تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده جلد 9

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تشریع الاسلامی، مناهجه و مقاصده - جلد 9

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



ج- هناك حدود بيّنها الشرع للعقود، بعضها يتصل بأهلية المتعاقدين؛ كأن لا يكون سفيهاً أو مكرهاً، وبعضها يتصل بالعقد ذاته؛ كأن لا يكون ربوياً، وبعضها يرتبط بمحل العقد؛ كأن لا يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير. وهذه الحدود بيّنها القرآن، وفُصلت في السنة، وشرحها الفقهاء وسوف نشير اليها إن شاء الله.

ثالثاً: حدود الله في العقود

تنقسم الحدود الشرعية في العقود الى نوعين :

ألف: ما يرتبط بمظهر العقد.

باء: ما يتصل بجوهر العقد.

ألف: مظهر العقد

الهدف الأساس من هذا الحد ضبط العقد من الارتياب لقطع مادة الصراع، وتوفير النظام للعلاقات الاقتصادية، وقد أشارت الآيات الى بعض الشروط، بينما اضافت السنة شروطاً أخرى..

1/ ذكّرت آية هي الأكثر تفصيلاً في القرآن الكريم بجملة أحكام في الدين، يمكن أن نستوحي منها عموم الاشتراط للمعاملات المؤجلة، وهي باختصار:

أ- الكتابة؛ والتي يكتبها كاتب بالعدل، باملاء الذي عليه الحق (المدين).

ب- الشهادة باثنين من الرجال، فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، شهادة من يرضى الناس بشهادتهم.

قال الله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوْا إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ إِلَى اَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْـيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَو لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ اِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ اِحْدَاهُمَا الاُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى اَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ اَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وإِنْ تَفْعَلُوْا فإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُم وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة/282) ونستفيد من هذه الآية المباركة عدة بصائر:

أ- ينبغي أن يكون الدَين الى أجل مسمى.

ب- ينبغي كتابة الدَين، وأن يكون الكاتب كاتباً بالعدل.

ج- عليه أن يكتب كما علّمه الله، فلا يخون في كتابته.

د- أن يكون الذي عليه الحق (وهو الذي تكون الكتابة شهادة عليه) هو الذي يُملل عليه، فيكون إعترافاً منه بالحق الذي عليه.

هـ- وعند فقد أهلية الذي عليه الحق، فعلى وليه أن يقوم بدوره.

و- ينبغي الشهادة على الدَين.

ز- إن الرجل الواحد وامرأتان يقومون جميعاً مقام الشاهدَين.

ح- إن الشهادة يجب أن تكون ممن يرضى به الناس، (كأن يكون الشاهد عادلاً).

ط- لا يجوز للشهداء الامتناع عن الشهادة بالحق.

ي- ينبغي أن تشمل كتابة الديون اليسيرة أو الكبيرة.

ك- الهدف من كل هذه الأحكام، إقامة القسط، وضبط الشهادة، وعدم الارتياب. ويبدو أن هذه الحكمة سارية في كثير من العقود، حيث ينبغي أن تحقق القسط (كما بيّنا سابقاً)، وتمنع الريب، (وتحسم الخلاف بين الناس).

ل- لا يجوز الاضرار بالشاهد أو بالكاتب، (بل ينبغي إعطاءهما حصانة كافية لأداء واجبهما).

وهذه البصائر الهامة يمكن أن تصبح قاعدة لضبط العقود جميعاً، كلّما إحتجنا الى ضبطها بسبب وجود أجل لها أو لسبب آخر.

2/ وكذلك جعل الله الشهادة بالوصية عند الموت بعيداً عن الوطن، جعلها في اثنين عادلين. قال الله تعالى: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَاَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا َنَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّآ إِذاً لَمِنَ الاَثِمِينَ » (المائدة/106) ومعلوم أن الشهادة بالوصية كما الشهادة بالدَين، تمنع ضياع الحق وتساهم في تحقيق القسط.

3/ وأمر الله سبحانه الإستشهاد على اليتامى إذا بلغوا مرحلة الرشد، وذلك عند دفع أموالهم إليهم. قال الله سبحانه: «وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيَّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً» (النساء/6) وهذه الشهادة ضرورية لمنع الإختلاف، ولإقامة القسط بين الناس.

وهكذا ينبغي ضبط العقود بحيث يقيم القسط ويمنع الارتياب، وهذا يتصل بمظهر العقد (مثل صيغته والشهادة عليه وكتابته).

باء: جوهر العقد

وتنقسم الشروط فيه الى:

أ- ما يتصل بطبيعة العقد (حرمة الربا).

ب- ما يتصل بالمتعاقدين (أهلية المتعاقدين).

ج- ما يتصل بمحل العقد (شروط البضاعة).

د- شروط متفرقة.

أما عن طبيعة العقد فأهم ما فيه حرمة الربا والغش والغبن والغرر.

