تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



4/ وهو ولي الآخرة، فأحرى أن يتخذ ولياً في الدنيا، ( لأن الآخرة هي الحيوان ). قال الله تعالى: «هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً» (الكهف/44) 5/ وقال ربنا سبحانه: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِـــهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الانعام/51) 6/ والله هو الذي يهدي الى الحق ، فهو الولي. ( أليس من يهدي أحق أن يتبع ممن لايهدي؟ والولاية الاتباع). قال ربنا سبحانه : «إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصَّالِحِينَ» (الاعراف/ 196) وهناك حكمة أخرى للولاية الإلهية، هي أن الله يتولى من يتخذه ولياً وهم الصالحون ، فهو نعم المولى .

7/ وهكذا يتولى الله المؤمنين. ( فهو الذي ينبغي أن يتخذه الإنسان ولياً ، أوَ ليس البشر يحس بالضعف وبالحاجة الى الولي ليقويه وينصره ؟ والله خير نصير، فهو خير مولى). قال الله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران/68) 8/ والله ينصر الذين يتخذونه ولياً. قال الله تعالى: « بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (آل عمران/150) 9/ وقال الله سبحانه : «ذَلِكَ بِاَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ» (محمد/11) 10/ ومن هنـا لا يخشى المؤمن أحداً من دون الله ، إذ يعتمد على مولاه الحق. قال الله سبحانه : «إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلآئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» (التحريم/4) 11/ ودعاء المؤمنين ربهم بالنصر يسبقه الثناء عليهم بأنه مولاهم. ( أليس المولى ينصرمن يتخذه ولياً؟). قال الله سبحانه : «أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» (البقرة/ 286) 12/ وهكذا يعيش المؤمنون سكينة كافية، ويعلمون أنه لا يصيبهم إلاّ ما كتب الله لهم (بحكمته البالغة)، لأن الله مولاهم وعليه يتوكلون (فيكفيهم وهو حسبهم). قال الله سبحانه : «قُل لَن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَاكَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (التوبة/51) وهكذا يكون من آفاق ولاية الله التوكل عليه سبحانه .

13/ والله نعم المولى، لأنه ينصر عباده الصالحين الذين يتخذونه ولياً، وهو نعم النصير (إذ إنه قوي عزيز حكيم عليم). قال الله سبحانه : «وإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الانفال/40) 14/ والله سبحانه بصير بعباده، وحكيم في تدبير شؤونهم، فهو نعم المولى. قال الله سبحانه : «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (التحريم/2) 15/ والله قادر على كل شيء، فهو ولي كل شيء. قال الله سبحانه : «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (الشورى/9)

ثالثاً: ولاية أولياء الله

تفيض من ولاية الله قيمة تولي أولياء الله ، وكذلك كانت دعوة المؤمنين أن يجعل الله لهم ولياً من عنده ونصيراً ، وأمر الله بطاعة الرسول ، وجعل الطغيان عليه إرتداداً عن الدين. أمّا الذين أطاعوا الرسول وتولوا من بعده المؤمنين الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فانهم من حـزب الله .

1/ لقد أمر الله المسلمين بالقتال لنجاة المستضعفين، الذين يدعون الله بأن يجعل لهم من لدنه ولياً ونصيراً. قال الله سبحانه : «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً» (النساء/75) ومن الآية نستلهم قيمة البحث عن ولي الله في الأرض، الذي ينقذ المستضعفين وينصرهم على المستكبرين .

2/ ولعل هذا هو ما سأله النبي زكريا عليه السلام من ربه، حين قال الله سبحانه (حكايــة عنه) : «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً» (مريم/5) 3/ الدخول في حصن الولاية الإلهية ، يقتضي الإنتماء الى حزب الله، والذي يتصف أبناؤه بحب الله ، والتراحم فيما بينهم (إلى حد التذلل)، والعزة أمام أعداءهم ( الى حد الشدة)، والجهاد دون خوف من لائم ( يثير السلبيات في التجمع ويذيع الإشاعات)، وولاية الله والرسول والمؤمنين ( خلفاء الرسول ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة راكعين . تدبر في السياق التالي ثم انظر كيف ينعت القرآن حزب الله الغالب، فيقول ربنا تعالى : «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة/54-56) ويبصرنا السياق بأن الهدف الأسمى للولاية الخالصة لله وللرسول ثم للمؤمنين هو التكامل والتسامي الى مستوى تحقيق التجمع الجهادي في الامة، الذي يسميه القرآن الكريم بحزب الله. فهم منتمون الى تجمع، ولكن محور التجمع ليس العنصرية أو القومية أو أية قيمة جاهلية أخرى، إنما محوره حب الله والرسول ومن أمر الله والرسول بحبهم وطاعتهم، وهم أهل بيت الرسول الذين أشارت الآية إليهم، حيث جاء في التفسـير أن الذي أقام الصلاة وآتى الزكاة راكعاً، كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبى طالب عليه السلام.

ونستفيد من الآية - أيضاً -؛ إن الطغيان على طاعة الرسول والإمام المنصوب من عند الله، قد يصل الى مستوى الإرتداد عن الدين - والله العالم - .

4/ والرسول أولى بالمـؤمن من نفسه. ( وهكذا تغلب أوامره مصالح المؤمن، ويسبق إختياره ما يختاره الفرد). قال الله سبحانه : «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» (الاحزاب/6) ونستفيد من الآية؛ إن ولاية الرسول أقرب من ولاية أولي الأرحام بعضهم لبعض .

رابعاً: ولاية المؤمنين

والمؤمنون أولياء بعضهم ( في حدود الشريعة. فهم يشكلون مجتمعاً واحداً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الله ، ويحمون بعضهم من أعدائهم، ويعينون بعضهم على المشاكل، وهكذا ..) .

