برزخ نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

برزخ - نسخه متنی

جعفر باقری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



البرزخ


رؤية من خلال القرآن الكريموسنّة الرسول(ص) وأهل بيته(ع) بقلم الدكتور الشيخ جعفر الباقري


مقدمة المجمع


إن من ضروريات الدين واُصوله هو الايمان بالمعاد ، أي أن الانسان لابد له من رجعة بعد الموت إلى الله تعالى في يوم القيامة، يحشره للحساب ، ويسأله عن كل صغيرة وكبيرة عملها في حياته الدنيا . ويتقرر مصيره في ذلك اليوم إلى الجنة أو النار حسب عمله الذي قدمت يداه .


وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات ، وكذلك وردت الكثير من الروايات والاحاديث التي ذكرت أن ما بين موت الانسان وبعثه يوم القيامة عالماً ثالثاً غير عالم الدنيا وعالم الآخرة ، وهو ما أطلق عليه القرآن والروايات بـ عالم البرزخ .


وليس مقصود القرآن والروايات من ذكر ذلك العالم هو الاشارة إليه فقط وتعريفه للخلق ، بل إن وراء ذلك مرمىً أبعد وهدفاً أكبر ، ألا وهو تذكير الانسان بما في ذلك العالم من مخاطر وأهوال يمر بها الانسان الميت حتى يأذن الله بالنفخ بالصور لبعث من في القبور .


وكان للأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) الكثير من الروايات التي أكدوا فيها على وجود هذا العالم وبينوا بشكل واضح ما يلاقيه الانسان فيه من نعيم إن كان محسناً ومن عذاب إن كان مسيئاً . كما تعرّضوا لذكر الملائكة الموكلين بمحاسبة الانسان في قبره ومساءلته عن أعماله .


وكان هدف الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) من وراء ذلك هو تربية الانسان وشدّه إلى الله تعالى وربطه بالشريعة الإلهية ، من خلال رسم صور عالم البرزخ وجعلها حقائق متحركة يعيشها الانسان بوجدانه ، وينطلق من خلال أثرها البليغ في نفسه لعبادة الله تعالى والابتعاد عن كل ما يقرّبه من العذاب والسخط الإلهي .


وكذلك يكشف هذا الأمر بجلاء عن مدى معرفة أهل البيت(عليهم السلام)وعلمهم وإحاطتهم بالاسرار الغيبية التي أذن الله تعالى لهم بالاطلاع عليها من خلال العلم اللدني الذي أكرم به رسوله وحبيبه محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي قام الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدوره بإبلاغه إلى أوصيائه ، كما يشير إلى ذلك قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا مدينة العلم وعلي بابها [ تاريخ بغداد ج4 : ص348 وج7 : ص172 و ج11 : ص204 و ج12 : ص403 ـ 415 . لسان الميزان ج1 : ص180 . الكامل ج1 : ص62 و ج2 : ص259 . المستدرك ج3 : ص129 . الصواعق المحرقة ص123 . تاريخ ابن عساكر ج18 : ص17]، وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): علّمني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب يفتح كل باب ألف باب [ ميزان الاعتدال ج2 : ص67. سير أعلام النبلاء ج8 : ص24 . فرائد السمطين ج1 : ص11 . منتخب كنز العمال ج5 : ص43 . ينابيع المودة ص77 . تاريخ ابن عساكر ج18 : ص18 ] .


ومن هذا المنطلق يقوم المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) بطبع هذا الكتاب الذي هو دراسة موضوعية لعالم البرزخ ومتابعة لمجمل الآراء المطروحة فيه ، وتأكيد على وجوده من خلال الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وما ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من روايات ذكرها علماؤنا في آثارهم . لينتفع به القارئ ويتقرّب إلى ربه بالعمل الصالح والقول الحسن .


المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) قم المقدسة


البرزخ في اللغة والاصطلاح العام


( البرزخ ) في اللغة يعني : الحاجز بين الشيئين( [1] ) وهو كلمة عربية فارسية معناها حائل أو حاجز أو فاصل . وردت في القرآن ثلاث مرات في : سورة المؤمنون : الآية : ( 100 ) ، وسورة الرحمن : الآية: (20 ) ، وسورة الفرقان : الآية : ( 53 ) ، وهي تُفسَّر أحياناً تفسيراً خُلقياً معنوياً ، وأحياناً تفسيراً حسيّاً( [2] ). وبرازخ الإيمان : ما بين الشك واليقين . وقيل : هو ما بينَ أول الإيمان وآخره .. والبرازخ جمع ( برزخ ) .


و ( البرزخ ) و ( الحاجز ) و ( المهلة ) متقاربات في المعنى( [3] ). وفي اصطلاح الجغرافيين يعني ( البرزخ ) : قطعةً من الارض ضيقةً محصورةً بين بحرين ، واصلةً بين برّين ، وفي الغالب يكون واصلاً بين شبه جزيرة وقارة( [4] ). ونجد كلمة ( البرزخ ) مستعملة أيضاً في الفلسفة المعروفة بـ(الحكمة المشرقية ) ، وهي تدل في اصطلاحها على الاجسام أو الجواهر المظلمة ; فـ(البرزخ ) أو ( الجسم ) مظلم بطبعه ، ولا يصبح منيراً إلاّ بعد أن يتصل بنور ( الروح ) . والافلاك السماوية برزخ حيّ ، وعلى عكسها الاجسام التي لا حياة فيها ، فهي برزخ ميِّت( [5] ) .


البرزخ في الاصطلاح الشرعي


تتكون حقيقة ( الانسان ) من أمرين مزدوجين ، أحدهما مجرَّد ، والآخر مادّي ، وهذان الامران هما : ( الروح ) و (البدن ) .


وتتألّف من خلال هذا التركيب الحاصل بين ( الروح ) و ( البدن ) ماهية الانسان وحقيقته التي تعني الكائن الحي الذي يمارس نشاطه في الكون ، ويشق طريقه في الوجود على ضوء العقل والمدركات الذهنية .


وتمثل ( الروح ) ، بما تمتلكه من خاصّية تجريديّة ، الدور التوجيهي المباشر للبدن ، فهي التي تسيطر عليه ، وتسيِّر حركته ، وتتحكم فيه ، وتبعث في أعضائه الحركة والحياة .


ويقوم ( البدن ) من جانب آخر بالاستجابة لهذه القرارات النابعة من هذا المركز الرئيسي الموجّه ، واستقبال هذه الإيعازات بالاستجابة والتنفيذ ، وبهذا فإنَّ ( البدن ) يمثل الاداة التنفيذيّة لإرادة ( الروح ) ، والمتلقّي للتعاليم الصادرة منها .


ولو أردنا أن نتكلَّم على مستوىً أرفع وبعبارة أعمق لقلنا بأنَّ الانسان ما هو إلاّ ( الروح ) في حقيقته وواقعه ، وأنَّ جوهر الانسان إنّما يتمثَّل بهذهِ الحقيقة التي يضمها الجسد بين جوانحه في الحياة الدنيوية ، ولذا نرى أنَّ الله تعالى يُبيِّن هذهِ الحقيقة بالقول :


( قل يتوفّاكم ملكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بكم ثمَّ إلى ربِّكم تُرجَعون)( [6] ). فمن الواضح من الآية الكريمة أنَّ المتوفّى هو ( روح ) الانسان ونفسه دون جسده ، وقد جاءَ التعبير عن ( الروح ) بكل الانسان صريحاً في قوله : (يتوفّاكم ) .


ولذا يمكن القول بأنَّ الجسد إنْ مثَّل شيئاً في حقيقة الانسان فهو يمثِّل ذلك ظاهرياً ، لأنَّه يُعد القالب المادي الفاني الذي يضم (الروح) مؤقتاً ، حيث تنتقل منه هذهِ ( الروح ) بعد الموت إلى موقع آخر ومحل جديد .


أو لنقل بأنَّ الجسد بمثابة اللباس الذي ترتديه ( الروح ) في هذهِ الحياة الدنيا ، ويأتي بعد ذلك الوقت الذي تخلعه فيه ، وتلبس رداءً غيره ، كما هو الحال في القبر ـ على القول بأنَّ الله عزّ وجلّ يخلق لـ(الروح ) جسداً لطيفاً تحلّ فيه ـ ولذا يقول الامام الصادق(عليه السلام) في بيان هذا المعنى : والروح جسمٌ رقيق قد اُلبسَ قالباً كثيفاً ( [7] ). وعلى الرغم من كون ( الروح ) في حالة شفافة مجرّدة لا تقع عليها الحواس ، ولا تطرأ عليها الاعراض المادّية التي تطرأ على (البدن ) ، إلاّ انها تبقى خاضعةً لقوانين الوجود المادّي في حدود خاصة ، ما دامت تحتل البدن وتستقر فيه .. وهذا ما لا يمكن لنا الاستفاضة والاسترسال في بحثه ضمن هذا العرض العاجل .


وقد قدر الله تعالى الفناءَ لكلِّ مَن على الأرض ، وجعل الانقضاء نصيباً لكلِّ مخلوق ، فقد قال تعالى :


( كلُّ مَن عليها فان * ويبقى وجه ربِّك ذو الجلالِ والإِكرام)( [8] ).


وقال عزَّوجَّل : ( كلُّ نَفس ذائِقةُ الموتِ ثُمَّ إِلينا تُرجَعون )( [9] ). كما جعل الله تعالى لكلِّ شيء في هذا الوجود أجلاً محدوداً لابدَّ أن يصلَ إليه ، ونهايةً لا يتعداها ولا يتجاوزها أبداً ، فقد قال تعالى :


( ولكُلِّ أُمّة أجَلٌ فإذا جاءَ أجَلُهُم لا يستأخِرونَ ساعةً ولا يَستقدمون)( [10] ) . وقال تعالى :


( ما تَسبِقُ من اُمّة أجلَها وما يستأخرون )( [11] ). و ( الموت ) هو الوسيلة التي تحقق انتقال الانسان من دار ممرِّه إلى دار مقرِّه ، وتختم مسيرة الحياة الدنيويّة قاطبةً بالانتهاء والانقضاء.


يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : لكلِّ حيٍّ موت ( [12] ). ويقول(عليه السلام) : لكلِّ نفس حِمام ( [13] ). ويقول(عليه السلام) : بالموتِ تُختم الدنيا ( [14] )


والدنيا في واقع الحال تسير بالانسان نحو هذا الأجل بسرعة لاهثة ، وتحقق بانقضاء كلِّ لحظة من لحظاتها قُرباً نحو هذا الهدف المرسوم ، والأجل المسمّى . وهذا ما يشير إليه أمير المؤمنين(عليه السلام)بقوله: في كلِّ لحظة أجلٌ ( [15] ). وقوله(عليه السلام) : في كلِّ نفس فوت ( [16] ). وقوله(عليه السلام) أيضاً : في كلِّ وقت موت ( [17] ). فبعد أن تنقضي أيام الانسان في هذهِ الدنيا ، وتفنى لحظاتُ عمره في هذا الوجود طبقاً لحكم الله وقضائه ، تغادر روح الانسان بدنه الذي كانت تستقر فيه ، وتنتقل من عالم المادة إلى عالم التجرّد عن طريق ( الموت ) ، وتهجر تلك القوانين والنواميس المادّية ، وتبدأ مرحلة أُخرى ، وتدخل في عالم جديد ..


وهذه المرحلة الجديدة تعد مرحلة انتقالية تتوسط بين وجود الانسان في دار الحياة الدنيا ، وبين بعثه ليوم الدين في دار الآخرة ، حيث تتجرد (الروح ) عن جسد الانسان ، وتمكث في عالمها الجديد حتى قيام الساعة وحلول البعث من القبر ليوم الجمع الذي لا ريب فيه .


وقد سُمّيت هذه الفترة الوسطى في مصطلح الشريعة الاسلامية بـ(البرزخ ).


ضرورة الإيمان بالبرزخ


انعقدَ إجماع المسلمين على الإيمان بحقيقة الحياة البرزخية والتسليم لها ، وأنه لا محيص من مرور الانسان بهذه الفترة الوسطى .


وقد عُدّ هذا الأمر من ضرورات الدين وثوابت الشريعة الاسلامية المقدسة التي لا تقبل النقاش والترديد .


ولم ينكر المعنى المذكور لـ ( البرزخ ) ويشكّك في أصل وجوده في المسلمين إلاّ قلة قليلة غير ملتفت اليها من المتكلمين .


وحتى أولئك العلماء والمفسّرون الذين لم يستظهروا المعنى الاصطلاحي للبرزخ من آية : ( ومن ورائهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثون)( [18] )، أو من بعض الآيات القرآنية الأُخرى ، فإنهم قالوا بثبوته أيضاً من خلال الاحاديث الكثيرة الواردة بهذا الشأن ، التي تدل اجمالاً على وجود فترة يقضيها الانسان في قبره ما بين الموت والبعث .