أ - حرمة الربا

لقد حرّم الله الربا في أموال الناس، وذلك مما يتصل بطبيعة العقد (والهدف منه)، وفيه ظلم وفساد، فما الربا؟ 1/ يبدو أن الربا هو الانتفاخ والتورم (وعلو سطح الشيء عما يوازيه). قال الله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الاَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الاَرْضَ هَامِدَةً فإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (الحج/5) 2/ ومنه التربية (حيث انها تحقيق الزيادة الجسمانية، وربما المعنوية ايضاً). قال الله سبحانـه: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً » (الاسراء/24) 3/ وهكذا حرّم الله الربا (الزيادة) في أموال الناس، فقال تعالى :« وَمَآ ءَاتَيْتُم مِن رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ وَمآ ءَاتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُـمُ الْمُضْعِفُــونَ» (الروم/39) 4/ وقد ذمّ القرآن الذين يأكلون الربا بأنهم لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ. (فهم قد سمحوا للشيطان أن يعيث فساداً في أفئدتهم، فإذا قاموا ترنحوا ومالوا يمنةً ويساراً بسبب فقدهم توازنهم، وضلالهم عن هدى عقولهم، وذلك دليل تأثير الربا في قلة العقل والوجدان). وسبب ذلك أنهم قاسوا البيع بالربا، وهذا القياس فاسد حيث إن الله أحل البيع (لما فيه من تبادل المنافع) وحرّم الربا (لما فيه من الفساد). قال الله سبحانه: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ اِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَـا فَمَـن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَاُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة/275) 5/ والله يمحق الربا، (لأن الربا يعطّل طاقات المرابين الذين يعيشون على جهد الكادحين، وقد يكلّف الكادحين أكثر من طاقاتهم فيفسد الإقتصاد). وبالعكس الصدقات، (حيث تنشر الثروة، وتزيد من تدوير الثروة، وتنشط الإقتصاد). وهكذا يربي ربنا الصدقات. يقول ربنا سبحانه: «يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيـمٍ» (البقرة/276) 6/ وقد نهى الله عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، (لأن من طبيعة الربا مضاعفة الثروة وجعلها دولة بين الأغنياء). قال الله سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي اُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ» (آل عمران/ 130-131) وبالاضافة الى حرمة العقد الربوي، هناك عقود نهى الشرع عنها؛ مثل بيع الضرر، وبيع الصرف من دون التقابض في المجلس، وما أشبه.. وسوف نشير إليها في البحوث الفقهية الآتية انشاء الله، لأنها قد ذكرت في السنة الشريفة.

ب - أهلية المتعاقدين

وهناك شروط تتصل بطرفي العقد، أهمها العقل والرضا (حرية المتعاقدين في إتخاذ القرار). ومن هنا فإن عقد الطفل والسفيه والمكره لا يعبأ به.

1/ لقد إشترط القرآن الرشد بعد البلوغ قبل دفع أموال اليتامى اليهم، مما نعرف شرط البلوغ والعقل (الرشد) في صحة التصرفات المالية. قال الله سبحانه: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» (النساء/5) 2/ ونهى القرآن عن إطلاق يد السفهاء في التصرف في الأموال، (لأنهم يفسدون النظام الاجتماعي القائم على الاقتصاد). قال الله سبحانه: «وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» (النساء/5) 3/ وقد إشترط القرآن في التجارة التراضي، وعند الإكراه في طرف ينتفي هذا الشرط، (إذ يبقى أحد الطرفين راضياً دون الآخر). قال الله سبحانه: « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء/29) 4/ وقد رفع الدين المسؤولية عن المكره، حتى ولو كان محل الإكراه التلفظ بالكفر. قال الله سبحانه: «مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (النحل/106) 5/ وحرّم القرآن أن يرث أحد امرأته بالكره، فقال الله سبحانــه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلآَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَـةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (النساء/19) وهكذا يفقد الإكراه شرعية العقد، كما يفقده السفيه والصبي والمجنون ومن أشبه.

ج - شروط البضاعة

ولا بد أن تتوافر في البضاعة التي يجري عليها العقد شروط معينة منها؛ المالية، والحلية، والاطلاق، والملكية. وفيما يلي نشير اليها وندع التفصيل للبحث الفقهي انشاء الله تعالى.

1/ إذا لم تكن للبضاعة مالية كالطير في الهواء، والسمك في البحر، فإن العقد لا يجري عليه، ويكون من أكل المال بالباطل، حيث يقول سبحانه: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء/29) ويشمل أكل المال بالباطل التعامل على ما لا يملكه العاقد مثل الغصب، ومن مصاديقه الإدلاء الى الحكام.

2/ ومن مصاديق إنعدام المالية بيع الحرام وما لا ينفع، حيث قال الله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ اُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ِلإِثْمٍ فإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (المائدة/3) 3/ كذلك لا يجوز العقد على الخبائث. قال الله سبحانه: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَـنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُــوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي اُنْزِلَ مَعَهُ اُوْلَئِكَ هُـمُ الْمُفْلِحُـــونَ» (الاعراف/157) 4/ وكذلك لا يجوز التعامل على الخمر والميسر، لأن إثمهما أكبر من نفعهما، حيث يقول ربنا سبحانه: «يَسْاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا وَيَسْاَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» (البقرة/219) 5/ وكذلك لا يجوز التعامل على الاصنام، حيث يقول ربنا تعالى: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (المائدة/90) 6/ وهكذا لا يجوز صيد الحرم، حيث يقول ربنا سبحانه: «يآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ» (المائدة/1) 7/ وكذلك لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان، والذي أحد مصاديقه بيع السلاح لأعداء الله، حيث قال سبحانه: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (المائدة/2)

د - شروط متفرقة

ولبعض العقود شروط خاصة تتصل إما بطبيعتها أو بمصالح عامة في محلها؛ مثلاً اشترطت السنة الشريفة عدم الغرر في البيع، واشترطت آيات الذكر جملة شروط في النكاح والطلاق، رعاية لمصلحة الأسرة؛ مثل عدم النكاح في العدة، والإشهاد في الطلاق. وهكذا تجد بعض الشرائط في بيع الصرف تجنباً للربا، وندع الحديث عنها الى مواضعها الخاصة.

تأملات في آيات العقود

منظومة القيم الرشيدة التي تفيض من كلمة الصدق، هي قاعدة العلاقات السليمة في المجتمع الإيماني، ومن دونها لا تغني الأحكام والأنظمة، لأن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً. ومن هنا جاء في الحديث عن الامام الصادق عليه السلام: "الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع من أهلها". ([4]) ولكن التقوى ومنظومة قيمها قد لا تكفي هي الأخرى عن الأَيمان والبينات وعن الأحكام الفقهية التي سنها الشارع لتنظيم العلاقات التجارية. ومن هنا وجدنا في آية الدَين كيف أمر الله بالإشهاد والكتابة كما أمر سبحانه بالتقوى.

ولأن الحياة متغيرة، ولأن حاجات البشر الاقتصادية متطورة، فقد يجد الفقهاء العارفون بأصول التشريع الحاجة الماسة الى سن أنظمة جديدة لإقامة القسط ومنع الإختلاف؛ مثلاً التوقيع وبصم الأصابع ولصق الصور وحفظ الوثائق وتكثيرها، وسائر ما يستخدم اليوم للاثبات من أدلة قد تصبح ضرورية في العقود الهامة، منعاً للتلاعب ونشراً للعدالة.

