ب- وهذا الاختلاف ليس شيئاً، مادام منسجماً مع الأصول العامة التي يهدي إليها الوحي والعقل، وتتفق عليه فطرة البشر كلهم.ج- والله قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة. ولكن هذا الاختلاف يهدف ابتلاءهم فيما آتاهم، واستخراج مكنون ضمائرهم. وهذا الابتلاء يحتمل واحداً من معنيين أو كليهما؛ أولاً: إمتحان الناس ببعضهم لكي يعلم الله مدى تمسكهم بالقيم الدينية، كما قال الله سبحانه: «وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلآَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً» (الفرقان/20). ثانياً: إستخراج طاقاتهم الكامنة بسبب التنافس، حيث إن الصراع يذكي في الانسان روح الاستباق والمسارعة. وهذه الروح حميدة إذا كانت المسارعة الى الخيرات، حيث قال الله سبحانه: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَاْلأَرْضُ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ » (آل عمران/133)، وقال سبحانه: «وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (الانعام/132)، وقال سبحانه: «خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» (المطففين/26).ومن المعلوم إن الحضارات الكبرى قد ولدت في خضم الصراعات، ومن رحم التنافس البناء.د- إن الاختلاف لا ينتهي في هذه الحياة، وإنما يعرف الحق الصراح عند الله يوم القيامة. فليس من الصحيح أن يصرف الانسان طاقاته في الجدليات الكلامية العقيمة، أو في محاولة إزالة الأطراف الأُخرى. وعليهم أن يبذلوا طاقتهم في سبيل الاستباق الى الخيرات والتنافس على المكرمات، واستخراج مكنون طاقاتهم، وتسخير المزيد من إمكانات الطبيعة في هذا السبيل.
المسؤولية الشخصية
المسؤولية محور جميع الشرائع الإلهية، وكل الأنظمة الوضعية، ومن دون الاعتراف بها ينهار بناء التنظيم الاجتماعي. ولذلك فإن وعيها والايمان الحق بها يعد من أبرز حكم الرسالات الإلهية، كما يعتبر أعظم انجاز لأيّ مبدء وضعي.وبحق أقول: الدين الحنيف هو الذي يبعث روح المسؤولية في النفوس بأجلى وأسمى معانيها، ولكن كيف؟ أولاً: بسد كل منافذ الفرار منها أمام النفس البشرية التواقة الى التهرب من المسؤولية والاحتماء الى الظنون والتمنيات.ثانياً: بتكريس بصيرة الجزاء وربط كل ما يجري على البشر في هذه الحياة وفي الآخرة بها، ثم تقريب حقائق الجزاء ثواباً كان أم عقاباً بصور واضحة الى الإنسان، حتى وكأنه يرى جزاء أفعاله ماثلة أمامه في كل لحظة.والقرآن الكريم هو كتاب المسؤولية، ومن قرء آياته بتدبر يرى فيه حقائقها ناراً تتلظى، فتحرق الظنون والتمنيات، ونوراً يضيء شرائع الجزاء.وباختصار شديد نوضح كيف يسد الوحي منافذ الفرار من المسؤولية، أما كيف يكرسها في النفوس؟ فإن آيات الجزاء في القرآن جد كثيرة، ولعلنا نوفق وعبر مناسبة أخرى للحديث عنها، ولكن من يقرء الذكر الحكيم يجد في أكثر آياته روح المسؤولية وسنن الجزاء وتفاصيله.
سد المعاذير
لا نهدف هنا الاحاطة بكل المعاذير التي يتهرب بها الناس عن المسؤولية، ولكن من أجل تسهيل الاستفادة من الآيات التالية، التي يبدو لنا أنها تذكر ببصيرة المسؤولية بصورة مباشرة؛ من أجل ذلك سوف نبين بعضاً من المعاذير التي يتعلل بها الانسان فراراً من حقيقة المسؤولية، وهي:1/ الشرك بالله سبحانه، والذي هو أعظم إفك إختلقه الشيطان لغواية الإنسان عن ربه وعن مسؤولياته أمامه سبحانه. فالمشرك يزعم أنه يتخلص من مغبة أفعاله بوسيلة الآلهة التي يعبدها، أو الأنداد الذين يتخذهم أولياء من دون الله تعالى.إن كثيراً من المشركين زعموا أن الآلهة التي عبدوها من دون الله تغني عنهم شيئاً، أو تتحمل عنهم وزراً. ولكن الله ذكر بأنه سبحانه رب كل شيء، وأنه لا تكسب كل نفس (وزراً) إلاّ عليها (دون غيرها). قال الله تعالى : «قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » (الانعام/164) وهكذا نستفيد من الآية؛ إن التعلق بغير الله سبحانه لا يدفع عن الإنسان جزاء أفعاله.2/ عقيدة الجبر، والتي يزعم أصحابها إن أفعال العباد هي من خلق الله، والبشر ليسوا مسؤولين عنها. هذه العقيدة التي إتخذها القدرية عذراً لارتكابهم السيئات، إنها واحدة من أعظم منافذ التهرب عن المسؤولية. والله سبحانه ينفيها بصراحة، حيث يقول عزّ وجل: «إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوْا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (الزمر/7) إن الله سبحانه لا يرضَ بالكفر، ولا يمكن أن يكون هو الذي ألجأ المشركين الى الشرك، أو أجبرهم - سبحانه - على المعاصي. فكيف يجبر أحداً على ذنب، وليس ربنا بظلام للعبيد؟ وكما جاء في حديث شريف مأثور عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (الامام الصادق عليه السلام) يقول: شاء (الله) وأراد ولم يحب ولم يرضَ؛ شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه، وأراد مثل ذلك، ولم يحب أن يقال له: ثالث ثلاثة، ولم يرضَ لعباده الكفر. ([4]) ولعل خاتمة الآية تشير الى أن تهرب الإنسان من المسؤولية باختلاق الوساوس والظنون، إنه مما يعلمه الله، لأنه عليم بذات الصدور. فلا تنفعه تلك الظنون، لأن داعيه الى اختلاقها معروف عنده وعند الله سبحانه.3/ الحتميات التي آمنت بها فلسفات بشرية شتى، هي الأخرى من تلك المعاذير التي أفك بهـا الانسان. كلا؛ إن للإنسان القدرة الكافيــة التي يحملــه الله المسؤولية بقدرها، وهو القائـــل سبحانه: «لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ» (البقرة/286) فالكفار زعموا أنهم ذرية قوم فاتبعوهم فأضلوهم عن الهدى. وهكذا برّروا ضلالهم بانحراف آباءهم، فقال الله سبحانه لهم: «وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » (الاعراف/172-173) 4/ وهكذا لا يبرر ضلال الآباء ضلالة الأبناء، ولا فسادهم فساد ذريتهم، بل لكل حسابه عند ربه. قال ربنا سبحانه: «تِلْكَ اُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ » (البقرة/134 ) 5/ وكذلك الحتمية الاجتماعية؛ فإذا كان الناس منحرفين، فإنه لا يبرر لك الحشر فيهم والانحراف معهم، لأنهم سوف يحشرون الى النار. فهل تطيب النار لك لأنهم فيها؟ كلاّ؛ إن لكل فريق حسابه الخاص به. قال الله سبحانه: «قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ » (البقرة/139) 6/ وكذلك ضلال ذوي القربى لا يعذر ضلالة أحد، لأنه لا أحد منهم يحمل عنك وزرك يوم القيامة. قال الله تعالى: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَـرُورُ » (لقمان/33) 7/ وهكذا لا يحمل أحد وزر أحد، حتى ولو كان من ذوي قرباه، لأن لكل نفس وزرها الذي يكفيه. قال الله سبحانه: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ اِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى اِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْن َرَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَاِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَاِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» (فاطر/18) 8/ الدنيا دار الأنساب، بينما لا أنساب في الآخرة. فلا تقس بها الآخرة وتنتظر من أقاربك، أو أصدقاءك، أو أهل ناديك حمل أوزارك.وقد قال الله سبحانه: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» (العنكبوت/12) 9/ وهكذا ينهار نظام التبرير واختراع المعاذير، إذا عرف الإنسان إن نظام الخليقة قائم على الحق، وليس على التمني. فبمجرد أن يحلم المجرم بالخلاص من العقاب، لأنه من قوم معين ( مثل أن يكون من بني اسرائيل) أو لأنه قدم خدمة معينة (كبناء مسجد أو سقاية الحاج) لا يغير من سنة الجزاء شيئاً، إنما السعي هو قاعدة الجزاء. قال الله سبحانه: «أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الأَخِرَةُ وَالأُولَى * وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى» (النجم/ 24-26) في هذه الآيات نعرف أن الحق وليس التمني هو قاعدة الجزاء، وإن الشفاعة لا تنفع إلاّ لمن أذن الله وشاء ورضي.10/ وقال الله سبحانه: «وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَآءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (النجم/31) وهكذا يذكرنا القرآن أن ملكوت الله سبحانه وتعالى، التي وسعت السموات والأرض، (ملكوت عدل وحق) ولذلك فانه يجزي المسيء بما عمل، والمحسن بالحسنى.11/ وقال الله تعالى : «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى » (النجم/36-41) وهكذا كانت شرائع الله جميعاً تؤكد على سنة المسؤولية، التي تعني ألاّ تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . فالسعي وليس التمني، والسعي وليست شفاعة أحد من دون الله، والسعي وليس الظن، هو قاعدة الجزاء. وهذه هي حقيقة المسؤولية.12/ والمسؤولية الانسانية لا تخص مساعيه، وإنما تشمل فكره. فالإنسان مسؤول عن ضلاله أو هداه. فمن إهتدى (بالبحث عن الحق ثم الايمان به والتسليم لـه) فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. قال الله سبحانه: «مَّنِ اهْتَدَى فإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (الاسراء/15) وقد بيَّنت الأحاديث سنة المسؤولية، حيث جاء في حديث شريف عن الاعمش، عن جعفر بن محمد (الإمام الصادق) عليه السلام، قال فيما وصف لي من شرائع الدين: إن الله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها، ولا يكلفها فوق طاقتها، وأفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لاخلق تكوين ، والله خالق كل شىء ولايقول بالجبر ولا بالتفويض، ولا يأخذ الله عزّ وجلّ البرىء بالسقيم، ولا يعذب الله عزّ وجلّ الأطفال بذنوب الآباء، فانه قال في محكم كتابه: «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» وقال الله عزّ وجلّ : «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى» ولله عزّ وجلّ أن يعفو ويتفضل، وليس له أن يظلم . ([5]) وجاء في حديث مأثور آخر، عن الهروي قال : سمعت أبا الحسن (الإمام الرضا) علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام يقول: من قال بالجبر فلا تعطوه من الزكاة، ولا تقبلوا له شهادة. إن الله تبارك وتعالى لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها، ولا تكسب كل نفس إلاّ عليها ، ولاتزر وازرة وزر اخرى. ([6]) وروي في حديث آخر عن الفضل، عن الإمام الرضا عليه السلام فيما كتب للمأمون من محض الاسلام : إن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، وإن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى خلق تقدير لا خلق تكوين، والله خالق كل شىء ولا نقول بالجبر والتفويض، ولا يأخذ الله البرىء بالسقيم، ولا يعذّب الله تعالى الأطفال بذنوب الآباء، ولاتزر وازرة وزر اخرى، وأن ليس للانسان إلاّ ما سعى. ([7])
فقـه الآيـات
لأن قيمة المسؤولية تتصل بكلمة الأمانة التي احتملها الانسان بعد أن رفضت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فإنها تشكل قاعدة سائر التشريعات الإلهية التي لا يسعها هذا البحث. ولهذا فنحن نوجز القول فيما يلي، ونذكر بايجاز شديد طائفة من الفروع الفقهية التي تتصل بقيمة المسؤولية.