1/ من آفاق ولاية المؤمنين لبعضهم، رقابتهم لبعضهم في تطبيق الشريعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ( فلا يجوز لمؤمن أن يستنكر على أخيه إذا أمره بمعروف أو نهاه عن منكر، لأنه وليّ عليه في هذا الأمر). ومن آفاق ولايتهم إقامتهم للصلاة ( فبعضهم يراقب البعض في أمر الصلاة)، ومن ذلك إيتاءهم للزكاة (ذلك أن الزكاة تكافل مالي بينهم)، ومنها إطاعتهم للرسول. كـل ذلك يقتضي نزول رحمة الله عليهم، حيث يقول ربنا سبحانه : «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة/71) 2/ وشرط الولاية الهجرة ، فمن لم يهاجر فلا ولاية لـه. (ولا فرق في الولاية بين المهاجر والمناصر والمواطن الذي تشرف بلده بحكم الدين ). بلى؛ هناك جانب من الولاية، لا فرق فيه بين المهاجر وغير المهاجر ، وهو وجوب نصرة المسلم أنى كان إذا تعرض لخطر. قال الله سبحانه : «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا اُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (الانفال/72) 3/ بلى؛ من التحق بدار الهجرة من بعد، وجاهد الى جنب المؤمنين ( فلم تكن هجرته للراحة)، فهو الآخر يدخل في إطار ولايـة المؤمنين. قال الله سبحانه : «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُوْلَئِكَ مِنكُمْ وأُوْلُواْ الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (الانفال/75) 4/ ونستوحي من آيات الولاية - هذه - إن القيم الايمانية هي التي تصوغ المجتمع المسلم؛ فالدين يوحدهم فيما بينهم، كما يفرقهم عمن سواهم من المجتمعات غير المؤمنة. فلا رابطة الدم ولا اللغة ولا الاقليم هي التي تكون المجتمع السليم، بل الـرابطة الايمانية وحدها محور العلاقة بين الناس. والسياق القرآني في سورة الأنفال يؤكد هذه الحقيقة، حيث يقول ربنا سبحانه: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الاَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ» (الانفال/73)

خامساً: آفاق الولاية الإلهية

وللولاية الإلهية أبعاد وآفاق؛ أبرزها ولاية النبي وأهل بيته والمؤمنين ، وقد سبقت منا الاشارة الى ذلك ، ومن هذه الآفاق الاستغفار والاعتصام والتوكل .

1/ حين يعتمر القلب بنور الولاية الإلهية يستريح إليها، ويستأنس بها، ويسعى الى الاستزادة من المعرفة، وبالتالي الى رفع الحجب التي أسدلها الذنب بينه وبين ربه وذلك بالاستغفار. وهذه صلة الولاية بالاستغفار، حيث يقول ربنا سبحانه ( حكاية عن المؤمنين): «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ » (الاعراف/155) 2/ حين يطمئن القلب الى ولاية الرب (والحب المتبادل بينهما)، فإن المؤمن يعتصم به عند الشدائد ، فلا يدع للحزن والوهن والخوف والتردد أن يتسرب إلى حريمه المصون بالتوكل والثقة بالله العزيز الحكيم. يقول ربنا سبحانه: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّاسِ فَاَقِيمُوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (الحج/78) 3/ ومن هنا كان الاعتصام بالله والتوكل عليه ضرورياً عند تطبيق أحكام الدين، وقد أمرنا بذلك في سياق الأمر بالأحكام. فلما حذرنا ربنا من محاولة الأعداء إضلالنا، ذكرنا بأنه ولينا. قال الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ اُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ اَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِاَعْدَآئِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً» (النساء/44-45) 4/ ومن آفاق الولاية، البراءة من أعداء الله. فهؤلاء الملائكة رفضوا الذين اتخذوا أرباباً من دون الله ، وقال الله عنهـم: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤُلآءِ اِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ» (سبأ/40- 41) 5/ لكي يواجه المؤمن ضعفه البشري، عليه أن يعرف أن الله ولي من اتقاه. فإذا كان الظالمون يتناحرون فيما بينهم، واذا كان بعضهم أولياء بعض ، فإن الله ولي المتقين (يدفع عنهم كيد الظالمين ومكرهم). قال ربنا سبحانه : «ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» (الجاثية/18-19) وهكذا كانت الشريعة الواضحة التي جعل الله رسوله ( والمؤمنين ) عليها مخالفة لأهواء الظالمين، الذين سوف يتآمرون ضدها وضد المؤمنين بها ، إلاّ أن ولاية الله للمتقين الذين يعملون بتلك الشريعة لا تدع مجالاً للضعف والوهن عندهم في اتباعها .

6/ ومن آفاق الولاية الإلهية، ولاية الملائكة الذين يتنزلون على الذين استقاموا على كلمة التوحيد ، ويبعثون في أنفسهم السكينة. يقول الله سبحانه : «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلآَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ» (فصلت/30-31) 7/ وختاماً فإن أولياء الله لا خوف عليهم فيما يأتي، ولا هم يحزنون على ما مضى من أفعالهم التي لا تضيع عند الله. قال الله سبحانه : «أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» (يونس/62)

سادساً: أولوا الأرحام ولاية فطرية

1/ وولاية أولي الأرحام هي ولاية فطرية، وقد أكدتها الشريعة في إطار ولاية الله، حيث جعلها القرآن في درجة أدنى من ولاية الله تعالى. قال الله سبحانه : «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُوْلَئِكَ مِنكُمْ وأُوْلُواْ الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (الانفال/75) 2/ فبعد ولاية النبي تأتي ولاية الأرحام المؤمنين. قال الله سبحانه: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ» (الاحزاب/6) وهكذا تتدرج الولاية..