وانما يضع الفقهاء شروطاً جديدة للمعاملات إذا علموا أو شهد الجزاء بضرورتها الأكيدة، وبأنه لولاها لانتشرت الفوضى ولفسدت الحياة الاجتماعية، وإلاّ فإن زيادة الأنظمة قد تكون سبباً لتعقيد الحياة وزيادة التكاليف، مما يتنافى والشريعة السمحاء.

كما أن على الفقهاء بذل المزيد من الجهد في سبيل استجلاء المصاديق الخفية للعناوين الشرعية وتطبيق العناوين عليها، ذلك لأن بعض هذه المصاديق يصعب تطبيق التعاريف الفقهية للعقود الشائعة عليها؛ مثل حق الخلو، وعقود التأمين، وبعض المعاملات البنكية.

وفيما يلي نبحث بإذن الله فقه الآيات حسب الترتيب الآنف، على أن نلحق بالبحث بعض القضايا التي لا تدخل في الأطر السابقة، ونبدأ بالتأمل في آية التجارة عن تراض التي يبدو لي أنها أصل محكم في باب العقود، ولذلك ترانا نفصل الحديث عنها ثم نتحدث عن آية الوفاء بالعقود. ألف: التجارة عن تراض قال الله سبحانه وتعالى: « يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء/29)؛ التراضي يختلف عن الرضا المشترك، فكل واحد منا راضي بأن يكون اليوم جمعة، ولكن لا يرتبط رضا أحدنا بالآخر في هذا الأمر. بينما التراضي هو إبتناء رضا طرف على رضا الطرف الآخر، وهو الذي يسميه فقه القانون بالتباني. فلولا رضاي بدفع الثمن، لا يرضى البائع بدفع البضاعة إليَّ، وإنما رضي باعطاء البضاعة بناء على رضاي بدفع الثمن إليه.

وهذا هو أحد معاني العقد؛ فانعقاد رضاي برضاه وتباني إرادتي على إرادته، هو المعنى الشائع لكلمة العقد في الفقه. والذي يختلف عن معنى الايقاع، وهو الالتزام من طرف واحد، كابراء ذمة احد من الدَين الذي عليه، فقد يتم حتى من دون علمه بذلك.

وللتراضي أو العقد أركان نفصل القول فيها بالرغم من وضوحها، وذلك لكي نرتب عليها جملة أحكام شرعية.

حقائق عن التراض

وللتراضي حقائق؛ أولاً: عقد العزم والإرادة. ثانياً: توافق الإرادتين. ثالثاً: الباعث وأثره.

أولاً: عقد العزم

وجود إرادة جازمة عند كل طرف بالالتزام بأثر التجارة التي يتراضون بها، فلو كانت إرادة طرف ناقصة لسبب أو آخر، فلا تراضي ولا عقد. مثال ذلك؛ لو كانت لديك رغبة في شراء بضاعة ولكنك لم ترتفع في رغبتك الى حد العزم والقرار، فإن ذلك لن يكون شراء.

مثلاً؛ لو تحدث الرجل الى إمرأة بأنه يريدها، فان ذلك لا يعتبر عقد نكاح. بلى؛ لو قررا ذلك، فان الإرادة قد تمت. من هنا فرّق القرآن بين مذاكرة الزواج وبين عقده، فقال الله سبحانه: «وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلآَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُـواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» (البقرة/235) وهناك أمثلة أخرى للإرادة الناقصة سوف نستعرضها بايجاز.

1- عدم إكتمال الإرادة، مثل إبداء الرغبة أو طرح الاعلان أو تعليق الإرادة على شيء لا يعلم وقوعه، كما قال أحدهم: لو جاء إبني فأنا أبيعك بيتي. فهذا أشبه شيء بالوعد منه بالعزم.. ولعل إشتراط التنجيز في الإرادة من قبل الفقهاء يرتبط بأنه من دونه لا تكتمل الإرادة.

2- إرادة المجنون والصبي غير المميز والهازل وما أشبه.

3- إرادة المخطئ الذي أراد شيئاً فغلط وقال شيئاً آخر مثلاً- فان إرادته بالنسبة الى ما قاله غير مكتملة. وقد إشتهرت كلمة عند الفقهاء: ما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع.

4- إرادة المكره الذي باع تحت طائلة التهديد..

عموماً؛ يجب أن يكون هناك عزم على الإلتزام بالعقد حتى يُسمى عقداً. من هنا فإن العاهرة التي تنطق بألفاظ النكاح دون قناعة منها به، ولا عزم منها على ترتيب أثر عليه، إنها لا تعزم عقدة النكاح، فكلامها لا أثر عليه. بلى؛ إذا كانت عند العقد جدية ثم خدعها ابليس، فالأمر مختلف.

ومثل ذلك العقد الصوري أو الطلاق الصوري الذي يجريه البعض من أجل مزايا قانونية في بعض البلاد.

5- الفاقد عزمه بسبب غضب قاهر أو لنوم غالب أو سكر أو مخدّر أو ما أشبه، فإن كلام هؤلاء لا يعبِّر عن إرادتهم.

6- ولعل بعض مراتب الإلجاء والإضطرار مثل ذلك، كمن بلغ به العطش درجة إنشغل به عن مقدار الثمن الذي يدفعه لشربة ماء، أو كان في حالة خوف شديد، مثل الذي صدمته السيارة فيخشى الوفاة فيقبل بكل عرض يطرح عليه لنجاته أو ما أشبه. ومن ذلك العقود التي تجري في حالات الطوارئ (زلزال، قحط، إجتياح العدو و.. و..) ويبدو لي أن الخلل الذي يصيب الإرادة بسبب هذا الضعف، إنما يفسد البيع أو يعرضه للتزلزل، (وإمكانية الخيار في واحد من المواقع التالية:

أ- إذا كانت الإرادة غير تامة، بل كانت النفس مشغولة عن العقد بأمر آخر، وفي ذلك يقول بعض فقهاء القانون.

