تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



ثالثاً: كلمة الأسوة التي هي محور البحوث هنا، مشتقة حسب اللغة من مادة (أسو)، حيث يقول إبن الفارس عنها: أسوت الجرح: أسواً: إذا داويته فهو أسي. وأضاف: وأسوت أسواً بين القوم: اذا أصلحت بينهم. ولي في بني فلان أُسوة؛ أي: قدوة. وقال: وآسيت المصاب على مصابه: إذا عزيته وآسيته بنفسي. ([96]) وقال المطرزي في المغرب: الأُسوة؛ إسم من إئتسى به إذا إقتدى به وإتبعه. ويقال آسيته بمالي؛ أي جعلته أُسوة أقتدي به ويقتدي هو بي، وواسيت لغة ضعيفة. ([97]) وقال حسن المصطفوي: أسو؛ أصل واحد يدل على المداواة والاصلاح. أسوت الجرح: داويته، ولذلك يسمى الطبيب الأسي. أسوت بين القوم: أصلحت بينهم. ومن هذا الباب : لي في فلان أسوة؛ أي قدوة، أي أني أقتدي به. وآسيت فلانا: عزيته. ([98]) ولكني أتصور أن أصل معاني هذه الكلمة المساواة، ومنه إشتقاق معنى العلاج، لأنه إستواء الخلقة. وكذلك إصلاح ذات البين، لأنه تسوية ما شجر فيه. وكذلك التعزية، لأنها إعلان عن المشاطرة مع أهل المصيبة في حزنهم.

ومن هنا التأسي والإيتساء هو محاولة التشبه بالأسوة للتساوي معه، وهو يوحي بالمشاطرة معه في المتاعب والمصاعب، وكذلك المصائب. وإذا لاحظت موارد إستعمال هذه الكلمة في العربية، لوجدت هذه المفارقة.

ومن هنا فإن علينا تحمل الصعاب لنتساوى مع قدواتنا الكرام. وعلى هذا فإن آيات التأسي لا دلالة فيها على ضرورة الإقتداء بالنبي في أفعاله بصفة مطلقة.

وقد أجاد العلامة المظفر في رده الاحتجاج بالآية الكريمة على وجوب التأسي، حيث قال: إن الآية نزلت في واقعة الأحزاب، فهي واردة مورد الحث على التأسي به في الصبر على القتال، وتحمل مصائب الجهاد في سبيل الله. فلا عموم لها بلزوم التأسي أو حسنه في كل فعل حتى الأفعال العادية. وليس معنى هذا أننا نقول بأن المورد يقيد المطلق أو يخصص العام، بل إنما نقول إنه يكون عقبة في (طريق) إتمام مقدمات الحكمة للتمسك بالاطلاق. فهو يضر بالاطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد. ([99])،([100]) رابعاً: الفعل أشد أثراً من القول، وأبلغ في الاتباع، بالرغم من أن القول أجلى بياناً وأوضـح.

ذلك لأن الهدف من إنبعاث الرسل تزكية البشر وتعليمهم، وإنما عبر الفعل وضرب الأمثلة الحية يتحقق هذا الهدف بصورة كاملة. وهكذا قد جاء في الحديث القدسي عن الله جل جلاله: "إني أنا الله لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم ، العزيز الحكيم... وإني إطلعت يا عبدي في علمي على قلوب عبادي فلم أر فيهم أطوع لي و لا أنصح لخلقي من أنبيائي ورسلي، فجعلت لذلك فيهم روحي وكلمتي ، و ألزمتهم عبء حجتي، واصطفيتهم على البرايا برسالتي ووحيي، ثم ألقيت بمكاناتهم تلك في منازلهم حوامّهم وأوصياءهم من بعد، فألحقتهم بأنبيائي ورسلي ، وجعلتهم من بعدهم ودايع حجتي والأساة في بريتي ، لأجبر بهم كسر عبادي، وأقيم بهم أودهم، ذلك أني بهم وبقلوبهم لطيف خبير. ثم إطلعت في قلوب المصطفين من رسلي، فلم أجد فيهم أطوع لي و لا أنصح لخلقي من محمد خيرتي وخالصتي، فاخترته على علم ورفعت ذكره إلى ذكري." ([101]) من هنا تأتي فائدة ذكر سيرة النبي وأهل بيته الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، حيث تشد سيرتهم عزائم المؤمنين، وتزيدهم صلابة في مواجهة الصعاب.

وقد جاء في حديث شريف عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام إن اسماعيل كان رسولاً نبياً سلط عليه قومه فقشروا جلدة وجهه وفروة رأسه، فأتاه رسول من رب العالمين فقال له: ربك يقرئك السلام ويقول قد رأيت ما صنع بك وقد أمرني بطاعتك فمرني بما شئت فقال: يكون لي بالحسين بن علي عليهما السلام أسوة. ([102]) وعند هيجان الحرص على الدنيا والتكالب عليها من قبل أهلها، يتسلى المؤمنون بذكر سيرة نبيهم الكريم صلى الله عليه وآله، وكيف زهد في درجات الدنيا، ورغب فيما عند الله.. فلقد جاء في تفسير قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ» قال الطبرسي رحمه الله: قيل نزلت في ثعلبة بن حاطب، وكان من الانصار، قال للنبي صلى الله عليه وآله: أُدع الله أن يرزقني مالاً. فقال: يا ثعلبة؛ قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، أمالك في رسول الله صلى الله عليه وآله أُسوة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت... ([103]) وجاء في حديث آخر عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام: ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله كاف لك في الأُسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها، وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفها.. ([104]) ولأن العقل أبلغ أثراً في النفوس، فإن الدين الحنيف حث الدعاة الى الله أن يكونوا هم بأفعالهم أُسوة في المثل العليا التي يدعون الناس إليها، حيث روي عن الامام زين العابدين عليه السلام أنه قال: إن أبغض الناس الى الله عزّ وجلّ من يقتدي بسنة إمام، ولا يقتدي بأعماله. ([105]) وقد كان قادتنا هم أسبق الناس بالعمل بما دعوا إليه. فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، أنه قال: ... أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها... ([106])

في رحاب الأحاديث

عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: فتأس بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله، فإن فيه أُسوة لمن تأسّى، وعزاءً لمن تعزّى. وأحب العباد الى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً... فتأسى متأس بنبيه، وإقتص أثره وولج مولجه، وإلاّ فلا يأمن الهلكة. فان الله جعل محمداً صلى الله عليه وآله عَلَما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة ... ([107]) وقال أبو عبد الله الإمام الصادق عليه السلام: بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله شهيداً وبشيراً ونذيراً، خير البرية طفلاً، وأنجبها كهلاً، أطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة، الأطهر الأطيب صلى الله عليه وآله. فان فيه أُسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد الى الله تعالى المتأسي بنبيه صلى الله عليه وآله، والمقتص لأثره. ([108])

حب أولياء الله

تتجلى كرامة الانسان بأجلى صورها في حب الله وأولياءه، ذلك لأن الحب:

أولاً: تناغم وإنسجام الفؤاد الذي يغمره الحب الإلهي بكل تجلياته؛ يتطهر بالانابة، ويسمو بالصدق، ويستنير بالرضا والشكر، ويتدفأ بالشوق، ويقوى بالعزم والتوكل..