أ- ولاية النبي وخلفاؤه المعصومين عليهم السلام.

ب- ولاية أولي الأرحام من المؤمنين لبعضهم.

ج- ولاية المؤمنين عامة لبعضهم البعض.

فقـه الآيـات

أولاً: ضوابط الولاية الفطرية

يتمثل جوهر الولاية في العلاقة بين الفرد ونظيره، فإذا كانت هذه العلاقة قائمة على أساس ثابت من العقل والوحي فإنها تكون نافعة، وإذا كانت قائمة على العواطف أو المصالح فإنها قد تكون ضارة. فإذا قتل شخص فإن الأسى الذي يمتلك أولياءه قد يدفعهم الى الاسراف في أخذ الثأر. ومن هنا نهى ربنا سبحانه أولياء القتلى أن يسرفوا في القتل، فقال سبحانه: «وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مُظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً» (الاسراء/33) وهكذا نهى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عشيرته من بني عبد المطلب من أن يقتلوا الناس ثأراً لشهادته، وقال لهم: يا بني عبد المطلب؛ لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلاّ قاتلي.. ([36]) وهكذا ينبغي أن تحدد ولاية الإنسان لأقربائه في حدود الشريعة، ويتجنب الإنسان العصبية التي تعني إعانة الفرد قومه على الظلم، حسب رواية مأثورة عن الزهري قال: سئل الإمام علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية، فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم. ([37]) وهكذا حدّد القرآن الكريم ولاية أولي الأرحام بحدود ولاية الله والرسول والمؤمنين، وذلك حين ذكر أولاً بولاية الله والرسول والمؤمنين ثم بولايتهم. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَاُوْلَئِكَ مِنكُمْ وأُوْلُواْ الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (الانفال/75) وجعل القرآن الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، مما يعني أنه أولى بهم من أقاربهم، فولايته أسبق من ولايتهم. قال الله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الاَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلآَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا» (الاحزاب/6) وولاية الله ورسوله تتجلى اليوم في أن تحكم الناس شريعة الله. فكل ولاية خارجة عن إطار أحكام الشريعة، لابد أن تحدد بها وتتأطر بحدودها، وإلاّ فهي لاغية وباطلة.

وهذه البصيرة تؤسس أصل المساواة أمام الشريعة (القانون) في المجتمع الاسلامي، ولا يجوز المحاباة في تطبيق أحكام الدين بسبب قرابة أو جاه أو ثروة وما أشبه.

وقد جاء في الأحاديث التالية التأكيد على هذه البصيرة.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال: قال أمير المؤمنين عليه الســلام لعمـر بــن الخطاب: ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنَّ كفتك ما سواهن، وإن تركتهنَّ لم ينفعك شيء سواهنَّ. قال: وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتـاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. فقال لـه عمر: لقد أوجزت وأبلغت. ([38]) ومـن عهد الإمام علي عليه السلام الى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر، قال: " وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم." ([39]) وقد أكدت النصوص على الاهتمام بعامة الناس دون الخاصة، لكي لا تصبح الدولة راعية مصالح فئة محدودة، فتضيع الحدود وتبطل الأحكام. ومن ذلك ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر لـمّا ولاّه على مصر: "وليكن أحبَّ الأمور اليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرّعية. فانّ سخْط العامّة يُجحف برضى الخاصّة، وإنّ سخْط الخاصّة يُغتفر مع رضى العامّة. وليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونةً في الرّخاء، وأقلُّ معونة له في البلاء، وأكره للانصاف ، وأسأل بالالحاف، وأقلّ شكراً عند الاعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمّات الدّهر من أهل الخاصّة. وإنما عماد الدّين، وجماع المسلمين، والعدّة للاعداء، العامّة من الأمّة، فليكن صِغوك لهم، وميلك معهم." ([40]) ومن تطبيقات تحديد الولاية الفطرية بحدود الشريعة، إن الزوج لا يستطيع منع زوجته من حجة الاسلام. ([41]) وكذلك ليس للوالدين منع الولد البالغ من الجهاد في سبيل الله إذا تعين عليه. بلى؛ قبل التعين يجوز لهما ذلك. ([42]) وكذلك لا يجوز للوالدين إقامة الحدود على إبنهما، بل الإمام ومن أذن له يقيم الحدود. ([43])

ثانياً: أسس الولاية الإلهية

وحدة الغاية والوسيلة تورث الولاية حقاً. أرأيت من كان أولى الناس بإبراهيم عليه السلام، هل التابعين لنهجه التوحيدي، أم أبناءه ولو كانوا ظالمين؟ كلاّ؛ إن الذين اتبعوا إبراهيم عليه السلام كانوا أولى الناس به. كذلك قال ربنا سبحانه: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (آل عمران/68) وهكذا الذي يتبع سبيل المؤمنين هو أولى الناس بهم، أما الذي يتبع غير سبيلهم فإن الله يوليه ما تولى فيخرج من ولاية المؤمنين. قال الله سبحانه: «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً» (النساء/115) وهكذا تتوحد الأمة المؤمنة بالكتاب الذي يرسم سبيلها، حيث قال الله تعالى: «إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصَّالِحِينَ» (الاعراف/196) وهكذا نرى أن ولاية الله سبحانه تتجلى في الأرض، بالكتاب وبمن يتبعه من الصالحين. والصالحون هم - بدورهم - يجتمعون حول ولاية النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل بيته، حيث يقول الله سبحانه: «إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلآئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» (التّحريم/4) فالولاية الإلهية تتجلى بالرسول وبالمؤمنين، وبالكتاب الذي جاء به الرسول واتبعه المؤمنون، وبالرعاية الإلهية لهذا الجمع بالملائكة.