ب- إذا رجع الى السفه، كأن يدفع شاب نزق كل أمواله لمضاجعة فتاة جميلة، أو يسجّل شيخ كبير كل أمواله لحساب زوجته الشابة التي استغلت حبه لها، لحرمان أولاده من الإرث أو ما أشبه.

ج- إذا كانت المعاملة سبباً لضرر بالغ، فجعله في دائرة منع الضرر، حيث يشمله نص: "لا ضرر ولا ضرار".

وفي ذلك يقول بعضهم وهو يبين الشرط الموضوعي للاستغلال: وهو (إختلال التعادل أو انعدام المقابل) أن تكون إلتزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد.

وقد استدل العلامة النجفي بحديث لا ضرر على خيار الغبن، وإنما لم يبطل العقد، بل عرّضه للتزلزل بسبب الجمع بين الحقين، كما إستشهد على هذا الخيار بالإجماع وبالحديث: غبن المسترسل سحت، وحديث: غبن المؤمن حرام، وحديث: لا يغبن المسترسل فـإن غبنـه لا يحــل. ([5]) والواقع إن الغبن يختلف عن الإستغلال، إذ إنه يتصل به بمحل العقد (الخلل في تعادل الثمن والمثمن)، بينما الإستغلال يرتبط بإرادة المتعاقد. والبحث بحاجة الى مزيد من الدراسة.

ثانياً: توافق الإرادتين

للعقد أركان هي التي لولاها لم يقدم أحدهما أو كلاهما عليه، وله أجزاء وشرائط لا تعتبر أساسية في نظر المتعاقدين.. فالثمن والمثمن وطبيعة العقد الذي عليهما أنه بيع أو صلح أو إيجار أو ما أشبه، هذه عادة من أركان العقد. وقد يصبح نوع الثمن أو المثمن ومكان تسليمهما أو صفاتهما من أركان العقد، إذا كان محور تراضيهما الذي من دونه لم يتباينا عليه. والمعيار في ذلك، أن يتم التراضي والتوافق بينهما. فلو إختل هذا التراضي، فقد العقد جوهره. وإليك بعض حقائق هذا المعيار.

1/ إذا كان العزم موجوداً في أحد الطرفين دون الآخر، لم تنعقد المعاملة، كما إذا تم الايجاب ولم يتم القبول.

2/ إذا كان محور العقد ليس واحداً عند الطرفين؛ فكان أحدهما يقصد البيع، بينما الثاني يقصد التبرع، أو كان أحدهما يبيع البيت والثاني يشتري السيارة. وهذا يدخل ضمن الغلط في العقد، والذي ينقسم الى ثلاثة أنواع:

أ- ما كان يفقد أصل التراضي (أو قل التباني والتوافق) كالمثلين السابقين، فالعقد لم يتحقق. وكذلك لو تزوج بإمرأة فإذاً هي ذات بعل، فلا يتحقق النكاح.

ب- إذا كان التوافق موجوداً بنسبة معينة، فإنه قد يصحح العقد بالإجازة؛ كما إذا إشترى سيارة باعتبارها من طراز معين، فإذا هي من طراز آخر، فان للمتضرر حق فسخ البيع، وله الحق في إمضائه. والمعيار هو الخلل في إرادة أحد الطرفين، خللاً غير جوهري.

ج- إذا كانت هناك صفة باعثة لطرف على إجراء العقد، ولكنها لم تكن ضمن التراضي؛ مثلاً إشترى أرضاً بزعم أن الدولة سوف تفتح شارعاً عليها، ثم تبين غير ذلك، فإن ذلك لا يوجب بطلان العقد ولا جواز فسخه. والمعيار في مثل هذا الغلط غير المضر بالعقد أنه لا يشكِّل أيّ خلل في توافق المتعاقدين، وإنما في أمور خارجة عنه.

3/ إذا تأخر القبول عن الإيجاب صح العقد، ولكن إذا سحب الموجب إيجابه قبل قبول الطرف الثاني فقد التراضي، وهكذا بطل العقد.

4/ لأن محور العقد توافق الطرفين، فان العرف الخاص مقدم في مقام الثبوت على العرف العام، وعرف البلد على عرف القطر، وعرف الدولة على العرف الدولي. وذلك لأن المعيار في العقد تراضي المتعاقدين، ولأن رضاهما ينطلق من عرفهما، فهو مقدم. وكلما كان العرف أقرب اليها كان أولى عندهما؛ مثلاً إذا كان كيل السوق الذي يتعامل فيها المتعاقدان يختلف عن كيل البلد أو ميزان البلد يختلف عن ميزان الدولة، فإن كيل السوق أو البلد مقدمان، وهكذا في النقد وفي شرائط البيع، وصفات المبيع وما أشبه..

5/ لأن المعيار هو التراضي، والرضا أمر قلبي، فان معيار العقد هو الرضا الواقعي، وليس ما يجري على اللسان. فإذا إختلف فقال بلسانه شيئاً وقصد بقلبه شيئاً آخر (بالخطأ)، فإن الرضا القلبي إذا عرف يقيناً هو الأصل، لأن التراضي وقع عليه.

وفي هذا الحقل تختلف المدارس القانونية الى ثلاثة؛ فالمدرسة اللاتينية أو الفرنسية تأخذ بالإرادة الحقيقية أو الباطنية ولا تعول على التعبير، أما المدرسة الألمانية فتقف عند المظهر الخارجي فقط فتعتد بالإرادة الظاهرة، وذلك لأن العقد عندها- ظاهرة إجتماعية ولا بد من حمايتها من التزلزل. أما القانون المصري فإنه يتوسط بين المدرستين، فهو يأخذ بالإرادة المعلنة وهي أساساً الإرادة الباطنة بالقدر الذي تكون فيه قد أعلنت للناس. ([6]) ويبدو أن الصحيح هو الأخذ في مقام الثبوت بالإرادة الباطنة، وفي مقام الاثبات بالإرادة الظاهرة. وهذا ما بيّناه في كتابنا الفقه الاسلامي. ([7]) ومن هنا قال العلامة النجفي في الجواهر تعليقاً على كلام بعضهم في تقديم عرف الشرع على عرف المتعاقدين، قال: وهو من غرائب الكلام إذا أراد تقديم العرف الشرعي على العرف الخاص للمتعاقدين، ضرورة تبعية عقدهما لقصدهما. ([8]) ويبدو أنه أشار بهذا التعبير- الى الكلمة المعروفة عند الفقهاء "العقود تابعة للقصود" ويساويها الكلمة المعروفة عند فقهاء القانون: العقد شريعة المتعاقدين.