ألف/ آفاق المسؤولية
عندما يؤمن الإنسان بأنه وحده المسؤول عن نفسه، فإنه يكتشف قيمته الحقيقية، ويمتلئ حيوية ويفيض نشاطاً، ويشرع بصياغة جوهرة وجوده بيده، ويجدد حياته وفق بصائر ومتغيرات الظروف المحيطة به، ومقتضيات أهدافه التي يكتشفها بعقله. فتراه - يومئذ- يتحدى الأغلال التي عليه.أولاً: يتحدى الطبيعة، لأنها ليست قدراً عليه مقدوراً. فالفقر والضعف والمرض والتخلف والبرد والحرّ والجفاف والسيول والزلازل والعواصف و.. و.. كلّها قابلة للتطويع ومسخرة للارادة، لأنها لا تزر وازرته، وإنما هو وحده يحمل حمله ويزر وازرته. وهذه بداية إنطلاقة كل حضارة.ومن هنا جاء في الحديث عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "من وجد ماءً وتراباً ثم افتقر فأبعده الله." ([8]) وجـاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "نعم العون على تقوى الله الغنــى". ([9]) وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله: "الفقر سواد الوجه في الدارين". ([10]) وقد ذكرتنا الآية الكريمة بكل هذه الأبعاد وزيادة، حيث قال ربنا سبحانه: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا» (الاسراء/7) فإنها تشمل الحياة الحسنة التي يكتسبها الصالحون باحسانهم، والحياة السيئة التي تلحق بالفاسدين جزاء إساءتهم.ثانياً: ولأنه يشعر بالمسؤولية، فإن قدره لا يكتبه السابقون من آبائه وأسلافه. كلاّ؛ أوليست تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، فلماذا الاسترسال مع الماضي الذي قد لا يكون خيراً كله، وقد يكون تغييره ضرورة حياتية..؟ ولا يجوز تبرير بقاءه على الفساد بأنه كان من التراث أو من فعل الأولين. فقد روي عن معمر بن خلاد قال: فإنَّ أبا الحسن عليه السلام اشترى داراً وأمر مولى له يتحول إليها، وقال: إنّ منـزلك ضيق، فقال: أجزأت هذه الدار لأبي. فقال أبو الحسن عليه السلام: إن كان أبوك أحمق، ينبغي أن تكون مثله؟! ([11]) وآيات القرآن الكريم ذكرتنا بالكثير من البصائر في قبح تقليد الآباء إن لم ينتفعوا في حياتهم بعقولهم أو بهدى ربهم. قال الله تعالى: «وإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ اَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَيَهْتَدُونَ » (البقرة/170).ثالثاً: السلطة ليست قدراً على الإنسان مقدوراً، ولا يمكن أن يحمل الإنسان وزر واقعه السيء عليها، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى. ولو تبصّر الناس هذه الحقيقة لتحدوا السلطات الفاسدة، وفكّوا عن أنفسهم الأغلال التي يضعها المستكبرون عليهم، وتحرروا من إصر تقديسهم وهيبتهم وخشيتهم، ولما استرسلوا مع مفاسدهم قائلين إنا لكم تبع.كلاً؛ ليس إتباعك لهم عذراً كافياً لك أمام الله ، ولن ينفعك هذا التبرير يوم القيامة، وإنك لمسؤول يومئذ عن أعمالك التي إتبعت فيها الكبراء والقيادات غير الشرعية. وقد قص علينا ربنا سبحانه في كتابه المجيد كيف حاول التابعون إلقاء المسؤولية على المتبوعين، فتبرء هؤلاء منهم. قال الله تعالى: « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوْا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ اَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم ْبِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ» (البقرة/ 166-167) وقال الله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» (العنكبوت/12( من هنا فإن واجب الإنسان الاحساس بالاستقلال التام عن الحالة السياسية الحاكمة على مجتمعه، وعدم إلقاء مسؤولية قراراته ومواقفه وأفعاله عليها.. بل يحتمل مسؤوليته بنفسه مستبصراً بهدى العقل والوحي. وهذه هي روح التحدي ضد الظلم والاستكبار والتبعية.رابعاً: كثيراً ما يلقي الناس مسؤولية أفعالهم على المجتمع والتيارات السائدة فيه، فيقول أنا مع الناس. ولكن الله سبحانه لا يعذر الناس باتباع مجتمعهم، بل يأمر المؤمنين بتحدي قومهم إن هم ضلوا السبيل. ويضرب المثل من النبي إبراهيم عليه السلام والذين معه، حينما تبرأوا من قومهم، مبيناً انه حتى الأرحام الأقربين لن يغنوا عنهم من الله شيئاً. قال الله سبحانه: « لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (الممتحنة/3-4) وهكذا وجب على الإنسان أن يستقيم على الصراط المستقيم؛ فإن حاد الناس عنه بقدر، حاد عنهم بذلك القدر، لأنه لا يحمل أحد منهم وزره يوم الحساب. وهذه البصيرة لو نفذت في فؤاد الإنسان إستقل في رؤاه ومواقفه وأعماله، وكان سبيله الى التكامل.خامساً: إنسانية الإنسان رهن تحمله المسؤولية، لأن من أحسّ بأنه إنسان مسؤول، يفكر بحرية، ويقرر بحرية، ويثير دفائن عقله وحوافز ضميره وعواطف قلبه، فينطلق في تطوير حياته.. بينما إذا دست نفس البشر في ركام الحتميات باختلاف ألوانها؛ طبيعية وتاريخية وسياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية وغيرها، فإنه يقبر فيها حتى ولو مشى بين الناس ظاهراً . إنه مجرد دمية، مجرد ريشة، مجرد هباء؛ إنه لا شيء، لأنه لا قرار له ولا حرية ولا ذاتية.من هنا فإن معطيات قيمة المسؤولية كبيرة، وإنما أوجزنا الحديث عنها لأنها مبحوثه مفصلة في مواضعها المناسبة.
باء / أحكام المسؤولية
نستلهم من جملة الآيات الكريمة طائفة من الأحكام الفقهية الفرعية، التي نستفيدها أيضاً من نصوص أخرى. فنحن نفصل فيها القول إن شاء الله في مواقعها، وإنما نشير إليها هنا لتكتمل أطراف البحث عن هذه القيمة الأساسية وما يفيض عنها من معارف هامة.أولاً: لأن الإنسان يأتي ربه غداً فرداً ليسأل عما آمن به، هل كان على هدى أم في ضلال بعيد؟ فإن عليه أن يختار طريقه بنفسه دون تقليد الآباء، وأن يبحث عن الحق يأخذه أنى وجده، وكيف وجده، موافقاً لسنة السابقين أم مخالفاً.ومن هنا فقد أكد كثير من فقهاء الاسلام على حرمة التقليد في العقائد الدينية، وضرورة البحث الشخصي فيها. وهكذا نجد العلامة الفقيه الطباطبائي اليزدي يقول في كتاب العروة: محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، فلا يجري في أصول الدين. ([12]) ويقول المرجع الحكيم في شرحـه على هذه المسألة: إجماعاً ادعاه جماعة، بل ادعــى إجمــاع المسلمين عليه. ([13]) واستدل عليه بما يرجع الى أن العقل يهدي الى وجوب دفع الضرر الذي قد يترتب على الجهل بالله ورسله، ولا يمكن أن يدفع ذلك بالتقليد. ([14]) وقال المرجع الشيرازي: ويدل على وجوب النظر (وعدم جواز التقليد في أصول الدين) من الاجماع ما ادعاه العلامة (الحلي رحمه الله) في الباب الحادي عشر بقوله: أجمع العلماء كافة على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصح عليه وما يمتنع عنه، والنبوة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد. ([15]) واستدل المرجع الشيرازي بأدلة عقلية وبآيات قرآنية (كالتي تلوناها آنفاً) وبنصوص من الحديث الشريف.ولا ريب إن الإجماع في هذا الأمر العقلي دليل ضعيف، أما النصوص فإن قيمتها موضوعية، لأنها تثير عقل الانسان وتوقضه من سباته، على أنها ذات قيمة ذاتية لمن آمن بالله وكتابه ورسوله، لانها تدله على ضرورة التفكر في سائر الأصول العقائدية.