من هنا فإن أمر الولاية الإلهية لم يترك غائماً أو عائماً، بل تبيّن بالقيم المثلى وبمحكم الآيات والسنة؛ ومنها الحديث المأثور عن الصحابي الكبير جابر بن عبد الله الأنصاري، حيث قال: لـمّا أنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ» قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال عليه السلام: هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين من بعدي، أوّلهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي، ثمّ علي بن محمد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ سميّي وكنيّي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده إبن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من إمتحن الله قلبه للايمان.

قال جابر: فقلت يا رسول الله؛ فهل ينتفع الشيعة به في غيبته؟ فقال عليه السلام: أي والذي بعثني بالنبوّة، إنهم ينتفعون به ويستضيؤون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان تجلاها السّحاب. يا جابر؛ هذا من مكنون سرّ الله ومخزون علمه، فاكتمه إلاّ عن أهله. ([44]) وهذه الولاية تختلف في مثلها وشرائعها وغاياتها، وحتى في أدق تفاصيلها عن الحكومات البشرية.

1/ فالحكم الإلهي قائم على كلمة التقوى، بينما الحكم البشري قائم على الحمية الجاهلية. قال الله سبحانه: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَاَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (الفتح/26) 2/ والحمية الجاهلية تفرق البشر على أساس الدم والتراب واللون واللغة والطبقة، بينما كلمـة التقوى تجمع البشرية حول مائدة التقوى، حيث يقول ربنا سبحانه: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات/13) 3/ وركيزة السلطة في نظم الجاهلية؛ قديمها وحديثها، الهوى والشهوات والمصالح العالجلة والمتضاربة عادة.. قال الله سبحانه: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (الكهف/28) بينما الكتاب هو أساس سلطة الدين، إذ قال الله سبحانه: «إِنَّآ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِايَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَآ أَنْزَلَ اللّهُ فَاُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ » (المائدة/44) 4/ والقسط هو هدف الرسالات الإلهية، حيث يقول ربنا سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحديد/25) بينما الشهوات هي غاية سلطات أهل الدنيا، حيث يقول الله سبحانه: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً» (النساء/27) والمصالح تفرق، بينما القسط يسع الأرض ومن عليها.

5/ وإمام المسلمين يختار على أساس العلم والتقوى والصبر واليقين، وهو أشدهم تمسكاً بالشريعة، ويتبع منهج الشورى والتوكل، ويقيم العدل والقسط. قال الله سبحانه: «وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَسْاَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (الانبياءِ/7) وقال تعالـى: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة/24) وقـال تعالى: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ اِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» (ص/26) بينما كبراء الجاهلية يتميزون بالبطش والمكر، ويحكمون بالسيف والمال. قال الله سبحانـه: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ» (غافر/26) وقال تعالى: «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ» (الزخرف/51-52) 6/ وهناك - حسب هذه الفوارق الأصلية - مفارقات كبيرة في التفاصيل. يقول العلامة الطباطبائي في هذا المجـال، وهو يصف السلطات الجاهلية اليوم: "لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث إن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش، وعباد الله أرقّاء لـه يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد. وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديموقراطية وغيرها، فإن بينها وبين الاسلام فروقاً بيّنة، مانعة من التشابه والتماثل.

ومن أعظمها أنَّ هذه المجتمعات لـمّا بنيت على أساس التمتّع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار، وهو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الإنسان وعمله، حتى الإنسان بالنسبة الى الإنسان، ويبيح لـه طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه. وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة، وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ماهو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية، وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة الى الأمم الضعيفة، وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكّمه ولعبه كلّ ما يريده ويهواه. ويعتذر -لو اعتذر- أنَّ ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة. ويعتقد أنَّ ذلك حقّ نبوغه وسيادته، ويستدل عليه بسيفه؛ كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الاُمم وضعفائهم اليوم، وجدت أنَّ التاريخ وحوادثه كرّت علينا ولن تزال تكرّ، غير إنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي، والروح هي الروح، والهوى هو الهوى. وأمّا الاسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء، ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده". ([45]) وإذا استعرضنا جانباً من النصوص الاسلامية حول الولاية وأخلاقيات الولاة، نعرف كيف أنها تنسجم مع أصول هذه الولاية، ومدى فرقها عن ولاية الطغاة. وفيما يلي نقرء معاً بعض هذه النصوص من كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي كانت سيرته في الحكم تطبيقاً لهذه الكلمات وأكثر، ونذكرها من دون تعليق اتباعاً لمنهج الاختصار:

أ- رغب الإمام عليه السلام الولاة بالاهتمام بالرعية، فقال: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم المِلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك". ([46]) ب- وجعل الإمــام عليه السلام ثلاث مسؤوليــات كبرى على الولاة، حيث قــال: "ليـس للملوك ان يفرّطوا في ثلاث: في حفظ الثغور، وتفقّد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهـم." ([47]) ج- وحذّر الولاة من بطانة السوء من الخواص، فقال عليه السلام: "إن للوالي خاصّة وبطانة، فيهم إستئثار وتطاول، وقلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال." ([48]) د- وحذّرهم من الاحتجاب عن الناس، فقال عليه السلام: "من تولّى أمراً من اُمور الناس فعدل وفتح بابه ورفع ستره ونظر في اُمور الناس، كان حقّاً على الله أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة." ([49]) هـ- وقال عليه السلام: " أيمّا مؤمن كان بينه وبين مؤمن حجاب، ضرب الله بينه وبين الجنة سبعين ألف سور، ما بين السّور الى السّور مسيرة ألف عام."([50]) و- وأمرهم بانتخاب الأكفاء لادارة الدولة بعيداً عن المحسوبيات، فقال عليه السلام: "ثم انظر في أمور عمّالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثرةً، فانهما جماع من شُعَب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التّجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الاسلام المتقدمة." ([51]) ز- وقال عليه السلام: "من استعمل غلاماً في عصابة فيها من هو أرضى لله منه فقد خان الله." ([52]) ح- وحذّر الاُمة من ولاة الجور، فقال عليه السلام: "آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها، فيتخذوا مال الله دُولاً، وعباده خوَلاً ، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً." ([53]) ط- وقال عليه السلام: "ولاة الجور شرار الأمة وأضداد الأئمة." ([54]) وقال عليه السلام: "سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم." ([55]) وروي عن الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام: إن أبا أمية يوسف بن ثابت حدّث عنك أنّك قلت: لا يضرّ مع الايمان عمل، ولا ينفع مع الكفر عمل؟ فقال: "إنه لم يسألني أبو أمية عن تفسيرها، إنما عنيت بهذا أنّه من عرف الإمام من آل محمد ويتولاّه ثم عمل لنفسه بما شاء من عمل الخير، قبل منه ذلك وضوعف لـه أضعافاً كثيرة، فانتفع بأعمال الخير مع المعرفة. فهذا ما عنيت بذلك، وكذلك لا يقبل الله من العباد الأعمال الصالحة التي يعملونها إذا تولّوا الإمام الجائر، الذي ليس من الله تعالى".

فقال لـه عبد الله إبن أبي يعفور: أليس الله تعالى قال: «مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ» فكيف لا ينفع العمل الصالح ممن تولّى أئمة الجور؟ فقال لـه أبو عبد الله عليه السلام: "وهل تدري ما الحسنة التي عناها الله تعالى في هذه الآية؟ هي معرفة الإمام وطاعته، وقد قال الله عزّ وجلّ: «وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». وإنما أراد بالسيئة إنكار الإمام الذي هو من الله تعالى. ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: من جاء يوم القيامة بولاية إمام جائر ليس من الله، وجاءه منكراً لحقّنا جاحداً لولايتنا، أكبّه الله تعالى يوم القيامة في النار." ([56]) والولاية الإلهية تدخل في تنظيم العلاقات الإجتماعية؛ فالجهاد لا يكون إلاّ بأمر الإمام، وكذلك القضاء من وظائف الإمام، والاشراف على شئون السفهاء والمحصور عليهم، ومن لا ولي لـه من القصر عن شئونهم، وكذلك إقامة الحدود والتعزيرات وبسط العدالة من واجباته.

ثالثاً: حوافز الولاية الالهية

ليست المصالح ولا الحميات ولا الرهبة، هي وراء طاعة الناس لولي أمرهم، ولو كانت واحدة من تلك لكانت الطاعة لوناً من الشرك، واتباع الطاغوت، أو في أحسن الفروض تقاة. قال الله سبحانه: «اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ اُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة/257) وقد فصّل القرآن الحكيم جوهر الولاية الإلهية، والذي هو أصل كل بواعث الخير في البشر؛ ألا وهو الحب الإلهي. قال الله سبحانه: « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ» (المائدة/54-56) ونستطيع أن نستوحي البصائر التالية من هذا السياق القرآني:

1/ إن الحب الإلهي جوهر الولايـة، وحقيقة المنتمي الى حزب الله الغالب. وقد قال سبحانـه: «قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيــمٌ» (آل عمران/31) وهكذا كلما ضعفت حوافز الأمة في الولاية، يجب أن نضاعف البرامج الروحية التي تنمي هذا الحب، ونطهر الأفئدة من الحجب والأغلال التي تمنع ذلك الحب.

إنّ للنفس البشرية إقبالاً وإدباراً، وعلى كل مؤمن أن يسعى لاصلاح نفسه بالاستغفار والانابة الى الله سبحانه، لتتسامى الولاية الإلهية عنده. قال الله سبحانه: «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِيَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ» (الاعراف/155) وبالــذات عند مواجهة الأعداء ينبغي أن نزداد توجهاً الى ربنا ودعـاءً، لتكامــل الولايــة فـي أنفسنا. قال الله تعالى: «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» (البقرة/51) 2/ ومن الحب الإلهي تفيض الفضائل المثلى، وأبرزها الصلة الايمانية بسائر المؤمنين الى درجة الذلة أمامهم، وتجاوز كبر النفـس وغـرورها ودنس الذاتية والحمية التي فيها. وقد قال ربنا سبحانه في صفة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله: «مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ فَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» (الفتح/29) 3/ وهذه الصلة الايمانية الوثيقة تتحدى كل الحواجز المادية؛ فإذا بالمؤمنين إخوة، وإذا بهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ وإذا ببوتقة الايمان تصهر عربيهم وأعجميهم، وغنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم، وشريفهم ووضيعهم في وحدة وطنية محلها دار الايمان، ودستورها الكتاب، ورائدها التقوى. قال الله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا اُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (الانفال/72) وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9)

رابعاً: الركائز الاجتماعية للولاية

عمود الولاية الإلهيــة الإمامـة الكبـرى، أما رحائبها وأرجاءها فهي الصلة الايمانية التي تربــط أبناء الأُمة ببعضهم، وهي ركائزهـا الاجتماعية، وهي التي نستوحيها من الآية التاليـــة: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُـــونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة/71) وهذه الركائز هي:

أ- التواصـي بالحق الذي يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يورث روحاً اجتماعية نابضة بالقيم المثلى، وسوراً منيعاً يحفظ المجتمع من التسيب والميوعة والانحلال.