6/ ومن مصاديق هذا المعيار (معيار التراضي) حكم الاشتباه في التطبيق. فمن أقدم على نكاح فتاة حسب أحكام الشرع ورأي العرف العام وكان جاهلاً بالشرع والعرف، فصرّح بشرط زعم أنه من العرف أو الشرع، فإن الصحيح رضاه الواقعي الذي بنى عليه عقده، وهو حكم الشرع ورأي العرف؛ مثلاً عقد على أساس أن المهر الغائب ليس واجباً عليه شرعاً وإنما هو نوع من التشريفات الظاهرية، أو زعم إن تكاليف الوليمة على أهل المرأة عرفاً، بينما الصحيح هو أن المهر لازم سواءً كان غائباً أو حاضراً، وإن تكاليف الوليمة عند العرف على الزوج. فلو سألنا الرجل هل كان قصدك من عدم وجوب المهر الغائب أنك تخالف ما يوجبه الشرع؟ قال: كلا؛ وكذلك نفى أن يكون مخالفاً لما يجري عليه العرف. ففي مثل هذه الحالة، المعيار هو رضاه الواقعي المطابق للشرع والعرف، وليس خطأه في التطبيق. ([9]) 7/ ومن حقائق هذا المعيار (التراضي) تمييز الركن الأساسي في العقد عن غيره؛ وبتعبير آخر معرفة سلم الأولويات عند المتعاقدين، إذ يختلف الناس في أولوياتهم. فلو إشترى أحدهم كتاباً بزعم أنه بخط مؤلفه بينما كان بخط غيره، فإن هدفه الأساسي من شراء الكتاب مثلاً تحقيق الكتاب والذي لا يمكن إلاّ أن يكون بخط مؤلفه، فإن العقد يصبح باطلاً، لأن ما اشترطه كان أساسياً عنده. أما لو لم يكن ذلك مهماً عنده، فالأمر مختلف.

وهكذا التوافق هو أساس العقد، وجوهره الرضا، ورضا الناس مختلف. ولعل هذا المعيار ينفعنا في معرفة مدى تأثير الشرط الفاسد في إفساد العقد. فإن كان الشرط جوهرياً عند المتعاقدين، أفسد العقد وإلاّ فلا؛ فمثلاً لو كان هدف دكتور في الطب أن يتزوج دكتورة لتساعده في إدارة مستشفى، فاقدم على إمرأة واشترط أن تكون طبيبة، فلما عقد عليها عرف أنها ليست كذلك، فإن الشرط هنا عنده أساسي، حيث إنه لم يقدم عليها إلاّ لذلك. فاذا افترضنا فساد شرطه كأن اشترط أن تكون المرأة راقصة وأرادها لإدارة مرقص أو بار، وكان ذلك فقط هدف العقد، فان فساد الشرط مبطل للعقد.

ومن هنا قال الشيخ الأنصاري (ره): إن القيود المأخوذة في المطلوبات العرفية والشرعية (قسمان: ركن وغير ركن) ما هو ركن المطلوب ككون المبيع حيواناً ناطقاً (أي انساناً) لا ناهقاً حماراً. ومطلوب الشارع كالغسل من أجل الزيارة، فإن العرف يحكم في هذه الأمثلة بانتفاء المطلوب لانتفاء هذه القيود. ([10]) 8/ ومن مصاديق هذا المعيار وجوب الوفاء بالشروط الضمنية التي بني العقد عليها، وتم التراضي على أساسهما؛ مثل أن ينكح فتاة في بيت أبيها، فالشرط الضمني أن تكون باكرة؛ أو يبيع شيئاً، فالشرط الضمني أن يكون بكيل البلد ونقده وأعراف الشراء فيه، وهكذا..

والسبب في وجوب الوفاء بمثل هذه الشروط، إن أصل العقد التراضي، وهذه الشروط من حدوده..

ثالثاً: الباعث وأثره في العقد

الباعث من مصاديق معيارية التوافق، ولأنه قد اختلفت الآراء فيه، نرجو أن نوفق هنا لاستجلاء الرؤية فيه، مستلهمين ذلك من آية التراضي، ومن أحاديث خاصة فيه.

والسؤال الذي نريد الاجابة عنه هنا هو: الى أي مدى تؤثر نية المتعاقدين خصوصـاً السيئـة - في العقد؟ فلو نوى شخص شراء بيت للدعارة، وعلم البائع بذلك وباعه، فهل يفسد بيعه أم لا، أم يختلف الأمر؟ والإجابة التي تبدو عندي صحيحة عن هذا السؤال هي: لو كان تراضي الطرفين مبتنياً على هذه النية، فسد العقد وإلاّ فلا.. ولكن كيف توصلنا الى هذه الاجابة؟ نعرف ذلك عبر نقاط:

1/ الباعث (النية) نوعان؛ مباشر وغير مباشر. والذي كان يهتم به الفقه التقليدي للقانون هو الأول، بينما بدء الفقه الجديد يهتم أيضاً بالثاني. وكمثل كل متعاقد يهدف من وراء العقد الحصول على الثمن أو المثمن، وهذا هو المهم الذي يتم التراضي عليه، والذي يؤثر في العقد في الفقه التقليدي. أما ماذا يريد أن يصنع البائع بالثمن (مثلاً يشتري خمراً) أو المشتري بالمثمن (مثلاً يضرّ به الناس) فهو غير مهم عندهم، بينما يهتم الفقه الجديد ببعض الحالات التي سوف نبين إن شاء الله تفصيلاً لها.