ثانياً: وإذا أحب الانسان ربه أطاعه إطاعة الاصرار، التي تفيض عن نبع الحب، لا تكلف فيها ولا نفاق.

ثالثاً: وعندما تبلو السرائر، وتتمثل الحقائق عند لقاء الله، ترى المحبين في مقعد صدق عند مليك مقتدر. لماذا؟ لأن الله يحشر كل إنسان مع من أحب.

ويخلص المؤمن حبّه لله، ويفيض حب الله على عباد الله المخلصين؛ رسله وأولياءه، ومنهم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ومنهم السابقون الى الايمان، ومنهم سائر المؤمنين.

1/ الحب كما النسيم، كما العطر، كما النور ينشر. فمن أحبّ الله تعالى، أحبّ عباده الصالحين، وفي طليعتهم الأنبياء والأئمة عليهم السلام. وحب الرسول من حب الله، وحب أهل بيته عليهم السلام من ذلك الحب الكبير. ومن هنا جعل الله أجر رسالة النبي المصطفى المودة في القربى. قال الله سبحانه: «ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ » (الشّورى/23) وهذا الأجر يعود بالتالي إلينا، أولم يقل ربنا سبحانه: «قُلْ مَآ سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ؟ (سبأ/47) لأن حب أهل البيت عليهم السلام يشدنا الى معارفهم وسيرتهم، ويشدنا الى أوليائهم، ويجعل تنفيذ تعاليم الاسلام التي وصلت الينا عبرهم أيسر علينا.

2/ وكذلك كان دعاء النبي إبراهيم عليه السلام عندما همّ بتوديع ذريته، الذين أسكنهم عند بيت الله الحرام، كان دعاءه لربه أن يمنحهم ودَّ أفئدة من الناس، لكي تهوي إليهم. فقال ربنــا: «رَبَّنَآ إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُـحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (اِبراهيم/37) وهكذا سأل النبي ابراهيم عليه السلام ربه أولاً حب ذريته من قبل أفئدة من الناس، ثم سأله أن يرزقهم من الثمرات.

3/ وهكذا بشّر الله المؤمنين من عباده، أنَّ الله سيجعل لهم وداً، فقال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً» (مريم/96) ولعلّ هذا الودّ هو الحب الذي يجعله الرب في أفئدة المؤمنين تجاه بعضهم البعض.

4/ وقد ألّف الله بين القلوب المؤمنة بهذه الصلة الوثيقة، حتى أنهم أصبحوا رحماء بينهم. قال الله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْاَهُ فَاَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَــى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» (الفتح/29) 5/ وبهذه الصلة الايمانية كانوا أذلاء على بعضهم، وبهذه الصلة كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

بلى؛ كمثل ذلك الحب الذي يجعل الأم تضحي من أجل رضيعها، إنه هو الحب الذي جعل مسلمي المدينة يؤثرون على أنفسهم، ويقاسمون المهاجرين ديارهم وأموالهم دون أن يريدوا جزاءً أو شكوراً. قال الله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوْا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الحشر/9) بلى؛ الحب هو مفتاح أكثر الفضائل الانسانية. ألا ترى كيف قدّم أهل البيت عليهم السلام أقراص الرغيف للمسكين واليتيم والأسير بالرغم من حاجتهم الشديدة إليها وجوعهم الممض؟

فقه الآيات

آيات قرآنية كثيرة، ونصوص متواترة من السنة، أكدت على فريضة حب آل البيت عليهم السلام. لماذا ذلك التأكيد على الحب؟ وماهي آفاق الحب؟ وماهو واجبنا اليوم في ضوء هذه التأكيدات؟

أولاً: حب أهل البيت

لماذا حب أهل البيت عليهم السلام؟ ([109]) لعل الاجابة الصحيحة تلخص في أمرين:

1/ لأن جذر الاختلاف بين الناس كامن في القلب، وأعظم أسبابه الحب والبغض. فالكبر والحسد والعصبيات القبلية والقومية والسياسية والأحقاد المتوارثة والجهالات العقيمة، هي وراء أكثر الاختلافات. وإذا لم تزك القلوب من آثارها، فإن الخلاف لايقضى عليه حتى في إطار الأهداف الواحدة والمصالح المشتركة.

ومما يساهم في تصفية جزء كبير من أمراض القلب، حب أولياء الله؛ حيث يغمر نوره القلوب، فيفيض حتى يشمل طائفة المحبين جميعاً.

إن حب الرسول يجعلنا نحب كل تابعيه، وحب أهل بيته يسري الى محبيهم حتى يصبحوا حزباً إلهياً واحداً، ويتحابوا في الله، ويتزاوروا في الله، ويتعارفوا في سبيل الله.

هكذا شبه الرسول حبهم بسفينة نوح التي وحدت بين راكبيها، كما حملتهم الى برّ الأمان. إنهم الحبل المتين الذي يشد أزر المتمسكين ببعضهم، إنهم النجوم التي توحد مسيرة المهتدين بهم.

