحقاقات كل حاجة أو طموح ودرجة أهميته.

ويؤدي التخطيط السليم دوراً أساسياً في التنمية، وفي الدفاع عن مصالح الأمة. وترى اليوم تتسابق الدول الى وضع خطة تنموية خماسية، ووضع خطط دفاعية طويلة المدة.

وعلينا أن نكون الأقدر من بين الأمم على وضع مثل هذه الخطط، والتمسك بمفرداتها بدقة، والله المستعان.

القسمة العادلة ما هـي القسمة ؟ وكيف كانت سنة إلهية ؟ وما هي الغاية من القسمة كسنة الهية ؟ وكيـف كانت القسمة قيمة دينيـة؟ عن هذه الأسئلة نبحث في آيات هذا الحقل .

أولاً: ماهي القسمة ؟ 1/ مصداق القسمة نجده في أكثر من مناسبة ، مثلاً عندما تندر مادة ضرورية يعمد المجتمع الى تقسيمها ، كما قسمت ثمود الماء بينهم وبين الناقة. قال الله سبحانه : «وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ » (القمر / 28) .

2/ وكذلك نجد حقيقة القسمة بوضوح عند الوفاة، حيث يوزع التراث على أولي القربى. قال الله سبحانه: «وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ اُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» (النساء / 8) .

ونستفيد من الآية؛ إنه إذا كانت القسمة العادلة تقضي بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه ، فإن الإحسان يقتضي إعطاء من حضر القسمة حق النظر . فالقسمة تصبح طيبة، وذلك مثل أن يعطي صاحب الحصاد حق حصاده للمساكين .

ثانياً: القسمة سنة إلهية والقسمة سنة إلهية تنبع من التقدير الحكيم الذي يقضي به الرب القائم بالقسط سبحانه .

1/ والله سبحانــه يرسـل الملائكة ليقسمــوا أمــراً ، وقد جــاء فــي الكتاب قولـه تعالــى : «فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً » (الذاريات/4) .

2/ وفي يوم القيامة يقسم أبواب جهنم على المعذبين فيها ، فكل مجرم يدخـل من باب ذنبــه وخطيئته ليستقر في موقعه ، لأن الجزاء جزاء عادل . قال الله عز وجل : «وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمَوعِدَهُمْ أجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ» (الحجر /43-44) .

3/ والله قسم بين العباد معايشهم ، وقدر أقواتهم بحكمة بالغة. وذلك سنة إلهية في عباده يبين الوحي الغاية منها ، حيث يقول سبحانه : «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (الزخرف/ 32) .

ونستفيد من الآية؛ إن النعم الإلهية على خلقه، رحمة من عنده، وليست حقاً للناس، ولذلك يقسمها بحكمة بالغة. وهكذا رفع بعض الناس على بعض في المعيشة من أجل أن يحتاج بعضهم الى بعض ، حتى تتحرك دورة الاقتصاد ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً بهدف الانتاج .. وليس في ذلك ظلم لمن قدر عليه رزقه ، لأن القيمة الأساسية عند الله ليست الثروة ، وإنما رحمته التي تتجلى في الإيمان والأمن والصحة وسائر نعمه ..

4/ والقسمة قد تكون ضيزى، حيث يطلب أحدهم من الآخر مما يعطيه، لأنه يرى نفسه أحق من غيره ، قال الله تعالى : «وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى» (النجم / 20 - 22) .

5/ ومثل آخر للقسمة الظالمة ، أن يأخذ الانسان بعض الآيات ويترك بعضها بهــواه ، بينمــا الآيات كلها من عند الله، ولذلك يحاسب الله سبحانه من يفعل ذلك. قال الله تعالــى : «كَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ » (الحجر/90 - 92) .

وهناك قسمة عادلة كالتي أمر بها النبي صالح عليه السلام قوم ثمود، حيث جعل الماء قسمة بينهم وبين الناقة .

بصائر الآيـات 1/ القسمة سنة إلهية.

2/ القسمة تصبح عادلة إذا اتبعت حقاً (كقسمة الإرث)، أو هدفاً أعلى (كقسمة المعيشة).

3/ القسمة الطيبة قيمة دينية ، كالقسمة في الإرث مع إعطاء من حضر .