2/ في إحدى حالتين يهتم الفقه الجديد للقانون بالباعث؛ الأولى: إذا كانت ضمن دائرة التراضي، حيث إن المسافر يشتري البطاقة لكي يسافر بها، فالسفر هنا باعث الشراء وهو داخل عادة - في دائرة التعاقد (التراضي). الثانية: إذا كان الباعث غير مشروع وعلم به الطرف الثاني، مما جعله متواطئاً معه؛ مثلاً من باع سلاحاً لعصابة إجرامية وعرف قصدهم منه، فإنه يعد متعاوناً معهم في جرائمهم. ([11]) 3/ أما في الفقه الاسلامي فقد إختلف العلماء في مدى تأثير القصد؛ فقد أفتى البعض في حرمة وفساد العقد الذي قصد منه البائع وجهاً محرماً، كبيع العنب ليصنع خمراً، والخشب ليصنع صنماً، والحديد ليصنع سلاحاً للقتل الحرام، وكذا إجارة المساكن والسفن لغايات محرمة. ([12]) وحملوا عليه الأحاديث التي وردت في حرمة مثل هذه العقود، كالحديث المأثور عن الامام الصادق عن الرجل يؤجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال: حرام أجرته. ([13]) وما ورد في مكاتبة ابن اذينة عن الامام الصادق عليه السلام أيضاً: عن رجل لـه خشب فباعه لمن يتخذه صلباناً؟ قال: لا. ([14]) وهكذا قال العلامة (ره) في كتابه "التذكرة": إجارة السفن والمساكن للمحرمات حرام. والسؤال: هل الحرمة تعني هنا فساد العقد؟ ذهب البعض الى ذلك، إلاّ أن العلامة النجفي قال في كتابه الجواهر: لم نتحققه قولاً لأحد من الأصحاب ممن تقدمه، وإنما هو محكي عن الشافعي وأبي ضيفة ولاريب في ضعفه.

وقال المحقق الخراساني: إن الصحة والفساد، والحلية والحرمة دائران مدار قصد المحلل والمحـرم. ([15]) 4/ والذي يبدو لي أن الحرمة والفساد في العقد يبتنيان على مدى تأثير الباعث (القصد) في تراضي الطرفين، فان كان كذلك فهو بمثابة شرط فاسد، ويصدق على ذلك التعاون على الإثم والعدوان؛ ومثال ذلك أن يشتري أحد بيتاً لكي يجعله ميتماً فيبيعه البائع بثمن زهيد، فإن قصد المشتري مثل الشرط، فلولا أن البائع عرف قصد المشتري لما باعه. وكذلك لو إشترى أحدهم قطعة من ارض كبيرة لكي يبني فيها مستشفى مما يرفع قيمة القطع المجاورة لها فيخفض البائـع السعر.

وكذلك لو علم البائع أن المشتري سوف يصنع الخمر من عنبه فباعه بسعر أغلى، أو إن الدار التي يبيعها ستتحول الى بيت دعارة، فيبيعها بأغلى. وبالتالي في مثل هذه الموارد يدخل الباعث ضمن دائرة التراضي، فيصبح جزءً من العقد، فاذا كان محرماً أفسد العقد.

وعلى ذلك نحمل أحاديث النهي عن بيع العنب لمن يصنعه خمراً، أو الخشب لمن يصنعه صليباً.

أما في غير هذه الحالة كما إذا جهل البائع قصد المشتري أو علم به، ولكن علمه لم يكن ذا تأثير على المعاملة، فإن الأقوى عدم تأثير الباعث في العقد، وعلى ذلك تحمل الروايات التي أجازت ذلك؛ مثل مكاتبة ابن أذينة قال: كتبت الى أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمراً أو مسكراً؟ فقال عليه السلام: إنما باعه حلالاً في الابان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه. ([16]) وقال أيضاً سألته عن الرجل يؤجر سفينته أو دابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير؟ فقال عليه السلام: لا بأس. ([17]) وعن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال: لا بأس. ([18])

باء: الوفاء بالعقود

فيما يلي نستعرض أبعاد آية الوفاء بالعقود، وما نستلهم منها من أحكام المعاملات. قال الله سبحانه: « يآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ اُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ» (المائدة/1) ونبدء بالتدبر في كلمتي: الوفاء والعقود، ثم في عطاء الآية في البعد الفقهي.

أولاً: الوفاء

الوفاء في اللغة، إتمام ما ينبغي إتمامه. قال في القاموس: وفى بالعهد كوعى وفاءً ضد غدر كأوفى، والشيء وافياً كصلى تم وكثر، وشرعاً إبراء الذمة. ([19]) ونستفيد من ذلك؛ إن لكل عقد وفاء بحسبه. فالوفاء بعقد البيع هو تبادل العوضين، بينما الوفاء بعقد الايجار إعطاء قيمة المنفعة في مقابل السماح للطرف الآخر بالاستفادة منها. وهكذا الوفاء بالعقد اللازم هو منع الفسخ إلاّ بالتقابل من الطرفين، بينما الوفاء بعقد الهبة وسائر العقود الجائزة امكانية فسخها.

وكذلك يشمل اللفظ الوفاء بالشروط المنصوصة أو الضمنية، حيث إن كل ذلك هو مقتضى إبراء الذمة. ([20])

ثانياً: العقد

ماذا يعني لفظ "العقد"؟ قالوا: إن العقد في اللغة العهد الشديد، وان العقد لا يكون إلاّ من جانبين، وإنه الربط بين شيئين، وإنه الجمع بين شيئين. ([21]) وقال في القاموس: عقد الجعل والبيع والعهد يعقده: شده وعنقه إليه لجأه، و(عقد) الحاسب حسب والعقد الضمان. ([22]) وهناك قولان في معنى كلمة العقد؛ الأول: إن معناها ربط تعهد أحد الطرفين بالتعهد من الطرف الآخر فلا يكون إلاّ من طرفين. الثاني: إن معناها عقد القلب على العمل بشيء مما يساوي كلمة "الالتزام" و "العهد".

والمعنى الأول هو الذي أشار اليه صاحب كتاب العناوين، وهو المصطلح المعروف بين الفقهاء، حيث إنهم جعلوا لفظة العقد في مقابل لفظة الايقاعات، وهي ذات التزام من طرف واحد.