ولأن طاعة أهل البيت، والتمسك بالقيادة الشرعية الرائدة، تقتضي جهاد المشركين، ومقاومة الطغاة والمترفين، وتحدي تيار الفساد والضلال.. وبالتالي تقتضي هذه الطاعة الجهاد والايثار والشهادة، فقد جعل الله منطلقه الحب الذي به يسهل كل صعب، بل ويتلذذ الحبيب بما يبذله في سبيل من يحب. ألم تر كيف يصبر المجاهدون في سجون الطغاة على أقسى ألوان التعذيب، ثم يقولون كما قال حبيبهم محمد صلى الله عليه وآله عندما تعرض لأذى قومه: "لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاّ بك". ([110]) ألم يأتك نبأ أهل الايثار في سوح القتال في كربلاء، يوم عاشوراء، كيف إستساغوا شراب الموت، وكان عندهم أشهى من العسل، لأنهم إتبعوا نهج إمامهم الحسين عليه السلام الذي قال وهو يعالج سكرات الموت تحت ركام من السيوف والخناجر والسهام والحجارة، وقد إشتد به العطش، ووتر بأفضل أهل بيت وأبر أصحاب، قال: "صبراً على قضائك، لا معبود سواك".([111]) وقالوا على لسانه:

تركــت الخلــق طــراً فــي هــواك وأيـتـمــت الـعيــال لـكــي أراك فلـــو قـطـعـتـنــي بـالـحـب إربــا لـمـا مــال الفــؤاد الــى ســواك.

2/ الطاعة الحقيقية هي لله، وأما المودة ففي القربى. نحن لا نطيع القيادة لذاتها أنى كانت، إنما نطيعها لأنها إمتداد لولاية الله سبحانه وتعالى. الطاعة ليست إلاّ لله ولمن أمــر الله، وهذا يتناسب وأجر الرسالة، لأن أجر الرسول هو أن يستمر نهجه، حيث كان يتطلع نحو بقاء خطــه الرسالي في الأمة. وهذا كان أهم أجر تقدمه الأمة الاسلامية لرسول الله، الذي ما ونى لحظــة عن تبليغ رسالات ربه، ولا إدخر وسعاً حتى أمره الله بألاّ يهلك نفسه حــزناً عليهم، وقــال: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِم إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (الكهف/6). وقــال: «طه * مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى» (طه/1-2) ومن هنا فقد تواترت الأحاديث حول حب أهل البيت عليهم السلام، حيث روي عن أبي جعفر (الامام محمد الباقر) عليه السلام قال: "عشر من لقي الله عز وجل بهنَّ دخل الجنة: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، والاقرار بما جاء من عند الله عزّ وجلّ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت، والولاية لأولياء الله، والبراءة من أعداء الله، واجتناب كلّ مسكر". ([112]) وجاء في حديث مروي عن حبيش بن المعتمر قال: دخلت على أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ كيف أمسيت؟ قال: أمسيت محبّاً لمحبّنا، ومبغضاً لمبغضنا، وأمسى محبّنا مغتبطاً برحمة من الله كان ينتظرها، وأمسى عدوّنا يؤسّس بنيانه على شفا جرف هار، فكأن ذلك الشفا قد إنهار به في نار جهنم. وكـأنّ أبـواب الرحمة قد فتحت لأهلها، فهنيئاً لأهل الرحمة رحمتهم، والتعس لأهل النــار والنــار لهـم.

يا حبيش؛ من سرّه أن يعلم أمحب لنا أم مبغض، فليمتحن قلبه، فإن كان يحب ولياً لنا فليس بمبغض لنا، وإن كان يبغض ولياً لنا فليس بمحب لنا. إن الله تعالى أخذ الميثاق لمحبينا بمودتنا، وكتب في الذكر اسم مبغضنا. نحن النجباء، وافراطنا افراط الأنبياء. ([113]) وفي رواية أبي حمزة الثمالي عن الامام محمد الباقر عليه السلام بيّـن إن إستكمال حقائق الايمان يكون بحب أئمة الهدى عليهم السلام، فقال: "يا أبا حمزة؛ إنما يعبد الله من عرف الله، وأمّا من لا يعرف الله كأنّما يعبد غيره هكذا ضالاً. قلت: أصلحك الله؛ وما معرفة الله؟ قال: يصدّق الله ويصدّق محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله في موالاة علي والإيتمام به وبأئمة الهدى من بعده، والبراءة الى الله من عدوّهم، وكذلك عرفان الله.

قال: قلت: أصلحك الله؛ أيّ شيء إذا عملته أنا استكملت حقيقة الايمان؟ قال: توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله، وتكون مع الصادقين كما أمرك الله. قال: قلت: ومن أولياء الله؟ فقال: أولياء الله محمد رسول الله وعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين، ثم انتهى الأمر إلينا، ثم ابني جعفر، وأومأ الى جعفر وهو جالس. فمن والى هؤلاء فقد والى أولياء الله، وكان مع الصادقين كما أمره الله. ([114]) والحب حقاً لا يجتمع مع حب الأعداء، حيث نقرء في حديث مأثور عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قدم عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أحبك وأحب فلاناً، وسمّى بعض أعدائه. فقال عليه السلام: أما الآن فأنت أعور، فإمّا أن تعمي، وإمّا أن تبصر". ([115]) ومن هذه البصيرة نستوحي الأحكام التالية:

أ- علينا أن نشعر أفئدتنا حب آل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم، وذلك بمعرفة درجاتهم ووصايا النبي صلى الله عليه وآله بحقهم، وقراءة سيرتهم العطرة، والتعرّف على كلماتهم المضيئة وخلقهم الرفيع، وزيارة مراقدهم، والسلام عليهم باستمرار عن قريب أو بعيد.

ب- بزرع حب الأئمة عليهم السلام في أولادنا، وبيان فضائلهم لهم، حتى يتخذوهم لأنفسهم قدوات، ويتحلوا بصفاتهم، ويمتثلوا لتعاليمهم.

ج- بنشر فضائلهم في الآفاق، ودعوة الناس إليهم بكل وسيلة ممكنة.

ثانياً: حب الأولياء

إذا إنتصر المؤمنون في بلد وكوّنوا المجمع الاسلامي، فلا يعني أن أهالي تلك البلاد من المسلمين أفضل من غيرهم، فيستأثروا بالمكاسب، أو يفرضوا وصايتهم على غيرهم. كلا؛ فكل ما عند المؤمنين، حتى أنفسهم ملك للإسلام ولأهله الذين هم إخوانهم. وينبغي لهم أن يقتدوا بالأنصار الذين بلغ بهم حبهم للمهاجرين أن آثروهم على أنفسهم، لأنهم إنتمو للإسلام إبتغاء فضل الله ورضوانه، وليس بحثاً عن المكاسب المادية، وضحوا بأموالهم وبيوتهم ومستقبلهم المادي من أجل الدين.

وهكذا تتحدد علاقة المهاجرين بمن في دار الاسلام بالحب الصادق لهم، فلا يرون اللاحقين بهم غرباء عنهم، ولا يستثير وجودهم وتنافسهم، ولا حتى إنتقادهم أي حقد وحسد، ولا أي لون من الحساسية، لأن رابطتهم ببعضهم أكبر من كل ذلك؛ إنها رابطة الايمان والجهاد.