فالإيمان بـ ( البرزخ ) إذن من الامور الضرورية في دين الاسلام، ويساعد عليه كلٌّ من العقل والنقل .


فممّا لا ريب فيه أنّ منهج الاستدلال العقلي لا يمنع من ثبوت عالم معنويّ يتوسط بين وجود الانسان في الدنيا وبين وجوده في الآخرة ، ولا يصطدم هذا الحكم بأيِّ لون من ألوان الاستحالة العقلية .


ومن جانب آخر فقد وردت في شأن الحياة البرزخية للانسان أدلة نقلية مستفيضة من القرآن الكريم على خلاف في طبيعة الدلالات ، ومن السُّنَّة الشريفة على سبيل القطع واليقين ، وبما لا يقبل الشك والترديد .


لذا نرى انعقاد الاجماع من قبل المسلمين بمختلف طوائفهم وفرقهم على ثبوت هذهِ الحياة على اختلاف في التفاصيل .


فمن أعلام العامة ( أحمد بن حنبل ) الذي يقول :


وعذاب القبر حق ، يُسأل العبد عن دينه ، وعن ربِّه ، ويرى مقعده من النار والجنّة ، ومنكر ونكير حق ( [19] ). و( القاضي عبد الجبّار ) الذي يقول في فصل عذاب القبر :


وجملة ذلك أنَّه لا خلاف فيه بين الاُمّة ، إلاّ شيء يُحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ، ثمَّ التحقَ بالمجبرة( [20] ).


وكذلك أطبق علماء الإماميّة على ضرورة الايمان بالحياة البرزخيّة ، وأشبعوا هذا المطلب بذكر الكثير من خصوصياته وتفاصيله بالبحث والتحقيق .


يقول الشيخ ( الصدوق ) في عقائده :


اعتقادنا في المساءلة في القبر أنَّها حق لابدَّ منها ، ومَن أجابَ الصواب فاز بروح وريحان في قبره ، وبجنّة نعيم في الآخرة ، ومَن لم يُجب بالصواب فله نُزُل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة ( [21] ). ويقول الشيخ ( المفيد ) في ( شرح عقائد الصدوق ) :


جاءَت الآثار الصحيحة عن النبي أنَّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم عن أديانهم . وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة ، فمنها أن ملكين لله تعالى يُقال لهما ناكر ونكير ، ينزلان على الميِّت فيسألانه عن ربِّه ونبيِّه ودينه وإمامه ، فإن أجابَ بالحق سلَّموه إلى النعيم ، وإن ارتجَّ سلَّموه إلى ملائكة العذاب . وفي بعض الروايات أنَّ اسمي الملكين الَّذين ينزلان على الكافر ناكر ونكير ، واسمي الملكين الذين ينزلان على المؤمن مبشِّر وبشير .


ثم يقول(رحمه الله) :


وليس ينزل الملكان إلاّ على حيٍّ ، ولا يسألان إلاّ مَن يفهم المساءلة ويعرف معناها ، وهذا يدل على أنَّ الله تعالى يحيي العبد بعد موته للمساءلة، ويديم حياته لنعيم إن كان يستحقّه ، أو لعذاب إن كان يستحقّه( [22] ). ويقول المحقق ( الطوسي ) في ( التجريد ) :


وعذاب القبر واقع لإمكانه ، وتواتر السمع بوقوعه ( [23] ). والظاهر من كلامه(رحمه الله) انَّه يشير إلى ما بيَّناه قبل قليل من أنَّ العقل لا يمنع من القول بثبوت الحياة البرزخية ولا يحكم باستحالتها ، بل هي من الامور الممكنة الوقوع في الفترة الواقعة بين الدنيا الفانية والآخرة الباقية ، ولا يمكن لهذهِ المساءلة بعد فرض التسليم بوجود عالم الجزاء أن تنتظم ضمن المستحيلات العقلية، وهذا ما يبيِّنه(رحمه الله) في الشق الاول من كلامه ، وأما الشق الثاني فهو يشير إلى ما دلَّ على ثبوت (البرزخ ) من النقل المتواتر والصريح .


ويقول العلاّمة ( الحلي ) في ( شرح التجريد ) :


نُقل عن ضرار أنَّه أنكر عذاب القبر ، والاجماع على خلافه( [24] ).


ويقول شارح المقاصد :


اتفق الاسلاميّون على حقيقة سؤال منكر ونكير في القبر ، وعذاب الكفّار، وبعض العصاة فيه ، ونُسب خلافه إلى بعض المعتزلة( [25] ). ويقول العلاّمة ( المجلسي ) في ( بحار الأنوار ) :


ثمَّ اعلم أن عذاب البرزخ وثوابه مما اتفقت عليه الاُمّة سلفاً وخلفاً ، وقال به أكثر أهل الملل ، ولم ينكره من المسلمين إلاّ شرذمة قليلة لا عبرة بهم ، وقد انعقد الاجماع على خلافهم سابقاً ولاحقاً ، والأحاديث الواردة فيه من طرق العامة والخاصة متواترة المضمون( [26] ). وقد جاء توضيح خصوصيّات هذه الحياة ومعالمها جلياً وصريحاً في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) على نحو الخصوص ، حتى إنَّ الامام الصادق(عليه السلام)كان يقول بشأن ضرورة الإيمان بـ ( البرزخ ) : من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا : المعراج ، والمساءلة في القبر ، والشفاعة( [27] ). والمساءلة في القبر هي : الحياة البرزخية كما هو واضح .


البرزخ في القرآن الكريم


من المستحسن أن نتناول في البدء كلمة ( البرزخ ) الواردة في القرآن الكريم ، لنلقي نظرة أولية على دلالاتها ، ومن ثم ننتقل إلى استعراض مجموعة من الآيات التي ذكرت في مقام الاستدلال على ثبوت الحياة البرزخية في القرآن .


كلمة البرخ في القرآن :


وردت كلمة ( البرزخ ) في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم من خلال ثلاث آيات هي :


1 ـ قوله تعالى : ( مَرَجَ البَحرَينِ يَلتقيانِ * بينهما برزخٌ لايَبغيان)( [28] ).


ومن الواضح أنّ كلمة ( البرزخ ) قد استعملت في هذه الآية بالمعنى اللغوي المشار إليه آنفاً ، أي بمعنى الحاجز والحائل بين الشيئين .


يقول العلاّمة ( الطباطبائي ) في تفسير هاتين الآيتين :


وأمثل ما قيل في الآيتين أنّ المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريباً من ثلاثة ارباع الكرة الارضية من البحار المحيطة وغير المحيطة ، والبحر العذب المدّخر في مخازن الارض التي تنفجر الارض عنها، فتجري العيون والأنهار الكبيرة فتصبّ في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان ، وبينهما حاجز هو نفس المخازن الارضية والمجاري ، يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب ، فيغشيه ويبدّله بحراً مالحاً ، وتبطل بذلك الحياة . ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدِّله ماءً عذباً ، فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره( [29] ).


ويقول العلاّمة ( الطبرسي ) في ( مجمع البيان ) :


ذكر سبحانه عظيم قدرته حيث خلق البحرين العذب والمالح يلتقيان ثمَّ لا يختلط أحدهما بالآخر ، وهو قوله : ( بينهما برزخ )أي : حاجز من قدرة الله ، فلا يبغي الملح على العذب فيفسده ، ولا العذب على الملح فيفسده ويختلط به ( [30] ). وجاء في ( الكشّاف ) لـ ( الزمخشري ) :


( مرج البحرين ) : أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصلَ بينَ الماءَين في مرآى العين ، (بينهما برزخ) : حاجز من قدرة الله تعالى ، (لا يبغيان ) : لا يتجاوزان حدّيهما ، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة ( [31] ). 2 ـ قوله تعالى : ( وَهوَ الذي مَرَجَ البَحرَينِ هذا عذبٌ فراتٌ وهذا مِلحٌ أُجاجٌ وجعلَ بينهما برزخاً وحِجراً محجوراً )( [32] ). واستعمال ( البرزخ ) في هذه الآية في معناه اللغوي ، وهو الحاجز بين الشيئين ، واضح أيضاً .


يقول العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية :


والبرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين ، ( وحجراً محجوراً ) أي حراماً محرّماً أن يختلط أحد الماءين بالآخر ( [33] ). ويقول العلاّمة ( الطبرسي ) في ( مجمع البيان ) :


( وجعل بينهما برزخاً ) : أي حجاباً وحاجزاً من قدرة الله تعالى يمنعهما من الاختلاط ، ( وحجراً محجوراً ) : أي حراماً محرّماً أن يفسد الملح العذب ( [34] ). 3 ـ قوله تعالى : ( وَمِنْ وَرائِهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثونَ )( [35] ). وقد اختلفت أقوال العلماء والمفسِّرين في تفسير كلمة ( البرزخ ) الواردة في هذه الآية الشريفة ، واتخذت هذه الأقوال رأيين رئيسيين ، أصبحا يمثّلان اتجاهين متقاطعين في تفسير هذه المفردة ، وتوضيح معالمها في هذه الآية القرآنية الكريمة .


علماً بأن أغلبية هذه الآراء تتجه نحو الرأي الذي يوجّه لفظة (البرزخ ) نحو المعنى الاصطلاحي الشرعي ، ويُستفاد من هذه الآية وجود حياة وسطية تتخلل موت الانسان وبعثه ليوم الحساب .


والرأيان المتضاربان في تفسير كلمة ( البرزخ ) في الآية المتقدمة هما : الرأي الأوّل : أن المراد بـ ( البرزخ ) المانع والحائل الذي يمنع الانسان من الرجوع إلى الدنيا ، أو أن المراد هو الحائل الذي يمنعه من الانتقال إلى الآخرة قبل يوم البعث .


وعلى كلا هذين القولين فإنّ الآية لا تدل عند أصحاب هذا الرأي على الحياة في القبر ، وإنما تدل على مانعيّة الرجوع بشكل عام .


فقد ذكر ( الزمخشري ) في تفسيره أن المقصود من ( البرزخ ) في هذه الآية هو الحائل الذي يحول بين الانسان وبين الرجعة إلى يوم البعث( [36] ).


وجزم بهذا المعنى ( الفخر الرازي ) في ( التفسير الكبير ) حيث يقول في تفسير كلمة ( البرزخ ) الواردة في هذهِ الآية الكريمة :


فالبرزخ : هو الحاجز والمانع كقوله في البحرين : ( بينهما برزخ لا يبغيان)( [37] ) أي فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلاقي ، حاجزة عن الاجتماع ، وذلك هو الموت ( [38] ) . وهو الظاهر من عبارة (ابن الجوزي ) في (زاد المسير )( [39] ). وقد نصَّ عليه ( أبو السعود ) في تفسيره حيث يقول :


( برزخ ) : حائل بينهم وبين الرجعة . ( إلى يوم يُبعثون ) : يوم القيامة ، وهو إقناط كلّي عن الرجعة إلى الدنيا ، لما علم أنَّه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا ، وإنّما الرجعةُ يومئذ إلى الحياة الاُخروية( [40] ). ونصَّ عليه ( الآلوسي ) كذلك في ( روح المعاني ) مضيفاً القول :


وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال ، كتعليق دخولهم الجنّة بقوله تعالى : ( حَتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ )( [41] ) ( [42] ). وقد ذهبَ العلاّمة ( السبحاني ) إلى هذا الرأي قائلاً بصدد الآية الكريمة:


والآية لا تفيد أزيد من وجود الفاصل والحاجز بين الدنيا والقيامة ، مثل قوله سبحانه : ( بينهما برزخٌ لا يبغيان )( [43] ) ، ولا تدلُّ على وجود حياة في هذا الفصل ( [44] ) . الرأي الثاني : أن المراد بـ ( البرزخ ) في الآية الكريمة هو المدّة التي تتخلل موت الانسان وبعثه والتي يقضيها في القبر ، وهو المعنى المصطلح شرعاً له كما تقدم .


وقد قطع بهذا المعنى العلاّمة ( الطباطبائي ) في ( الميزان ) حيث يقول :


والمراد بهذا البرزخ عالم القبر ، وهو عالم المثال الذي يعيش فيه الانسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق ، وتدل عليه آيات أُخر ، وتكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وأئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، وكذا من طرق أهل السُّنَّة ( [45] ). ونصَّ على هذا المعنى أيضاً : ( أبو حيّان الأندلسي ) في ( البحر المحيط) قائلاً :


استُعير البرزخ للمدّة التي بين موت الانسان وبعثه ( [46] ). ونقل هذا القول أيضاً ( الطبرسيّ ) في ( مجمع البيان )( [47] ) ، كما ذكره ( ابن كثير ) في تفسيره( [48] ) ، و (الشوكاني ) في ( فتح القدير )( [49] ) ، و ( الصابوني ) في (صفوة التفاسير )( [50] ) ، و ( البروسوي ) في ( روح البيان )( [51] ) ، وهو ظاهر عبارة (الظلال )( [52] ). ويُفهم هذا المعنى من كلمات ( ابن القيِّم ) في ( الروح ) إذ قال :


إنَّ عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه ، وهو ما بين الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثونَ)( [53] ). فاستشهاده بالآية في هذا المورد يُشعر بتبنيه للرأي المذكور .