ولكن حرمة التقليد في أصول الدين إن ثبتت، لا تتنافى وضرورة السؤال من أهل الذكر في الحقائق العلمية. ولكن تتنافي مع القبول بها بلا تفكر ولا يقين.ثانياً: على الإنسان أن يقيم الثقافة الموروثة ليعرف أولاً؛ ماهو الحق منها وماهو الباطل، وليعرف ثانياً؛ ماهي النافعة منها حسب تطورات العصر، ومعيار التقييم العقل والوحي.وقد تحدثنا في الجزء الثاني من هذه الموسوعة عن: ماذا ينبغي أن يبقى من الثقافة، وماذا ينبغي أن يتغير، وكيف ينبغي أن نقيّمها وعلى أية مقاييس.ثالثاً: المجتمع يضخ تياراً من الثقافة باتجاه فكر الإنسان. وبمجرد أن يغفل الفرد، فإن هذا التيار الزاخر يملاء أروقة فؤاده. وإنما بالانتباه الدائم والتقييم المستمر والتفكر القائم على أسس عقلية واضحة، يستطيع كل فرد أن يميّز بين الصائب والخاطئ من هذا التيار..وكما المجتمع الكبير المحيط بنا، كذلك التجمعات الطبيعية (العشيرة والبلد)، والسياسية (الحزب والنقاية).. إنها هي الأخرى توجه سيلاً من الأفكار تلقاء أفئدة أفراده. ومن دون التقييم الجدي من قبلهم، فانهم ينسابون فيها، وقد يضلون السبيل ضلالاً بعيداً.وهكذا ينبغي أن تكون علاقة الإنسان مع محيطه وبيئته، علاقة حذرة قائمة على أساس الاستماع الناقد، الذي يقول عنه سبحانه : «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» (الزمر/ 17-18) الوحي الذي يتجلى في هدى الله، والعقل الذي هو هبة الله لأولي الألباب، إنهما معيارا تقييم عباد الله في إستماعهم للقول إستماعاً جيداً، ووعيهم للأحسن ثم إتباعه. وأول شرط هذا المستوى من الوعي إجتناب الطاغوت، والذي يتمثل في تحدي ثقافته وسلطته، وتجاوز هيبته وخشيته، والاستقلال الثقافي عن مصادر توجيهه. إن إجتناب الطاغوت هو التجلي الأمثل للمسؤولية، ومظهر الطاغوت هو السلطان الظالم، أما مخبره فهو مجتمع فاسد وثقافة سلطوية فاسدة.ومن هنا فقد جاء في الحديث الشريف: عن الفضل، عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام قال: قال لي: أبلغ خيراً وقل خيراً، ولا تكونن إمّعة. قال: وما الإمّعة؟ قال: لا تقولن أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس. ([16]) وجاء في حديث آخر عن النبي عيسى عليه السلام: كونوا نقاد الكلام. ([17]) رابعاً: هناك بعض الأحكام الفقهية الأخرى التي تتصل بالمسؤولية الفردية، نذكر فيما يلي نماذج منها:أ- يحرم في الإسلام العقاب الجمعي، سواءً في الحرب أو في السلم. فلا يجوز إستخدام أسلحة الدمار الشامل إلاّ في ظروف إستثنائية، وقد فصلنا القول في ذلك في كتاب الجهاد في الجزء السابع؛ كما يحرم قتل الصبيان والمجانين في الحرب.ب- إذا إجتمع السبب والمباشر، وكان المباشر ذا مسؤولية، فإنه يكون المسؤول الأول. مثلاً إذا حفر أحدهم بئراً، ثم دفع الآخر الثالث فيها فمات، فإن المسؤول هو الدافع.ج- وكذلك لا يقتص من المرأة الحامل إذا كانت جانية، حتى ولو تجدد حملها بعد الجناية. وحتى بعد الولادة، فإن هناك قولاً بضرورة الصبر حتى يستقل الولد قبل القصاص منها . قال المحقق الحلي في الشرائع: وهل يجب على الولي الصبر حتى يستقل الولد بالاغتذاء؟ قيل: نعم دفعاً لمشقة إختلاف اللبن. والوجه تسليط الولي إن كان للولد ما يعيش به من غير لبن الأم، والتأخير إن لم يكن. ([18]) وهكذا نجد إن المسؤولية الذاتية تحمل صاحبها نتائح أفعاله، وتجنب الآخرين تلك المسؤولية، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، والله المستعان.
الملكية
حين خلق ربنا الإنسان، خلقه في أحسن تقويم، وأسجد ملائكته أجمعين لآدم أبي البشر عليه السلام. فلما أبى إبليس أن يكون مع الساجدين، لعنه وأبعده. ولقد كرّم بني آدم حين سخّر لـهم ما في الأرض، وحملهم في البرّ والبحر، وحين رزقهم من الطيبات. ولعل هذه الكرامة الإنسانية هي القيمة المثلى التي فاضت منها قيم أخرى؛ مثل تسخير الطبيعة للإنسان، وتخويله صلاحية التصرف فيها، وتمليكه الأموال، ورزقه من الطيبات، والإنعام عليه بالذرية، وتحميله المسؤولية بعد منحه وسائلها وشروطها من القدرة والحرية، وأمره بأن يستعمرها ويمشي في مناكبها ويأكل من رزق الله فيها. وفي إطار هذه الرؤية الشاملة الى دور البشر في الأرض، نعرف الملكية الفردية والجماعية وهدفها وحدودها وأنظمتها.1/ لقد كرّم الله سبحانه بني آدم (بعد أن كرّم أباهم آدم عليه السلام، وأسجد ملائكته لـه، وأسكنه الجنة). وكان من تجليات كرامة الله للبشر:ألف: أنه حملهم في البرّ حين سخّر لهم الدواب (كما ألان لهم الحديد، وسخّر النار لهم، ومنحهم العلم والقدرة لصناعة وسائل النقل)، وحملهم في البحر (حين علّمهم كيف يصنعون السفن ويستخدمونها لأسفارهم).باء: ومن تجليات كرامة الله للناس؛ أن رزقهم من الطيبات، فهم مخوّلون للانتفاع من النباتات ولحوم مختلف الحيوانات بقدر حاجتهم.جيم: ومن تجليات كرامة الله لبني آدم؛ أنه فضّلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً. (فهداهم الى الصراط المستقيم، وجعل تساميهم وتكاملهم في التمسك به، لكي يصبحوا أسمى حتى من الملائكة). قال الله سبحانه: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » (الاسراء/70( 2/ وهكذا كانت الأنعام مسخرة من عند الله للانسان، كما الفلك في البحر. قال الله سبحانه: «وَالَّذِي خَلَقَ الاَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالاَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ» (الزخرف/12) 3/ وهذا التسخير شمل البحر، فترى البشر يصنع بفضل نعم العلم والقدرة والمشيئة التي وفّرها الله لـه، يصنع السفن التي تمخر عبابها؛ سواءً منها سفن الصيد والغوص واستخراج المعادن، أو سفن النقل والتجارة. قال الله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (النحل/14) 4/ وهذا التسخير ليس بلا حدود، ومن دون أية قيود، إنما هو تخويل للصلاحية في حدود معينة ولأهداف محددة وإلى أجل مسمى. قال الله سبحانه: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآؤُاْ لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ» (الانعام/94) وهكذا يمنح تسخير الطبيعة للإنسان صلاحية الانتفاع بها، لغايات بيّنها لـه ربنا سبحانه عبر الوحي والعقل. وقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام قوله (في معنى التمليك) ما يؤيد هذا المعنى في التخويل، قال عليه السلام: إنا لا نملك مع الله شيئا، ولا نملك إلاّ ما ملكنا. فمتى ملكنا ما هو أملك به منّا كلفنا، ومتى ما أخذه منا وضع تكليفه عنا. ([19]) 5/ وهدف التخويل الفتنة، حيث إن الله يبتلي البشر بما آتاهم من نعمه. قال الله سبحانـه: «فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ » (الزمر/49) 6/ وقد بيّن الله عدّة أهداف لتسخير البحر للبشر؛ إستخراج الرزق منه، والزينة، وهكذا التجارة عبره. قال الله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (النحل/14) 7/ والعلم الذي وفره الله للبشر، سخّر لـه به ما في السماوات والأرض. قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ» (لقمان/20) 8/ والتمليك تم في حدود التخويل والتسخير، وضمن أهدافهما السامية. قال ربنا سبحانه: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ » (يس/71) وهكذا تجد الملكية (ولعل معناها هنا التسلط والهيمنة) من نعم الله على البشر. فالملكية هنا هي نتيجة التسخير. فلأن الله سخر للإنسان ما في السماوات والأرض، لذلك كان قادراً عليهما بما أقدره الله عليه منهما.9/ ولا يجوز أن يتخذ الإنسان إمتلاكه ناصية السلطة أو المال وقدرته على تسخير الطبيعة، وسيلة الاستكبار على الناس، كما فعل فرعون؛ لأن الملك لله، وإنما هو مخوّل بالتصرف فيه حسب فترة محدودة، ولهدف محدد. ومن هنا فقد أخطأ فرعون إذ قال ما حكى الله عنه بقوله سبحانه:« وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ» (الزخرف/51) 10/ ولا يجوز أن يحسد أحد غيره على ما أتاه الله من الملك، لأن الملك لله يورثه من يشاء من عباده. قال الله سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً» (النساء/54) 11/ ومن مفردات الملكية (والقدرة على الطبيعة)؛ قيمة المال، (ذلك لأن المال هو نتيجة الملكية). وللمال حكمته التي لو تجاوزها لأصبح وبالاً على صاحبه، وفساداً في المجتمع عريضاً. وقد بيّن ربنا بعض هذه الحكمة عبر قصة قارون، الذي أوتي مالاً فلم يحسن التصرف فيه، وخسف الله به وبداره الأرض.وأول ما ذكّر به الرب عند بيان المال وكيف نتعامل معه، أن تجنب الفرح به. فقال الله تعالى: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اُوْلِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ » (القصص/76) ولعل الفرح بالمال هو الاغترار به، وجعله قيمة سامية في حياة الفرد، وتقييم كل شيء على أساسه.وبناءاً على ذلك، لا ينبغي أن يصبح المال إلهاً يعبد من دون الله، فإذا عبده الإنسان أنساه الله نفسه وأنساه قيمه السامية وأهدافه المعنوية.12/ وقد وصّى الله سبحانه الإنسان بابتغاء مرضاته بالمال ودفع حقوق الناس المفروضة فيه.ووصّى سبحانه بالانتفاع بالمال لما يصلح حياته، من الطعام الزكي منه بلا سرف، والزينة بلا إستكبار أو تبذير.وكذلك وصّى سبحانه بالإحسان الى الناس.وأيضاً أمر الله سبحانه الإنسان بتجنب الفساد به، كما فعل فرعون إذ اتخذ المال وسيلة الاستكبار، أو كما فعل قارون إذ خرج في زينته وجعل المال وسيلة للتضليل. قال الله سبحانه: «وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » (القصص/77) 13/ وقد حذّر الله المؤمنين من أن يلتهوا بأموالهم عن ذكر الله. قال الله سبحانه: « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لآ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ » (المنافقون/9) 14/ بينما جعل مشكاة نوره في قلوب الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فقال الله سبحانه: « رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَبْصَارُ » (النور/37) 15/ بـل المؤمنون يذكرون الله كلّما تنعّموا بما أسبغ عليهم من آلائه، فيشكرونه بأفئدتهم وألسنتهم وأيديهم، حيث يؤدون حق النعمة، ويعملون شكراً. قال الله سبحانه : «لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ » (الزخرف/13) 16/ وقال الله سبحانه: « يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ » (سبأ/13) والحقيقة إن الهدف الأسمى للمال والملك ولسائر نعم الله على الإنسان، هو عبادة الله، والتقرب إليه بالذكر والشكر.17/ وينبغي أن يخدم المال الصلاح والاصلاح في المجتمع، لأن الله سبحانه جعل المال للناس قياماً. إذ قال الله تعالى: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » (النساء/5) ونستوحي من الآية؛ إن حكمة قيام المجتمع بالمال ونظم حياته الاقتصاديـة، هي وراء حجـــر السفهاء عن إستخدام أموالهم، لأنهم قد يفسدون إقتصاد المجتمع. بلى؛ إن لهم الحق في الرزق والكسوة من أموالهم، أو فيها باستثمارها لهم.ولعل هذه الحكمة التي أشار إليها الرب في قوله سبحانه، في سورة القصص، في قصة قارون «وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ»؛ لعلها هي التي تسمح للدولة الاسلامية إجبار المحتكرين على بيع بضائعهم.18/ ولكي يقوم المجتمع بالمال، ويصبح المال وسيلة نظم الاقتصاد، وإقامة القسط، وتنشيط الناس وتشجيعهم على العمل الصالح، وإستعمار الأرض وإصلاحها.. لكل ذلك يحرم أكل الناس بالباطل، حيث قال الله سبحانه: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (البقرة/188) 19/ ومن الباطل الربا، حيث يقول ربنا سبحانه: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً » (النساء/161) 20/ ومن الباطل أكل أموال الناس بالتطفيف في المكيال والميزان، حيث قال الله سبحانـه: « وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسـِرُونَ » (المطففين/1-3) 21/ ومن الباطل أكل أموال الناس بالتحاكم الى الطاغوت، أو الإدلاء الى الحكام، كما قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً » (النساء/60) 22/ وقال الله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (البقرة/188) 23/ ومن الباطل أكل أموال الناس باسم الدين، كما قال الله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الاَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ » (التوبة/34) ولعل من ذلك صكوك الغفران، التي كان يرتزق بها الأحبار والرهبان.24/ ومن الباطل السحت، الذي قال عنه الله سبحانه: «لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ اِلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (المائدة/63) ومن أكل السحت -حسب الأحاديث- ثمن البغي والرشوة، وثمن كل فعل حرام أو شيء حرام.25/ ومن الأمور التي تحقق الحكمة من المال (المتمثلة في كونه وسيلة إصلاح وقيام) هو الاقتصاد في صرفه. قال الله سبحانه: « وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً » (الفرقان/67) 26/ ومن تلك الحدود حرمة الاسراف. قال الله سبحانه: «يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ » (الاعراف/31) 27/ ومنها حرمة التبذير. قال الله تعالى: « إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً » (الاسراء/27) 28/ ومنها الانتفاع بالمال، وعدم التقشف الى حد الحرمان؛ ومنها إيتاء حق المال. قال الله تعالى: « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً اُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الانعام/141) 29/ ومنها إيتاء حقوق الله من الزكاة والخمس، وصلة الأرحام، والانفاق على المحتاجين، وما أشبه. إذ قال سبحانه في صفة المتقين: «الَّذِينَ ُيؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ » (البقرة/3) 30/ ولعل القيمة المثلى والكلمة العليا التي تجمع سائر حكم المال، هي القسط، والذي يعني إيتاء الناس جميعاً حقوقهم بالكامل. والقسط روح الشرائع الالهية، وغايتها السامية. قال الله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » (الحديد/25) 31/ وقال الله تعالى: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإِن تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً » (النساء/135) فالمال أداة إقامة القسط وأداء الحقوق، وهذه حكمته التي لو تجاوزها ردّ إليها.