ولا يصل الانسان الى هذا المستوى الرفيع من الأخلاق إلاّ إذا تمكن الايمان من نفسه، فتجاوز شح نفسه (الأهواء والشهوات والمصالح) وتحرر عن أغلال الوطنية والقومية والعنصرية والطبقية والحزبية، وأصبح كامل الايمان مثلما قال الامام الصادق عليه السلام: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع الله، فهو ممن كمل ايمانه". ([116]) وقد إعتبر أئمة الهدى الحب هو الدين، حيث أجاب الامام الصادق عليه السلام سائلاً سأله عن الحب: هل هو من الايمان؟ فقال: ويحك وهل الدين إلاّ الحب؟ ألا ترى الى قول الله: «قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ»؟ أولا ترى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله: «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» وقال: «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ». فقال: الدين هو الحب، والحب هو الدين. ([117]) وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لاصحابه: أيّ عرى الايمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصوم، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الايمان الحب في الله، والبغض في الله، وتولي أولياء الله، والتبري من أعداء الله عزّ وجلّ. ([118]) وجاء في حديث آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال لبعض أصحابه ذات يوم: يا عبد الله؛ أحب في الله وأبغض في الله، ووال في الله وعاد في الله، فإنه لا تنال ولاية الله إلاّ بذلك، ولا يجد رجل طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك. وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا عليها يتوادّون وعليها يتباغضون، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً.

فقال له: وكيف لي أن أعلم أني قد واليت وعاديت في الله عز وجل؟ ومن وليُّ الله عز وجل حتى أُواليه؟ ومن عدّوه حتى أُعاديه؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وآله الى علي عليه السلام، فقال: أترى هذا؟ فقال: بلى. قال: وليّ هذا وليّ الله فواله، وعدوّ هذا عدوّ الله فعاده.

قـال: وال وليّ هـذا، ولو أنه قاتـل أبيـك وولـدك؛ وعـاد عـدو هـذا، ولو أنـه أبـوك أو ولـدك. ([119]) وروي إن الله أوحى الى بعض عبّاد بني اسرائيل وقد دخل قلبه شيء: أمّا عبادتك لي فقد تعززت بي، وأمّا زهدك في الدنيا فقد تعجّلت الراحة، فهل واليت لي وليّاً أو عاديت لي عدوّاً؟ ثم أمر به إلى النّار، نعوذ بالله منها. ([120])

الفصل الثالث: السبيل القويم

البينـة

أن تكون على بصيرة من أمرك وبينة واضحة، تلك قيمة سامية، وهدف هام. ولكن أنّى لنا بالبينة وقلوبنا محجوبة بالهوى والشهوات، تختلط فيها ظلمات الذات بضياء الهدى؟ نستوحي من آي الذكر الحكيم حقائق عن البينة:

أولاً: إنها من عند الله تعالى، (وليس من ذواتنا المظلمة).

ثانياً: إن من أوتي البينة، تنزلت عليه رحمة الله، ورزقه ربه رزقاً حسناً.

ثالثاً: ويتلوه شاهد من ربه ( يصدقه).

رابعاً: ومعه رصيد كبير من تجارب التاريخ تشهد بصدقه.

خامساً: يصدق فعله قوله، وعمله لسانه، مما يهدينا الى أنه على بصيرة تامة.

سادساً: إنه يريد الاصلاح أنّى استطاع إليه سبيلاً.

سابعاً: إنه يتوكل على ربّه (ويقتحم غمار التحديات بلا هوادة).

من هذه الكلمات نستوحي البصائر التالية:

1/ تنعقد القلوب على بعض المبادئ، التي تصبح مصدراً لثقافتهم وسلوكهم. ولكن ما هي العقائد السليمة، وكيف تتمايز مع الأخرى الخاطئة؟ ليس سهلاً معرفة ذلك، وإذا عرف الانسان ذلك فإنه هام جداً، لأنه الفاصل بين الهوى والضلالة، بين الجنة والنار. ولكن كيف نتعرف على ذلك؟ لابد أن نعرف إن الحق والباطل كما الظل والحرور، كما النور والظلام، كما الخير والشر، كما الحياة والممات.. إنهما واقعان متمايزان، لكل منهما حقائقه ومصاديقه وآياته ومعالمه، وهما لا يرتبطان بتمنيات الذات. فليس الحق ما نتمنى أن يكون حقاً، وليس الباطل ما نريده أن يكون باطلاً. إنما الحق هو الحق شئت ذلك أم أبيت، والباطل باطل أردت ذلك أم رفضت. قال الله تعالى: «أَم لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الأَخِرَةُ وَالأُولَى » (النجم/24-25) بهذه المعرفة نخطو الى فصل هوى النفس عن هدى الحق، لأننا إذا آمنا بوجود حق وباطل خارجين عن ذواتنا وتمنياتنا، نشرع بالبحث عنهما بحثاً موضوعياً، ونبحث عن آياتهما. فأين الحق؟ إنه عند الله سبحانه، لأنه السبوح القدوس، لأنه تعالى عن الظلم، لأنه قائم بالقسط، لأنه الملك الحق المبين، لأن قوله الحق.

وهنا نخطو الخطوة الحاسمة على طريق النور، حيث نعرف أن الحق من الله، ومن كان على بينة من ربه فهو على الصراط المستقيم. أما من زين لـه سوء عمله فرآه حسناً، فإنه يتبع هواه، حيث يقول ربنا سبحانه: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم» (محمد/14) وهذه خطوة تكميلية، فمن عرف الحق عرف الباطل، ومن عرف الحق عرف أهله، ومن عرف الباطل عرف أهله أيضاً. إن أهل الباطل قد يعتقدون بآرائهم، ولكن ليس لأنها ذات رصيد في ميزان العقل، بل لأنها قد زينت لهم. ولماذا زينت لهم؟ لأنهم أساءوا العمل وخالفوا عقولهم وضمائرهم، حتى طمست معالم الحق في أعينهم، فاختلط عليهم الأمر. تماماً كمن يفقأ عينه، فأنى له أن يبصر طريقه، وبماذا يبصره؟ كذلك من إقترف ذنباً يزين له سوء عمله بقدره، وهناك يسترسل مع هواه يتبعه أنّى يتجه به.