وصرَّح بهذا المعنى أيضاً ( علي بن إبراهيم القمّي ) في تفسيره( [54] ) حيث نقل ذلك عنه ( الحويزي ) في ( نور الثقلين )( [55] ) ، كما وصرّح به ( ابن العربي ) في تفسيره أيضاً( [56] ) ، وكذلك نصَّ عليه صاحب (الفرقان ) قائلاً :


فالبرزخ البرزخ وما أدراك ما البرزخ هو أمر بين أمرين ، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ( [57] ). وجاءَ في التفسير ( الأمثل ) مثلُ ذلك ، حيث يقول فيه :


.. ولهذا أتت كلمة البرزخ للدلالة على عالم يقع بين عالم الدنيا والآخرة.. والآية موضع البحث ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)( [58] )، توضح وجود عالم البرزخ ، رغم أن البعض رغب في القول بأنَّ كلمة البرزخ في هذه الآية تعني العائق والمانع من العودة إلى الدنيا غير أنَّ هذا المعنى يبدو غريباً... ( [59] ). وفي الحقيقة إنَّ لغة الآية تتوافق مَعَ الرأي الثاني من هذين الرأيين كما يبدو ، على الرغم من مجيء كلمة ( البرزخ ) مجرّدة من الضمائم والقيود ، إذ إنَّ الآية بصدد الاشارة إلى أنَّ وراء الانسان مرحلة مقبلة غير المرحلة الدنيوية التي عاش فيها ، وأنَّه سوف يقطع هذهِ المرحلة ويمرّ بها بشكل حتمي، ويبقى كذلك إلى حين البعث ليوم القيامة ، ومن البعيد إرادة المعنى اللغوي الذي يعني الحائل والحاجز ، لأنَّ هذا المعنى إن انسجم مَعَ لغة الآيتين المتقدمتين باعتبار الحديث عن العالم المادي بأدواته التعبيرية الطبيعيّة ، فهو لا ينسجم عند الكلام عن العوالم المعنويّة التي تُستعار لها الألفاظ ذات المعاني الحسّية غالباً ، ولا يتوافق مَعَ الدلالات المذكورة في الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى: ( ومن ورائهم ) ، وقوله : ( إلى يَوم يُبعثونَ ) .


فتكون كلمة ( البرزخ ) الواردة في هذهِ الآية الكريمة مستعارة إلى الحياة الوسطيّة ، ووجود المناسبة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي غير خفيّة ، وبهذا المعنى الاصطلاحي للبرزخ نطقت الروايات المتضافرة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) ، وقد تمَّ اختيار هذهِ اللفظة بالذات في الأحاديث للتعبير عن حياة الانسان البرزخيّة وسؤاله في القبر، مَعَ أنَّ الآيات الاُخرى التي استُفيد منها ثبوت الحياة الوسطيّة بين (الموت ) و(البعث ) لم تنطق بهذهِ اللفظة ، ولم تتعرض لها من قريب أو بعيد .


ومن الجدير بالذكر أن قوله تعالى : ( ومن ورائهم ) يعني أنَّ (البرزخ) أمام الناس ، وهو محيط بهم ، ولا بدّ لهم أن يلاقوه ويواجهوه ، وكأنَّه يطاردهم ويوشك أن يلحق بهم ، فلو قلتَ لشخص: ( إنّ الموتَ وراءَك ) فإنك تعني أنه أمامك ولابدّ أن يلاقيك.


قال علي(عليه السلام) : إنَّ الموتَ لمعقود بنواصيكم ، والدنيا تُطوى من خلفكم ( [60] ). وقال(عليه السلام) : إنَّ هذا الموتَ لطالبٌ حثيث لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه من هرب( [61] ). وورد عن علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) بهذا المعنى أنَّه قال : ابن آدم إنَّ أجلكَ أسرع شيء إليك ، قد أقبل نحوَك حثيثاً يطلبُكَ ، ويوشك أن يدركك ... ( [62] ). ثبوت البرزخ في القرآن :


وردت الاشارة إلى وجود عالم البرزخ في القرآن الكريم ، عبر مجموعة من الآيات الشريفة الدالّة على المعنى المتقدم له على نحو الإجمال .


وقد تقدم معنا دلالة قوله تعالى : ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) على هذا الأمر ، ففي وجهة نظر الكثير من المفسّرين أن المقصود من كلمة (البرزخ ) في هذه الآية هو الفترة الوسطية المذكورة آنفاً ، كما مرَّ معنا مفصّلاً ، فتكون الآية دالّة بشكل صريح على المطلوب ، إذ إنها تعني حينئذ أن أمام الانسان فترة حياتية خاصة حتمية الوقوع ، يمر بها في عالم القبر ، قبل قيام الساعة وبروزه لله الواحد القهار .


وسوف نقوم باستعراض أهم الآيات التي تناولت هذا الموضوع وأشعرت به فيما يلي :


1 ـ قوله تعالى : ( وَقالَ الَّذينَ لا يَرجُون لقاءَنا لولا أُنزلَ علينا الملائكةُ أو نرى ربَّنا لقد استكبروا في أَنفسهِمْ وَعَتَوا عُتوّاً كبيراً * يومَ يرونَ الملائكة لابُشرى يَومئذ للمُجرمينَ ويقولون حِجراً محجوراً * وقدِمنا إلى ما عَمِلوا منْ عَمل فجعلناهُ هباءً منثوراً * أصحابُ الجَنّةِ يومئذ خيرٌ مستقرّاً وأحسنُ مَقيلاً )( [63] ). تعدّ هذه الآية الكريمة من أكثر الآيات القرآنية صراحة في ثبوت الحياة البرزخية ، وتعرّض الانسان خلالها إلى العقاب والثواب عند بعض المفسّرين( [64] ).


فقد قيل بأن المراد من اليوم الوارد ذكره في هذه الآية ، الذي يلتقي فيه الانسان الكافر معَ ملائكة الله بعد إنكارها والتكذيب بها ، هو يوم حلول الأجل ، وليس يوم القيامة على ما يذهب إليه الكثير من المفسّرين( [65] ). والدليل على هذا الأمر هو أن سياق الآية يتحدث عن اللحظات الأولى التي ينتقل فيها الانسان من دار الحياة الدنيا عن طريق الموت إلى مرحلة ما بعد الموت ، ويقف وجهاً لوجه أمام الأُمور التي لم يؤمن بها سابقاً .


وقد دلَّ على حضور الملائكة عند الانسان حال الموت ومباشرتهم له آيات أُخر كقوله تعالى :


( ولَو تَرى إذِ الظالمونَ في غَمَراتِ المَوتِ والملائكةُ باسِطواْ أيديهِم أَخرِجُوا أنفسَكُم اليومَ تُجزَونَ عذابَ الهُونِ بما كنتم تقولونَ على اللهِ غيرَ الحقِّ وكُنتُم عن آياتهِ تَستَكبرونَ )( [66] ). وقوله تعالى : ( فَكيفَ إذا توفَّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبون وجوهَهم وأدبارَهم)( [67] ). وقوله تعالى : ( ولو تَرى إذْ يَتوفّى الذينَ كفروا الملائكةُ يَضرِبونَ وجوهَهم وأدبارَهم وذوقوا عذابَ الحريقِ )( [68] ). وهذا يعني أن العذاب يبدأ في نحو من أنحائه قبل حلول يوم القيامة .


وفي الآية الكريمة مؤشِّر آخر على إرادة الحياة البرزخية ، وهو ذكر (المَقيل ) المأخوذ من ( القَيلولة ) ، وهي الاستراحة والنوم في نصف النهار( [69] ). فقد جاء وصف أصحاب الجنّة بأنهم ( خيرٌ مستقرّاً وأحسنُ مَقيلاً ) ، فممّا لا يقبل الترديد أن جنة الآخرة ليس فيها مَقيل ولا ليل ولا نهار ، قال تعالى :


( مُتَّكِئينَ فيها على الأرائك لا يَرَوْنَ فيها شمساً ولا زمهريراً)( [70] ). فذكر ( المقيل ) في الآية دليل على أن المقصود بها ما يعاينه الانسان في حياته البرزخية قبل يوم القيامة .


ويؤيّد هذا المعنى أيضاً ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) من أنّ مَلَكَي الحساب في القبر يفسحان للمؤمن مدَّ بصره ، ثم يفتحان له باباً إلى الجَنّة ، وَيقولان له : نَمْ قريرَ العين نومَ الشابِّ الناعم . وسيأتي الحديث مفصّلاً إنْ شاء الله تعالى .


وجاءَ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال بشأن المؤمن : .. ثمَّ يُفسح له في قبره سبعونَ ذراعاً في سبعين ذراع ، وينوّر له فيه ، ويُقال له : نَم ! فيقول : أرجعُ إلى أهلي ومالي فأُخبرهم ! فيقولان : نَم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلاّ أحبُّ أهله إليه ، حتى يبعثه الله من مضجعه..( [71] ). وورد هذا المعنى عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أيضاً حيث يقول : يُسأل الرجل في قبره ، فإذا أُثبت فُسح له في قبره سبعة أذرع ، وفُتح له باب إلى الجَنّة ، وقيل له : نَمْ نومة العروس قريرَ العين ( [72] ). وفي رواية اُخرى عنه(عليه السلام) أنَّ الملَكين يقولان للمؤمن : نَم نومةً ليسَ فيها حلم ، في أطيب ما يكون النائم ( [73] ). فالنوم هنا فيه إشارة إلى ( المَقيل ) المذكور في الآية الكريمة .


وأمّا لماذا عُدَّ نوم المرء في قبره مَقيلاً واستراحة خفيفة وقصيرة ؟ فقد ذُكر في توجيهه أنّ النصوص الشرعية قد ذكرت أنَّ الانسان في حياته الاعتيادية بمثابة النائم الذي لا يرى من الواقع الذي يُحيط به إلاّ كما يرى النائم في منامه من صور وخيالات ، ولا يصحو الانسان من نومه هذا ، ويستفيق منه ، إلاّ عند حلول الأجل ومواجهة الموت ، عندما يفتح الانسان عينيه على واقع جديد لم يكن يراه من قبل .


ولذا ورد في الحديث المشهور : الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا .


وورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : النوم أخو الموت ولا يموت أهل الجَنّة ( [74] ). وقيل لمحمد بن عليّ الجواد(عليهما السلام) : ما الموت ؟ قال(عليه السلام) : هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ أنه طويل مدته ، لايُنتَبه منه إلاّ يوم القيامة ( [75] ). ولكن هذهِ اليقظة التي تحصل للانسان لا تحقق الاتصال المباشر بالحياة الاُخروية وبيقظة الآخرة الكاملة ، حيث يقول الله تعالى عمّا هناك:


( لقدْ كُنتَ في غفلة منْ هذا فَكَشفنا عَنكَ غِطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ)( [76] ). فالأصل في الحياة إنّما يتمثل بالحياة الأُخروية الخالدة ، وأما الحياة البرزخية فهي تُعدّ بأجمعها حياة مؤقتة قصيرة تسبق تلك الحياة الدائمة ، ولذا عدّت كالقيلولة بالنسبة إلى حياة الأبد ، والله العالم بحقائق الأُمور .


2 ـ قوله تعالى : ( ولا تحسبنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بَلْ أحياءٌ عندَ ربِّهِمْ يُرزقونَ * فَرحينَ بما آتاهُمُ اللهُ من فضلهِ ويستبشرونَ بالّذينَ لَمْ يَلحَقوا بهم مِّنْ خَلفهِمْ ألاَّ خوفٌ عَليهِمْ ولا هُمْ يَحزنونَ )( [77] ). ففي هاتين الآيتين دلالة صريحة على أن الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون ، ويتمتعون بنعيم الله عزّ وجلّ إلى حين قيام الساعة ، وهذا ما لا يمكن افتراضه إلاّ بوجود مرحلة وسطية تتخلل ( الموت ) و (المعاد ) وهي حياة ( البرزخ ) .


ونظير هذهِ الآية في نحو الدلالة قوله تعالى :


( ولا تقولوا لمن يُقتَلُ في سبيلِ اللهِ أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون)( [78] ). فيُستفاد منها نفس ما استُفيد من الآية السابقة من أنَّ أرواح الشهداء في سبيل الله حيّة باقية بعد الموت ، ولكنَّ الناس لا يشعرون بها .