فقه الآيـات 1/ (الزخرف/ 32) ؛ البصيرة التي نستوحيها من الآية؛ إن التساوي ليس قيمة في توزيع الثروة ، إنما العدالة هي القيمة التي تعطي كل ذي فضل فضله . كما إن الغنى المادي ليس قيمة، إنما رضوان الله هو القيمة الأسمى. فلا يحترم الغني، ولا يهان الفقير ، إنما يحترم المؤمن فقيراً كان أو غنياً .

2/ (النساء/ 8) ؛ نستفيد من الآية شرعية حق النظر، فإذا حضر قسمة الميراث أولوا القربى واليتامى والمساكين ، فلا يحرمون من بعض المال. ولكن لأنهم لايحصلون على نصيب وافر، فعلينا أن نعوّضهم بالقول المعروف. وهكذا يكون القول الطيب، جابراً للكسر المادي. كما إنك إن لم تشاء قضاء حاجة السائل فلا تنهره، بل رده بقول معروف .

3/ (النجم / 22) و (القمر/ 28) ؛ العدالة في القسمة تعني اعطاء حق كل طرف، وهي المطلوبة. بينما القسمة الضيزى أن تجعل لنفسك ما لا تجعله لغيرك، بينما تشتركان معاً في الأمر.

الفصل الثالث: القوة في خدمة الحق القوة والركن الشديد ما هي القوة، وما هي منابعها، وأين تنفع، وما هي أضرارها حين تخالف الحق؟ القوة هي التي يحس بها الإنسان حينما تكتمل بنيته بعد ضعف الطفولة، وهي التي يفتقدها عند الشيخوخة.

وينبوع القوة هو الله القوي العزيز، والذي تتجلى قوته في الرزق الذي يقدره لخلقه، وفي الرسول الذي يبعثه ويعلمه وينصره ويمكّنه في الأرض إذا شاء ويجعله عالياً في الأرض، وفي نصرته للمؤمنين وفي أنه ينجيهم من أيدي الظالمين ويكفيهم القتال، وفي تدمير قرى الظلمة، وفي قيامه للقسط. فإذا تاب العبد إلى ربه وتوكل عليه (ودعاه)، منحه الرب قوة، وآواه إلى ركن شديد.

وركائز القوة في الحياة؛ الحق والحكمة والتعاون، والتمسك بالميثاق، والمال والرجال والبأس الشديد.

وتنفع القوة في أخذ الدين (والتمسك به)، وفي الدفاع عن النفس، وفي القيام بالواجبات المعاشية.

ولكن القوة تضر إذا خالفت الحق، فإن الحق يغلبها في النهاية مهما كانت شديدة.

هذه هي عناوين البصائر التي نستفيدها من الآيات التي نتدبر فيها لاحقاً إن شاء الله تعالى.

أولاً: ما هي القوة؟ أرأيت كيف كنت ضعيفاً عند صغر سنك، لا تملك لنفسك نفعاً، ولا تدفع عنها ضراً، ثم أوتيت القوة. ولكنها لا تستمر، بل توشك أن تزول عنك وتعود الى ضعف وشيبة.

إنها هي القوة في صورتها الشخصية، وهي مثال لسائر ما في الخلق من قوة يمنحها الرب لعباده بعد ضعف، (مثل نعمة العلم والهدى، نعمة المال والولد، نعمة العافية والأمن، نعمة التعاون والتشاور.. إنها جميعاً مصاديق القوة). فتدبر في الآية التالية لتتحسس بحقيقة القوة، حيث قال الله تعالى: « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» (الروم/54) ثانياً: الله شديد القوى 1/ ربنا سبحانه هو القوي العزيز، (أوليس هو الخالق المهيمن على خلقه، الفعال لما يشاء وعلى كل شيء قدير)؟ قال الله سبحانه: «مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج/74) وقوته سبحانه تتجلى في عزته، وعزته تتحقق في عطائه ورحمته كما في عقابه الشديد.