أما المعنى الثاني، فهو الذي نفهمه من تصريفات الكلمة؛ مثل عقد العزم، والعقيدة، والعقدة (النفسية).

وفي الحديث "العقد هو العهد" وكلمات أهل اللغة أقرب الى هذا المعنى.

وبناءً على ذلك فالعقود تشمل الالتزام من طرف واحد " والذي يسميه بالايقاع".

وكنت سابقاً أميل الى المعنى الأول ([23])، ولكني الآن أكثر إقتناعاً بالمعنى الثاني الذي وردت به رواية صحيحة. فالعقد عندي بمعنى الالتزام أو "التعهد"، وهو أعم من أن يكون ذا طرفين أو ذا طرف واحد. والحديث المأثور عن الامام جعفر بن محمد عليهما السلام يدل على ذلك، حيث جاء في تفسير قول الله سبحانه «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» جاء في البيع والشراء والنكاح والحلف والصدقة. ([24]) ومعلوم إن الحلف والصدقة نوعان من الايقاع (الالتزام من طرف واحد).

الألف واللام في كلمة العقود

لأن الأصل في اللام عند عدم قرنية أن تكون للجنس، فإن معنى العقود كل العقود حيث إن الجمع المحلى باللام يدل على العموم. وهكذا تشمل آية الوفاء بالعقود كل العقود، سواءً التي كانت شائعة في عهد الرسول والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام، أو لم تكن، أو التي سوف تتجدد.

واحتمال أن يكون الألف واللام إشارة الى العقود المعهودة أو الى بعضها فقط. هذا الاحتمال ينتفي بالأصل، حيث إن الأصل عدم الإشارة الى عقود خاصة، وأيضاً ينتفي بأن مثل القرآن مثل الشمس في أنه ينطبق على الأمور المستجدة، وأن تطبيقات الزمان والمكان والموارد لا تحدد الآيات ولا تمنع الاستدلال بها على المصاديق المستجدة، على أن الحديث الصحيح فسّر الآية بالعهود دون اشارة الى عهود خاصة، وإن المفسرين كذلك فسروها بالأعم. بلى؛ بعضهم أشار الى عهود خاصة، كعادتهم في مثل هذه الآية، وإن هي إلاّ مصاديق تجري عليها الآية كما تشمل غيرها. ([25])

دلالة الآية

وهكذا نستوحي من الآية حسب التفسير السابق الأحكام التالية:

أ- يجب الوفاء بكل العقود الجائزة واللازمة وشروطهما الصريحة والضمنية، وذلك بابراء الذمة مما التزم صاحبها به من تعهد.

ب- تشمل العقود تلك الالتزامات التي تكون بين الشخص وغيره، والتي تكون بين الفرد وربه، مثل الايقاعات؛ كالطلاق والعتق والنذر واليمين وما أشبه.

ج- لا فرق بين العقود والعهود بين الصور التي كانت شائعة ومعروفة، أو التي تجددت، أو تتجدد. فكل إلتزام بلغ درجة العقد والعهد، يجب الوفاء به.

د- وهكذا تصبح هذه الآية أشمل من آية التجارة، لأن هذه تشمل الالتزام من طرف واحد دونها، ولكن تلك الآية أكثر استيعاباً للأحكام. وهكذا القرآن الحكيم يصدق بعضه بعضاً.

القسم الثاني: عن المكاسب المحرمة

في هذا القسم نتحدث عن الأصل في التجارة والذي يقتضي الحلية، ثم عن القواعد العامة في التجارة، ثم نبيّن ما يجوز وما لا يجوز من المكاسب في إطار نوعين أساسيين من المكاسب.

الأول: المكاسب التي حرّم الله سبحانه، لما يأتي منها من الفساد محضاً؛ مثل بيع الخمر والميسر وخدمة الظلمة. وفي هذا الحقل نستفيد من حديث مفصل مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث يبين الإمام ما يجوز وما لا يجوز من المكاسب في أربعة شعب؛ الأولى: عن الولايات التي تعني التوظيف في الدوائر الحكومية، الثانية: عن التجارة وتبادل السلع، والثالثة: عن الإجارة وتقديم الخدمات، والرابعة: عن الصناعة. وبعد كل شعبة نتأمل فيها ونستفيد منها الفروع المناسبة.

الثاني: العقود المحرمة التي تحتوي على زيادة باطلة؛ أي الربا. ولكن قبل الخوض في بحوثه، نتحدث عن حكمة حرمته والتي تأتي في إطار بيان بصائر الدين في الثروة وكيفية توجيهها في الإطار الصحيح.

وبعدئذ نتحدث عن الربا في القرآن وفي الحديث، ثم نفصل القول في الربا في القرض، ويلحق به بيع الصرف، ثم نبحث عن ربا الفضل (ربا المعاملة).

ثم ندرس فوائد البنوك والديون الخارجية والفساد العريض الذي يشيعه الربا في إطار إقتصاد الوطن، وفي إطار الإقتصاد العالمي.

وفي الأخير نستعرض جملة من الشبهات التي طرحت حول الربا وحرمته، ونبين بإذن الله الردود التي عليها.

أولاً: القواعد العامة

الأصل في التجارة إطلاق حرية الإنسان فيها إذا كانت بتراض وكانت تقع ضمن دائرة الشريعة، وفي إطار الأحكام ومنها حلية المحل. أما إذا كان المحل حراماً، كبيع ما حرّم الله، أو الإستيجار لما فيه الفساد محضاً، فلا يجوز.

والقواعد العامة التي نستوحيها من الآيات الكريمة تقع ضمن هذا الأصل الهام، ونستفيد هذه القواعد من الآية التالية: «يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء/29) ومن الأكل بالباطل؛ التعامل على حرام، لأن الحرام ملغي عند الشريعة، وباطل، فكيف يقع عليه العقد؟ مثلاً الشريعة أسقطت الخمرة عن القيمة، فمن باعها وأكل ثمنها، فقد أكل مال غيره بالباطل. وكذلك الميسر حرام، فمن أكل مالاً بازاءه (بيعاً أو إجارة أو رهناً أو ما أشبه) فقد أكل مال الناس بالباطل.