3 ـ قوله تعالى : ( النارُ يُعرَضونَ عَليها غُدُوّاً وعَشِيّاً ويومَ تقومُ الساعةُ أَدخِلوا آلَ فِرعونَ أَشدَّ العذابِ )( [79] ). واستُدل بهذه الآية على ( البرزخ ) ببيان : أن النار المذكورة في هذه الآية، التي يُعرض عليها الكافر في الغدوّ والعشيّ ، هي نار الدنيا وليست نار الآخرة ، وذلك لأن الغدوّ والعشيّ لا يكونان في القيامة ، فدلّت الآية على وجود عذاب في الدنيا يتعرض له الكافرون وهو عذاب القبر .


ويُستفاد أيضاً من مجيء ( الواو ) في قوله تعالى : ( ويومَ تقومُ الساعةُ أدخلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذاب ) أنَّ هناك اثنينيّة بين المذكورين في هذه الآية الكريمة ، فالعذاب الأول إنَّما يكون قبل قيام الساعه وهو أخفّ درجةً وأقل وطأً عليهم ، وإذا ما جاءَ يوم القيامة فإنَّهم سوف يتعرَّضونَ إلى عذاب أشدّ من العذاب السابق .


وهذا مؤيِّد آخر لوجود حياة برزخيّة تتخلَّل الموت في الدنيا والبعث في الآخرة .


ويؤيد هذا المعنى ما روي من أن رجلاً سأل أبا عبد الله الصادق(عليه السلام)قائلاً: ما تقول في قول الله عزّ وجلّ :( النار يُعرضون عليها غدوّاً وعَشِيّاً) ؟ ، فقال أبو عبد الله(عليه السلام) : ما تقول الناس فيها؟ فقال : يقولون إنها في نار الخُلد ، وهم لا يُعذّبون فيما بين ذلك ، فقال(عليه السلام): فهم من السعداء ، فقال له : جُعلت فداك فكيف هذا؟ فقال(عليه السلام) : إنّما هذا في الدنيا ، وأمّا نار الخُلد فهو قوله تعالى : (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب)( [80] ). 4 ـ قوله تعالى : ( لا يَسمعونَ فيها لغواً إلاّ سلاماً وَلهم رزقهُمْ فيها بُكرةً وعشيّاً )( [81] ). واستُدل بهذه الآية الكريمة أيضاً على أن هذا الرزق الذي يمنحه الله تعالى لعباده المؤمنين ، إنّما يختص بجِنان الدنيا لا الآخرة ، إذْ إنّ جنّة الآخرة ليس فيها بكرة أو عشيّ كما هو مسلّم ومعروف ، فدلّ ذلك على وجود نعيم في الدنيا وهو نعيم القبر .


5 ـ قوله تعالى :( قالوا ربَّنا أَمتَّنا اثنتينِ وَأَحْيَيْتَنا اثنتينِ فاعتَرَفْنا بذُنوبِنا فهلْ إلى خُروج من سبيل )( [82] ). جاء الاستدلال بهذه الآية على الحياة البرزخية ببيان : أن الله تعالى حكى عن الكفار هذا القول المذكور في الآية ، مما يدلّ على وجود إماتتين وإحياءين ، فالإماتة الاولى هي موت الدنيا ، والإماتة الثانية هي الإماتة في القبر بعد السؤال ، والإحياء الأول هو الإحياء لسؤال القبر ، وأما الإحياء الثاني فعند قيام الساعة . وهذا الكلام إنْ صحَّ ، فإن الآية تكون دليلاً أيضاً على وجود حياة وسطية وهي حياة ( البرزخ ) .


6 ـ قوله تعالى : ( كيفَ تَكفرونَ باللهِ وكنتُمْ أمواتاً فأحياكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثم يُحيِيكم ثُمَّ إِليهِ تُرجعونَ )( [83] ). استُدل في هذه الآية على البرزخ باعتبار أنّ الانسان يرجع إلى ربِّه يوم القيامة بعد أن يمرَّ بإحياءين ، وهذا يعني أن أحد الإحياءين هو الإحياء في القبر ، وهو يدل على وجود حياة ( البرزخ ) .


7 ـ قوله تعالى : ( إنّي آمنتُ بربِّكُمْ فاسمَعونِ * قيلَ ادخلِ الجَنّةَ قال ياليتَ قومي يعلمونَ * بما غَفَرَ لي رَبِّي وجعلني من المُكرمينَ)( [84] ). فقد ذُكر في الاستدلال بهذه الآية الكريمة أن المقصود من الجنّة التي أُدخلها مؤمن آل فرعون وأُكرم فيها بعد قتله ، هي جنّة الدنيا ; لأنه إنما تمنّى علم قومه بما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من النعيم ، وبما حباه به من المغفرة والرضوان وقال ما قال وقومه أحياء ، وهذا يُبيِّن أنّ المقصود من الجنّة هي (البرزخ ) .


وإذا جاز نعيم القبر جاز عذاب القبر ، فإنّ الخلاف فيهما واحد( [85] ). 8 ـ قوله تعالى : ( ممّا خطيئاتهم أُغرقوا فأُدخلوا ناراً فلمْ يجدوا لهُمْ منْ دونِ اللهِ أنصاراً )( [86] ). والآية في قوم النبيّ نوح(عليه السلام) ، حيث أغرقهم الله تعالى بالطوفان بسبب خطاياهم ، فأدخلهم الله تعالى بسبب ذلك في النار ، وقد فسَّرها البعض بنار الدنيا في البرزخ دون نار الآخرة .


وقد اُقيمت قرينتان على إرادة هذا المعنى من الآية الكريمة وهما : أولاً : وقوع ( الفاء ) بين ( الإغراق ) و ( الإدخال ) ، وهي تفيد المباشرة، وتؤشِّر على عدم وجود الفاصلة بين إغراقهم وبين إدخالهم النار ، وهذا يعني أنَّهم دخلوا ناراً غير نار القيامة ، وما تلك إلاّ نار الحياة البرزخيّة . وثانياً : إنَّ الإدخال في النار ورد بصيغة الماضي المفيد لتحقق الفعل جزماً ويقيناً والفراغ منه ، وضرورة وقوعه حتماً ، ولم يأت بصيغة الاستقبال ، وهذا أيضاً يدعم القول بأنَّ المراد من النار المذكورة في هذهِ الآية الكريمة هي نار الحياة البرزخيّة كذلك .


9 ـ قوله تعالى : ( فَذَرهم حتى يُلاقوا يومَهُمُ الّذي فيه يُصعقونَ* يومَ لا يُغني عَنهم كيدهُم شيئاً ولا هُم يُنصرونَ * وإِنَّ لِلَّذِين ظَلَموا عذاباً دُونَ ذلك ولكنَّ أَكثرهُم لا يَعلمونَ )( [87] ). ذهبَ بعض المفسّرين إلى القول بأنَّ هذا العذاب الأدنى إنَّما يكون في دار الدنيا قبل الموت ، يذوقه الكافرون قبل رحيلهم من الدنيا عن طريق قتلهم وإنزال حكم الله تعالى بهم .. أو عن طريق آخر .


وورد على هذا التفسير أنَّ بعض الكافرين يموتون من دون أن يتعرّضوا إلى هذا النحو من العذاب ، إذ لا تكاد ترى في حياتهم ما يُنَغِّصها ويكدِّرها مطلقاً إلى أن يلاقوا الموتَ الذي يوعدون .


وبهذا فلا بدَّ من القول بأنَّ المراد من ( العذاب الأدنى ) الذي أوعدَ الله تعالى به الكافرين في هذهِ الآية هو العذاب في القبر ، وكونه أدنى من عذاب الآخرة من الاُمور الواضحة ، لأنَّ العذابَ في ( البرزخ ) أخفّ نسبياً من عذاب الجحيم ، وأدنى درجةً منه .


وقد جَمَع بعضهم بين هذين القولين المتقدمين عن طريق تصنيف الكافرين إلى صنفين : منهم مَن يذوق ( العذاب الأدنى ) في حياته عن طريق القتل وغيره من العقوبات الدنيويّة ، ومنهم مَن لا يتعرَّض إلى العقاب في الحياة الدنيا ، فيكون ( العذابُ الأدنى ) بالنسبة إليه هو العذاب في القبر( [88] ). وعلى الاحتمالين الأخيرين في توجيه دلالة الآية تكون ظاهرة الدلالة على وجود حياة برزخيّة تقع بين موت الانسان وبعثه ليوم الدين .


10 ـ قوله تعالى : ( ولَنُذِيقنَّهم من العذابِ الأَدنى دونَ العذابِ الأَكبرِ لَعلَّهم يَرجعونَ )( [89] ). نُقل عن ( ابن عباس ) استدلاله بهذهِ الآية على وقوع العذاب في القبر ، فَعُبِّر عنه بـ ( العذاب الأدنى ) في مقابل ( العذاب الأكبر ) الذي يكون في الآخرة بالاتفاق .


وقد اُورد على هذا الاستدلال بصيغته المطروحة إشكال مفاده أنَّ الآية علَّقت الرجوع عن الكفر على هذا النوع من العذاب ، وممّا لا ريبَ فيه أنَّه لا يرجع عن كفره ـ على فرض إرادة عذاب القبر ـ لأنَّه مستحيل ، فلابدَّ من القول بأنَّ المراد من ( العذاب الأدنى ) هو العذاب في الدنيا الذي يستتبعه إمكانيّة الرجوع .


وبناءً على هذا الإشكال صُحح نحو استدلال ( ابن عباس ) بهذهِ الآية على وقوع عذاب القبر بما يدفع ورود الإشكال المتقدّم ، وذلك عن طريق النظر في قوله تعالى : ( من العذاب الأدنى )إذ إنَّ الأداة (من ) في هذهِ الآية تفيد التبعيض ، أي أنَّ الكافرين سوف يذوقون جزءاً أو بعضاً من العذاب الأدنى في دار الدنيا ، حيث يمكن رجوعهم معه عن الكفر ، وأمّا البعض الآخر من العذاب فهو ما يكون في القبر( [90] ). وبهذا يتوجه الاستدلال بالآية على صحة وقوع العذاب في القبر ، وبالتالي حقيقة الحياة البرزخيّة .


وقد خضعت الآيات المذكورة إلى مناقشات عديدة وواسعة من قبل الكثير من العلماء والمفسّرين ، وخصوصاً من قبل مفسّري أبناء العامة ، فقد ذكروا في صدد تأويل هذه الآيات وبيان عدم دلالتها على حياة (البرزخ ) نظريات وآراء جمّة لا تخلو في الغالب من تكلّف وتحميل .


وبما أنّا لا نتوخّى في دراستنا هذه الاستطراد في تفاصيل هذه الآراء والاستغراق في جزئياتها ، بقدر ما نسعى إليه من تكوين فكرة عامة عن دلالة الآيات القرآنية على هذا المطلب ، وبالتالي إعطاء صورة إجمالية حوله، فقد تجاوزنا التعرض لهذه المناقشات مكتفين بالدلالة الصريحة التي لمسناها من بعض الآيات القرآنية المتقدمة على وجود الحياة البرزخية وثبوتها على نحو الإجمال .


ونودُّ ان نذكّر القارئ الكريم أيضاً أنّ هناك آيات قرآنية أُخرى ذُكرت في مقام الاستدلال على ثبوت حياة ( البرزخ ) ، أعرضنا عن درجها هنا رغبةً في الاختصار .


البرزخ في الحديث


الأَحاديث التي تناولت الحياة البرزخية وأكّدت وجودها وحقيقتها مستفيضة لايسعنا استقصاؤها جميعاً ، وعليه فسوف نقتصر على ما يمكن أن يفي بالمقصود منها .


وهذه الأحاديث تُشير بمجملها إلى أنّ هناك محكمة عادلة ستُقام داخل قبر الانسان ، يتعرض من خلالها للسؤال والمحاسبة على أعماله التي ارتكبها في دار الدنيا ، وأنّ هناك موقفاً صعباً وعسيراً يمرُّ به الانسان آنذاك، ويقطع مخاضاته الشاقة ، وهو ما أُطلق عليه في لسان الروايات بـ(ضغطة القبر ) .