ونستفيد من الآية؛ إن مصدر القناعة عند البشر قد يكون بينة الرب فيكون مهتدياً، وقد يكون سوء العمل فيكون ضالاً. وعلى أي حال فإن الضال يبقى في تردد وعمى، بينما الذي هداه الله تطمئن نفسه ويستريح في ظلال الايمان الوارف.

2/ لا تكفي تواتر الآيات هدى للبشر، كما لا تشكل موجات النور وحدها رؤية عند الإنسان. فلولا العين المبصرة أنّى تتسنى لنا الرؤية. كذلك من دون "إرادة" الاهتداء عند الانسان وتقبل آيات الحق لايهديه الرب. من هنا فمن كذّب بآيات الله وصدف عنها لا يهتدي. قال ربنا سبحانه: «أَوْ تَقُولوا لَوْ أَنَّآ اُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِاَيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ » (الانعام/157) ونستفيد من الآية الكريمة؛ إن الذين ينتظرون إكراههم على الهدى دون أن يبحثوا عنه، أو يتقبلوا آياته، أو يستمعوا إلى دعائه، إنهم يظلون في عماء محيط.

إن التصديق بآيات الله شرط الاهتداء بها. فيا ترى ما هي آيات الرب، هل هي آيات الكتاب، أم انها حملة الكتاب (الرسل والأئمة والصديقون)، أم هي آيات الله في خلقه، أم هي الجميع؟ بلى؛ كل ما يدلنا على الحقيقة علينا التصديق به حتى نهتدي باذن الله، وإلاّ فإن الرفض لها والاعراض عنها وتحريفها وتأويلها والتكذيب بها، لن يزيد البشر إلاّ خساراً.

3/ لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار، كما لا يستوي الظل ولا الحرور.. أصحاب الجنة محورهم الحق، بينما أصحاب النار محورهم الهوى. ومن خلال معرفة صفات هؤلاء وخلال أولئك، قد يهتدي الانسان الى الحقيقة. وبكل وضوح وبكل شفافية يعلن الرسول انه على بينة من ربه، فهو على يقين مبين. وهم الذين يكذبون بالحق، ويستعجلون عذاب الله، وكفى بذلك فاصلاً بينهم وبينه. قال الله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ » (الانعام/57) 4/ إن التعرف على أُولي البصائر، أصحاب اليقين الذين هم على بينة من أمرهم؛ إن التعرف عليهم طريق الى معرفة البينة، لأن الحق والباطل يتمثلان عادة في رجال، لو عرفهم المرء حق المعرفة، لعرف الحق والباطل بوضوح. ولا ريب إن سيرة الأنبياء والأئمة عليهم السلام والربانيون من أتباعهم إضاءة لامعة بسبيل الهدى. فعلينا اذا سمعنا منادياً يدعونا الى مبدء أن ننظر الى سيرته، هل هي تجسيد لتلك الدعوة، فهو على بينة من أمره، أم إنه يتبع هواه وإن أمره فرط وفوضى.

وهكذا كانت دعوة الأنبياء عليهم السلام مدعومة بسيرتهم الوضيئة، وكانوا هم على بينة من ربهم. كذلك قال الله سبحانه (عن النبي نوح عليه السلام): «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وءَاتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ» (هود/28) 5/ ومن حقائق البينة الرحمة الإلهية التي ينـزلها على الأنبياء. قال الله سبحانه (عن النبي صالح عليه السلام): «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وءَاتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ » (هود/63) إن مفتاح الفلاح المتمثل في رحمته سبحانه عليهم، أعظم مما لدى الكفار من كنوز الثروة، أو جنود القوة، أو ألوان المكر. وذلك المفتاح آية البينة التي جعلها الله لهم، ومن دونها كيف يتسنى لهم الإنتصار على عتاة الثروة وجبابرة السلطة ودهاة المكر والحيلة؟ 6/ ومن آيات البينة شهادة الصديقين. فمع كل نبي صديق من قومه يشهد لـه، وهو آية البينة عنده. فمع النبي موسى أخوه هارون، ومع النبي سليمان آصف، ومع النبي عيسى يحيى عليهم السلام، ومع النبي محمد صلى الله عليه وآله إبن عمه ووصيه وأخوه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. قال الله تعالى: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً اُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْبِهِ مِنَ الاَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ » (هود/17) وإذا أراد أحد الهدى فإن قراءة سريعة لسيرة الصديقين، وإيثارهم، وتفانيهم (في نصرة رسل الله) تكفيه حجة بأنهم كانوا على بينة من الله. ولولا تلك البصيرة التي كانوا عليها لما قدموا كل ما يملكون في سبيل تلك الدعوة. من هنا قال الله سبحانه: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكينَ » (يوسف/108) فهم جميعاً على بصيرة وعلى بينة، وهذه شهادة صدق الدعوة.

7/ ولأن الرسول على بينة، فهو على ثقة تامة من نصر الله. ومن هنا فهو يتوكل على ربــه، ويقتحم غمار التحديات بعزم واستقامة وسكينة. من هنا ختم النبي شعيب عليه السلام تحديــه مع قومه، بأنه على الله يتوكل وإليه ينيب. قال ربنا سبحانه (عن النبي شعيب عليه السلام): «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ اُرِيدُ أَنْ اُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ اُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَـوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ اُنِيبُ » (هود/88) ونستفيد من الآية؛ إن رزق الله الحسن للنبي (من بنية جسدية سليمة، وخلق إنساني عظيم، وسلوك إجتماعي جميل، وحياة فاضلة، ونفس مطمئنة، وتوفيق مبارك في مختلف أنشطته وكذلك تطبيقه العملي لما يلفظه قولاً، وإرادته الاصلاح في الناس، وثقته التامة بربه..) كل أولئك آيات البينة التي هو عليها.

وإذا أخذنا مثلاً الاصلاح الذي كان يهدفه النبي شعيب في قومه، فإنه يكفي دليلاً على صدق دعوته. ذلك لأن كثيراً من بنود الاصلاح كانت واضحة لوجدان الناس. فإيفاء الكيل والوزن، وتجنب الفساد، وتأليف الأفئدة، والاهتمام بالمحرومين، وما أشبه.. حقائق فطرية يشهد بصدقها ضمير كل حي. وهكذا كانت رسالات الأنبياء عليهم السلام كافية دليلاً على صدقهم، وقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة....". ([121]) ولقد كانت إنابة النبي شعيب عليه السلام الى ربه مثلاً حتى بين أنبياء الله عليهم السلام، حيث كان شديد الضراعة، كثير الصلاة، رشيداً حليماً. وقالوا إن عينيه قد ابيضّتا خشية من الله وشكراً له.. وهكذا كانت الإنابة إلى الله واحدة من بينات الرسل..