فقـه الآيـات
إذا كانت حكمة القسط هي الهدف الأمثل من المال والملكية، فإن القيام (وتنظيم الحياة الاجتماعية على أساس القسط) جانب من تلك الحكمة العامة. فلو خالفت الملكية إقامة القسط وصلاح المجتمع، وأصبحت أداة بغي وإستكبار، ووسيلة نشر الفساد، فإنها تحدد.ولذلك جاء في الحديث النبوي الشريف، إنه "لا ضرر ولا ضرار".([20]) ولأن الضرر الناشئ من الملكية (مثل ملكية ذلك الرجل لنخلة في بيت الأنصاري) يخالف حكمة الملكية، جاز للأنصاري أن يقطع نخلة ذلك الرجل وأن يرمي بها وجهه. وقد إستفاد الفقهاء فروعاً كثيرة من هذا الحديث الشريف، وترجع تلك الفروع عند التدبر فيها الى تحكيم كلمة القسط في القضايا المالية. فاذا أضر إستخدام شخص لحق من حقوق الملكية بالآخرين حددت ملكيته.والأمثلة الفقهية الكثيرة لتحديد الملكية أو إنتزاعها، يمكن أن تفهم في إطار هذه الحكمة العليا (القسط)، والذي به صلاح الناس. فتصبح رؤيتنا لهذه الحكمة أجلى وأصفى، فنستطيع أن نفرع عليها فروعاً جديدة في المسائل المستحدثة. والذي يجمع حكمة المال وفروعاً كثيرة من أحكامه، الحديث الشريف الذي يعتبر من المحكمات، التي لابد أن نرجع إليها سائر الفروع المتشابهة. والحديث يوضح أبعاد حكمة المال (الملكية)، وهي تحقيق قوام المجتمع وصلاحه، وتجنب ما ينتهي إليه فساده.روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه سئل عن معائش العباد، فقال: جميع المعائش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات، ويكون منها حلال من جهة، حرام من جهة. فأول هذه الجهات الأربعة؛ الولاية، ثم التجارة، ثم الصناعات تكون حلالاً من جهة حراماً من جهة، ثم الاجارات. والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال، والعمل بذلك الحلال منها، وإجتناب جهات الحرام منها. فاحدى الجهتين من الولاية؛ ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم على الناس، والجهة الأخرى ولاية ولاة الجور. فوجه الحلال من الولاية، ولاية الوالي العادل، وولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان. فالولاية لـه والعمل معه ومعونته وتقويته حلال محلّل. وأما وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته. فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرّم، معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن كل شيء من جهة المؤنة لـه معصية كبيرة من الكبائر. وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلاّ بجهة الضرورة نظير الضرورة الى الدم والميتة. وأمّا تفسير التجارات في جميع البيوع ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبايع أن يبيع مما لا يجوز له، وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز لـه. فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد، وقوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها، وكل شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه وإستعماله وهبته وعاريته. وأما وجوه الحرام من البيع والشراء فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير أو جلودها أو الخمر أو شيء من وجوه النجس. فهذا كلّه حرام ومحرّم، لأن ذلك كلّه منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه، فجميع تقلّبه في ذلك حرام. وكذلك كل بيع ملهوّ به، وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير الله أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحق، فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه، إلاّ في حال تدعو لضرورة فيه الى ذلك. وأما تفسير الاجارات؛ فاجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره (إلى أن قال: ) وأما تفسير الصناعات فكلّما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من أصناف الصناعات مثل الكتابة والحساب والتجارة والصياغة والسراجة والبناء والحياكة والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير مالم يكن مثل الروحاني وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد، منها منافعهم، وبها قوامهم، وفيها بلغة جميع حوائجهم، فحلال فعله وتعليمه والعمل به وفيه لنفسه أو لغيره، وإن كانت تلك الصناعة وتلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد ووجوه المعاصي، وتكون معونة على الحق والباطل، فلا بأس بصناعته وتعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد تقوية ومعونة لولاة الجور، كذلك السكّين والسّيف والرمح والقوس وغير ذلك من وجوه الآلة التي تصرف الى جهات الصّلاح وجهات الفساد، وتكون آلة ومعونة عليهما، فلا بأس بتعليمه وتعلّمه وأخد الأجر عليه والعمل به وفيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، ومحرّم عليهم فيه تصريفه الى جهات الفساد والمضارّ. فليس على العالم والمتعلّم إثم ولا وزر لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم وقوامهم وبقائهم، وإنما الإثم والوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد والحرام. وذلك إنما حرم الله الصناعة التي هي حرام كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ ملهو به، والصلبان والأصنام وما أشبه من ذلك من صناعات الأشربة الحرام. وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصّلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجر عليه، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها، إلاّ أن تكون صناعة قد تتصرّف الى جهات الصنايع، وإن كان قد يتصرّف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّة ما فيه من الصلاح حلّ تعلّمه وتعليمه والعمل به، ويحرم على من صرفه الى غير وجه الحق والصلاح. فهذا تفسير بيان وجه إكتساب معائش العباد وتعليمهم في جميع وجوه إكتسابهم. (إلى أن قال:) وأمّا ما يجوز من الملك والخدمة فستّة وجوه؛ ملك الغنيمة، وملك الشراء، وملك الميراث، وملك