وإليك أيها القارئ الكريم نماذج من هذه الأحاديث المشيرة إلى ذلك :


1 ـ عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد ، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجلسنا حوله ، وكأن على رؤوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر ـمرتين أو ثلاثاً ـ ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكته من السماء ، بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت(عليه السلام)، حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في( [91] )السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال : فيصعدون بها فلا يمرّون ـ يعني بها ـ على ملأ من الملائكة إلاّ قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون : فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : اكتبوا كتاب عبدي في علّيين ، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها اُعيدهم ومنها اُخرجهم تارة أخرى . قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت . فينادي مناد في السماء : أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره . قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح، فيقول : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعده ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي . قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكته سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة، اُخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرّون بها على ملأ من الملائكة إلاّ قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا ، فيستفتح له فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ( لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )فيقول الله عزّ وجلّ : اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً ، ثم قرأ : (ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق )فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب فافرشوا له من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة( [92] ). 2 ـ ورد عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يقول في آخر صلاته : وأعوذُ بك من عذاب القبر ( [93] ). 3 ـ ورد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذين آمنوا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ ) . أنه قال : في القبر إذا سُئل الموتى ( [94] ). 4 ـ وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوَّذ بالله من أربع : من عذاب جهنَّم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شَرِّ المسيح الدجّال( [95] ). 5 ـ عن ( ابن عباس ) أنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول : قولوا : اللهمَّ إنّا نعوذُ بكَ من عذاب جهنَّم ، وأعوذُ بكَ من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجّال ، وأعوذ بكَ من فتنة المحيا والممات ( [96] ). 6 ـ عن ( أبي أيّوب ) أنَّه قال :


خرج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد وجبت الشمس ، فسمع صوتاً فقال : يهود تُعذَّب في قبورها ( [97] ). 7 ـ عن ( عائشة ) قالت :


دخلت عليَّ عجوزان من عُجُز يهود المدينة ، فقالتا لي : إنَّ أهل القبور يُعذّبون في قبورهم ، فكذبتهما ، ولم أنعم أن اُصدقهما، فخرجتا ودخل عليَّ النبيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت : يا رسول الله إنَّ عجوزين وذكرت له فقال : صدقتا إنَّهم يُعذَّبونَ عذاباً تسمعه البهائم كلُّها .


قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلاّ تعوَّذ من عذاب القبر ( [98] ). 8 ـ عن ( اُم مبشر ) قالت :


دَخَل عليَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول : تعوَّذوا بالله من عذاب القبر .


فقلتُ : يا رسولَ الله ! وللقبر عذاب ؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنَّهم ليعذَّبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم ( [99] ). وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : إنَّ القبر أولُ منازل الآخرة ، فإنْ نجا منه فما بعده أيسرُ منه ، وإنْ لم يَنجُ منه فما بعدَهُ أَشدُّ منه ( [100] ). وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال : إنَّ أحدكم إذا ماتَ عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إنْ كانَ من أهل الجنّة فمن أهل الجنّة ، وإنْ كان من أهل النار فمن أهل النار، فيُقال : هذا مقعُدك حتى يبعثَكَ الله يوم القيامة ( [101] ). وعن ( أسماء بنت أبي بكر ) أنَّها قالت :


قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً ، فذكر فتنة القبر التي يُفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضجَّ المسلمون ضجَّةً ( [102] ). وعنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه حضر جنازة رجل ، فلما دُفن قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : استغفروا لأخيكم سلوا له التثبيت ، فإنَّه الآن يُسأل ( [103] ). 9 ـ عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال : فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزِعتُمْ ووهِلتُمْ ، وسَمِعتُمْ وأطعتم ، ولكن محجوبٌ عنكم ما قد عايَنُوا ، وقريبٌ ما يُطرحُ الحجابُ .. ( [104] ). 10 ـ وعنه(عليه السلام) أنه قال: حتى إذا انصرف المشيِّعُ ، ورجَعَ المتفجِّعُ ، أُقعدَ في حُفرتِهِ نَجيّاً ، لبهتَةِ السُؤال ، وعثرةِ الامتحان ، وأَعظمُ ما هنالِكَ بَليَّةً نزولُ الحميم ، وتصليةُ الجحيمِ ، وفوراتُ السعيرِ ، وسوراتُ الزَّفيرِ ، لا فَترةٌ مريحةٌ ، ولا دَعةٌ مُزيحةٌ ، ولا قوَّةٌ حاجزةٌ ، ولا مَوتَةٌ ناجزةٌ ، ولا سِنَةٌ مُسلِّيةٌ ، بَين أطوار الموتاتِ ، وعَذابِ الساعاتِ ، إِنّا بالله عائذون( [105] ).


11 ـ وعنه(عليه السلام) عندما رجع من صفِّين وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة ، أنه قال : يا أَهلَ الديار الموحِشة ، والَمحالِّ المقفرَةِ، والقُبُور المُظْلمةِ، يا أَهلَ التُربةِ ، يا أَهلَ الغُربةِ ، يا أهلَ الوَحدة ، يا أهلَ الوحشةِ ، أَنتم لنا فرطٌ سابقٌ ونحنُ لكم تَبَعٌ لاحِقٌ ، أَمّا الدُّورُ فقد سُكنتْ ، وأَمّا الأَزواجُ فَقد نُكِحتْ ، وأَمّا الأَموالُ فَقَد قُسِمَتْ ، هذا خَبرُ ما عِندَنا ، فما خبرُ ما عِندكم ؟


ثم التفت عليّ(عليه السلام) إلى أصحابه فقال : أَما لو أُذِنَ لَهم في الكلام لأَخبرُوكُم أَنَّ ( خيرَ الَّزادِ الَّتقوى )( [106] ) .


12 ـ وعنه(عليه السلام) قال : إنَّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدنيا وأول يوم من الآخرة ، مُثّل له ماله وولده وعمله ; فيلتفت إلى ماله فيقول : والله إني كنت عليك حريصاً شحيحاً ، فما لي عندك ؟ فيقول : خذ منّي كفنك . قال : فيلتفت إلى ولده ، فيقول : والله إني كنت لكم محبّاً ، وإني كنت عليكم محامياً ، فماذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤدّيك إلى حفرتك نواريك فيها قال : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إني كنت فيك لزاهداً ، وإن كنت عليَّ لثقيلاً ، فماذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك ، حتى أُعرض أنا وأنت على ربّك . قال : فإنْ كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً فقال : أبشر بروح وريحان ، وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم ، فيقول له : مَنْ أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجَنّة ، وإنه ليعرف غاسله ، ويناشد حامله أن يعجله . فإذا أُدخل قبره أتاه ملكا القبر ، يجرّان أشعارهما ، ويخدان الارض بأقدامهما ، وأصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : مَنْ ربُّك ؟ وما دينك ؟ ومَنْ نبيُّك ؟ فيقول : الله ربّي وديني الاسلام ونبيّي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) . فيقولان له : ثبَّتك الله فيما تحبّ وترضى ; وهو قول الله عزَّ وجلَّ : ( يُثبِّتُ اللهُ الَّذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة )( [107] ). ثم يفسحان له في قبره مدّ بصره ، ثم يفتحان له باباً إلى الجَنّة ثم يقولان له : نَمْ قريرَ العين ، نومَ الشابِّ الناعم ، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول : (أصحابُ الجَنّةِ خيرٌ مستقرّاً وأحسن مَقيلاً )( [108] )قال : وإن كان لربّه عدوّاً فإنه يأتيه أقبح من خلق الله زيّاً ورؤياً ، وأنتنه ريحاً ، فيقول له : أبشر بنُزُل من حميم ، وتصلية جحيم ، وإنه ليعرف غاسله، ويناشد حملته أن يحبسوه ، فإذا اُدخل القبر أتاه ممتحنا القبر ، فألقيا عن أكفانه ، ثم يقولان له : مَنْ ربُّك ؟ وما دينك؟ ومن نبيّك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : لا دريت ولا هديت، فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربةً ما خلق الله عزَّ وجلَّ من دابة إلاّ وتذعر لها ، ما خلا الثقلين ، ثم يفتحان له باباً إلى النار ، ثم يقولان له : نَمْ بشرِّ حال فيه من الضيق مثل ما فيه القنا من الزجّ ، حتى إنّ دماغه ليخرج من بين ظفره ولحمه ويسلط الله عليه حيّات الأَرض وعقاربها . وهوامَّها ، فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره ، وإنه ليتمنّى قيام الساعة فيما هو فيه من الشرّ ( [109] ). 13 ـ عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ما من موضع قبر إلاّ وهو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات : أنا بيت التراب ، أنا بيت البلاء ، أنا بيت الدُّود، قال : فإذا دخله عبد مؤمن قال : مرحباً وأهلاً ، أما والله لقد كنت أُحبّك وأنت تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني ؟ فسترى ذلك . قال : فيفسح له مدَّ البصر ويفتح له باب يرى مقعده من الجنّة . قال : ويخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه . فيقول : يا عبد الله ما رأيت شيئاً قطّ أحسن منك فيقول : أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه وعملك الصّالح الّذي كنت تعمله. قال: ثم تؤخذ روحه فتوضع في الجَنّة حيث رآى منزله ثمَّ يقال له: نَمْ قريرَ العين ، فلا يزال نفحة من الجَنّة تصيب جسده يجد لذّتها وطيبها حتى يُبعث. قال : وإذا دخل الكافر قال : لا مرحباً بك ، ولا أهلاً ، أما والله لقد كنتُ أُبغضك وأنت تمشي على ظهري ، فكيف إذا دخلت بطني ؟ سترى ذلك ، قال: فتضمّ عليه فتجعله رميماً ، ويعاد كما كان ، ويفتح له باب إلى النار ، فيرى مقعده من النار ، ثم قال : ثمَّ إنّه يخرج منه رجلٌ أقبح من رآى قطُّ . قال : فيقول : يا عبد الله من أنت ؟ ما رأيت شيئاً أقبح منك ، قال : فيقول : أنا عملك السيّئ الذي كنت تعمله ، ورأيك الخبيث قال : ثم تؤخذ روحه فتوضع حيث رآى مقعده من النار ، ثمَّ لم تزل نفحة من النار تصيب جسده، فيجد ألمها وحرّها في جسده إلى يوم يبعث ، ويسلِّط الله على روحه تسعة وتسعين تنيناً( [110] )تنهشه ليس فيها تنِّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئاً( [111] ).


15 ـ وعنه(عليه السلام) قال : إنَّ للقبر كلاماً في كلّ يوم يقول : أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدود ، أنا القبر ، أنا روضة من رياض الجَنّة أو حفرة من حفر النّار ( [112] ). 16 ـ وعن عليّ زين العابدين(عليه السلام) أنه قال : والله إنَّ القبر لروضة من رياض الجَنّة ، أو حفرة من حفر النّار ( [113] ). وروي هذا الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً( [114] ). 17 ـ وعن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال : والله ما أخاف عليكم إلاّ البرزخ ، فأمّا إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم ( [115] ). 18 ـ وعن ( أبي بصير ) قال : سمعتُ أبا عبد الله(عليه السلام) يقول :


( فأمّا إن كانَ من المقرَّبين * فروحٌ وريحان ) ، قال : في قبره، (وجنة نعيم ) ، قال : في الآخرة ، ( وأمّا إنْ كانَ مِن المكذِّبين الضالّين* فنزلٌ من حميم ) في قبره ، ( وتصليةُ جحيم)، في الآخرة( [116] ). 19 ـ وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنَّه قال : ليس بيننا وبين الجنّة أو النار إلاّ الموت ( [117] ) .


رومان فتّان القبور


ورد في الدعاء الثالث من أدعية الصحيفة السجاديّة للإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) بعد تحميد الله تعالى والثناء عليه ، والصلاة على سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله وسلم) وآله(عليهم السلام) وحملة العرش وجملة من الملائكة الآخرين أنّه قال: .. ورومان فتّان القبور ( [118] ). والذي يظهر من خلال هذا الدعاء أنّ مهمة الملَك رومان تتعلق على نحو الإجمال بالحياة البرزخيّة ، وأنّه يقوم بدور متميز في هذه الحياة، ومن خلال اللقاء مع الإنسان في قبره ومثواه الأخير في هذه الدنيا، إلاّ أنّه لم ترد الإشارة التفصيلية لنوع المهمة التي يمارسها الملَك رومان في الدعاء نفسه .


ولكن عند النظر في بعض الأخبار التي تعرّضت لبيان مهامّ الملائكة بالتفصيل ، وطبيعة الأعمال التي تقوم بها بمختلف أنواعها وأصنافها بما في ذلك الملَك رومان ، نجد أنّ هناك نوعاً من التفصيل في توضيح الدور الذي يمارسه هذا الملَك في قبر الإنسان بعد الموت . وتتلخص وظيفته بأنّه يأمر الإنسان بكتابة أعماله صغيرها وكبيرها ، حسنها وسيئها ، ويُسطِّر ذلك في كتاب خاص ، ثمّ يُختم ويُطوى ويُعلّق في عنقِ الإنسان ، ليُخرج إليه يوم القيامة .