فقه الآيات

من أبعاد إبتلاء البشر في الدنيا فتنة الشيطان، الذي يدلس لـه، ويزين سوء أعماله، ويغره ويوسوس في نفسه حتى يضله عن السبيل. وهكذا كان من أبرز مسؤوليات الانسان تحديه لهوى نفسه، ووسوسة شيطانه، وإغراءات الدنيا.. والشيطان ليس بعيداً عنا، إنه يجري منا مجرى الدم. ولذلك فان وساوسه تملأ النفس، وتحيط بالقلب حتى لا ينفذ إليهما نور الهدى، ويعيشا دوماً في ظلام الأماني وأحلام الهوى. ومن هنا فمن أُوتي بينة من ربه فقد أُوتي خيراً كثيراً.

وكلما يصرفه المرء من طاقة وإهتمام ووقت في سبيل إستجلاء الحقيقة حتى يكون على بينة من أمره، فإنها لن تذهب سُدى. لأن من يعيش في الدنيا في عمى عن الحقيقة، لا يرجى أن يرزق نوراً في الآخرة، بل يكون هناك أشداً عمى. والله ولي الذين آمنوا إذ يخرجهم من ظلمات الجهل والهوى والوساوس الى نور الهدى.

من هنا ينبغي للانسان أن يكون دائم الحذر من عمى القلب، كما هو شديد الحذر من عمى العين، وأن يبحث عن نور الهدى بعزم وجدية.

هذه البصيرة التي نستوحيها من الآيات الكريمة تتجلى في جملة أحكام شرعية:

ألف/ البينة في السياسة

لكي تكون على بينة في السياسة، عليك أن تختار إمامك وخطك السياسي وفريق العمل الذي تؤيده؛ تختارهم بعد التفكير والتجربة والتأمل الكافي..

ولعل أغلب الآيات القرآنية التي تحدثت عن البينة، تتأول في موضوع القيادة السياسية بعد المرجعية الدينية. وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "لا تجلسوا عند كل داع مدع يدعوكم من اليقين الى الشك...". ([122]) ويروى عنه صلى الله عليه وآله انه قال: "قال الحواريون يا عيسى عليه السلام: يا روح الله من نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله". ([123]) والنصوص في هذا المضمار كثيرة، ذكرنا بعضاً منها عند الحديث عن الإتباع، وعن الولاية.

باء/ البينة في الاجتماع

وعلى الإنسان أن يختار زوجه وفق القيم الشرعية والعقلية. وقد جاء في الحديث الشريف: "اختاروا لنطفكم، فان العرق دساس".

كما ينبغي أن يختار الانسان أصدقاءه بدقة، وفي الاسلام طائفة كبيرة من النصوص التي تدعو الإنسان إلى اختيار الصديق المناسب. منها، ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، في وصيته لكميل، قال: "يا كميل؛ ومن أخوك؟ أخوك الذي لا يخذلك عند الشدة، ولا يغفل عنك عند الجريرة، ولا يدعك حتى تسأله، ولا يتركك وأمرك حتى تعلمه". ([124]) وقال عليه السلام أيضاً: "لا تصحب المائق (الأحمق)، فانه يزين لك فعله، ويريد أن تكون مثله". ([125]) وعلى الانسان ألاّ يتخذ عدواً إلاّ بعد بينة. فلا يجوز أن نقول في أحد شيئاً لا نعرفه. وقد جاء في الكتاب: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ » (النُّور/15) كما لا يجوز أن ننطلق في محاربة طائفة، إلاّ بعد التأكد من عداوتها وخطورتها، حيث قال ربنا سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ » (الحجرات/6)

جيم/ البينة في المكسب

قبل التأكد من السبيل الحلال للمكسب، لا تدخل السوق. وقد كانت وصيــة الامام أميــر المؤمنين عليه السلام للتجار في أسواق الكوفة: "يا معشر التجار! الفقه ثم المتجر، ...". ([126]) وأيضاً كان يقول عليه السلام: ".. التاجر فاجر إلاّ من أخذ الحق وأعطاه". ([127]) وكذلك على الانسان أن يتبين مدى النفع والضرر، تجنباً لضرر كبير قد حذر منه القرآن. يقول الله سبحانه: «وَأَنْفِقُوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِاَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ » (البقرة/195)

دال/ البينة في السلوك

إذا أردت أن تطعم، فعليك أن تنظر في طعامك قبل تناوله، حيث قال سبحانه: «فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ» (عبس/24)، وقال في قصة أصحاب الكهف: «فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» (الكهف/19) وكما في الطعام، كذلك في الشراب، وفي المنام، وفي كل حركة. ومن هنا قـال الامـام أميــر المؤمنين عليه السلام في وصيته لكميل: "يا كميل ما من حركة إلاّ وأنت محتاج فيها الى معرفـة ". ([128]) إن المؤمن حكيم في سلوكه، لأنه كيّس فطن، ينظر بنور الله، ويتدبر في حياته، ولا تتملكه الشهوات.

هاء/ البينة في الكلام

والمؤمن على بينة من كلامه، ويعلم أن القول من فعله، وأنه محاسب عليه كما هو محاسب على أفعاله. ولذلك جاء في الحديث عن الامام أمير المؤمنين عليه السلام: "لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه". ([129]) وبكلمة؛ المؤمن عقلائي التفكير، عقلائي السلوك، لا يخطو خطوة إلاّ بعد أن يتبين وجه عمله شرعاً وعقلاً.

بقية الله

من الناس من يصاب في بصيرته، فلا يرى إلاّ قدام رجليه؛ ومنهم من ينفذ ببصيرته في عمق الزمن، حتى يرمي ببصره الى أقصى مراحل حياته في الآخرة.

إن من كرامة الانسان تساميه عن لحظته الراهنة، واستشرافه الأفق الأقصى، كما إن من كرامته بلوغ بقية الله التي هي هدف المؤمن، لماذا؟ أولاً: لأنها خير عظيم، بينما اللذات العاجلة تنطوي عادة - على شر مستطير.

ثانياً: لأنها باقية، بينما الشهوات فانية.

ثالثاً: لأن ثوابها ليس مادياً فحسب، بل هو ثواب معنوي أيضاً.