2/ ومن حقائق قوة الرب سبحانه، رزقه الذي ينـزله على خلقه، حيث يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (الذاريات/58) أولا ترى كيف يرزق ربك الرضيع من ثدي أمه، ويعطف عليه قلب والديه فيرزقه عبرهما بأفضل ما يكون؟ ويرزق الضعيف والقوي سواءً بسواء، وقد يرزق من لدنه عبداً لا يملك حولاً ولا طولاً بما يعجب الحكماء، ويدع الأسباب حائرة، كما قال شاعرهم:

كـم عاقـل عاقـل أعيـت مذاهبــه وجـاهـل جـاهـل تلقـاه مرزوقــاً 3/ وقال الله سبحانه: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» (الشورى/19) ومن تجليات قوته لطفه، حيث يمضي إرادته كيف يشاء بلطف تدبيره. وقد جاء في الأثر: " أن سليمان عليه السلام كان جالساً على شاطئ بحر فبصر بنملة تحمل حبة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها فدخلت النملة فاها وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة وسليمان يتفكر في ذلك متعجباً، ثم إنها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة من فيها ولم يكن معها الحبة. فدعاها سليمان عليه السلام وسألها عن حالها وشأنها وأين كانت، فقالت: يا نبي الله إن في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوّفة وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقهــا لله تعالى هنالك فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشهــا، وقد وكّلني الله برزقهـا، فأنــا أحمــل رزقها، وسخر الله هذه الضفدعة لتحملني فلا يضرّني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثم إذا أوصلت رزقها إليها خرجت من ثقب الصخرة الى فيها فتخرجني من البحر. قال سليمان عليه السلام: وهل سمعت لها من تسبيحة؟ قالت: نعم، تقول: يا من لا ينساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللّجة برزقك لا تنس عبادك المؤمنين برحمتـك". ([48]) 4/ ومن حقائق قوته سبحانه؛ العلم والهدى الذي يرزقهما عباده عبر رسله، حيث قال سبحانه: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى» (النجم/5) 5/ من حقائق قوته؛ إنه سبحانه قائم بالقسط (عدل لا يجور)، وقد أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، (وهو ينصر الذين ينصرون دينه، ويقيمون القسط كما أمر). قال الله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحديد/25) 6/ وهكذا فإن الله تعالى كتب الغلبة لرسله، وتجلت قدرته في نصره لهم. فقال عز من قائل: «كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (المجادلة/21) 7/ وكذلك كفى الله المؤمنين القتال بقوته القاهرة، ورد الذين كفروا بغيظهم قبل أن ينالوا خيراً. قال الله تعالى: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا» (الاحزاب/25) 8/ وهكذا وعد الله الذين يقاتلون في سبيله من عباده الموحدين، الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلاَّ أن يقولوا ربنا الله؛ وعدهم النصر من عنده إن هم نصروه، ودافعوا عن بيوت العبادة بإذنه. قال الله تعالى: «الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلآَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَويٌ عَزِيزٌ» (الحج/40) 9/ وأخذ الذين كفروا بالرسل (أخذ عزيز مقتدر). قال الله سبحانه: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَاَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (غافر/22) 10/ ومن ذلك ما فعل الله بثمود، حيث نجَّى رسوله صالحاً بقوته، وأخذ الذين كفروا بها أخذاً شديداً. قال الله سبحانه: «فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيرُ» (هود/66) 11/ وكذلك فعل الله ببني اسرائيل، حيث نجاهم وأغرق عدوّهم آل فرعون. قال الله سبحانه: «كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِاَيَاتِ اللّهِ فَاَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الانفال/52) ولو درس الإنسان تجربة الأمم السابقة بعمق، ووعى حقائق قوة الرب وتجليات عزته في مملكته، تراجعت أنانيته وكبح جماح نفسه وعرف حدود صلاحياته، كما عرف من أين يكتسب القوة الحقيقية؛ أي من الله الذي خلقه من ضعف ووهب له القوة، وهو يرزقه ويوفر له فرص العلم والهداية والكمال.

12/ وهكذا فعل النبي لوط عليه السلام حينما أحاطت به قوى الشر، فإنه لم يستسلم لهم، وانما توجّه الى مصدر القوة الحق، الى ربه (فنجّاه الرب منهم وأهلكهم). قال الله تعالى: «قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» (هود/80) 13/ وحتى المذنبون من عباد الله إذا تابوا إليه يزيدهم قوة الى قوتهم، حيث وعظ النبي هود عليه السلام قومه بالاستغفار ليرزقهم الله الرخاء والقوة. قال الله تعالى: «وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» (هود/52) ثالثاً: ركائز القوة في الدنيا ما هي ركائز القوة في الدنيا؟ إنها الحقائق التالية:

1/ المال والأولاد (الثروة والجند) من ركائز القوة، ولكنهما لن يقاوما الحق. قال الله سبحانه: «كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا اُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَاُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » (التوبة/69) 2/ والتعاون من ركائز القوة، حيث قال الله تعالى (على لسان ذي القرنين): «قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَاَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً » (الكهف/95) ألا ترى كيف طالب الملك الصالح قومه بأن يعينوه بقوة؟ 3/ والتمسك بالميثاق قوة ونقضه ضعف. قال الله سبحانه: «َوَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَاتَفْعَلُونَ» (النحل/91) ونستفيد من الآية الكريمة؛ إن حب التعالي في أطراف المجتمع يهدم أساس الوحدة القائمة على العهد والميثاق بينهم.

4/ وعموماً الوحدة قوة، والتفرق ضعف. قال الله سبحانه: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا» (آل عمران/103) رابعاً: حقائق القـوة وحقائق القوة التي تتجلى فيها، هي القوة في الدين، وفي إقامة القسط بين الناس، وفي مقاومة الأعداء، وفي تنفيذ الأوامر في الدنيا.

ألف/ القوة في التمسك بالدين 1/ وأهم حقائق القوة إستخدامها في تنفيذ الدين، والأخذ بتعاليمه، والتمسك بوصاياه. ولعل ركيزة هذه القــوة، أن يكون حب الانسان لربه أشد من حبه لغيره. قال الله سبحانـــه: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ اَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَاَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ» (البقرة/165) 2/ وقد أمر الله سبحانه النبي يحيى عليه السلام وهو في المهد أن يأخذ الدين بقوة، فقال سبحانه: «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً» (مريم/12) 3/ كما أمر ربنا تعالى نبيه موسى عليه السلام أن يأخذ التوراة بقوة، فقال تعالى: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِاَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ» (الأعراف/145) 4/ ولقد ثبّت الله النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله أن يركن الى الكفار شيئاً قليلاً، فقال تعالى: «وَلَوْلآ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً » (الاسراء/74) 5/ ولقد أخبر الله نبيه المختار صلى الله عليه وآله أنه سيلقي عليه قولاً ثقيلاً، (فلا بد أن يستعد له بقيام الليل). قال الله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً» (المزمل/5-6) 6/ وفي أحاديث أهل البيت عليهم السلام تأكيد مستمر على صعوبة التمسك بأمرهم، حيث جاء في الحديث الشريف: "إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلاَّ ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن إمتحن الله قلبه للايمان". ([49]) 7/ ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل أن يأخذوا ما آتاهم الله من الدين بقوة، فقال تعالـى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة/63) 8/ ونستفيد من سياق آية كريمة؛ إن من معاني القوة في أخذ الدين؛ الاخلاص فيه وعدم حب العجل، حيث قال سبحانه: «وَإذْ أخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّوْرَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ بِهِ إيمَانُكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ» (البقرة/93) 9/ ويبدو أن من مصاديق أخذ الدين بالقوة؛ العزم الراسخ في التمسك به، والاستقامة عليه، والصبر في طريق تطبيقه رغم الصعاب المنتظرة. وهكذا إعداد القوة من أجل تطبيقه، سواءً كانت مالاً أو رجالاً أو تعاوناً أو تشاوراً. وقد جاء في النصوص الشرعية تأكيد على ضرورة العزم والنية في الأخذ بالدين رغم الصعاب، حيث قال ربنا سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ اُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِاَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ» (العنكبوت/10) 10/ ويضرب القرآن مثلاً من واقع الأبطال التائبين الى الله من طغيان فرعون، وكيف استقاموا على الطريقة ولم يتركوا دينهم بالرغم من إرهاب فرعون، فقال الله سبحانه: «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ * إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه/70-73) وفي الحديث في صفة المؤمن: "إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا دخل النار لان، وإن المؤمن لو قتل ونشر ثم قتل لم يتغير قلبه". ([50]) وجاء في حديث آخر عن اسحاق بن عمار ويونس قالا: سألنا أبا عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) «خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ» أقوة الأبدان أو قوة في القلب؟ قال عليه السلام: فيهما جميعاً. ([51]) وقد جعل الإمام علي عليه السلام أول دعائم الايمان الصبر، فقال عليه السلام: "الايمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والتوحيد". ([52]) ومن هنا فان أهم ما نحتاجه عند التمسك بالدين، الصبر واليقين، وأن تكون نيتنا في التمسك بالدين وعزمنا عليه نية وافرة وعزماً شديداً. فاذا قويت النية لم يضعف البدن، حسبما جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق عليه السلام، حيث قال: "ما ضعف بدن عما قويت عليه النية". ([53]) وإذا كانت نية العبد متوفرة، فإن بدنه يطيعه، وعون الله سبحانه ينـزل عليه، حيث جاء في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: "إنما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم، فمن صحت نيته تمّ عون الله لـه. ومن قصرت نيته، قصر عنه العون بقدر الذي قصر". ([54]) وفي حديث مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: "إن الله لا ينظر الى صوركم وأعمالكم، وإنما ينظر الى قلوبكم". ([55]) وخلوص النية في العمل هو المطلوب، فاذا كان التمسك بالدين باخلاص ومن دون شائبة شك أو رياء أو شرك، فإن ذلك من حقائق التمسك بالدين بقوة، حسبما استوحيناه من آية كريمة. والإخلاص ينـزل الرحمة، وقد جاء في حديث شريف: "من أصعد الى الله خالص عبادته، أهبط الله عز وجل إليه أفضل مصلحته". ([56]) وطرح الكسل والضجر، والتسلح بالنشاط والحيوية، هما من مصاديق القوة في التمسك بالدين. وقد جاء في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: "إياك وخصلتين؛ الضجر والكسل، فإنك إن ضجرت لم تصبر على حق، وإن كسلت لم تؤد حقاً". ([57]) وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: "العجز مهانة". ([58]) باء/ القوة في إقامة القسط والحديد من مظاهر القوة، لأن أكثر الأسلحة تصنع منه؛ سواءً القديمة كالسيف والدرع، أو الحديثة كالدبابات والطائرات، وقد أنزله الله سبحانه ليستخدمه الصالحون في نشر العدل وإقامة القسط بين الناس. (وهكذا نستوحي من الآية التالية أن القوة نعم العون على إجراء العدالة). قال الله سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحديد/25) جيم/ القوة للدفاع عن الأمة والدين والأمة السامية المقتدرة هي التي تتسلح بكل ألوان القوة، للدفاع عن مصالحها وقيمها. وقد أمر الله الأمة الإسلامية بأن يعدّوا ما استطاعوا من قوة لمواجهة المعتدين، وردعهم عن التفكير في منازلة المسلمين. قال الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَااسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاتَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ» (الأنفال/60) والقوة هنا تشمل كافة مصاديقها؛ فالعزم الراسخ للدفاع والاستعداد للشهادة في سبيل الله، والقيادة الرشيدة، والتقدم الاقتصادي (الصناعي التجاري الزراعي)، والأسلحة المتطورة، والجاهزية العسكرية، وما إليها من ألوان القوى.. إنها جميعاً مظاهر القوة في سبيل الدفاع عن القيم.