الهبة، وملك العارية، وملك الأجر. فهذه وجوه ما يحلّ وما يجوز للإنسان إنفاق ماله وإخراجه بجهة الحلال في وجوهه، وما يجوز فيه التصرف والتقلّب من وجوه الفريضة والنافلة. ([21]) ومن هنا فقد أفتى الفقهاء - عليهم الرحمة- بحرمة التكسب بالأمور التالية: ([22]) فالمحرم منه (ما يكتسب به) أنواع:الأول: الأعيان النجسة كالخمرة، والأنبذة والفقاع، وكل مائع نجس عدا الأدهان، لفائدة الإستصباح به تحت السماء، والميتة والدم وأرواث وأبوال ما لا يؤكل لحمه. ثم قال:الثاني: ما يحرم لتحريم ما قصد به، كـ : آلات اللهو، مثل العود والزمر، وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم، وآلات القمار كالنرد والشطرنج، وما يفضي الى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين، وإجارة المساكن والسفن للمحرمات، وكبيع العنب ليعمل خمراً، وبيع الخشب ليعمل صنماً. ثم قال:الثالث: ما لا ينتفع به كالمسوخ؛ برية كانت كالقرد والدب، وفي الفيل تردد. ثم قال: وقيل يجوز بيع السباع كلها، تبعاً للانتفاع بجلدها أو ريشها، وهو الأشبه.الرابع: ماهو محرّم في نفسه، كعمل الصور المجسّمة والغناء ومعونة الظالمين بما يحرم. ([23]) وهكذا نجد إن الشريعة قد وسعت مفهوم الباطل، الذي يحرم أكل الناس به. فليس الباطل مجرد سرقة المال أو إنتهابه، بل وأيضاً كل ما يؤدي الى فساد المجتمع بسبب المال (كأجرة ولاية الجائر أو بيع النجس أو غير النافع أو الضار أو الأجرة على حرام) فإنه باطل، لأن الحكمة من المال إصلاح المجتمع، فما خالف هذه الحكمة اعتبر باطلاً وحراماً. وقد أوضحت الرواية الآنفة الذكر هذه الحقيقة بجلاء، مما تجعلنا على ثقة كافية بهذه الحكمة، وعلى بصيرة من أبعادها. ومن أبعادها؛ تعاطي كل محرّم. فالتجارة بالمخدرات أو بما يخالف النظام الاقتصادي القائم إذا كان مشروعاً وعدلاً، فانه حرام. مثلاً تهريب البضائع أو تقليد ماركاتها أو غسل الأموال المحرّمة، أو ما أشبه فإنه من الباطل.ومن ذلك النظام الربوي الذي يفسد الاقتصاد، ومنه الاحتكار، ومنه الغش والتدليس والبيع الغرري، ومنه كل ما فيه ضرر على الفرد أو المجتمع.ويمكن للفقيه أن يستوحي من كل ذلك أحكام الملكية، التي تسبب فساداً سياسياً أو إجتماعياً. فإذا كانت الثروة بيد طائفة من الناس يستفيدون منها في العلو في الأرض (كما فعل فرعون)، أو إفساد أخلاق الناس (كما فعل قارون)، فإن على الناس الوقوف أمامهم بحزم. وقد منع القرآن الكريم تداول الثروة بيد طائفة خاصة من الناس، فقال الله سبحانه: «مَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر/7) وإذا عرفنا حكمة المال، وعرفنا سائر القيم العليا التي تحيط بحياة الإنسان، مثل إحترام البشر والاعتراف بحقوقه، ومنها الاعتراف بـجهده (مما يورث الملكية الفردية)، وحقه في الحياة الكريمة (مما يورث حق المجتمع في الملكية). إذا عرفنا ذلك، فإن علينا أن نستنبط أحكام الفروع المتشابهة من تلك القيم بعد دراسة عميقة للظروف، ولكيفية القيّم عليها. فلا يجوز أن نحكم على الاسلام حكماً مطلقاً بأنه يميل الى الرأسمالية (والمزيد من الاعتماد على الملكية الفردية)، أو الى الاشتراكية (والمزيد من الاهتمام بالحقوق الاجتماعية في الأموال وتنظيم الدولة لكثير من المرافق الاجتماعية).المهم هو أن يكون المال قواماً، ووسيلة صلاح البشر. وهذا لا يكون دائماً بصورة واحدة، بل يختلف حسب الظروف الزمانية والمكانية إختلافاً كبيراً.
تطبيقات خارجية لحكمة المال
ونحن في ختام حديثنا هذا نشير الى جملة فروع ذكرت في الأحاديث أو في الفقه، والتي تعتبر تطبيقات لحكمة المال، وهي مجرد أمثلة وإلاّ فإن الفقه (كما الأحاديث) يزخر بالمزيد من تلك التطبيقات.لقد حثّ الدين الاسلامي على النشاط والعمل، ونهى عن الضجر والكسل، ورغب في إكتساب المال. مما يهدينا الى أن حكمة المال تنشيط المجتمع، وإصلاح أمورهم.1/ إعتبر الدين ترك التجارة نوعاً من الهوان، ويسبب في ضعف العقل. فقد روي عن الفضل بن أبي قرة، أنه قال: سأل أبو عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام عن رجل وأنا حاضر، فقال: ما حبسه عن الحجّ؟ فقيل: ترك التجارة، وقل شيئه. قال: وكان متّكئاً فاستوى جالساً، ثم قال لهم: لا تدعوا التجارة فتهونوا، اتّجروا بارك الله لكم. ([24]) وقال الإمام الصادق عليه السلام: التجارة تزيد في العقل. ([25]) 2/ وندب الاسلام الى طلب الرزق، واعتبر الغنى عوناً على التقوى، ورغب في الأمل أبداً. فقد روي عن خالد بن نجيج، أنه قال: قال أبو عبد الله (الإمام الصادق عليه السلام) إقرأوا من لقيتم من أصحابكم السلام، وقولوا لهم: إن فلان بن فلان يقرأكم السلام، وقولوا لهم: عليكم بتقوى الله وما ينال به ما عند الله. إني والله ما آمركم إلاّ بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجدّ والاجتهاد، وإذا صلّيتم الصبح فانصرفتم فبكروا في طلب الرزق، واطلبوا الحلال، فإن الله سيرزقكم ويعينكم عليه. ([26]) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم العون على تقوى الله الغنى. ([27]) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فان موسى بن عمران خرج يقتبس ناراً لأهله فكلّمه الله ورجع نبياً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان، وخرجت سحرة فرعون يطلبون العزّ لفرعون فرجعوا مؤمنين. ([28]) 3/ وحذّرت التعاليم الدينية لائمة أهل البيت عليهم السلام من الكسل وكثرة النوم وإستساغة الفراغ وما أشبه، مما يمنع طلب الرزق، ويعطل دور الإنسان في الحياة، مما يخالف حكمة المال التي هي إقامة المجتمع وإصلاحه. فقد روي عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام، أنه قال: إنَّ الله عزّ وجلّ يبغض كثرة النوم، وكثرة الفراغ. ([29]) وعن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام قال: إني لأبغض الرجل أو أبغض للرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل. ([30]) وقال