1/ أهل مدين كانوا يطففون في المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض، فنهاهم النبي شعيب عليه السلام عن كل ذلك وذكرهم بأن بقية الله خير لهم. قال الله سبحانه: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ » (هود/86) فما هي بقية الله؟ هي الربح الذي يبقى بعد صفقة عادلة. فان في ذلك الربح بركة الله، لأنه ساهم في دورة اقتصادية سليمة.

أم هي كل خير يتوفر لهم إذا هم عملوا بوصايا النبي شعيب، والتي تلخصت في نهيه عن الفساد؟ أم هي أبعد من هذا وذاك، وهي ذات الرسالة التي هبطت عليهم، وهذا الرسول الذي حملها، فاذا هم استمعوا إليه وأطاعوه فإنه عليه السلام خير لهم؟ بلى؛ هذا المعنى الشامل أقرب الى لغة الذكر، التي تضرب الأمثال ببعض الحقائق المفصلّة، ثم تبين الكلمة الشاملة لها ولغيرها.

وهذا ما يشير إليه تأويل هذه الآية بالإمام الحجة المنتظر عليه السلام، حيث جاء في الحديث:

أول ما ينطق به القائم عليه السلام: أنا بقية الله وحجته وخليفته عليكم. فلا يسلّم عليه مسلّم إلاّ قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه. ([130]) ومن هنا نستفيد؛ إن علينا أن نبحث عن بقية الله، سواءً في المكاسب اليومية التي نجعلها من الحلال لا الحرام، أو في مجمل أنشطتنا نجعلها وفق الشريعة، أو في كافة أبعاد حياتنا.. ومنها التوجه الى الله سبحانه عبر الرسل والأئمة، وبالذات الإمام الحجة المنتظر عليه وعليهم السلام.

2/ كل نعم الله عليك وسائل الى رحمته. ففي الوقت الذي يمكنك أن تنتفع بالمال والبنين في الدنيا بقدر حاجتك وفي حدود أحكام الدين، في الوقت ذاته ينبغي أن نجعلها وسيلة التكامل الى الله. إذ الغنى نعم العون على الدين والدنيا. قال الله سبحانه: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً » (الكهف/46) 3/ وقال الله سبحانه: «إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» (طه/73) 4/ وقال الله سبحانه: «وَمَآ أُوتِيتُم مِن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (القصص/60) ونستفيد من الآية؛ ضرورة الاستفادة من كل نعمة إلهية في سبيل التقرب الى الله، وذلك بالاستفادة السليمة منها وبإيتاء حقها وبالاستعانة بها للاعمال الصالحة وما أشبه.

فقه الآيات

1/ إن الحق الذي يضمن الله ثباته، أبقى من الباطل الذي يحيطه غرور الانسان، وخداع الشيطان. لقد خلق الله السموات والأرض بالحق. فلذلك تخدم حركة الكون سلطة الحق، بينما الباطل يجري في عكس حركة الطبيعة والتاريخ.

فطرة الانسان حق، لأن القوانين النفسية والجسمية والاجتماعية السائدة على أبعاد حياة البشر، لا تتغير منذ خلق الله آدم وإلى الأبد. فإذا كانت فطرة الإنسان قائمة على أساس الوفاء بالعهد، فان المجتمع القائم على أساس شرف العهد يكون أبقى، وخير الله أكثر مما يحصل عليه بعض الأفراد بسبب الغدر والمكر.

2/ وإذا كانت سنة الحياة قائمة على أساس العدل، فان أداء الحقوق الى أصحابها وإصلاح ذات البين والاحسان والتعاون.. كل ذلك خير يبقى، بينما يزول المجتمع القائم على الفساد والتطفيف. من هنا فان بقية الله خير للمجتمع الانساني.

والسؤال ما هي بقية الله؟ إنها رضوانه وثوابه. والسؤال هو: كيف يمكن لقوم مثل قوم النبي شعيب عليه السلام الحصول على الباقيات الصالحات، إلا بترك الموبقات التي ذكرت في آيات الذكر، ثم العمل في سبيل الله باطعام المساكين، وأداء حقوق الفقراء، وبناء المساجد والمرابط، والانفاق من أجل بناء السدود والقنوات والطرق و.. و..، وكلما هو في سبيل الله. أليس كذلك؟ والعمل بكل ذلك يوجب إستمرار الحضارة في الازدهار للمستقبل، وعدم الاسراف في إستهلاك المكاسب الآن. وكل حضارة تقوم بالازدهار في بداية تكونها، ولكنها تتوقف عن الازدهار، ثم تبالغ في الاستهلاك، انها تنتهي وتزول. أما إذا إستمرت الحضارة في العمل للمستقبل، وفي إيجاد علاقة إيجابية وبنّاءة مع الناس ومع الطبيعة، فإنها سوف تبقى وتستمر. لذلك إعتبرنا هذا الأمر الإلهي الذي أظهره النبي شعيب عليه السلام ضماناً لاستمرار الحضارة. وتشير بعض الآيات القرآنية الأخرى الى هذه الحقيقة، مثل قوله سبحانه: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً» (الكهف/46) 3/ ولأن المؤمن بعيد المدى، يتطلع ابداً الى المستقبل دون أن ينسى نصيبه من الدنيا الحاضرة، فإنه يبقى في رحاب الزمن مع باقياته الصالحات.. بينما يموت غيره وتموت معه شخصيته. المؤمن يبقى في علمه الذي يورثه الناس، وفي سننه الحسنة التي يجري عليها الآخرون، فيكون له ثواب من أخذ من علمه وعمل بسنته الحسنة.

ويبقى المؤمن في أولاده الصالحين الذين رباهم ويترحم الناس عليه بسببهم. أوليس يكرم المرء في ولده؟.

ويبقى المؤمن في صدقاته الجارية التي ينتفع بها الناس. وهكذا جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله: "من سنَّ سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء". ([131]) وجاء في حديث آخر: "إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". ([132]) من هنا ينبغي للانسان أن يسعى ليخلف وراءه واحداً أو أكثر من أسباب ذكره، لأن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيراً أملاً.