كما أنّ الظاهر أنّ هذا الملَك هو أول من يدخل على الإنسان في قبره ويقوم بعملية الاستجواب المقررة مع الميت قبل أنْ ينزل عليه الملَكان المقرَّبان منكر ونكير أو مبشِّر وبشير .


فقد ورد عن عبد الله بن سلام قال :


سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن أول ملَك يدخل في القبر على الميت قبل منكر ونكير .


قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : يا بن سلام ! يدخل على الميتِ مَلَك قبل أَن يدخل منكر ونكير ، يتلألأ وجهه كالشمس ، اسمه رومان يدخل على الميت ثم يُقعِده فيقول له : أُكتب ما عملتَ من حسنة ومن سيئة . فيقول له : بأَيِّ شيء أَكتب ؟ أَين قلمي ؟ وأَين دواتي ؟ وأَين مدادي ؟ فيقول له : ريقُك مدادٌ ، وقلمُكَ إصبعُك ! فيقول : وعلى أيِّ شيء أَكتب ، وليس معي صحيفة ؟ قال : فيقطع كفنه فيناوله ، فيقول : هذا صحيفتك ، فاكتب ما عملت في الدنيا خيراً وشرّاً ، فإذا بلغ سيئةً يستحي منه فيقول له الملَك : يا خاطئ ! أَما تستحي من خالقِك حيث عملتها في الدنيا ، وتستحي منّي الآن ؟! فيرفع الملَك العمود فيضربه . فيقول العبد : ارفع عني حتى أَكتبها ! فيكتب فيها جميع حسناته وسيئاته ، ثم يأمره أَنْ يطويه ويختمه، فيطويه فيقول : بأيِّ شيء أختمه ؟ ليس معي خاتم ! فيقول: اختمه بظفرك . ويعلِّقه في عنقه إلى يوم القيامة( [119] ). كما قال تعالى :( وَكُلَّ إِنسان أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنقهِ ..)( [120] ) .


منكر ونكير ومبشِّر وبشير


ثم تأتي بعد ذلك مهمة قعيدي القبر ، وقد وردت روايات متنوعة في بيان مهمة هذين الملَكين وطبيعة العمل الذي يمارسانه تجاه الميت في القبر ، ومما يمكن أَنْ يستنتج من مجموع هذه الروايات أنَّ مهمة هذين الملَكين تختلف نوعاً ما مع مهمة رومان فتّان القبور . إذ إنّ رومان لم يكن يمارس عملية استجواب الميت وسؤاله عن معالم الدين وأصوله ومبانية ، وإنّما كان مكلفاً بكتابة الأعمال ودرجها ضمن كتاب الإنسان ، الذي يُنشَر له يوم الجزاء . وأمّا هذان الملَكان فإنّهما يزاولان عملية استجواب الميت واستنطاقه عن أساسيات الدين .


وجاء في بعض الروايات أنّ اسمي الملَكين اللّذين يدخلان على الكافر منكر ونكير أو ناكر ونكير ، واسمي الملَكين اللّذين يدخلان على المؤمن مبشِّر وبشير . ومما لايخفى أنّ لهذه التسمية مدخلية في طبيعة العمل الذي ارتكبه الإنسان في حياته الدنيا ; ولذا يقول الشيخ المفيد في شرح الاعتقادات :


إنّما سُمي ملكا الكافرِ ناكراً ونكيراً ; لأنَّه ينكر الحق ، وينكر ما يأتيانه به ويكرهه ، وسُمّي مَلَكا المؤمنِ مبشِّراً وبشيراً ; لأَنّهما يبشرانه بالنعيم ، ويبشرانه من الله تعالى بالرضا والثواب المقيم . وإنّ هذين الاسمين ليسا بلقب لهما وإنّما هو عبارة عن فعلهما ( [121] ). كما أنّ الهيئة التي يدخل عليها هذان الملَكان إلى قبر الميت تختلف من شخص لآخر ، فإن كان مؤمناً دخلا عليه بهيئة حسنة ، وصورة جميلة . وإن كان كافراً دخلا عليه بهيئة سيئة ، وصورة قبيحة.


فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : ويدخل في قبره ملَكا القبر ـ وهما قعيدا القبر ـ منكر ونكير ، فيلقيان فيه الروح إلى حقويه ، فيقعدانه ويسألانه ... قيل : جعلت فداك يدخلان على المؤمن والكافر في صورة واحدة ؟ فقال : لا ( [122] )


ومما أكّدته الأحاديث بهذا الصدد : أنّ الانسان يُسأل في قبره من قبل هذين الملَكين عن أساسيات الدين واُصوله ، فإن كان مؤمناً عارفاً بدينه وربِّه تيسرت له الإجابة عن سؤال الملَكين ، وشرح الله صدره ، وحلَّ عقدة لسانه في ذلك الموقف المهول . وأمّا إذا كان كافراً وغير عارف بربِّه وبدينه فإنّه يُكمّ فوه ، ويذهل عن الإجابة ، ويعيى عن الكلام ، ويبقى حائراً مذعوراً .


روي عن ( زيد الشحّام ) أنَّه قال :


سُئِل أبو عبد الله(عليه السلام) عن عذاب القبر ، فقال(عليه السلام) : إنَّ أبا جعفر حدَّثنا أنَّ رجلاً أتى سلمان الفارسي فقال : حدّثني ; فسكتَ عنه ، ثمَّ عادَ فسكت ، فأدبرَ الرجل وهو يقول ويتلو هذه الآية : ( إنَّ الَّذينَ يكتمون ما أنزلنا من البيِّناتِ والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب )( [123] )، فقال له : أقبل ، إنّا لو وجدنا أميناً لحدَّثناه ، ولكن أعدَّ لمنكر ونكير إذا أتياك في القبر فسألاك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإن شككت أو التويت ضرباك على رأسك بمطرقة معهما تصير منه رماداً ، قال : فقلت : ثمَّ مَه ؟ قال : تعود ثمَّ تُعذَّب ، قلت : وما منكر ونكير ؟ قال : هما قعيدا القبر ، قلتُ : أملَكان يعذِّبان الناسَ في قبورهم؟ فقال : نعم ( [124] ). وعن ( أبي بصير ) أنَّه قال : سمعتُ أبا عبد الله(عليه السلام) يقول : إذا وُضع الرجل في قبره أتاه ملَكان : ملَك عن يمينه ، وملَك عن يساره، واُقيم الشيطان بين عينيه ، عيناه من نحاس ، فيُقال له : كيف تقول في الرجل الذي ] كانَ [ بين ظهرانيكم ؟ قال : فيفزع له فزعة ، فيقول إذا كان مؤمناً : أعن محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تسألاني ؟ فيقولان له : نم نومةً لا حُلمَ فيها ، ويُفسح له في قبره تسعة أذرع ، ويرى مقعده من الجنّة ، وهو قول الله عزَّ وجلَّ :( يثبِّتُ اللهُ الَّذين آمنوا بالقولِ الثابت في الحياةِ الدّنيا وفي الآخرة)( [125] ). وإذا كان كافراً قالا له : مَن هذا الرجل الذي خرج بين ظهرانيكم؟ فيقول : لا أدري ، فيخلِّيان بينه وبين الشيطان ( [126] ). وقال الحافظ أبو عبد الله بن مندة في كتاب ( الروح والنفس ) : عن البراء بن عازب عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال بخصوص المؤمن : فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ، ويفحصان الأرض بأشعارهما ، فيجلسانه ، ثم يقال له ; يا هذا ! من ربُّك ؟ فيقول : ربي الله. فيقولان : صدقت . ثم يقال له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان : صدقت . ثم يقال له : من نَبيُّك ؟ فيقول : محمّد رسول الله . فيقولان : صدقت . ثم يفسح له في قبره مدَّ بصره .


وأمّا الكافر : فيأتيه منكر ونكير ، يثيران الأرض بأنيابهما ، ويفحصان الأرض بأشعارهما ، أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيجلسانه ثم يقولان : يا هذا ! من ربُّك ؟ فيقول : لا أدري. فينادى منجانب القبر : لا دَريتَ ! فيضربانه بمرزبة من حديد ، لو اجتمع عليهامَن بين الخافقين لم تُقَلّ . ويضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه( [127] ). وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) بشأن المؤمن بالمعنى المتقدم نفسه : فإذا أُدخل قبره أتاه مَلَكا القبر يجرّان أشعارهما ويخدّان الأرض بأقدامهما ، أصواتهما كالرّعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : مَن ربُّك ؟ وما دينُك ؟ وَمن نَبيُّك ؟ فيقول : الله ربّي ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) . فيقولان له : ثبّتك الله فيما تحبُّ وترضى; وهو قول الله عزَّ وجلَّ :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذين آمنُوا بالقولِ الثَّابِتِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ)( [128] )( [129] ). وهذه الصيحة العظيمة التي تنطلق من حنايا الإنسان عند الحساب والتي تقدمت الإشارة اليها في الحديثين المتقدمين محجوبة ومستورة عن الخلائق ، ولو سمعوها لما تدافنوا خوفاً وذعراً من هول هذا الأمر. وقد ورد هذا المعنى في قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الذي نقله عنه الإمام الباقر(عليه السلام) حيث يقول(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّي كنت أنظر إلى الإبل والغنم وأنا أرعاها ، وليس من نبيّ إلاّ وقد رعى الغنم ، وكنت أنظر إليها قبل النبوَّة وهي متمكِّنة من المكينة( [130] )، ما حولها شيء يهيّجها ، حتّى تُذعر فتطير ، فأقول : ما هذا ؟ وأعجب ، حتّى حدَّثني جبرئيل(عليه السلام) أَنَّ الكافر يُضرب ضربة ما خلق الله شيئاً إلاّ سمعها ويذعر لها إلاّ الثقلين ( [131] ). وقد ورد عن زيد بن ثابت أنّه قال :


بينما النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في حائط لبني النَّجَّار على بغلة لَهُ ، ونَحنُ معهُ ، إذْ حادَتْ به ، فكادَتْ تُلقيه ، وإذا أَقبُرٌ ستَّةٌ أو خَمسةٌ أوْ أَربعةٌ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : منْ يعرفُ أصحابَ هذهِ الأَقبر ؟ فقال رجلٌ : أنا ، قال(صلى الله عليه وآله وسلم) : فَمتى ماتَ هؤلاء ؟ قال : ماتُوا في الإشراك ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنَّ هذه الأُمَّة تُبتلى في قُبورِها ، فلو لا أَن لا تَدافنُوا لَدعوْتُ اللهَ أَن يُسمعكُمْ مِنْ عذابِ القبرِ الَّذي أَسمعُ منه( [132] ).


وورد في أخبارنا الخاصة أنَّ الانسان يُسأل في قبره عن إمامه أيضاً . وسوف نأتي على بعض هذه الأخبار لاحقاً ، إن شاء الله تعالى.


ضغطة القبر


وردت الروايات الدالّة على تعرُّض الإنسان لضغطة القبر وضمَّته ، وأنّ هذه الضغطة لا ينجو منها إلاّ من أنجاه الله بسابق إِحسانه وعمله ، وهي حق لا ريب فيه ، وقد وقعت مورداً لإجماع أهل الحديث .


ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال عندما دُفن ( سعد بن معاذ ) : لقد ضُمَّ صاحبكم في القبر ضمّة ( [133] ). وفي رواية انه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما دفن ابنته فجَلَس عند القبر ، فتربَّد وجهه ، ثم سري عنه ، فقال له أصحابه : رأينا وجهكَ آنفاً ثم سري ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : ذكرتُ ابنتي وضعفها وعذابَ القبر ، فدعوتُ الله ففرج عنها ، وأيم الله لقد ضُمَّت ضمَّةً سمعها مَن بين الخافقين ( [134] )


وقد ورد في ( الكافي ) ما يشبه الرواية الآنفة في المعنى عن ( أبي بصير) عن أحد الإمامين الباقر أو الصادق(عليهما السلام) أنَّه قال : لمّا ماتت رقيّة ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : إلحقي بسلفنا الصّالح عثمان بن مظعون وأصحابه ، قال : وفاطمة(عليها السلام) على شفير القبر تنحدر دموعها في القبر ، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتلقّاه بثوبه ، قائماً يدعو ، قال : إنّي لأعرف ضعفها ، وسألتُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يجيرها من ضمّة القبر( [135] ). والذي يبدو أنَّ هذهِ الضمّة أمر عام يطال مَن قُبر في الأرض ومَن لم يُقبر ـ إن كان ذلك مكتوباً عليه ـ إذْ قد يموت الإنسان ولا يُدفن في الأرض ، فيقوم الهواء بدور الأرض في ضمِّه وضغطه ، وتعريضه لهذا النوع من الحساب :


فعن ( أبي بصير ) عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال :


قلتُ لأبي عبد الله(عليه السلام) : أيفلت من ضغطة القبر أحدٌ ؟ قال : فقال: نعوذُ بالله منها ، ما أقلّ مَن يفلت من ضغطة القبر .. ( [136] ) !