الإمام الصادق عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحلب عنز أهله. ([31]) 4/ ودعا أهل البيت عليهم السلام الى إصلاح المال وتقدير المعيشة، حيث إنهما يساهمان في صلاح المجتمع وقوامه. فقد روي عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام قال: إصلاح المال من الايمان. ([32]) وروى داود بن سرحان قال: رأيت أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام يكيل تمراً بيده، فقلت: جعلت فداك؛ لو أمرت بعض ولدك أو بعض مواليك فيكفيك. قال: يا داود؛ إنه لا يصلح المرء المسلم إلاّ ثلاثة: التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وحسن التقدير في المعيشة. ([33]) 5/ ومن ذلك ما ذكره المحقق الحلي في باب إحياء الموات من حكم الماء الفائض عن النهر المملوك فقال: (ما حكم) ما يفيضه النهر المملوك من الماء المباح؟ قال الشيخ (الطوسي) لا يملكه الحافر (المالك للنهر) ويعتبر هذا الفائض عند الشيخ كما إذا جرى السيل الى أرض مملوكة.ثم قال: فإن وسعهم أو تراضوا فيه، فلا بحث. وإن تعاسروا، قسّم بينهم على سعة الضياع. ولو قيل يقسم على قدر إنصبائهم من النهر، كان حسناً. ([34]) وهكذا نجد الشيخ الطوسي يرى تقسيم الماء على قدر الحاجة إليه، وليس على قدر النصيب، إعتماداً على حكمة الملكية. كما لا يرى لصاحب النهر ملكية للماء الفائض من نهره الذي حفره، لأن الماء الاضافي موهبة إلهية وليس يرتبط بالحافر.6/ والفقه الإسلامي فرض حق الشفعة، وهو حق الشريك في إمتلاك حصة شريكه إذا باعها من غيره. وهنا أيضاً تغلبت حكمة الملكية على حق المالك في أن يبيع حصته لأي شخص، حيث إن الشراكة مما تختلف فيها أنظار الناس، فلا يجوز فرضها على أحد الشريكين من دون إختياره. ([35]) 7/ وهناك رأي فقهي يرى تحديد تصرف المريض (بمرض الوفاة) في أمواله. فلا يجوز لـه أن يهب أو يحابي منها إلاّ بقدر الثلث الذي يجوز له الوصية به بعد وفاته، لتعلق حق الورثة بماله . وهنا أيضاً حددت صلاحية المالك نظراً الى حكمة الملكية، وهي قوام المجتمع.8/ وفي باب إحياء الموات، يتعلق حق من حدّد أرضاً بأحجار أو بسور أو ما أشبه، فيصبح أولى باحيائها من غيره. أمّا لو أهمل إحياءها، فإن الحاكم يجبره إمّا على إعمار الأرض أو رفع اليد عنها. ولو إمتنع أخرجها السلطان من يده، لئلا يعطلها. وهكذا تتغلب المصلحة العامة المتمثلة في إعمار الأرض على الحق الخاص.
الولاية الإلهية
إذا استوعب الايمان حياة المسلم، فاضت منه قيمة الولاية الإلهية، كما يفيض الماء الفرات من النبع الصافي . أوليست الولاية تعني القرب الذي يورث الأحقية بشؤون الفرد من أي شخص آخر، وربما من نفسه أيضاً ؟ ثم أليس الايمان يعني إنصهار الفرد في بوتقة القيم الربانية ، حتى يكون الحق (وليس الهوى أو المصلحة) هو الحاكم عليه ؟ وإذا كـانت الولاية الإلهية راسخة في وجدان المؤمن وكيانه، فإنها تورث رسوخ ولاية الرسل والأولياء والمؤمنين عنده، كل حسب درجته وبميزان قربه من رب العزة الذي هو محور الولاية -.وهكذا كانت كل ولاية شرعية نابعة من ولاية الله، وشعبة منها.
أولاً: معنى الولاية
الذي يقتل يطالب بدمه أقرب الناس إليه، فهو وليه؛ والذي يرث الإنسان بعد وفاته، إنه أيضاً وليه؛ والذي يتبع أحداً، فهو أولى الناس به .1/ المطالب بالثار أشد الناس حباً للمقتول ودفاعاً عنه كالأب والابن والاخوة ، فهؤلاء هم أوليــاء الفــرد وهم أقرب الناس إليه، ويتولون أموره، ( ومن هذا نعرف معنى الولاية ). قال الله سبحانه: « وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً » (الاسراء/33) 2/ والذي يـرث المتوفي هو وليه ( وهذا أيضاً يؤكد المعنى في الآية السابقة من الأقربية). قال الله سبحانه : «وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَاَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» (النساء/33) وهكذا تحددت الولاية عند الأقربين بالولادة؛ الأب والإبن، ثم الأقرب فالأقرب .3/ تلك كانت الولاية الفطرية ( الطبيعية ) وهناك الولاية الحضارية ( الروحية ) التي تتمثل في الاتباع. فأقرب الناس إليك، أقربهم الى منهاجك وأطوعهم لك وأشدهم إتباعاً. فأولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه، والنبي محمد صلى الله عليه وآله هو الأولى به، لأنه نبي مثله. والذين آمنوا أولى به، لأنهم اتبعوا ذات المنهج الذي كان عند النبي إبراهيم عليه السلام، ولأنهم جميعاً داخلون في حصن ولاية الله سبحانه. قال الله تعالى : «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » (آل عمران/68) 4/ وهكذا الاتباع هو ميزان الولاية ، وقد قال ربنا سبحانه عن قوم اتبعوا غير سبيل المؤمنين بأنهم ليسوا على ولايتهم للمؤمنين : «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً» (النساء/115)
ثانياً: الله المولى الحق
ولله الولاية الحق ، فإنه فاطر السماوات والأرض، وأن إليه مرد الناس جميعاً، وله الحكم يوم القيامة ، وهو الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين من عباده ، وهو الذي يخرج المؤمنين من الظلمات الى النور ، وهو نعم المولى ونعم النصير .1/ الولاية الحق إنما هي لمن يملك السماوات والأرض، ويحي ويميت (فبيده الملك والحياة جميعاً). قال الله سبحانه : «إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالاَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» (التوبة/116) 2/ الذي فطر السماوات والأرض هو الولي الحق، وهو رب الدنيا والآخرة ، ومدبر أمورهما. قال الله سبحانه (حكاية عن يوسف الصديق عليه السلام ): « فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» (يوسف/ 101) 3/ والله هو الذي فطر السماوات والأرض ، وهو الذي يرزق ، فكيف نتخذ ولياً من دونه؟ قال الله سبحانه : «قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي اُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (الانعام/14)