ب- إقامة الصلاة؛ وهي ركيزة إيمانية تحافظ على روح الولاية، وهي الصلة بالله سبحانه، بالإضافة إلى أنها شعيرة عظيمة من شعائر الله، وهي تشد أواصر المجتمع وتحافظ على صبغتها المتمثلة في توحيد العبودية لله وحده.

ج- إيتاء الـزكاة؛ ولعلها هنا تعني كل الحقوق المالية المفروضة على الفرد، فإن أداء هذه الحقوق يورث التكافل الاجتماعي، ويطهِّر النفوس من الأثرة، وتضيق الفجوات الطبقية، وتحرك إقتصاد الاُمة، وتموّل المشاريع ذات النفع العام، وتوفر الطاقة الاقتصادية للأجهزة الإدارية في الدولة. ومن هنا أكد النص التالي على ضرورة إهتمام الدولة بأمر الخراج، حيث جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر: "وتَفَقَّد أمر الخَرَاج بما يُصلِحُ أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم، لأن الناس كلّهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في إستجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يُدْرَك إلاّ بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً... وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يُعوزُ أهلها لإشراف أنفس الوُلاة على الجمع، وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة إنتفاعهم بالعبر." ([57]) د- الطاعة لله والرسول؛ فإنها تحقق النظم العام، وتضمن إجراء الأحكام الثابتة والقرارات المتغيرة، وتمنع الفوضى والهرج، وتوفر المرجعية الشرعية لفض الخلافات وتوحيد الجهود.

وهذه الركائز الاجتماعية للولاية هي الاطار المناسب للسلطة الشرعية، حيث جاء في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام يوبّخ فيها أصحابه: " أمّا والذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم الى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي." ([58]) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "قال الله جل جلاله: إذا عصاني من خلقي من يعرفني سلطت عليه من خلقي من لا يعرفني." ([59])

خامساً: تطبيقات الولاية الفطرية

1/ لابد أن يكون تجهيز الميت باذن الولي ومراتب أولياء الميت كالتالي:

أ- الزوج (بالنسبة للمرأة) يقدم حتى على الآباء والأبناء.

ب- الأب يقدم على الأم والأولاد.

ج- الأم تقدم مع عدم وجود الأب على الأولاد الذكور.

د- الذكور مقدمون على الإناث من طبقتهم ومرتبتهم، والبالغ يقدم على غير البالغ.

هـ- البنات يتقدّمن على أولاد الأولاد، والأجداد والاخوة.

وهناك تفاصيل أخرى لا تهمنا الآن، ولكن مع فقد الولي للميت فإن الحاكم الشرعي يقوم بأموره، وعند فقده يجب على المؤمنين عامة. ([60]) 2/ ومن شروط الاعتكاف في المساجد للعبادة كما ذكر الفقهاء، إذن من لـه ولاية، كالمولى لعبده، والزوج لزوجته. وإذا أذن من له ولاية، كان له المنع قبل الشروع وبعده، مالم يمض يومان، أو يكون واجباً بنذر وشبهة. ([61]) 3/ وللأبوين منع ولدهما عن الغزو مالم يتعين عليه. ([62]) 4/ والأب والجد للأب، يمضي تصرفهما (في أموال الولد) مادام الولد غير رشيد، وتنقطع ولايتهما بثبوت البلوغ والرشد. ([63]) 5/ الولاية في مال الطفل والمجنون للأب، والجد للأب، فإن لم يكونا فللوصي، فإن لم يكونا فللحاكم. أما السفيه والمفلس، فالولاية في مالهما للحاكم لا غير. ([64]) 6/ ولا تصح الوصية بالولاية على الأطفال إلا من الأب، أو الجد من الأب خاصة. ولا ولاية للأم، ولا تصح منها الوصية عليهم حسب ما ذكره المحقق الحلي. ([65]) 7/ ولو أوصى بالنظر في مال ولده الى أجنبي وله أب، لم يصح، وكانت الولاية الى جد اليتيم دون الوصي. وقيل يصح ذلك في قدر الثلث مما ترك وفي أداء الحقوق. ([66]) 8/ لا ولاية في عقد النكاح لغير الأب، والجد للأب وإن علا، والمولى والوصي والحاكم. ولا ولاية لهما على الثيب مع البلوغ والرشد، ولا على البالغ الرشيد. ([67])

الفصل الثاني: على خطى الأنبياء (ع)

الإجتبـاء

تكريماً للإنسان وتوفيراً لفرص التسامي لمن شاء من الناس، يختار الله سبحانه لهم قدوات يجتبيهم من بين خيرتهم ليكونوا أئمة في الخير وأمثلة في الفضيلة، فيتيسّر للبشر التعالي الى القمم السامقة بإذن الله.

وليس للناس أن يختاروا الرسل حسبما تقتضـي مصالحهـم وأهواءهـم، وإنما الله هـو الذي يختـار بحكمتـه البالغـة، حيـث يقـول ربنا سبحـانه: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (آل عمران/179) وهكذا كان الإجتباء الإلهي معيار الإتباع، وليست الشورى (التي تتصل فقط بالجوانب الخاصة بحياة المجتمع). قال الله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ» (الشورى/13)

شروط الإجتباء

1/ نستفيد من الآية التي تليت آنفاً؛ إن الإجتباء يتصل بالهداية. أوَليس أهم فائدة الإمام الإهتداء بنوره وإتباع طريقه؟ وهكذا هدى الله الذين إجتباهم من القادة، فقال سبحانه: «وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الانعام/87) 2/ ومن صفات الذين إجتباهم ربنا ( بعد الهداية )، الخشوع لله سبحانه والتسليم لآياتــه (قلبـاً وعملاً). قال الله سبحانه: «وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وإِِسْرَآئِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً» (مريم/58) 3/ ومن صفاتهـم التوبة النصـوح، كما فعل أبونا آدم عليه السلام بعد الخطيئـة ، فقال الله تعالى: «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى » (طه/121-122) 4/ وهكذا النبي يونس عليه السلام إجتباه ربه بعد أن قبل توبته، فقال الله تعالى: «وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلآ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (القلم/48-50) ونستفيد من الآية؛ إن من آفاق الإجتباء الصلاح .