ومن الباقيات الصالحات ذكر الله سبحانه بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وآله، بما قال لأصحابه ذات يوم: "أتدرون لو جمعتم ما عندكم من الآنية والمتاع أكنتم ترونه تبلغ السماء؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: ألا أدلكم على شيء أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: يقول أحدكم اذا فرغ من صلاته الفريضة: سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر ثلاثين مرة، فإن أصلهن في الأرض وفرعهن في السماء، وهن يدفعن الحرق والغرق والهدم والتردي في البئر وميتة السوء، وهن الباقيات الصالحات. ([133])

السبيل القويم

إن الله سبحانه على صراط مستقيم، وقد كتب على نفسه أن يبين لعباده الصراط المستقيم، وقد ضمن لعباده الصراط المستقيم، وهدى الانسان الى السبيل إمّا شاكراً أو كفوراً. وأنزل الكتاب هدى، ومن شاء الاستقامة فعليه الايمان بالكتاب، واتباع الرسول، والسير وراء من أناب. وعليه أن يتجنب إتباع الذين لا يعلمون، ورفض تقليد السادة والكبراء، والذين يصدون عن السبيل.

أولاً: الله يهدي السبيل

1/ الله سبحانه هو الحق، وصراطه مستقيم، وهو آخذ بناصية كل دابة (لكي لا تنحرف عن الصراط المستقيم المرسوم لها). قال الله سبحانه على لسان النبي هود عليه السلام: «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » (هود/56) وكذلك ربنا يجري ما في السموات والأرض من أجرام في أفلاكها، ويمسكها من أن تزول (أو أن تنحرف عن مساراتها المرسومة لها)، فعلينا أن نتوكل عليه.

2/ وقد كتب سبحانه على نفسه الرحمة، وبرحمته وقديم فضله بيّن السبيل القاصد، وهناك سبل منحرفة. وكما أنه لم يكره عباده على السير على الصراط المستقيم، لم يمنعهم من السبل الجائرة. قال الله سبحانه: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ» (النّحل/9) ونستفيد من الآية؛ إن الله قد كتب على نفسه بيان السبيل القاصد (والصراط المستقيم)، ولكنه لا يكره الناس عليه.

3/ وقد فعل تبارك وتعالى ما كتب على نفسه، فهدى الانسان السبيل، فتراه إمّا شاكراً لنعمة الهدى متبعاً مطيعاً، وإمّا كفوراً بهذه النعمة الكبرى، وقد أساء الاختيار فاستحب العمى على الهدى. قال الله سبحانه: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (الإِنسان/3) 4/ والصراط المستقيم الذي هدى رسله إليه وبيّن آياته في كتابه، صراط قد ضمنه سبحانه. فهو لا يخطئ، ولا يضل. قال الله سبحانه: «قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ » (الحجرِ/41) ونستهدي بالآية إلى أن الله لا يدع أئمة الكفر وأشياع الضلالة أن يحرفوا صراط الله المستقيم، أو يطمسوا كل معالمه، حيث قال الله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُـونَ » (الحجرِ/9) وقال تعالى: «إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلّى الصَّالِحِينَ » (الاعراف/196) فمن توكل على الله فإن الله هو وليه، لأنه نزل الكتاب، ولأنه سبحانه يتولى الصالحين.

ثانياً: سبل السلام

في العالم المخلوق سبل السلام التي تهدينا الى الغايات المشروعة، وهي محفوفة بأخطار الضلالة. من هنا وجب علينا الاهتداء إليها باتباع رضوان الله، والجهاد في الله.

1/ ماهي سبل السلام؟ إنها -حسبما يبدو- شرائع الله التي لو سرنا عليها بلغنا أهدافنا بيسر، ومن دون أخطار. ومثالها سبيل النكاح الشرعي من سبل السلام، بينما الزنا ساء سبيلاً. فمن مشى على سبيل السلام (النكاح)، أمن خطر العقد النفسية والتفكك الأسري وشياع الأمراض.. بينما الذي اختار الفاحشة إبتلي بالمقت ولم يأمن الأخطار. قال الله سبحانه: «وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً » (الاسراء/32) ومثل الفاحشة نكاح أزواج الآباء، إنه مقت وساء سبيلاً.

ومثل الزنا الربا، فإنه سبيل جائر الى الربح، وأن الله سبحانه يمحقه.

وهكذا سائر السبل الجائرة، بينما سبل السلام هي التي هدى الله عباده الصالحين إليها عبر شرائع أحكامه. وكذلك بما أهداهم اليه من الحكمة. قال الله سبحانه: «يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » (المائدة/16) ومن هذه الآية نفقه أن هناك سبل السلام التي تتمثل في طرق بلوغ الأهداف، ولعل تلك السبل هي التي أوصى الله بها الى النحل، فقال سبحانه لها: «ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّـمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاًَ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل/69) 2/ ليس إلى الله إلاّ صراط واحد يتمثل في كتاب الله ورسوله. قال الله سبحانه: «وَأَنَّ هَــذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاتَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » (الانعام/153) صراط الله المستقيم هو الذي أشار إليه ربنا بقوله: «وَأَنَّ هَذَا »، وسنتلو في الآيات التالية إن شاء الله معالم هذا الصراط. أما السبل المتفرقة التي تضل البشر عن صراط الله، فهي سبل الأهواء والأحزاب والحميات والآلهة المتعددة والأنداد وسائر الظلمات. فلا يمكن لأحد الوصول الى الله عبر هواه أو عبادة الآلهة المزيفة أو إتباع الحميات، إنما عبر رسالته التي ضمن سبحانه لمن تمسك بها الاهتداء اليه، وهي الصراط المستقيم الذي هدى اليه عباده الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

3/ وقال الله سبحانه: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » (العنكبوت/69) نستوحي من الآية، إن الذين جاهدوا في الله يهديهم سبله، مما يدعونا الى عدم التوقف عن الجهاد بحجة أننا لا نعرف سبل العمل.

4/ ونستفيد من آية كريمة؛ إن التوكل والصبر هما شكر نعمة الهداية الى السبل. قال الله سبحانه: «وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» (ابراهيم/12)

ثالثاً: عبادة الله واتباع رسول الله

كيف نهتدي الى سبيل الله؟ إنما بعبادة الله، واتباع رسول الله، والعمل بكتابه.

1/ كانت دعوة الرسل جميعاً عليهم سلام الله، وفيما بينهم النبي عيسى بن مريم عليه السلام، خالصة لله وحده، ولم تكن فيها شائبة الدعوة إلى أنفسهم أو قومهم، أو إلى أوطانهم، أو إلى غيرها. وكانت تلك حجة بالغة على صدقهم، لأنهم كانوا قبل غيرهم- يعبدون ربهم ويتبعون ما أمر به -. قال الله سبحانه (عن لسانه): «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ » (آل عمران/51)

/ 29