وقد سأل ( يونس ) الامام الرضا(عليه السلام) عن المصلوب يُعذَّب عذاب القبر؟ فقال(عليه السلام) : نعم ! إنَّ الله عزَّ وجلَّ يأمر الهواء أَنْ يضغطه ( [137] ). وفي رواية اُخرى :


سُئل أبو عبد الله(عليه السلام) عن المصلوب يصيبه عذاب القبر ؟ فقال(عليه السلام): إنَّ ربَّ الأرض هو ربُّ الهواء ، فيوحي الله عزَّ وجلَّ إلى الهواء فيضغطه ضغطة أَشدّ من ضغطة القبر ( [138] ). والذي نفهمه من الأحاديث الواردة بهذا الشأن أنَّ ضغطة القبر جزءٌ من عذاب ( البرزخ ) وعقابه ، وهي تختلف بلحاظ الشخص المضغوط، فإن كان مؤمناً كانت الضغطة كفّارةً لذنوبه المتبقيّة عليه ، وان كان كافراً كانت عذاباً ونكالاً عليه لتفريطه في جنب الله .


قال الامام الصادق(عليه السلام) : ضغطة القبر للمؤمن كفّارةٌ لما كان منه من تضييع النعِم ( [139] ) .


موت الأرواح


دار نقاش حادّ بين المتكلِّمين حول قضية موت الأَرواح . فقد وجد هؤلاء أَنفسهم أمام سؤال فرض نفسه على طبيعة الأبحاث المتعلّقة بالموت والمعاد . وهذا السؤال الذي يتطلب الإجابة الواضحة الصريحة هو أَنَّه : هل تموت الأَرواح ؟ بمعنى أَنّها تضمحل وتنعدم ، أم أَنَّها تبقى بعد مفارقتها للبدن إلى يوم البعث من دون أن يعتريها الموت والاضمحلال والانعدام ؟!


ذهب بعض أهل الحديث إلى القول : إنَّ الروح تموت كما يموت البدن ، ثم إنَّها تحيا مرةً أُخرى ليوم البعث بعد انعدامها وزوالها . وقد دعم هؤلاء قولهم هذا بطائفة من الآيات التي تدلّ بظاهرها على انقضاء الحياة وفناء كلِّ ما عليها ، وأنّه لا يبقى إلاّ الله الواحد القهار . ولا شك في أنّ هذا الفناء العام يشمل الأرواح ، وينطبق عليها ، فهي فانية ومنعدمة لا محالة ، كما قال تعالى:


( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فَان * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكرام)( [140] ).


وقال تعالى : ( كُلُّ شيء هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ )( [141] ). وقال تعالى : ( كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ المَوْتِ )( [142] ). وبما أنَّ الروح نفس ، فهي تذوق الموت وتؤول إلى الانعدام من دون شك.


وقد دلَّتْ بعض الأخبار على أنّ كلّ مَن على وجه الأرض ، وأن كلّ مخلوق لله تعالى لابدَّ أنْ يموت ، حتى حملة العرش والملائكة المقرّبون . بل بما في ذلك ملَك الموت نفسه ! فقد جاء في كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن ابن المعزّ قال : حدّثني يعقوب بن الأَحمر أنّه قال:


دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) نعزّيه بإسماعيل ، فترحّم عليه ، ثم قال : إنّ الله ـ تعالى ـ عزّى نبيّه بنفسه فقال :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ )( [143] ) ، ( كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ المَوْتِ )( [144] ).


ثم أنشأ يحدِّث فقال : إنَّه يموت أهل الأرض ، حتى لا يبقى أحد ، ثم يموت أهل السماء، حتى لا يبقى أحد إلاّ ملَك الموت وحملة العرش وجبرائيل وميكائيل ... ، فيقال له : قل لجبرائيل وميكائيل فليموتا ، فيقول حملة العرش : يا ربِّ رسولَيك وأمينَيك ! فيقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : إنّي قد قضيت على كلِّ نفس فيها الروح أن تموت . ثم يجيء ملَك الموت حتى يقف بين يدي الله ـ عزّ وجلّ ـ فيقال له : من بقي ؟ وهو أعلم ، فيقول : يا ربِّ لم يبقَ غير ملَك الموت وحملة العرش، فيقال له : قل لحملة العرش فليموتوا . ثم يجيء ملَك الموت لا يرفع طرفه ، فيقال له : مَن بقي ؟ فيقول : يا ربِّ لم يبق غير ملَك الموت . فيقول : مُتْ يا ملَك الموت ! فيموت... ( [145] ). واستدلّوا أيضاً بقوله تعالى :


( رَبَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ )( [146] ). فقالوا : إنّ الموتة الأولى هي التي تحصل للبدن في دار الدنيا ، وأمّا الموتة الثانية فهي عبارة عن موت الروح .


واستدلّوا كذلك بقوله تعالى :


( وَنُفِخَ في الصُّور فَصَعِقَ مَنْ في السَّمَواتِ وَمَنْ في الأرضِ)( [147] ). وهذا الصعق المذكور في الآية الكريمة يشمل الأرواح . وهذا يعني موتها وانعدامها .


ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَلَيها فان )( [148] ). وقوله تعالى : ( كُلُّ شيء هَالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ )( [149] ). وتقريب الاستدلال بالآيات المتقدمة هو أن يُقال : إنّ ظاهر هذه الآيات هو عموم الموت لجميع المخلوقات ، بما في ذلك الأرواح والأنفس.


كما أنّهم أوردوا أدلّة اُخرى يطول المقام بذكرها جميعاً .


وفي مقابل هذا الرأي نجد الرأي المعاكس الذي يقول بعدم إمكانية اضمحلال وانعدام الروح ضمن سلسلة مراتب الوجود ، وخلال سيرها في الحياة وبعد الممات . وإنّ كل ما تقدم من أدلّة يمكن المناقشة فيه ، ودفع الاستدلال الذي ذكر بشأنه ، وتأويل تلك الأخبار والآيات بما لا ينتهي إلى القول بفناء الأرواح وانعدامها بعد الموت . وقد ذهب أكثر المتكلّمين والفلاسفة إلى هذا الرأي .


وممن نظم هذا الاختلاف الحاصل في مسألة بقاء الأرواح وموتها (أحمد بن الحسين الكندي ) حيث يقول :


تنازع الناسُ حتى لا اتّفاق لهم***إلاّ على شَجَب والخُلف في شَجَبِ


فقيل تخلصُ نفسُ المرءِ سالمة***وقيل تَشْرَكُ جسمَ المرءِ في العطب


وقد تعرّضت الآيات التي أوردها القائلون بموت الأرواح ، والتي تعدّ عمدة الأدلّة لديهم إلى النقاش والتأويل ، فقوله تعالى :


( رَبَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَينِ وَأَحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ ) .


لا توجد فيه دلالة على موت الأرواح ; لأنّ الموت الثاني الذي تذكره الآية الكريمة إنْ دلَّ على الموت بعد حساب البرزخ فهو ـ على ما هو القول الأصح في تفسير الآية ـ لا يعني انعدام الروح واضمحلالها ، وإنّما يمكن أن يشار به إلى الصعق الذي يشمل جميع المخلوقات والذي سيأتي الكلام عنه ، أو الانتقال من مرحلة من مراحل وجود الروح إلى مرحلة اُخرى مع الاحتفاظ بسمة الوجود والبقاء ، كما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : ما خُلقتم للفناء بل للبقاء ، وإنّما تنقلون من دار إلى دار ( [150] ). ولا شك في أنّ طبيعة تلك الدار إنما يحددها عمل الإنسان وسعيه في الدنيا ، فإنْ كان خيراً فإنَّ أمره يؤول إلى الخير ، وإنْ كان شرّاً فشرّ.


وأمّا آية الصعق والآيات الدالّة على موت الخلائق جميعاً في آخر لحظات الحياة فهي لا تُسعف القائلين بموت الأرواح أيضاً ، ولا تفي بما يُدّعى لها من الانعدام التام إذ قد وقع الاستثناء في آيتين :


فقد جاء في سورة الزمر : ( وَنُفِخَ في الصُّور فَصَعِقَ مَنْ في السَّمواتِ ومَن في الأرض إلاّ من شاءَ اللهُ )( [151] ). وجاء في سورة النمل :


( وَيَومَ يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَن في السمواتِ ومَن في الأرضِ إلاّ مَن شاءَ اللهُ .. )( [152] ) . فأولاً : لا يمكن القطع بأنَّ الصعق الوارد في الآية يعني الموت والانعدام، وإنما يمكن أن يعني الغشية ، وهو ما جاء بهذا المعنى واضحاً في قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً )( [153] ) . ثانياً : يمكن أن يكون الاستثناء شاملاً للأرواح الباقية بعد فناء كلِّ شيء.


وقد ذكر بعض المفسّرين في مقام توجيه الاستثناء في الآية ما عبارته :


إنّ الموت إنّما يلحق الأجساد بانقطاع تعلّق الأرواح بها ، وأمّا الأرواح فإنّها لا تموت ، فالأَرواح هم المستثنون استثناءً متّصلاً ( [154] ). وبهذا فإنَّ الآية تكون من الشواهد على بقاء الأرواح والإشعار بعدم تعرّضها للموت من خلال الاستثناء الوارد فيها . خصوصاً إذا ضممنا إلى ذلك الحديثَ الوارد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في تفسير حروف المعجم ; الحرفين ( م ن ) حيث يقول : فالميم مُلكُ الله يومَ الدين يوم لا مالك غيرهُ ويقول الله عزَّ وجلَّ : (لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ ) ، ثُمَّ تنطق أرواح أنبيائِهِ ورسلِهِ وحججِهِ ، فيقولونَ : (للهِ الواحدِ القهّار ) فيقول جلَّ جلالهُ : (اليَوْمَ تُجزى كُلُّ نَفْس بما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليومَ إنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسابِ)( [155] ) ( [156] ). وأما قوله تعالى : ( كلُّ مَنْ عَلَيها فان ) وقوله : ( كُلُّ شَيء هالِكٌ إلاّ وَجْهَهُ ) .


فمن الممكن أن يتعلّق الفناء والهلاك بالأبدان المادية بمعنى انفصال الروح عنها وبقائها في عالمها المجرّد إلى يوم البعث والحساب ، كما سيأتي في بيانه بعد قليل عند التعرّض لمعنى توفّي الأنفس عند الموت .


وهكذا الأمر في قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ الموتِ ... ) .


فهي لا تدلّ على انعدام الأرواح ، بل يمكن أن يستظهر منها العكس، إذ إنَّها تشتمل على نكتة لطيفة تصلح لأَنْ تكون شاهداً على بقاء الأرواح ، لا على إنعدامها ، حيث إنَّ المتذوق للشيء لابد أَنْ يكون موجوداً على الأقل حال تذوقه للشيء لكي يصدق عليه أنّه قد تذوق أمراً معيناً ، فالنفس أو الروح حين تتذوق الموت لابد أن تكون موجودة ومستشعرة لهذا التذوّق. وهذا يدلل على أنّ تذوّق الموت من قبل النفس يعني ألم مفارقتها للبدن وانفصالها عنه .


والأمر في الأخبار أيسر من ذلك ، إذ يمكن أن تُحمل على ما حملت عليه الآيات السابقة ، فلا تدلّ على انعدام الأرواح وإنّما على انتقالها من حال إلى حال ، كما تقدمت الإشارة إليه .


وفي الحقيقة إنَّ ما أورده القائلون بموت الأرواح من أدلّة لا يكاد ينهض إلى مستوى القول الفصل في هذه المسألة ، ولا يمكن أنْ يفي بالإجابة عن الإشكالات التي يثيرها القائلون ببقاء الأرواح ، وعدم تعرّضها للموت والفناء المطلق ، بل نرى أَنَّ هناك آيات قرآنية صريحة في الدلالة على بقاء أرواح الشهداء والأنبياء(عليهم السلام) بجوار الله تعالى ، وتنعمّها بالعطاء الإلهي المقيم والنعيم الأبدي الخالد ، وهو ظاهر في قوله تعالى :


( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلوا في سَبِيلِ اللهِ أَمواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِندَ رَبّهِم يُرزَقُونَ * فَرِحينَ بما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَستَبْشِرُونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِّن خَلْفِهمْ ألاّ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُم يَحْزَنُونَ )( [157] ). فمن الواضح من سياق هذه الآيات التي تشير إلى أنّ أرواح الشهداء باقية لا يعرض عليها العدم والاضمحلال ، يمكن أن نستظهر منها أنّ الأرواح تبقى على هذه الصورة من التنعّم إلى أنْ تقوم الساعة، ويأتي يوم الحساب .