5/ ومن صفاتهـم الشكـر لأنعـم الله ( بعد القنـوت والخشـوع ). قال الله تعـالى: « إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ اُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لاَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » (النحل/120-121) 6/ وبعد أن رأى الصديق يوسف عليه السلام في المنام ما رأى ، أخبره أبوه يعقوب عليه السلام أنه يختاره الله لرسالاته. (وقد تم ذلك بعد بلاء عظيم)، فقال الله تعالى: «وَكَذَلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (يوسف/6) كل ذلك عن الرجال الذين إجتباهم ربهم لرسالاته ، ولكي يكونوا شهداء على خلقه، (حيث كانت الهداية والصلاح من سماتهم، كما وكانت من صفاتهم التوبة والخشوع والصلاح). أمّا عن الأُمة التي يجتبيها الله تعالى ، فهي التي تتصف بالقنوت والخشوع لله والركوع والسجود والعبادة، كما تعرف بفعل الخيرات، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد؛ (ولعل معناها بذل كل جهد مستطاع لتحقيق الأهداف). قال الله تعالى: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَـقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلى النَّــاسِ فَاَقِيمُـوا الصَّلاَةَ وءَاتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِــيرُ» (الحج/77-78) ونستوحي من الآية جملة شروط القيادة؛ (الشهادة على الناس)، ومنها (بعد التسليم وفعل الخير والجهاد) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله (الوحدة) والاستقامة.

فقـه الآيـات

أولاً : الإجتباء هدف المؤمنين

تختلف كلمتا الإصطفاء والإجتباء، في أن الأولى تختص حسب قراءتنا للآيات بالأنبياء، بينما تعم الثانية المؤمنين من أوليائهم أيضاً. فقد يعبر بالإجتباء إختيار المؤمنين للايمان، أو حتى للشهادة بالايمان على الناس من حولهم.

بلى؛ قد استخدمت كلمة الإجتباء في الأغلب للاصطفاء الالهي للرسل عليهم السلام، حيث قال الله سبحانه: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَاَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (آل عمران/179) وقد جاء في تفسير علي بن ابراهيم «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُُ» أي يختار «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ» وهم الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين الذين إختارهم وإجتباهم. ([68]) وروي عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام، أنه قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يسجد في سورة مريم حين يقول: «وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً» ويقول: نحن عنينا بذلك، ونحن أهل الجبوة والصفوة. ([69]) ولكن هناك آيات وأحاديث تدل على أن المؤمنين أيضاً يجتبون، حيث إن الله سبحانه خاطب المؤمنين في سورة الحج بقوله: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ» (الحج/77-78) وكلمة المؤمن تعم الرسل والأئمة الأطهار والصفوة من أوليائهم، إلاّ أنها في المعصومين أجلى. ومن هنا ورد في الأحاديث أنهم عليهم السلام قد عنوا بها، حيث روي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، أنه قال: إيانا عني ، ونحن المجتبون من قبل (أي في الكتب التي مضت) وفي هذا (أي القرآن). ([70]) وورد في حديث مأثور عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، في تفسير قوله سبحانــه:

«َمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا» قال: فهم والله شيعتنا الذين هداهم الله لمودتنا واجتباهم لديننا فحيوا عليه وماتوا عليه، وصفهم الله بالعبادة والخشوع ورقة القلب. ([71]) ويبدو لنا من الحديث النبوي التالي، أن التسليم المطلق والرضا التام بالمقادير هو حكمة الاصطفاء، بينما الصبر على الشدائد هو حكمة الإجتباء . فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: إذا أحب الله عبداً إبتلاه، فان صبر إجتباه، وإن رضي إصطفاه. ([72]) ولكن الإجتباء درجة عالية من الايمان، حيث ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنه قال للمأمون العباسي عن الشهيد زيد بن علي عليه السلام : كان زيد - والله- ممن خوطب بهذه الآية «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ». ([73]) ونستفيد من هذه البصائر الأحكام التالية:

أ- على الانسان أن يجتهد حتى يبلغ درجة الإجتباء، وذلك بالتحلي بتلك الصفات المثلى التي ترفع المرء الى درجة الإجتباء، والتي ذكرت بها الآيات الكريمة، وسوف نستعرضها إن شاء الله تالياً.

والدعاء أفضل وسيلة لاجتباء المؤمن، حيث جاء عن الإمام جعفر بن محمد الصادق في المأثور من الأدعية: وإجعلني فيها من أوليائك الذين إجتبيتهم لطاعتك وإخترتهم لعبادتك... ([74]) ب- على المجتمع أن يبحث عن عباد الله المجتبين، لكي يجعلهم قدوات مسيرته والشهداء والأمراء والقضاة في بلاده، ويستدل على ذلك بتلك الصفات التي ذكرها الكتاب لمن يجتبيهم الله سبحانه.

ثانياً: علامات الإجتباء

لقد ذكّرت الآيات بصفات المجتبين، وهي:

1/ الاهتداء بآيات الله فمن لم يهده الله الى الحق، ولم يستوعب بصائر الوحي وحقائق الشريعة، ولم يتفقه في الدين، ولم يتمثل الخلق الإلهي الرفيع ، فإنه لا يصلح للإجتباء.