دال/ القوة في الحياة ومن حقائق القوة؛ المتانة الجسدية لتنفيذ المهام. وقد قال الله سبحانه: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ» (القصص/26) ونستوحي من الآية؛ إن القوة بذاتها قيمة حياتية، بالإضافة الى الأمانة.

هاء/ بين القوة والحق الحـق قـوة لا تقاوم؛ إنه سنة الله الجارية، وإرادة الله القاهرة، وإنه المصيــر والعقبــى. والقــوة تتضاعف حين تتماشى مع الحق فتصبح القوة قوتين، بينما القوة التي تخالفه تنهار عاجلاً أم آجلاً. وقد حذّر كتاب ربنا من الاغترار بأية قوة تخالف الحق، أو الاعتزاز بها، أو الفرح بها، أو حتى الاعتماد عليها.

1/ ففي قصة الرجلين الذين جعل الله لأحدِهما جنتين، فاعتز بهما واستكبر على صاحبه بها، قال لـه صاحبه وهو يحاوره، ما قصّه علينا ربنا سبحانه: «وَلَوْلآ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً» (الكهف39) وأرسل الله على جنتيه حسباناً، فأصبحتا صعيداً زلقاً. وهكذا الاعتماد على الله وحوله وقوته، وليس على بعض الثروة.


/ 29