مضافاً إلى أن هناك طائفة من الأحاديث قد دلّت على أنّ الإنسان إنّما خلق للبقاء والخلود لا للعدم والفناء . فالروح على هذا الأساس تمثل حالة تكاملية ، ومرتبة راقية وسامية من مراتب وجود الإنسان . وهذه الحالة التكاملية الصاعدة تتقاطع مع العدم والفناء ، ولا يمكن أن تنتهي وتعود إليه.


فقد روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : آنبياء الله لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار ( [158] ). وقد روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) أنّه قال لرجل : خلقنا للبقاء وكيف تفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد ؟ ولكن قل : إنّما نتحرك من دار إلى دار ( [159] ). فالملاحظ في الحديث أنّه عبَّر عن الموت بانتقال الإنسان من دار إلى دار. ولا شك في أنّ الروح هي التعبير الواقعي عن ذات الإنسان ، وهي المعنيّة بالانتقال ، فنجد في هذا الحديث إشارة إلى عدم فناء الأرواح وانعدامها ، وإنّما هي تتحول من حالة وجوديّة إلى حالة وجوديّة اُخرى .


وورد في حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنّه قال : الأرض لا تأكل مَحلَّ الإيمان ( [160] ). والمقصود من محلّ الإيمان في الرواية الأرواح فالأرض إنّما تأكل الجسد المادي وتفرّق أوصاله ، أمّا الروح فهي باقية لا تتأثر بما يعرض على البدن من التفسخ والاضمحلال ، ولذا جاء في المقالات للشيخ (الصدوق(رحمه الله)) أنّه قال :


اعتقادنا في النفوس أنّها هي الأرواح التي بها الحياة ، وأنّها الخلق الأول، لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : إنَّ أول ما أبدع الله سبحانه وتعالى هي النفوس المقدسة المطهرة ، فأنطقها بتوحيده ، ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه .


واعتقادنا فيها أنّها خلقت للبقاء ، ولم تخلق للفناء ، لقول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : ما خُلقتم للفَناء ، بل خُلقتم للبقاء ، وإنّما تنقلون من دار إلى دار . وأنّها في الأرض غريبة ، وفي الأبدان مسجونة .


واعتقادنا فيها أنّها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعّمة ، ومنها معذّبة، إلى أن يردّها الله تعالى بقدرته إلى أبدانها ( [161] ). وعلى أية حال فقد ناقش بعض محققي الشيعة في هذا الأمر على إطلاقه أيضاً ، مثل الشيخ ( المفيد ) في ( شرح الاعتقادات ) . ولكن القدر المتيقن الذي يمكن أن يكون مورداً للاتفاق هو أنّ الأرواح الباقية هي أرواح مَنْ محض الإيمان محضاً ، ومن محض الكفر محضاً. وقد جاءت بهذا المعنى الأخبار الصريحة . وأمّا في باقي الأرواح فإنّها تترك ويُلهى عنها إلى قيام الساعة . وكذلك أرواح الأنبياء والأئمة(عليهم السلام) باقية منعّمة . بل جاء في بعض الروايات أنّهم ينتقلون بأجسادهم وأرواحهم إلى السماء فيتنعمون هناك .


يقول الشيخ ( المفيد ) بعد أن يناقش في بعض آراء الشيخ (الصدوق ) :


] وقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) ما ذكرناه في هذا المعنى وبيّناه، فسُئل عمّن مات في هذه الدار : أين تكون روحه ؟ فقال : من مات وهو ماحضٌ للإيمان محضاً ، أو ماحض للكفر محضاً نُقلت روحه من هيكله في الصُّورة ، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة ، فإذا بعث الله مَن في القبور أنشأ جسمه وردَّ روحه إلى جسده ، وحشره ليوفيه أعماله . فالمؤمن تنتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة ، فيجعل في جنة من جنان الله يتنعّم فيها إلى يوم المآب . والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتُجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة . وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى: (قِيلَ ادخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يا لَيْتَ قَوْمـي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من المُكْرَمِين)( [162] ). وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى : ( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً ويومَ القيامةِ أَدخِلوا آل فِرعونَ أشدَّ العذابِ )( [163] ) . فأخبر سبحانه أنّ مؤمناً قال بعد موته وقد أُدخل الجنّة : ( يا ليت قومي يعلمون ) . وأخبر أنّ كافراً يعذّب بعد موته غدوّاً وعشيّاً ، ويوم تقوم الساعة يخلد في النار . والضرب الآخر مَن يُلهى عنه وتُعدم نفسُه عند فساد جسمه ، فلا يشعر بشيء حتى يُبعث ، وهو من لم يمحض الإيمان محضاً ، ولا الكفر محضاً . وقد بيّن الله تعالى ذلك عند قوله : ( إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إنْ لَّبِثْتُمْ إلاّ يَوْماً)( [164] ). فبيَّن أَنَّ قوماً عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور ، حتى يظنّ بعضهم أن ذلك كان عشراً ، أو يظنّ بعضهم أن ذلك كان يوماً ، وليس يجوز أَنْ يكون ذلك عن وصف من عذّب إلى بعثه ، أو نعّم إلى بعثه ; لأن من لم يزل منعّماً أو معذّباً لا يجهل عليه حاله فيما عومل به ، ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته .


وقد روي عن أبي عبد الله(عليه السلام) أَنَّه قال : إنما يُسأل من محض الإيمانَ محضاً ، أو محض الكفرَ محضاً ، فأما سوى هذين فإنه يُلهى عنه .


وقد جاء في الحديث أنّ الأنبياء صلوات الله عليهم ، خاصة والأئمة(عليهم السلام)من بعدهم يُنقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء ، فيتنعّمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا، وهذا خاص بحجج الله دون من سواهم من الناس .


وقد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : من صلّى عليّ عند قبري سمعته ، ومن صلّى عليّ من بعيد بُلِّغته .


وقال : من صلّى عليّ مرّة صلّيت عليه عشراً ، ومن صلّى عليَّ عشراً صلّيت عليه مائة ، فَلْيُكـثِر امرؤٌ منكـم الصلاة عليّ أو فَلْيُقِلَّ .


فبيّن أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ، ولا يكون كذلك إلاّ وهو حيٌّ عند الله تعالى . وكذلك أئمة الهدى ـ صلوات الله عليهمـ يسمعون سلام المسلِّم عليهم من قُرب ، ويبلغهم سلامه من بُعد ، وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم .


وقد قال تعالى : ( ولا تَحسبنَّ الَّذينَ قُتلوا في سبيل اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ.. ) الآية .


وروي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه وقف على قليب بدر فقال للمشركين الذينَ قُتلوا يومئذ وقد اُلقوا في القليب : لقد كنتم جيران سوء لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، أخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدتُ ما وعدني ربِّي حقّاً فهل وجدتم ما وعدكم ربُّكم حقاً ؟ فقال له عمر : يا رسول اللهِ ما خطابكَ لهام قد صديت ؟ فقال له : مَه يابن الخطّاب ، فوالله ما أنت بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أنْ تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلاّ أن اُعرض بوجهي هكذا عنهم .


وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) : أنَّه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة ، فصار يتخلل بين الصفوف ، حتى مرَّ على كعب بن سورة، وكانَ هذا قاضي البصرة ولاّه إيّاها عمر بن الخطّاب ، فأقام بها قاضياً بينَ أهلها زمن عمر وعثمان ، فلما وقعت الفتنة بالبصرة علَّقَ في عنقه مصحفاً ، وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين فُقتلوا بأجمعهم .


فوقف عليه أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو صريع بين القتلى فقال : أجلسوا كعبَ بن سورة ، فاُجلسَ بين نفسين ، وقال له : يا كعب بن سورة ، قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً ، فهل وجدتَ ما وعدكَ ربُّكَ حقّاً ؟ ثم قال : أضجعوا كعباً


وسارَ قليلاً فمرَّ بطلحة بن عبد الله صريعاً فقال : أجلسوا طلحة ، فأجلسوه فقال : يا طلحة قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً ، فهل وجدتَ ما وعَدَك ربُّكَ حقّاً ؟ ثم قال(عليه السلام) : أضجعوا طلحة .


فقال له رجل من أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك ؟ فقال : مَه يا رجل ، فوالله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلامَ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) .


وهذا من الأخبار الدالّة على أنَّ بعض من يموت تُردُّ إليه روحه لتنعيمه أو تعذيبه ، وليس ذلك بعام في كل من يموت ، بل هو على ما بيَّناه ]( [165] ).


فالملاحظ أنَّ بين ظاهر قولي الشيخ ( الصدوق ) والشيخ (المفيد) تعميم وتخصيص ، فالأوَّل يعمّم البقاء لجميع الأرواح ، والثاني يخصص ذلكَ بأرواح الأنبياء والأئمة والحجج ـ صلوات اللهِ عليهم أجمعين ـ ويقول بأنَّ الباقي يُلهى عنهم ، وتنعدم أرواحهم على حدِّ تعبير الشيخ (المفيد(قدس سره) ) .


وفي الواقع أنَّ قول الامام الصادق(عليه السلام) : يُلهى عنهم لا يدلُّ على انعدام أرواحهم وفنائها بالكليّة بشكل صريح ، إذ يمكن أن ينسجم هذا الأمر مَعَ البقاء ولو بنحو من أنحائه ومراتبه الوجوديّة الضعيفة .


ثم إنّه إذا تحقق البقاء للبعض فلا مانع من تحققه للكل . وهذا ما أجاب به العلاّمة ( المجلسي ) تعليقاً على كلام الشيخ ( المفيد ) المتقدم حيث يقول :


وأما القول ببقاء الأرواح ، فقد قال(رحمه الله) به في بعضها ، فأيّ استبعاد في القول بذلك في جميعها ؟ وما ذكره من الأخبار لا يدلّ على فناء الأرواح الملهوّ عنهم ، بل على عدم إثابتها وتعذيبها .. ( [166] ). وعلى أيّة حال فإذا ما صح التعبير بأنّ الأرواح تموت أو الأنفس تموت، فهو لا يعني إلاّ مفارقة الروح للبدن الذي كانت تحلّ فيه ، وانتقالها من عالم إلى عالم آخر . ويشهد بهذا قوله تعالى :


( اللهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِينَ موتِها والّتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِها فَيُمسِكُ الّتي قَضَى عَلَيْها الموت وَيُرسِلُ الأُخرى إلى أَجَل مُسمّىً)( [167] ). فالمستفاد من الآية أنّ روح الإنسان أمر مجرّد غير مادي ، تختلف في قوامها وحقيقتها عن البدن ، وهو ما أشير إليه في قوله تعالى:


( ثُمَّ أنشأناهُ خَلْقاً آخَر فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقينَ )( [168] ). وقد قال الفيض ( الكاشاني ) معقباً على هذه الآية الكريمة :


فهذا الخلق الآخر إنّما هو من النشأة الاُخرى الباقية ، وهي غير هذه النشأة الدنيوية الفانية ، وهو من روح الله المنفوخ في هذا القالب بعد استعداده له ، وهو الغرض الأصلي من هذه الخلقة والتركيب ( [169] ). ولذا فإنّ الآية الكريمة قد عبّرت عن الروح هنا بالنفس ، ودلّت على أنّنفس الإنسان تغادر بدنه في المنام بنحو من الأنحاء ، وتكون حينالمغادرة بين أمرين : فإمّا أن يمسكها الله تعالى ، ويحتفظ بها عنده ، وذلك فيما لو كان الموت مقدّراً لها ، وإمّا أن يرسلها ويرجعها إلى بدنهاالذي كانت فيه . ومن الواضح أنّه في الحالة الأولى التي اُمسكت فيها النفس أنها قد توفّيت من قبل الله تعالى وقضي عليها الموت المحتوم ، إلاّ أنهالم تنعدم ولم تفنَ كما يفنى البدن المادي ، وإنّما بقيت محتفظة بوجودها، ولا يعني موتها إلاّ افتراقها وانفصالها عن البدن الذي كانت تحلّ فيه .


وقد جاء في ( خصال الصدوق ) في حديث الأربعمائة عن علي(عليه السلام) أنّه قال : لا ينامُ المسلم وهو جنب ، ولا ينام إلاّ على طهور . فإن لم يجد الماءفليتيمم بالصعيد ، فإن روح المؤمن تُرفع إلى الله تبارك وتعالى، فيقبلها ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته ، وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع اُمنائه من ملائكته فيردّونها في جسدها( [170] ). وعليه فإن المستفاد من التعبير القرآني بموت الأرواح والأنفس وهلاكها هو انفصالها عن البدن المادي ، أو انتقالها من حالة إلى اُخرى ، ولا يعني انعدامَها وزوالها تماماً ، إذ لم نجد دليلاً صريحاً بين الأدلّة المتقدمة عليه .


/ 4