ولذلك فإن البعض من العلماء وليس كلهم هم المراد بنصوص الطاعة والاتباع، أمّا من كان من العلماء إنتقائياً، يعمل ببعض الكتاب ويترك بعضاً، ولم ير معيارية الوحي في الثقافة، بل يأخذ - حسب رأيه - من الدين ما يشاء، ومن الأفكار الغريبة عن الدين مثل فلسفة اليونان أو أفكار الغرب والشرق ما يشاء، فإنه لا يصلح للقيادة.

2/ التسيلم والخشوع المجتبى هو الخاشع لله ولآياته، والمسلّم نفسياً لأحكام الشرع، فاذا به يخر ساجداً كلما سمع آيات ربه، دلالة على مدى تسليمه لأحكام الدين. وهذا المستوى من التسليم لا يبلغه المؤمــن إلاّ باليقين، وقد قال الله سبحانه: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِاَيَاتِنَا يُوقِنُونَ» (السجدة/24( 3/ الشكر لله والشكر درجة عالية من الرضا بتقدير الله، والتسليم لقضائه، وهو أصل الصبر . ولذلك جاء في الدعاء: "اللهم إني أسألك صبر الشاكرين لك".([75]) وقد تلونا في الآية السابقة؛ إن من شرائط الإمامة الصبر. ونستفيد من هذه البصيرة؛ إن الصبر المطلوب في صفات القادة المجتبين، هو أعظم الصبر، وهو المستند الى صفة الشكر..

4/ فعل الخير وقد ذكرت آيات أخرى بأن من صفات القادة، المسارعة في الخيرات. وقد ذكرت في سورة الحج، أن فعل الخير من صفات الأمة الاسلامية التي إجتباها الله.

5/ الجهاد في سبيل الله والجهاد قمة التصدي للمسؤولية الاجتماعية. ومن أدعى الرئاسة، ولم يتصد لمسؤولياتها، فإنه لا يصلح لها أبداً. ومن هنا فقد ربط السياق القرآني بين الأمر بالجهاد وبين الإجتباء، فقال الله سبحانه: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ » (الحج/77) والجهاد درجات؛ فاذا بلغ الانسان الدرجة العليا منه، وهو الجهاد حق الجهاد حسب ما أمر الله دون توان أو وهن، فقد توفرت فيه صفة هامة من صفات الإجتباء.

ومعرفة هذه العلامات بصورة جيدة وجعلها معياراً للقيادة، ثم إشاعة هذه الثقافة في المجتمع الانساني، كل ذلك يوفر للأمة حصانة من الانحراف ويعصمها باذن الله من الاختلاف.

ثالثاً: بين الإجتباء والتوبة

حين يعقد المؤمن عزائمه لكي يكون في الدرجة العاشرة من الايمان، فيغفل ويهوى الى الدرجة الأدنى منه، فإنه سرعان ما تداركه الرحمة الإلهية ويتبصر حتى يسمو الى درجته، وهناك يكون صالحاً للاجتباء. ذلك إن التوبة هي القدرة على كشف الخطأ، وتداركه في الوقت المناسب.

وكلتا المهمتين صعبتان الى درجة تـنكفئ عنهما ارادة اغلب الناس. فالانسان يزين لـه سوء عمله فيراه حسناً، ويشرع بالاعتذار لنفسه عن فعله، حتى يغير القيم، ويطمس نور الوجدان، ويفتري على الله الحق.. كل ذلك لكي لا يعترف بخطأه. يقول الله سبحانه: «وإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ» (البقرة/206) هذا في الذنوب الكبيرة التي قبحها واضح، وحرمتها معلومة. أمّا في الهفوات فان مجال التبرير واسع. بينما نرى عباد الرحمن قد قهروا أهواءهم الى درجة يعترفون حتى بترك ما كان أولى، ويتوبون الى الله منها ويعتبرونه معصية. مثلاً النبي داود عليه السلام خرّ راكعاً وأناب عن سرعة قضاءه، فتاب عليه ربه، وجعله خليفته في الأرض، وأمره بالعدل.

وهكذا آدم أبو البشر حينما أكل من الشجرة، تاب الى الله فاجتباه ربه. وحسب حديث شريف، كان النهي عنه شجرة معينة، وآدم عليه السلام أكل من مثلها بعد أن شبه لـه إبليس الأمر باليمين الكاذبة، حيث قاسمه بالله. لنقرء معاً الحديث الشريف المروي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. فقد روي عن علي بن محمد بن الجهم، أنه قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام، فقال لـه المأمون: يابن رسول الله؛ أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فما معنى قول الله عز وجل: «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» ؟ قال عليه السلام: إن الله تعالى قال لآدم: «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ» ، وأشار لهما الى شجرة الحنطة «فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين» ولم يقل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، ولا مما كان من جنسها. فلم يقربا من تلك الشجرة، وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما، وقال: « مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» وإنما نهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها « إِلآَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ» ، «وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ». ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً «فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ»، «فَاَكَلاَ مِنْهَا» ثقة بيمينه بالله. وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن بذنب كبير إستحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم. فلما إجتباه الله تعالى، وجعله نبيـاً معصومــاً لا يذنب صغيرة ولا كبيـرة. قال الله تعالـى: «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى* ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى». وقال عز وجل: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ».([76]) وهكذا نستفيد؛ إن التائب من الذنب قد ينطلق الى نقطة أبعد من موقعه السابق قبل الذنب، إذا كانت توبته نصوحاً. فإن المسكنة التي يشعر بها أمام ربه، والعبودية التي يعيشها، وتأنيب الضمير الذي يتحسسه، كل ذلك جدير بأن يحصنه من الوقوع في الذنب مرّة أُخرى، بل ويجعله دائب السعي لاصلاح ما بدر منه، وذلك بالاجتهاد والكدح.


/ 29