وكذلك التجارة بالأصنام والأزلام، وما يأتي الفساد منه محضاً، وما يأتي منه الشر لا غير، وما فيه ضرر وما لا مالية فيه، إنها جميعاً لحرمتها أكل للمال بالباطل. وفي الآية بصائر نستوحي من التأمل في كلماتها:

1- فالأكل أصلاً معناه التغذية، ويُستخدم في التسلط والإقناء.

2- ونسبت الأموال الى الجمع، لأن النهي متوجه الى الجمع، وربما للإشارة الى أن المال قد جعل قواماً للحياة الاجتماعية.

3- ولعل في كلمة «بَيْنَكُم» إشارة الى أن بدعة أكل الأموال لو شاعت لشملت الجميع، أو للإشارة الى أهمية المحافظة على حقوق الأمة المالية أكثر من حقوق الآخرين.

4- وكلمة «بِالْبَاطِلِ» تدل على حرمة الإحتيال على البعض بأكل المال. وقد فسّر الباطل في الروايات بالقمار، وفي آية كريمة من القرآن بيان له بالإدلاء الى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم.

وهكذا نستوحي حرمة التوسل بكل سبب غير مشروع لأكل الأموال.

5- وكلمة «إلاَّ» الاستثناء، وهي تدل على الفصل بين الجملة السابقة واللاحقة في الحكم، وليس بالضرورة أن تكون الجملة اللاحقة جزءً من السابقة من دونها. فمعناها هنا أن الحرام أكل أموالكم بالباطل، والحلال هو أكلها بالتجارة.

6- وفي القرآن فصل الخطاب، فالجملة «إِلآَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض» تدل على أن الأصل في التجارة الصحة. فهي مطلقة، لأنها في مقام التشريع.

وسنذكر لاحقاً رواية مفصلة ([26]) تؤكد هذا الأصل كما سنذكر لاحقاً طائفة من مصاديــق أكل المال بالباطل، والتي اعتبرتها بأنها سحت، سوف نتناول بعضاً منها بالذكر باذن الله تعالى.

إلاّ أن علينا حين نتدبر في الآية، ونتأمل في الأحاديث، أن ندرسها جميعاً وننظر إليها نظرة شمولية نستوحي منها بصائر، لعلنا نستفيد منها في الحوادث الواقعة والمسائل المستحدثة.

وفي الأنظمة الحديثة، هناك حدود قانونية للتجارة، تتشابه من ناحية معينة لما في الشريعة الغراء.

يقول د. السنهوري: وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل، لأن ذلك غير مشروع. وعدم المشروعية يرجع إما الى نص القانون الذي يمنع من التعامل في الشيء، أو إلى مخالفة هذا التعامل للنظام العام أو للآداب. ([27]) ويضيف في شرح النظام العام: القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها الى تحقيق مصلحة عامة؛ سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، وتعلو على مصلحة الأفراد. فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم. ([28]) وبالنسبة الى ضرورة مراعاة الآداب في المعاملات يقول: والآداب في أمة معينة وفي جيل معين هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية. ([29]) وهكذا تجد أن القانون الوضعي يحدد المعاملات بأمرين؛ المصلحة العامة، والآداب. وواضح إن المصلحة العامة تختلف من أمة لأخرى ومن نظام لنظام، كما إن الآداب تختلف. وأما الدين فإنه فيه ثوابت لا تتغير، وهي الأحكام الشرعية التي نصت عليها مصادر الوحي، وفيها أيضاً متغيرات، وهي التي تقتضيها المصلحة العامة للمجتمع، وقد بينتها مصادر الوحي أيضاً ولكن ضمن أصول عامة وأحكام كلية؛ مثل حرمة الظلم والضرر ووجوب ما به قوام الفرد والأمة، وما يحفظ بيضة الإسلام.

وفيما يلي نتحدث إن شاء الله عن ثوابت الشريعة، مع إشارة الى القواعد العامة التي مجال الحديث عنها الفصول الأخرى من هذا الكتاب. وطبقاً لتلك القواعد يحكم ولي أمر المسلمين بما تجب رعايته من أحكام متغيرة. وإذا لم تكن الدولة الاسلامية قائمة، فللفقهاء أن يفتوا بما يجب على الناس مراعاته، من أحكام تقتضيها المصالح العامة والضرورات.

ثانياً: حديث تحف العقول

في كتاب تحف العقول للشيخ الحسن بن علي بن شعبه، حديث مفصل حول المكاسب والتجارات.. هو المرجع الذي ينبغي أن نطيل التدبر فيه، وأن نرجع إليه سائر المتون الفرعية في الأحاديث. وقد روى هذا الحديث المحدث العاملي في كتابه وسائل الشيعة، كما رواه المحدث البحراني في كتابه الحدائق . ونحن هنا نذكر النص من الوسائل بالرغم من أنه يختلف عن النسخة المطبوعة من تحف العقول، لأنه أكثر إختصاراً. كما ونقف إن شاء الله عند كل مقطع من الحديث لنتأمل فيه وندرس أحكامه، ولكي نقارن ما نستفيده منه بما في سائر الأحاديث.

ألف: الولاية

حينما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن معايش العباد، أجاب الإمام قائلاً: جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم، مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات. ويكون منها حلال من جهة، وحرام من جهة. فأول هذه الجهات الأربعة الولاية، ثم التجارة، ثم الصناعات.. ثم الإجارات.

والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول في جهات الحلال، والعمل بذلك الحلال منها، واجتناب جهات الحرام منها.

فإحدى الجهتين من الولاية؛ ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم على الناس. والجهة الأخرى، ولاية ولاة الجور.

فوجه الحلال من الولاية، ولاية الوالي العادل، وولاية ولاته بجهة ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ولا نقصان، فالولاية له والعمل معه ومعونته وتقويته حلال محلل.

وأما وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته. فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام محرم، معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن كل شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر. وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، وإحياء الباطل كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرائعه. فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلاّ بجهة الضرورة، نظير الضرورة الى الدم والميتة.([30])

تأملات في الحديث


/ 29